تأسيس المملكة العربية السعودية

توحيد السعودية
Saudi Arabia map.png

دولة (السعودية) المعاصرة
التاريخ1902–1932
الموقع
النتيجة

تولى السعوديون حطم المناطق الشمالية والغربية من شبه الجزيرة العربية

المتحاربون
Flag of the Emirate of Ha'il.svg إمارة جبل شمر
Flag of Hejaz 1917.svg مملكة الحجاز

Flag of Nejd (1921).svg سلطنة نجد

Ottoman flag alternative 2.svg الدولة العثمانية
القادة والزعماء
Flag of the Emirate of Ha'il.svg عبد العزيز بن متعب
Flag of Hejaz 1917.svg الشريف حسين بن علي
Flag of Hejaz 1917.svg الرشيف علي بن الحسين
Flag of Nejd (1921).svg عبد العزيز بن سعود الدولة العثمانية أحمد توفيق باشا
الدولة العثمانية فخري باشا
القوى
38,000 77,000 23,000[1]
الضحايا والخسائر
غير معروفة غير معروفة تدمير القوات المشاركة.[بحاجة لمصدر]

توحيد المملكة العربية السعودية هي المعارك التي خاضها الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود من عام 1902 م حتى عام 1932 م حيث تم الإعلان عن قيام المملكة العربية السعودية.

وقد بدأ ابن سعود باستعادة الرياض، عاصمة آل سعود السابقة، من آل رشيد أمراء حائل، ثم بسط نفوذه على نجد والأحساء وجبل شمر وعسير وتهامة والحجاز وتم الإعلان عن توحيد البلاد سنة 1932 م. وقد بدأ دعوته من حريملاء

كان تأسيس المملكة العربية السعودية على يد الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود بعدما وحد أجزاء الجزيرة العربية بأكملها من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب فاتخذ من مدينة الرياض - وكانت تسمى ذلك الوقت بـ العارض - عاصمة لدولته، كان ذلك عام 1351هـ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

بعث إمارة الرياض في مطلع القرن العشرين (1902-1914)

في مطلع القرن العشرين نشأ في الجزيرة العربية من جديد وضع ملائم لبعث إمارة الرياض. فإن سلطة حائل كانت قائمة على القوة العسكرية لقبيلة شمر وحلفائها وعلى مساعدة الأتراك، ولكن تأييدها من جانب سكان نجد كان يتقلص باطراد. وأخذت بريطانيا تتدخل في شئون الجزيرة سعيا منها إلى إضعاف اعتماد الإمارات المحلية فيها على الباب العالي وإخضاعها للحماية البريطانية في آخر المطاف. وغدت عائلة آل سعود التي استقرت في الكويت مركز جذب طبيعيا لجميع النجديين المتذمرين من حكم آل رشيد.


استيلاء الأمير عبد العزيز على الرياض والسيطرة على المناطق المجاورة

في خريف عام 1900 تزعم عبد الرحمن بن فيصل غزوة موفقة على أحد بطون قحطان ووصل إلى مناطق السدير. وبعد أن عاد إلى الكويت أخذ يستعد لحملات عسكرية أكثر جدية واتساعا على نجد. واستنادا إلى السياسة العامة الموجهة ضد آل رشيد تحالف شيخ الكويت مع زعيم المنتفق سعدون باشا أبو عجيمي.

وفي أواخر 1900-أوائل 1901 جمع حاكم الكويت عساكره المكونة من البدو والحضر وتوجه إلى القصيم. والتحق به عبد الرحمن وبعض الأمراء السعوديين الآخرين الذين انضوت تحت رايتهم أقسام من قبائل العجمان ومطير. وكتب آداموف قنصل روسيا في البصرة : (حقق الجيش الكويتي نصرا وتمكن من الاستيلاء على الرياض نفسها، ومن هناك تحرك مبارك بالغ في التباهي بانتصاراته الأولى. وتمكن عبد العزيز بن متعب من الحصول على أسلحة إضافية من الأتراك فعبأ كل قواته فدحر الكويتيين وحلفاءهم في فبراير – مارس 1901 على مقربة من واحة الصريف.

وفي تلك الأثناء حاول عبد العزيز بن عبد الرحمن أن يستولي على حصن المصمك في عاصمة أجداده الرياض. وتمكن فصيله مع الكويتيين من اقتحام المدينة، إلا أن الحاكم الشمري عجلان بن محمد تمركز في الحصن وتحمل الحصار. وعندما علم عبد العزيز بنتيجة معركة الصريف عجل في العودة إلى الكويت. كانت بريطانيا تشجع أعمال الكويت وحلفائها بصورة مباشرة أو غير مباشرة. ويعتقد قنصل روسيا في البصرة أداموف أن بريطانيا التي لها مصلحة في إضعاف جبل شمر كانت تقف وراء مبارك. وشاترى شيخ الكويت كميات كبيرة من بنادق (مارتيني) الإنجليزية في البحرين.

وأخذت السلطات العثمانية في العراق تحشد فواتها العسكرية لتسد ضربة إلى الكويت بحجة (إحلال النظام)، ولكنها لم تتجرأ على القيام بذلك خشية الصدام مع الإنجليز. وبنتيجة صراع معقد تمكنت الدبلوماسية العثمانية بدعم من برلين من الاتفاق في سبتمبر 1901 على الاحتفاظ بالوضع القائم في الكويت ودرء احتلال القوات البريطانية لهذه المشيخة. وكانت روسيا في بداية القرن العشرين، كما جاء في توجيه سري إلى أداموف قنصلها في البصرة، تسعى كذلك إلى الإبقاء على الوضع القائم في حوض الخليج كما هو.

وبعد الاتفاق مع الأتراك هجم حاكم حائل على المشيخة التي أصابها الضعف بعد هزيمة الصريف. وحاضر ابن متعب موقع الجهراء على ساحل الخليج، إلا أن الإنجليز بعثوا سفينة حربية أطلقت النار على معسكر الشمريين. وأخذت الأسلحة الإنجليزية تتوارد على المشيخة، بينما احتج القائم بالأعمال البريطاني في اسطنبول في لقاء مع السلطان على أعمال الشمريين. وبعد أسبوعين أو ثلاثة من حصار ميئوس منه عاد إبن متعب إلى حائل بأمر من السلطان.

وأقنع عبد العزيز أباه بأن يسمح له مرة أخرى أن يجرب حظه في الرياض. فتوجه في حملة على رأس أربعين محاربا فقط كما تفيد أغلبية المراجع، وكان بينهم شقيقه محمد بن عبد الرحمن وإبن عمه عبد الله بن جلوى. وفي نوفمبر – ديسمبر 1901 توجهوا عبر الإحساء نحو الجنول إلى الربع الخالي. وفي الطريق اجتذب هذا الفصيل محاربين من قبائل العجمان وآل مرة وسبيع والسهول. وتحول الفصيل إلى قوات من عدة آلاف شخص. وأخذ عبد العزيز يغزو بهذه القوات القبائل المعادية وقرى نجد التي ظلت موالية لآل الرشيد.

وعندما علم إبن متعب بأعماله بعث برسائل إلى السلطات العثمانية في بغداد والبصرة طالبا إبعاد عبد العزيز عن الإحساء. وعلم البدو بذلك فتركوا الأمير الشاب خشية بطش الأتراك. فظل عبد العزيز مع جماعته الأولى التي لايتجاوز عددها الأربعين شخصا. وأدرك عبد الرحمن أن أعمال إبنه تتحول إلى مغامرة خطرة فطلب منه العودة إلى الكويت والتخلي عن خطة الاستيلاء على الرياض. وأرغمت السلطات التركية في الإحساء فصيله على ترك المنطقة. وقضى عبد العزيز شهر رمضان في واحة يبرين. يبدو أن إبن متعب لم يعر اهتماما كبيرا لهجمات الأمير الشاب، مما أفاد هذا الأخير. وقرر عبد العزيز المجازفة مرة أخرى رغم ممانعة أبيه. وفي 12 يناير 1902 ظهر في أطراف عاصمة السعوديين السابقة.

وبعد أن أخذ قسطا من الراحة في واحة صغيرة ترك فيها جماعة من أفراده من الإبل والخيل وأوصاهم بالفرار إذا لم يعد في الفجر. أما الباقون فتوجهوا إلى أسوار المدينة. وفي ظلام الليل اجتاز المحاربون وعلى رأسهم عبد العزيز سور المدينة في منطقة (الشمسية)، وتركوا احتياطيا عشرة رجال وتوجهوا إلى صاحبهم جويسر الذي كان يعيش قرب منزل الحاكم الشمري عجلان بن محمد. كان عجلان متزوجا من إحدى نساء الرياض وكان يعودها نهارا، ويفضل قضاء الليل مع الحامية التي يوجد فيها زهاء 80 شخصا في حصن المصمك. أطعم جويسر عبد العزيز ورجاله ثم تسللوا إلى منزل زوجة عجلان. لم يجدوا عجلان فيه، ولكنهم حبسوا زوجته وأمرأة أخرى في إحدى الغرف. واستدعى عبد العزيز شقيقه محمد مع الرجال العشرة الذين تركهم وراء سور المدينة. واجتمع الفصيل كله في منزل عجلان. وقالت زوجته أنه يمكن أن يأتي إليها بعد صلاة الصبح فقرروا الانتظار. وبلغ التوتر أوجه عنده هذه الجماعة الصغيرة التي كانت تشعر تماما بالصبغة المغامرة لأعمالها.

حل صباح 15 يناير 1902. وأخيرا ظهرا من بوابة الحصن عجلان مع حرس غير كبير. فأطلق عبد العزيز ورجاله النار وهرعوا إلى عجلان. حاول الشمريون الهرب. وفي اللحظة الأخيرة فقط قتل عبد الله بن جلوى عجلان عند باب الحصن.

لقد استفاد رجال عبد العزيز من عنصر المباغتة فانتقموا من الحامية الشمرية الموجودة في الحصن، ثم ثتلوا من كان في المدينة. وأطلق سراح عشرين من الشمريين بكلمة شرف بعد أن اعتصموا في البرج. وكانت خسائر الأمير الشاب هي قتيلان وثلاثة جرحى لاغير. وكان انتصاره الرائع غير المتوقع قد خلب ألباب أهالي نجد بالطبع، وفيما بعد صار الشعراء والرواة يتغنون به في روايات وقصائد كثيرة. وأقسم أهل الرياض يمين الولاء لعبد العزيز الذي بدأ على الفور بتحصين أسوار المدينة.وعندما علم إبن متعب بنبأ سقوط الرياض استولى عليه الهياج وأقسم بأن يثأر من أعدائه التقليديين. ونزح من الفرات الأوسط إلى حائل ليجمع العساكر ويتوجه إلى الرياض، إلا أن الاستعدادات استغرقت عدة أشهر.

وفي تلك الأثناء وصلت إمدادات إلى عبد العزيز من الكويت – سبعون مقاتلا وعلى رأسهم أخوه سعد. وتمكن الأمير الشاب من القيام بحملة على الجنوب واحتلال الخرج قبل وصول الشمريين.

وفي مايو 1902 وصل أبوه عبد الرحمن إلى الرياض. ويجمع المؤرخون العرب والأوربيون على أن الأب والإبن كانا يفهمان بعضهما البعض جيدا، وكانت الثقة بينهما قد ساعدت على استقرار الدولة الجديدة. فالأمير العجوز كان، كما يبدو، يقدر قابليات إبنه تقديرا واقعيا. وعندما جمع عبد العزيز العلماء ووجهاء الرياض وطالبهم بأداء يمين الولاء لأبيه رفض عبد الرحمن هذا التكريم وأعلن أن إبنه هو الأمير، وصار عبد العزيز حاكما للرياض وهو في الثانية والعشرين. وظل أبوه مستشارا رئيسيا له وإماما للمسلمين.

أثبتت جسارة عبد العزيز في الاستيلاء على الرياض أنه يتحلى بخصال الشيخ والأمير: البسالة والمهارة في القيادة والموفقية. وأثبتت الأحداث اللاحقة أن عبد العزيز كان شخصية بارزة دون ريب بمقاييس الجزيرة العربية. وهذا ما أجمع عليه كل المؤرخين والرحالة من عرب وأوربيين. فقد تمرس عبد العزيز في المنفى وتضلع في أخلاق البدو وعاداتهم ونقاط ضعفهم وقوتهم، وكان يجيد التحكم فيما عرفه عن البدو. وإلى جانب ذلك كان يدرك بأن عليه أن يعتمد بالأساس على سكان نجد الحضر، ولذا أولاهم عناية دائمة. وكان يدرك قوة الدين فأقام علاقات طيبة مع علمائه منذ البداية. جرت العادة في المطبوعات الأوربية، والعربية جزئيا، على تسمية مؤسس الدولة السعودية الحديثة باسم أسرته: إبن سعود. ولذا سوف نستخدم نحن أيضا هذا الإسم في بعض الأحيان.

وقد تركت لنا المستعمرة الإنجليزية هيرترودا بيل في كتابها (الحرب العربية) صورة أدبية لعبد العزيز، مع أنها تخص فترة متأخرة من حياته : (يداه نحيفتان بأصابع رقيقة، وتلك سمة منتشرة بين القبائل العربية الأصيلة. ورغم طول قامته وعرض منكبيه يدل مظهره على التعب، ولكنه تعب أقرب إلى الارتخاء العربي وليس صفة فردية. إنه تعب شعب عريق منطو على نفسه عبأ قواه الحيوية لدرجة كبيرة ولم يغترف من الطاقة إلا أقلها خارج حدود بلاده الوعرة. إن حركاته المتأنية وابتسامته الطيبة البطيئة وعينيه اللتين تتطلعان بفطنة من تحت حاجبين ثقيلين – كل ذلك يضيف إلى خصاله جاذبية، ولايتفق مع المفهوم العربي للشخصية النشيطة. ومع ذلك تشير الأحاديث عنه إلى تحمله البدني النادر حتى في الجزيرة العربية ذات الظروف الصعبة). ونحن نترك (الارتخاء العربي) و(الانطواء على النفس) على ذمة المستعربة الملتزمة بالمدرسة الاستعمارية البريطانية، ولكننا نشيد بتقييمها الرفيع عموما لشخصية أمير الرياض. انتهز عبد العزيز فرصة الهدوء التي هيأها الشمريون فسدد ضربات في جميع الاتجاهات محاولا أن يؤمن حول الرياض على الأقل الحد الأدنى من الأراضي لتكون لديه القدرة العسكرية والاقتصادية اللازمة لمواصلة الحرب.

وخلال تلك الفترة أثارت الأحداث في الجزيرة العربية اهتمام لندن وبرلين وبطرسبورغ فضلا عن اسطنبول. ومارست الدبلوماسية الألمانية ضغطا على السلطان العثماني بغية توفير منفذ أمين لسكة حديد بغداد إلى الخليج. وكان حاكم حائل الذي حاول استعادة السيطرة على جنوب نجد واثقا من الدعم التركي. إلا أن بريطانيا كانت من وراء ظهر خصومه الكويتيين، والسعوديين في التطبيق العملي. وفي يوليو – أغسطس 1902 تمكن أمير شمر من مهاجمة الرياض وقام في الطريق بغزوات على القبائل والواحات المعادية له. وتدل هجماته على واحات الوشم والمحمل والقصيم على أن سكان هذه المناطق كانوا ضده.

ابن سعود، مؤسس المملكة العربية السعودية.

بدأ إبن سعود يجمع المتطوعين من سكان مدن العارض وبدو الدواسر وآل مرة. ولم يتمكن الشمريون من الاستيلاء على العاصمة الرياض رأسا لأنها صارت جيدة التحصين. ولذا فضل إبن متعب عدم اقتحام المدينة وراح يقوم بحملات حولها وخصوصا على الخرج. واستمرت الصدامات والمناوشات بين الطرفين في أيلول (سبتمبر) حتى تشرين الثاني (نوفمبر) 1902، إلا أن الوباء الذي تفشى بين الشمريين حسم الأمر لصالح عبد العزيز، واضطر إبن متعب على الانسحاب نحو الشمال.

وبعد أن عاد ابن متعب من حملته الفاشلة على الرياض قام بغزوات جديدة. وظل كالسابق يعتبر حاكم الكويت مبارك عدوه الرئيسي فقرر أن يسدد الضربة إليه. وفي هذه المرة هب عبد العزيز مع عدة آلاف من رجاله لنجدة الكويتيين في يناير – فبراير 1903. وهجم الكويتيون بقيادة جابر والنجديون بقيادة إبن سعود ومن التحق بهما من قبائل العجمان وآل مرة وسبيع والسهول وبني هاجر وبني خالد والعوازم على بدو مطير الذين كانوا موالين لآل الرشيد. وقتل في المعارك أحد زعماء مطير وهو عماش آل دويش وإبنه. وكانت نتيجة المعركة غامضة. وهذا مايستفاد من تقرير قنصل روسيا في البصرة، حيث كتب عن هزيمة الحلفاء الكويتيين والسعوديين على أيدي مطير.

وفي تلك الفترة زار عبد الرحمن بن فيصل الكويت وتقابل مع قنصل روسيا في بوشهر. إلا أن تلك الخطوة اتخذت على الأكثر لتهديد الإنجليز بغية إرغامهم على تقديم المساعدة لأمير الرياض، وليس لإقامة اتصالات سياسية فعلية مع روسيا. وفي ربيع 1903 حاول الشمريون للمرة الأخيرة الاستيلاء على الرياض، إلا أنهم انهزموا أمام حاميتها بقيادة عبد الرحمن أبي عبد العزيز. كانت أولى انتصارت عبد العزيز تعني بعث نواة إمارة الرياض بدعم نشيط من الكويتيين، وبدعم غير مباشر من الإنجليز.

التقدم نحو القصيم

Ibn Saud & Percy Cox.jpg

في يناير 1903 تقابل ممثل إبن سعود مع المعتمد السياسي البريطاني في البحرين وطلب منه الحيلولة دون إنزال القوات التركية في حالة استيلاء أمير الرياض على الإحساء. ولم يحصل إبن سعود على جواب محدد، إلا أن الإدارة الأنجلوهندية صارت أكثر فأكثر تراقب نشاط عبد العزيز بعين الرضا. وبتبريك منها تعزز التحالف مع حاكم جبل شمر. وفي مارس عقدوا اجتماعا في الكويت واتفقوا على الأعمال المشتركة. وفي عام 1903 صار الشمريون أكثر فأكثر يفلتون السيطرة على المناطق الواقعة جنوبي القصيم.

وفي تلك الأثناء حدثت تغيرات جدية في الوضع الدولي. فقد نشطت بريطانيا هجومها على منافسيها الألمان والروس في حوض الخليج. وفي نوفمبر – ديسمبر 1903 زار نائب الملك البريطاني في الهند كيرزون بلدان الخليج بصحبة عمارة حربية وبفخفخة كبيرة. وكانت الحرب النجدية الشمرية جزءا من الصراع بين الدول الكبرى من أجل النفوذ في حوض الخليج. وفي مطلع عام 1904 وحفت قوات أمير الرياض بسرعة نحو القصيم. وفي آذار (مارس) 1904 على وجه التقريب اقتحم الفصيل الذي أرسله مدينة عنيزة حيث قتل القائد العسكري الشمري فهيد السبهان في سوقها الكبير.

ولكن المدينة لم تكن قد احتلت بعد. وفي المعركة التي نشبت قرب عنيزة دحر عبد العزيز قوات الشمريين التي قادها ماجد بن حمود. وشارك في المعركة إلى جانب الشمريين بعض أقارب عبد العزيز من أبناء أخوته وأحفاد عمه سعود بن فيصل الذي ادعى بعرش الرياض. وعرفهم عبد العزيز ونعتهم (بالعرايف)، وهذا المصطلح يطلقه البدو عادة على إبلهم التي يستولي عليها العدو ثم تستعاد في حملة مضادة. وكان إبن سعود، بما يلازمه من تسامح تقليدي، وعلى الأصح مرونة كبيرة وبصيرة نافذة وقدرة على تجريد الأعداء الذين لم يعودوا خطرين من سلاحهم، قد عفا عن أقاربه هؤلاء بلا قيد أو شرط واقترح عليهم إما البقاء معه وإما الانضمام إلى آل الرشيد. وفي تلك الآونة قبلوا اقتراحه بالتصالح والتعاون والضيافة، ولكنهم بعد حين صاروا مجددا من أخطر أعدائه.

وعين إبن سعود أحد أبناء الوجهاء أميرا لعنيزة، وهو عبد العزيز آل سليم الذي عاد من منفاه في الكويت مع أتباعه المسلحين. وبعد سقود عنيزة بعث أهالي بريدة وفدا إلى إبن سعود طالبين السماح لهم بمهاجمة الحصن في مدينتهم، والذي تمركزت فيه حامية من الشمريين. فإن الاستيلاء على عنيزة أقنع أهالي بريدة بأن الأحداث في تلك اللحظة تتطور لصالح أمير الرياض. زد على ذلك أن آل مهنا (وهم من أبرزم بطون بريدة الذين كانوا في السابق في المهجر الكويتي) قد وصلوا إلى عنيزة مع فصيل غير كبير، منتظرين فرصة استلام مقاليد السلطة مجددا.

وكان الطريق إلى بريدة مفتوحا، فبعث إبن سعود إلى المدينة فصيلا بقيادة صالح آل مهنا أبا الخيل. وفيما بعد، عندما دخل عبد العزيز بريدة أقسم له سكانها يمين الولاء. وسلمت الحامية الشمرية المكونة من 150 شخصا الحصن في يونيو 1904 نصب إبن متعب معسكرا في قصيبة – في منتصف الطريق تقريبا بين حائل وبريدة، وهناك استقبل الحامية الشمرية التي سمح لها إبن سعود بمغادرة بريدة. وقبيل العمليات الحربية الحاسمة بعث حسن شكري برسالة إلى عبد العزيز عندما كان هذا الأخير لايزال في عنيزة وحذره من العواقب الوخيمة للعمليات الحربية ذد حاكم حائل. وكتب العقيد التركي يقول : (إن جلالة الخليفة الأعظم بلغة اضطراب الفتنة في بلاد نجد، وأن يدا أجنبية محركة لها. فلهذا السبب بعثني إليكم حقنا للدماء ولمنع التدخل الأجنبي في بلاد المسلمين). ثم تشكى كاتب الرسالة من تعاون عبد العزيز مع مبارك الذي يتعاون مع بريطانيا الدولة الأجنبية الكافرة، واقترح بلهجة متعالية على عبد العزيز بأن يعرض شكاواه على السلطت العثمانية وليس على مبارك الذي أعلن العصيان على الخليفة. وأشار شكري إلى أنه حليف ليس فقط لأل الرشيد، بل ولجميع الذين ينشدون المعونة والدعم من الدولة العثمانية، وقال بأنه إذا رغب إبن سعود أيضا في هذه المساعدة فبوسعه أن يتمتع بنفس النعم التي يتمتع بها آل الرشيد من الحكومة العثمانية.

شعر حاكم الرياض بالقلق، ولكنه كان متصلبا في موقفه. ورد على تلك الرسالة بجواب جاء فيه : (وأما الآن، فلا نقبل لكم نصيحة ولانعترف لكم بسيادة، والأحسن أنك ترجع من هذا المكان إذا كنت لا تود سفك الدماء. فإن تعديت مكانك هذا، مقبلا إلينا، فلا شك أننا نعاملك معاملة المعتدين علينا... فإن كنت حرا منصفا فلا يخفاك أن سبب عدم إطاعتي هو عدم ثقتي بكم... وخلاصة القول أن كل العمال الذين رأينا أنهم خائنون منافقون. فلا طاعة لكم علينا، بل نراكم كسائر الدول الأجنبية). ثم يستشهد عبد العزيز بالوضع في اليمن والبصرة والحجاز وبسلوك الأتراك هناك لتوضيح أعماله. وأعاد إلى الأذهان نهب سلطات الحجاز للحجاج أمام الكعبة. وحذر الأمير في ختام رسالته العقيد بأنه إذا تحرك الأتراك نحو المنطقة الخاضعة له فإنه سيعاملهم معاملة المعتدين.

وفي صيف 1904 حاول إبن سعود الاعتماد على الإنجليز في صراعه ضد الأتراك وصنيعتهم فأقام اتصالات مع الميجر پرسي كوكس الذي كان قد صار قبل حين معتمدا سياسيا لبريطانيا في منطقة الخليج. وقبل ذلك كان كوكس مساعدا للمعتمد البريطاني في الصومال خلال الفترة من 1892 حتى 1901 وقنصلا في مسقط للفترة من 1901 حتى 1904. وقدر له أن يلعب دورا هاما في العلاقات الأنكلوسعودية حتى إحالته على التقاعد في 1923. وبإشرافه عمل المستعربون المعروفون ولسن وبيلي وفيلبي. وكانوا يمثلون جيل الموظفين والمخبرين والعسكريين الاستعماريين البريطانيين الذي يعتبر كيبلنغ أميرا لهم. وكانوا يعتقدون، بهذا القدر أو ذلك من الإخلاص، بأنهم يتحملون (عبء الإنسان الأبيض) عندما يدافعون عن المصالح الاستعمارية البريطانية، إلا أن الكثيرين منهم كانوا يقومون بدراسات عميقة، وكانوا، على سبيل المثال، مطلعين جيدا على شئون الجزيرة العربية.

لقد اعتبرت بريطانيا ظهور القوات التركية في نجد خرقا لاتفاقية 1901 بشأن المحافظة على الأوضاع القائمة. وبعثت لندن إلى الباب العالي احتجاجا شديد اللهجة. وبعد أن رأى العثمانيون وإبن متعب استحالة إقناع عبد العزيز بالرضوخ لمطالبهم قرروا البدء بالعمليات الحربية. كان لدى الأتراك حوالي ألفين من المشاة أو ثماني كتائب (11 كتيبة حسب رواية أخرى) من القوات النظامية وستة مدافع خفيفة وكمية كبيرة من النقود والذخيرة والأسلحة والأغذية. وبالإضافة إلى الشمريين التحق بقوات جبل شمر أبناء قبيلتي بني رشيد وحرب، وكذلك سكان حائل. وعندما علم عبد العزيز باقتراب العدو قرر مواجهته في معركة مكشوفة. وخرجت من بريدة نحو الغرب قواته المكونة من أبناء الرياض والقصيم والخرج وقبائل مطير. على هذا النحو نشأ الموقف قبيل معركتي الشتانة والبكيرية اللتين اتسمتا بأهمية كبيرة لتقرير مستقبل أواسط الجزيرة كأهمية استيلاء عبد العزيز على الرياض.

الصراع مع الأتراك والشمريين من أجل القصيم (1904-1906) لم تكن موقعة البكيرية معركة فاصلة واحدة بل سلسلة من الصدامات الكبيرة والصغيرة. حدثت الموقعة في أواسط تموز (يوليو) 1904 على وجه التقريب. وتؤكد مراجع الجزيرة أن عدد القتلى من القوات النظامية التركية بلغ ما بين ألف وألف وخمسمائة شخص، ومن حائل 300-500 شخص، أما القوات السعودية فقد فقدت حوالي 1000 شخص، يبدو أن هذه الأرقام مبالغ فيها جدا. وعلى أية حال فهي تشمل الخسائر بسبب وباء الكوليرا والقيظ والأمراض. ومن شهود العيان على هذه المعركة المؤرخ ضاري بن فهيد بن الرشيد الذي أكد أن متعب فقد مائة محارب، بينما فقد عبد العزيز مائتين. وهكذا اتسع نطاق الصدامات والصراع لأن احتلال الرياض مثلا، أسفر عن مقتل بضعة أشخاص لاغير. وفي معركة البكيرية أصيب عبد العزيز بجراح ثخينة كان يفقد حياته بسببها.

إلا أن المعركة أخذت تتحول لصالح أمير الرياض. ويفيد لوريمير بأن أحد القادة العسكريين الأتراك قتل، كما قتل عدد كبير من الجنود. واستولى ابن جلوى على كل المدافع التركية وأخذ كثيرا من الأسرى. وانهمك إبن متعب في نهب قرى القصيم وترك كل مؤنه ومعداته الثقيلة تحت حراسة مفرزة صغيرة عند البكيرية. وعندما سمع باقتراب قوات عبد العزيز التي استلمت إمدادات أرسل على الفور قسما من قواته لنجدة مفرزة الحراسة، ولكن بعد فوات الأوان. فقد استولى عبد العزيز على كل مستودعاته وعلى مدينة البكيرية. وتوجه إبن متعب إلى منطقة الرس والشنانة في القسم الغربي من القصيم، فوصلها في أغسطس من العام نفسه مؤملا، على مايبدو، في الحصول على مساعدة الأتراك من الحجاز. إلا أن مدينة الرس التي كانت خاضعة له في السابق قررت هذه المرة الانضمام إلى أمير الرياض، ولذا نصب الشمريون معسكرهم في الشنانة. ووصل إلى نفس المنطقة عبد العزيز مع قواته الأساسية، إلا أن كلا الخصمين لم يدخلا في قتال، وربما كان ذلك بسبب حر الصيف. وتفشي وباء الكوليرا في معسكر إبن متعب، بينما أخذ البدو من كلا الطرفين يتفرقون لأنهم لم يجدوا الغنائم المنشودة. وظلت عند إبن متعب وحدات تركية من العراق وأفراد من جبل شمر فقط، كما ظل في المعسكر السعودي أبناء المدن المخلصين لعبد العزيز. وفي أواخر (أيلول) سبتمبر نشبت بين الطرفين معركة قرب الشنانة، فر الأتراك بنتيجتها مع الشمريين. وفقدوا بضع عشرات من الأشخاص فقط، لكن السعوديين المنتصرين فازوا بكل أعتدة معسكر العدو وجماله وأغنامه وأغذيته وأسلحته وعدة صناديق مليئة بالنقود الذهبية.

كان انتصار عبد العزيز هاما بخاصة لأنه أحرزه ضد عدة كتائب من القوات التركية النظامية. وتجدر الإشارة كذلك إلى أن القوات التركية كانت تعاني من فرار أفرادها وأنها تقاتل في ظروف غير معروفة لها وغير ملائمة إطلاقا، في معمعان قيظ فظيع.

إلا أن دحر الأتراك بدا لعبد العزيز انتصارا خطرا جداً، فبعث إلى والي البصرة رسالة طلب فيها معونة مالية معتبرا نفسه من أتباع الباب العالي ومحاولاً أبعاد خطر حملة تركية جديدة. وبعد أن استلمت السلطات العثمانية في وادي الرافدين تأكيدات عبد العزيز بولائه للسلطان جهزت رغم ذلك قوات من السماوة إلى نجد بثلاثة آلاف شخص مع المدفعية بقيادة أحمد فيضي باشا من الفيلق الذي يتواجد مقره في بغداد. وبالمناسبة فإن فيضي باشا كان مهتما بثرائه الشخصي أكثر من اهتمامه بنجاح الحملة، فاشترى بثمن بخس دواب نقل لاتصلح لشيء ولم يتمكن من تأمين نقل المقاتلين والذخيرة إلى أعماق الجزيرة في الوقت اللازم. وقد بدأت حملته في يناير 1905. وفي مدينة الزبير، شمالي الكويت، جرى لقاء بين والي البصرة أحمد مخلص باشا وعبد الرحمن، والد عبد العزيز، ومبارك شيخ الكويت. واطلع والي البصرة الوفد السعودي بأن الباب العالي عين عبد الرحمن قائم مقام وقرر بأن القصيم يجب أن تكون منطقة محايدة عازلة بين آل الرشيد وآل سعود. وطلب الأتراك بأن يسمح لهم بإبقاء حامية في بريدة وأخرى في عنيزة لضمان حياد القصيم. ولجأ عبد الرحمن إلى تكتيك التملص فوعد بطرح هذه الاقتراحات على بساط البحث أمام أهالي نجد. إلا أن قوات فيضي باشا التركية كانت قد زحفت نحو أواسط نجد، وقد أسرع لنجدتها من المدينة المنورة 750 شخصا مع بطارية للمدفعية الميدانية بقيادة صدقي باشا.

كان إبن متعب متأملا لازدياد تبعيته للأتراك وسرعان ما اختلف مع أحمد فيضي باشا وترك حماته الأقوياء أكثر من اللزوم. وتضعضعت مواقع عبد العزيز بشدة نتيجة لتصرف أمير بريدة صالح بن حسن آل مهنا. فقد حاول التخلص من آل الرشيد ومن السعوديين معا وفضل الخضوع والتبعية للإمبراطورية العثمانية. وفي إبريل 1905 دخل الأتراك بريدة، وبعد بضعة أيام احتلوا عنيزة وأقيمت في كلتا المدينتين حاميتان تركيتان رفع عليهما العلم العثماني وتعالي نشيد (الحميدية) وصار اسم السلطان العثماني يذكر في صلاة الجمعة.

وقسمت نجد إلى وحدات إدارية تبعا للممارسات التركية المعتادة. وصارت بريدة قضاء يحكمه صالح الحسن بن مهنا. وأصبحت بريدة وعنيزة تابعتين إداريا لولاية البصرة. واعتبر جنوب نجد قضاء أيضا، بينما صار عبد العزيز بمثابة القائم مقام ومركزه في الرياض، وهو خاضع رسميا للبصرة. في تلك اللحظة كان إبن سعود يدرك أن القوة ليست إلى جانبه، وخوفا من الاستفزازات أمر فصائله بعدم القيام بأية أعمال عدائية ضد الأتراك. وتقابل أمير الرياض ووالده مع فيضي باشا الذي كرر مطلب الإبقاء على الحاميتين التركيتين في بريدة وعنيزة حتى يتم عقد الصلح بين أل الرشيد والسعوديين مع اعتبار القصيم منطقة محايدة عازلة. إلا أن عبد العزيز وأباه تملصا من قبول هذه الالتزامات.

كان اهتمام الأتراك آنذاك منصبا على الأحداث في اليمن. فالقوات العثمانية عجزت عن إخماد حركة الإمام يحيى بن حميد الدين في صنعاء. وقرر الأتراك إرسال أحمد فيضي باشا من نجد إلى اليمن. وسلم قيادة القوات في القصيم إلى صدقي باشا. وفي إبريل 1905 على وجه التقريب انتهت المفاوضات بين عبد العزيز والأتراك بلا نتيجة.

لقد واجه الأتراك في نجد صعوبات كبيرة بسبب قلة الأغذية وكثرة الأمراض وشيوع الفرار بين الجنود. ولم تتمكن الحاميات العثمانية في القصيم من إحلال الاستقرار. وكانت الأفخاذ والبطون الإقطاعية المحلية تعتقد بأنه تهيأت لها فرصة للانفصال عن آل الرشيد وعن السعوديين، فحاولت إجراء مزيد من الاستقلال. وعمل بنشاط كبير بهذا الخصوص حاكم بريدة صالح الحسن بن مهنا. واستأنف الشمريون غزواتهم على القصيم، وصار أهالي القصيم يتعاطفون من جديد مع السعوديين، ووصلت المساعدة لإبن سعود من جهة غير متوقعة. فقد انضمت إليه مطير مع زعيمها البارز فيصل الدويش الذي تزعم حركة الإخوان فيما بعد.

وفي 13 إبريل 1906 نشبت في القصيم معركة بين السعوديين والشمريين شهدها المؤرخ الشمري ضاري بن فهيد بن الرشيد. ففي الفجر هاجم السعوديون معسكر إبن متعب بعد أن قصفوه بالمدافع أولا. وأخذ حاكم حائل يتراكض بين محاربيه بغية إحلال النظام. وهرع إلى راية آل رشيد التي وقعت في أيدي محاربين من العارض متوهما أنهم من أفراده. فناداهم باللهجة الشمرية فعرفوه وأردوه قتيلا في الحال. وفر الشمريون مذعورين. تلك هي نهاية إبن متعب الذي كان قائدا عسكريا شجاعا ولكنه كان زعيما سياسيا غير موفق. وقد دشن مقتله فترة من عدم الاستقرار في جبل شمر.

ونحى أمير الرياض حاكم بريدة صالح الحسن من منصبه وزج به مع إخوانه في السجن في الرياض. وبعد فترة قتل صالح أثناء محاولة الهرب. وعين لمنصب الأمير إبن عمه محمد عبد الله أبا الخيل. وسرعان مااتفق عبد العزيز مع أمير حائل الجديد متعب بن عبد العزيز بن معب على اقتسام أواسط الجزيرة. فقد سلمت إلى أمير حائل الأراضي والقبائل الواقعة جنوبيها. إلا أن القوات التركية كانت لاتزال موجودة في القصيم، علما بأنها متعاطفة مع آل رشيد أكثر. ومنح الباب العالي متعب معونة بمبلغ 200 ليرة تركية شهريا بالإضافة إلى الأغذية، أما عبد العزيز فقد استلم 90 ليرة تركية فقط شهريا.

وفي تلك الفترة هبت مطير ضد أمير الرياض بعد أن حرضها عليه الأتراك. ودحر عبد العزيز هؤلاء البدو وتوجه نحو بريدة التي يرابط فيها فصيل تركي. في صيف 1905 عين سامي باشا الفاروقي قائدا للقوات التركية في نجد بدلا من صدقي باشا. ولكنه لم يصل إلى القصيم على رأس فصيل مشاة من 500 شخص إلا في تموز (يوليو) 1906. ويبدو أنه التقى بعبد العزيز في أغسطس 1906 وحاولا الاتفاق. فتظاهر عبد العزيز بالغضب وانصرف بعد أن خاطب سامي باشا بكلمات تعتبر من أفظع الإهانات في الجزيرة العربية. : (لولا أنك ضيف عندنا لما تركناك تتحرك من مكانك).

وحل شهر رمضان فصادف ذلك شهر أكتوبر 1906 وتأجلت العمليات الحربية. واقترح إبن سعود على سامي باشا أن يختار أحد أمور ثلاثة فإما أن يقرب القوات التركية من الرياض، مما يجعلها تحت رحمة أمير الرياض، وإما أن يخرج القوات والعتاد من نجد وإما أن يستعد للمعركة. كان الأتراك مرابطين في الجزيرة أكثر من عامين ونصف وكانوا يعانون من الجوع، ويشعرون حتى بنقص التبغ. وتهرأت بزاتهم، وكان العرب يشكلون قسما كبيرا من الجنود، ولكنهم يكرهون أواسط الجزيرة لدرجة أنهم سموها، بنت الشيطان. وكان جنود كثيرون يبيعون أسلحتهم وأعتدتهم لأهالي القصيم كي يطعموا أنفسهم. وانتشرت الأمراض وساد الفرار من الجيش. وفي هذه الظروف لم يكن أمام سامي باشا مخرج غير الجلاء.

وفي أواخر أكتوبر 1906 على وجه التقريب ترك سامي باشا معسكره المعزز على مقربة من بريدة وتوجه إلى المدينة المنورة. وفي نوفمبر بدأ الجلاء أيضا الأتراك الذين كانوا قد وصلوا من العراق (وعددهم 800 شخص تقريبا مع مدافعهم). فقد بلغوا الكويت ونقلوا منها إلى البصرة. وتفيد تقديرات لوريمير أن حوالي أربعة آلا وخمسمائة جندي عثماني أرسلوا إلى أواسط الجزيرة في 1904-1905. ولم يعد إلى المدينة المنورة والعراق إلا ألف منهم. وفقد الأتراك 3.5 آلاف شخص بسبب الفرار والأمراض والمعارك. وكانت تلك هزيمة ماحقة. ولم يتمكن الأتراك حتى من الاحتفاظ بسيطرة صورية على القصيم.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ترسخ سلطة الرياض في جنوب نجد والقصيم (1906-1912)

في 29 ديسمبر 1906 قتل أمير حائل الجديد متعب الرشيد (الذي حكم أقل من عام) مع ثلاثة من إخوانه على أيدي سلطان وسعود وفيصل أبناء حمود الرشيد. ولم يتخلص من الموت إلا الصبي شقيق الأمير متعب الأصغر الذي أنقذه خاله من آل سبهان وأرسله إلى المدينة المنورة التي كانت تحت السيطرة العثمانية. وصارت المعونات التي يقدمها الباب العالي إلى آل الرشيد تصل إلى المدينة مباشرة، وكان ذلك دليلا على موقف الأتراك السلبي من مغتصبي السلطة في حائل.

أخذت إمارة آل الرشيد تزداد ضعفاً. وراح شيخ قبيلة الرولة نوري الشعلان يدعي بإمارة الجوف بعد أن وسع ديرة قبيلته في أراضي جنوب سورية وشرقي الأردن حالياً. واستفاد السعوديون من القلاقل في جبل شمر ليجتذبوا إلى القصيم قوافل الحجاج القادمة من العراق وبلاد فارس. واشتد الصراع بين حاكم حائل، وحدثت تبدلات سريعة بين الأشخاص الممسكين بزمام الأمور فيها. وحل محل سعود بن حمود سعود بن عبد العزيز الرشيد الصغير السن الذي أعاده إلى حائل في عام 1909 أخواله من أسرة آل سبهان القوية. وظل أبناء هذه الأسرة يمثلون السلطة الفعلية في الإمارة. وحتى سقوط إمارة جبل شمر في عام 1921 استلم زمام الحكم فيها حوالي عشرة من الأمراء أو الأوصياء.

الحسين بن علي، شريف مكة.

ولم تتمكن إمارة جبل شمر التي غدت ضعيفة من الاستفادة من التوقف الموقت في التوسع السعودي مع أن القصيم كانت مضطربة. وانفصل عن أمير الرياض فيصل الدويش وسائر زعماء مطير إذ دخلوا في تحالف سري مع حاكم بريدة عبد الله أبا الخيل.

وفي أبريل-مايو 1907 نشبت قرب مدينة المجمعة في سدير معركة بين مطير وقوات إبن سعود المكونة بالأساس من قبيلة عتيبة. واندحرت مطير. وأصيب فيصل الدويش بجراح في هذه المعركة فطلب الصلح وأعرب عن خضوعه لإبن سعود. كان كالسابق زعيما لقبيلة قوية، وفي تلك الأزمان العصيبة كان إبن سعود بحاجة إلى أصدقاء أحياء أكثر من حاجته إلى أعداء موتى، ولذا تقبل تأكيداته بالولاء. وفي أغسطس-سبتمبر 1907 ظهر سلطان بن حمود في القصيم حيث انضم إليه أهالي بريدة بزعامة أبى الخيل، وكذلك قسم من مطير. وعندما علم عبد العزيز بغارة سلطان جمع قوات من قحطان وعتيبة وسبيع والسهول وانضمت إليه قوات من العارض. وخلال المعارك اللاحقة في سبتمبر 1907 دحر عبد العزيز مطير وزعيمها فيصل من جديد. ونشبت المعركة الحاسمة عند الطرفية على بعد بضع عشرات من الكيلومترات شمالي عنيزة. وقاتل ضد عبد العزيز الشمريون وأهالي بريدة وكذلك مطير. وتعتبر معركة الطرفية من معارك عبد العزيز الحاسمة ضد أعدائه. ويعتبرها المؤرخون السعوديون انتصارا. إلا أن أمير الرياض لم يتمكن من الاستيلاء على بريدة واكتفى بنهب أطرافها. وبعد واقعة الطرفية انسحب الشمريون إلى حائل، كما تراجع فيصل الدويش إلى البادية.

كانت الكتلة الموالية للسعوديين في بريدة تتقوى. وعندما اقترب إبن سعود مع قواته من المدينة في مايو 1908 فتح له أنصاره بوابتها. والتجأ أبا الخيل والمحاربون المخلصون له إلى الحصن. ولكنهم طلبوا الصلح بعد أن أدركوا بأن لا أمل لهم في فك الحصار. وارتحل أبا الخيل إلى الكويت ومنها إلى العراق. وعين أحمد بن محمد السديري أميرا لبريدة. وهو يمثل فخذا مرتبطا بالسعوديين من زمان. وفي تلك الأثناء قتل سلطان بن حمود في حائل في يناير 1908. وتزعم الإمارة سعود بن حمود.

وفي أكتوبر – نوفمبر 1908 جرت في الحجاز أحداث هامة. فقد اضطرت الحكومة العثمانية إلى استبدال شريف مكة على بن عبد الله بالشريف الحسين بن علي. وكان الحسين قد عاد إلى مكة وهو يداري رغبة خفية في أن يكون ملكا للعرب أو أن يغدو، على أية حال، عاملا جديا في سياسة الجزيرة العربية.

وفي عام 1908 بدأ جفاف مرعب في أواسط نجد استمر عدة سنوات كما يقول فيلبي. ويتعارض قوله هذا مع ما كتبه بعض المؤرخين العرب. وعلى أية حال، ربما كانت الأمطار تهطل في مناطق أخرى، أما الجفاف فقد أصاب أواسط نجد بالذات. وتجدر الإشارة إلى أن الكثيرين من سكان أواسط الجزيرة كانوا يعتقدون بأن الجفاف في أراضي عبد العزيز كان إشارة مباشرة إلى الغضب الإلهي عليه. وكتب موسيل أن الكارثة الطبيعية ساعدت على التشوش العام في إمارة الرياض. إلا أن أمطار غزيرة سقطت في جبل شمر فتركت بعض القبائل عبد العزيز ونزحت إلى المناطق الواقعة تحت سيطرة إمارة حائل.

كان تدهور الزراعة وازدياد المجاعة وخراب البدو كل ذلك شدد من عدم الاستقرار عموما وضعضع سلطة عبد العزيز التي لم تكن قد توطدت بعد. وكان من دلائل عدم الاستقرار في الإمارة التمرد الذي حدث ضد إبن سعود في منطقة الحريق حيث قتل الأمير الهزاني على يد منافسيه من نفس العائلة. وحدث ذلك، على مايبدو، في فبرايرأبريل 1909. واجتاحت القلاقل المنطقة كلها، وتمكن عبد العزيز من إعادة النظام بشق الأنفس.

ولم تصبح منزلة أمير الرياض في ممتلكاته نفسها راسخة تماما. فقد أفاده عدم وجود خصوم أقوياء، إلا ان الاتجاهات اللامركزية والنزاعات القبلية الإقطاعية كانت تضعضع السلطة المركزية أحيانا. وفي الوقت الذي كان فيه أمير الرياض مشغولا بالشئون الداخلية أخذ يهدده من الغرب الحسين شريف مكة الهمام. حرضته الحكومة العثمانية دوما على العمل ضد نجد.

ولم ينس عبد العزيز أنه محاط من الغرب والشمال والشرق بممتلكات عثمانية أو بأتباع ل~لأتراك معادين له. وكانت غزواته الجسورة البعيدة تدل على إمكانية بعث الدولة الوهابية في حدودها الشاسعة السابقة، الأمر الذي كان يثير قلق الأتراك وحكام الجزيرة المعتمدين على بريطانيا وعلى الإمبراطورية العثمانية سواء بسواء.

وفي عام 1910 استمرت العمليات الحربية على نطاق غير كبير ضد أبناء عم عبد العزيز الثلاثة الذين سماهم (بالعرايف). ولم تسفر تلك العمليات عن نتائج جدية، ولكنها كانت من عناصر عدم الاستقرار الداخلي الناجم عن تباطؤ توسع إمارة الرياض وعن الجفاف الفظيع. وفي مارس – إبريل 1910 لبى عبد العزيز دعوة شيخ الكويت لمحاربة المنتفق وقائدهم سعدون باشا الذين كانوا آنذاك متحالفين مع الشمريين ضد الكويتيين. وفي يونيو 1910 دحر سعدون باشا القوات السعودية الكويتية الموحدة فاستولت المنتفق على غنائم كبيرة.

كانتا لعلاقات المتبادلة بين جبل شمر والسلطات العثمانية في الحجاز تتطور بصورة مضطربة. وفي يونيو 1910 طرد زامل آل سبهان الفصيل التركي من واحة تيماء. إلا أن نوري بن شعلان استولى على الجوف في عام 1909 واحتفظ بها لبعض الوقت وضغط بذلك على جبل شمر من الشمال والشمال الشرقي. ويبدو أن نوري من شعلان وعبدالعزيز أقاما تعاونا متينا جدا ضد العدو المشترك.

وحاول الشريف حسين خلال عامين من حكمه أن يثبت ولاءه للباب العالي فقام بحملة على عسير، في حين كان الأتراك مشغولين بإخماد إنتفاضة الإمام يحيى في اليمن. واستولى الحسين على إقليم عسير لأجل الأتراك وعاد إلى مكة عبر واحات بيشة ورانية وتربة الواقعة على حدود نجد وفرض سيطرته عليها.

وفي أواخر صيف 1910 جمع الشريف متطوعة من البدو ودخل نجد. وفي الطريق تمكن بالصدفة أن يأخذ سعد شقيق عبد العزيز أسيرا. ولم يكن الحسين يتوقع حربا كبيرة، ولم تكن قواته كافية. وصار المدعو خالد بن لؤي وسيطا بين أمير الرياض وشريف مكة، وتعين عليه فيما بعد أن يلعب دورا هاما في استيلاء النجديين على الحجاز. وبعد المفاوضات وعد عبدالعزيز بأن يدفع للسلطان العثماني ستة آلاف ريال سنويا ويؤكد سيادة الأتراك رسميا على نجد. وبعد ذلك أطلق سراح سعد وعاد الحسين إلى مكة.

وبعد عقد الصلح مع شريف مكة توجه عبدالعزيز إلى الحريق من جديد لإخماد التمرد الذي تزعمه هذه المرة أحد (العرايف). وقد أعدم جميع أفراد آل هزان الذين شاركوا في العصيان. إلا أن عبدالعزيز عفا عن مدبر التمرد وهو قريبه سعود بن عبدالله بن سعود. وظل هذا يخدمه بإخلاص مدى الحياة. وفر باقي (العرايف) إلى الحجاز حيث منحهم الشريف حق اللجوء.

في بداية عام 1911 طلب منه شيخ الكويت مبارك أن يوجه ضربة إلى عدوهم المشترك – قبيلة الظفير. ولكنه في الوقت ذاته أخبر شيخ هذه القبيلة إبن سويط باقتراب قوات عبدالعزيز وحرم غزوته من عنصر المباغتة. إلا أن شيخ الظفير هرب بعد أن أخبر إبن سعود بأن مبارك يلعب على الحبلين. كان حاكم الكويت يفرق بين قضيتين هما مساعدة آل سعود الضعفاء ضد إمارة جبل شمر القوية وبعث إمارة الرياض التي تحولت بسرعة إلى القوة الرئيسية في أواسط الجزيرة. ورغم التنافس الشديد ظل مبارك يخاطب إبن سعود كالسابق (يا ولدي)، وكان عبدالعزيز يجيبه (يا والدي).

وفي عام 1910 زار المعتمد السياسي البريطاني الكابتن شكسبير عبدالعزيز. وأفاد بأن أمير حائل والإمام يحيى وحاكم عسير تكاتبوا من أجل تدبير تمرد على الأتراك. كان عبدالعزيز يريد طرد الأتراك من الإحساء وكان ينشد معونة الإنجليز في ذلك. وفي عام 1911 كانت الحكومة العثمانية لاتزال تسمى حاكم حائل (بأمير نجد)، بينما كان الإنجليز يخاطبون عبدالعزيز في مكاتباتهم (بالشيخ عبدالعزيز بن الشيخ عبدالرحمن آل سعود).

كان الإقليم الشرقي يجلب دوما انتباه حكام الرياض. ولم يكن الأمر يقتصر على اعتبارهم له ضيعة شرعية لهم. فإن واحات الإحساء الغنية والمداخيل الجمركية كان بوسعها أن تعزز الحالة المالية للسعوديين. وكان أمير الرياض بحاجة إلى منفذ إلى البحر. وكان الوضع في الإحساء ملائما لخطط عبدالعزيز، لأن السكان المحليين يكرهون الأتراك. إلا أن ابن سعود كان يدرك من خبرة الحياة في الكويت أن الإنجليز هم القوة الرئيسية في الخليج.

زار ابن سعود الكويت في عام 1911 وأجرى مباحثات ودية مع المعتمد البريطاني واتفق معه على التعاون. وتخلى حاكم الرياض عن كل الادعاءات في مسقط وعمان، وتقرر أن يسيطر على الإحساء والقطيف وجزيرة دارين ومرفأ العقير وأن يحول الإنجليز دون تدخل أية دولة من جهة البحر. ومقابل ذلك كان يتعين على ابن سعود أ، يعترف بالحماية البريطانية على إمارته وأ، لايدخل في حرب بدون موافقة الحكومة البريطانية. ولم توقع هذه الاتفاقية رسميا، ولكنها كانت تستجيب لطابع المباحثات السابقة ولنهج بريطانيا في عدم إعاقة عبدالعزيز عن الاستيلاء على الإحساء، وللأحكام العامة في معاهدة 1915 المرتبقة. كانت بريطانيا في تلك الفترة تعتبر إمارة الرياض محمية فعلية أو محمية محتملة في إطار مجال نفوذها في حوض الخليج.

وفي عام 1911 بدأت في عسير انتفاضة ضد الأتراك تزعمها محمد بن علي الإدريسي. وأرسل إليه عبدالعزيز مساعدة عسكرية معينة. وأدت مشاعر أهل عسير الدينية القديمة وتعاطفهم مع الوهابيين إلى تقوية التحالف بينهما.

وفي مطلع عام 1912 حاول الباب العالي، وهو منهمك بالحرب في أوروبا، أن يحصل على تأييد من أقاليمه البعيدة في الجزيرة العربية أو التأكد من وقوفها على الحياد. وبعث إلى عبدالعزيز وفدا أثار فيما أثار مسألة إرسال قوات نجدية لدعم الحامية التركية في الإحساء. وأدرك ابن سعود أ، الإحساء ستقع في القريب العاجل بيده كثمرة ناضجة.

وعندما منيت الحكومة العثمانية بهزيمة في البلقان حاولت بإصرار أن تجعل من عبد العزيز حليفا لها في الجزيرة. ووصل وفد تركي إلى الرياض كي يستشيره ويستمع على آرائه وشكاواه. ورد عبد العزيز قائلا : (إنكم لم تحسنوا إلى العرب، ولا عاملتموهم في الأقل بالعدل. وأ،ا اعلم أن استشاراتكم إياي هي وسيلة استطلاع، لتعلموا ما انطوت عليه مقاصدي. وهاكم رأيي، ولكم أن تؤولوه كما تشاءون : إنكم المسئولون عما في العرب من شقاء. فقد اكتفيتم بأ، تحكموا وما تمكنتم حتى من ذلك. وقد فاتكم أن، الراعي مسئول عن رعيته. وفاتكم أن، صاحب السيادة لايستقيم أمره إلا بالعدل والإحسان. وفاتكم أن العرب لاينامون على الضيم ولايبالون إذا خسروا كل مالديهم وسلمت كرامتكم). وفي الوقت ذاته اقترح عبد العزيز عقد مؤتمر للزعماء العرب في مدينة محايدة لتتهيأ لهم إمكانية الإعراب عن آرائهم. واقترح بأن يعيد الأتراك النظر في مواقفهم من العرب لأجل إيجاد شكل أكثر ملائمة للحكم بمشاركة العرب. واقترح أمير الرياض بأن توجد في إطار الإمبراطولية العثمانية عدة دول عربية أو دولة عربية موحدة بزعامة أحد الحكام أو وحدات سياسية منفردة بزعامة حكام محليين يعملون بشكل ولاة عثمانيين يتمتعون بالحكم الذاتي. وكانت اقتراحات أمير الرياض متعارضة جدا مع مع سياسة زعماء تركيا الفتاة التي حال ضعفها العسكري والسياسي دون الرد بحملة حربية على مقترحات عبد العزيز الجسورة وفي أواخر ربيع وأوائل صيف 1912 قام شريف مكة الحسين بحملة أخرى على نجد بعد أ، جمع المتطوعين من بدو عتيبة، بينما هجم محمد شقيق إمام الرياض على بدو عتيبة الخاضعين للحسين. وتوترت العلاقات بين الحاكمين إلى أقصى حد. ومنع الشريف النجديين من أداء حج عام 1912. وألب مخبرو الحسين سكان القصيم على الرياض، حتى أن حاكم القصيم ابن جلوى أعدم عددا من أهاليه. وتلقى عبد العزيز حقا ضربة شديدة، إلا أن كراهية النجديين اتجهت بالدرجة الأولى ضد شريف مكة. وهكذا نشأ أساس النزاع الذي سينتهي فيما بعد باستيلاء النجديين على الحجاز.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

نشوء حركة الإخوان

لم يكن لدى عبد العزيز سند متين وواسع بالقدر الكافي في أواسط الجزيرة رغم نجاحاته الأولى. فلم يكن يتمتع بدعم الدعوة الدينية السياسية التي رصت صفوف السكان وجعلتهم يلتفون حول آل سعود في عهد أجداده. كان آل سعود مرتبطين بفكرة دينية باركت النضال من أجل المركزية لصالح الأمير والوجهاء الحاكمين وباركت النضال من أجل المركزية لصالح الأمير والوجهاء الحاكمين وباركت الغزوات تحت راية (الإسلام الحقيقي).

صورة رسمت بخط اليد في يناير من عام 1930 لشيخ قبيلة مطير ومن أبرز قادة الأخوان فيصل بن سلطان الدويش

وفي تلك الأثناء ظهرت في نجد حركة الإخوان (إخوان من أطاع الله). ومن المستبعد أن، يكون عبد العزيز من واضعي فكرة الإخوان أو من مؤسسي هذه الحركة. فإن المؤسسين الروحيين للحركة هم قاضي الرياض عبد الله بن محمد بن عبد اللطيف من آل الشيخ وقاضي الإحساء الشيخ عيسى والمدعو عبد الكريم المغربي الذي وصل إلى الجزيرة العربية في أواخر القرن التاسع عشر واستقر في منطقة صارت فيما بعد هجرة الأرطاوية.

وبالإضافة إلى الالتزام الصارم بالفرائض الأساسية الخمس في الإسلام كان الإخوان مطالبين بالإخلاص (لإخوانهم) في الدعوة وبالخضوع للإمام ومساعدة بعضهم البعض بكل الوسائل، وعدم التعامل مع الأوربيين ومع سكان البلدان التي يديرها الأوربيون.

ولا أحد يعرف التاريخ الدقيق لنشوء بلدة الأرطارية الأولى، إلا أنها ظهرت، على مايبدو، في النصف الأول من عام 1913. وفي الأول من مارس 1929 كتبت جريدة أم القرى لسان حال السعوديين التي تأسست بعد ضم الحجاز أن يناير 1913 هو تاريخ نشوء أول هجرة. نشأت أولى (هجر) الإخوان حول مجموعة الآبار في الوادي ذي المراعي الجيدة والأشجار الكثيرة. ويقع هذا الوادي على طريق القوافل من الكويت إلى القصيم في منطقة ديرة مطير التي هي من أقوى قبائل أواسط الجزيرة وأكثرها اعتزازاً بنفسها.

وباع قسم من مطير طوعاً بعض إبلهم ومعدات الخيام الضرورية لنمط الحياة البدوي. واستقروا في منطقة الرطاوية وأخذوا يبنون المنازل بعد أن عزموا على ممارسة الزراعة وحدها ودراسة التوحيد. وانضم إلى مطير العريمات وهم فخذ من حرب قاموا بقسم كبير من البناء في الهجر لأنهم يمتلكون المهارات اللازمة في الصنائع والبناء والزراعة خلافا لسائر البدو. وتحول التعاضد القبلي التقليدي إلى تعاضد بين الإخوان. فإذا فقد أحد أملاكه بسبب غزوة أو بسبب هلاك الماشية فإن الإخوان يجمعون له التبرعات.

ونشأت هجر كثيرة على أثر الأرطاوية. فقد نشأت عتيبة هجرة في الغطغط وقد دمرت فيما بعد. وفي عام 1918 ظهر عدد كبير من هذه الهجر في كافة أرجاء نجد. ولئن كان عدد هجر الإخوان في عام 1920 في الجزيرة كلها 25 هجرة، فقد ازداد في عام 1923 إلى 72، وفي عام 1929 بلغ 120 هجرة تقريباً. وكتبت أم القرى في عام 1929 أن عنزة أسست 7 هجر وشمر 16 حرب 22 ومطير 12 وعتيبة 15 وسبيع 3 والسهول 3 وقحطان 8 والدواسر 4 وبنو خالد 2 والعجمان 14 والعوازم 2 وبنو هاجر 4 وآل مرة 4 بني رشيد3 والظفير 1. ولكنه حتى في أوج حركة الإخوان لم يستقر في الهجر إلا عشر أو، في أفضل الأحوال، خمس البدو الرحل.

وكانا لجفاف ومصاعب الحياة البدوية، أي الضرورة الاقتصادية، من الدوافع التي جعلت البدو يستقرون ويتحولون إلى حضر. وكان نزوحهم إلى الشمال محدودا بسبب عدم رغبتهم في الاعتماد على أهواء الأتراك ومن بعدهم الإنجليز.

وقد شجع إبن سعود عملية استقرار البدو وساعد الإخوان بالنقود والحبوب والأدوات الزراعية ومواد بناء المساجد والمدارس والهجر، كما بعث المطاوعة لتعليمهم. وبالإضافة إلى ذلك زود المحاربين بالسلاح والذخيرة للدفاع عن الدين.

وكان أمراء حجر يستلمون من عبد العزيز معونة نقدية ويتمتعون بحس ضيافته. وكانت أسماء الأمراء تسجل في سجلات خاصة، وكان مقدار المعونة يحدد تبعا لخدماتهم وعدد أتباعهم، وكان الإخوان المحاربون يتلقون مكافأة سنوية بعد أن تسجل أسماؤهم في سجلات ديوان إبن سعود.

إن الشرط الرسمي للانتماء إلى الهجرة هو التخلي عن عادات والتزامات نمط الحياة العشائري. إلا أن هذا الشرط لم يكن يطبق عمليا، فصار الإسكان في الهجر يجري في الغالب على أساس قبلي. وصارت هجر الإخوان في الواقع مقرات لشيوخ أكبر القبائل. وأخفقت محاولة ابن سعود لحرمان القبائل من زعمائها التقليدين بواسطة فرق الإخوان. وقد استقر فيصل الدرويش زعيم مطير في الإرطاوية، كما اتسقر زعيم عتيبة في الغطغط. وسكن زعيم حرب في دخنة وسكن ابن جبريل وابن ثنيان زعيما شمر في الاجفر وسكن الامير ابن براك الرشيدي في انبوان.

كان الحماس الديني لدى الاخوان يتسهدف طاعة الله ويخدم بالطبع أولياءه في الأرض. وكان من المنتظر الثواب عل جهودهم الدينية والدنيوية ، كما في السابق عن طريق غنائم الحرب ولكن ليس بشكل غزو بعض القبائل لبعضها الآخر أو النهب في الطرقات، بل في الجهاد ضد المشركين. واقترنت الضرورة الاقتصادية والاجتماعية لاستقرار البدو والانتقال الى الزراعة بالتفاني الديني والحاجات العسكرية، الا أن هذه المهمات يمكن ان تتعارض، ولذا دمرت بعض القرى "الهجر". بديهي أن من المستبعد توقع تخلص البدو بسرعة من عاداتهم البدوية السابقة وتحولهم الى زراع جيدين. ففي غالب الأحيان لم يكن الحماس الديني يكفيهم من أجل التوحيد أكثر مما يرغبون في الزراعة.

وظلت باقية في قرى الهجر بعض الفوارق الطائفية بين القبائل الرفيعة التي تقدم المزارعين المقاتلين وبين القبائل الوضيعة التي كان يتعين عليها ممارسة الصنائع والبناء وتأمين مستلزمات القرى الجديدة. وبالفعل فان العريمات التي استقرت مع مطير في الارطاوية هي فخذ وضيع من قبيلة حرب التي تعتبر من أنبل القبائل في الجزيرة العربية.

وغالبا ما كان الصناع والباعة يعتبرون من الاشخاض الذين لا تشملهم الاعمال الحربية، وكان يتعين عليهم أن يصنعوا حدوات الجياد والسلاح والأدوات الزراعية ويصلحونها. وعندما تبدأ الحرب كانوا يبقون في القرى.

أما المطاوعة فكانوا يمثلون الفئة الأوطأ من علماء الدين والفقهاء الذين يجرى إعدادهم في الرياض ومراكز أخرى. وكان هؤلاء المطاوعة في الواقع يؤدي في القرى دور دعاة ومخبري السلطة المركزية المتمثلة في علماء الرياض والأمير شخصيا. وي أكبر الهجر كان عبد العزيز يعين قضاة من آل الشيخ عادة.

وكان سكان الهجر الملزمون بالخدمة العسكرية يقسمون إلى ثلاث فئات تضم الأولى الاشخاص الذين عم في حالة تأهب واستعداد دائم للقتال والذين يلبون نداء الجهاد حالا. وتضم الفئة الثانية الاحتياط، أما الفئة الثالثة فتتكون من الذين يتظلون في القرى عندما تنشب الحرب. ولكن بقرار من العلماء ان يجندوا في جيش الامير في الحالات الإستثنائية. وكان سكان الهجر يؤدون الخدمة العسكرية مع ابلهم وسلاحهم واغذيتهم. وكانت بعض الهجر فقط وهي الواقعة في اواسط نجد، تستلم معونة من بيت المال للأغراض الحربية عندما تقدم عساكرها.

كان البدور الذين استطونوا الهجر يعتقدون بانهم انتقلوا من الجاهية واعتنقوا الاسلام الحقيقي. وكانوا ينهمكون في نشر معتقداتهم بحماس كبير، حتى انهم كانوا يضربون البدو والحضر الذين لا ينضمون اليهم ويعتبرونهم من الكفرة. ونظر لأن البدو كانوا في السابق بالفعل لا يعرفون الاسلام الا القليل فان هذا الانتقال، وكذلك استبدال العرف القبلي بالشريعة، قد استما بطابع مأساوي لدرجة ما، فقد أشار موسيل، مثلا الى اشتداد المشاعر الدينية بين الرولة الذين شارطوا في فرق الاخوان. وعلى أية حال فان الكثيرين من البدو صاروا يحفظون عن ظهر قلب سورة أو سورتين من القرآن.

من المعروف ان المتيدنيين الجدد اكثر حزما وتعصبا في أداء الفرائض الدينية من المتيدنين القدامى. ولذلك فان البدو الذين لم يعرفوا الاسلام سابقا أو الذين يعرفون عنه القليل جدا صاروا يؤدون فرائضه كالصلوات الخمس بحماس شديد واخذوا يضربون بالعصى من يتنصل عن أدائها. ولكي يميز الغخوان أنفسهم عن سائر المسلمين الذين اعتبرواهم مشركين صاروا يرتدون عمامة بيضاء بدلا من الكوفية العادية، كما اخذوا يحلقون شواربهم ويقصرون لحاهم ن ويصبغونها بالحناء احياناز وقصروا دشداشتهم حتى صارت تغطي الركبتين بالكاد. ومنع الاخوان الموسيقى ايا كانت، ما عدا طبول الحرب ن ولم يشربوا لقهوة لأنها لم تكن معروفة في زمن النبي، وتحاشوا التدخين كما يتحاشون السم. وكان تعاطي الكحول محرما بالطبع، وكذلك الحرير والنقوش الذهبية على الألبسة الرجالية. وصبت اللعنات على القمار وقراء الفأل والألعاب السحرية. ونشير هنا إلأى الطابع التعادلي للكثير من محظورات الدين لدى الإخوان. وكان ذلك شكلاا لإحتجاج بسطاء أبناء الشعب على أبهة الطبقات الحاكمة (حسب مقاييس الجزيرة العربية).

وكان الاخوان يطلقون نعت المشركين على جميع الذين لا يزيدونهم من أهالي المدن والواحات والبدو. وباسم تجديد الدين قامت فرق الإخوان بقساوات كثيرة مع أن تعصبهم قوي القدرى الحربية لقوات بان سعود. ويعتقد ديكسون أن نظام الفروسية البدري تضعضع في الفترة بين 1913 – 1930 بسبب حركة الإخوان.

واد مؤلفون كثيرون أن ابن سعود نفسه لم يكن متعصبا ابدا.وقد انتفع من حركة الاخوان واستخدمها متجاوزا بمهارة مطالبها المتطرفة. وابان الحرب العالمية الأولى وافق ابن سعود على الحماية البريطانية واستلم معونات شهرية من الحكومة البريطانية وادعى بأن ذلك مجرد جزية كالتي كان المسيحيون يدفعونها للخلفاء الأوائل ولكنه حتى في المرحلة الأولى من مراحل حركة الإخوان لم يكن ابن سعود يثق بهم حتى النهاية. وذلك بحكم منحدرهم البدوي وبحكم الافاراط في انتشار السمات التعادلية في حركة الاخوان من وجهة نظر الاقطاعي الكبير. وفي حاشية أمير الرياض كان قريبه ونصيره عبد الله بن جلوي من اشد معارضي الاخوان.

ضم الإحساء

عندما علم عبد العزيز بعزيمة الأتراك في حرب البلقان أخذ يستعد لحملة على الإحساء، وفي مطلع عام 1913 وصل إلى القصيم وأعلن التعبئة العامة. في تلك الأثناء كان الإخوان من ضمن قواته، ولكنهم لا يشكلون الأغلبية، وبعد أن جمع حضر نجد والبدو المنضمين إليه توجه إلى الإحساء. وقبل أن يبدأ هذه الحملة تقابل مع الضابط الإنجليزي ليتشمان، لعله أخبره بخطة الهجوم على الأتراك.

كان سكان الإحساء الذين أرهقم ابتزاز الأتراك وظلمهم ينظرون إلى النجديين كمنقذين لهم. ومنذ عام 1903 كتب قنصل روسيا في البصرة أن المتصرف العثماني في الاحساء ككل سكان هذا السنجق العرب في حالة إرهاق بالغ بسبب تعنته وطيشه. وكتبت القنصلية الروسية في البصرة أن سلطة الأتراك في الإحساء كانت وهمية. وقد انتهت تقريبا خارج حدود المدن. وفي بداية مايو جمع ابن سعود حوالي 8 آلاف من الأعراب المسلحين جيد واقتحم الإحساء بغتة قام بهجوم على الصفوف. ولم يجد صعوبة كبيرة في احتلال المدينة.

بدأ الهجوم على المدينة في الليل بواسطة جذوع النخيل والحبال والسلالم المجهزة مسبقاً. وسرعان ما سقطت المدينة وذلك حصن الكوت. ما عدا مسجد إبراهيم باشا في داخل الحصن، والتجأ المتصرف قسم حاميته إلى المسجد، وكان مجموع الأتراك في الهفوف آنذاك 1200 شخص.

وقرر المتصرف أن يضع السلاح، وتم اخلاء الحامية تحت حراسة مفرزة قادها أحمد بن ثنيان، وهو من أقرباء عبد العزيز الأبعدين. ثم استولى النجديون على القطيف. وصار الإقليم الشرقي تحت سلطة ابن سعود وكتبت القنصلية الروسية في البصرة "من المحتمل أن يكون ذلك كله قد حدث ليس بدون علم الإنجليز، وربما ليس بدون نصائحهم، فان دسائسهم بين الشيوخ العرب معروفة جيدا".

ولم يضيع حاكم الرياض الوقت فأخذ يروض الشيعة المعادين تقليدياً للسعوديين. وعين عبد العزيز عبد الله بن جلوي حاكماً للإحساء، وأخذ هذا ينكل بنشطاء الشيعة دون رحمة وخصوصا في القطيف.

كانت عائدات الإقليم في عهد الإدارة العثمانية تعادل 37 ألف ليرة سنوياً، بينما بلغت نفقات الحاميات والإدارة 52 ألفاً. إلا أن عائدات الإحساء، كما يعتقد القنصل الروسي في البصرة، يمكن زيادتها، وهذا ما عزم عليه عبد العزيز. فقد طرد التجار الأجانب من الإحساء والقطيف وفرض ضريبة بنسبة 8% على كل الواردات التي تصل إلى الإقليم الشرقي من جهة البحر واجتث عبد الله بن جلوي بيد من حديد النهب على طرق القوافل فاستطاع التجار ان يتجولوا في الاقليم بأمان نسبياً.

لقد انتزعت إمارة الرياض من الدولة العثمانية إقليماً عينياً نسبياً من أقاليم الجزيرة العربية وحصلت على منفذ الخليج من الكويت حتى قطر. أن أهمية الإحساء بالنسبة لإمارة الرياض تفوق التقدير. فالأراضي التي كان السعوديون يسيطرون عليها حتى ذلك الحين خالية من آية موارد طبيعية. ولم يكن محصول التمور في حدودها يكفي بالكاد لسد حاجة الحضر والبدو، ولم تكن الحبوب كافية، وكانت الامارة بحاجة إلى استيرادها، وكان السكان الحضر يعتمدون كليا تقريبا على استيراد الأقمشة، وكانت القوات بحاجة إلى مشتريات السلاح من الخارج، وقد أمن الإستيلاء على إقليم الإحساء والحصول على منفذ إلى الخليج قوة حيوية للدولة السعودية واستمرار تطورها.

ولم تقف بريطانيا التي تؤمل في تحويل الدولة السعودية إلى محمية لها في آخر المطاف حجر عثرة أمام طرد الحامية التركية من الاحساء. وقد قام المندوب البريطاني في البحرين بزيارة مجاملة لعبد العزيز في مرفا العقير بعد سقوط الاحساء. وفي أواخر عام 1913 زار الرياض المعتمد البريطاني في الكويت الكابتن شكسبير الذي كان قد تقابل من ابن سعود سابقاً. وقد ناقش مع أمير الرياض هذه المرة الوضع العام لأنه لم يكن يتمتع بصلاحيات أخرى.

بيد أن بريطانيا كانت تلعب على الحبلين، ففي يونيو 1913 وقعت بين السفير العثماني إبراهيم حقي باشا ووزير الخارجية البريطاني إدوارد گراي اتفاقية رسم الحدود بين ممتلكات الدولة العثمانية والمحميات البريطانية على الساحل العربي من الخليج – الكويت والبحرين وإمارات ساحل الصلح البحري. وكانت كل هذه الأراضي مرتبطة على نحو ما بالإحساء التي لم يرد لها ذكر في الإتفاقية. وهذا يفترض رسمياً أنها كانت جزء من الدولة العثمانية.

وفي مارس 1914 وافقت بريطانيا والدولة العثمانية على اقتسام شبه الجزيرة العربية. ونصت شروط المعاهدة على ان تمتد الحدود بين ممتلكات كلتا الدولتين بشكل خط مستقيم من شبه جزيرة قطر عبر بوادي أواسط الجزيرة العربية حتى الحدود بين محمية عدن واليمن. وكان كل ما يقع شمالي هذا الخط ملكاً للعثمانيين، بما في ذلك نجد فضلا عن الاحساء، وكل ما يقع جنوبية يعتبر من الأراضي البريطانية. وبالمناسبة فقد فقدت هذه المعاهدة قيمتها باندلاع الحرب العالمية الأولى.

وبعد سقوط الإحساء جرت مباحثات بين عبد العزيز وممثلي السلطات العثمانية. ولم تكن لدى الباب العالي القوى والنقود اللازمة لاستعادة الإقليم المفقود. وكل ما يريده التتاراك هو الحفاظ على ماء الوجه. وكتبت القنصلية الروسية في البصرة في 27 مايو 1914 "أن إرسال فيلق عمليات إلى الإحساء في الوقت الحاضر غير ممكن بالنسبة للأتراك وليس لديهم العدد الكافي من الجنود لا في بغداد ولا في البصرة. زد على ذلك أن الحكومة البريطانية التي تتابع ببالغ الاهتمام كل ما يجري في الإحساء ستحاول إعاقة الأتراك في ترسيخ أقدامهم من جديد على سواحل الخليج".

وقد وافق أمير الرياض شفوياً كما يقول سانت جون فيلبي، على الاعتراف بسيادة السلطان العثماني على أراضيه مقابل الأسلحة والنقود التركية.

ويؤكد الباحث الأمريكي ترولير يصورة قاطعة أنه تم توقيع معاهدة عثمانية سعودية رسمية في 15 مايو 1914 نصت، فيما نصت على "أن ولاية نجد يجب أن تبقى تحت حكم عبد العزيز آل سعود طوال حياته بموجب فرمان سلطاني، وبعد وفاته ينتقل الحكم الى أبنائه وأحفاده بشرط أن يبقى الأمير مواليا للحكومة العثمانية ولأجداده".

ونصت المادة 7 على أن يرفع العلم التركي فوق كل دوائر الدولة وكذلك فوق السفن العائدة لولاية نجد. وجاء في المادة 9 أن الوالي المذكور لا يحق له التدخل في الشئون الخارجية ولا عقد المعاهدات الدولية ولا منح الامتيازات للأجانب". ونصت المادة 12 على أن حاكم نجد يجب أن يحارب إلى جانب الدولة العثمانية. ويعتقد فيلبي أن عبد العزيز صار مع اندلاع الحرب العالمية الأولى، في حل من العقد الشفوي للأتراك. وعلى أية حالة فإن سلوك أمير نجد منذ بداية العمليات الحربية كشف عن عدم تقديمة لتعهداته أمام السلطان العثماني وعن قلة المرتكزات التي كان بوسع الأتراك استخدمها لحمله على العمل في صالحهم. وأكدت مذكرة حكومة العربية السعودية أنه لا توجد في الارشفيات السعودية أية وثيقة تشير إلى توقيع الاتفاقية السعودية التركية. أن عدم وجود مثل هذه الوثيقة في الأرشيفات السعودية، ان لم تكن موجودة فعلاً. لا يدل على شيء. فبدلاً من الاتفاقية التحريرية يمكن ان يردد اتفاق شفوي ينفذه الطرفان إذا كان في صالحهما. وعلى أية حالة فقد قدم ترولير النص الكامل للمعاهدة التركية النجدية مع إن توقيع عبد العزيز غير موجود عليه بالفعل. وكان المسؤولين في الأستانة يدركون بأنهم فقدوا السيطرة الفعلية على نجد والإحساء رغم المعاهدة مع بريطانيا بشأن اقتسام الجزيرة العربية ورغم تعهدان ابن سعود الشفوية بولائه للسلطان. ولذلك أخذت السلطات العثمانية تعمل على تقوية جبل شمر، حيث وعدوها، مثلاً بتقديم 10 آلاف بندقية وأغذية ونقود، واقتنع عبد العزيز مرة أخرى بأن الأستانة تعول على حائل وأن الخطر التركي المحتمل على إمارة الرياض لا يزال قائماً.

نجد والحجاز إبان الحرب العالمية الأولى (1914-1918)

قبيل الحرب العالمية الأولى ازداد نفوذ ألمانيا في الدولة العثمانية لدرجة كبيرة. فبعد تردد قصير علق ثلاثي تركيا الفتاة الآمال على برلين ودخل الحرب ضد بلدان الوفاق. وبنتيجة مغامرة القيادة التركية بلغت الأزمة السياسية داخل الدولة العثمانية نقطة حرجة فطرح سكان أغلب الأقاليم غير التركية، وبالدرجة الأولى البلدان العربية، مطلب تقرير المصير. إلا أن دول الوفاق كانت تعتبر الدولة المحتضرة كلها غنيمة استعمارية لها، وتعتبر القوميين العرب حلفاء مؤقتين خاضعين. استمرت المعارك الدموية في الشرق الأدنى زهاء أربعة أعوام. وأنجزت إليها بدرجات مختلفة جميع بلدان شبه الجزيرة العربية تقريباً، مع أن الجزيرة كانت مسرحاً لعمليات حربية من الدرجة الثالثة بمقاييس الحرب العالمية.

منذ بداية العمليات الحربية ضد الدولة العثمانية كانت المهمتان الفوريتان لبريطانيا هما فرض السيطرة على مصر وقناة السويس والبحر الأحمر، وكذلك الاستيلاء على رأس جسر في شط العرب – مصب دجلة والفرات لتأمين حماية حقول البترول في إيران من الهجوم التركي الألماني المحتمل، وقد أمن حل المهمة الأولى وجود القوات البريطانية في مصر وسيطرتها على مشارف القناة من جهة سيناء، أما حل المهمة الثانية فأمنه إنزال فيلق الحملات في وادي الرافدين. وفي عدن جرى تعزيز الحامية وإرسال إمدادات من القوات الإنكلوهندية بغية احتفاظ بريطانيا بالمرفأ الاستراتيجي الهام، مع عدم التورط في عمليات حربية نشيطة ضد القوات العثمانية التي اقتحمت اليمن الجنوبي.

ومن بين جميع حكام شبه الجزيرة العربية حظي شريف مكة الحسين بأكبر الاهتمام لدى الحلفاء الذين علقوا عليه آمالاً تحققت فيما بعد بقدر ما. فقد كان الحسين بوصفه من العائلة الهاشمية المتحدرة من قريش من أكبر المتنفذين في العالم الإسلامي. وكان يعتبر من أحفاد النبي وسادن الحرمين الذي عين في هذا المنصب بفرمان من السلطان العثماني. كان الإنجليز يخشون من أن دعوة السلطان العثماني للجهاد ضد المسيحيين، وبالتالي ضد الإنجليز والفرنسيين يمكن أن تؤثر على مصر والهند وشمال أفريقيا والمستعمرات الأخرى التي يقطنها المسلمون. وكان الحلفاء يعتقدون بأن تأييد الحسين لدعوة الجهاد من شأنه أن يقوي تأثيرها. صحيح أن دعوة السلطان كان لها صدى محمود، واتضح أن المخاوف بشأن تأثيرها كان مبالغا فيها.

وخلال العامين الأولين من العمليات الحربية في وادي الرافدين منيت القوات الإنجلو-هندية بعدة هزائم على يد القوات التركية التي كان فيها عدد غير قليل من العرب. وفي گاليپولي حيث اندحرت قوات الحلفاء أيضا كان في الفرق التركية عرب من رعايا الدولة العثمانية. ولذلك كان تشجيع الحركة القومية العربية ذات الصبغة الدينية يستجيب في تلك الأثناء للمصالح البريطانية والفرنسية.

إمارة نجد والحرب العالمية الأولى - المعاهدة الإنگلونجدية

عندما اندلعت الحرب العالمية الأولى بعث أمير الرياض عبد العزيز رسائل إلى الشريف حسين وسعود بن صالح في حائل والشيخ مبارك الصباح في الكويت واقترح عليهم عقد لقاء للحكام العرب للحيلولة دون جر العرب إلى العمليات الحربية وتوقيع معاهدة مع الدول الكبرى لضمان تقرير المصير للدول العربية. ولم تكن مصالح مختلف الأمراء العرب متوافقة آنذاك، ولذا تعذر وضح منهاج مشترك. فقد رد حاكم حائل بأنه سيقاتل ضد الذين يقاتلون الأتراك وسيتصالح مع الذين يتصالحون معهم.

ووصل إلى نجد من بلاد الرافدين مبعوث السلطات العثمانية طالب النقيب الذي تقابل مع عبد العزيز في بريدة، ولكن مهمته أخفقت لأن القوات البريطانية احتلت البصرة آنذاك. وتوجه من المدينة المنورة في الوقت ذاته وفد تركي آخر ومعه دليل من الوزن الثقيل على رغبة السلطات العثمانية في استمالة عبدالعزيز إلى جانبها. فقد حمل الوفد 10 آلاف ليرة ذهباً. وحاول أحد أعضاء هذا الوفد، وهو مؤرخ الحجاز والجزيرة العربية محمود شكري الألوسي، إقناع عبد العزيز بتأييد الأتراك. وتملص عبد العزيز عن تقديم أية وعود قائلاً بأنه عاجز عن مقاومة الإنجليز، ولكنه وعد بعدم إعاقة تجار نجد عن تزويد الجيش التركي بالأغذية. وطوال الحرب كلها كانت القوافل التركية المحملة بالسلاح والذخيرة تجتاز أراضيه من الشام إلى عسير واليمن.

عبد العزيز بن عبد الرحمن مع بيرسي كوكس عام 1916، بعد عام واحد من عقد معاهدة دارين.

إلا أن الإنجليز رغم اعتمادهم على الحسين ماكان بوسعهم أن يتجاهلوا أمير نجد. ففي تلك الفترة كانت ممتلكات عبد العزيز تنبسط من الكويت وجبل شمر حتى حدود صحراء الربع الخالي ومن الخليج حتى الحجاز. وكانوا يريدون من عبد العزيز شيئا واحدا هو أن يشل صنيعة الأتراك أمير حائل الذي يهدد جناح الجيش البريطاني في جنوب وادي الرافدين.

وعندما بدأت العمليات الحربية في الشرق الأدنى استدعى المعتمد البريطاني في حوض الخليج پرسي كوكس مخبره الموهوب الكابتن شكسبير من إجازت وأرسله إلى نجد. وحالما وصل شكسبير إلى الرياض أصر على أن يبدأ الأمير النجدي العمليات الحربية ضد الشمريين. وفي بداية يناير 1915 توجه عبد العزيز نحو الشمال على رأس قوات بألف وخمسمائة شخص أغلبهم من سكان واحات العارض. وفيما بعد انضم إليه محاربون من مطير والعجمان وسبيع والسهول. وتوجه للقائه سعود بن صالح حاكم حائل وكان معه هو الآخر ألف وخمسمائة شخص تقريباً. (حتى ذلك الحين قتل زامل السبهان). ويصعب اعتبار هذه الأرقام صحيحة، ولكنها تبين على وجه التقريب نطاق العمليات.

وكانت عند عبد العزيز عدة مدافع يقود بطاريتها الكابتن شكسبير، مع أن روايات أخرى تقول أن شكسبير كان مجرد مراقب. ويبدو أن ابن سعود ما كان يريد لإنجليزي أصلاً، ناهيك عن أنه إنجليزي رفض ارتداء الزي العربي، أن يتواجد ضمن قواته في وقت انتشر فيه أكثر فأكثر تعصب الإخوان. وحاول الأمير إقناع المبعوث البريطاني أن يبقى في الزلفي، ولكن هذا الأخير أصر على المشاركة في الحملة، وربما كان يعتقد بأن القضية تمس شرفه، أو ربما كان ذلك لأجل التأكد من نوايا عبد العزيز والحيلولة دون تنصله عن القتال.

وفي أواخر يناير 1915 تصادمت قوات الطرفين قرب بئر جراب شمالي الزلفي. وبدأت معركة استمرت عدة أيام. وتفيد بعض المعطيات أن الشخص الوحيد الذي قتل هو الكابتن شكسبير، وتفيد معطيات أخرى أن الطرفين فقدا مائة شخص لكل منهما. وكان محاربو عبد العزيز المتأثرون بميول الإخوان تأثراً شديداً يطلقون صيحاتهم الحربية. أما الشمريون الذين يشكلون أساس قوات حاكم حائل فقد كانوا يقاتلون وسط صيحات قبيلتهم الحربية التي تطلقها فتيات حسناوات جالسات على الإبل بشعور مسترسلة. وهذه الوقائع ذات دلالة ليس فقط لأنها تشكل مشهدا صغيرا من حرب نشبت في أوروبا واستخدمت فيها المدفعية والغازات السامة والطائرات ثم الدبابات. فبالنسبة للجزيرة العربية تجدر الإشارة إلى أن واقع انتقاء صيحات الحربيين اختلاف قاعدتي الأميرين: القاعدة القبلية لجبل شمر والقاعدة العربية العامة المستندة إلى التوحيد الوهابي عند الإخوان لإمارة نجد. كان الشمريون يستنهضون بعضهم البعض بصيحات جد قبيلتهم، أما المحاربون السعوديون فكانوا يستعينون بالجنة الموعودة في حالة الممات. وانتهت المعركة بتعادل الطرفين. إلا أنها جعلت أمير الرياض طوال عامين أوثلاثة يرفض الدخول في حرب كبيرة.

تمكن شكسبير من إجراء مباحثات سياسية مع عبد العزيز. فوضعا مسودة معاهدة التزم الإنجليز بموجبها بضمان مواقع أمير الرياض في نجد والإحساء وحمايته من الهجمات العثمانية المحتملة من جهة البحر والبر إذا التزم بمساعدة الحلفاء. وتخلى الإنجليز عن سياستهم القديمة لعدم التدخل في الشئون الداخلية لشبه الجزيرة العربية. وألزمت المعاهدة إبن سعود بعدم إقامة علاقات مع البلدان الأخرى بدون مشاورة تمهيدية مع السلطات البريطانية. وتبين الدراسة التي أجراها ترولير لوثائق الأرشيفات الإنجليزي أن عبد العزيز كان يدرك بدقة مضامين السياسة البريطانية في الجزيرة العربية. فبعد مقارنة النص الأول للمعاهدة الذي اقترحه الإنجليز مع التعديلات تأكد ترولير من أن جميع اعتراضات أمير نجد تهدف إلى تقوية استقلاليته وتقليل تحكم بريطانيا بسياسته. وعندما كان إبن سعود يتباحث مع شكسبير وصل إلى نجد مبعوثون أتراك كانوا لايزالون يؤملون في اجتذاب الإمام للمشاركة في الجهاد ضد الكفرة.

وفي 26 ديسمبر 1915 وقع پرسي كوكس مع عبد العزيز المعاهدة في جزيرة دارين المقابلة للقطيف. ولذا سميت المعاهدة بمعاهدة دارين أو معاهدة القطيف. وصادق على المعاهدة نائب ملك بريطانيا وحاكم الهند في يوليو 1916. وقبيل توقيع المعاهدة بين بيرسي كوكس وعبد العزيز قدم الإنجليز، كما يقول فيلبي، هدية إلى أمير الرياض هي ألف بندقية و20 ألف جنيه إسترليني وسمحوا له بشراء ذخيرة حربية في البحرين.

واعترفت الحكومة البريطانية بأن سيادة عبد العزيز تشمل (نجد والإحساء والقطيف و إن شاء الجبيل وجميع المدن والمرافئ التابعة لهذه المقاطعات) والتزمت (بحماية مصالحه ومصالح بلاده) بعد مشاورات مناسبة. ونصت المادة الثالثة من المعاهدة على مايلي: (يتعهد إبن سعود أن يمتنع عن كل مخابرة أو اتفاق أو معاهدة مع أية حكومة أو دولة أجنبية). وأكدت المادة الرابعة أن أمير نجد لايمكن أن يتنازل عن الأراضي أو جزء منها ولا أن يؤجرها أو يرهنها أو يتصرف بها بأي شكل ولا أن يقدمها على سبيل الامتياز إلى أية دولة أجنبية أخرى أو إلى أحد من رعايا دولة أجنبية بدون موافقة الحكومة البريطانية. وتقول المادة السادسة: (يتعهد إبن سعود كما تعهد والده من قبل بأن يمتنع عن كل تجاوز وتدخل في أرض الكويت والبحرين وأراضي مشايخ قطر وعمان وسواحلها وكل المشايخ الموجودين تحت حماية إنجلترا والذين لهم معاهدات معها). ولم يرد في المعاهدة شيء عن الحدود الغربية لنجد. وهكذا فرضت هذه المعاهدة في الواقع الحماية البريطانية على نجد وتوابعها. وصارت هذ المعاهدة جزءا من شبكة النفوذ البريطاني التي أرادت لندن فرضه على القسم الأكبر من الشرق الأدنى، وعلى أية حال، على الجزيرة العربية كلها بعد الحرب العالمية الأولى. وفيما بعد، اعتبارا من عام 1916 استلمت نجد مقابل توقيع المعاهدة، معونة شهرية بمبلغ 5 آلاف جنيه إسترليني، مع إرساليات معينة من الرشاشات والبنادق.

انتفاضة العجمان

كان العجمان طوال خمسين عاماً تقريباً من أصعب القبائل على السعوديين، وقد خضعوا للحكومة المركزية على مضض. وعلى أثر معركة جراب نهب العجمان بعض القبائل التي كانت خاضعة لحاكم الكويت. وقد بعث حاكم الكويت رسالة إلى عبد العزيز يطلب فيها منه معاقبة العجمان. وكانت تلك هي الحجة المنشودة. إلا أن أمير الرياض ما كان يثق بحاكم الكويت وكان يخشى أن يغير الكويت موقفها أثناء حملته على العجمان وتغدو ملجأ لهم.

وفي صيف 1915 توجه عبد العزيز، قبل أن يوقع الاتفاقية مع الإنجليز، إلى الإحساء على رأس فصيل من 300 شخص. وانضم إليه متطوعون محليون. ولحق بالعجمان في مايو – يونيو 1915 عند جبل كنزان، إلا أن العجمان كانوا مستعدين للمعركة فواجهوه بمقاومة شديدة. وفقد النجديون حوالي 300 شخص بمن فيهم سعد شقيق الأمير عبد العزيز، ثم أن الانسحاب إلى واحات الإحساء. وكان الوضع خطيراً لدرجة جعلته يلتجئ إلى حصن الكوت في الهفوف. وأخذ العجمان ينهبون الواحات المجاورة وظلوا يحاصرون عبد العزيز حوالي ستة شهور، حتى سبتمبر – أكتوبر 1915. ساعدهم بعض الأمراء المحليين والعرايف.

ولم يسفر عن نتيجة عاجلة طلب المساعدة من شيخ الكويت. وبعد تكرار الطلب بعث مبارك إبنه سالم مع مائتين من المحاربين لنجدة عبد العزيز. وفي بداية العام التالي صار عبد العزيز قادراً على مغادرة الهفوف والبدء بالهجوم على العجمان. وسرعان ما اختلف عبد العزيز مع سالم بن مبارك فعاد هذا الأخير إلى الكويت. ووصل العجمان إلى الكويت يلاحقهم إبن سعود الذي صدقت شكوكه، فقد التجأت هذه القبيلة إلى مبارك الذي آواها. وفي بداية يناير 1916 توفي مبارك وصار شيخا للكويت إبنه جابر الذي كانت له علاقات طيبة مع عبد العزيز منذ عهد الغزوات المشتركة. وطرد الشيخ الجديد العجمان من أراضي إمارته. فتحسنت العلاقات بين نجد والكويت لفترة ما. ولكن جابر توفي في عام 1917 فصار أخوه سالم شيخاً للكويت، وهو ضد إبن سعود. في عام 1916 وصل سعود بن صالح من حائل على رأس قوات إلى القصيم وحاول الاستيلاء على بريدة ليستعيد سيطرته على الإقليم، ولكنه مني بالهزيمة. فإن إمارة جبل شمر كانت تتدهور رغم دعم العثمانيين.

انتفاضة الحجازيين ضد الأتراك

تناولت المطبوعات السوفيتية والغربية والعربية بشكل جيد موضوع الانتفاضة العربية بقيادة الشريف حسين ضد الإمبراطورية العثمانية والملابسات المرتبطة بتقسيم الدولة العثمانية وحنث الإنجليز بالوعود والالتزامات التي أخذوها على عاتقهم. ولذا نكتفي هنا بسرد الأحداث بالخطوط العريضة مركزين على نجد التي نشأت فيها نواة المملكة العربية السعودية.

إن الاهتمام بالانتفاضة العربية ضد الأتراك في المطبوعات الغربية التاريخية والأدبية كبير إلى حد الإفراط، وذلك بالارتباط بشخصية الكولونيل لورنس الذي وصل من القاهرة بمثابة ضابط ارتباط إلى شريف مكة في أكتوبر 1916. وبعد انتزاع مدن صغيرة من الأتراك على ساحل البحر الأحمر توجهت فصائل البدو إلى شمال الحجاز لتستولي على ميناء العقبة. وفي معركة هامة على مشارف العقبة حيث حسم الأمر زعيم بدوي شجاع ماهر كان لورنس في حالة جنونية يطلق النار بصورة عشوائية فقتل ناقته بإطلاقة في رأسها وسقط مغشيا عليه. ودحر البدو الفصيل التركي الصغير الذي سد عليهم الطريق إلى العقبة واستولوا على المدينة. ثم اقتصرت عمليات الجيوش العربية على محاربة الأتراك شرقي نهر الأردن وعلى عمليات التفجير على السكة الحديدية والتي شارك فيها لورنس بنشاط. بديهي أن انتفاضة العرب كساعدت على انتصار الحلفاء وحقنت دماء الجنود البريطانيين. إلا أن العرب ضحوا بحياتهم في الواقع لكي يقتسم المستعمرون فيما بعد البلدان العربية. وكان لورنس يعرف هذه الحقيقة ومع ذلك دفع عرب الجزيرة إلى الموت. وكتب لورنس يقول : (بما أني لم أكن أحمق نهائيا فقد رأيت أنه إذا انتصرنا نحن في الحرب فإن وعودنا للعرب ستكون حبرا على ورق. ولو كنت مستشارا نزيها لبعثت رجالي إلى ديارهم ولما سمحت لهم بالمجازفة بحياتهم من أجل هذه القضية. إلا أن الحماسة العربية كانت أداتنا الرئيسية لنكسب الحرب في الشرق. ولذلك أكدت لهم أن إنجلترا ستبقى على العهد نصا وروحا... ولكنني، بالطبع، كنت على الدوام أشعر بالمرارة والخجل).

لورنس العرب في شمال جدة عام 1917.

وتجدر الإشارة مرة أخرى إلى أن اهتمام الحلفاء بشريف مكة في الحرب العالمية الأولى كان أكثر بكثير من اهتمامهم بأمير نجد. وفي المنطقة بين معان واليمن كان هناك حوالي أربع فرق تركيبة تقيد الانتفاضة العربية.

كانت سياسة الشريف حسين مرتبطة بنهوض حركة التحرر الوطني في المناطق العربية من الإمبراطورية العثمانية. وفي مطلع القرن العشرين ظهرت في الإمبراطورية العثمانية مختلف الجمعيات والمنظمات للدفاع عن حقوق العرب. وكان الكثيرون من القوميين العرب في بداية القرن العشرين يتصورون بسذاجة أن بريطانيا وفرنسا يمكن أن تساعدا بنزاهة العرب في التحرر من نير الأتراك. وقد خابت آمالهم بمرارة، كما أن البعض منهم دفعوا حياتهم ثمنا لقصر نظرهم.

وقد تسلح أنصار تركيا الفتاة بالفكرة التركية القومية الشوفينية وأخذوا يتهمون العرب بالعمل لصالح الأجنبي. وفي يونيو 1913 عقد المؤتمر العربي في باريس حين نوقشت حقوق العرب في الإمبراطورية العثمانية. وأصر المشاركون فيه، وأغلبهم من السوريين، على ضرورة الإصلاحات بموجب المبادئ اللامركزية. وكان أنصار تركيا الفتاة قلقين من حركة التحرر الوطني العربية فلجأوا إلى التنكيل. ومع أن الحكومة العثمانية أصدرت في آب (أغسطس) 1913 مرسوما نص، فيما نص، على توسيع حقوق هيئات السلطة المحلية والتدريس باللغة العربية في الولايات التي يشكل العرب أغلبية سكانها، فإن كل هذه الإصلاحات ظلت حبرا على ورق.

وعندما أعلنت الحكومة العثمانية الجهاد في بداية الحرب حاولت أن تشكر شريف مكة به. وتواردت عليه الرسائل طالبة منه أني علن تأييده للجهاد. وكان الحسين يتملص من الجواب متحججا بضعف مواقعه أمام ضربات الإنجليز وبخطر المجاعة في حالة محاصرة سواحل الحجاز. وفي البرقيات التي أرسلت إلى وزيرا لحربية التركي أنور باشا الذي كان في الواقع بمثابة رئيس الحكومة طالب حاكم مكة بالاعتراف باستقلال الحجاز والعفو عن القوميين العرب المسجونين. وما كان بوسع الحكومة التركية أن تلبي هذه المطالب. وقبل بداية الحرب أقام حاكم مكة علاقات مع الإنجليز عن طريق القاهرة. وكان عبدالله إبن الشريف حسين، وهو عضو في المجلس العثماني، قد تقابل مرتين مع المندوب السامي البريطاني في مصر اللورد كيتشنر (في 1913 وفي بداية 1914).

عندما اندلعت الحرب العالمية الأولى عين اللورد كيتشنر وزيرا للحربية، وشغل هنري مكماهون منصبه في مصر. وفي يناير 1915 بدأ ستورس سكرتير الشئون الشرقية لدى المندوب السامي البريطاني في مصر وكلايتون مدير المخابرات العسكرية البريطانية في القاهرة بوضع خطة انتفاضة العرب إلى جانب دول الوفاق. وفي منتصف أكتوبر وصل رسول من ستورس إلى مكة للاتصال بعبدالله. وبدأت مراسلات بين الشريف حسين والمندوب السامي البريطاني في مصر.

وفي تلك الأثناء كان القوميون العرب، وخصوصا من جمعيتي (الفتاة) و(العهد) يستعدون للانتفاضة في منطقتي سورية والعراق اللتين اجتاحتهما القلاقل المناوئة للأتراك. وطرحوا شرطا للتعاون مع الإنجليز هو اعتراف بريطانيا باستقلال البلدان العربية التي يجب أن تمتد حدودها عبر مرسين واطنة وأورفا وماردين في الشمال، ولا يستثنى من (البلدان العربية) إلا عدن في الجنوب. ونص برنامجهم على توقيع اتفاقية دفاعية بين بريطانيا والدولة العربية المستقلة المرتقبة وتقديم امتيازات اقتصادية لبريطانيا. واعترفوا بشريف مكة زعيما للقوميين العرب.

وفي عام 1915 و1916 كشفت السلطات العثمانية في سورية تنظيمات عربية سرية وقبضت على زعمائها وأعدمتهم على مرأى من فيصل الذي كان عام 1916 في دمشق بمثابة أسير عند الأتراك في الواقع. ويبدو أن الأتراك عرفوا بصلتها مع فيصل، ولكنهم فضلوا عدم المساس به آنذاك. وفي عام 1916 جرى تدمير منظمات القوميين العرب في العراق. وأخذ أنصار تركيا الفتاة ينقلون إلى الجبهة الأوروبية قواتهم التي فيها كثير من العرب، وصاروا يرسلون إلى البلدان العربية وحدات تركية خالصة.

واستأنف الشريف حسين المباحثات مع الإنجليز في عام 1915. وفي تلك الأثناء كانت الحرب بالنسبة لبريطانيا وحلفائها في الشرق الأدنى تجري بصورة غير موفقة. فقد أخفقت العمليات الهجومية في هليبولي وسيناء. وكان الأتراك يهددون عدد من اليمن. وكانت حالة فيلق العمليات في العراق صعبة.وعلق الحلفاء أهمية أكبر على انتفاضة العرب التي كان يتعين عليها أن تساعد جهود الحلفاء الحربية في الشرق الأدنى. وجرى تبادل الرسائل بين الحسين ومكماهون، مما أسفر عن مجادلات شديدة. ففي الرسالة المؤرخة في 14 يوليو 1915 طالب حاكم مكة بأن تعترف بريطانيا باستقلال البلدان العربية وتوافق على إعلان الخلافة العربية. وأشار إلى أن الحكومة العربية تلتزم بأن تقدم لبريطانيا امتيازات اقتصادية. ووردت في الرسالة شروط التحالف العسكري وإلغاء نظام الاستسلام ومسائل أخرى. وتتضح من نص الرسالة رغبة الحسين في أن يتزعم بمساعدة الإنجليز الدولة العربية المستقلة التي من شأنها أن تضم جميع المحميات العربية (وقسما من الممتلكات الكردية والتركية الصرف للإمبراطورية العثمانية) وكذلك محميات بريطانيا في الجزيرة العربية ماعدا مستعمرة عدن.

وكتب مكماهون في رسالته بتاريخ 24 أكتوبر 1915 (لايمكن القول أن مناطق ميرسين والاسكندرية وقسم من سورية الواقع غربي مناطق دمشق وحمص وحماة وحلق هي مناطق عربية صرف ولذا يجب أن تستثنى من التحديد المقترح وبشرط هذا التعديل وبدون إلحاق ضرر بالمعاهدات المعقودة بيننا وبين بعض الزعماء العرب نقبل هذا التحديد. أما بخصوص المناطق الواقعة داخل الحدود المقترحة والتي تستطيع بريطانيا أن تعمل فيها بحرية بدون إلحاق ضرر بحلفائها فرنسا فأنا مخول بإعطائكم الإلتزامات التالية باسم الحكومة البريطانية:

1- أن بريطانيا مستعدة، بشرط إجراء التعديلات المذكورة أعلاه، للاعتراف باستقلال العرب وحمايته في جميع المناطق الواقعة داخل الحدود المقترحة من قبل شريف مكة.

2- تضمن بريطانيا حماية العتبات المقدسة من أي عدوان خارجي.

3- يفترض أن العرب قرروا طلب النصح والمساعدة من بريطانيا وحدها وأن المستشارين والموظفين الأوروبيين الذين سيحتاجهم إيجاد نظام صائب للإدارة سيكونون من البريطانيين.

4- فيما يخص ولايتي بغداد والبصرة فإن العرب يعترفون بأن المصالح والمواقع البريطانية فيما تتطلب إجراءات إدارية خاصة لحماية هاتين المنطقتين من العدوان الأجنبي).

إن إلتزامات بريطانيا للشريف حسين تحتمل معنيين وقد قيدت مطالب حاكم مكة الذي قضي عشرات السنين في جو الاستانة المشحون بالنشاط السياسي، جعلته يدرك تماما الحدود الحقيقية والمكنون الفعلي للوعود البريطانية. ولكن حتى أكثر التفسيرات تقييدا للرسالة البريطانية بدت له كافية لضمان مكانته المرتقبة كملك للعرب وكافية لإعلان الانتفاضة على الأتراك. فقد فسر الالتزامات البريطانية في بياناته العامة وفي مراسلاته مع الإنجليز وفي ميدان الدعاية تفسيرا موسعا واعتبرها حاوية على الاعتراف باستقلال العرب برئاسته شخصيا كملك لهم، وربما كان يؤمل في انتزاع أمور من الإنجليز بالقوة أكثر مما وعدوا به.

ولكن حتى التفسير الحذر لرسالة مكماهون لم يمكن الشريف وحاشيته من التصور بأن جميع وعود لندن كانت خداعا وتضليلا، وأن المفاوضات جارية بشأن التقسيم الاستعماري للبلدان العربية، تلك المفاوضات التي انتهت بمعاهدة سايكس – بيكو. فقد وقعت تلك المعاهدة قبل بضعة أسابيع من اندلاع الانتفاضة وشطبت التزامات مكماهون.

وعشية الانتفاضة حذر حاكم مكة إبنه فيصل فتمكن من التملص من الرقابة التركية مع موكب صغير. وأعلن الحسين الاستقلال في 5 حزيران (يونيو) 1916، وفي 10 حزيران بدأ الانتفاضة خوفا من ضربة وقائية يسددها الأتراك. وفي تموز (يوليو) استسلمت الحامية التركية في مكة، وتم بالتدريج الاستيلاء على سائر المدن الكبيرة في الحجاز، ما عدا المدينة المنورة التي يصل إليها فرع من سكة حديد الشام. وظهرت في جدة بعثتنا اتصال بريطانية برئاسة الكولونيل ويلسون وفرنسية برئاسة بريمون.

وفي أواخر أكتوبر 1916 أعلن الشريف حسين أنه ملك البلدان العربية. إلا أن أحدا خارج الحجاز لم يعترف بالحسين ملكا لجميع العرب. وفي يناير 1917 أبلغت الحكومتان البريطانية والفرنسية الحسين بأنهما تعترفان به (ملكا للحجاز).

وفي أواخر عام 1916 انضوى تحت لواء الحسين في الحجاز 30-40 ألف محارب، ولكنه لم يكن لديهم غير 10 آلاف بندقية. وفي البداية أوكلت مهمة تنظيم العمليات الحربية لعزيز المصري وهو ضابط من مصر، ثم لجعفر العسكري وهو ضابط من العراق غدا فيما بعد رئيسا للوزراء في العراق عدة مرات. إلا أن الحسين وقادته العسكريين فضلوا الأساليب التقليدية لخوض العمليات الحربية على نصائح الضباط المتدربين في الجيوش النظامية.

وفي بداية عام 1917 احتل الأسطول البريطاني وفصيل حجازي بقيادة فيصل آخر موضع للأتراك على ساحل الحجاز وهو الوجه. وفي مطلع يوليو 1917 استولى الثائرون العرب على العقبة. واجتذبت النقود الإنجليزية التي وزعها الحسين وأبناؤه على البدو عددا متزايدا من الأنصار للانتفاضة. وعلى أطراف البادية، في أراضي الأردن حاليا، بدأت القوات العربية زحفها نحو دمشق، الأمر الذي سهل عملية الجيش البريطاني التي قادها اللنبي في فلسطين. واقتربت نهاية الإمبراطورية العثمانية. وأخذ العرب يفرون من القوات التركية.

قبيله بني رشيد بقياده الأمير شمال الحجاز سمران ابن سمره الرشيدي معركه هديه تعتبر من أشهر المعارك في الحجاز الانتصار الرشايده حكم الشمال الحجاز

وعندما نشرت روسيا السوفييتية بعد ثورة أكتوبر المعاهدات القيصرية السرية (ومن ضمن ما نشر معاهدة سايكس-بيكو بشأن تقسيم الأقطار العربية) سلم الأتراك إلى الشريف حسين نص هذه المعاهدة. فاتصل الحسين بالإنجليز طالبا رأيهم في صحة هذه المعاهدة فاستلم منهم (تأكيدات صادقة) بأن هذه المعاهدة مزورة. وصدق الشريف حسين الإنجليز أو تظاهر بأنه يصدقهم وواصل العمليات الحربية ضد الأتراك. وكان ذلك يعني أن الدماء العربية تراق في الواقع لأغراض ضد العرب. إلا أن حكومة الحجاز كانت معتمدة كليا على المساعدات العسكرية والمالية والغذائية من الإنجليز وكانت لاتتمتع بحرية العمل.

وفي المرحلة الختامية من الحرب وبعدها غدا واضحا أن الإنجليز لاينوون تنفيذ الوعود المائعة التي قدموها للحسين والقوميين العرب، بل وراحوا يعمقون المشكلة بالتقسيم السافر للأراضي العربية وبوعد بلفور الصادر في 2 تشرين الثاني (نوفمبر) 1917 بشأن تأسيس (موطن) لليهود في فلسطين. وتأزمت العلاقات بين الحسين والإنجليز. إلا أن بريطانيا ثبتت (مصالحها الخاصة) في الجزيرة العربية من خلال مؤتمر صلح فرساي.

وفي 30 سبتمبر 1918 دخلت جماعة من المحاربين من قبيلة عنزة إلى دمشق وجالت في ساحتها الرئيسية حاملة العلم العربي. وبعد يوم كامل دخلت وحدات اللنبي الإنجليزي المدينة وصار فيصل ملكا مؤقتا لسورية حيث تشكلت حكومة عربية. ولكن الفرنسيين طردوا فيصل من دمشق بعد عامين وأغرقوا الحركة التحررية لعرب سورية بالدماء.

عبد العزيز وانتفاضة الحجاز

بعد بداية الانتفاضة المناهضة للأتراك في الحجاز كانت المهمة الرئيسية للحكومة البريطانية في شبه الجزيرة العربية هي حث عبد العزيز على الانضمام إلى الشريف حسين، أو على الأقل، الحيلولة دون اشتداد التناقضات بينهما. إلا أن عبد العزيز لم يكن منذ البداية يثق بالشريف حسين. وعندما علم أمير الرياض من بيرسي كوكس بنبأ الانتفاضة في الحجاز في يونيو 1916 أعرب عن مخاوفه من أن رغبة الحسين في قيادة العرب يمكن أن تخلق وضعا غير مقبول إطلاقا بالنسبة له. وبعد بداية انتفاضة الحسين كان النجديون يساعدون الأتراك تارة ويساعدون الحجازيين تارة أخرى، كما يقول المؤرخ الزركلي الموالي للسعوديين.

وكتب مرسيل يقول إن فصائل عبد العزيز قامت بغزوات على القبائل الخاضعة للشريف حسين وخصوصا في المناطق الحدودية. وأقام إبن سعود صلات مع الوالي العثماني والقائد العام للقوات التركية في أطراف المدينة المنورة. وفي أواخر سبتمبر 1917 توجه وفد نجدي إلى دمشق لمناقشة مختلف القضايا مع السلطات العثمانية، مع أن عبد العزيز نفسه زار الإنجليز في البصرة في أواخر نوفمبر.

ويبدو أن عبد العزيز أحس بالجهة ذات الكفة الراجحة. فصادر 700 جمل اشتراها أحد التجار الأثرياء لأجل الأتراك وسلمها إلى الإنجليزي في الكويت. ولاحظ الشريف حسين أن الجهود البريطانية عاجزة عن وقف منافسه النجدي فبعث رسولا إلى عبد العزيز يحمل ذهبا ودعوة للعمل ضد العدو المشترك (ضد الأتراك). وبعد اندلاع الانتفاضة في الحجاز بدأت إمارة جبل شمر تستلم من الأتراك أسلحة. وعندما أدرك عبد العزيز أن القدرة العسكرية لحائل بعثت من جديد أخذ يسعى إلى تحسين العلاقات مع الشريف حسين، إلا أن السبب الرئيسي في تغير موقفه العدائي من الحجاز هو الضغط البريطاني.

وفي 20 نوفمبر 1916 عقد بيرسي كوكس في الكويت اجتماعا حضره عبدالعزيز وشيخ الكويت جابر وشيخ المحمرة خزعل وامتدح إبن سعود أعمال الشريف حسين وأكد على ضرورة تعاون جميع العرب المخلصين معه للدفاع عن القضية العربية. ولكن الأمير، كما هي العادة، لم يعد بتقديم دعم ملموس. وأقنع الإنجليز الحسين بإرسال برقية تحية إلى الحاضرين في اجتماع الكويت.

وقرر عبد العزيز أثناء هذا الاجتماع التزام جانب بريطانيا كليا. وآنذاك استلم مع شيخ الكويت جابر الوسام البريطاني. وأقسم الرجال الثلاثة اليمين على التعاون بإخلاص مع بريطانيا. وعند ذاك قدم عبدالعزيز إلى الإنجليز بصورة تظاهرية ألـ 700 جمل التي كانت مخصصة للأتراك. وبعد اجتماع الكويت زار إبن سعود البصرة حيث استعرض الإنجليز أمامه الأسلحة الحديثة ورأى الطائرات لأول مرة. ولم يبد الأمير إعجابه الشديد فهو قليل الكلام، ولكن الآليات الحديثة، كما هو المفروض، قد تركت لديه انطباعا عميقا. وفي تلك الفترة تم الاتفاق على المعونة الشهرية لأمير الرياض بمبلغ 5 آلاف جنيه إسترليني.

وبالإضافة إلى المعونة المالية عرض بيرسي كوكس على أمير نجد 4 رشاشات وثلاثة آلاف بندقية مع ذخيرتها، وردا على ذلك وعد عبد العزيز بتجنيد 4 آلاف شخص ضد حائل. ومع ذلك تأكد الإنجليز من عدم إمكان دفع أمير الرياض إلى العمليات المباشرة ضد جبل شمر، وكانوا يؤملون، على الأقل، في أن ترغمه المعاهدة الموقعة معه على فرض الحصار على الأتراك في الحجاز وسورية. إلا أن أمير الرياض، شأنه شأن الحكام الآخرين، لم يعيقوا حتى نهاية الحرب التهريب الذي كانت ترد عائدات منه إلى الخزينة. وذات مرة نقلت قافلة من 3 آلاف جمل بضائع إلى الحجاز فظهرت بسبب ذلك تعقيدات في علاقات إبن سعود مع الإنجليز.

وعندما أعلن الشريف حسين أنه ملك العرب أعرب أمير الرياض عن احتجاجه وطالب برسم الحدود بين نجد والحجاز والاتفاق على عائدية بدو الحدود. واعتبارا من عام 1917 حاول بيرسي كوكس أن يصرف أنظار إبن سعود عن أعمال الحلفاء في الحجاز، وظل يحرضه على مهاجمة إمارة جبل شمر التي كانت تقلق القوات الإنكلوهندية في وادي الرافدين من جهة الجناح. (وفي تلك السنة صار بيرسي كوكس معتمدا مدنيا لبريطانيا في بغداد لدى فيلق العمليات الإنكلوهندي). وحاول الإنجليز من جديد وبدون جدوى أن يوقفوا التهريب عبر بوادي الجزيرة. وكان سبل البضائع يجري كذلك من العراق الذي ترابط فيه قواتهم، ومن موانئ الخليج، بما فيها الكويت. ثم كانت القوافل تتجه إلى القصيم أو جبل شمر، ومن هناك إلى المدينة المنورة أو دمشق.

وفي خريف 1917 كانت فصائل الحسين تقاتل بفتور. فطالب المندوب السامي البريطاني الجديد في مصر وينهايت بممارسة ضغط أشد على إبن سعود لجعله يقوم بعمليات أنشط ضد جبل شمر. وتوجه ستورس الرياض أصيب بضربة شمس فاضطر إلى مغادرة الجزيرة العربية. وفي نوفمبر 1917 نزل ممثلوا بيرسي كوكس وعلى رأسهم الكولونيل هاملتون في العقير وتوجهوا إلى الرياض ليناقشوا الوضع مع الأمير في أواخر الشهر. وكان في هذه البعثة فيلبي الذي غدا من أكبر دارسي الجزيرة العربية وربط حياته فيما يعد بعبد العزيز والعربية السعودية. وغدا مندوبا دائميا لبريطانيا عند أمير الرياض. وكتب فيلبي نفسه أن مهمته كانت دفع عبد العزيز لشن الحملة على جبل شمر والحيلولة دون تأزم العلاقات مع الحجاز والعثور على حل لمشكلة العجمان. ووعد عبدالعزيز ببدء العمليات النشيطة إذا قدموا له السلاح.

ولكن الإنجليز، في أبريل 1918 عندما تم احتلال القدس، لم يعودوا بحاجة إلى تصفية إمارة جبل شمر، بل وصاروا يرفضون إرسال ماطلبه فيلبي في ديسمبر 1917، فخابت آمال عبد العزيز. وفي 5 أغسطس 1918 بدأت الحملة على جبل شمر، وشارك فيها فيلبي الذي كتب عنها بحث مفصلا. وفي سبتمبر 1918 تحرك الإخوان رافعين راياتهم نحو حائل. وكان عند النجديين حوالي 5 آلاف شخص. وفي تلك الأثناء تأزم الوضع على الحدود مع الحجاز بسبب واحة الخرمة. وعقد الحسين صلحا مع حائل، وأقلق ذلك كله أمير نجد. وعندما كان الشمريون على وشك الاستسلام قرر الإنجليز أن انتصار إبن سعود في حائل سيثير رد فعل سلبيا عند الحسين فأمروا الحملة بأن تعود. واشتاط عبد العزيز غضبا. إلا أن هذه الحملة عادت عليه بغنيمة كبيرة هي ألف وخمسمائة جمل وآلاف الأغنام و10 آلاف خرطوشة. ولكنه أدرك أن الإنجليز لم تعد لهم مصلحة في أعماله ضد حائل ناهيك عن احتلاله جبل شمر.

وأثناء حصار الهاشميين للمدينة المنورة الذي استمر من مارس 1917 حتى أكتوبر 1918 حدث في معسكر عبدالله بن الحسين خلاف بين أحد شيوخ عتيبة وبين أمير واحة الخرمة الشريف خالد بن منصور بن لؤي. وتعرض هذا الأخير لإهانة إثارات غضبه.

وفي خريف 1917 أدت مجموعة كبيرة من النجديين فريضة الحج، وقابلهم الحسين بالتكريم. وأصر النجديون على تعيين حدود رسمية بين الدولتين، ولكن الملك حسين تملص من الجواب وربما انتهز خالد فرصة الحج ليجري اتصالات مع النجديين ويتبنى التوحيد الوهابي. وقد لاحظ الحسين ذلك. وبعد فترة قصيرة طرد خالد من الخرمة القاضي الذي بعثه شريف مكة. وعندما طلب الشريف من خالد أن يحضر لتوضيح هذا التصرف رفض خالد الحضور وقد أحس بأن حياته في خطر.

وفي عام 1918 بعث الملك حسين فصيلا للاستيلاء على الخرمة، إلا أن عبد العزيز تمكن آنذاك من إرسال الإخوان لنجدة خالد، ولذا دمروا بجهود متضافرة القوات التي جاءت من مكة عن بكرة أبيها. وكان ذلك تحديا سافرا للشريف حسين. إلا أن خالد قد تقوى آنذاك وأخذ يقوم بغارات على المناطق الخاضعة للحسين. وكانت المدينة المنورة لاتزال في أيدي الأتراك، وكان ذلك العمل في الواقع تعاونا مع الأتراك. وأخيرا استسلمت حامية المدينة المنورة في نوفمبر 1918، وانتهت الحرب العالمية الأولى بالنسبة للجزيرة العربية.

وجرت الأحداث لاحقا في تربة والخرمة الواقعتين بين الحجاز ونجد. وكان في تربة حوالي ثلاثة آلاف نسمة، وكان فيها عدد من الأشراف يمتلكون كثيرا من أرضها. كانت هذه الواحة تعتب بوابة الطائف من جهة نجد. أما الخرمة فكان فيها حوالي 5 آلاف نسمة بعضهم من قبيلة سبيع وبعضهم من العبيد والمعتوقين. كما كانت فيها بضع عشرات من الأشراف.

الأحداث في اليمن وعسير

بعد استسلام الدولة العثمانية ظلت في الجزيرة العربية خمس دول مستقلة في الواقع هي الحجاز ونجد وجبل شمر وعسير واليمن. وكان مستقبلها مرتبطاً بالصراع فيما بينها حيث ينتصر الأقوى، وهو إمارة نجد، وكذلك بسياسة بريطانيا. وكتب اللورد ميلنر وزير المستعمرات البريطاني في 16 مايو 1919 يقول:

Cquote2.png كانت الجزيرة العربية المستقلة مبدأ أساسيا دائما في سياستنا الشرقية. ولكن ما نعنيه بذلك هو أن الجزيرة العربية رغم أنها ستكون مستقلة بحد ذاتها، فإنها ستبقى خارج نطاق الدسائس السياسية الأوروبية وداخل مجال النفوذ البريطاني، وبعبارة أخرى فإن ذلك يعني أن حكامها المستقلين لن تكون لديهم معاهدات أجنبية مع أحد سوانا. Cquote1.png

ولكن قبل أن نعود إلى الأحداث الأساسية في السياسة في الجزيرة العربية والتي صارت تعتمد أكثر فأكثر على التنافس بين نجد والحجاز ووجود بريطانيا كحكم بينهما يتعين أن نتناول الوضع في اليمن وعسير. ظل إمام اليمن في الحرب العالمية الأولى مواليا للأتراك، ومن أسباب ذلك عدم رغبته في الوقوع في تبعية للإنجليز وكذلك مخاوفه من الأمير محمد الإدريسي الذي بسط سيطرته على جنوب عسير. وكان الإدريسي ضد الأتراك حيث وقع معاهدة مع المعتمد البريطاني في عدن في مايو 1915. وحاول على رأس قوات من 12 ألف محارب أن يستولي على اللحية ولكن دون جدوى. وتمكن من الاستيلاء على قسم كبير من شمال تهامة، أما اللحية فقد استولى عليها الأسطول البريطاني بواسطة فصيل من أبناء عسير في مطلع عام 1917. وظل الحسن آل عايض شيخ القسم الشمالي من عسير (وعاصمته أبها) حتى يونيو 1916 محايدا ولكنه بدأ عمليات حربية محدودة ضد الأتراك فيما بعد.

وفي معرض تقييم الوضع في جنوب الجزيرة العربية في أواخر الحرب العالمية الأولى وبعدها مباشرة نشير إلى أن اليمن وعسير كانتا مشغولتين بشئونهما الداخلية فلم تمارسا تأثيرا يذكر على نتيجة الصراع بين نجد والحجاز.

معركة تربة

خريطة تنظيم القوات في معركة تربة.

كان الحلفاء المنتصرون يتصارعون في المؤتمرات السلمية من أجل الانتداب والامتيازات في الشرق الأدنى دون أن يهتموا بكيفية تطور الأحداث في شبه الجزيرة العربية. وكانت الموجة المرعبة من (الحمى الإسبانولية) في شتاء 1918-1919 قد حصدت ضحايا في الجزيرة العربية أكثر ممن قتلوا في العمليات الحربية. وكان بين الضحايا تركي الإبن البكر لعبد العزيز وإثنان من أبنائه الآخرين وكذلك زوجته الكبرى جوهرة. إلا أن هذا الوباء لم يحل دون نشوب نزاع جديد على الحدود بين نجد والحجاز.

وأرسل الشريف حسين شاكر بن زيد على رأس فصيل من 1200 بدوي و500 من مشاة القوات النظامية للاستيلاء على الخرمة، ولكن قواته منيت بالهزيمة تلو الهزيمة. وفي مطلع عام 1919 أرسل حاكم مكة قوات إبنه عبدالله البالغ عددها 8 آلاف لاحتلال الخرمة. وفي تلك اللحظة لم يكن واضحاً هل أن الصدام بين الحجاز ونجد نافع للإنجليز. إلا أن سلوك الشريف حسين واستياءه من السياسة البريطانية وتذكيره للإنجليز بأنهم خرقوا التزاماتهم وادعاءه بلقب ملك العرب كافة، لعل ذلك كله هو ما دفع لندن للتفكير بإيقاف الشريف عند حده. صحيح أن الإنجليز قد لايكونون يعرفون آنذاك القدرة القتالية الفعلية للنجدين. فقد كتب فيلبي أن جميع الحاضرين تقريباً في اجتماع عقده اللورد كيرزون في مارس 1919 أعربوا عن رأيهم بهزيمة الوهابيين لامحالة، وتقرر آنذاك تأييد ادعاءات الحجاز بواحة الخرمة.

وفي أواخر مايو 1919 استولى عبدالله على واحة تربة وسمح لجنوده بنهبها. وفي تلك الأثناء اجتمعت على مقربة من تربة وحدات الإخوان من الغطغط بقيادة سلطان بن بجاد وفصيل محاربين من قحطان بقيادة حمود بن عمر.

ووصل إلى تلك البقعة خالد بن لؤي من الخرمة. وتفيد المعطيات النجدية أنه كان لديهم حوالي 4 آلاف شخص. وتحدث رسل عبدالعزيز الذين عادوا من تربة عن حوادث فظيعة للنهب والقتل والعنف قام بها جيش عبدالله، وزعموا أن عبدالله تباهى بأنه سيبدأ صيام رمضان في الرياض وسيحتفل بعيد الفطر في الإحساء. وهجم الإخوان على قوات عبدالله ليلاً من ثلاث جبهات وأبادوها عن بكرة أبيها. واعترف عبدالله بأن ثلاثة فقط ظلوا على قيد الحياة من الـ500 جندي النظامي الذين كانوا عنده، ولم يسلم إلا 150 شخصاً من الـ850 حجازياً الذين كانوا معه. ووقعت في أيدي الإخوان جميع الأسلحة والذخيرة تقريباً. ومع أن الإخوان شاركوا سابقاً في بعض غزوات عبدالعزيز ولكن هذه المعركة كانت أول اختبار في بعض غزوات عبدالعزيز ولكن هذه المعركة كانت أول اختبار في عملية قتالية جدية. وبينت المعركة أن لدى أمير نجد قوة قادرة على القتال. ونشأ وضع خطير بالنسبة للحجازين.

وصل عبدالعزيز إلى تربة في بداية يوليو 1919 مع إمدادات كبيرة من 12 ألف شخص، مع أن هذا الرقم فيه مبالغة على ما يبدو. ولكن رسولا وصل من جدة في 4 يوليو 1919 يحمل رسالة من المعتمد البريطاني: "أمرتني حكومتي جلالة الملك أن أبلغكم بأن تعودوا إلى نجد حالما يصل إلى يدكم كتابي هذا وتتركوا تربة والخرمة منطقة غير مملوكة حتى مفاوضات عقد الصلح وتحديد الحدود، وإذا أبيتم الرجوع بعد الاطلاع على هذا الكتاب فحكومة جلالة الملك تعد كل معاهدة بينكم وبيننا ملغية وتتخذ مايلزم من التدابير ضد حركاتكم العدائية". وطلب الإنجليز من عبدالعزيز أن لايتحرك نحو الطائف. وعندما استلم أمير الرياض في الحال. وأمر الإخوان بأن يغادروا الواحات في هذه المنطقة واستبدلهم بفصيل وصل من منطقة حائل، كما أعاد أمير تربة السابق إلى منصبه.

وعزز الإنجليز إنذارهم بإرسال طائرات وجنود إلى جدة. وكانوا آنذاك يعتقدون، على مايبدو، بأن الشريف حسين تلقى درسا وما كانوا ينوون إطلاق العنان لأمير نجد الذي يصعب عليهم ضبط تصرفاته. ولقد خضع إبن سعود لمطالب الإنجليز، ولكن دحر الحجازيين السهل نسبيا بين له مدى القوة التي يمتلكها، ولذا صار يعتقد بأن الحجاز سيكون ملكا له في آخر المطاف. ويمكن اعتبار معركة تربة نهاية التاريخ الحديث وبداية التاريخ المعاصر للجزيرة العربية.

بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى ظلت نجد مجرد دولة من عدة دول في الجزيرة العربية. وظلت قائمة إمارة جبل شمر، وكانت الكويت تحت الحماية البريطانية، ولم تكن عسير قد ضمت إلى نجد بعد. وكانت الحجاز تدعي بالتهام الجزيرة العربية كلها مع أنها لاتمتلك القوة اللازمة لذلك. وعلى اشلاء الدولة العثمانية وزعت الدول الاستعمارية الأوروبية أراضي الانتداب فيما بينها. وكتب لويد جورج يقول: "إن أحدا ما لاينوي إرسال قوات أجنبية لاحتلال جزء ما من الجزيرة العربية. فهي بلد فقير جدا لايستحق أن تحتله دولة ضاربة". ولم يتبادر إلى ذهن أحد أن في هذا البلد يمكن أن توجد احتياطات خيالية من البترول.

وعلى أثر ثورة أكتوبر وبتأثير منها اجتاحت العديد من البلدان العربية حركات التحرر الوطني من مختلف التلاوين. ورغم تنوع القوى التي شاركت في تلك الحركات فقد كانت موجهة ضد الأنظمة الاستعمارية التي فرضتها بريطانيا وفرنسا وضد التقسيم الإمبريالي للبلدان العربية ونظام الانتداب الذي ابتدعته عصبة الأمم. وكانت انتفاضات 1919 و1921 في مصر و1918-1920 في العراق والحركة الجماهرية الشعبية المناهضة للاستعمار في 1918-1924 في سورية ولبنان والانتفاضة السورية في 1925-1927 والانتفاضة في عدن عام 1919 – كل تلك الأحداث كان لها تأثير مباشر وغير مباشر على الجزيرة العربية. وغدا واضحا أن زمان النظام الاستعماري بأشكاله القديمة قد ولى بالتدريج.

توحيد أراضي الجزيرة من حول نجد (1918-1926)

خريطة توضح موقع إمارة نجد عام 1913.

أصبح وضع إمإرة نجد بعد الحرب العالمية الأولى أكثر تعقيدا مما كان عليه عشية نشوبها. فلئن كان بوسع أمير الرياض قبل الحرب أن يستثمر التناقضات بين الدولة العثمانية وبريطانيا العظمى، فإن الإنجليز غدوا بعد الحرب القوة الفعلية الوحيدة في المنطقة. وتيقن عبدالعزيز من ذلك حينما منعوه من مهاجمة الحجاز وجبل شمر. ولكن بريطانيا، من جهة أخرى، تحاشت التدخل مباشرة في شئون شبه الجزيرة العربية وسعت إلى التملص من الإنفاق على حكامها.

العلاقات بين نجد والكويت

أحدث ارتفاع شأن إمارة نجد قلقاً لدى حاكم الكويت، الذي شعر بخطر مباشر يهدده بفعل انضمام عشيرة مطير التي كانت الكويت هدفاً تقليدياً لهجماتها إلى حركة الإخوان. وتحت ستار حماية دعوة التوحيد ونشرها، أعتبر مطير أن من حقهم نهب الكويت، بلد المشركين المتعاون مع الإنجليز. في عام 1915 ساعد الكويتيون قبيلة العجمان على تفادي الهلاك بإيوائهم أبناء هذه القبيلة. وإنصاح العجمان آنذاك لعبد العزيز خوفاً لإرادتهم. فقد احتوتهم حركة الإخوان، ولكن عبدالعزيز كان يعتزم تقسيم العشيرة إلى زهاء عشرين هجرة صغيرة مبعثرة في المناطق الداخلية من نجد. وزعم أن العجمان لم يعارضوا حركة الإخوان، إلا أنهم رفضوا رفضاً قاطعاً الإقامة في مناطق مبعثرة خارج ديارهم في منطقة الإحساء.

وكان تدهور العلاقات بين الإنجليز والكويتيين عونا غير منتظر للنجديين. إذ اكتشف الإنجليز أن تموين الأتراك في الشام كان يجري جزئياً، عن طريق الكويت وحصل شيخها سالم على دخل من التهريب. وقد كان حاكم الكويت سالم على علم بالاتفاقية البريطانية – التركية لعام 1913 التي ترسم حدود الكويت في منطقة جبل منيف. ولكنه لم يعرف بأن المعاهدة البريطانية النجدية لعام 1915 لم ترسم حدود الكويت. (كان يدعي بجزء كبير من الإحساء).

وقد أقام عبدالعزيز هجرة إخوانية على حدود الكويت، ولكن ضمن حدود ديرة مطير، فاحتج الشيخ سالم وجرى اشتباك بين الكويتيين والإخوان الذين كانوا بأمرة فيصل الدويش، وانتهى بهزيمة الكويتيين. وإزاء الخطر الداهم سأل الشيخ سالم الإنجليز أن يعينوه، ولكن هؤلاء طالبوا بأن يوافق الطرفان المتخاصمان سلفا على حكم الإنجليز كقضاة.

في سبتمبر 1920 وافق الأمراء أن يعينوه، ولكن هؤلاء طالبوا بأن يوافق الطرفان المتخاصمان سلفاً على حكم الإنجليز كقضاة. في سبتمبر 1920 وصل إخوانيون من قبيلة مطير يقارب عددهم الأربعة آلاف إلى مكان بعيد بضعة كيلومترات إلى الجنوب من مدينة الكويت. وفي الشهر ذاته أجرى بيرسي كوكس مفاوضات مع عبد العزيز في العقير، في محاولة لحل نزاعات الحدود حلا يرضي الإنجليز. ولكن فيصل هاجم في أكتوبر عام 1920، في موقع قرب الجهراء، القوات الكويتية الشمرية وهزمها، رغم تكبده خسائر كبيرة. واحتمى الشيخ سالم بقصر له قرب الجهراء ودخل مفاوضات لكسب الوقت، وفي الوقت ذاته طلب النجدة من الإنجليز. وفي الشهر ذاته قرر الإنجليز إغاثته فأرسلوا سفناً إلى سواحل الكويت وهددوا بالتدخل في النزاع إلى جانب الكويت، مما اضطر فيصل إلى الانسحاب.

في أواخر فبراير عام 1921 باغتت المنية الشيخ سالم. وقد وقع اختيار أعيان الكويت، الذين أنهكتهم حرب هم في غنى عنها، على أحمد بن جابر الصباح، وهو الإبن الأكبر للشيخ جابر بن مبارك الصباح الراحل. وكان أحمد ذا شعبية ويؤيد التوصل إلى حل مقبول مع أمير الرياض. وفي تلك الأثناء كان يجري مفاوضات مع إبن سعود في نجد. أدرك عبد العزيز أن الإنجليز لن يتنازلوا له عن الكويت. وفي ذلك الحين كان اهتمامه منصرفا إلى الحملة المرتقبة على حائل، وإمكانية إحكام سيطرته على جبل شمر بأسره.

إلحاق جبل شمر

خلال العامين المنصرمين بلغت النزاعات بين آل سبهان وآل رشيد درجة الغليان. وفي عام 1919 فر سعود آل سبهان إلى الزبير، فانتقل منصب الوزير الذي كان يشغله إلى المدعو عقاب بن عجل الذي شرع يبحث عن واصلة بعبد العزيز. وفي أواخر مارس عام 1920 لقى أمير شمر سعود بن عبد العزيز مصرعه على يد إبن عمه عبدالله بن طلال الذي قتله فيما بعد أحد خدام سعود. وبالتالي آلت الإمارة إلى عبد الله بن متعب بن عبد العزيز. تلقى أمير نجد معلومات تفيد بوجود كثير من أنصار أسرة شريف مكة في حاشية آل رشيد، وصار خطر اتحاد خصوم آل سعود القدامى خطرا فعليا في الظروف التي كان إبانها الإنجليز يعدون فيصل لتولي عرش العراق. في مارس – إبريل عام 1921، وأثر عقد الصلح مع ممثل الكويت، قرر عبد العزيز تجهيز حملة على حائل. وفي تلك الأثناء نكبت المناطق الوسطى من الجزيرة مرة أخرى بالجفاف الشديد وارتفعت الأسعار، مما زاد من مصاعب جبل شمر.

مؤتمر القاهرة 1921: الجالسون: من اليمين: ونستون تشرشل، هربرت صمويل
الواقفون في الصف الأول: من اليسار: گرترود بل، السير حسقيل ساسون، المارشال إدموند اللنبي، جعفر باشا العسكري.

في إبريل – مايو عام 1920 ألحقت قوات دليم ابن براك الرشيدي الهزيمة بقبائل شمر وأضحت عند جدران حائل، فبدأ حصار مديد. قرر حاكم جبل شمر عبد الله بن متعب بن عبد العزيز الاحتماء وراء جدران حائل المنيعة، ولكن حينما أوشكت المؤونة في المدينة على النفاد، أرسل وفدا للتفاوض. وكان مستعدا للقبول بأن تقتصر إمارة جبل شمر على مدينة حائل وأراضي قبيلة شمر، ولكن إبن سعود الذي شعر بقوته، طالب بالاستسلام الكامل.

استمرت الاشتباكات بين الطرفين طوال عدة شهور، دونما نتائج تذكر. ورغم أن سكان حائل تمكنوا من الحصول على قدر من المؤونة يكفي لمقاومة الحصار، إلا أن الصراع الداخلي في المدينة استمر مستعرا وقد خلع أعيان حائل عبد الله بن متعب ونصبوا مكانه محمد بن طلال (شقيق عبد الله بن طلال) بعد إطلاق سراحه من السجن، واستجار عبد الله بن متعب بأمير الرياض. وحتى ذلك الحين لم يسفر الحصار عن شيء.

في تلك الأثناء وضع ونستون تشرشل في اجتماع عقد بالقاهرة بنية الشرق الأوسط لفترة مابعد الحرب. قرر الإنجليز تنصيب فيصل، إبن الشريف حسين، ملكا على العراق، وسرعان ماتوج. كما قرروا إسناد إمارة شرقي الأردن لعبد الله. وأدرك إبن سعود أن عليه الإسراع، وإلا فإن جبل شمر سوف يفلت منه. قبل بدء الحملة الجديدة على حائل عقد عبد العزيز مجلسا لأعيان وشيوخ القبائل وعلماء الدين حيث تقرر أن يخلع على الأمير لقب (سلطان نجد والأراضي الملحقة) لرفع الهيبة الدولية للبلد.

في أغسطس عام 1921 عاد عبد العزيز إلى مواقع قرب حائل على رأس قوة مؤلفة، وفق بعض المصادر، من زهاء عشرة آلاف شخص من ضمنهم الإخوانيون بزعامة فيصل الدويش. أصبحت أوضاع المحاصرين ميئوسا منها، وبعد شهرين من الحصار أوفد أعيان المدينة أحد أفراد آل سبهان للتفاوض ثم اتفقوا على الاستسلام. وفي الوقت المحدد شرعت أبواب حائل أمام قوات عبد العزيز. لاذ بن طلال بالقلعة وأرسل نداء استغاثة إلى السلطات البريطانية في العراق وإلى الملك فيصل، ولكن النجدة لم تصل وبعد فترة استسلم بشرط أن تصان حياته. أقام إبن طلال في الرياض أسيرا مكرما وزوج إبنته لإبن سعود. وقد لقى آخر أمير مستقل لحائل مصرعه في الرياض على يد أحد عبيده عام 1954.

في الأول من نوفمبر عام 1921 لم يعد هناك وجود لإمارة جبل شمر المستقلة. وفي الثاني من الشهر بايع سكان حائل عبد العزيز الذي جعل من إبراهيم السبهان واليا للمنطقة الجديدة في سلطنته. وقد حرم أمير نجد السلب في المدينة، بل وزود الجياع ببعض المؤن. وكان الشيعة أكثر من يخشى على حياتهم، ولكن إبن سعود أصدر إيعازا خاصا يكفل لهم الحماية. ويجدر بالذكر أن الإخوان لم يوافقوا على تسامح أميرهم وانتقدوه علانية لغضه النظر عن (المشركين).

بسقوط جبل شمر أضحت كل المناطق الوسطى من الجزيرة تحت سيطرة أمير الرياض وأصبحت نجد والمناطق الملحقة بها القوة الرئيسية في شبه الجزيرة العربية. ولم يقو جبل شمر على الصمود إزاء ضغط الجار الجنوبي الأقوى الذي استلهم جنده شعارات المذهب الوهابي بعد انبعاثه. لقد اعتمد جبل شمر، في الأساس، على قبيلة كبيرة واحدة ولم يصبح نواة لدولة موحدة في الجزيرة العربية، وضعفت مواقعه إزاء المنافس القوي الحازم بسبب الحزازات الداخلية وغياب الزعيم القوي. وقد ربط حكام جبل شمر مصيرهم بالإمبراطورية العثمانية، في حين أن الحركة القومية لعرب الجزيرة كانت ذات طابع مناهض للأتراك بوضوح. وفي تلك الأثناء لم تكن بريطانيا تعتبر إلحاق الجزء الشمالي من وسط الجزيرة بنجد خطرا كبيرا على مصالحها في العراق وشرقي الأردن، وآثرت أن تبقى بمعزل عن الأحداث هناك، رغم أن تعزيز مواقع نجد حملها هموما غير قليلة.

بداية النزاعات والاشتباكات الحدودية بين نجد والعراق وشرقي الأردن

بعد الاستيلاء على جبل شمر جابهت إمارة نجد ثلاث دول معادية لها يحكمها أفراد الأسرة الهاشمية، وتحد نجد من الغرب والشمال. لم ترسم الحدود بين جبل شمر وبين العراق وشرقي الأردن. وعلاوة على ذلك فإن مسألة الحدود البرية الثابتة كانت جديدة نوعا ما على حكام الجزيرة. وكان إبن سعود يرى أن كل قبائل شمر وعنزة تابعة له، وبذا فإن رعاياه متواجدون في مناطق بعيدة يعتبرها الإنجليز جزءا من العراق. أضف إلى ذلك أن بعض قبائل شمر وغيرها من القبائل الرافضة لمطامع السعوديين قد ارتحلت إلى العراق. وفيما بعد كتب غلوب باشا قائد الجيش (الفيلق) العربي في الأردن: "لم تكن هناك حدود في أواسط الجزيرة. ولم تحاول الإدارة في بغداد قط إحكام سيطرتها في الصحراء لمسافة تزيد عن ميلين أو ثلاثة من الفرات... وكانت حياة العديد من القبائل ذاتها مرتهنة بحقها في التنقل بحرية في المناطق الواقعة ضمن الحدود الحالية للعراق وسورية. وتصرفت القبائل السورية والعراقية على النحو ذاته. لذا فإن رسم حدود ثابتة بدا لها أمرا خطيرا)".

أدت الخلافات والاشتباكات بين القبائل إلى تفاقم النزاعات بين العراق ونجد. وفي خريف عام 1921 عين المدعو يوسف بن سعدون قائداً لفيلق الجمالة العراقي المشكل حديثا. وكان لهذا عداء شخصي مع شيخ قبيلة الظفير حمود بن سويط الذي فر إلى الرياض مستجيرا بعبد العزيز وعاد بعد فترة من الزمن مع جباة الزكاة الذين أوفدهم أمير الرياض. والتحقت بحمود مجموعة من الإخوان من مطير برئاسة فيصل الدويش، فهاجموا سوية معسكر يوسف في مارس 1922 وأبادوا غالبية جنده، فأرسل الإنجليز طائراتهم لنجدة العراقيين. عند ذاك سرحت الحكومة العراقية فيلق الجمالة وأقالت قائده يوسف بن سعدون الذي ساءه الأمر فهرب إلى الرياض حيث عرض خدماته على عبد العزيز.

ربيع عام 1922 التقى ممثلون عن عبد العزيز ببيرسي كوكس في المحمرة، وأصر الإنجليز على إقامة حدود ثابتة بين العراق ونجد، وطالب الوفد النجدي برسم الحدود اعتمادا على تقسيم الديار التقليدي للبدو الرحل، وفي الخامس من مايو عام 1922 وقعت معاهدة المحمرة التي جعلت قبائل المنتفق والظفير والعمارات التي هي فخذ من قبيلة عنزة تابعة للعراق، بينما جعلت قبائل شمر تابعة لنجد. غير أن عبد العزيز رفض إبرام الوثيقة بحجة أن الظفير بزعامة حمود بن سويط احتموا به ورفضوا الانصياع للعراق.

في يونيو عام 1922 شرع الإخوان يتحركون باتجاه الشمال الغربي، نحو شرق الأردن. وبعد الاستيلاء على واحة الجوف في يوليو من نفس العام اشتبكوا مع دوريات تابعة لإمارة شرقي الأردن. وأثر ذلك استولوا على واحتي تيماء وتبوك وأرغموا سكانهما على إخراج الزكاة للرياض. وبعد ذلك زحف الإخوان على وادي السرحان الذي كان سابقا جزءا من جبل شمر، وسرعان ماهاجموا واحة بني شاكر، مما جعلهم على مقربة من عمان، عاصمة شرقي الأردن. وفي ذات الوقت دنا النجديون من حدود سورية الواقعة تحت الانتداب الفرنسي، وأخذوا يهددون بقطع ممر الارتباط المباشر بين الممتلكات البريطانية. وفي ذلك الحين كان الإنجليز يدرسون مسألة مد خط للسكك الحديد بين فلسطين والعراق عبر هذا الممر بالذات.

رأي بيرسي كوكس أن من الضروري العمل على وضع حدود ثابتة، واتفق على عقد لقاء شخصي مع أمير نجد. وفي 21 نوفمبر عام 1922 بدأ كوكس وعبد العزيز مفاوضات استغرقت ستة أيام في العقير. وأسفرت المفاوضات عن وضع بروتوكولات (ملاحق) العقير التي وقعت في الثاني من ديسمبر عام 1922 وألحقت بمعاهدة المحمرة. وكان هذا يعني للدبلوماسية البريطانية التي أرغمت سلطان نجد على الاعتراف بحدود العراق الخاضع للانتداب.

رسم البروتوكول الأول الحدود بين العراق ونجد وأسس المنطقة المحايدة التي يحق للقبائل العراقية والنجدية أن ترعى أغنامها فيها. ومنحت القبائل النجدية التي كانت تستخدم بعض الآبار في أراضي العراق الحق في مواصلة استخدامها بشرط ألا تستثمر مصادر الماء في منطقة الحدود لأغراض حربية. وبذا فإن هذه الاتفاقية راعت حدود الديرة التقليدية لشتى القبائل.

نص البروتوكول الثاني على أن لأي قبيلة تروم أن تكون تحت رعاية حكومة أخرى الحق في ذلك. وإلى جانب رسم الحدود بين نجد والعراق وقع عبد العزيز ومندوبون عن الكويت اتفاقية حول الحدود، ضمنت بدورها منطقة محايدة للبدو من الطرفين، لاستخدامها لأغراض رعي الأغنام.

إن مفاوضات العقير بحد ذاتها حرية بأن تتوقف عندها بشيء من التفصيل. وهاكم ماكتبه أحد المشتركين فيها وهو ديكسون: (في اليوم السادس قال السير بيرسي... لكلا الطرفين أن الوتيرة التي تجري عليها المفاوضات لن تقضي إلى تسوية شيء طوال سنة. وفي لقاء خاص اقتصر على بيرس كوكس وإبن سعود وأنا لم يطق كوكس صبرا على ماسماه بموقف إبن سعود الصبياني من فكرة الحدود القبلية. ولم يكن السير بيرسي يجيد العربية كما ينبغي، فتوليت الترجمة. كان أمرا غريبا أن يلاحظ المرء كيف يوبخ المندوب السامي لصاحب الجلالة سلطان نجد وكأنه تلميذ مشاكس. قال كوكس لإنس عود بصرامة، أنه هو (كوكس) الذي يقرر شكل الحدود وامتدادها العام... كاد عبد العزيز ينهار تماما وقال بتأثر أن السير بيرسي بمثابة أبيه وأمه اللذين أنجباه ورفعاه من الحضيض إلى مقامه الحالي، وأنه مستعد للتنازل عن نصف مملكته، بل عن المملكة كلها إذا أمر السير بيرسي).

إثر ذلك أخذ كوكس قلما أحمر ورسم بحذر على خارطة الجزيرة الحدود من الخليج العربي إلى شرقي الأردن. وفي مساء اليوم ذاته، كما يقول ديكسون، جاءت ( التتمة المدهشة). (فقد طلب إبن سعود مقابلة السير بيرسي على انفراد. اصطحبني السير بيرسي، وكان إبن سعود يقف بمفرده وسط سرداقه الكبير الذي كان مضيفا. بدا مغتما للغاية وقال متوجعا : (ياصديقي، لقد حرمتموني نصف مملكتي. الأفضل أن تأخذوها كلها وتسمحوا لي بالاستقالة). وظل هذا الرجل القوي الضخم البنيان المتسامي بأساة، واقفا ثم انحدرت من مآقيه الدموع على حين غرة. تأثر السير بيرسي غاية الأثر وأخذ يده وأنشأ ينتحب هو الآخر. تحدرت الدموع على خديه. لم يحضر أحد، سوانا نحن الثلاثة، هذا المشهد وأنا أنقل بدقة مارأيت لم تستمر الزوبعة العاطفية أمدا طويلا. قال السير بيرسي وهو مايزال يمسك بيد إبن سعود : (ياطويل العمر، أنا أعرف بدقة حقيقة مشاعرك، لذا فإنني أعطيك ثلثي أراضي الكويت. لا أعرف كيف سيكون رفع هذه الضربة على إبن الصباح).

ومهما كان من أمر لايجب أن يغيب عن بالنا أن عبد العزيز وكوكس كانا ممثلين جيدين، ورغم أن كل الأوراق الرابحة كانت في يد كوكس لأن بريطانيا بالذات هيا التي تملي إرادتها في الجزيرة، فإن عبد العزيز تمكن من تحقيق الكثير من مطالبه. ففي تلك الفترة بالذات كان إبن سعود يعتزم تجهيز حملة على غرب الجزيرة، وصار بوسع كوكس أن يلمح إليه بأن بريطانيا سوف تتغاضى عن استيلائه على الحجاز. لم يتم التوصل على اتفاق حول الحدود مع شرقي الأردن. وفي مستهل عام 1923 شنت مجموعة صغيرة من الإخوان هجوما جديدا على شرقي الأردن. أسر المهاجمون وأعدم أحد عشر شخصا منهم في عمان. وفي تلك الأثناء استمرت تصفية الحسابات بين القبائل القاطنة على الحدود بين العراق ونجد، والتي جرى في العقير تقرير مصيرها دون مشاركتها. تمكن يوسف بن سعدون من تعبئة مجموعة من الإخوان لمهاجمة خصومه من قبيلة الظفير، ولكن عبد العزيز حينما علم بذلك أرسل قوة لمعاقبته. عندئذ هرب يوسف وأنصاره (ومن بينهم الإخوان) وطلب اللجوء من الحكومة العراقية.

عند تقييم السياسة البريطانية في هذه المنطقة في بداية العشرينيات، لا يمكن الزعيم بأن إيصال التناحر بين نجد والعراق والأردن إلى حد القطيعة كان من مصلحة لندن. فقد آثر الإنجليز أن يستثمروا بهدوء ممتلكاتهم الجديدة. وعلاوة على ذلك فإنهم قدموا منحا كبيرة لجميع حكام المنطقة، ولم يتوقفوا عن تقديمها إلا في 31 مارس عام 1924.

في ديسمبر عام 1923 عقد في الكويت، بمبادرة بريطانية، مؤتمر حضره ممثلون عن شرقي الأردن والعراق ونجد، للقيام بمحاولة تسوية القضايا المتنازع عليها، ولكن الأطراف لم تتفق على شيء. واستمرت غزوات القبائل عبر الحدود المرسومة شكليا، وفي مارس 1924 أوعز عبد العزيز إلى فيصل الدويش بمعاقبة القبائل التي شنت هجمات على نجد من جهة العراق. استؤنف مؤتمر الكويت في مارس عام 1924 واستمر حتى شهر إبريل دونما أي نتيجة.

في أواسط أغسطس اتجهت قوة كبيرة من الإخوان نحو عمان عبر وادي السرحان، ومرت بمحاذاة حصن القاف الذي شيده الإنجليز منذ أمد قريب، ولكن حامية الحصن لم تكن لديها وسيلة للاتصال لذا فإن ظهورهم على بعد بضعة كيلو مترات من عمان كان مفاجئا. استخدم الإنجليز الطائرات والمدرعات ووحدات الفيلق العربي فأبعدوا الإخوان وكبدوهم خسائر كبيرة. بيد أن الحاز أخذت تستأثر باهتمام متزايد من لدن أمير نجد عند حلول صيف 1924.

منذ سنوات عديدة تتطلع عيون النجديين بشوق إلى الحرمين، بينما كان زعماؤهم يحصون العوائد التي يمكن أن يدرها عليهم الحجاج ورسوم الجمارك في جدة. واقترن الحماس والتعصب الديني بمخططات الغزو التي أعدتها الأرستقراطية الحاكمة في نجد. ظلت العلاقات بين نجد والحجاز في أقصى درجات التوتر بعد معركة تربة. وحينما جهز عبد العزيز قوة مسلحة للاستيلاء على مدينة أبها في شمال عسير في مايو 1920، منع الحسين النجديين من دخول الحجاز لأداء فريضة الحج في أغسطس – سبتمبر عام 1920. ورفع النجديون ظلامة إلى بيرسي كوكس بوصفه حكما، ونزولا عند إصرار الإنجليز سمح الحسين لهم بأداء الفريضة في العام التالي، ولكنه حدد عدد الحجاج خوفا من تقاطر عدد كبير من الإخوان على الحجاز. وعند حلول عام 1923 كان النجديون قد ثبتوا أقدامهم في عسير، فتزايدت مخاوف الحسين.

الاستيلاء على شمال عسير

ابتداءا من عام 1871 وحتى الحرب العالمية الأولى كان الأتراك يمارسون إدارة عسير بشكل مباشر، إذ كان يوجد متصرف تركي إلى جانب أمير من فخذ آل عايد. وعندما نشبت الحرب انسحب الأتراك من عسير وأصبح الأمير حسن بن علي آل عائق مستقلا في الواقع. ولكن الكثير من القبائل، مثل قحطان وزهران وغامد، وقفت ضده وارتحلت إلى عمق الجزيرة، وفي ذات الوقت أرسلت وفدا لمبايعة عبدالعزيز. وقد أوفد أمير الرياض ستة من العلماء ليهدوا أبناء عسير إلى رسالة التوحيد.

كان غالبية سكان عسير من أتباع المذهب الشافعي، ولكن بالرغم من ذلك فإنهم كانوا منذ أزمان دولة السعوديين الأولى يميلون إلى المذهب الوهابي، ولم يتنقطع صلاتهم بنجد. وقد استقبل عبدالعزيز موفدي القبائل وبعث برسالة إلى الأمير حسن يطالب فيها باحترام حقوقهم. وطالب حسن من جانبه بألا يتدخل عبدالعزيز في الشئون الداخلية لعسير. وفي مايو عام 1920 ظهرت في جبال عسير قوة قوامها ثلاثة آلاف شخص مؤلفة من سكان العارض وبدو قحطان، بقيادة عبدالعزيز بن ساعد بن جلوى، وانضم إليها بعض السكان المحليين. وقد هزم الأمير حسن في موقع قرب العاصمة أبها، واحتل بن جلوى أراضي تمتد حتى المنطقة الواقعة تحت سيطرة محمد الإدريسي. ونظرا لعدم توفر القوى لبسط سيطرة مباشرة على الإمارة، فإن عبدالعزيز نقل الأمير حسن وإبن عمه محمد إلى الرياض، وبعد أشهر أعادهما إلى أبها كعاملين من الرياض. استمر الصراع الداخلي في عسير، وأخيرا تولى الإمارة المدعو فهد العقيلي، ولكن حسن تمكن من تدبير عصيان ضده واستولى على أبها بعد حصار دام عدة أيام. وقد ساعده الشريف حسين في الوقوف ضد صنائع النجديين.

بعد سقوط حائل جهز عبدالعزيز قوة قوامها زهاء ستة آلاف شخص أسند قيادتها الإسمية إلى إبنه الصبي فيصل، بينما تولى القيادة الفعلية إبن لؤي. غادرت القوة الرياض في يونيو – يوليو 1922، وفي الطريق التحق بها قرابة أربعة آلاف بدوي من قحطان وزهران وشهران. وبعد الاستيلاء على واحة بيشة في سبتمبر – أكتوبر عام 1922 شارف فيصل مدينة أبها واستولى عليها دون قتال، وفر حسن بن عائض إلى الجبال. وقد أخفقت محاولة ملك الحجاز لنجدته، وهزم الإخوان الحملة الحجازية. وبعد الاستيلاء على هذا الجزء من عسير، وولى فيصل إمارة أبها لسعد بن عفيصان وأبقى معه حامية وعاد إلى الرياض في أوائل عام 1923، وسرعان ماتوفي إبن عفيصان فولى الإمارة بعده عبدالعزيز بن إبراهيم. وبعد فترة من الزمن استسلم حسن ووجه إلى الرياض حيث عاش مكرما. وبذا باءت بالفشل محاولة عائض لإنشاء إمارة مستقلة في شمال عسير.

الاستيلاء على الحجاز

عند حلول عام 1923 غدا واضحاً أن الاصطدام بين الملك حسين والنجديين بات وشيكا. وتزايد في الحجاز الاستياء من سلطة الملك، إذ أن الفساد والرشوة استشريا وأخذ جهاز الدولة يتآكل بفعلهما. وعند حماية الخراج المعتاد من الحجاج عمد الحسين إلى زيادة الزكاة لتعزيز قواته المسلحة واستاءت القبائل من محاولته إرسال قوات لجباية الضرائب، والتجأ الكثير من المستائين إلى نجد. وظل الشريف حسين يعتبر عسير من ممتلكاته، وفي إبريل عام 1923 حاصرت قوة من الحجاز مدينة أبها ولكن دون طائل.

يشير حافظ رهبة إلى أن عبد العزيز قرر غزو الحجاز عام 1923، غير أنه لم يكن واثقاً من موقف الحكومة البريطانية، فإن سلطان نجد لم ينس أنها هي التي أرغمته على سحب قواته بعد معركة تربة، وحذرته من التقدم في الحجاز. وبديهي أن إبن سعود كان على علم بالاستياء من نظام الحسين في الحجاز وكان ذلك من العوامل التي دفعته إلى التحرك. وفي الوقت ذاته بدأت حزازات بين الحسين والحجاج الوافدين من الهند ومصر بسبب سوء الخدمات الطبية.

ساءت العلاقات بين الإنجليز والشريف حسين حسين الذي رفض إبرام معاهدة ڤرساي احتجاجاً على تسليم سورية للفرنسيين ووضع فلسطين تحت الانتداب البريطاني. وفي عام 1921 وفد لورنس يحمل إلى الحسين عرضاً بعقد معاهدة بين بريطانيا والحجاز، يحصل بمقتضاها الملك على إعانات من بريطانيا ويعقد معها معاهدة عسكرية، وفي المقابل يعترف بأن لها مصالح خاصة في الحجاز. وأكد الحسين على أنه لا يمكن أن يسود فلسطين السلام مادام العرب يتهيبون من أن الهدف الأخير للصهاينة يتمثل في إقامة دولة يهودية في فلسطين على حساب مصالحهم القومية. وقد رفض ملك الحجاز توقيع المعاهدة وأهاب برئيس الوزراء البريطاني أن ينفذ الوعود التي قطعها أثناء الحرب ولكنه لم يحصل على جواب.

وقد تراجعت هذه الخلافات إلى المقام الثاني بعد أن أعلن الشريف حسين نفسه خليفة في مارس عام 1924 (إثر إلغاء الخلافة في تركيا التي صارت جمهورية). وكان الحسين يأمل من وراء إعلانه الخلافة تعزيز سلطته وتأكيد مطامعه في أن يكون أميراً لكل العرب، أو على الأقل المقيمين إلى الشرق من السويس. ولئن كانت هذه الخطوة قد قوبلت بالاستياء في مصر حيث كان الملك فؤاد يطمع في الخلافة، وفي أوساط المسلمين بجنوب آسيا، فإنها اعتبرت في نجد تحدياً لمشاعر الإخوان الدينية وسياسة السلطان إبن سعود. وعلاوة على ذلك فقد أزم هذا القرار العلاقات بين الملك حسين والبريطانيين الذين خافوا من فقدان سيطرتهم على ملك الحجاز الذي كانوا يعتبرونه خصماً محتملاً يقف عائقاً دون إحكام سيطرتهم الاستعمارية على الشرق الأوسط. في يوليو 1924 افتتحت في جدة قنصلية عامة سوفييتية مما أثار حنق البريطانيين.

ولايجدر أن ننسى وجود معاهدة شكلية عقدت بين بريطانيا ونجد عام 1915 حول الحماية. وأدرك سلطان نجد أن بريطانيا سوف تقف، على الأرجح، هذه المرة على الحياد في حالة قيام نزاع بينه وبين الحجاز. في يوليو 1924 جمع عبدالعزيز قادة الإخوان الذين وفدوا إلى الرياض بمناسبة عيد الأضحى ليعرض عليهم مسألة غزو الحجاز فلقى عرضه صدى إيجابيا في نفوسهم ز وقد أراد الإخوان أن يجاهدوا في سبيل (تطهير) بيت الله، ولكي يغنموا الأموال أجراً لجهادهم.

قرر عبد العزيز أن ينزل ضربته الأولى بالطائف، قرب مكة. وفي 5 سبتمبر عام 1924 دخل الإخوان الطائف ومكثوا فيها ينتظرون أوامر عبد العزيز. وكان قوام قوات عبد العزيز مقاتلون من هجرة الغطغط بأمرة سلطان بن بجاد ومن هجر أخرى لعتيبة وقحطان وقبائل أخرى، وانضمت إليها قوة من الخرمة بقيادة إبن لؤي. وقد استولى الإخوان على خزين الذخائر العسكرية في الطائف، واستبيحت المدينة لمدة ثلاثة أيام، وفر الكثير من أبنائها وسقط المتبقون صرعى بيد الإخوان. وقد روعت الحجاز للأمر، وفي 22 سبتمبر أصدر عبد العزيز أمرا حذر فيه بشدة من العودة إلى البطش وقطع عهدا بالحفاظ على أموال أهل الحجاز ودمائهم. وثمة معطيات تفيد بأن أربعمائة رجل وامرأة وطفل قد قتلوا في الطائف. وقد حاول علي بن الحسين تجميع قوات في الهدا ووقف زحف الإخوان على مكة ولكنه مني بهزيمة أخرى في خاتمة المطاف.

أصبح وضع الحسين ميؤساً منه، فاجتمع أعيان الحجاز، ومنهم أشراف مكة وعلماء الدين وكبار التجار، في جدة وقرروا خلع الحسين في محاولة لترضية إبن سعود. وبعد أخذ ورد وافق الحسين على التنازل عن العرش لولده علي الذي نص ملكا على الحجاز في 6 أكتوبر 1924. وشكل وجهاء الحجاز مجلسا (حزبا) وطنيا، وهو شيء أشبه بالبرلمان، وصارت الحجاز بمثابة مملكة دستورية. وبعد ثلاثة أيام أرسل الحسين مع أمتعته إلى جدة، وفي أواسط أكتوبر غادر إلى العقبة ومنها نقله الإنجليز إلى قبرص.

لم تتحقق الآمال المعقودة على ترضية إبن سعود. وبعد برهة قصيرة دنا الإخوان من مكة، واضطر على الانسحاب إلى جدة على رأس قوة من 400 فرد. وفي أواسط أكتوبر عام 1924 دخل الإخوان مكة وبنادقهم منكسة إلى أسفل. وتجدر الإشارة إلى أن نية عبد العزيز في التريث وعدم دخول مكة حتى يستبين فعل البريطانيين، قد صارت طي النسيان بعد إحراز النصر الأول. بيد أن سلطان جدة آثر المكوث في الرياض، كي يحمل الإخوان مسئولية غزو الحجاز إذا ماتدخل البريطانيون. ورغم نهب الكثير من بيوت أشراف مكة بعد استيلاء الإخوان عليها، فإن المدينة لم تشهد حمامات دم. نصب الشريف بن لؤي أميرا لمكة وظل إبن بجاد في الطائف.

كان أعيان جدة ومكة يأملون، بتنصيبهم علي ملكا، للتخلص من الغزو النجدي، لأن الكثيرين منهم اعتقدوا بأن خلاف سلطان نجد مع الملك حسين هو سبب المشاكل. غير أن السلطان أراد طرد الأسرة الهاشمية بأسرها من الحجاز ولم يوافق على عقد الصلح بشروط أخرى. حاول أعضاء المجلس الحجازي إجراء المفاوضات، ولكن إبن سعود أصر على وجوب مغادرة علي الحجاز. وفي أكتوبر 1924 عاد وجهاء الحجاز إلى جدة وطلبوا من علي التنازل عن العرش. وبدأت مفاوضات بين أنصار علي وخصومه اضطر أثرها المجلس إلى إعلان حله، وفي ديسمبر 1924 اعتقل الكثير من خصوم علي.

تجدر الإشارة إلى أن معتمدي الدول الأجنبية في جدة بعثوا إلى خالد بن لؤي رسالة يشيرون فيها إلى التزام حكوماتهم بالحياد ويطلبون ضمان حقوق رعاياهم وممتلكاتهم في جدة في حالة استمرار الحرب. ووعد خالد بأن يكفل الإخوان أمن الرعايا الأجانب. وفي أواخر أكتوبر غادر عبد العزيز الرياض على رأس جيش من خمسة آلاف مقاتل واستغرق طريقه إلى مكة ثلاثة أسابيع، وبذلك لخشيته من تدخل البريطانيين في النزاع. ولكن حينما وصلت كتب من قناصل الدول الأجنبية تعلن الحياد التام، أدرك عبد العزيز أن الحجاز قد وضع تحت تصرفه.

في 5 ديسمبر 1924 دخل عبد العزيز مكة، وفي الثالث عشر من الشهر ذاته نشرت جريدة أم القرى الرسمية التي بدأت الصدور بلاغه الذي استعرض فيه برنامجه في الحجاز. وجاء فيه:

1- سيكون أكبر همنا تطهير هذه البلاد المقدسة من الأعداء أنفسهم الذين مقتهم العالم الإسلامي في مشارق الأرض ومغاربها بما اقترفوه من الآثام في هذه الديار المباركة.

2- سنجعل الأمر في هذه البلاد المقدسة بعد هذا شورى بين المسلمين، وقد أبرقنا لكافة المسلمين في سائر الأنحاء أن يرسلوا وفودهم لعقد مؤتمر إسلامي عام يقرر شكل الحكومة التي يرونها صالحة لإنفاذ أحكام الله في هذه البلاد المطهرة.

3- إن مصدر التشريع والأحكام لايكون إلا من كتاب الله، ومما جاء عن رسول الله عليه الصلاة والسلام أو ما أقره علماء الإسلام الإعلام بطريق القياس.

4- كل من كان من العلماء في هذه الديار أو من موظفي الحرم الشريف أو المطوفين ذو راتب معين فهو له على ماكان عليه من قبل...).

في فترة مكوث علي في جدة أجرى إبن سعود في ديسمبر 1924 انتخابات في مكة الغرض المعلن منها تكوين نوع من الإدارة الذاتية، ولكن الهدف الحقيقي هو استمالة الوجهاء والتجار المحليين. وقد انتخب مجلس شورى قوامه 11 عضوا برئاسة الشيخ عبد القادر الشيبي وعين حافظ وهبة حاكما مدنيا لمكة.

سرعان ما حصل إبن سعود على تأكيد جديد لحياد الدول الأجنبية من قناصلها، وكان هذا أهم ما يصبر إليه. وعندما ألقت طائرة أرسلها علي بن الحسين مناشير فوق مكة يعلن فيها الملك عن اعتزامه استرداد المدينة، قرر عبدالعزيز أن أوان العمل قد حان. وفي الخامس من يناير 1925 دنت من جدة قوة إخوانية وبدأ حصار دام زهاء عام. حصن علي المدينة وأحاطها بحقول ألغام. ووصل إلى المدينة بضع مجموعات من المسلمين السوريين والفلسطينيين واليمنيين، جندتهم الأسرة الهاشمية فيما يبدو. ويقدر خير الدين الزركلي تعدا القوات السعودية بـ 5-6 آلاف مقاتل معظمهم من عتيبة وبعض من مطير وكذلك من قبيلتي غامد وزهران الحجازتين. وكان لدى علي زهاء 500 مقاتل حجازي وبضع مئات من الفلسطينيين والمصريين واليمنيين والسوريين. وفي المدينة كان هناك 200 بدوي ومايزيد على 300 مقاتل من فلسطين وشرقي الأردن وزهاء 250 يمنيا، وكان في ينبع حوالي 300 من عتيبة وعقيل، وبضع مئات أخرى في سائر المناطق. بيد أن الجيش السعودي تناقص في خلال الحصار لأن البدو لايطيقون البقاء أمدا طويلا عند الساحل القائظ.

ولم يحصل علي بن الحسين على عون يذكر من العراق وشرقي الأردن، وفي هذا الخصوص أشار عبد الحميد الخطيب في كتابه (الإمام العادل) إلى أن الإنجليز تصرفوا وكأنهم يريدون أن يضمنوا لإبن سعود النصر وقد وافق عبد الله أمير شرقي الأردن على أن يتولى الإنجليز نقل أبيه الحسين من العقبة خوفا من غزو قوات إبن سعود بحجة وجوده فيها. وفي مايو 1925 وصل الملك السابق إلى السويس حيث كان في استقباله معتمد الحجاز في القاهرة عبد الملك الخطيب وأخوه عبد الحميد الخطيب. وقال لهما الحسين أن الإنجليز هم الذين نفوه وخانوه لرفضه الاعتراف بوعد بلفور وتمسكه بحق العرب في دولة مستقلة.

وفي مطلع عام 1925 حاول مندوبون عن جميعة الخلافة الهندية وعدد من القناصل الأجانب التوسط بين علي وعبد العزيز. وفي شهر إبريل من العام ذاته عقد لقاء بين وزير خارجية حكومة جدة وعبد العزيز ولكنه لم يسفر عن نتيجة.

في يونيو رفع الحصار عن جدة بسبب القيظ، وفي آب (أغسطس) توجه علي إلى الإنجليز بطلب آخر يناشدهم فيه التدخل ولكنهم رفضوا. وقد أشار البريطاني جيلبرت كلايتون الأمين العام السابق للحكومة في فلسطين، في ملاحظة دونها بدفتر مذكراته في أواسط أكتوبر أثناء مروره بجدة، أشار إلى أن علي كان منهارا معنويا وجسديا. وأعرب كلايتون عن استغرابه من أحجام عبد العزيز عن الاستيلاء على جدة التي تعاني من الجوع. ويدو أن سلطان نجد أثر التريث حتى تستسلم له المدينة حقنا للدماء.

إبان غزو الحجاز وبعد إحكام السيطرة عليه استمرت الغزوات على أراضي العراق. كما عبر الإخوان وادي سرحان ووصلوا إلى الحدود السورية وقطعوا شرقي الأردن عن العراق، مما جعل الممتلكات البريطانية في الشرق الأوسط عرضة للتقسيم. وبعد أن احتل عبد العزيز مكة بمباركة غير معلنة من قبل الإنجليز، أدرك أن عليه وضع حد لمطامعه في الشمال.

كان ذلك عشية عقد اتفاقيات لوكارونو، في وقت تأزمت إبانه العلاقات البريطانية الفرنسية بسبب قضية الموصل، واهتزت مواقع بريطانيا بفعل مد حركة التحرر الوطني في فلسطين. لذا لم تشأ بريطانيا التدخل في النزاع بين نجد والحجاز تدخلا صريحا.

في أكتوبر عام 1925 وصل الكولونيل كلايتون إلى مقر عبد العزيز في الحجاز. وأظهر إبن سعود ثانية أنه سياسي مرن ووافق على إعطاء تنازلات في الشمال مقابل اعتراف بريطانيا الفعلي بضمه الحجاز. وتمخضت المفاوضات عن اتفاقيتي بحرة وحدة اللتين وقعتا في 1 و2 نوفمبر 1925. وتخص الاتفاقية الأولى العراق ونجد وهي تنص على أن غزو العشائر القاطنة في أراضي أي من الدولتين على أراضي الدولة الأخرى يعتبر اعتداء يستلزم عقاب مرتكبيه من قبل الحكومة التابعة لها. ونصت الاتفاقية على تأليف محكمة خاصة من ممثلي الحكومتين للنظر في تفاصيل أي تعد يقع من وراء حدود الدولتين. كما أشارت الاتفاقية إلى أن من حق العشيرة عبور الحدود لرعي الماشية بعد استحصال رخصة بذلك. أما اتفاقية جدة فقد ثبتت للمرة الأولى عمليا الحدود بين نجد وشرقي الأردن، وتنازل بموجبها سلطان نجد لشرقي الأردن عن الممر الذي يربطه بالعراق. وتضمنت اتفاقية جدة نصوصا مماثلة لاتفاقية بحرة حول غزو الأراضي وتأليف محكمة للنظر في الدعاوي الدينية على أراضي البلد الآخر. ومن الواضح أن هذا البند له علاقة بالتبشير بالدعوة الإخوانية.

وهكذا أقيمت الحدود مع الكويت والعراق ومع شرقي الأردن فعليا، رغم أن نزاعات الحدود استفحلت بعد برهة وجيزة. حينما بلغ ملك الحجاز نبأ اتفاقيتي بحرة وجدة، بينما رفض كلايتون مساندته، أدرك أن أيام حكمه معدودة. وقرر علي بن الحسين الاستسلام بعد تيقنه من أن أخويه في العراق والأردن حريصان على الاحتفاظ بعرشيهما أكثر من حرصهما على مؤازرته. وفي 16 ديسمبر أوفد علي القنصل البريطاني للتباحث في شروط الاستسلام مع إبن سعود، وقد استسلمت جدة في 22 من الشهر وغادرها علي بن الحسين، وفي اليوم التالي دخل عبد العزيز المدينة.

في مطلع فبراير 1925، حينما كان حصار جدة في أوله، أرسل عبد العزيز قوة من الإخوان بأمرة فيصل الدويش إلى المدينة، ولكن السلطان حذر بشدة من دخول المدينة بدون إذن منه، خوفا من تعرض قبر النبي للأذى. وعندما لم يعد سكان المدينة قادرين على الصمود للحصار كتبوا إلى عبد العزيز يعربون عن موافقتهم على تسليم المدينة ولكن لأحد أنجاله وليس للإخوان، فأرسل عبد العزيز إبنه محمد إلى هناك في أكتوبر. وفي هذه الأثناء استلم أهالي المدينة برقية من علي تعد بالنجدة، فأجلوا الاستسلام. وفي الشهر التالي أصبح وضع المدينة حرجا ولم يبق أمل في النجدة، فقرر أعيانها الاستسلام، وفي 6 ديسمبر 1925 دخل محمد المدينة وصل المسجد النبوي.

عشية سقوط جدة أبلغ أشراف مكة وعلماؤها وأعيان جدة عبد العزيز عن استعدادهم لمبايعته ملكا على الحجاز. وفي 11 ديسمبر 1925 اجتمع الناس عند باب الصفا من المسجد الحرام بمكة وتلي نص البيعة، وأطلقت المدفعية مئة طلقة. وتقبل عبد العزيز البيعة من أشراف مكة ثم الوجهاء والأعيان وأركان المحكمة الشرعية فالأئمة والخطباء وأعضاء المجلس البلدي، ثم أهل المدينة، ثم المطوفون والزمازمة وسدنة وخدم الكعبة، ثم سائر أهل المدينة ومكة. وأصبح عبد العزيز يعرف بملك الحجاز وسلطان نجد وملحقاتها.

وفي 16 فبراير 1926 اعترف الاتحاد السوڤيتي رسميا بحكومة الحجاز. وسلمت مذكرة إلى إبن سعود جاء فيها (...إن حكومة اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفييتية، انطلاقا من مبدأ تقريب الشعوب لمصيرها، ونظرا لاحترامها العميق لإرادة شعب الحجاز المعبر عنها في مبايعتكم ملكا، تعترف بكم ملكا للحجاز وسلطانا لنجد وملحقاتها. وفي ضوء ذلك تعتبر الحكومة السوفييتية نفسها في حالة علاقات دبلوماسية طبيعية مع حكومة جلالتكم). وأعرب الملك في مذكرة جوابية عن الشكر والاستعداد التام لمعاملة الحكومة السوفييتية ورعاياها بما يليق بالدولة الصديقة. وأعقب اعتراف الاتحاد السوفيتي بإبن سعود اعتراف دول أخرى.

بايع وجهاء الحجاز سلطان نجد وهم يخشون تسلط (بدو نجد) على الحجاز الأكثر تطورا، فحاولوا الاحتفاظ بحقوق واسعة. وقد شكل 56 من ممثلي الأرستقراطية المحلية والعلماء والتجار (مجلسا تأسيسيا) قرر أن الحجاز يجب أن يظل مستقلا عن نجد في الشئون الخارجية والداخلية ولا يجمع بين مملكتي الحجاز ونجد إلا شخص الملك، وتشكل في الحجاز حكومة إسلامية ويشرع دستور يستمد أحكامه من القرآن والسنة. واقترح (المجلس التأسيسي) صياغة أشكال البناء الداخلي والأحكام الإدارية وفقا للظروف المحلية. وخشي بعض الحجازيين من أن يكون إبن سعود مازال واقعا تحت تأثير المعاهدة المعقودة مع بريطانيا عام 1915 والتي تجعله تحت الحماية البريطانية، الأمر الذي يتناقض مع توقهم إلى الاستقلال. وحاول وجهاء الحجاز تحديد سلطة الملك من غير أن تناسب القوى كان لصالح إبن سعود. وفي عام 1926 شكلت، وفق مرسوم ملكي، المجالس الاستشارية في مكة والمدينة وجدة وينبع والطائف، وصار لها فيما بعد طابع بلدي، ومن ثم شكل مجلس شورى يضم 13 شخصا.

كانت الخطوة التالية تتمثل في الحصول على اعتراف بسلطة إبن سعود على الحجاز من لدن الدولة الإسلامية، وإن كانت هذه المسألة وقت ليس إلا. وبعد استيلاء النجديين على الحجاز وصلت إلى نجد بعثة إسلامية من الهند طالبت بأن تتولى الإشراف على الأماكن المقدسة لجنة تمثل جميع البلدان الإسلامية. مكنت البعثة فترة قصيرة ولم يصدق إبن سعود صبرا فهيأ باخرة تنقلها إلى الهند.

عام 1926 قرر إبن سعود الدعوة لمؤتمر إسلامي ينعقد في شهر حزيران (يونيو) بعد أداء فريضة الحج، لكي يضفي المزيد من الشرعية على توليه الحجاز. ووجه ملك الحجاز الجديد رسائل إلى عاهل مصر وأفغانستان وإلى الرئيس التركي وشاه إيران وملك العراق وأمير جمهورية الريف وإمام اليمن يحيى وسائر الحكومات الإسلامية، وإلى رئيس المجلس الإسلامي الأعلى في القدس ورئيس جمعية الخلافة في بومباي، يعاهدهم فيها بأنه سيرعى الأماكن المقدسة ويعمل على تهيئة ظروف أفضل للحجاج. اجتمع في المؤتمر الإسلامي بمكة 69 مندوبا عن المنظمات الإسلامية في الهند ومصر والاتحاد السوفييتي وجاوا وفلسطين ولبنان وسورية وأفغانستان واليمن ومصر وغيرها. ولم يبقى عبد العزيز لدى المؤتمرين شكا في أنه سيد الحجاز ولن يسمح بالتدخل في شئونه. وقد استاء البعض وغادروا المؤتمر ولكنهم لم يتمكنوا، بطبيعة الحال، من تغيير شيء. أما المتبقون فقد أقروا بالأمر الواقع. وقد أدلى المفتي رضا الدين سحر الدينوف رئيس وفد مسلمي روسيا وتركستان، رئيس الدائرة الدينية المركزية للمسلمين، بتصريح لمراسل وكالة تاس تحدث فيه عن اعتراف المؤتمرين بإبن سعود (حاميا للحرمين). ودعا المؤتمرون إلى إعادة العقبة ومعان إلى الحجاز وبذا أيدوا عمليا الملك الجديد.

لقد أصبح النقاش حول تولي حماية البقاع المقدسة أمرا عقيما بفعل عوامل عديدة تتمثل في انتصار القوات النجدية وموقف الحياد والتغاضي من قبل بريطانيا التي اختارت أهون الشرين أثناء غزو إبن سعود للحجاز وضحت بالحسين، والسياسة الذكية للملك الجديد الذي جمع بين التشدد والمرونة.

جاء في رسالة صادرة عن القنصلية العامة السوفييتية في جدة عام 1929: "أن الاستيلاء على الحجاز وعائداته من الحج والجمارك وما شاكلها (العائد السنوي من الحج وحده يصل إلى مليوني جنيه استرليني) يتيح لإبن سعود إمكانية استثمار كل هذه الموارد الضخمة للحصول على منفعة سياسية كبيرة في نجد (إعانة المستوطنين الجدد ودفع مخصصات لشيوخ العشائر البدوية"... والتجار الذين يمثلون القوة الرئيسية في الحجاز يميلون إلى الإمبراطولية البريطانية ويدعون إلى الاتفاق مع الإنجليز. البدو مستأوون : فهم يدفعون زكاة مقدارها 2.5 بالمائة، والغزوات ممنوعة، وحرمهم استيراد السيارات من مداخيلهم، وليس ثمة إعانات من السلطان، كما أن الاستياء سائد في أوساط المطوفين الذين كانوا ينهبون الحجاج، لأن الدولة تنظم الحج وتستولي على عوائده). أحدق بعبد العزيز الخطر، ولكنه لم يكن خطرا خارجيا، بل داخليا مصدره الإخوان إياهم الذين ألحقوا الحجاز بممتلكات السلطان.

الوضع في الحجاز

واجهت إبن سعود، بعد غزو الحجاز، ضرورة إدارة بلد بلغ من التطور شأنا يفوق بكثير شأن نجد، بل وحتى الإحساء. فقد تكون الجهاز الإداري البيروقراطي في الحجاز وفقا للمعايير العثمانية وكان أرقى الأجهزة في الجزيرة. وعلى عهد الملك حسين صدرت حتى ميزانية تتضمن شرحا للنفقات، رغم أنه لم يجر التقيد بها، بطبيعة الحال. كما ظهرت هناك النواة الأولى لجيش نظامي، وافتتحت مدارس ثانوية. وصدرت صحيفة رسمية هي (القبلة) تنم كتاباتها عن دراية بالعالم الخارجي، وغالبا ما كانت تولي اهتماما كبيرا للأحداث في أوروبا، وتنشر أنباء عن الأشغال العمومية مثل توسيع شبكة الهاتف وتنظيف الشوارع. وقد استقر رأي عبد العزيز على إبقاء الهيكل الإداري الذي أقامه الحسين وإبنه علي كما هو، على أن يوظفه لخدمته.

وكان على إبن سعود أن يوفق بين علماء الدين في نجد والحجاز ويحمل علماء مكة على التنازل لعلماء الرياض. وفي محاولة لإزالة الإشكالات عقد علماء الرياض سلسلة من الاجتماعات مع زملائهم المكيين، زعموا بعدها أنه لاتوجد خلافات جدية بين الطرفين. وقد استمرت بعض الأشغال العمومية التي تولتها شركات أجنبية وبدأت بتنفيذها على عهد الحسين.

عند غزو الحجاز كان إبن سعود يدرك أهمية التليفون والراديو لتعزيز سلطته، وأهمية السيارات للأغراض الاقتصادية والعسكرية. غير أن البدو والعلماء السلفيين كانوا يعتبرون التليفون والراديو منكرا من عمل الشيطان. وقد حل هذا الإشكال بعد أن تليت عبر التليفون، ثم من الراديو آيات من القرآن.

كما اعتبر الإخوان السيارة من بدع المشركين، إن لم تكن من عمل الشيطان. وقد أحرقت أول شاحنة ظهرت في مدينة الحوطة، وكاد سائقها يلقى المصير ذاته. ولم تكن الطائرة أوفر حظا. إلا أن احتياجات المجتمع العملية كانت أقوى من الجهل والتحجر الذهني، لذا فإن السيارة والراديو والتلفزيون أخذت تنتشر على نطاق متسع في مملكة إبن سعود. وبعد عقدين أو ثلاثة أخذ علماء الدين أنفسهم يمتطون الطائرات، إلا أن الحظر ظل مفروضا على الحاكي والسينما، ورغم منع استيراد هاتين الآلتين فإنهما انتشرتا في البيوت الخاصة.

أدرك الملك أن عليه إقامة اعتبار لمصالح وجهاء الحجاز. وعندما عين إبنه فيصل نائبا للملك في الحجاز (أغسطس 1926) أصدر في الوقت ذاته (التعليمات الأساسية للمملكة الحجازية) بمثابة دستور. وقد حددت وضع نائب الملك ومجلس الشورى والهيئات الإدارية.

كان مجلس الشورى المؤلف عقب إعلان الدستور يضم كلا من الأمير فيصل بوصفه نائبا للملك وأربعة مستشارين وستة من وجهاء الحجاز. ولا شك في أن كل أعضاء المجلس من ممثلي الأرستقراطية الحجازية لم يكونوا من قبل مناصرين للحسين أو إبنه علي، وحتى إن كانوا قد محضوهما التأييد فقد تخلوا عنهما. وفي عامي 1924 و1925 كانت توجد في مكة جمعيات لها وظائف استشارية تضم الوجهاء وعلماء الدين والتجار، وكان بوسعها أن تطمح إلى الاستقلالية وترفع مطالب إلى الملك. ولكن أيا من أعضاء هذه الجمعيات لم يعين في مجلس الشورى عام 1926، لذا فمن المنطقي الافتراض بأن نشاطها قد أثار انزعاج إبن سعود. إن البون شاسع بين الجمعيات الأولى وبين مجلس الشورى المؤلف من أعضاء لا صوت لهم. لذا أحكم عبد العزيز سيطرته على الحجاز دون منازع، واعترف به ملكا على الحجاز داخل البلد وفي العالم الإسلامي كله، لذا لم يكن بحاجة إلى مايجمل به واجهة حكمه. وعلاوة على ذلك يبدو أن عبد العزيز أحس بأن دستور الحجاز قد يصبح قدوة يطمح إليها أهل نجد، لذا قام (وأد الوليد).

في الأعوام التالية صار لحكومة فيصل في الحجاز طابع حكومات الشرق الأوسط البيروقراطية بشكلها البدائي، ولكنها كانت بعيدة عن الحكم الملكي الدستوري. واعتمدت هذه البيروقراطية على الحجازين المتفوقين على النجديين من حيث مستوى التطور، رغم أنها عملت تحت إشراف الأمير فيصل ومستشاريه المقربين.

في الوقت الذي حاول عبد العزيز ومجموعة من مستشاريه المتنورين إلى هذا الحد أو ذاك توظيف الجهاز الإداري في الحجاز لمصلحته، كان الإخوان قد عقدوا العزم على تطهير الحجاز من البدع المنكرة وهدم القباب التي اعتبروها مخالفة للإسلام. ويذهب حافظ وهبة إلى أن حماس الإخوان الجهلة للوهابية كان أكبر ما ابتليت به هذه الدعوة الإصلاحية على حد قوله. وقد واجه الملك الإقطاعي عبد العزيز، إثرة غزوة الحجاز مشكلة التعامل مع الإخوان.

إذ أن الإخوان أزالوا في مكة الشاهد المقام عند موضع ولادة النبي وهدموا منزلي خديجة وأبي بكر. وأشار فيلبي الذي حضر موسم الحج عام 1931 إلى هدم كل الأضرحة والقباب في الحجاز وذكر أن ذلك سيجعل الأجيال القادمة تنسى الوقائع التاريخية المرتبطة بهذه الأماكن. وإلى جانب الدافع الأخلاقي الديني، تأصل لدى الإخوان العداء البدوي لكل مايجعله ويستأنس به الحضر في مدن الحجاز الذين اعتبروهم متنكرين للإسلام. ولما احتل الإخوان الطائف ومكة أخذوا يهشمون المرايا ويستخدمون أطر الأبواب والنوافذ كوقود للنار. ورغم أن هذا واحد من طباع الغزاة المعتادة، إلا أنه كان تعبيرا عن حقد البدو الدفين على ترف المدن. وقد اقترنت نزعة الإخوة لدى الإخوان بالتعصب الديني والعادات البدوية.

في عام 1924 أمر خالد بن لؤي بإحراق كمية كبيرة من التبوغ العائدة ملكيتها لمستوردين مكيين أثرياء، فشكوه لعبد العزيز الذي ألغى الأمر الصادر عن إبن لؤي ولكنه حرم استيراد التبغ مستقبلا. وفيما بعد سمح ثانية باستيراد التبغ. ولكن استمر إيقاع العقوبة بالمدخن. حينما أقصى خالد بن لؤي عن منصب حاكم مكة، عقب سقوط جدة في ديسمبر 1925، كان هذا يعني تصميم عبد العزيز على عدم إبقاء المناصب الإدارية في الحجاز بيد قادة الإخوان وقبل ذلك، في أيلول (سبتمبر) من العام ذاته، حظر رسميا في مكة حمل الأسلحة النارية لتقييد تحركات الإخوان. كان عبد العزيز يخشى تعدي الإخوان على الحجاج المسلمين وبالفعل فقد جرحوا عددا من الحجاج مما أثار احتجاج القناصل الأجانب، وحاولوا قتل عدد من المسلمين العاملين في القنصليات الأجنبية. وسعى الملك لتوجيه طاقة الإخوان نحو غزو المدن والموانئ الواقعة بين جدة وخليج العقبة، ولكن سرعان ما أصبح الحجاز كله تحت سيطرته فلم يعد لجنوده عمل يؤدونه.

في مطلع موسم الحج صيف عام 1926 وصل مكة المحمل المصري تصحبه الموسيقى، وعند اقترابه سمع الإخوان الذين كانوا بدون سلاح وليس عليهم سوى الإحرام، الموسيقى لأول مرة فاعتبروا ذلك ضربا من الزندقة واستبد بهم الغذب فهبوا ليمنعوا تقدم الجمل الذي يقل المحمل. وهنا أعطى ضابط مصري أمرا بإطلاق النار فقتل زهاء 25 شخصا. وعلى الفور أرسل عبد العزيز الذي كان قريبا من المكان ولديه فيصل وسعود لتهدئة ثائرة الإخوان. وأمر الملك باحتجاز الضابط المصري ومنعه من مرافقة الحجاج علاوة على منع المحمل من دخول مكة، ولكنه لم يقدم على إيقاع عقوبة شديدة نظرا لانعقاد المؤتمر الإسلامي في مكة آنذاك. وقد انقطعت العلاقات مع مصر إثر ذلك. غير أن الإخوان ظلوا أمدا طويلا يلومون عبد العزيز لأنه لم يعاقب (المشركين) المصريين على قتلهم 25 من الإخوان، وفيما بعد تذرع كل من فيصل الدويش وسلطان بن بجاد بهذا الحادث معتبرينه السبب الأول للخلاف مع الملك، وأكدا على أن إبن سعود لم يسمح للإخوان بهدم المحمل بل وبسط حمايته على (الصنم).

شرع الملك بتطبيق مايدعو إليه المذهب الوهابي بصرامة، وذلك لغرضين أولهما كسب رضا الإخوان وثانيهما تعزيز هيبته وسلطته. فإن المنقطع عن الصلاة يعاقب بالحبس مدة تتراوح 24 ساعة إلى عشرة أيام وبغرامة، وإذا ماعاودها فيحبس لمدة قد تصل إلى سنتين. والعقاب الصارم يطال كل من يصنع الخمر أو يبيعها. وقد حظر التدخين ولكن لم يرد ذكر للمتاجرة به.

واقترن هذا التقيد الصارم بالوهابية بممارسة العنف والتنكيل بالخصوم السياسيين لآل سعود. ويتعرض كل من يشارك في اجتماع الغرض منه نشر الأفكار المنكرة والأخبار الكاذبة والأراجيف وكل من يشارك في اجتماعات مناوئة لسياسة الحكومة، لعقوبة الحبس لمدة تتراوح بين سنتين وخمس سنوات، أو الطرد من مملكة الحجاز. وكان ينبغي استحصال رخصة من السلطات لعقد أي اجتماع حتى وإن كان لأغراض خيرية. غير أن التقيد الشديد بالأحكام الشرعية لم يدم أمدا طويلا. فبعد مغادرة الإخوان الحجاز خففت القيود المفروضة على المدخنين وصار بوسع الراغبين الحصول حتى على الخمر، ولم يعد أحد يهتم بطول الشارب.

أراد عبد العزيز أن يؤكد حرصه على نقاء الدين، ويحد في الوقت نفسه من تعسف الإخوان، فأسس صيف 1926 جماعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تحت إشراف عالمين من آل الشيخ. وأمر إبن سعود الإخوان بأن يبلغوا الجماعة بكل منكر يرونه على ألا ينزلوا العقاب بالناس وفق هواهم.

وبالتدريج تحولت الجماعة إلى ما يشبه الشرطة الدينية، وفيما بعد وضعت هيئات الأمر بالمعروف التابعة للجماعة تحت إشراف مديرية الشرطة. وعهدت إلى الهيئات القضايا المتعلقة بالغش والخداع في الأعمال التجارية والامتناع عن إخراج الزكاة والإفطار العلني والخروج عن أصول الحج وسفك الدماء وتعاطي أو بيع الخمر. وعند صيف 1928 كانت الهيئات تساهم بنشاط في اجتماعات الحكومة وتشدد من رقابتها على أهالي الحجاز. وقد وجد عبد العزيز هذه التجربة جديرة بأن تشمل سائر أنحاء البلاد، فأسس في الرياض مديرية الأمر بالمعروف صيف عام 1929، حينما بلغت انتفاضة الإخوان ذروتها.

وقد ندد القيمون على الجماعة بالرئيس التركي مصطفى كمال (أتاتورك) والملك الأفغاني أمان الله بسبب ما أجرياه من إصلاحات. وقال تورباكولوف القنصل العام السوفييتي في جدة:

«يصعب على المرء أن يتوقع موقفا آخر إزاء كمال باشا وأمان الله من بلد يقوم وجوده ذاته على حساب الحرمين ويشكل كل ابتداع خطرا يهدد المصالح المادية للأغلبية.»

صارت هيئات الأمر بالمعروف أداة انتزع بواسطتها من الإخوان حق مراقبة تمسك الناس بأصول الدين. وقدمت الديمقراطية العشائرية، بشكلها الديني المتعصب، قربانا لجهاز الحكم في دولة إقطاعية مركزية. كانت تصرفات الإخوان تبدو للوافدين الأوروبيين وللمتعلمين من مستشاري الملك نوعا من الغلو في التعصب وحتى الوحشية، غير أنها مع ذلك كانت تنم عن سعي الجماهير الواسعة من عرب الجزيرة إلى الحياة البسيطة التي دعت إليها الوهابية. وتمسكت الجماهير بالدعوة إلى المساواة التي تضمنتها الوهابية، وحاولت تحقيق مثلها عمليا وفق ماترتئيه. وقد اصطدمت طموحات الإخوان وممارساتهم بالمصالح الفعلية لعملية الإقطاعيين. لذا فإن تسمية هبات الإخوان بأنها رجعية سافرة تبدو مغالاة في إبراز جانب واحد، بل وحتى غير صائبة، فقد كانوا رجعيين بنفس القدر الذي كانت عليه رجعية المشاركين في الانتفاضات الفلاحية في عصر الإقطاع بأوروبا، بكل ماشهدته من بطش وبأس. وعندما خابت آمال الإخوان وعادوا من الحجاز إلى هجرهم وقبائلهم في وسط الجزيرة، غدا واضحا أن اشتباكهم مع دولة إبن سعود الإقطاعية المركزية بات وشيكا.

انتفاضة الإخوان

المرحلة الأولى لانتفاضة الإخوان

الإخوان يزحفون

بلغت العلاقات بين السلطة الإقطاعية المركزية والإخوان درجة الغليان بسبب تعاون عبد العزيز مع الإنجليز عند رسم الحدود مع الكويت والعراق والأردن، وبسبب سياسته في الحجاز. فقد اعتبر الإخوان إن غبنا أصابهم عند توزيع الغنائم في الحجاز، كما أن موافقة عبد العزيز على منع الغزوات على أراضي الكويت والعراق والأردن حرمهم من إمكانية تحسين أوضاعهم المادية عن طريق سلب المشركين. وفي ظروف تعمق أزمة تربية الإبل وتخلف الزراعة في الهجر، كان الغزو المتستر بذرائع دينية يبدو للإخوان مخرجا طبيعيا يدفع عنهم غائلة الفقر والجوع. وأدى تسامح عبد العزيز مع الشيعة في الإحساء والقطيف إلى زيادة الطين بلة.

من تناقضات حركة الإخوان أن قادتها كانوا من شيوخ العشائر الإقطاعيين الطامحين إلى أن يصبحوا حكاما إقطاعيين مستقلين. وبذا صارت حركة الإخوان الديمقراطية من حيث تركيبها وعدد من مطالبها، أداة لخدمة النزعة الإنفصالية الإقطاعية العشائرية. وكان من أبرز قادة الإخوان القائد العسكري والمقاتل الجسور، شيخ قبيلة مطير فيصل الدويش الذي عاد بعد سقوط جدة في أواخر عام 1925 إلى مقره في الأرطاوية مستاءا استياءا شديدا من عبد العزيز، إذ أنه لم ينصب حاكما للمدينة المنورة كما كان يأمل. وأضيف إلى ذلك التناحر بين مطير وآل سعود الذي خفت بعض الشيء قبل عام 1925. يقول المؤرخ خالد الفرج : (إذا راجعنا تاريخ نجد وجدنا قبائل مطير دائما في صفوف أعداء آل سعود. وهم أول من تلقى طوسون باشا في الحجاز، ونقل حملته إلى القصيم. وانضموا إلى حملة إبراهيم باشا على الدرعية، وقاتلوا في صفوفه... وهم الذين هللوا لمقدم خورشيد باشا، وجاؤوا معه إلى الخرج محاربين. وكانوا أخيرا في صفوف إبن رشيد، إلى أن ضربهم إبن سعود في وقعة جولبن فكسر شوكتهم). وحتى بعد انضمام فيصل الدويش إلى إبن سعود، فإن 150 رجلا مسلحا كانوا يصحبونه كلما يقدم الرياض. وكان الملك، كما يقول حافظ وهبة، (يعتبره صديقا قديما وقائدا من عظام قوادة. وإذا جلس لايجلس إلا في جوار الملك... وإذا استأذن في الرجوع إلى الأرطاوية قدم للملك قائمة تبتدئ من حبال الآبار.. إلى السلاح والجوادي، ومابين ذلك من ملابس له ولأولاده وزوجاته).

وكان من المعارضين لأبن سعود ضيدان بن حثلين شيخ العجمان وهم من أشد وأقدم خصوم آل سعود ولم يقهروا وينضموا إلى حركة الإخوان إلا منذ عهد قصير، وكذلك شيخ عتيبة سلطان بن حميد بن بجاد رغم أن عبد العزيز بن سعود هو الذي ساعده على أن يكون شيخا. وقد آمل إبن بجاد أن ينصب حاكما للطائف ولكن كان للملك رأي أخر. وقد كانت عتيبة أقوى وأكبر قبائل وسط الجزيرة بعد عنزة. وفيما بعد انضم إلى الحركة المناوئة لإبن سعود واحد من مشايخ الدولة. وبذا فإن القبائل القاطنة إلى الشرق والشمال والغرب والجنوب الغربي من الرياض صارت معادية للسلطة المركزية. ومن المهم الإشارة إلى أننا لا نجد في معسكر المعادين لعبد العزيز ممثلي القبيلة الأكثر بأسا وقوة وهي عنزة (باستثناء فخذ الرولة) وكذلك آل حرب، والقسم الأكبر من شمر. أي أن انتفاضة البدو لم تكن شاملة الأمر الذي أنقذ النظام الملكي.

في مطلع عام 1926 اجتمع فيصل الدويش وإبن حثلين وإبن بجاد في الغطغط وأعدوا قائمة بمآخذهم على عبد العزيز، وصارت هذه القائمة أساسا للتهم التي وجهت للملك في الاجتماع العام الذي عقده زعماء الإخوان من مطير وعتيبة والعجمان في تشرين الثاني – كانون الأول (نوفمبر – ديسمبر) 1926 في الأرطاوية. وقد وجهت للملك سبع تهم:

- سفرة إبنه سعود إلى مصر (إثر حادث المحمل).

- سفرة إبنه فيصل إلى لندن في أغسطس 1926 للتفاوض مع الإنجليز)، الأمر الذي يعني التعاون مع بلد الشرك.

- استخدام التلغراف والتلفون والسيارة في أراضي إسلامية. وكانت هذه النقطة خليطا من الاحتجاج الشعبي على تعزيز السلطة المركزية والعصبية البدوية.

- فرض رسوم جمركية على مسلمي نجد، وكان هذا في الواقع احتجاجا على تشديد استغلال السكان عن طريق الضرائب التي تجبي مركزيا.

- منح قبائل الأردن والعراق حق الرعي في أراضي المسلمين – وهذا انعكاس للصراع بين القبائل في سبيل الحصول على المراعي.

- حظر المتجارة مع الكويت. فلو كان سكان الكويت كفارا فإن على عبد العزيز إعلان الجهاد ضدهم، وإن كانوا مسلمين فلا يجدر به الوقوف ضد المتاجرة معهم.

- التسامح مع الخوارج (الشيعة) في الإحساء والقطيف. فقد أراد الإخوان لعبد العزيز إما أن يهديهم إلى الإسلام أو يقتلهم.

شعر عبد العزيز أن استياء الإخوان قد يتخذ طابع انتفاضة صريحة، فغادر الحجاز على عجل وعاد إلى الرياض في يناير 1927. وفي أواخر هذا الشهر دعا إلى العاصمة زهاء ثلاثة آلاف من الإخوان، وفي هذا الاجتماع قدم فيصل الدويش وإبن بجاد وغيرهما من زعماء الإخوان المنشقين بنودهم السبعة. لم تكن الانتفاضة قد اتخذت طابعا صريحا بعد، لذا أخذ إبن سعود يبحث عن حل وسط فوافق على تقليص الضرائب ولكنه رفض نبذ اللاسلكي والسيارة. بل أنه أقنع الحاضرين بمبايعته ملكا لنجد والحجاز فأصبح لقبه (ملك الحجاز ونجد وملحقاتها).

في فبراير 1927 أصدر علماء الرياض الذين أقلقتهم مطالب الإخوان فتوى اشتهرت فيما بعد. وقد وقعها 15 عالما الأمر الذي يدل على مدى تعقد الوضع. وتظاهر العلماء بأن موقفهم محايد إزاء التلغراف، ولكنهم نصحوا الإمام بهدم مسجد الحمزة وإرغام الشيعة على دخول الإسلام أو طردهم من البلد. (نذكر بأن الوهابيين لايعتبرون الشيعة مسلمين). وطالب العلماء الملك بمنع شيعة العراق من الرعي في أراضي المسلمين. وطالب العلماء بأن يعيد الملك الضرائب المستوفاة خلافا للشرع، ولكنهم أشاروا في الوقت ذاته إلى أن فرض ضرائب غير شرعية ليس بشيء كافيا لتصديع وحدة المسلمين. كما أكدوا على أن الإمام هو الشخص الوحيد الذي يمكنه إعلان الجهاد.

في مطلع إبريل 1927 قرر عبد العزيز أن يعقد اجتماعا آخر لشيوخ القبائل وزعماء الإخوان، فوفد إلى الرياض مايزيد على ثلاثة آلاف من الإخوان، ولم يحضر إبن بجاد. وفي هذه المرة حاول عبد العزيز عزل فيصل الدويش الذي اعتبره خصمه الرئيسي. ويبدو أن عبد العزيز تمكن في هذا اللقاء من استمالة فخذ من مطير وجعله معاديا لفيصل.

لكن الحركة المعارضة لإبن سعود لم تقتصر على الإخوان. ففي صيف 1927 اكتشفت مؤامرة تهدف إلى اغتيال سعود بن عبد العزيز في الرياض وعبد الله بن جلوى في الإحساء. وزعم أن بين المتآمرين شقيق عبد العزيز محمد وإبنه (إبن محمد) خالد.

لم يجرؤ فيصل على تحدي الملك جهارا، فأخذ يستعد لشن غزوات على العراق. وكان يأمل من وراء ذلك توزيع الغنائم على أتباعه وحمل الملك على مساندته أو، بخلاف ذلك، البرهنة على أنه لم يعد مجاهدا في سبيل الله. ظل الملك يترقب، إذ أن (الحذر كان دوما السمة المميزة لعبد العزيز بن سعود – كما يقول غلوب – وكان واثقا من قدرته على هزيمة خصومه من أمراء الجزيرة، ولكنه لم يكن مستعدا لخوض معارك حربية ضد بريطانيا. أما الإخوان فقد كانوا مستعدين لإيراد أقوال عبد العزيز السابقة كحجة ضده. واعتبروا العراقيين خوارج وأعداء الله وقالوا بأن أرواحهم وممتلكاتهم مباحة للإخوان باعتبارهم مؤمنين بالدين الحق. غير أن عبد العزيز كان مثالا للحذر والتبصر. ولئن أيد العصبية فقد كان ذلك لغرض وحيد وهو استخدامها كأداة لبلوغ مآربه، بينما لم يكن هو ذاته متعصبا ابدا).

رغم أن وضع إبن سعود في المملكة صار مهزوزا فإن الدبلوماسية البريطانية ظلت ترى فيه القوة الفعلية الوحيدة في الجزيرة، القوة التي تعتزم التعاون معها. وتخلت بريطانيا عن آمالها في فرض أو إبقاء الحماية على الحجاز ونجد وملحقاتها. وكانت مملكة الجزيرة المترامية الأطراف والقليلة السكان محاطة بمستعمرات أو محميات أو بلدان تابعة للندن. وقدر الإنجليز أن المملكة، حتى وإن ظلت مستقلة، ليس بوسعها اتخاذ أية خطوات تضر بالمصالح البريطانية.

في مايو 1927 أجرى المندوب البريطاني كلايتون مفاوضات مع عبد العزيز في جدة، وفي العشرين من الشهر عقدت (معاهدة صداقة وحسن تفاهم) وقد ألغت هذه المعاهدة النافذة لمدة سبعة أعوام، اتفاقية عام 1915 واعترفت (بالاستقلال التام والمطلق) لممتلكات إبن سعود. ومن الناحية الشكلية لم تنص المعاهدة على أية امتيازات خاصة لبريطانيا، ولكن إبن سعود التزم بالاعتراف بأن لها (أي لبريطانيا) علاقات خاصة مع إمارات الخليج ومحميات عدن. ولم يعترف الملك بإلحاق العقبة ومعان بشرق الأردن، إلا أنه التزم بمراعاة الأمر الواقع لحين رسم الحدود بين الحجاز وشرق الأردن بشكل نهائي. وكانت المعاهدة نجاحا هاما للدبلوماسية السعودية وقننت استقلال الدولة الجديدة.

سرعان ما أعطى الإنجليز الإخوان ذريعة لغزو أراضي العراق. ففي سبتمبر 1927 أرسلت مجموعة من الشرطة العراقية إلى آبار البضية الواقعة على الأراضي العراقية على مقربة من الحدود لبناء مخفر هناك. وقد احتج عبد العزيز استنادا إلى اتفاقية المحمرة والبروتوكول رقم واحد الموقع في العقير. وردت الحكومة العراقية بأن البضية تقع داخل العراق على بعد 80 ميلا عن الحدود، وأن المخفر للشرطة وليس للجيش، في حين أن النجديين لم يكونوا يفرقون بين الشرطي والجندي. ولم يأبه الإنجليز باحتجاجات إبن سعود الذي طالب بإزالة المخفر، وذلك تحت ضغط الإخوان.

في ليلة السادس من نوفمبر 1927 أباد مطير كل رجال الشرطة العراقيين باستثناء واحد. وتدخلت إلى جانب العراق الطائرات البريطانية التي ألقت قنابلها على البدو.

وفي مطلع ديسمبر هاجم 300 من مطير أراضي الكويت إلى الشمال الشرقي من الجهراء. وفي 13 من الشهر طلب إبن الصباح مساندة الطائرات البريطانية لمجابهة الغزوات. ولكن إبن سعود كان قبل ذلك قد أبلغ الحكومتين العراقية والكويتية بأن هذه الغزوات تجري خلافا لأوامره. وفي 16 كانون الأول أعيد بناء مخفر البضية ورابطت فيه فصيلة من الجيش العراقي. ومن ديسمبر 1927 استخدمت الطائرات البريطانية على نطاق واسع ضد الإخوان، ولكن كان من الصعب في الصحراء تمييز الإخوان عن غيرهم، فادت الغارات إلى مصرع سكان مسالمين. وقد استمرت غزوات الإخوان حتى شباط (فبراير).

وقد قال غلوب الذي عاصر تلك الأحداث وشارك فيها: (عام 1927 لم يعد إبن سعوند مسيطرا على الوضع سيطرة تامة. فقد اغتر الإخوان، إثر انتصاراتهم في الحجاز، بقوتهم وزعموا أن سيوفهم هي التي أعلنت كلمة إبن سعود. وأدرك الإخوان أنهم عماد جيش الملك الذي لم يكن لديه قوات نظامية لضبطهم. وكانت الإنتفاضة الصريحة ضد إبن سعود صعبة، فهو الإمام ويحظى بتعاطف أهل نجد. ولكنهم اعتبروا أن من الواجب المقدس محاربة الشيعة العراقيين، لإنهم خوارج ولكونهم تحت حماية الإنجليز. واتهم إبن سعود بالتسامح في الدين ورفض محاربة أعداء الله. ولم يكن النجديون، رغم مساندتهم لإبن سعود، مستعدين لاستخدام القوة بهدف منع الإخوان من شن الغزوات على العراق التي تعني الاصطدام ببريطانيا. ولم يكن بوسع إبن سعود أن يعترف للدول الأخرى بأنه سيطر تماما عليهم كان ليعني تحمل مسئولية غزوات الإخوان. وقد أعطاه بناء مخفر البضية ذريعة لاتهام العراق والإخوان). وفي هذا الظرف آثر ملك الحجاز نجد الاستمرار في ترينه. وفي مارس 1928 عاد مطير إلى هجرهم بعد غزوات موفقة.

في كانون الثاني (يناير) 1928 التقى حافظ وهبة بالمندوب البريطاني هنري دوبس في الكويت، بعد أن حذر الإنجليز إبن سعود من أن الطيران سوف يستخدم بكل ضراوة ضد الإخوان إذا لم يوقف الملك الغزوات. ولكن الإنجليز استمروا في تزويد الملك بالذخائر. وفي آذار (مارس) 1928 أعلن ناطق باسم الحكومة البريطانية في مجلس العموم أن بلاده أعطت خلال الأشهر الأخيرة ثلاث مرات ترخيصا بتصدير الذخيرة إلى إبن سعود. في مطلع إبريل 1928 عقد في بريدة لقاء آخر مع الإخوان، ولكن فيصل الدويش وابن بجاد لم يحضرا إلى المدينة، بينما رفض عبد العزيز الالتقاء بهما في البادية. ووعد الملك الإخوان بأنه سيجري مفاوضات مع الإنجليز ويحتج على إقامة المخفر.

في مايو 1928 جرت مفاوضات بين عبد العزيز والمندوب البريطاني كلايتون، ولكنها لم تسفر عن شيء، كما لم يتمخض عن نتيجة اللقاء الآخر الذي عقد في أغسطس من العام نفسه. وقد أحس الإنجليز بأن ب عبدالعزيز أخذ يفقد السيطرة التامة على البلد. وأدرك الطرفان أنه لم يتبق لديهما سوى ستة أشهر يحل بعدها موسم الرعي الجديد الذي تعود فيه مناطق الحدود إلى حالة الفوضى.

أمضى عبد العزيز صيف عام 1928 كله في مكة يشن هجمات إعلامية ضد العراق، يبدو أن الغرض منه إقناع الإخوان بتمسكه بأصول الدين. ويقول فيلبي (إن ابن سعود شعر بالحاجة إلى الحد من تعصب أتباعه. وكان يعرف أن الحرب مع العراق. مع القوات البريطانية تعني كارثة، فقرر تحاشيها بأي ثمن. ولكنه كان يحس أيضا أن الغليان في البادية بلغ حد تحديه لتسامحه مع المشركين).

وضع كبار زعماء الإنتفاضة الإخوانية خطط اقتسام ممتلكات إبن سعود. فقد استقر الرأي على أن يكون فيصل الدويش حاكما لنجد وإبن بجاد حاكما للحجاز وتعطى الإحساء لإبن حثلين. ووعد نداء بن نهير، وهو من أبناء أحد أفخاذ شمر، بتنصيبه حاكما للحائل إذا ما انضم إلى قادة الإخوان ولكنه آثر التريث وظل وفيا لإبن سعود.

في سبتمبر 1928 عاد الملك إلى الرياض ووجد أن بعضا من أفخاذ العجمان قد اتحد مع فيصل وإبن بجاد. أخذ الملك يعمل على عقد الجمعية العمومية للحضر والإخوان وحدد شهر أكتوبر موعدا لها ولكن الجمعية لم تنعقد إلا في 6 ديسمبر 1928. حضر الجمعية العمومية زعماء الإخوان وشيوخ العشائر وأشراف المدن وعلماء الدين، وتجاوز العدد الإجمالي للحاضرين ومرافقيهم 800 شخص، وتغيب عن الجمعية فيصل الديش وسلطان بن بجاد وإبن حثلين، ولكن فيصل أوفد إبنه عزيز لحضورها. تحدث عبد العزيز في الحاضرين طويلا وعدد منجزاته ومنها توحيد الجزيرة وإقامة صرح السلام.ثم لجأ إلى حركة مسرحية باقتراحه التنازل عن العرش شريطة أن يبايع المجتمعون واحدا من آل سعود ملكا، وقال أنه سوف يساعد من يختارونه. وتحدث عبد العزيز عن مفاوضاته مع الإنجليز وقال أن غزوات فيصل الدويش هي سبب تعنتهم.

فعلت الحركة المسرحية فعلها في الحاضرين، وخاصة سكان الحواضر وواحات نجد، الركيزة التقليدية لآل سعود، والذين كانوا يعرفون حق المعرفة ما قد يعنيه بالنسبة لهم غياب عبد العزيز وانتصار فيصل الدويش وابن بجاد. ووسط صياح : (لانريد بك بديلا) أعرب كل الحاضرين عمليا عن تأييدهم لسياسته و (إنكارهم) لزعماء الإخوان الثلاثة. ومن الواضح أن المجتمعين كانوا يدركون أن ابن سعود لا يتنازل عن العرش طائعا، وأنه كان قد بلغ من القوة والذكاء حدا كبيرا وأصبح مستعدا لمحاربة الإخوان. وتيقن أعيان الحواضر من ضرورة محاربة الإخوان، وقد لعب دورا في ذلك السعي لحماية المصالح الطبقية في مواجهة البدو الثائرين، إلى جانب نفور الحضر من البدو. غير أن الصعوبة تمثلت في أن حركة الإخوان اتخذت طابعا دينيا وزعم قادتها الثلاثة أنهم حماة الدين الحقيقيون وأن عبد العزيز يقدم مصالحه الشخصية على مصالح الإسلام ويتعاون مع الإنجليز الكفار.

مع بداية موسم الرعي غدا واضحا أن الحرب الأهلية قائمة لا محالة، رغم أن قبائل كثيرة اتخذت موقف متريث. وعوضا عن الوقوف جهارا ضد عبد العزيز آثر زعماء الإخوان الثلاثة شن غزوات على العراق، لكن لا يتهموا بالعصيان.

هاجم بن بجاد قرية الجميمة على الحدود مع العراق، وقتل كثيرا من التجار بينهم عدد من أهالي نجد، ثم هاجم شمر. وقد جعل الإخوان أكبر القبائل وهي عنزة وقبيلة حرب الحجازية تتألبان ضدهم. وحصل إبن سعود الذي كان قبل شهر فحسب مهتز الثقة بنفسه، على دعم من البدو والحضر في نجد. وأبدى فيصل الدويش كياسة سياسية أكثر من ابن بجاد فاقتصر على مهاجمة العراقيين متظاهرا بأنه من رعايا الملك الأوفياء ولم يقطع الأواصر معه بشكل لا رجعة فيه، كما أن الخلافات بينه وبين ابن بجاد تزايدت. وبعد مذبحة الجميمة وصل ابن سعود إلى القصيم حيث جهز حملة من المتطوعين النجديين الذين التحقوا بقواته عن طيب خاطر لأن المزارعين والتجار لم يشعروا بالأمان طالما استمر الإخوان البدو في نهبهم وتقتيلهم. وسار في ركب ابن سعود فخذ من العتيبة على رأسه عبد الرحمن بن ربيعان منافس ابن بجاد، ومشاري بن بصيص من مطير ودليم بن براك من بني رشيد وعدد كبير من قبيلة حرب وكل شمر ونجد تقريبا وجزء كبير من قبيلة الظفير وجزء من عنزة الحجاز، وكذلك ولد سليمان وغيرهم. وصار حضر نجد العمود الفقري لقوات الملك. في مطلع مارس 1929 بدأ ابن سعود حملته، وكان ابن بجاد وفيصل عند آبار السبلة.

جرت سلسلة من المفاوضات، وزار فيصل الدويش معسكر عبد العزيز ثم عاد إلى جماعته. وفي اليوم الثاني، في 31 مارس 1929 نشبت معركة السبلة. حشد ابن سعود في الوسط مشاة من أهالي نجد، وجعل إخوانه وأبناءه على رأس مجموعات وبدأ الهجوم، وكان المتطوعون من البدو على الميمنة والميسرة. خسر الإخوان المعركة وأصيب فيصل الدويش بجرح بالغ في بطنه، وتقدم سعود بن عبد العزيز على رأس مجموعة من أهالي الرياض وحرس الملك، ليكمل الانتصارات. وتحمل حضر نجد العبء الأساسي في المعركة.

هرب فيصل الجريح إلى الأرطاوية وأوفد نساءه إلى الملك لكي يطلبن منه الرأفة والعفو. وحينما علم عبد العزيز بأن فيصل أصيب بجرح شديد لان وعفا. وبعث بطبيبه الخاص إلى فيصل. ويبدو أن الغرض لم يكن المداواة فقط، بل معرفة مدى خطورة الإصابة. وعلى أية حال فقد أدرك عبد العزيز أن فيصل لم يعد له وجود كمنافس له.

أما ابن بجاد فقد عاد بعد المعركة إلى الغطغط. وبعث إليه الملك رسالة يطلب منه فيها أن يستسلم هو وشيوخ القبائل الذين شاركوا في الانتفاضة. وقد انصاع ابن بجاد فحبس وسواه من زعماء الانتفاضة في سجن بالإحساء وهناك قضوا نحبهم. وأمر عبد العزيز بتجريد هجرة الغطغط من السلاح وهدم بيوتها. وما زالت أنقاضها قائمة حتى اليوم. اعتقد الملك أن انتفاضة الإخوان قد قمعت، فقصد المدينة ثم مكة للحج في مايو – يونيو 1929.

المرحلة الثانية من الانتفاضة

صورة رسمت بخط اليد في يناير من عام 1930 لفيصل الدويش

غير أن فيصل الدويش ظل على قيد الحياة ولم تحبط عزائمه، فعاد إلى تدبير غزوات ضد العراق. ورغم عدم اشتراك ضيدان بن حثلين وقبيلته في معركة سبلة، إلا أن ابن جلوى اعتبر تصرفات العجمان السابقة حجة كافية لضربهم. وأوفد عبد الله بن جلوى إبنه فهد لأسر ضيدان بن حثلين بالقرب من هجرته في الصرار. وقام فهد باستدراج ضيدان إلى لقاء في البادية حيث أسره. وحينما اكتشف الإخوان من جماعة ابن حثلين أن زعيمهم لم يعد، طوقوا فورا معسكر فهد الذي أمر بقتل ضيدان وخمسة من صحبه. وتلت ذلك معركة قتل إبانها فهد، بينما انضم إلى المتمردين نايف بن حثلين وهو من أقارب ضيدان وكان سابقا من المعارضين للإخوان. وأدرك زعماء هجرة الصرار أن عبد الله بن جلوى سيعمل فور سماعه بمقتل إبنه على مهاجمتهم، لذا لموا ماشيتهم وحوائجهم ونزحوا إلى الشمال. ويقول ديكسون أن الغدر بضيدان ألب بدو المناطق الشمالية الشرقية من الجزيرة ضد عبد العزيز رغم أنه لم يكن مسئولا عن ذلك. وعاد جمع كبير من العجمان الذين هجروا أراضي الكويت بضغط من الإنجليز، إلى الإحساء وانضموا إلى أفراد قبيلتهم.

بيد أن حلول الصيف وضع حدا للمعارك الكبرى، وكان العجمان قد تمكنوا من الحصول على بعض العون من الكويت حيث اشتروا مؤنا وذخائر في أسواقها. واحتج عبد العزيز فيما بعد لأن الإنجليز تغاضوا عن هذه المشتريات. ولكن كان في العراق والكويت من يتعاطف مع الثائرين لذا لم يكن بوسع الإنجليز السيطرة على كل الأمور. وازدادت قناعة الإنجليز من أن تحقيق أهدافهم في الكويت والعراق والأردن يتطلب منهم أن يساعدوا ابن سعود في قمع انتفاضة الإخوان وتوطيد نظامه.

انضم فيصل الدويش الذي قرر أن يرفع راية الانتفاضة مجددا، إلى العجمان، وفي منتصف يوليو عمل وإياهم على قطع الطريق بين الرياض والهفوف. وقطعت عتيبة سبل الاتصال بين الحجاز ونجد. وفي البدء كان العجمان يرومون مهاجمة القطيف والمدن الساحلية في الإحساء ولكن العوازم اعترضوا طريقهم. هاجم العجمان العوازم لسلبهم ولكنهم ردوا على أعقابهم. وكانت تلك هزيمة نكراء مني بها العجمان ومطير العوازم. دارت في البلد رحى حرب أهلية، وصار جامعوا الخراج عرضة للقتل في كل مكان. ولم تعد طرق القوافل في الحجاز ونجد والإحساء آمنة.

عاد الملك إلى الرياض في يوليو 1929 ومعه 200 سيارة لاستخدامها ضد المنتفضين. واتفق في الحجاز على شراء أربع طائرات وخطط لإقامة شبكة من محطات الإذاعة في البلد. ولم يرس طلب إقامة الإذاعات على شركة ماركوني إلا في أواخر عام 1930، أما الطائرات فقد وصلت سواحل الإحساء في نهاية عام 1929 حيث انتفت الحاجة لاستخدامها ضد البدو. في سبتمبر قرر ابن سعود القضاء على الثائرين، ودعا أمراء القطيف والإحساء والقصيم وحائل إلى تزويده بالرجال والمال والسلاح، واستنفر أهالي نجد من بدو وحضر، كما حصل على مؤازرة الهجر التي لم تنضم إلى فيصل الدويش.

أنزلت ضربة قوية بفيصل الدويش في أيلول (سبتمبر)، حينما ألحقت قوة يترأسها ابن مساعد، الهزيمة بقوات مطير بقيادة الشاب عزيز بن فيصل الدويش الذي قتل هو ونخبة من مطير في المعركة. وبعد بضعة أيام مني بالدويش بهزيمة أخرى، إذ أن فخذا من عتيبة له علاقة بالإخوان هزم من قبل فخذ آخر من نفس القبيلة ظل مخلصا لعبد العزيز وساندته وحدة بقيادة إبن لؤي من الخرمة.

انتهى أمر الانتفاضة. وفي أكتوبر 1929 هرب فيصل إلى الكويت أملا في الحصول على حق اللجوء له ولرجاله ولإبقاء أفراد عائلته هناك وأخذ وعد من الإنجليز بعدم قصف مطير. ولكن الإنجليز ظلوا يسوفون ولم يعطوا أية ضمانات. منظمة هربا من ابن سعود. وكانت القوات العراقية محتشدة إلى الشمال من الكويت، وقامت المصفحات البريطانية بطرد الإخوان ليعودوا إلى الأراضي السعودية.

وفي أكتوبر 1929 أعلن عبد العزيز أن كل من اشترك في الفتنة يؤخذ ماله وجميع مالديه من إبل وخيل وسلاح، وأن كل من مالأ المنتفضين تؤخذ منه الذلول والفرس والبنادق، على أن يقسم كل ماينتزع من المنتفضين على المشاركين في المعارك إلى جانب الملك. وأمر بأن كل هجرة غلب الفساد على أهلها يطردون منها... ولايسمح لفريق منهم بالاجتماع في مكان واحد.

في ديسمبر عام 1929 جمع عبد العزيز قوة من حضر العارض والوشم والقصيم وبعض الأفخاذ الموالية له من مطير وعتيبة وحرب ووحدات من قبائل سبيع وقحطان والدواسر و بني رشيد. وبدأ بمطاردة فيصل. وجرت اشتباكات أدت إلى هزيمة الإخوان. وفي أواخر الشهر ذاته بعث فيصل الدويش رسالة إلى عبد العزيز يطلب فيها العفو والأمان. ورد الملك بأن فيصل لمي عد له الحق في العفو. غير أن المكاتبات استمرت بين الجانبين. وفي الوقت ذاته بعث فيصل رسالتين إلى ملك العراق المخلصين. ولكن الإنجليز كانوا يميلون إلى القضاء على الإخوان. وفي نهاية كانون الأول أصبحت فلول قوات الدويش محصورة بين قوات عبد العزيز والقوات البريطانية على الحدود بين نجد والعراق والكويت. وكانت قوات عبد العزيز ومدرعاته أكثر بكثير من المتمردين.

في إحدى المعارك هزم آل حرب نفرا من مطير ففر هؤلاء إلى الكويت. وحينما نما الخبر إلى فيصل عبر مطلع يناير 1930 حدود إمارة الكويت. وحالما علم عبد العزيز بذلك كتب إلى المقيم البريطاني في الكويت ديكسون يحتج على السماح للإخوان بالالتجاء إلى الكويت والعراق والأردن. وفي اليوم التالي تلقى تعهدا بأن المتمردين سوف يطردون. ولكن لايستبعد أن السلطات البريطانية والعراقية والكويتية كانت تريد الإبقاء على زعماء الإخوان كأداة في يدها للضغط على ابن سعود.

استسلم فيصل الدويش وسواه من زعماء الإخوان إلى السلطات البريطانية في العاشر من يناير 1930، فنقلوا بالطائرات إلى البصرة حيث وضعوا على متن بارجة بريطانية في شط العرب. وبعد يومين طالب عبد العزيز بتسليم زعماء الإخوان. وكان ملك العراق فيصل يدعو إلى منح حق اللجوء للإخوان ولكن البريطانيين لم يتفقوا معه في الرأي. وصل إلى معسكر ابن سعود وفد بريطاني وجرت مفاوضات تم بعدها التوصل إلى اتفاق حول تسليم زعماء الإخوان للملك. ووعد الملك بالإبقاء على حياتهم، ومنع الغزوات على العراق والكويت. كما أن عبد العزيز تعهد بتعويض العراق والكويت عما ألحق بهما من أضرار ودفع عشرة آلاف جنيه تعويضا عن الخسائر التي سببتها غزوات الإخوان، وأن يعين في أي وقت مندوبين إلى المحكمة المشتركة وفقا لاتفاقية بحرة.

في 27 يناير نقل زعماء الإخوان الثلاثة إلى مخيم عبد العزيز حيث استقبل الملك عدوه اللدود المهزوم باللوم. ورفض فيصل الاعتراف بأنه ارتكب معصية أو خطأ. وقد نقل المعتقلون إلى سجن الرياض، وتوفي فيصل في الثالث من أكتوبر 1931 في السجن. وظل حتى الرمق الأخير ثابت الجنان ومات وهو يقسم بمحاسبة عبد العزيز في يوم القيامة. وهكذا آخر وأكبر ممثلي عهده انصرم. وسرعان ماتوفي الباقون من زعماء الإخوان في السجن، ولعل السجانين قد أعانوهم في ذلك. في يناير 1930 انتهت انتفاضة الإخوان عمليا. وبذا انهزمت وتلاشت حركتهم التي لعبت دورا هاما في تعزيز سلطة ابن سعود وغزواته. وتوقفت حتى عملية تحضر البدو وانتقالهم إلى الزراعة. وكانت للدولة الإقطاعية المركزية الغلبة على الحركة الشعبية للبدو الذين قاموا، بشكل غريزي، تشديد الاضطهاد ووقفوا ضد التطلعات الإقطاعية الانفصالية لزعمائهم.

أصبح بدو الجزيرة ولعقود طويلة تحت رحمة الماكنة العسكرية البيروقراطية. ولكن لايستطيع أحد أن يجزم ويحدد بثقة الجانب الذي يسلتزمه البدو في حالة الصراعات المحتملة مستقبلا. في 20 فبراير 1930 وصل عبد العزيز إلى رأس تنوره، واستقبل على متن بارجة بريطانية حيث التقى بالمندوب السامي البريطاني في العراق همفرز والملك فيصل. وخلال اللقاء الذي دام ثلاثة أيام تبادل العاهلان العتاب، ولكن المصالح المشتركة كانت لها الغلبة في آخر الأمر، فاتفقتا على عقد معاهدة للصداقة وحسن الجوار وقعت بعد أسابيع بإلحاح من البريطانيين. وإلى بضع سنوات خلت كانت الأسرتان المالكتان تتحاربان في الحجاز الذي اعتبره الهاشميون ملكا متوارثا لهم. ولم تنس أسرة الشريف قط فقدانها مكة والمدينة والهزائم المنكرة التي ألحقها بها ابن سعود. بيد أن متطلبات السياسة الواقعية كانت الأقوى. وقرر العاهلان تبادل الاعتراف بينهما كملكين للدولتين وتبادل المبعوثين الدبلوماسيين واحترام كل طرف لحقوق العشائر والأراضي المشمولة بسيادة الطرف الآخر.

بدا أن النظام السعودي قد أنجز بنجاح حل مشاكله الخارجية والداخلية، وصار بوسعه الخلود إلى عهد من الاستقرار النسبي. ولكن كان على ابن سعود أن يمر، قبل حلول هذا العهد، باختبارين جديدين هما الحركات المسلحة في الحجاز وعسير والحرب مع اليمن، وإن لم يشكل خطرا جديا على سلطته.

التحركات المسلحة ضد ابن سعود في الحجاز وعسير

أثار نظام ابن سعود الاستبدادي الذي فرض بقوة السلاح في الحجاز استياء شطر من أعيان المنطقة. وحافظ أعيان كثيرون وخاصة من عائلة الشريف على صلاتهم بأشقاء علي وهو آخر ملك هاشمي. ولم ينس عبد الله بن الحسين عاهل شرق الأردن قط هزيمته على يد الإخوان في معركة تربة. وقد أثارت غيظه معاهدة الصداقة بين ملك العراق فيصل وعبد العزيز. ورغم الوجود البريطاني في شرق الأردن واعتراف بريطانيا الواضح بالنظام السعودي، فقد قرر عبد الله مساعدة العناصر المعارضة في الحجاز وتزويدها بالمال والسلاح.

بدا أن وضع الاستياء العام الذي عم الحجاز في أواخر العشرينيات كان في صالح المعارضين. وتعرضت نجد والحجاز لجفاف خلال عامين متتالين. وأدت الحرب الأهلية بين الإخوان ونظام ابن سعود إلى دمار شامل وزعزعت الاقتصاد. وأحدثت الأزمة الاقتصادية العالمية لأعوام 1929-1933 آثار موجعة في الجزيرة. فقد هبط تصدير المواشي والجلود والتمور، ولم يكن ثمة مال لتغطية استيرادات المواد الغذائية، وتقلص عدد الحجاج بشكل مأساوي (من 191 ألفا عام 1926 إلى 29 ألفا عام 1932). وخوت الخزانة. وشرع الموظفون الذين لم تدفع رواتبهم لعدة أشهر بفرض أتاوات على السكان وتوقف دفع المخصصات لشيوخ العديد من القبائل. وبدأ الجوع يجتاح البلد.

غير أن الوضع الاقتصادي المزري واستياء السكان لم يكونا كافيين بحد ذاتهما لكي تحرز الحركات المناوئة للسعوديين داخل البلاد نجاحات تذكر. كانت قد أنشئت في مصر، بعيد سقوط جدة رابطة الدفاع عن الحجاز ومن قادتها عبدالرؤوف الصبان والشقيقان الدباغ وكان النزاع بين ملك مصر فؤاد وابن سعود قد دفع المصريين إلى تأييد هذه المنظمة المهجرية. في أواخر العشرينيات أسس المعارضون الحجازيون، بتشجيع من الملك عبد الله، حزب الأحرار الحجازي لطرد النجديين من الحجاز وإقامة دولة مستقلة. وتزعم الحزب طاهر الدباغ الذي كان في زمن الملك على سكرتيرا للحزب الوطني الحجازي. وكان بين قادة الحزب الجديد الشريف شاكر والشريف خالد وحسين الدباغ وعلي الدباغ ومحمد أمين. وحاول الأحرار الحجازيون تأسيس فروع للحزب في مختلف مدن العالم العربي. وتوجيه حسين الدباغ إلى القاهرة مزوداً بمبلغ كبير من المال، حيث أقام صلة بحامد بن سالم بن رفادة الملقب بالأعور وهو من شيوخ قبيلة بلي التي غادر عدد من أفرادها الحجاز إلى مصر بعد التحركات المناهضة لآل سعود عام 1929.

وجرت مساع لإيجاد أنصار في جنوب الجزيرة، فزار حسين الدباغ عدن حيث التقى بعدد من الأدارسة القاطنين في المهجر. وكان يأمل أن تؤازر العمليات المسلحة في الشمال بانتفاضة في عسير، تليها انتفاضة شاملة في الحجاز. ولما عاد حسين الدباغ إلى القاهرة أكد لإبن رفادة أن الاستياء يعم الجنوب وأن الناس هناك في انتظار إشارة البدء.

في أواسط مايو 1932 عبر ابن رفادة وقبيلته الحدود المصرية قرب العقبة حيث زوده سعود الدباغ بالمؤونة. وسرعان ماظهر ابن رفادة ومسلحوه في شمال الحجاز. ويبدو أن نشاطات (أحرار الحجاز) لم تكن خافية على ابن سعود. فما أن علم بظهور قوة ابن رفادة، أمر في يونيو 1932 بأن يعتقل فورا جميع المعارضين في مكة، وكان بينهم عدد من آل الدباغ، وحظر نشاط كل الأحزاب السياسية في الحجاز.

وفي الوقت نفسه أرسل عبد العزيز وحدات محمولة بالسيارات إلى ضبا والبدع لتطويق ابن رفادة. وتولت القوات البريطانية إغلاق الحدود بين شرق الأردن والسعودية ووصلت العقبة باخرة بريطانية للحيلولة دون مرور المؤن والذخائر إلى الحجاز. وأغلق عبد العزيز الحدود من جهته. لم يحصل ابن رفادة ومسلحوه من قبيلة بل على دعم السكان فاحتموا بجبل شار على بعد 50 كيلومترا من ضبا. واستدرجهم عبد العزيز من هناك بعد أن أوعز إلى أعيان ضبا بأن يبعثوا رسالة إلى ابن رفادة يعربون فيها عن استعدادهم للانضمام إلى حركتة. فنزل زعيم البلي من الجبل ووقع في الكمين وطوقت وحدته وبعد معركة قصيرة دمرت تماما. وفي هذه المرة استخدم عبد العزيز السيارات والمصفحات على نطاق أوسع مما أثناء قمع انتفاضة الإخوان.

بذا منيت مغامرة ابن رفادة و(أحرار الحجاز) بالهزيمة قبل أن تبدأ حركة أنصارهم المسلحة في عسير. نصت المعاهدة المعقودة مع ابن سعود عام 1920 على احتفاظ محمد الإدريسي بالسيادة على جنوب عسير وجزء من تهامة اليمن. ولكن الوضع أخذ يتغير بشكل جذري بعد الاستيلاء على الحجاز. ففي ظل الدولة السعودية القوية تحول استقلال إمارة الأدارسة إلى مسألة شكلية صرف. واستغل إمام اليمن يحيى انشغال النجديين في عمليات بالحجاز، فضم إلى ممتلكاته الحديدة وجزءا من تهامة في أبريل 1925، مما أدى إلى تأزم العلاقات بين ابن سعود ويحيى.

وبعد الاستيلاء على الحديدة تقدمت قوات أحمد بن يحيى نحو الشمال مهددة مراكز عسير الأساسية وهي جيزان وصبيا وأبو عريش. وكان من الواضح أن الإمام يحيى يعتزم إلحاق جنوب عسير كله باليمن. انتابت أمير عسير الجديد الحسن الإدريسي مخاوف من اليمنيين، فعقد في 21 أكتوبر 1926 معاهدة حول الحماية السعودية لإمارته، وتخلى الأدارسة عن الاستقلال في السياسة الخارجية ولكنهم احتفظوا باستقلال ذاتي في الشئون الداخلية. وكانت تلك بداية النزاع السعودي اليمني. سحب يحيى قواته المرابطة بالقرب من جيزان وصبيا، وفي يونيو 1927 وصل صنعاء وفد سعودي للتفاوض. وأصر يحيى على أن عسير جزء من اليمن اقتطعه الأدارسة (الغاصبون والطارئون) فيما مضى. وسعى السعوديون للبرهنة على أن هذه المنطقة لاترتبط باليمن وطالبوا باستعادة جزء كبير من أراضي عسير التي احتلها الجيش اليمني عام 1925، وصولا إلى باجل.

لم يكن اليمن مستعدا لتوسيع شقة الخلاف. فقد كانت حدوده الجنوبية تشهد اشتباكات متواصلة مع قوات بريطانيا ومحمياتها. وفي عام 1928 قصفت الطائرات البريطانية عددا من المدن اليمنية. في 27 أكتوبر 1930 فرض ابن سعود على الحسن الإدريسي معاهدة جديدة حولت سلطة الأمير على مسألة شكلية صرف. ونصت المعاهدة على أن السلطة بكاملها ستنقل إلى ابن سعود بعد وفاة الحسن. وعند ذلك شرع الأدارسة بإقامة اتصالات سرية مع الإمام يحيى (أحرار الحجاز). شهد عام 1931 و1932 نزاعات مسلحة على الحدود السعودية اليمنية.

كان حسين الدباغ قد وصل إلى مدينة اللحية الساحلية عام 1930 مندوبا عن حزب الأحرار الحجازي، واتفق مع الحسن على القيام بعمليات مشتركة، وبدأ تزويد أمير عسير بالمؤن والذخائر. وفي عام 1932 حاول التحرر من الحماية السعودية.

بدأت الانتفاضة في نوفمبر 1932، وبعد بضعة أيام دمرت قوات الحسن ففر إلى صبيا. وجاء في تقرير للقنصلية السوفييتية في جدة: (إن الحركة في الجنوب قد هيئت من قبل. نفس المنظمة التي وجهت نشاطات ابن رفادة صيف 1932، والتي عملت بإيعاز من عمان (شرق الأردن)... وكان نشاط المنظمة، كما في حالة هجوم ابن رفادة على الحجاز، يهدف إلى إقامة اتصال مع سواحل عسير وأذكاء الدعاية المناوئة للسعوديين وإرسال موفدين إلى بعض البلدان الأوروبية لشراء الأسلحة ونقل المؤن والذخائر إلى سواحل عسير بالقوارب الشرعية.... وبعد بدء الانتفاضة وصل إلى جيزان قارب شراعي وعلى متنه علي الدباغ وعبد العزيز اليماني، وجلبا كمية من الرز والطحين والتمر... ولكن بعد ثلاثة أيام من الحادث وصلت إلى جيزان وحدة حكومية ألقت القبض على اليماني. وحاول علي الدباغ الهرب على متن القارب الشراعي.... وفيما بعد تلقت السلطات بلاغا بأن علي الدباغ غرق في البحر).

إثر ذلك بقليل احتلت قوة سعودية باهرة خالد بن لؤي وعبد العزيز بن مساعد عسير بأكملها. وحاول الأدارسة والقبائل الموالية لهم المقاومة في الجبال، ولكنهم فروا فيما بعد إلى اليمن. وطالب عبد العزيز بتسليم المتمردين ولكن الإمام يحيى اشترط لذلك أن يعد الملك بالعفو عنهم. وفي مايو 1933 عاد عدد من الأدارسة إلى مكة حيث ظلوا تحت المراقبة ويتقاضون مرتبات. وأصبح حاكم عسير يعين من قبل الرياض.

منذ صيف 1932 أصبح واضحا أن النظام السعودي توطد وتحول إلى السيد الغير منازع في كل الأراضي الشاسعة لمملكة الحجاز ونجد وملحقاتها. وما السهولة التي تم بها قمع الانتفاضات في شمال الحجاز ومن ثم في عسير، سوى تأكيد على ذلك.

في 18 سبتمبر 1932 أصدر ابن سعود في الرياض الأمر الملكي بنظام (توحيد المملكة) التي تقرر أن تعرف من ذلك الحين باسم المملكة العربية السعودية. ويشير النظام إلى أن هذا التحويل لن يكون له أي أثر على المعاهدات والاتفاقات والالتزامات الدولية التي تبقى على قيمتها ومفعولها، شأنها شأن النظامات والتعليمات والأوامر السابقة. ويلزم النظام مجلس الوكلاء (الوزراء) الذي شكل في ديسمبر 1931 يوضع النظام الأساسي للمملكة ونظام توارث العرش. وفي عام 1933 عين عبد العزيز ابنه سعود وليا للعهد. ظل ابن سعود متمسكا بتكتيكه المعتاد في العفو عن الخصوم الذين كفوا عن محاربته في الوقت المناسب وشراء المعارضة، وأعلن عام 1935 العفو العام. وفي الوقت نفسه حل (حزب الأحرار الحجازي) نفسه. وعاد كثيرون إلى السعودية، فأصبح طاهر الدباغ مديرا للمعارف والشيخ الصبان عضوا في مجلس الشورى.

الحرب السعودية اليمنية

ثمة أمور كثيرة كانت تجمع بين الحاكمين السعودي واليمني. فإن كلا منهما تزعم في نفس الوقت تقريباً حركة توحيد بلده. وكل منهما حارب الأتراك وتمكن من الحصول على الاستقلال بعد الحرب العالمية الأولى. وشعر كلاهما بضغط الإمبريالية البريطانية. ولكن الصراع على عسير أدى بهما إلى الاشتباك العسكري.

في إبريل 1933 وأثناء قمع انتفاضة القبائل المناوئة للإمام في شمال اليمن، استولى الأمير أحمد على نجران بحجة أن عشيرة يام التي تعتبر فخذا من قبيلة همدان اليمنية قد ساعدت المتمردين. وفشلت المفاوضات التي أجراها وفد سعودي في صنعاء لتسوية النزاع. وقام الإيطاليون بتحريض الإمام ووعدوه بالمساعدة، وذلك سعيا منهم لتعزيز نفوذهم في اليمن. كما حرضه البريطانيون الذين كانت لهم مصلحة في صرف اهتمام يحيى عن محمياتهم في عدن.

عاود اليمنيون الهجوم في أكتوبر 1933 واحتلوا بدر. وبدأ الأدارسة يستنهضون أنضارهم من قبائل عسير ضد ابن سعود. وفي تشرين الثاني (نوفمبر) أمر ابن سعود بتعزيز القوات على الحدود ووجه إنذارا إلى يحيى بوجوب الجلاء عن الأراضي المحتلة وإعادة الحدود إلى سابق عهدها وتسليم الأدارسة. وخشية من ضربة سعودية قدم الإمام يحيى تنازلات جزئية لبريطانيا لحماية حدوده الجنوبية. وفي فبراير 1934 وقع الحاكم العسكري البريطاني في عدن ريلي معاهدة في صنعاء (حول الصداقة والتعاون المتبادل) فسرها البريطانيون فيما بعد على أنها تعني موافقة الإمام على السيطرة البريطانية في جنوب الجزيرة.

في أواخر فبراير وأوائل مارس عام 1934 عقد في أبها لقاء جديد بين مندوبي المملكتين. وقرر ابن سعود التخفيف من مطالبه وعرض أن تكون منطقة نجران المتنازع عليها محايدة. وبما أن يحيى لم يعط جواباً محدداً، فإن السعوديين بدأوا الهجوم.

كانت السعودية متهيئة للحرب أفضل من اليمن. إذ كان قد حصلت على قرض من شركة ستاندرد أويل أوف كاليفورنيا وتمكنت من شراء السلاح. وظهرت لديها أول وحدات الجيش النظامي. شن السعوديون هجومهم بطابورين: بمحاذاة تهامة وفي الجبال. وتمكن طابور بأمرة سعود من الاستيلاء على نجران بسرعة، ولكن تقدمه تباطأ في الجبال حيث كانت كل قرية قلعة حصينة.

وتقدمت قوة بأمرة فيصل في تهامة وفي الثاني من مايو استولت على الحديدة دون أن تخوض معركة. وظهرت بعض الوحدات بالزحف على صنعاء. وقد أعاقت وعورة المنطقة تقدم السعوديين الذين لم يعتادوا خوض معارك في الجبال. أضف إلى ذلك أن سفنا بريطانية وفرنسية وإيطالية اقتربت من الحديدة، وأنزل الإيطاليون المؤيدون للإمام قوة في الحديدة. وأدرك السعوديون أنه لن يسمح لهم بإلحاق الحديدة ناهيك عن اليمن كله. وقرر ابن سعود الاكتفاء بالقليل.

في 15 مايو 1934 وقع الأمير فيصل وعبدالله الوزير، وهو من أقرب مساعدي الإمام، الهدنة واتفقتا على شروط معاهدة الصلح. وفي العشرين من الشهر ذاته وقعا بالأحرف الأولى في الطائف على معاهدة الصداقة الإسلامية والإخوة العربية. وأبرمت المعاهدة في اليمن والسعودية. وفي 23 يونيو نشرت الصحف الرسمية في مكة وصنعاء وفي القاهرة ودمشق في وقت واحد نص المعاهدة. تضمنت المعاهدة 23 مادة وعهد تحكيم. وحددت مدة المعاهدة بعشرين سنة قابلة للتمديد. وأشارت المعاهدة إلى أن الشعبين السعودي واليمني هما من أمة واحدة، ونصت على إقامة علاقات سلمية وودية بين البلدين واعتراف كل منهما باستقلال الآخر وسيادته. وتخلى الإمام عن ادعاءاته بأراضي إمارة الأدارسة، وفي المقابل تنسحب القوات السعودية من الأراضي التي احتلتها. وتقرر تدقيق رسم الحدود. وألزم الإمام بدفع مائة ألف جنيه استرليني ذهبي كتعويضات. وأنجز رسم الحدود عام 1936.

بدأت العلاقات بين البلدين تأخذ مجراها الطبيعي، رغم أن ثلاثة حجاج يمنيين حاولوا قتل عبد العزيز بالخناجر في مكة في العام التالي لعقد المعاهدة. وقد أصيب الأمير سعود الذي حما أبيه بجسده بجرح في ظهره وكتفه وقتل الحراس الأشخاص الذين قاموا بالهجوم. بعد حرب 1934 صارت العلاقات بين آل سعود وبيت حميد الدين ذات طابع ودي، وبدأ التعاون السياسي بين العاهلين السعودي واليمني.

البنية الاجتماعية-السياسية

شغلت المملكة العربية السعودية الجزء الأكبر من شبه الجزيرة العربية وشملت عدداً من الكيانات الإقطاعية القبلية التي كانت تربطها عرقات تبعية متفاوتة بالدولة العثمانية. وأدى قيام دولة مركزية تطمن في المقام الأول مصالح الصفوة الإقطاعية القبلية عموما والتجار، إلى ضمان أمن سكان البلاد، ودفع ويلات التناحر الإقطاعي القبلي. غير أن الجماهير صارت عرضة لاستغلال ضرائبي متعاظم الوطأة، ولاضطهاد الفئة العليا والجهاز البيروقراطي المتضخم، في حين أن الحريات الديمقراطية العشائرية للبدو توارث تدريجياً ليحل محلها طغيان النظام الملكي الإقطاعي.

وقد اتخذ آل سعود من التبشير بالإصلاح الديني على الطريقة الوهابية ركيزة وراية في صراعهم من أجل توحيد أراضي نجد بزعامة الرياض. وفي حقبة تاريخية حرجة تزعم حركة الانبعاث الجديد لإمارة نجد زعيم إقطاعي ورجل دولة وقائد عسكري يعتبر فذا في الإطار المحلي، ألا وهو عبد العزيز بن عبدالرحمن (ابن سعود).

[ملف:خارطة الدولة السعودية الثالثة-1921.jpg|300px|تصغير|يسار|الدولة السعودية الثالثة في أقصى اتساعها عام 1921]]

وكان ينبغي أن تتوفر ظروف خارجية ملائمة ووضع دولي مناسب، لكي يصبح الطموح إلى المركزية وقيام الدولة المستقلة في نجد أمرا واقعا، ولكي تتمكن هذه الدولة من ضم بعض المقاطعات المجاورة. وقد ساعد على نجاح ابن سعود في المرحلة الأولى دعم بريطانيا له في كفاحه ضد الدولة العثمانية وولاتها، وانهيار هذه الإمبراطورية نتيجة للحرب العالمية الأولى، كما ساعده بعد ذلك عجز بريطانيا التي أخذ الوهن يدب في اقتصادها، عن فرض سيطرة مباشرة على جزء كبير من الجزيرة العربية التي بدت للبريطانيين غنيمة باهظة الثمن ومثقلة.

إن الباحث الموضوعي الذي يتعامل مع الوقائع لا يجد تغيرات جديرة بالاهتمام في مستوى تطور قوى الإنتاج في مجتمع الجزيرة خلال الثلث الأول من القرن العشرين بالمقارنة مع القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. بل يمكن الافتراض بأن الدمار الاقتصادي الذي أحدثته الحروب والانتفاضات المتتالية، بالإضافة إلى الأزمة المتفاقمة في تربية الإبل، قد أديا إلى انتكاس اقتصادي. وعند متابعة عملية نشوء العربية السعودية في القرن العشرين لانجد فيها طبقات أو فئات أو شرائح جديدة تختلف مبدئيا من حيث طابعها وموقعها في المجتمع عن القوى الاجتماعية التي كونت الدولة السعودية الأولى في القرن التاسع عشر تحت لواء الوهابية. بعد الحرب العالمية الأولى طرحت في عدد من البلدان العربية – مصر، سورية، فلسطين، العراق، الجزائر، المغرب – مسألة نيل الاستقلال الوطني للسير في طريق تطور مستقل يرتهن طابعه بتناسب القوى بين العناصر الإقطاعية والبرجوازية وبمستوى الاقتصاد ودرجة التحديث ونمو الطبقة العاملة.

وفي هذه الأثناء لم تكن في العربية السعودية المستقلة سياسيا حتى أجندة العلاقات الرأسمالية، بل إن الدولة تكونت على أساس إقطاعي قبلي بدائي في مجتمع قروسطي من حيث الجوهر. ولكن العربية السعودية لم تكن البتة معزولة عن العالم المحيط بها، لذا كان من المتعذر أن يبقى تركيبها الداخلي بمنأى عن التأثيرات الخارجية. وقد تجسد ذلك سواء في الأدوات الفنية لإقامة الدولة المركزية (اللاسلكي، التلفون، الطيران، السيارات) أو في الأشكال التنظيمية: استحداث الوزارات والمديريات والنظام المدرسي. غير أن التصادم بين المؤسسات الاجتماعية السياسية التقليدية النابعة من مجتمع العربية السعودية ذاته والمناسبة للإقطاع الشرق أوسطي، وبين نزعات التحديث المستقدمة من الخارج، لم يخل بالاستقرار الاجتماعي السياسي في الدولة خلال العقد الأول. ويعزي ذلك، في المقام الأول، إلى الضعف المطلق والنسبي لنزعة التحديث الوافدة من بلدان شرق أوسطية أكثر تطوراً بمراحل. كما يعزي إلى الهيمنة التامة للبنى التقليدية. ولم يبدأ التغير الجذري في الوضع إلا في أواخر الأربعينيات حينما أخل انفجار العوائد النفطية بالتوازن الاجتماعي القديم في البلد.

إن تسمية البلد ذاتها – المملكة العربية السعودية – تعني أنها واقعة تحت سيطرة آل سعود. ويرمز لون علم الدولة الأخضر إلى الجنة، وهو اللون الأثير لدى النبي محمد. وقد نقشت على العلم عبارة (لا إله إلا الله محمد رسول الله) ورسم سيف أبيض يرمز إلى الجهاد.

سلطة الملك - العلاقات بين الصفوة الإقطاعية العشائرية وعلماء الدين

إن تغير ألقاب الحاكم السعودي هو انعكاس لما حدث من تغيرات في سلطته السياسية. ونعيد إلى الأذهان أن الأتراك كانوا يخاطبون ابن سعود بعبارة حاكم نجد والقائد عبدالعزيز باشا بينما خاطبه الإنجليز بعبارة الشيخ عبدالعزيز بن الشيخ عبدالرحمن آل سعود. وفي عام 1921 بايعه الأمراء والشيوخ وعلماء الدين سلطاناً لنجد وملحقاتها وأصبح يلقب بصاحب الجلالة في المكاتبات الرسمية. وفي عام 1926 ملك العربية السعودية. ولكن هذه الألقاب جميعا كانت في المرحلة الأولى للاستهلاك الخارجي أساساً، ولتعزيز الهيبة الدولية للبلد وحاكمه.

أما داخل البلد فقد ظل ابن سعود بالنسبة للحضر أميراً، أي حاكماً إقطاعياً، لنجد والأراضي التي فتحها، ولذا كان تحول لقبه إلى سلطان وملك أمراً طبيعياً بالنسبة لهم. هذا بينما اعتبره البدو شيخ المشايخ. وقد أراد آل سعود تعزيز مكانتهم كشيوخ للمشايخ فنسبوا أصلهم إلى قبيلة عنزة وهي أكبر قبائل الجزيرة وأشدها بأساً. وتمكن عبدالعزيز من السيطرة على البدو الكثيري العدد والصعبي القياد في السابق، وذلك باستخدامه الحاذق لأرستقراطية القبائل والجمع بين أساليب الضغط والتنكيل وبين توزيع الهبات وإغداق العطايا على الأعيان.

خلعت على سلطة الطغيان المسموح الأبوية – الديمقراطية. فقد كان بإمكان أفقر البدو مخاطبة الملك بكل بساطة وبدون ألقاب. وكان عبدالعزيز يحب أن يسمي ابن فيصل تذكيرا بجده، أو ابن مقرن تذكيرا بواحد من أسلافه وأصل الفخذ السعودي، أو أخا نورا، وهي أخته الأكبر التي كن لها الحب والاحترام. ثمة مثال أعلى للعربي القح إبن الجزيرة، أنه مثال البدوي الذي تضفي عليه مسحة رومانسية في مجتمع الجزيرة وفي بعض البلدان العربية الأخرى : فهو محارب شجاع، يسهر على حماية الإسلام وسموح مع المغلوب، علاوة على أنه رجل فحل. وقد تعمد ابن سعود أن يخلع على نفسه هذه الصفات طلبا للهيبة والجاه.

لكن (ديمقراطية) و (أبوية) الملك لم تخدعا كل من أدرك الموقع الحقيقي للملك المطلق في نظام الدولة المركزية.

لقب عبدالعزيز، شأن أسلافه، بالإمام. ولم يكن ذلك يعني أن يؤم المصلين فحسب، بل يعني أيضاً زعامته لجميع الموحدين المناهضين للمشركين من مسلمي البلدان الأخرى. ورغم انحسار روح العصبية لدى الجماهير بعد فشل انتفاضة الإخوان، فإن اتباع الإمام بوصفه الزعيم الديني كان عامل توحيد للمجتمع وجعل من الدين هالة تضفي على أعلى سلطة في الدولة.

لقد كان رئيس دولة الموحدين في الوقت ذاته قائدهم العام الذي يستنهضهم للجهاد ضد المشركين. وأدى عبدالعزيز هذه المهمة بنجاح أثناء حروبه الاغتصابية. ح-ذا عبدالعزيز حذو أسلافه في اتخاذ التقاليد الإسلامية، وبخاصة تعاليم ابن تيمية، مصادر يستمد منها الحجج لتدعيم السلطة المركزية. وكان ابن تيمية يرى أن المجتمع المثالي هو الذي يكون فيه الرأي المطاع لفئتين: العلماء المتمسكين بالشريعة والأمراء الحائزين على السلطة السياسية اللازمة لتطبيق أحكام الشرع.

ويجب على رعايا الأمير إطاعته دون قيد أو شرط. والأمير هو المشرف على التطبيق السليم لأحكام الشرع التي تشمل المسلمين كافة، وهو الذي يتولى تنفيذ الأحكام القضائية ويقوم بعمل الخير والإشراف على الأشغال وتوفير الأمن للرعية وضمان عمل الخدمات العامة بشكل طبيعي، وهو أخيرا الجهة التي تصدر عنها التوجيهات الاجتماعية والاقتصادية التي تكفل لكل فرد العزة في إطار الشريعة وطبقا لموقعه في المجتمع.

يتشاور الأمير مع العلماء في إدارة أعماله، ولكن من حق الأمراء التصرف وفق ماتمليه عليه ضمائرهم. والأمي ملزم بالتمسك بأحكام الكتاب والسنة وفقا لتفسيرات العلماء. وهذا يوفر للعلماء وسائل هامة، وإن كانت محددة، للتأثير والرقابة. ومن الناحية النظرية فإن الأمراء أحرار في تصرفاتهم في كل مالا يتعلق بالدين، ولكن من الناحية العملية يتخلل الإسلام كل ميادين الحياة في السعودية. لذا يلعب العلماء في المجتمع الوهابي دوراً هاماً ومما يزيد من هيبتهم أن الكبار منهم ينتسبون إلى آل الشيخ الذين تصاهروا مع آل سعود منذ أمد طويل.

إبان الأزمة التي سببتها عصبية الإخوان عامي 1914-1915، أصدر عبدالعزيز مرسوماً، وأصدر العلماء فتوى، يدينان تعصب الإخوان ومغالاتهم. غير أن علاقات ابن سعود بالعلماء شهدت فترات تأزم. وحسبنا التذكير بأن العلماء وقفوا ضد استخدام التلغراف واللاسلكي. وعلى أية حال فقد كانت الغلبة لإرادة عبدالعزيز عند حصول نزاعات حول قضايا كبرى ومبدئية. فذات مرة عارض العلماء زواج عربي غير وهابي على فتاة من إحدى عوائل الرياض العريقة، ولكن عبدالعزيز لم يحفل برأيهم بل وطرد ثلاثين عالما من نجد. ولعل النزاع حول هذه المسألة كان مجرد حجة اتخذها الحاكم للتخلص من علماء لايستأنس بهم. وكان يطلب من كل فرد في البلد إطاعة الأمير وإسداده النصح عند الاقتضاء. وفي عام 1950 قال فيصل في خطاب ألقاه عند افتتاح مجلس الشورى أن (واجب الرعية هو مساعدة الجهات المنوط بها أمر التنفيذ، لتسهيل مهمات السير بحسب الأوامر والتوجيهات التي توجه إليهم).

كان عبدالعزيز يتظاهر دوماً باحترام العلماء ولهم في مجلسه كلمة مسموعة، كما أنه كان يستمع إلى نصحهم. وقد أظهر العلماء سلطتهم حينما قرر ابن سعود الاحتفال بالذكرى الخمسين لجلوسه على العرش. ورد العلماء بأن الإسلام لايعرف عيدا من هذا القبيل فوافق الملك على رأيهم. وفي بعض الحالات كان عبدالعزيز يتعامل مع ملاحظات العلماء بروح النكتة. فقد روى أنه كان يتمشى في قصره بالرياض وعليه ثوب طويل يمس الأرض، فدخل عليه أحد العلماء وقال (الله يا عبدالعزيز! لقد دخلك الكبر وصرت تجر ذيلك وراءك). التفت عبدالعزيز إلى الخدم في الحال قائلاً: (هاتوا المقص). فلما جاؤوا به أعطاه إلى الشيخ وقال : (قص ماتراه مخالفا للدين!).

كتب فيلبي عام 1918 يقول أن عدد العلماء ستة في الرياض وثلاثة في القصيم وثلاثة في الإحساء وهناك عالم واحد في كل من مناطق نجد الأخرى، ويقرب عددهم الإجمالي من العشرين. ويبدو أنه يقصد كبار العلماء فقط، وعلى أية حال فإن عددهم في العاصمة كان يتغير من عام لعام.

كان العلماء في السعودية يعتبرون متضلعين في الفقه والشرع بفضل عمق إيمانهم وانكبابهم على الدراسة. ومن الطبيعي أن العلماء ينتسبون في العادة إلى قبائل (كريمة المحتد) أو من السادة، الذين يعتبرون من سبط النبي. إلا أن أكثر علماء السعودية هيبة وثقة هم أفراد آل الشيخ، رغم أنهم ليسوام ن السادة. وكانت تربط آل الشيخ صلات قربى مع عبدالعزيز تعود إلىزمن عبدالعزيز الأول وابن عبدالوهاب. وكان الملك فيصل الذي قتل عام 1975 إبنا لعبدالعزيز من زوجة من آل الشيخ.

حينما حان الوقت لإجراء تحديث ولو جزئي في الدولة الإقطاعية وقف العلماء وقفة حازمة ضد التغيير، وما برحوا متمسكين بموقفهم حتى يومنا هذا. وفي يونيو 1930 احتج العلماء الذين اجتمعوا بمكة على إدراج مواد مثل الجغرافيا واللغات الأجنبية والتخطيط الهندسي في برنامج مديرية المعارف المؤسسة حديثاً. وزعموا أن التخطيط الهندسي هو تصوير بكل حال، أما اللغات فاعتبروها وسيلة لمعرفة الأفكار الدينية للمشركين، وأثارت الجغرافيا نقمتهم لقوها بكروية الأرض. بيد أن عبدالعزيز تجاهل احتجاجاتهم. وفي حالات أخرى وقف علماء الرياض إلى جانب عبدالعزيز مناهضين لتعصب الإخوان.

في مطلع الخمسينات تكون نوع من السلم الوظيفي بين علماء الدين. فقد اعتبر مفتي الديار السعودية بمثابة رئيس للعلماء. وحظي بهيبة خاصة رئيس جماعة الأمر بالمعروف في الرياض وقاضي القضاة في مكة وقاضي الدلم وقاضيا المحكمة الشرعية في الرياض وعضو لجنة الأمر بالمعروف في الرياض.

لعب عبد الله بن محمد بن عبد اللطيف، وهو فقيه وخطيب شهير من آل الشيخ، دورا هاما في إرساء الركيزة الدينية للدولة المركزية. وقد درس في المدينة وتونس والقاهرة وطاف المغرب وأسبانيا والهند وأفغانستان وإيران والعراق. وقد انضم إلى آل سعود إبان فترة نفيهم في الكويت وتتلمذ عليه عبدالعزيز. وظل عبدالله حتى وفاته عام 1925 زعيماً لاينافس لآل الشيخ. ويقول فيلبي أنه كانه يلقي خطب الجمعة في مسجد الشيخ عبدالله بحي العلماء في الرياض ومواعظ في المسجد الجامع بالرياض، كما أنه كان قاضي القضاة في العاصمة.

أدى قيام المملكة العربية السعودية وتوطد استقلالها وانبعاث بعض المؤسسات الاجتماعية السياسية الإسلامية إلى استنارة الاهتمام بالوهابية من جديد خارج حدود المملكة. ففي مصر وجدت مجموعة محمد رشيد رضا التي كانت مجلة (المنار) أساسا لها، وجدت في الوهابية آراء مماثلة لما تدعو إليه. فقد كانت هذه المجموعة تدعو إلى تحديث المجتمع الإسلامي بالاستفادة من منجزات الحضارة الغربية (الأوروبية، الرأسمالية) وتطالب من جهة أخرى بالعودة غير المشروطة إلى القيم الإسلامية وبعث الأفكار والمؤسسات التي كانتق ائمة في صدر الإسلام، واعتمادها في كل مناحي الحياة. وقد هيأت مجموعة رضا التربة لانتشار أفكار حسن البنا مؤسس حركة الإخوان المسلمين. وألف رضا نفسه عدة كتب يثنى فيها على الوهابية. وفي داخل مصر كان يمكن اعتبرا ذلك تعبيرا عن الميول المعارضة للملك فؤاد، لأن العلاقات بين مصر والسعودية ظلت مقطوعة حتى عام 1936 بسبب حادث المحمل.

تنظيم سلطة الدولة والإدارة في نجد

مملكة الحجاز في أقصى اتساع لها.

في معرض الحديث عن أوضاع نجد والحجاز في الدولة الموحدة قال فؤاد حمزة: "أما من الوجهة الحقوقية والقانونية فإن كلا من الحجاز ونجد كان مملكة مستقلة عن الأخرى لاتجمع بينهما إلا رابطة العرش المشتركة وشخص الجالس على هذا العرش". ومن جهة أخرى أشار المؤلف إلى أنه لم تكن بين المملكتين حدود مرسومة ولا رسوم، ولهما سياسة خارجية موحدة، ناهيك عن القوات المسلحة الموحدة وهي بيت القصيد. وفي فترة 15-20 عاما الأولى كانت الفروق في الإدارة بين شقي المملكة ملموسة، ولكنها تضاءلت بالتدريج. وكانت السلطة الفعلية كلها في يد الملك ابن سعود وحاشيته.

قام البلاط الملكي في الرياض بوظائف الحكومة في البلد كله وفي الوقت نفسه كان يؤدي وظائف حكومة نجد. ويفصل الزركلي الوثيق المعرفة بالبلاط تركيبه على النحو التالي:

  • المجلس الخاص وكان الملك يسمي أعضاءه بالجماعة أو الربع. وكان هؤلاء يعقدون، برئاسة الملك، اجتماعين في اليوم : قبل الغذاء وفي المساء. ويحضر المجلس شقيق عبدالعزيز الأمير عبدالله بن عبدالرحمن وولي العهد سعود ونائب ملك الحجاز فيصل، إن كان متواجدا في الرياض. ثم كان يحضره الوزراء والمستشارون وكبار العلماء وسائر الوزراء والسفراء السعوديين المتواجدين في الرياض. وقد يضم المجلس أمراء المناطق وشيوخ القبائل.
  • الشعبة السياسية واختصاصها الشئون الخارجية.
  • الديوان الملكي واختصاصه الشئون الداخلية.
  • شعبة الشفرة والبرقيات.
  • شعبة البادية واختصاصها داخلية نجد.
  • شعبة المحاسبات والأعطيات.
  • شعبة الوفود والضيافة. واختصاصها السهر على راحة الوفود والإشراف على القصور الملكية المخصصة لضيوف الملك. وكان الوافدون يقسمون إلى ثلاث فئات : كبار الضيوف، ووفود الحضر، ووفود البلاد.
  • الخاصة الملكية واختصاصها ما يتعلق بشئون القصر الملكي.
  • شعبة أهل الجهاد واختصاصها النظر في شئون الجند غير النظامي.
  • شعبة الخزينة الخاصة.
  • شعبة المخازن الخاصة (المستودعات).
  • شعبة الحاشية.
  • شعبة الخيل.
  • شعبة الإبل واختصاصها النظر في إبل (الخاصة الملكية).
  • شعبة السيارات.
  • شعبة الإذاعة التي أسست بعد ظهور اللاسلكي في البلد، وكانت تتولى أيضا الإنصات بالعربية واللغات الأجنبية وتعد نشرات موجزة للملك.
  • شعبة الحرس الملكي.
  • ا لشعبة الصحية واختصاصها طبابة القصر الملكي.

ويتطابق وصف الزركلي للبلاط الملكي مع ما أورد نالينو عموماً، ولكن هذا أدرج ضمن سلسلة وظائف الديوان الملكي شئون الحجاز وعسير الإحساء، وذكر شعبتي الزكاة والخزانة العامة اللتين ألغيتا شكليا بتأسيس وزارة المالية، وشعبة التلاوات والمؤذنين التي لم يذكرها الزركلي. ولكن لانعتقد إن هناك تعارضا بين المؤلفين. فالأرجح إن شعب البلاط الملكي كان يمكن أن تظهر وتختفي وتدمج، يعلو شأنها أو تصبح ثانوية تبعا لوزن مسئوليها وعمق صلتهم بالملك. ولم تكن توجد أية قواعد مكتوبة أو أحكام مدونة تثبت بنية البلاط الملكي، وظلت الكلمة الفصل في كل القضايا للملك.

أما بالنسبة للمحافظات الرئيسية فإن الملك كان يعين أمراءها للفترة التي يرتئيها. ولم توجد في الثلاثينات قوانين أو أصول للإدارة المحلية في نجد وملحقاتها. وكان أمراء التقسيمات الإدارية الأصغر يعينون من قبل حكام المقاطعات، ولكن بوسع الملك التدخل في اختيارهم. وفي البدء كان البلد، باستثناء الحجاز، مقسما كما يقول فؤاد حمزة إلى خمس مقاطعات كبرى هي نجد التي ضمت إليها العارض والمناطق المجاورة، والقصيم وجبل شمر والإحساء (حيث يحكم آل جلوى) وعسير. ومن الناحية العملية فصلت عن جبل شمر مقاطعة وادي سرحان، بينما قسمت عسير إلى عسير وعاصمتها أبها وتهامة ونجران.

وأسندت إلى سلطات المحافظات مهمة الإشراف على قبائل البدو. ويذكر ماكاي فرودا أن قبائل عتيبة وجزءاً من مطير والدواسر وقحطان وسبيع كانت تابعة لحاكم العارض، وأن العجمان وبنو هاجر وبني خالد والحوازم والمناصير وآل مرة وجزءا آخر من مطير تابعة لحاكم الإحساء، وجعلت شمر وشرارات وجزء ثالث من مطير تحت إشراف أمير جبل شمر. وتجدر الإشارة إلى أن قبيلة مطير المتمردة على آل سعود قسمت إلى ثلاثة أقسام.

لم يقتن الحكم الذاتي للمنطقة الشرقية بمراسم خاصة، ولكن في أواخر الثلاثينات كان قد تم هناك استحداث مؤسسات بيروقراطية خاضعة لابن جلوى، وجعل أقارب بن جلوى حكاما لأهم الواحات وشكلت في الهفوف مديريات الشرطة والمالية والجمارك وخفر السواحل وفرع لمديرية المعادن في جدة.

إدارة الحجاز

أقام ابن سعود في الحجاز نظاماً معقداً للسلطة والإدارة. ففي أغسطس 1926 أصدر الملك وثيقة تعرف باسم (التعليمات الأساسية للمملكة الحجازية) وهي تسمى أحياناً (الدستور). وتنص الوثيقة على أن (المملكة... مرتبطة بعضها ببعض ارتباطا لايقبل التجزئة ولا الانفصال بوجه من الوجوه) وإن الحجاز (دولة ملكية شورية إسلامية مستقلة في داخليتها وخارجيتها) وأن (مكة المكرمة عاصمة الدولة الحجازية). وأن (إدارة المملكة بيد صاحب الجلالة عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل آل سعود وهو مقيد بأحكام الشرع).

ونصت الوثيقة على أن تتولى تصريف شئون الدولة الحجازية ست شعب أساسية:

  • الشرع.
  • الداخلية.
  • الخارجية.
  • المالية.
  • المعارف.
  • الجيش.

وأكدت مادة خاصة على أن الشئون العربية وكل مايتصل بها من وظائف خاضعة لإشراف الملك. كما نصت الوثيقة على تأسيس مجلس شوري يضم نائب الملك ومستشاريه وستة من أشراف الحجاز يعينهم الملك. كما تشير الوثيقة إلى وجود نية لإنشاء مجالس إدارية في المدن الرئيسية تمنح صلاحيات البلديات، ولكن قراراتها لاتسري إلا بعد مصادفة الملك. وتقرر أيضا إنشاء مجالس في الوحدات الإدارية الصغيرة.

بدا لإبن سعود أن بعض التعليمات الأساسية تتناقض وسلطته المطلقة. لذا فإن المواد 28-37 المتعلقة بمجلس الشورى والمجالس المحلية تجوهلت بعد مضي عام، في حين أن المواد 43-45 حول تشكيل هيئات لها حق الإشراف على نفقات الخزانة لم تطبق قط وبطل مفعولها فيما بعد.

ثمة خاصية جوهرية (دستور) الحجاز تتمثل في الغياب التام للأحكام المتعلقة بالحقوق الفردية والعامة، وكذلك الأحكام التي تحد من سلطة الملك المقيد بأحكام الشرع فقط. ويقول الزركلي الذي درس النشاط العملي لهيئات السلطة في الحجاز، إن مجلس الشورى كان يعالج القضايا المتعلقة بميزانية دوائر الدولة والبلدية ويتولى إعطاء الرخص للشروع في عمل مشاريع اقتصادية وعمرانية ويسن القوانين والأنظمة ويبت في استخدام الموظفين المحليين والأجانب، ومن عام 1932 أضيفت إلى اختصاصاته العناية بشئون الحجاج.

ويشير الزركلي إلى أن صلاحيات المجلس تشريعية واستشارية، وكان بوسعه أن يلفت نظر الحكومة (يقصد بذلك مجلس الوكلاء – مجلس الوزراء – الذي شكل في الحجاز). إلى أي خطأ في تطبيق القوانين والأنظمة، وإقرار أو نقض أو تعديل مشاريع الحكومة.

وفي يوليو 1928 صدر مرسوم ملكي يقضي بتشكيل مجلس شورى للحجاز ونجد سوية، ولكن هذا المرسوم لم يطبق. كما لم تصدر قرارات تقصر صلاحيات مجلس الشورى على الحجاز، أو تقضي بشمول سائر أرجاء المملكة بها. وقد أنجز المجلس حتى عام 1950 مئات من الأنظمة والتعليمات حول مختلف القضايا لتحديد وضع الهيئات الحكومية والعامة والقضاء الشرعي والصحة والبرق والبريد والتلفون. وفي الواقع طبق العديد من أنظمة وتعليمات مجلس الشورى في الحجازي في سائر أرجاء البلد.

قبل الاستيلاء على الحجاز كانت الروابط بين نجد والعالم الخارجي تجري بأكملها تقريباً عن طريق الخليج. وتولى الملك المكاتبات ومتابعة الاتصالات وكان يعطى الإيعازات لمندوبيه في المفاوضات. وبعد ضم الحجاز تعقدت الروابط الدولية للملكة الجديدة. وكان في جدة عدد من القناصل الأجانب الدائمين. كما أن وفود الحجاج كان يضع أمام حاكم الحجاز عددا من القضايا الحساسة. لذا ظهر منذ عام 1925 شيء أشبه بمديرية الشئون الخارجية وترأسها يوسف ياسين السوري المولد الذي كرس نفسه لخدمة ابن سعود. وقد شارك مع المصري حافظ وهبة مفاوضات بحرة وحدة عام 1925، وشارك في بعثات دبلوماسية أخرى فيما بعد. وقد ترأس في مكة تحرير صحيفة أم القرى وتولى رئاسة الدائرة السياسية لدى الديوان الملكي. وفي عام 1930 أصدر ابن سعود مرسوما بتشكيل وزارة الخارجية التي أسندت لابنه الثاني فيصل نائب الملك في الحجاز.

أقامت العربية السعودية علاقات دبلوماسية مع الاتحاد السوڤيتي في 16 فبراير 1926، وفي الأول من مارس 1926 مع بريطانيا العظمى وفي الشهر نفسه مع هولندا وفرنسا وتركيا، وفي عام 1928 مع ألمانيا وفي عام 1929 مع إيران وپولندا وفي 1931 مع الولايات المتحدة الأمريكية وفي 1933 مع إيطاليا وفي 1936 (بعد وفاة الملك فؤاد) مع مصر. وكان في السعودية عام 1950 سفاراتان: أمريكية وبريطانية، أما الدول الأخرى فقد تمثلت ببعثات دبلوماسية. وغادرت البعثة السوڤيتية جدة في 1937/1938، ولكن العلاقات الدبلوماسية بين البلدين لم تقطع رسمياً.

تولى كل شئون الخزانة في إمارة الرياض خلال الحقبة الأولى شخص يدعى عبدالله السليمان ولم يكن لديه هلاك خاص من المساعدين. وانشئت في كل بلدة إدارة لجباية الزكاة مستقلة عن غيرها ومحاسبة إمام الأمير والملك. وقد كانت على غرار هيئات الضرائب في الدولتين السعوديتين الأولى والثانية. وأسست في مكة عام 1927 مديرية المالية العامة وترأسها عبدالله السليمان ذاته. ومن عام 1929 جعلت المديرية وكالة، أي صارت وزراة عملياً. وفي عام 1932 قرر الملك تحويل الوكالة إلى وزارة المالية ذات الصلاحيات الواسعة وأسندت إلى عبدالله السليمان اياه. واضطلعت الهيئة الجديدة بصلاحيات وزارة الاقتصاد. وربطت بالوزارة إدارات التموين والحج والزراعة والأشغال العامة والسيارات. كما كان من صلاحيات الوزارة توقيع عقود الامتياز لاستخراج الذهب والنفط، وشكلت إدارة المعادن والنفط تابعة لها. وعمل سوريون ولبنانيون ومصريون وعراقيون كخبراء في الوزارة. استمر توسع الوزارة وبلغ عدد العاملين فيها عام 1949 زهاء 5400 شخص.

يعود تاريخ مجلس الوزراء في الحجاز برئاسة فيصل نائب الملك، إلى يناير 1932 حينما شكل مجلس الوكلاء بصلاحيات مماثلة لصلاحيات مجلس الوزراء، ولكنها غير مطابقة لها كليا. وقد ضم المجلس الرئيس، أي نائب الملك ووكلاء الخارجية والمالية والداخلية وأعضاء مجلس الشورى.

وكانت وزارةالداخلية تضم إدارات الصحة والمعارف والبرق والبريد والتلفون واللاسلكي والقضاء والحربية ومديرية الأوقاف و الكعبة والبلديات والثروة المائية والمحاجر الحصية وخفر السواحل والشرطة العامة. تأسست في مكة عامة 1925 "إدارة الأمن العام". وقد شكلت شرطة حماية الأخلاق وشعبة التفتيش والمحاسبة ومراقبة الأجانب. وشمل نشاط ادارة الامن العام كل أنحاء العربية السعودية، وأنشئت إدارات وتشكيلات لها في كل مدينة كبيرة. وفي مطلع الأربعينيات أنشئت في مكة مدرسة للشرطة.

كان لنائب الملك فيصل ديوان بمكة يضم مكتباً خاصاً للمكاتبات السرية والخاصة، ومكتبا لتلقي المعلومات والأوراق الرسمية، ومكتب اللجنة الدائمة لمجلس الوكلاء، وشعبة الخيل وشعبة البادية وشعبة الجيش – الابل – وشعبة السيارات.

إن كلمة وزير ليست غريبة عن النجديين، ولكنها خلافا للعالم الخارجي، تعني لديهم السكرتير. فحتى الآونة الاخيرة كان لكل أمير وزير، ولدى كبارة الامراء عدة وزراء يتولون الحسابات والمراسلات وغيرها من الشئون. لذا فان كلمة وزير بمفهوما الأوربي والعام تنطبق أكثر على مسؤولي ادارات الديوان الملكي الذين تولوا تصريف الشئون العامة باشراف الملك. منذ عام 1925 انشئت مصلجة الصحة العامة التي اخذت صلاحياتها ووظائفها في الاتساع. وبعد مرور بضع سنوات أنشئت ادارات للصحة في كبريات المناطق. عام 1931 أنشئت مديرية خفر السواحل ومركزها جدة و أوكلت إليها شؤون الموانئ وخفر السواحل ومكافحة التهريب وتنظيم الملاحة. عام 1926 أنشئت بلدية مكة بميزانية خاصة، وسن لها نظام هام عام 1929 وعدل عام 1938.

عند حلول عام 1934 عام الحجاز قد قسم إلى 14 محافظة، ويخضع أمراء كل منها لوزير الداخلية شكليا ولنائب الملك فيصل عمليا. وأوكل إلى المحافظين الإهتمام بشئون البدو. حينما أصدر ابن سعود في 18 سبتمبر 1932 مرسوما حول توحيد أجزاء المملكة العربية أصبحت هذه المملكة كلا واحدا من حيث التركيب الإداري. فقد أشارت المادة الخاصة من المرسوم إلى أن تشكيلات الحكومة الحاضرة في الحجاز ونجد وملحقاتها تظل على حالها مؤقتاً إلى أن يتم وضع تشكيلات جديدة للمملكة كلها على أساس التوحيد الجديد. وكلف مجلس الوزراء الحجازي بأن يشرع فورا في اعداد النظام الأساسي (الدستور) للملكة ونظام تشكيلات الحكومة. ولم ينجز ذلك أبدا. وظلت الفوارق الإدارية بين الحجاز ونجد قائمة لفترة طويلة لم تزل بشكل نهائي حتى الوقت الحاضر.

مهما تعقد الجهاز الإداري البيروقراطي في العربية السعودية، فإن كل القرارات الأساسية تتخذ من قبل الملك وحاشيته. لذا فإن المقريبن للعاهل كان لهم القدر الأكبر من السطوة في الدولة. ويقول فيلبي "أن الأشخاص الذين كان ابن سعود ينتقيهم للمناصب الإدارية في مملكته ظلوا في مناصبهم حتى نهاية حياته عمليا. وكان ذلك تعبيرا عن سمة محددة في مزاج الملك: العزوف عن الاختلاط مع الغرباء، وان كان متسترا بالضيافة الرائعة الواهتمام الودي الخالص بالضيف. وكان يؤثر أن يرى دوما من حوله، ليلاا ونهار، سنة أثر سنة، نفس الأشخاص أو أفراد العائلة أو الإداريين أو الخدم أو رفاق السلاح. فهو لا يستطيع أن يصبح على سجيته بشكل كامل إلا معهم. وكان بوسعه أن يثق بهؤلاء الأشخاص لمعرفته بهم عن كثب، ولعلمه بمزاياهم ونواقصهم. وكان يغدق على هؤلاء بلا حدود، كلما تزايدت موارده". فعلى سبيل المثال لم يتسقل عبد الله السليمان من منصبه كمسؤول عن المالية إلا بعد وفاة عبد العزيز وتولي محمد سرور الصبان مسؤولية المالية.

كان من بين مستشاري ابن سعود شخص يدعى عبد الله الدملوجي، وهو عراقي من مدينة الموصل، إستقدمه ابن سعود عام 1915 بصفة مستشار طبي وطبيب، وللإلمامه بالفرنسية أوكل إليه استقبال الضيوف الأجانب في ديوان ابن سعود بالرياض. وبعد الإستيلاء على الحجاز عين ممثلا شخصيا للملك في جدة، ثم صار نائباً لوزير الخارجية (وكان فيصل الولد الثاني لبن سعود ووزيراً أنذاك) وظل يشغل هذا المنصب حتى سنة 1930. وقد خلفه فؤاد حمزة وهو فلسطيني، وعمل في وزارة الخارجية حتى وفاته. وعمل مع ابن سعود حافظ وهبة ويوسف ياسين. وحافظ وهبة مصري احتجزه البريطانيون في فترة من الوقت في مالطا بسبب ثورة 1919 في مصر، وصار مديراً للمعارف ثم ممثلا للسعودية لدى الكرسي البابوي. ثم سفيرا في لندن. أما يوسف ياسين، وهو سوري من اللاذقية، فقد عمل سكرتيرا سياسيا للملك وترقى حتى صار وزيرا للدولة. وتولى الإشراف على المراسلات الدبلوماسية مع الممثليات السعودية في الخارج. هذا وكان قد وصل إلى الجزيرة في 1923-1924، وخظي بإعجاب ابن سعود.

في بداية حكمه كان ابن سعود يتحاشى إشراك أبنائه وسائر أفراد عائلته في قيادة الشئون الإدارية. ولم يستثن من ذلك سوى أكبر أبنائه وهما سعود وفيصل اللذين عينا نائبين له في نجد والحجاز على التوالي. ولم ينس ابن سعود المصير المفجع الذي آلت إليه الدولة في زمن جده فيصل، الذي قتل بسبب التنافس بين أبنائه. وبمرور الوقت زال التقليد المذكور واصبح أفراد العائلة المالكة يتبوأون أهم المناصب في جهاز الدولة.

الشرع والوهابية

إن الإسلام بتفسيره الوهابي هو الإيديولوجيا التي إعتمدت في السعودية. إن الإقرار بوجود إله واحد (الله) وملك واحدة ومذهب ديني واحد (الحنبلي)، تطلب وجود نظام قانوني وقضائي واحد. ولم تكن تلك مهمة سهلة في مجتمع متباين يضم فئات وشرائح إجتماعية مختلفة (البدو والحضر على أقل تقدير) ظلت طوال قرون تعتمد مدارس فقهية مختلفة، وتطلب تنفيذها إيجاد حلول وسط.

عند إبتداء القرن العشرين عادت العادات والعرف لتبوء مكان الصدارة إلى جانب الشرع الذي حاول الوهابيون تطبيق أحكامه في قبائل البدو في القرن الثامن عشر ومستهل القرن التاسع عشر. وكانت الممارسات القضائية تختلف من قبيلة لأخرى. فقد كان لدى البدو كما يذكر الزركلي، نظام قضائي يشبه المحاكم الإبتدائية ومحاكم الإستئناف والتمييز. وكان القضاء قائما على الإستشهاد بالسوابق التي يجب أن يكون قد مضى عليها، في بعض الأحيان، ما لا يقل عن خمس سنوات كما لدى الرولة.

من البديهي أن يحدث صدام بين النظامين القضائيين بظهور الدولة الإقطاعية المركزية التي طبقت أحكام الشريعة وكان لديها جهاز قسري لإنفاذ القرارات القضائية. فالعرف، مثلا، ينص على منح المطارد حق اللجوء بشروط معينة، وكلن الدولة المركزية لم تعترف بهذا الحق. والبدو يعتبرون بعض الأعمال جريمة إذا أقترفت داخل القبيلة، مثل النهب أو القتل، في حين أن هذا يتناقض مع احتياجات الدولة وسياسيتها. ونشأت مشاكل بسبب الغزو والبت في أمر الماشية التي تغنم. كما ظلت معلقة مسائل الثأر الذي حاولت الحكومة باستمرار تحديد مداه.

منذ عام 1914 تقريباً بدأ اتخاذ خطوات عملية للحد من نفوذ العارفة في القبائل، وبدأ تعيين المطاوعين والقضاة. وانزلت ضربة بإمتيازات العوارف ولكن لم تجر في السنوات الأولى محاولة لإستبدالهم بالقضاة. واخد بأحكام العرف والشرع على قدم المساواة في القبائل، وجرى تحديد الوظائف بينهما مؤقتا. واستمر العوارف في الاهتداء بالعرف في القضايا التي تقع ضمن أحكامه كالعلاقات بين القبائل، أما قضايا مثل الإرث، فقد كانت تنظر من قبل القضاة على أساس الشرع. ومن المهم الإشارة إلى أن حركة الإخوان سرعت في عملية إحلال القضاة محل العوارف.

آثر حكام المقاطعات السعوديون عدم التدخل في القضايا العشائرية الداخلية. فعلى سبيل المثال تضمن كتاب "مذكرة الحكومة السعودية" ثلاثين قرارا إجرائيا قضائيا وكلها تتعلق بالعلاقات بين القبائل واعادة الممتلكات المغتصبة وخاصة الماشية. جرى تدريجيا فصل الواظائف القضائية للحاكم (المحافظ) والقاضي. فأوكلت إلى القضاة المنازعات الشخصية والقضايا التجارية والشرعية والأحوال الشخصية والإرث. أما الأمراء فقد تولوا قضايا النزعات بين القبائل وجباية الضرائب والتجنيد والمشاكل الإدارية. ويكون الأمير بمثاة قاض عند معالجة هذه الأمور. ولكن لاشرع خول الأمير النظر في منازعات لا علاقة لها بالأمور العسكرية والادارية والمالية.

إن الصراع من أجل تثبيت أحكام الشريعة بصيغتها الحنبلية لتحل محل العرف العشائري لم يكن العقبة الوحيدة في طريق إقامة نظام قضائي وقانوني موحد في البلد. فبعد قيام الدولة السعودية ظل المذهب الحنبلي سائدا في نجد بينما كان المذهب الشافعي هو السائد في الحجاز، في حين أن المذهب الحنفي كان السائد في المدن المرتبطة بالسلطات العثمانية. وكانت الإدارة العثمانية تعين عادة أربعة قضاة، واحدا من كل مذهب، رغم إعطاء الأولية للمذهب الحنفي. ويشير الباحث الأمريكي وايدل أن المدرسة الحنفية في القضاء ظلت قائمة طوال عقود في المراكز الإدارية العثمانية السابقة بالإحساء مثل الهفوف.

بعد إلحاق الإحساء واجهت الحكومة المركزية مشكلة الأقلية الدينية – الشيعة. ولا توجد أرقام عن عدد الشيعة في بداية القرن ولكن تقديرات وايدل في عام 1955 تفيد بأن عددهم بلغ في الإحساء 130 ألفا. وقد حافظ وهبة عدد الحضر في الإحساء في الثلاثينيات بزهاء تسعين ألفا، قال إن ستين ألفا منهم شيعة. وهذا لا يختلف كثيرا عن رقم الباحث الأمريكي الذي قد يكون أدخل في حساباته شبه الرحل. وبالإضافة إلى ذلك شهدت المنطقة الشرقية زيادة كبيرة في عدد لاسكان أثر إكتشاف النفط. ويقول وايدل أن نسبة الشيعة إلى السنة في واحات الإحساء هي 45 إلى 55 أو 40 إلى 60. ونظر أن الشيعة غالبا ما كانوا يخفون معتقداتهم الدينية ، فمن المحتمل أن عددهم في المحافظة الشرقية كان أكبر مما ذكر الباحثون. يقول هارسيون أن السنة (الوهابيين) كانوا الأقلية في الإحساء وهم من الحكام والتجار والمزارعين. أما الغالبية من صيادي اللؤلؤ والحرفيين والفلاحين، فهم شيعة. واشار وايدل أيضا إلى أن غالبية الحرفيين من الشيعة. وكان مجتمع المنطقة الشرقية ينطوي على تناقضات إجتماعية خطيرة مبرقعة بغلاف ديني. كما سكنت مجموعات شيعية صغيرة في مكة والمدينة، وقطن عسير ممثلو إحدى الفرق الشيعية وهي الزيدية.

وكان في الحجاز أعضاء من مختلف الفرق الصوفية : السنوسيون والأدارسة والقادريون والبكتاشيون، ولكن هذه الفرق انحسرت بفعل ضغوط الوهابية التي رفضت الصوفية من حيث المبدأ.

كانت أوضاع الشيعة صعبة في دولة إسلامية سنية خالصة. وفي عام 1927 أصدر العلماء الوهابيون، بضغط من الإخوان فتوى تطالب عبد العزيز بمنع الشيعة من أداء الصلاة في الأماكن العامة والدعاء لأهل بيت النبي والاحتفال بذكرى وفاة النبي وأهل بيته وزيارة كربلاء والنجف، وإرغامهم على أداء الصلوات الخمس في الجوامع. ورأى العلماء أن على الشيعة أن يدرسوا دين الله على كتاب محمد بن عبدالوهاب (الأصول الثلاثة). ودعت الفتوى إلى هدم كل الأضرحة الشيعية. ولكن عبد العزيز رأى أن هذه المطالب متطرفة ورفض تلبيتها. غير أن الوهابيين اعتبروا شيعة المنطقة الشرقية (كفارا) ومن أهل الذمة. صدرت عامي 1926 و 1927 أوامر ملكية أنشئ بموجبها نظام قضائي موحد للدولة وأصبح القضاء قائما على أساس الفقه الحنبلي. وأصدر الملك أمرا ألزم القضاة بأن يتقيدوا بستة مراجع أساسية هي : (الإقناع) للشيخ مرسي الحجاوي، و(كشف القناع عن متن الإقناع) لمنصور البهوتي الحنبلي و(منتهى الإرادات) للفتوحي و(شرح منتهى الإرادات) لمنصور البهوتي و(المغني) للشيخ عبدالله بن أحمد بن قدامة و(الشرح الكبير) للشيخ عبدالرحمن بن أبي عمر بن قدامة. ويبدو أن اعتماد الفقه الحنبلي واجه مصاعب في الحجاز وعسير والإحساء.ولم يحدث الإصلاح القضائي تغييرات تذكر في نجد، إلا أنه جرى في الرياض وبعض المدن الكبيرة الأخرى فصل محاكم البدو والحضر.

بعد إعادة تنظيم القضاء في الحجاز عام 1927 أسست ثلاثة أنواع من المحاكم : المحاكم المستعجلة والمؤلفة من قاض واحد، واختصاصها النظر في القضايا المدنية التي لايتجاوز المطلوب فيها ثلاثين جنيها استرلينيا، وفي قضايا الجنح والجنايات التي لاتصل إلى حد القطع أو القتل. ويرى القانوني العربي صبحي المحمصاني أن في ذلك عودة إلى الشرع بصيغته الكلاسيكية لأن القضايا المدنية سابقا كانت مفصولة عن الجنح والجنايات. المحاكم الكبرى وتضم قاضيا ونائبين له، وهي تنظر في القضايا التي لاتدخل ضمن اختصاص المحاكم المستعجلة، بما فيها الجرائم التي تستوجب القطع أو القتل، ولكن لابد من صدور إجماع كل القضاة عند إصدار قرار بهذا الشأن.

هيئة المراقبة القضائية في مكة، وهي بمثابة محاكم الاستئناف، وتتألف من مدير وأربعة أعضاء. وتولى المدير الإشراف على سائر المحاكم والقضاة في الحجاز، وكان بمثابة وسيط بين الحكومة والمحاكم. وتكتسب الأحكام درجتها القطعية عند تأييدها من قبل الهيأة خلال عشرين يوما (عشرة أيام وفق مصادر أخرى) من صدورها. أما الأحكام التي تنقضها الهيأة فتعاد إلى المحاكم التي أصدرتها لإعادة النظر فيها. وذكر الزركلي أن تركيب الهيأة تعقد فيما بعد وزادت عدد القضايا التي تنظر فيها. كانت في الحجاز المحاكم التالية : في مكة اثنتان من المحاكم المستعجلة ومحكمة كبرى، وفي جدة محكمة مستعجلة. وفي عام 1932 أنشئت في مكة محكمة مستعجلة لقضايا البدو.

نظرا لطابع مكة الدولي ظلت فيها المدارس الفقهية الأربع، رغم أن الحنبلية كانت السائدة بطبيعة الحال. وكانت رواتب القضاة من أموال الزكاة، ولكن المدعي يدفع رسوم خدمة تستوفي لصالح الخزانة. أسست في الحجاز عام 1927 أول دوائر كتاب العدل التي كانت تتولى تسجيل الوثائق القانونية باستثناء مايتعلق بالأوقاف. وفي عام 1926، أي قبل الإصلاح القضائي أسس في جدة المجلس التجاري المؤلف من رئيس وخمسة أعضاء من ذوي الخبرة في الشئون التجارية للنظر في المنازعات بين التجار والصيارفة والوكلاء وأصحاب الحوانيت، والبت في القضايا المتعلقة بتصريف العملة ودفع الحسابات التجارية عبر البنوك، والنظر في المنازعات بين التجار وأصحاب السفن في حالة فقدان الأمتعة أو اصطدام السفن أو تعرضها للهجوم، وفي الخلافات الناشئة عن تحرير العقود أو اتفاقات الأسعار. وفيما بعد أخذت هذه المحكمة تعمل وفق نظام التجارة لعام 1931 الذي وضع على غرار نظام الإمبراطورية العثمانية، واستثنيت منه القضايا الخاضعة لأحكام الشرع.

من المهمات التي أنيطت بالمحاكم الشرعية في شبه الجزيرة خلال فترة العشرينيات والثلاثينات، محاولة قطع دابر الثأر بفرض دية عن دم القتيل وحمل أهله على قبولها. وحددت مبالغ معينة عن كل نوع من التشويه الجسدي. وكما كان الحال إبان الدولة السعودية الأولى، كانت تلك محاولة تهدف إلى إضعاف النزاعات بين العشائر والتقليل من احتمالات التحارب فيما بينها. وبعد صدور قرار قضائي كان أهل القتيل يرغمون على الإعلان عن عفوهم عن القاتل. هذا علما بأن الأفخاذ الأرستقراطية، بما فيها آل سعود، استمرت ترفض الدية وترى أن الدم لا يغسله إلا الدم.

فيما يخص السرقة وقطع يد السارق، تجدر الإشارة إلى أن مثل هذه العقوبات تطبق أقل كثيرا مما قد يبدو لغير المطلع، وذلك لوجود عدد من التقييدات. فيجب أن تكون السرقة مثبتة والسارق بالغا سن الرشد وفي كامل قواه العقلية وقد عمل بمحض إرادته. وينبغي أن يكون المسروق ذا قيمة إذ أن الماء والخمر والآلات الموسيقية والصور وكتب الفقه لاتعتبر ذات قيمة. ويجب ألا تقل قيمة المسروق عن ثلاثة دراهم. كما أن المسرق يجب أن يكون قد سرق من محل يحفظ فيه عادة مغلقا بمفتاح. وإذا ماكسر سارق القفل وقام آخر بالسرقة، فلا تقطع يد أي منهما. ولاتحتسب سرقة الأقارب. وينبغي أن يكون هناك شاهدان على واقعة السرقة. ويلغي قطع اليد في سنوات الجوع أو الغلاء. ويعتبر الزنى جريمة بحق الأسرة والأخلاق العامة، ويرجم الزاني والزانية. كان الجلد عقوبة تعاطي الخمر. كما حددت الممارسات القضائية جملة من العقوبات الصارمة عن نهب القوافل.

الاقتصاد

كان خمس غنائم الغزوات، التي يحالفها التوفيق دخلاً لخزانة الدولة. ولكن خلافاً للدولة السعودية الأولى كانت تمر في إمارة نجد، ومن ثم في مملكة الحجاز ونجد وملحقاتها، سنوات عديدة دونما غزوات تذكر، وأخذت الغزوات ذاتها تكلف كل مرة. لذا فإن مداخيل الدولة أخذت تعتمد أكثر فأكثر على جباية الضرائب بانتظام، وأهمها الزكاة.

إن الصلاة بين المؤمن وربه، في حين أن الزكاة، هي بمثابة دليل على الولاء للحاكم الذي ينفذ مشيئة الله. لذا فالزكاة ليست مجرد فرض من الفرائض الدينية، بل هي أيضا دليل ولاء الحاكم. في سبتمبر 1925 أصدر ابن سعود مرسوماً يحدد مقادير الزكاة وطرق جبايتها.

ونص المرسوم على أن الزكاة لا تستوفي عن الدواب المستخدمة للأغراض الحربية وللنقل. وكانت الزكاة تستوفي عن الإبل إذا زاد عددها عن خمسة، وعن الأغنام إذا ازداد عددها عن الأربعين، وعن الأبقار إذا زاد عددها عن 30. وتدفع الزكاة عن كل محصول الحبوب والفواكه التي يمكن قياسها وحفظها كالتمر والزبيب واللوز والفستق والجوز، ولا تستوفي عن سائر أنواع الفاكهة أو الخضروات. وتستوفي الزكاة عن الأراضي المروية بنسبة 5% من المحصول وعن أراضي الديم بنسبة 10%. وتستوفي عن الفضة بنسبة 2.5% من قيمتها وعن الذهب بنسبة 2.5% وترتفع النسبة إلى 5% ابتداءا من وزن معين. ويستوفي عن الرأسمال التجاري وريعه 2.5%.

وكلف أمراء المقطاعات بالإشراف على استيفاء الزكاة. وفي زمن عبد العزيز كان جباة الزكاة ينقسمون إلى فئتين رئيسيتين، تعمل إحداهما في المدن والواحات، وتستوفي الأخرى الزكاة من البدو. و كان العاملون ضمن الفئة الأولى يحصلون على نسب من المجموع العام المستوفي، بينما عينت للعاملين ضمن الفئة الثانية رواتب محددة. ومن الناحية الشكلية كان مقررا أن تجبي الزكاة في نهاية كل عام هجري، ولكن من الناحية العملية كانت الجباية تجري في موسم معين، حتى وإن لم يتطابق مع نهاية العام الهجري. ففي المقاطعة الشرقية كانت الزكاة تجبى في الربيع أو الصيف. وكان جباة الزكاة يعرفون الطرق التي تسلكها القبائل وأماكن تجمعها فيقصدونها. وعندما كانت حركة الإخوان في ذروتها تولى المطاوعة جباية الزكاة في الهجر، وكانوا يمثلون الإمام – الأمير في ذلك. وفي بعض الأحيان كان أفراد آل الشيخ يشرفون على جباية الزكاة إلى جانب المطاوعة.

إن جباة الزكاة كانوا عيون الحكومة بين البدو وركائز لهيبة السلطة المركزية ولكنهم كانوا يتجاوزون صلاحياتهم، وقد اعترف عبد العزيز فيلبي ذات مرة، أنه لا يحصل إلا على ثلث الضرائب. كما كان الحال إبان الدولة السعودية الأولى، ألغيت في إمارة الرياض الخوة التي تدفعها القبائل الضعيفة للقوية. ولكن ديكسون أشار إلى أن الخوة كانت تدفع بأشكال أخرى. ثمة مسألة كبرى مختلف عليها وصارت لها أهمية عملية إبان النزاع على الحدود مع العراق ثم أثناء الخلاف على واحة البريمي ومفادها : هل أن أداء الزكاة من قبل القبائل يعتبر اعترافا بسيادة حكومة الرياض، وبالتالي الدولة السعودية، على أراضي هذه القبائل ؟ وأجاب فقهاء الرياض على هذا السؤال بالإيجاب، في حين أعطى الفقهاء من مختل المدارس الإسلامية والأوروبيون تفسيرات متباينة.

هارولد ديكسون سنة 1937 في صحراء برقان جنوب الكويت

فقد رأى ديكسون المعتمد البريطاني في الكويت والباحث في قضايا الجزيرة أن لرئيس الدولة الحق في أن يجند أثناء الحرب كل من يدفع له الزكاة لكي يقاتلوا تحت لوائه، وله أن يصادر ماشية من لاينصاع له. ووفقا للعرف الوهابي فإن القبيلة إذا لم تؤد أو لم تتمكن من أداء الزكاة لحاكمها الشرعي فإن بوسع الحاكم أن (أ) يصادر ممتلكاتها (ب) يتخلى عن مسئولية حمايتها من سائر القبائل الخاضعة له (ج) لايؤازرها عند تعرضها لغزو أعداء خارجيين. أما إذا كانت القبيلة تؤدي الزكاة فإن الحاكم أو رئيس الدولة ملزم بحماية هذه القبيلة من العدوان الداخلي أو الخارجي وليس لرئيس الدولة الحق في جباية الزكاة من قبيلة لا تأتمر بأمره ولكنها ترعى ماشيتها في أراضي دولته ولاتعتزم المكوث إلا فترة قصيرة تعود بعدها إلى أراضيها وتؤدي الزكاة لحاكمها الشرعي. ويقول ديكسون أن هذا قانون قديم ومحكم في الجزيرة ويفهمه الجميع. ويذهب مؤلف (مذكرة الحكومة السعودية) إلى أن رأي ديكسون هذا يمكن أن يكون مدخلا لفهم الجوانب السياسية لأداء الزكاة ابتداءا من القرن الثامن عشر.

بعد الاستيلاء على المنطقة الشرقية فرضت رسوم جمركية مقدارها 80% وإن كان فيلبي قد أشار إلى أن رسوم الدخان وصلت إلى 20%. وفرضت الجزية على الشيعة والمسيحيين واليهود في الإحساء. وإثر الاستيلاء على الحجاز ظهرت ضريبة جديدة تستوفي من الحجاج وكانت ترفد خزانة الدولة بعوائد كبيرة ولكن الدولة ظلت فقيرة إلى حد كبير، ومن أدلة ذلك أن عوائدها الإجمالية من الضرائب عام 1927 بلغت 1.5 مليون جنيه استرليني.

جرت المحاولة الأولى لوضع ميزانية السعودية عام 1929، ولكن وضعها لم يتم إلا عام 1934. ولأول مرة قامت الدوائر الرسمية للدولة بوضع مشاريع للنفقات وقدمتها إلى وزارة المالية. ثم أحيلت المشاريع إلى مجلس الشورى الذي أحالها بدوره إلى مجلس الوكلاء (الوزراء). وبديهي أنه لم يجر التقيد بالميزانية، ولكن من المهم الإشارة إلى ضآلتها، إذ أن باب النفقات بلغ 14 مليون ريال (كان الجنيه الاسترليني الواحد يعادل ثمانية ريالات تقريبا)، وبلغ باب الواردات مقدارا مماثلا.

يذكر الزركلي أنه وقع على تقرير لوزارة الخارجية المصرية عن واردات الدولة السعودية في أواخر الثلاثينيات. ويشير التقرير إلى أن الموارد الرئيسية تتلخص في رسوم الحج والعوائد من البترول والذهب والزكاة. ولم تتجاوز الميزانية مليوني جنيه مصري سنويا. كان الاضطهاد الضرائبي الذي مارسته الدولة المركزية العبء الأفدح بالنسبة للجماهير، رغم أن مستوى تطور القوى المنتجة لم يسمح بالمغالاة في جباية الضرائب. وكانت الضرائب المستوفاة تذهب إلى بيت المال، أما النفقات فإن الجيش حصة الأسد منها. كما كانت تدفع مخصصات لأرامل وأيتام الشهداء وللجرحى والمرضى. ومن بيت المال أيضا جرى الإنفاق على العلماء والمدارس وتنشئة الجيل والموظفين.

وأشار حافظ وهبة في معرض حديثه على حكام الجزيرة إلى أنهم يعتبرون أيديهم مطلقة في خزانة الدولة. وقال عن إمارة الرياض أن (ما يدخل خزانة الحاكم يصرف منه على حاجاته الشخصية وعلى الأعطيات التي يجود بها على الوافدين. أما المدارس والصحة ووسائل تنظيف البلد وتجميلها فإنه، مع استثناء الحجاز، نجد الأهالي والحكام مشتركين في عدم الشعور بالحاجة إليها).

وكان في الرياض جيش من الفقراء يعيله الملك. وكان ما يترواح بين الألف والألفين يأكلون في القصر مرتين كل يوم. وعلاوة على ذلك كان في العاصمة زهاء مائة من عوائل الأسرى تكلف عبد العزيز بنفقات بيوتها وخيلها وإبلها وثيابها وجواريها وعبيدها. ويذكر حافظ وهبة أن عدد الضيوف الدائمين لا يقل عن خمسمائة، وقد يبلغ عشرة آلاف. وكان بدو كثيرون يجتازون مئات الكيلو مترات للحصول على هبة من الملك. وتجدر الإشارة إلى أن هذه الهبة غدت بمثابة واجب مفروض على الحاكم. وكل أعرابي يمنحه عبد العزيز منحة، كبيرة أو صغيرة، نقدا أو كسوة أو مؤنة، تصبح في نظره، كما يقول الزركلي، (حقا) له واجبا كل عام. وإذا نقص النقد ريالا أو الكسوة غترة أو المؤنة بعض الشيء طالب به وألح، وإذا منعت عنه المنحة غضب.

وكمان كان الحال في عهد السعوديين الأوائل، صارت الضيافة لدى ابن سعود الوسيلة المركزية لإعادة توزيع الواردات على الصفوة في المجتمع. وإن من تدول دولتهم من شيوخ القبائل وأمراء الحواضر كانوا يحلون ضيوفا تحت المراقبة. أما إطعام الفقراء ومنحهم بعض العطايا فإنهما كانا يؤديان وظيفة (حلقة الوصل الوتيرة) بين المالكين والمعدمين، ويعززان سمعة الملك كعاهل سخي مضياف وأب للشعب وشيخ ديمقراطي.

عند حلول الثلاثينيات كانت القوات المسلحة في العربية السعودية قد شهدت تطوراً ملحوظاً. شكلت قوات حاكم الرياض في الأعوام الأولى التي أعقبت قيام الإمارة على غرار ما كان يجري في زمن أجداده. فقد كتب سليمان الدخيل عام 1913 يقول ما معناه: "متى أراد الحاكم أن يغزو استنفر قومه، فنفر معه الكبير والصغير. اللهم إلا ذاك الهرم العاجز، أو ذاك الصغير الضعيف أو من كان يعني بالفلاحة والزراعة. وإذا كان في البيت الواحد أخوان يذهب أحدهما ويبقى الثاني. وكذلك قل عن ابني العم أو ابني الخال، فإن أحدهما ينفر للقتال والآخر يبقى عونا لأهل البيت. والأمير في إبان الحرب لا يقوم بشيء من المؤن أو الذخائر الحربية. لأن كل من يخرج للغزاة مكلف بأعباء نفسه، من اتخاذ الأسلحة اللازمة والمتاع وكل ما يضمن له القتال مدة من الزمن. فإذا طالت المدة، فالحاكم يجدد له الخيل والركاب والأسلحة إذا تلف منها شيء. وهو يمدهم بالأطعمة".

وجاء في جريدة أم القرى إن (كل فرد في نجد محارب بطبيعته، يحمل السلاح منذ نشأته، ويتمرن عليه، فإذا دعي تقلد بندقيته وركب ناقته ومضى إلى المعركة. وكل نجدي من سن الثالثة عشرة إلى السبعين صالح للقتال... ولم يكن في نجد ثكنات عسكرية، لأن بلاد نجد كلها... تؤلف ثكنة تضم الرجال جميعا...). ويذكر مؤلفو كتاب (الجزيرة العربية في عهد ابن سعود) أن القوات المسلحة النجدية كانت تنقسم إلى أربع أصناف 1) أهل العارض 2) الحضر 3) الإخوان 4) البدو.

وامتاز من بين أهل العارض الحرس الملكي الذي تولى حماية الملك والأمراء من أفراد الأسرة المالكة، ومنتسبو الحرس الملكي لا يفارقون السلاح حتى أثناء نومهم. ومن أهل العارض أيضا موظفو الحكومة باستثناء الأجانب الذين كانوا يستنفرون عند الضرورة، والجيش الجهاد المسلح. والحرس الملكي أيضا من جيش الجهاد لكنهم يختلفون عن سواهم بملازمتهم للملك أو الأمراء. وكان في ديوان الملك دائرة خاصة للجهاد مسئولة عن هؤلاء الجند وسلاحهم ومؤونتهم.

أما فئة الحضر فتضم سكان الحواضر والمدن النجدية. وهم يشكلون أثناء المعركة الميسرة والميمنة، في حين أن أهل العارض يقاتلون في الوسط. وكانت درجات الاستنفار أربعا.

  • الدرجة الأولى: عندما يسود السلام فترة طويلة وليس ثمة خطر حرب، فإن كل حاضرة ملزمة باستنفار عدد معين من الرجال بأسلحتهم ومؤنهم لمدة أربعة أشهر سنويا. وإذا لم تكن حاجة لهم فإن أهل الحاضرة يدفعون لبيت المال مبلغا معادلا لكلفة إعالة الجند.
  • الدرجة الثانية: تجرد كل حاضرة عدداً من المقاتلين مع مؤنهم للمشاركة في الحملات العسكرية الصغيرة. وتوفر لهم الخزانة السلاح والذخائر، أما إذا استمر بقاؤهم في الخدمة العسكرية أكثر من أربعة أشهر فإن الخزانة تتولى تزويدهم المؤن للمدة المتبقية.
  • الدرجة الثالثة: بغية خوض حملات عسكرية طويلة الأمد أو صعبة يعلن الجهاد الأصغر فتلزم المدن والقرى بمضاعفة عدد الجند المستنفرين.
  • الدرجة الرابعة: في الظروف الطارئة، وإذا تعرضت الدولة للخطر، يستنفر الحاكم كل رجل قادر على حمل السلاح.

وخلافاً لسكان الحواضر فإن كل رجل قادر على حمل السلاح من هجر الإخوان كان يشارك في الحروب والحملات الحربية.

وكانت لكل وحدة رايتها، وللقائد العام رايته الخاصة وموقعه عادة في الوسط، ولكل منها صيحة حرب خاصة بها يتعرف بواسطتها كل من أفرادها على الآخر، وصيحة حرب مشتركة للقوات السعودية كلها. كان الحرس الملكي وجيش الجهاد في وضع متميز عن سواهما، ولهما الأفضلية في التموين والتسليح، ويزودان بالخيول الملكية. وإذا كان منتسبو هاتين المؤسستين مسجلين في قوائم مديرية الديوان الملكي فإنهم يتقاضون مرتبا، وفي الحالات الأخرى يحصلون على هبات ومخصصات.

وكان لدى الملك مجموعة من الحراس الشخصيين الذين يتم انتقاؤهم خصيصا. وإذا سار عبد العزيز راجلا فإن حارسا يتبعه كظله مسلحا ببندقية ومسدس وخنجر، ويقف خلفه في كل المجالس. ولا يصلي الحارس مع الجماعة حين يكون في المسجد، وإنما يستمر واقفا يراقب كل حركة حوله. وجرى عبد العزيز في هذه العادة على سنن أسلافه، منذ أن قتل الإمام عبد العزيز الأول في مسجد الدرعية عام 1803. ومن البديهي أن تنظيم القوات لم يكن على المستوى المبالغ فيه الذي أورده كتاب (شبه الجزيرة في عهد ابن سعود) فحسبما تذكر الحملات العسكرية لأمير الرياض، الذي صار سلطانا وملكا، وتباين تركيب قواته المسلحة وكون الأغلبية فيها كانت تارة للحضر وتارة للبدو والإخوان. ولكن من المؤكد أن العارض والمناطق المجاورة لها كانت الركيزة الرئيسية للقوات المسلحة والمصدر الدائم الذي يمده بالمقاتلين الأشداء.

ذكرت صحيفة أم القرى أن (الجيش الذي كان يعتمد عليه الملك عبد العزيز في فجر حياته، هو جيش الجهاد الذي كان مكونا من حاضرة أهل نجد، مضافا إليه جيش الإخوان الذي كان مكونا من القبائل البدوية الرحالة التي وضع لها نظام (الهجر) وأنزلها من البادية إلى الحاضرة، واصبحت هجرها كثكنات عسكرية. وظل هذا سانداً إلى عام 1348 هـ (1930 م) حين رأى الملك مجاراة تطور التسلح فأمر بتكوين إدارة للأمور العسكرية، فكان ذلك إيذانا بغرس النواة للجيش النظامي).

كانت فكرة تأسيس جيش نظامي قد راودت ابن سعود قبل هذا التاريخ. فقد شاهدت القوات الأنجلو هندية المسلحة في العراق إبان الحرب العالمية الأولى، وكان قبل ذلك قد حارب ضد الوحدات النظامية المسلحة التركية، فتأكدت لديه أفضليات القوات الحديثة المنضبطة والمدربة.

وبعد استسلام جدة عرض عبد العزيز على كل ضباط الجيش الهاشمي الانتفال إلى الخدمة لديه، فعين عددا منهم في شرطة مكة أولا، ثم أخذ يشكل من بينهم أولى الوحدات النظامية. واستقدم الملك ضباطا من سورية والعراق للعمل في الدائرة العسكرية.

شهدت جدة عام 1930 أول استعراض عسكري شارك في ثلاثة أفواج : من المدفعية والرشاشات والمشاة، وهي نواة الجيش النظامي. ونظم الجيش على شكل كتائب وألوية، ووزع على خمس مناطق عسكرية وتم توحيد الزي العسكري وشارات الرتب، وافتتحت في الطائف مدرسة عسكرية. وفي عام 1935 أسست وكالة (وزارة) الدفاع ومقرها في الطائف ومديرية الأمور العسكرية. وفي عام 1938 ألغيت المديرية وفي العام التالي شكلت (رياسة الأركان الحربية). وفي عام 1946 أنشئت وزارة الدفاع.

إن أهمية الطيران، العسكري والمدني، لبلد مترامي الأطراف وقليل السكان، كانت واضحة للعيان. لذا أرسل عام 1931 إلى إيطاليا عشرة شبان سعوديين لتعلم الطيران، وبعد عودتهم تم شراء عدد من الطائرات. وفي زمن الحرب اشترى الملك خمس طائرات أمريكية من طراء (داكوتا) ثم تسعا أخرى. وبدأت أولى الرحلات الجوية داخل السعودية، ثم إلى مصر وسورية ولبنان. وأنشئت في الطائف مدرسة للطيران. واستقل عبد العزيز ذاته الطائرة لأول مرة في تشرين الأول (أكتوبر) عام 1945 بالقرب من الطائف. أدرك الملك بسرعة أهمية اللاسلكي للعمليات الحربية وحفظ الأمن فأنشئت أربع مدارس لتعليم الهاتف اللاسلكي في مكة وجدة والمدينة والرياض، وأرسل بعض خريجيها إلى بريطانيا وبلدان أخرى لمواصلة الدراسة. وخلال عهد عبد العزيز أنشئ في المملكة ستون مركزا لاسلكيا ثابتا، منها ثلاثة مراكز رئيسية في جدة والرياض والظهران.

وتجدر الإشارة إلى أنه إلى جانب الجيش النظامي في السعودية كان يوجد جيش الجهاد وجيش الهجانة المكون من البدو الأقحاح المخلصين للملك. ويرجع تركيب القوات المسلحة على هذا النحو إلى طابع ومستوى تطور مجتمع الجزيرة، ولكنه في الوقت نفسه كان عاملا يقلل من خطر الانقلاب العسكري.

التعليم والتربية الدينية

إثر انهيار دولة آل سعود في وسط الجزيرة في أواخر القرن التاسع عشر، بدأ تدهو التعليم الديني التقليدي، ونقل قسم كبير من مكتبات الرياض إلى القصيم وحائل. وسافر نفر قليل إلى الخارج لغرض الدراسة. ولم يكن في وسط الجزيرة كله مدرسة واحدة، رغم وجود بعض الحلقات الدراسية الخاصة في مساجد عدد من المدن. كما أن البعض كانوا يعلمون التلاميذ القراءة والكتابة في منازلهم مقابل أجر.

وقد افتتحت مدرسة دينية في العاصمة إثر عودة عبد الله الشيخ إليها، وأخذ الكثيرون من كبار علماء الدين يقيمون مدارس منزلية. وبديهي أن التركيز جرى على حفظ القرآن وتعليم أصول الفقه الحنبلي لكي يتمكن الدارس من أن يصبح قاضيا. وكانت تقرأ في مجالس أمير الرياض الأحاديث النبوية وتاريخ الطبري أو السيرة النبوية.

وأشار حافظ وهبة إلى أن أمراء الجزيرة نادرا ماكانوا يهتمون بتعليم أبناءهم، واعتبر بعضهم التعليم شيئا لا يليق بمقامهم. وتغيرت هذه الآراء مع تطور حركة الإخوان حينما صارت تلاوة القرآن تحظى بتأييد من الأوساط العليا وبتأييد الإخوان أنفسهم.

حينما استولى النجديون على الحجاز وجدوا أن نظام التعليم فيه أرقى بكثير. فقد كان عدد القادرين على القراءة في وسط الجزيرة ضئيلاً للغاية، في حين أنه كانت تصدر في الحجاز صحيفة وتوجد عدة مدارس مماثلة للمدارس التركية، علاوة على المكتبات الخاصة الكبيرة نوعا ما. وبدأ إبان الحكم العثماني في أواخر القرن التاسع عشر إصدار صحيفة الحجاز (صدرت حتى عام 1909 باللغتين العربية والتركية). وصدرت لعدة شهور صحيفتا شمس الحقيقة والإصلاح. وأسست في مكة مطبعة أهلية. وكانت توجد مدرسة حكومية تدرس باللغة التركية ومدرستان دينيتان أهليتان. وبعد ثورة تركيا الفتاة عام 1908 أفتتحت مدرستان أهليتان واحدة بجدة والأخرى بمكة.

إثر إقامة سلطة الشريف حسين المستقلة شهد الحجاز نوعا من النهضة في مجال التعليم، رغم أن المؤلفين السعوديين المعاصرين لا يميلون إلى الإقرار بذلك. وانقسمت المدارس في عهد الحكم الهاشمي إلى قسمين: الأميرية والأهلية. كما أسست مدرسة عسكرية ومايشبه المعهد الزراعي. وكانت غالبية المدارس في مكة. وفي عهد الحسين بدأ صدور صحيفة (القبلة) التي نشرت مواد كثيرة عن جهود الحسين في مجال التعليم. واستمر صدورها من عام 1915 إلى عام 1924. كما صدرت لفترة قصيرة مجلة يعدها طلبة المعهد الزراعي. وفي الأشهر الأخيرة لحكم الملك علي صدرت في جدة نشرة بريد الحجاز.

أعجب عبد العزيز بنظام التعليم في الحجاز، فأسس عام 1926 إدارة المعارف العامة التي شرعت باستقدام المدرسين من الخارج. وفي العام نفسه أسس في الرياض والمناطق المتاخمة لها مدرسة حكومية وأهلية (بلغت ميزانيتها زهاء ستة آلاف جنيه في 1928-1929 و23 ألفا في 1929-1930). وفي الثلاثينيات أنشئت مدارس جديدة في كبريات مدن الحجاز وفي الرياض، ثم في حائل وبريدة وعنيزة والقطيف والجبيل.

وحتى الخمسينيات كان زهاء 22 ساعة من مجموع 28 ساعة دراسية في المدارس الابتدائية مكرسة للمواد الدينية. وحتى في السنة المنتهية من المدرسة الثانوية كانت هذه المواد تشكل 25% من الحصص. ورغم مقاومة علماء الدين، أيد عبد العزيز أن تدرج في المناهج المدرسية مواد مثل الرسم الهندسي واللغة الأجنبية والجغرافيا. ولكن علماء الدين تمكنوا من أحكام رقابتهم على إدارة المعارف، وذلك من خلال نظام تعيين المعلمين والمطاوعة. ولم تطبع، عادة، في مطابع مكة إلا الكتب الدينية. وأنشئت في المنطقة الشرقية مدارس شيعية شبه علنية أنفقت عليها الطوائف الشيعية.

ابتداءا من ديسمبر عام 1924 بدأ صدور جريدة أسبوعية شبه رسمية بمكة هي (أم القرى) وهي المرجع الأساسي للبلاغات الحكومية الرسمية. وقامت الجريدة بنشر أخبار تنقلات الملك وخطبه ونصوص المعاهدات والاتفاقيات التي تعقد مع الدول الأجنبية، وأخبار الحياة الأدبية. وبمرور الزمن تقلص حجم الجريدة واقتصرت على البلاغات والإعلانات الرسمية.

مجلة اليمامة - العدد الأول

بدأ بمكة عام 1932 صدور جريدة (صوت الحجاز) الأسبوعية التي دامت سبعة أعوام. وحلت محلها صحيفة (البلاد السعودية) التي أصبحت عام 1953 أول جريدة أسبوعية في البلد. وصدرت في المدينة عام 1938 جريدة (المدينة المنورة). وصدرت مجلات بشكل غير منتظم في مكة. أما بالنسبة لنجد فإن أول ماصدر هي مجلة (اليمامة) الأسبوعية التي بدأت الصدور عام 1953 في الرياض. ولم يكن للصحافة السعودية تأثير يذكر على تكوين الرأي العام وتطور الأحداث.

لا تتوفر لدينا معلومات موثوقة عن نظام التعليم السعودي قبل الخمسينيات. ويذكر الزركلي أنه في عام 1950 كان هناك زهاء 50 مدرسة قروية (ألفا طالب) و90 مدرسة ابتدائية (13 ألفا) وعشر مدارس ثانوية (600 طالب). وبذا بلغ العدد الإجمالي للطلاب زهاء 16 ألفا.

عند دراسة إصلاحات ابن سعود نتوصل، حتما، إلى استنتاج مؤداه أن سعيه لبناء سلطة الدولة وإدارة شئونها وفقا للقيم السائدة في صدر الإسلام كان أكثر تطابع مع مستوى التطور الاجتماعي للمملكة من البدع المأخوذة عن المشركين (الكفار). فعقارب الساعة في شبه الجزيرة العربية كانت موضع مغاير لما هي عليه في البلدان الأكثر تطورا في الشرق الأوسط. ولكن ابن سعود ضالته بوصفه من حكام الإقطاع المبكر، ومذاهب الإسلام الخالص المجدد التي ظهرت في شبه الجزيرة العربية المتخلفة، قد ولدا بعد بضعة قرون مما ينبغي. فإن مجتمع العربية السعودية ما كان بوسعه أن يصمد أمام الأفكار الجديدة الكاسحة للنظام القديم، حتى لو لم تهدم البنية الاجتماعية السابقة بفعل تدفق النفط، ومن ثم أمواله. وخير مثال على ذلك مصير اليمن في الستينيات. فإن البنى الاجتماعية التقليدية تغدو في العالم المعاصر المترابط بعضه ببعض عاجزة عن البقاء في مواجهة ضغوط العالم الخارجي الجاري عبر روابط السوق وعبر تسرب الأفكار وعبر المحاولات الرامية لتغيير ولو جزء من المجتمع (القوات المسلحة مثلا) لصد الخطر الخارجي.

وقد غدت العربية السعودية عرضة لتأثير خارجي ات. فقد شاءت الجغرافيا والجيولوجيا والتاريخ أن تصبح السعودية أكبر منتج للنفط. وإن صناعة استخراج النفط ذاتها والفروع المرتبطة بها، والأهم من هذا وذاك عوائد النفط الأسطورية التي سيطرت علهيا الطبقة الحاكمة، هذه العوامل جميعا أثرت في البنى الاجتماعية التقليدية للبلد تأثيرا بالغا جعلها تتهدم وتتبدل.

امتيازات النفط

كان الحج المصدر الرئيسي لعائدات المملكة، لذا فإن تقلص عدد الحجاج بسبب الأزمة الاقتصادية العالمية جعل المالية السعودية في حالة يرثى لها. وقد أقامت الحكومة محطات الإذاعة وحسنت إسالة المياه في جدة واشترت سيارات، فبلغ إجمالي ديونها 300-400 ألف جنيه استرليني، وتوقفت عن تسديد ديونها، ولم تفلح محاولاتها للحصول على قروض جديدة.

بئر الدمام رقم 7 «بئر الخير» في 4 مارس 1938.

في هذه الأثناء استغل فيلبي صلاته الشخصية بالملك فأقنعه أن يلتقي بالمليونير الأمريكي كراين الذي كان يقوم بجولة في البلدان العربية بحجة سعيه إلى القيام بأعمال البر والإحسان. ويبدو أنه كان على صلة بشركات البترول الأمريكية ويعمل على جس النبض تمهيدا لتوغلها في منطقة جديدة عليها تماما. ورافق كراين بصفة مترجم في جولته ج. أنطونيوس الذي ألف فيما بعد كتاب (يقظة العرب). كما أوفد المليونير الأمريكي الخبير الجيولوجي تويتشيل إلى السعودية تحت ستار التنقيب عن الماء.

ربيع عام 1932 اكتشف تويتشيل ترسبات نفطية واعدة في منطقة الظهران، فعاد إلى الولايات المتحدة ليحيط شركات البترول علما بذلك.

بدأت بواشر عهد جديد في تاريخ العربية السعودية، عهد سيحدث في مجتمعها تأثيرا لايمكن مقارنته من حيث أبعاهده إلا بتأثير الإسلام، غير أن القوى المحركة لهذه التحولات كانت خارج الجزيرة العربية، إذ أن أصلها يعود إلى تحول اقتصاد القرن العشرين إلى وقود جديد هو النفط الذي بدأ البحث عنه في كل بلدان العالم.

الاحتكارات الأمريكية

قبل عام 1920 كانت الشركات الاحتكارية إما غير مكترثة بالاحتياطات النفطية خارج بلدها أو تمني بإخفاقات في محاولاتها للحصول على امتيازات في النصف الشرقي من العالم بسبب قيود السياسة الوطنية والاستعمارية للدول الأوروبية وشركات النفط الخاصة. ولكن الشركات الأمريكية أخذت تهتم اهتماما كبيرا بعد عام 1920 بالرواسب النفطية في الخارج، بدافع مخاوف ذات طابع مزدوج : فهي تخشى نضوب النفط في الولايات المتحدة من جهة وتخاف أحكام السيطرة الإنكلوهولندية على موارد النفط العالمية من جهة أخرى. ولكن السبب الرئيسي هو أن الشركات المذكورة لم تشأ أن تظل بمنأى عن استثمار حقول النفط الرخيص الموجودة في مواقع قريبة من الأسواق الهامة.

عام 1920 قال فيريش الذي صار فيما بعد رئيسا لشركة (ستاندارد اويل اوف نيوجرسي) أن النفط يوشك على النضوب في تكساس واوكلاهوما. وفي العام نفسه تنبأ وايت، كبير خبراء الإدارة الجيولوجية في الولايات المتحدة، بأن احتياطات النفط الأمريكي سوف تنضب خلال 18 عاما. وبهذا الصدد أبدت مديرية الأسطول البحري الحربي قلقها لأن الخبراء زعموا بأن على الولايات المتحدة تقليص استهلاك النفط أو الشروع باستيراده. وحذر السناتور هنري كابوت لوج الكونغرس من أن (بريطانيا آخذة في السيطرة على صادرات النفط في العالم).

وليس من المعروف ما إذا كانت الشركات مقتنعة فعلا بأن احتياطات النفط الأمريكية محدودة إلى هذه الدرجة، أو أن ذلك كان ذريعة لجر الحكومة الأمريكية إلى المساهمة النشيطة في عملية توسع الشركات خارج حدود البلاد. إن أساليب الضغط على الحكومة وغسل دماغ الرأي العام خدمة لمصالح الاحتكارات متقنة في الولايات المتحدة إلى حد كبير، لذا فمن الأرجح أن السبب الثاني هو الذي أدى إلى انتشار المزاعم المذكورة.

خشيت الاحتكارات الأمريكية من أن تكون قد تخلفت عن عملية اقتسام كعكة النفط في الشرق الأوسط. ووضعت وزارة الداخلية سياسة لمساندة الشركات الأمريكية في صراعها من أجل الحصول على امتيازات في الخارج، ولحث كل الدوائر والوكالات الأمريكية على مساعدتها. وكان مصير الإمبراطورية العثمانية موضع بحث في مؤتمر السلام بسان ريمو في إبريل 1920، حيث اتفقت لندن وباريس على اقتسام نفط العراق. وتدخلت الحكومة الأمريكية من أجل الحصول على حصة لشركاتها النفطية، وأخذت تتحدث عن تمييز تتعرض له الولايات المتحدة في العمليات التجارية على أراضي ألمانيا وحليفاتها وتطالب بسياسة الانفتاح.

ولما حاولت حكومة أتاتورك إثارة قضية لواء الموصل وارتباطه بتأييد مطالب تركيا. لذا تم عام 1921 – 1922 الاتفاق على إعطاء الأمريكان 20-25% من من أسهم شركة النفط المزمع إقامتها. وفي عام 1921، وبعد أن قرر مجلس عصبة الأمم ضم الموصل إلى العراق قدمت الحكومة العراقية امتيازا لمدة 75 سنة لشركة (تركيش بتروليوم) ولكن حينما بدأ استخراج النفط في الموصل عام 1927 لم يكن الأمريكان قد حصلوا على حصتهم بعد. وفي يوليو 1928 تم أخيرا التوصل إلى اتفاق كانت ملكية تركيش بتروليوم (منذ عام 1929 شركة نفط العراق) موزعة في الأساس بين الشركة الإنجلو فارسية للبترول (صارت فيما بعد دوتش شيل) البريطانية الهولندية وشركة النفط الفرنسية ونيراستون ديڤلوپمنت التي تضم ستاندارد اويل نيو جرسي (عرفت فيما بعد أكسون) وسوكوني واكوم (سوكوني موبيل فيما بعد) ومنحت 5% من الأسهم لكالوست گولبنكيان، وهو أحد مؤسسي شركة النفط التركية.

توغلت الشركات الأمريكية في شركة النفط العراقية رغم أن دورها كان ثانويا. ولكن اتفاقية الخط الأحمر وضعت قيودا كبيرة على حرية تصف الشركات، إذ أن المساهمين في شركة نفط العراق التزموا بأن تكون الامتيازات التي يحصلون عليها في أراضي ونذكر بأن نجد والإحساء كانتا عشية الحرب العالمية الأولى تعتبران شكليا جزءا من الإمبراطورية العثمانية.

الحصول على الامتيازات السعودية

الميجور فرانك هولمز.

كانت شركة ستاندارد اويل اوف كاليفورنيا (سوكال) من شركات البترول الأمريكية التي قامت بعد الحرب العالمية الأولى بمحاولات جادة للإسهام في عملية استخراج النفط خارج الولايات المتحدة. ولكن كما ارتبط مصير (ايراك بتروليوم) بشخص گولبنكيان، فإن البحث عن النفط وامتيازاته في عدد من بلدان الجزيرة العربية ارتبط باسم الميجر النيوزيلاندي الدؤوب فرانك هولمز. فقد وصل إلى البحرين في العشرينيات بحجة المشاركة في البحث عن الماء. وفي عام 1922 قصد نجد للتفاوض مع عبد العزيز نيابة عن شركة إيسترن أند جنرال سنديكات البريطانية. وقد وافق ابن سعود على منح الشركة امتيازا في 30 ألف ميل مربع في الإحساء. وطبقا للاتفاقية التزم أصحاب الامتياز بدفع ألفي جنيه إسترليني سنويا لقاء حق الاستثمار. وفي عام 1925 حصل هولمس على امتياز آخر في البحرين.

كان المسؤولون عن شركة سنديكات أناسا لا تعوزهم روح المغامرة. إذ لم يكن لدى الشركة رأسمال كاف، وأملت أن تثير اهتمام شركات النفط البريطانية بالامتيازات، ولكن هذه كانت واثقة من أنها ليست بحاجة إلى وسيط. ولم يجد هولمس دعما توقف عن تسديد الأقساط بعد دفع أربعة آلاف جنيه استرليني فألغي عام 1928 الامتياز في أراضي توجد فيها أغنى احتياطات النفط في العالم.

أما الامتياز في البحرين الذي منح لمدة سنتين فلم يلغ لأن سنديكات تمكنت من تمديده. وبعد أن أخفقت (سندييكات) في محاولات استمالة شركات النفط البريطانية اتصلت بشركة گالف أويل الأمريكية. وفي تشرين الثاني (نوفمبر) 1927 بعثت (غالف) جيولوجيا لدراسة أراضي البحرين ووضع خارطة جيولوجية، وإثر ذلك قرر الأمريكان أن المسألة تستحق المجازفة، فاشتروا الامتياز من (سنديكات).

اتفاقية الخط الأحمر

غير أن گالف واجهت تعقيدات، إذ إنها كانت آنذاك مرتبطة بشركة تركيش بتروليوم، و(اتفاقية الخط الأحمر) سارية المفعول على البحرين. عند ذاك نقلت گالف في ديسمبر 1928 حقوقها المشتراة من سنديكات إلى سوكال.

إن عدم اهتمام شركات النفط البريطانية بالامتيازات في البحرين والجزيرة العربية يعزي إلى اعتقادها بأنه لا وجود للنفط هناك، لذا لم تعتزم المجازفة. فقد كان استخراج النفط في العراق وإيران يتم من طبقات جيولوجية غير الطبقات الموجودة في البحرين والجزيرة العربية. ولم يتم العثور على النفط في طبقات مماثلة بجزيرة القشم عند سواحل إيران، فاعتبر البريطانيون البحرين والجزيرة العربية مناطق غير واعدة. ولكن تاريخ الصناعة النفطية يعرف حالات عثر فيها المنقبون الجدد على النفط في مواقع أهملتها شركات سابقة لاعتبارات جيولوجية.

عارضت بريطانيا وجود شركة نفط أمريكية في الخليج. وقد التزم حاكم البحرين، حسب اتفاقية عام 1914، بعدم منح امتيازات في أراضيه والامتناع عن قبول عروض أي كان دون موافقة بريطانيا. حينذاك تحايلت سوكال على القيود الشكلية البريطانية وأسست في أغسطس عام 1930 شركة بحرين بتروليوم وسجلتها في كندا، أي أنها جعلتها شركة بريطانية من الناحية الشكلية. وفي هذه الأثناء قام اثنان من موظفي سوكال هما دافيس (صار رئيسا لمجلس إدارة أرامكو فيما بعد) وتايلور بدراسة البحرين في ربيع 1930 وأوصيا بإجراء أعمال الحفر.

أثارت الطبقات الجيولوجية في البحرين الحاوية على دلائل تشير إلى وجود النفط، اهتمام سوكال بالجزيرة العربية المجاورة. وقد تم اكتشاف النفط في البحرين بعد عامين، في يونيو 1932. عندما قررت سوكال الاتصال مباشرة، أي دون وساطة هولمس، بالملك السعودي، وعرفت أن الحكومة البريطانية في الهند أوصت سنديكات بالأحجام عن خدمة مصالح (غولف) أو سوكال في العربية السعودية.

في عام 1930 طلب ممثلو سوكال من المندوب السعودي في لندن السماح لجيولوجييهم بزيارة الإحساء ولكن الملك رفض الاستجابة للطلب. وفي هذه الأثناء كان (الجيولوجي المستقل) تويتشيل قد قام بجولة في شرقي المملكة بناء على طلب من المليونير كراين وأوصى بالسعي للحصول على امتياز وقد أجرت سوكال اتصالات مع تويتشيل.

في مطلع عام 1933 وصل هاملتون، مندوب سوكال إلى جدة وساعده في المفاوضات تويتشيل الذي درس مصادر المياه والمعادن في الجزيرة العربية. وفي الوقت ذاته وصل إلى جدة لونغريغ مندوبا عن (ايراك بتروليوم) وهو لمس عن سنديكات. وطالب المندوب السعودي في المفاوضات بأن يدفع صاحب الامتياز المقبل مائة ألف جنيه ذهبي عند توقيع الاتفاقية. خرجت (سينديكات) توا من اللعبة، وعرضت شركة نفط العراق عشرة آلاف جنيه استرليني كحد أقصى لعدم ثقتها بوجود النفط في السعودية، فكسبت سوكال الامتياز مقابل خمسين ألف جنيه.

من أسباب فوز الأمريكان في الصراع على الامتياز أنه لم يكن لهم ماض إمبراطوري في الشرق الأوسط. فإن ابن سعود المحاط من كل الجوانب بالمستعمرات والبلدان التابعة لبريطانيا كان مرغما على التظاهر دوما بالصداقة معها، ولكنه رغم ذلك لم يكن يثق بها ولم يشأ أن يسمح لشركة بريطانية بدخول بلاده. جرت المفاوضات في جو كثيب بالنسبة لرجال الأعمال الأمريكان، سببته أزمة 1929. وبعد إعداد كل بنود الاتفاقية بين سوكال والعربية السعودية، أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية في 20 إبريل حظرا على تصدير الذهب ثم تخلت عن استخدام الذهب كمعيار. حينذاك عمدت الشركة إلى شراء الذهب في سوق العملة البريطاني. وأخيرا وقع الاتفاقية في 29 مايو 1933 عبدالله السليمان وزير المالية السعودية وهاملتون ممثلا عن ستاندارد أويل اوف كاليفورنيا. وأبرمت الحكومة السعودية هذه الاتفاقية بمرسوم ملكي صادر في 7 يوليو 1933 وسرى مفعولها منذ 14/7/1933.

في نوفمبر 1933 منح امتياز لفرع سوكال يحمل اسم كاليفورنيا-اريبيان ستاندارد اويل كومباني، وعدل الإسم في يناير 1944 إلى أراب أميركان اويل كومباني (أرامكو). في عام 1926 كانت لسوكال قدرات إنتاجية ضخمة في النصف الشرقي من العالم، يقابلها ضعف في شبكة وسائط النقل والعلاقات التجارية. ومن جهة أخرى طورت (تكساس كومباني) (تكسكو حاليا) شبكة واسعة لتوزيع النفط ولكنها كانت بحاجة إلى مادة التسويق ذاتها. لذا وحدت الشركتان مصالحهما في منطقة مترامية الأطراف تمتد من مصر إلى جزر هاواي. وحصلت تكسكو على نصف أسهم شركات النفط العاملة في السعودية.

بعد مضي فترة قصيرة على منح امتياز النفط حصلت المجموعة الإنجلو- أمريكية على امتياز لاستثمار مكامن الذهب، وبدأ استخراج المعدن الثمين في مهد الذهب ولكن احتياطاته نفدت عام 1953. لقد كان في جبال الحجاز الكثير من الذهب ولكن يبدو أن كميات كبيرة منه قد استخرجت في زمن سليمان الحكيم وإبان حكم الخلفاء العباسيين، لذا فإن استثمار مناجم الذهب أصبح غير مريح بعد فترة قصيرة من بدئه.

منحت اتفاقية الامتياز شركة سوكال (حقا استثنائيا لمدة ستين عاما لإجراء أعمال البحث والتنقيب والحفر والاستخراج والتكرير والإنتاج والنقل والبيع والتصدير) للنفط ومشتقاته وإقامة الوسائل اللازمة لإدامة هذه العملية. ومنحت الشركة حقوقا استثنائية في أرض مساحتها 400 ألف ميل مربع تكاد تشمل كل الجزء الشرقي من العربية السعودية. ونصت الاتفاقية على أن تتمتع سوكال بحق الأفضلية في الحصول على امتيازات إضافية في سائر مناطق الجزء الشرقي من السعودية، وكذلك الحقوق الأخرى التي قد تحصل عليها الحكومة في المنطقة المحايدة إلى الجنوب من الكويت.

ومقابل هذا الامتياز وافقت الشركة على تنفيذ الشروط التالية:

- منح العربية السعودية قرضا مقداره 30 ألف جنيه ذهبي أو مايعادلها. ومنح قرض إضافي قدره 20 ألف جنيه ذهبي بعد 18 شهرا إذا ظلت الاتفاقية سارية المفعول.

- دفع 5 آلاف جنيه ذهبي مقدما كل سنة لحين اكتشاف النفط بكميات تجارية.

- بعد اكتشاف النفط بكميات تجارية تدفع الشركة فورا بدل إيجار قدره 6 آلاف جنيه وتدفع مثلها بعد سنة. وتدفع المبالغ من بدل الإيجار التخميني. تبدأ الشركة بإعادة المناطق التي لا تعتزم استثمارها.

- بعد اكتشاف النفط تحصل الحكومة على بدل إيجار قدره أربعة شلنات ذهبية أو مايعادلها عن كل طن من النفط. تلتزم بأن تقدم للحكومة سنويا ودون مقابل كمية من النفط لإنتاج البنزين والكيروسين.

- تشييد الشركة مصنعا لتكرير النفط بعد اكتشافه وتزود العربية السعودية مجانا بمائتي ألف جالون أمريكي من البنزين ومائة ألف غالون أمريكي من الكيروسين (يعادل الجالون الأمريكي 3.78 لتر).

- ووافقت الحكومة من جانبها على إعفاء الشركة ومؤسساتها من كل الضرائب المباشرة وغير المباشرة والرسوم الجمركية وما إلى ذلك.

- لاشك أن شروط الاتفاقية كانت كسبا كبيرا للشركة وغبنا للعربية السعودية، ولكنها انعكاس لتناسب القوى بين الطرفين آنذاك. فحينما عقدت الحكومة السعودية الاتفاقية لم تكن لديها أية خبرة في شئون النفط، إلى جانب حاجتها الماسة إلى المال. وكان الشغل الشاغل للحكومة هو الحصول على مكاسب مالية بشكل ريع وبدلات إيجار وقروض.

إن بند الاتفاقية الذي ينص على إعفاء الشركة من كل الضرائب المباشرة وغير المباشرة قد حرم المملكة من مصدر هائل للعائدات ومنح الشركة إمكانات ضخمة للحصول على أرباح من الرأسمال المستثمر. ويجدر بالذكر أن الشركات العالمية في البلدان الأخرى كانت دوما تدفع ضرائب.

بعد الاستخراج

كانت الشركة في عجلة من أمرها. فوصل أول جيولوجيين إلى الجبيل في سبتمبر 1933، أي بعد مرور أقل من أربعة أشهر على توقيع اتفاقية الامتياز.

وفي 28 سبتمبر اكتشفت دلائل تشير إلى وجود طبقة نفطية. وقد بدأ بعد بضعة أشهر استخدام الشاحنات بعد أن كان الجيولوجيون يستخدمون الجمال. وكانت الشركة تنقل كل المعدات وجزءا كبيرا من المواد الغذائية من الولايات المتحدة عبر مينا الخبر. وفي أواخر عام 1933 بلغ عدد خبراء النفط الأمريكان في السعودية ثمانية أشخاص.

عام 1935 عثر الجيولوجيون على طبقة واعدة وبدءوا الحفر، ولكن البئر الأولى لم تثبت إلا وجود قرائن عن توفر النفط وقليل من الغاز. أما أول كميات تجارية من النفط فقد اكتشفت عام 1938. وفي شهر أيلول (سبتمبر) 1938 بدأ نقل كميات قليلة من النفط الخام إلى مصنع التكرير في البحرين العائد لشركة (بحرين بتروليوم). وبعد ذلك وقع الاختيار على رأس تنورة لاستخدامه كميناء لتصدير النفط. عام 1939 زار الملك وحاشيته منطقة استخراج النفط في الظهران حيث أقيم مخيم من 350 خيمة. واستمرت احتفالات الأعيان السعوديين ببدء استخراج النفط عدة أيام، وفي أول من آ مايو 1939 غادرت السواحل السعودية أول ناقلة محملة بالوقود السائل.

حينما بدأت الحرب العالمية الثانية كان الجيولوجيون قد أنجزوا عمليات التنقيب الأولى في 175 ألف ميل مربع والتنقيب التفصيلي في 50 ألف ميل مربع. أما التنقيب الزلزالي والحفر فقد جريا في مساحات أصغر. ولما توقفت الأعمال بسبب الحرب كان الجيولوجيون الأمريكان قد أدركوا أنهم اكتشفوا مكامن نفط أسطورية، ولكنهم لم يحددوا بعد مقاديرها بشكل كامل. هذا وكانت الشركة قد حفرت عام 1934 بئرا في الجوف فوجدتها خالية تماما، واعتبر المنطقة عقيمة.

بعد اكتشاف النفط وافقت الحكومة السعودية على توسيع مساحة الامتياز الأولية في المناطق الجنوبية والشمالية من شرقي الجزيرة، ومنح الشركة حق استثمار الحصة السعودية في المنطقة المحايدة بين العراق والكويت والمملكة العربية السعودية. وأدى ذلك إلى توسيع المساحة التي يتمتع فيها صاحب الامتياز بحقوق استثنائية إلى نحو 496 ألف ميل مربع، منها 484 ألف ميل مربع على اليابسة و11 ألفا على الجرف القاري في الخليج. وكانت مساحة الأراضي المشمولة بالامتياز تعادل مساحة ولايات أريزونا ونيو مكسيكو الواقعة إلى الغرب من منطقة الحقوق الاستثنائية.

منح الامتياز الجديد لمدة ستين عاما ومددت فترة الاتفاق الأولى لست سنوات. ومقابل هذه الامتيازات الإضافية التزمت الشركة بأن : - تعيد مناطق الامتياز التي لا تعتزم استثمارها بعد غلقها لمدة عشر سنوات.

- تدفع فورا 140 ألف جنيه ذهبي ومائة ألف جنيه أخرى بعد اكتشاف النفط بكميات تجارية.

- تخصص ريعا سنويا مقداره 20 ألف جنيه ذهبي مقابل المنطقة الإضافية، على أن تدفع لحين اكتشاف النفط بكميات تجارية.

- تزيد إنتاج البنزين المقدم مجانا للحكومة السعودية لكي تصل كميته إلى 1.3 مليون غالون.

منذ أواخر الثلاثينيات دشنت العربية السعودية عصرا جديدا هو عصر النفط، رغم أن البلد لن يتحسن تأثيره بشكل ملموس إلا في أواخر الأربعينيات.

العربية السعودية والحرب العالمية الثانية

خلافاً لما حصل في الحرب العالمية الأولى، ظلت الجزيرة العربية منأى عن عمليات الحرب العالمية الثانية. بيد أن المملكة العربية السعودية تحسست تأثيرات الحرب الاقتصادية والسياسية والعسكرية. كانت ألمانيا الهتلرية تأمل في الوصول إلى إيران وأفغانستان والهند واحتلال رأس جسر لمهاجمة الاتحاد السوڤيتي، وذلك مروراً بالبلدان العربية وتركيا. واستأثرت منطقة الشرقين الأوسط والأدنى باهتمام الاستراتيجيين الفاشيين لما تزخر به من ثروات نفطية.

ووضع النازيون في حساباتهم السياسية الميول المعادية لبريطانيا في بلدان الشرق الأوسط والناجمة عن سياستها الاستعمارية. فأخذت ألمانيا الهتلرية تصور نفسها صديقاً للعرب وتعلن عن تأييدها لتطلعاتهم القومية. وجرت الدعاية في بلدان الشرقين الأوسط والأدنى تحت شعار انتصار بلدان المحور يحرر بلدان الشرق الأوسط من النير البريطاني. وفي الوقت نفسه قام الألمان بعمليات بتجسس وتخريب في البلدان العربية.

كانت نشاطات ألمانيا تهدد مسيطرة بريطانيا على بلدان العالم العربي وتضعف مواقعها الاستراتيجية العالمية وتعوق استنفار الموارد البشرية والخدمات في هذه البلدان لاستخدامها في الحرب. وكما بينت الأحداث فإن خطر الاحتلال الألماني للشرقين الأوسط والأدنى كان خطرا حقيقياً، ولم يدرأه عن البلدان العربية الواقعة إلى الشرق من ليبيا إلا تقل القوات الألمانية لمهاجمة الاتحاد السوڤيتي.

حياد العربية السعودية

إثر ابتداء الحرب العالمية الثانية أعلنت العربية السعودية الحياد رغم أن ابن سعود أرسل قوات إلى الحدود مع العراق والكويت وشرق الأردن. وكان حياده ذا طابع موال لبريطانيا، الأمر الذي يعزي إلى تبعية مملكته لها في أمور كثيرة. ففي ذلك الحين كانت العربية السعودية تتاجر أساسا مع البلدان التابعة للإمبراطورية البريطانية أو الدائرة في فلكها. فقد كانت الهند البريطانية المصدر الرئيسي للحبوب إلى المملكة، بينما يصل غالبية الحجاج من بلدان إسلامية تابعة لبريطانيا، إضافة إلى ارتباط النقط السعودي بالجنيه الإسترليني. وكانت العربية السعودية محاطة بمحميات وقواعد عسكرية بريطانية، والأسطول البريطاني يسيطر على البحر الأحمر والخليج.

أحكم عبد العزيز سيطرته على الوضع الداخلي في البلد، رغم أن ذلك لم يحل دون وقوع اضطرابات عشائرية بين الحين والحين. وفي عام 1939-1940 هاجر من السعودية إلى العراق عدد كبير من بدو شمر. ويبدو أن الحكومة العراقية قد شجعت شيوخهم أملا في استخدام قبائل شمر لتحقيق مآربها.

غير أن ابن سعود تعرض لضغط من بلدان المحور أيضاً وطالب عدد من مستشاريه بتوسيع الصلات مع إيطاليا وألمانيا وبعد احتلال القوات الإيطالية إثيوپيا ظهرت قطع من الأسطول الإيطالي في البحر الأحمر. وكان لإيطاليا بعض النفوذ في اليمن المعادي لبريطانيا تقليديا. وكانت السعودية قد عقدت معاهدتي صداقة وأقامت علاقات دبلوماسية وقنصلية مع ألمانيا عام 1929 ثم مع إيطاليا عام 1932.

الدبلوماسي الألماني فريتز گروبا في بغداد، 1935.

في أواخر عام 1939 ومطلع عام 1940 تمكنت ألمانيا، بوساطة إيطاليا، من الحصول على موافقة السعودية على قبول أوراق اعتماد الدبلوماسي فريتز گروبا الذي كان واحدا من مسئولي المخابرات الهتلرية في الشرق الأوسط. وكان غروبا حتى خريف عام 1939 سفيرا لألمانيا في العراق، وطرد من هناك لاشتراكه في محاولة تنظيم تمرد، ثم عمل ملحقا في السفارة الألمانية بأنقرة.

طلب الإنجليز (ولا شك أنهم كانوا على علم بنشاطات غروبا) من ابن سعود رفض أوراق اعتماده. وفي ذلك الظرف كان الملك يخشى إثارة نقمة من الطرفين، ولكنه رضخ أخيرا للضغوط البريطانية. تغير قرار الحكومة السعودية بفعل انتصارات ألمانيا الفاشية على جبهات القتال، فسمح لغروبا بالقدوم إلى جدة بمعية بعثة كبيرة، فبدأ هناك نشاطه المحموم. ونشطت الدعاية الألمانية، الموجهة ضد الإنجليز أساسا، في أوساط الحجاج، وبدأ المبعوث الألماني بتشيل مجموعات تخريبية ضم إليها المستائين من الملك وزودهم بالمال والسلاح.

بعد الاستيلاء على يوغوسلافيا واليونان، ومن ضمنه جزيرة كريت، بدأت ألمانيا النازية تشق الطريق نحو الشرق الأوسط، وخاصة نحو العراق وسوريا وفي ربيع عام 1941 جرى في العراق انقلاب معاد لبريطانيا وطلب قادته مساندة ابن سعود إلا أنه رفض متذرعا بأن ذلك سيكون خيانة لبريطانيا التي تربطه وإياها علاقات ودية. وقد بعث إليه هتلر رسالة شخصية عرض فيها العمل ضد بريطانيا ووعده مقابل ذلك بعرش كل العرب. رفض عبد العزيز عرض هتلر واستدعى من سويسرا السفير السعودي فؤاد حمزة الذي عمل على دفعه للتعاون مع دول المحور ونقل إليه رسالة هتلر. دبر عملاء غروبا سلسلة من أعمال التخريب في السعودية، ثم عدد منها في حقول النفط بالإحساء، فأرسل البريطانيون إلى السعودية سربا من الطائبات يحمل معدات لإخماد الحرائق.

في أواخر مايو 1941 احتلت القوات البريطانية مواقع هامة استراتيجيا في العراق، وفي الفترة ذاتها ألحقت القوات البريطانية والثوار الأثيوبيون الهزيمة بجيش الاحتلال الإيطالي في اثيوبيا. وفي تموز (يوليو) 1941 احتلت القوات المسلحة البريطانية وقوات فرنسا الحرة سورية وطردت من هناك إدارة فيشي.

هكذا طرأت تغيرات ملحوظة على الوضع في الشرق الأوسط. وقد كانت القيادة الهتلرية منشغلة بالإعداد للحرب ضد الاتحاد السوفييتي ولم تتمكن من جرد قوات كافية لاتزال ضربة بالمواقع البريطانية في الشرق الأوسط.

نوقشت في بريطانيا، التي حافظت على سيطرتها في هذه المنطقة، مسألة إدخال قوات بريطانية إلى المراكز الهامة استراتيجيا في السعودية، على غرار ماتم في العراق وسورية. بيد أن الحكومة البريطانية كانت مرغمة على أن تحسب حساب الولايات المتحدة لأن للاحتكارات الأمريكية مصالح في المملكة أضف إلى ذلك أن احتلال بلد مترامي الأطراف يسود فيه النفور من الأجانب قد يجابه بصعوبات كثيرة. تحاشيا لوقوع استفزازات على الحدود مع العراق وشرق الأردن سحب ابن سعود قواته إلى عمق بلاده، وسرعان ما فسخ معاهدة الصداقة مع ألمانيا، وفي أسبتمبر 1941 طرد المبعوث غروبا من البلد.. وكانت العلاقات الدبلوماسية مع إيطاليا قد قطعت منذ عام 1940.

طلب رشيد عالي الكيلاني زعيم الانقلاب في العراق اللجوء إلى السعودية، فحل ضيفا مكرما رغم مطالبة الإنجليز بتسليمه لأن المحكمة العسكرية العراقية أصدرت حكما بإعدامه. رغم أن أراضي العربية السعودية لم تصبح مسرحا للمعارك، فإن اقتصاد البلد ناء بأعباء الحرب. فقد استنزفت القوات المستنفرة عوائد الدولة، وأدى تغيب الرجال فترة طويلة إلى الإضرار بالزراعة. أصبح البلد في وضع مالي مزري، وبلغ العجز في الميزانية عام 1941 مقدار 1150 ألف جنيه استرليني، وهبطت عوائد الحج. فبعد أن كان عدد الحجاج عشية الحرب يتراوح بين 50 و100 ألف، ويعود على الخزينة بـ5-6 ملايين دولار، فإن عددهم تقلص في زمن الحرب إلى 20-30 ألفا، وتزايدت أسعار السلع المستوردة، بينما لم تحصل زيادة في استخراج النفط في بداية الحرب.

طالب ابن السعود الشركات صاحبة الامتياز بأن تسلفه على حساب الريع مبلغ ستة ملايين دولار سنويا. وخشية إلغاء الامتيازات ومنحها للبريطانيين، التزمت الشركة الأمريكية بتزويد العربية السعودية بقرض مقداره ثلاثة ملايين دولار، على أن يزداد مستقبلا إلى ستة ملايين. بل إن الشركة أبقت مبالغ المدفوعات عن الامتياز على وضعها السابق، في ظرف كان من المزمع إبانه تقليص استخراج النفط. أبقت بريطانيا العربية السعودية مرتبطة بتبعية مالية، وذلك بتزويدها بالسلع والعملات الذهبية والفضية للتداول.

وبغية تقييد نشاط شركة النفط الأمريكية، استغلت بريطانيا مركز تموين الشرقين الأوسط والأدنى بمشتقات النفط، والإشراف على توزيع المواد الغذائية على بلدان المنطقة. وتولى البريطانيون تسويق نفط إيران والعراق، ولكنهم في الوقت ذاته قيدوا تسويق نفط السعودية لجيوش الحلفاء. وعلاوة على ذلك أحكموا سيطرتهم على كل صادرات الأغذية إلى المملكة.

أثار تزايد النفوذ الاقتصادي لبريطانيا في العربية السعودية قلق شركات النفط الأمريكية، فقررت الحكومة الأمريكية تقديم عون غير مباشر لأبن سعود. إذ أنها قدمت لبريطانيا قرضا بـ425 مليون دولار وطالبت بأن تمنح العربية السعودية جزءا من هذه الأموال. وقد أبلغ ممثلو شركة النفط ابن سعود بذلك، ولكن الملك كان مرتبطا بالدرجة الأولى بمن يقدم له العون المباشر. وخشية استمرار توطد مواقع بريطانيا في العربية السعودية أصرت الاحتكارات النفطية الأمريكية على أن تزود الحكومة الأمريكية المملكة بمساعدة مباشرة.

قبل نشوب الحرب العالمية الثانية كانت الحكومة الأمريكية تعتبر الشرقين الأوسط والأدنى دائرة نفوذ أوروبية، وبريطانية بالدرجة الأولى. ولم يكن لدى الإدارة الأمريكية الكثير من الوسائل السياسية الفعلية لدعم الشركات الأمريكية الخاصة، بما فيها شركات النفط، في هذه المنطقة من العالم. وعشية الحرب، عام 1939، لم تكن حصة الأمريكان من استخراج النفط في الشرق الأوسط تربو على 10%.

خلال سنوات الحرب طرأت تغيرات عميقة أساسية على سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. ووضعت الولايات المتحدة نصب عينها مهمة الحلول محل بريطانيا كدولة مهيمنة على المنطقة لاعتبارات عديدة من أهمها الاحتياطات النفطية. فقد تغير دور النفط في العالم وتحول من سلعة تجارية في الأساس إلى سلعة استراتيجية ذات أهمية من الدرجة الأولى.

وفي الثامن من فبراير 1943 تلقى وزير الداخلية الأمريكي هارولد ايكيس مذكرة من (ستاندارد أويل اوف كاليفورنيا) تضمنت الأفكار التالية : (يتزايد القلق بصدد التنامي السريع لنفوذ بريطانيا الاقتصادي في العربية السعودية، لأن ذلك يمكن أن يحدث تأثيرات جوهرية في نشاط الأمريكان بعد الحرب. ولو قدمت الحكومة الأمريكية معونة مباشرة للحكومة السعودية، عوضا عن المعونة غير المباشرة التي تقدمها حاليا عن طريق البريطانيين، لوضع حد لذلك ولأعطي ضمانة معينة بأن احتياطات النفط في العربية السعودية ستبقى تحت سيطرة الأمريكان. وبوسع الحكومة الأمريكية تقديم معونة مباشرة للحكومة السعودية، وخاصة عن طريق برنامج الإعارة والتأجير).

في 18 فبراير 1943، أي بعد مرور عشرة أيام على رفع المذكرة، أوعز روزفلت إلى نائب وزير الخارجية ستينيوس المسئول آنذاك عن برنامج الإعارة والتأجير بتنظيم مساعدة للحكومة السعودية وفق برنامج الإعارة والتأجير وأكد الرئيس أن الدفاع عن السعودية (له أهمية حيوية لمسألة الدفاع عن الولايات المتحدة) رغم أن المملكة لم تكن مشاركة في الحرب لاشكليا ولافعليا. وفي عام 1948 قدرت اللجنة الخاصة التي شكلها مجلس الشيوخ للنظر في برنامج الدفاع الوطني، حجم المساعدة التي قدمتها الولايات المتحدة للعربية السعودية خلال الحرب، عن طريق برنامج الإعارة والتأجير والصادرات الأخرى بتسعة وتسعين مليون دولار.

عند حلول عام 1943 بدأ استخراج النفط بتزايد من جديد بعد أن كان قد انخفض بسبب إغلاق أسواق أوروبا الغربية والقيود التي وضعها البريطانيون. وتعزي الزيادة إلى ارتفاع الطلب على النفط من قبل جيوش الحلفاء في مسارح العمليات الحربية بالمحيط الهادي والبحر الأبيض المتوسط، وإلى توقف صادرات النفط من بورما وأندونيسيا بعد استيلاء اليابان عليهما. وتولت شركة أرامكو تزويد الحكومة الأمريكية بمشتقات النفط للأغراض الحربية، وبلغ استخراج النفط في السعودية عام 1943 مقدار 4.9 مليون برميل، وازداد إلى أكثر من عشرة أضعاف عام 1946.

في مارس 1942 عينت الولايات المتحدة قائما بالأعمال في جدة، بعد أن كان السفير الأمريكي في القاهرة معتمدا في السعودية إضافة لوظيفته. ربيع عام 1943 وصل الجنرال هارلي إلى السعودية مندوبا عن روزفلت لاستيضاح مواقع شركات النفط الأمريكية هناك. وفي أكتوبر من نفس العام قام ولي العهد سعود بزيارة رسمية إلى واشنطن وأمضى في الولايات المتحدة شهرا كاملاً. وفي نفس السنة زار الأمير فيصل وأخوه خالد الولايات المتحدة وقابلا روزفلت وأعضاء الإدارة ومجلسي الشيوخ والنواب في الكونگرس الأمريكي. في ذلك الحين قدرت أرامكو احتياطات النفط في العربية السعودية بعشرين مليون برميل، أي مايعادل كل الاحتياطات المكتشفة في الولايات المتحدة. وكان ذلك أقوى حجة تعتمدها شركات النفط لحفز الحكومة الأمريكية على دعم مصالحها.

وفي نوفمبر 1943 أعدت مجموعة من الجيولوجيين الأمريكان تقريرا بعد جولة في الشرق الأوسط، جاء فيه أن مركز استخراج النفط سوف يتحول من حوض خليج المكسيك وبحر الكاريبي إلى منطقة الشرق الأوسط. وذكر الخبراء أن تقديراتهم تفيد بأن أكبر احتياطات النفط في العالم موجودة في حوض الرافدين والخليج العربي. وكان إنتاج النفط في هذه المنطقة أقل تكليفا مما في أي مكان في العالم.

عام 1943 تمكنت شركة أرامكو من الحصول على تخصيصات مالية لبناء مصنع لتكرير النفط في رأس تنورة بسعة خمسين ألف برميل يوميا، وبدأ المصنع العمل في أيلول (سبتمبر) 1945. وفي آذار (مارس) 1945 مد خط لأنابيب النفط إلى البحرين حيث يوجد مصنع كبير للتكرير.

في ديسمبر 1943 زار العربية السعودية الجنرال رويس، القائد العام للقوات المسلحة الأمريكية في الشرق الأوسط، وأنفق على بناء مطارات حربية في الظهران والدوكة. وقد بدأ بناء قاعدة الظهران الجوية عام 1944 وأنجز عام 1946. ووصلت إلى العربية السعودية بعثة عسكرية أمريكية تولت، إلى تدريب الجيش السعودي. وخلال سنوات الحرب زودت الولايات المتحدة المملكة العربية السعودية بالأسلحة والمعدات العسكرية وفق برنامج الإعارة والتأجير.

لقاء ابن سعود وروزڤلت

اتفاق كوينسي: الرئيس فرانكلن روزڤلت والملك عبد العزيز آل سعود والكولونيل ويليام إدي (المنحني على ركبته) والأميرال وليام ليهي (الواقف) على متن طراد كوينسي.

أظهرت لقاء فرانكلن روزڤلت والملك عبد العزيز أهمية الموقع الذي احتلته السعودية في السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط. فقد أقام الرئيس الأمريكي في طريق عودته إلى الولايات المتحدة بعد مؤتمر مالطا صلة شخصية بزعيم واحدة من الدول التي كانت تعتبر تقليدياً ضمن دائرة المصالح الإمبراطورية البريطانية. وأحيط لقاء روزڤلت وابن سعود بسرية تامة، وخاصة بالنسبة للبريطانيين الذين لم يعلموا عن شيئاً إلا في اللحظة الأخيرة.

استقل ابن سعود وحاشيته البارجة الأمريكية مورفي من جدة إلى قناة السويس حيث كان الرئيس روزڤلت بانتظاره على متن الطراد الأمريكي كوينسي في البحيرات المرة. أقيم للملك سرداق على ظهر البارجة وكانوا يذبحون له شاة كل يوم، وفي ساعات النهار يعرضون عليه أفلاماً تسجيلية عن عمليات القوات الأمريكية.

جرى لقاء روزڤلت وابن سعود في 14 فبراير 1945، وحاول الرئيس الأمريكي الحصول على موافقة الملك على مشروع إسكان اليهود في فلسطين، قائلاً إنهم ضحايا للنازية. فرد الملك بما معناه: لتتحمل ألمانيا مسئولية هذه الجرائم. ولما كان الألمان قد آذوا اليهود، فليعاقب المذنب. ولماذا يجب أن يحمل العرب جريرة آثام ارتكبها آخرون؟ ولم تفلح محاولات روزڤلت لحمل ابن سعود على تغيير موقفه.

في الخامس من إبريل بعث روزڤلت رسالة إلى ابن سعود وعد فيها بالامتناع عن الإقدام على أي عمل قد يكون معادياً للعرب. كما أنه التزم بأن الحكومة الأمريكية لن تغير نهجها السياسي الأساسي في فلسطين إلا بعد مشاورات تمهيدية شاملة مع اليهود والعرب على حد سواء.

وأكد ابن سعود في لقائه مع روزڤلت موافقته على أن السفن البريطانية والأمريكية حرة في استخدام الموانئ السعودية على الخليج، كما وافق على إقامة قاعدة جوية ضخمة. ولكنه اشترط إبان ذلك ألا تتعرض السعودية بأي حال من الأحوال للاحتلال، كما جرى في مصر وسورية والعراق وإيران، وألا يقتطع أي جزء من أراضيها. وفيما يخص المناطق التي يحتاجها الجيش الأمريكي فإنها تعار لفترة لاتتجاوز الخمس سنوات. كما طلب ابن سعود بأن تحصل الحكومة السعودية على جزء من السلاح الخفيف المخزون في إيران، وفي مقابل ذلك تعهد ابن سعود بإعلان الحرب على دول المحور.

طلب الملك من الرئيس الأمريكي مد يد الصداقة له ودعم استقلاله، وحصل على وعود بهذا الخصوص. ويرى ايدي أن ابن سعود اعتبر هذا اللقاء ضمان تقيه من المحاولات التي قد تقوم بها بريطانيا للنيل من استقلاله.

أما بالنسبة لموضوع النفط فقد أكد ابن سعود لروزفلت أن الامتيازات الأمريكية باقية على حالها، ووافق على بناء خط لأنابيب الامتيازات الأمريكية باقية على حالها، ووافق على بناء خط لأنابيب النفط عبر الجزيرة العربية يربط منطقة الإحساء بسواحل البحر الأبيض المتوسط.

إثر مغادرة روزڤلت عقد رئيس الوزراء البريطاني تشرشل لقاء مع ابن سعود في مصر للحد من نفوذ الأمريكان، ولكن اللقاء لم يسفر عن جديد. ولم يكن بوسع لقاء مثل هذا أن يحول دون خروج المملكة العربية السعودية من دائرة النفوذ البريطاني بدعم من الولايات المتحدة. فقد استغلت واشنطن عدم ثقة آل سعود ببريطانيا لتعزيز مواقع الولايات المتحدة في المملكة. في مارس 1945 أعلنت العربية السعودية الحرب على دول المحور، مما أتاح لها إمكانية الانضمام إلى هيئة الأمم المتحدة.

ولكن تجدر الإشارة إلى أن تركيا وإيران ومصر كانت في فترة مابعد الحرب (أواخر الأربعينيات وبداية الخمسينيات) تحتل الموقع الأول في مجال المصالح العسكرية الاستراتيجية لواشنطن في الشرقين الأدنى والأوسط. وظلت بلدان الخليج العربية أو على الأقل البلدان الواقعة على بر الجزيرة العربية في المقام الثاني. وتولت بريطانيا الحفاظ على مصالح الغرب العسكرية الاستراتيجية في الخليج وفي الجزيرة العربية.

عام 1945 كان التناسب بين الرساميل الأمريكية والبريطانية والفرنسية في الصناعة النفطية كالتالي : شركة النفط البريطانية العراقية تسيطر على 27.750 مليار برميل من احتياطات النفط و(رويال داتش شيل) 2.750 مليار وگالف أويل 5 مليارات وستاندرد اويل اوف كاليفورنيا وتكساس اويل 20 مليارا وستاندرد اويل اوف نيوجرسي وسوكوني واكوم اويل 2.750 مليار وفرانسيز دي بترول 2.750 مليار. وقدرت الاحتياطات الإجمالية بـ61 مليار برميل. وكانت الشركات ذات الرأسمال البريطاني والبريطاني – الهولندي تستخرج القسم الأكبر من النفط آنذاك. ولكن الوضع بدأ يتغير تغيرا جذريا نظرا لتزايد إنتاج النفط بسرعة في العربية السعودية حيث اكتشف المزيد من الحقول الجديدة، ونتيجة للأزمة الإيرانية في بداية الخمسينيات التي أضعفت إلى حد كبير مواقع الرأسمال البريطاني في المجال النفطي.

الوضع الداخلي في المملكة وسياستها الخارجية

إن المؤرخ الذي يعكف على دراسة العربية السعودية في فترة ما بعد الحرب يواجه عقبة كأداء تتمثل في شحة المعلومات عن حقيقة الوضع السياسي في البلد، مع وجود فيض من المعلومات حوله في مقالات الصحف والمجلات والمعطيات الإحصائية والكتب المتزلفة، بل وتوجد حتى بعض الدراسات الاجتماعية. وجرى الصراع السياسي داخل الطبقة الحاكمة بين مختلف التكتلات من الفخذ السعودي المتشعب، هذا علما بأن أفراد العائلة، باستثناء حالات نادرة للغاية، لا يسمحون بتسرب معلومات حول الطبيعة الفعلية للصدامات والتغيرات في قمة السلم السعودي. ولم يتوفر تصور عن الوضع في العائلة المالكة إلا بعد احتدام الصراع السلطة بين الملك وولي العهد في فترة 1958-1964 وانتفاضة أمراء الأحرار التي جرت في إطار هذا الصراع. وفيما يخص نشاطات المعارضة بمختلف أشكالها، فرغم أنها أثارت مخاوف الطبقة الحاكمة، كانت ضعيفة ومشتتة (باستثناء التحركات العمالية عامي 1953 و1956) وقمعت دون صعوبة تذكر. والمعلومات المتوفرة عن نشاط المعارضة شحيحة ومتقطعة ومتناقضة.

إن جزءا كبيرا مما نعرفه عن تاريخ السعودية ينحصر في علاقاتها مع شركات النفط وصلاتها الدولية وسياستها الخارجية. ويبدو أن ثمة مسوغات لذلك. فإن التصاعد الحاد للصراع الدولي في منطقة الشرق الأوسط بعد الحرب العالمية الثانية وانخراط العربية السعودية في الصراع إلى جانب هذا الطرف أو ذاك، وما طرأ على حركة التحرر الوطني من مد وجزر، والترابط القوي بين مصائر البلدان العربية، هذه العوامل جميعا زادت من وزن وأهمية السياسة الدولية في العملية التاريخية.

وقد تأثرت السياسة الداخلية والخارجية للعربية السعودية بعامل جديد، هو عامل النفط. وخلال بضع سنوات تحولت المملكة الصحراوية إلى واحد من أكبر مصدري الوقود السائل، وفي السبعينيات صارت أكبر مصدر على الإطلاق.

العلاقات مع شركات النفط

عند انتهاء عام 1945 كانت أرامكو قد اكتشفت أربعة حقول ضخمة للنفط – في الدمام وأبو حدرية وأبقيق والقطيف. وفي مايو 1951 اكتشفت أكبر مستودع في العالم في السفانية بالجرف القاري في الخليج. وأكبر حقل نفطي على اليابسة في العالم، هو حقل الغوار الذي يبلغ طوله زهاء 240 كيلومترا وعرضه 35 كيلومترا، وقد اكتشف في مستهل الخمسينيات. وبالإضافة إلى ذلك افترض الخبراء وجود مستودعات جديدة من الوقود السائل في الطبقات الجيولوجية الفريدة بالعربية السعودية.

جرى توسيع في ميناء تصدير النفط برأس تنورة وبدأ استخدامه في ديسمبر 1945 بسعة قدرها 50 ألف برميل يوميا. وازدادت تدريجيا قدرة مصنع تكرير النفط في رأس تنورة وبلغت في أواسط الستينيات 15 مليون طن سنويا، ثم تضاعفت. وشيد مصنعان آخران لتكرير النفط في جدة والرياض.

بعد الحرب العالمية الثانية أدى تحول مؤسسات إنتاج الطاقة في البلدان الرأسمالية إلى استخدام الوقود السائل وكثرة عدد السيارات وتطور الكيمياء، إلى تزايد لم يسبق له مثيل في الإقبال على النفط وخاصة في النصف الشرقي من العالم. وأخذت مناطق عديدة من العالم كانت متخلفة عن الولايات المتحدة في استخدام النفط، تعمل بوتائر سريعة على اللحاق بها. ولئن كان الطلب على النفط قد ازداد خلال ربع القرن الذي أعقب الحرب لأكثر من 2.5 مرة في الولايات المتحدة، فإن الزيادة في سائر أنحاء العالم ربت على 8 مرات، وبلغت الزيادة أسرع وتأثرها في اليابان وأوروبا الغربية. وأصبحت منطقة الشرقين الأدنى والأوسط أكبر منتج لهذه المادة الخام عام 1965، حينما بلغ الاستخراج هناك زهاء 8.5 مليون برميل يوميا، أي أكثر من إنتاج الولايات المتحدة.

شعار قديم لشركة أرامكو.

أخذت صناعة تكرير النفط تنتقل شيئا فشيئا إلى مراكز الاستهلاك. فإن نقل النفط الخام أرخص من نقل مشتقاته الجاهزة، علاوة على أن بوسع المستورد أن يشتري منه كميات أكبر، كما جرت في مراكز الصناعة الاستفادة من نفايات التكرير على نحو واسع. وأضيفت إلى الحسابات الاقتصادية اعتبارات سياسية هامة : فقد خشيت الشركات (وخاصة بعد محاولة تأميم النفط الإيراني في مستهل الخمسينيات) من إنشاء مصانع ضخمة لتكرير النفط في البلدان النامية.

إبان سنوات الحرب خمن المساهمون في أرامكو أن خط الأنابيب بين العربية السعودية والبحر الأبيض المتوسط يمكن أن يقلص نفقات نقل النفط إلى أوروبا بنسبة تتراوح من ثلث إلى نصف كلفة استخدام الناقلات. وتقرر مد خط للأنابيبب بقطر 30 بوصة (762 ملم) من منطقة بقيق النفطية بالعربية السعودية إلى السواحل اللبنانية قرب مدينة صيدا، بطول إجمالي قدره 1712 كيلومترا وبسعة 15 مليون طن سنويا على أن تزداد السعة إلى 25 مليون طن.

في يوليو 1945 أسس المساهمون في أرامكو شركة التابلاين (شركة خط أنابيب نفط البلاد العربية السعودية).وعندما كانت أعمال مد الخط في أوجها عمل فيها 16 ألف شخص واستخدم زهاء 3 ألاف ماكنة مختلفة.

ولكن إذا كانت الشركات والحكومة البريطانية عاجزة عن عرقلة زيادة استخراج النفط من قبل أرامكو، فإنها حاولت إعاقة وصول خط الأنابيب الأمريكي إلى سواحل البحر الأبيض المتوسط، لأنه سوف يتيح للأمريكان إمكانية نقل النفط إلى أوروبا الغربية بسرعة وبكلفة زهيدة. وبمد الخط يفقد البريطانيون جزءا من العوائد التي يحصلون عليها لقاء نقل النفط في ناقلاتهم بالإضافة إلى رسوم نقل النفط عبر قناة السويس. كان الصراع السياسي في سورية ولبنان والعراق في فترة ما بعد الحرب مرتبطا، ارتباطا مباشرا أو غير مباشر بالتنافس النفطي بين بريطانيا والولايات المتحدة، بما في ذلك مايتعلق بمد خط الأنابيب.

أيد ابن سعود الحكومة التي استلمت زمام الحكم في سوريا إثر الانقلاب العسكري في مارس 1949 بقيادة حسني الزعيم المرتبط بالولايات المتحدة، ومنحه قرضا قدره ستة ملايين دولار. وقد عارض حسني الزعيم مشروعي (سوريا الكبرى) و(الهلال الخصيب) اللذين كان وراءهما البريطانيون ودعا إليهما عبد الله أمير شرق الأردن، وأبرم حسني الزعيم الاتفاقية الموقعة سابقا حول مد خط الأنابيب عبر أراضي سورية. غير أن حكومة جديدة شكلت في سوريا برئاسة سامي الحناوي تتبع سياسة موالية لبريطانيا وأبطلت اتفاقية خط الأنابيب وباركت فكرة (سوريا الكبرى).

وجاء أديب الشيشكلي الذي قام بانقلاب آخر في كانون الأول (ديسمبر) 1949 ليعيد لاحتكارات النفط الأمريكية مواقعها وأجاز مد خط الأنابيب. ولجأ الدكتاتور الشيشكلي إلى السعودية بعد انهيار نظامه في شباط (فبراير) 1954. عام 1950 أنجز مد خط أنابيب التابلاين الذي بلغت كلفته 230 مليون دولار وبدأ العمل.

أدى التطور السريع للصناعة النفطية في العربية السعودية بعد الحرب العالمية الثانية إلى وصول شركتي سوكال وتكسكو إلى قناعة بأنهما لا؛ تمتلكان الأموال الكافية لاستثمار المكامن الهائلة في البلد، لذا قررت الشركتان التعاون مع (ستاندرد اويل اوف نيوجرسي) و(موبيل اويل). ورفعت اتفاقية إسهام هاتني الشركتين مع أرامكو في أواخر عام 1946 وظلت الاحتكارات البريطانية طوال سنتين تعارض هذه الاتفاقية لأن (ستاندرد أويل) و (موبيل اويل) وقعتا من قبل (اتفاقية الخط الأحمر).وفي تشرين الثاني (نوفمبر) 1948 تجاهلت الشركتان الأمريكيتان معارضة (شركة النفط العراقية البريطانية) و (رويال داتش شيل) وانضمتا إلى أرامكو، وبذا أصبحت (اتفاقية الخط الأحمر) في عداد الأموات. منذ عام 1948 صارت أسهم أرامكو موزعة على النحو التالي : سوكال 30%، تكسكو 30%، (ستاندرد اويل اوف نيوجرسي) 30% و (موبيل اويل) 10%.

عام 1948 تخلت أرامكو عن حقوق الامتياز في المنطقة المحايدة بين السعودية والكويت مقابل الحصول على الجزء السعودي في الجرف القاري بالإحساء. ومن أسباب ذلك أنه تم آنذاك عقد اتفاقية امتياز في المنطقة المذكورة بين شركة (أمريكان انديبندنت أويل) و (أمين اويل) وحكومة الكويت وفق شروط أفضل بكثير مما نصت عليه الاتفاقية بين أرامكو والسعودية. وقد آثرت أرامكو الانسحاب من المنطقة المحايدة خشية أن تؤدي بها موافقتها على المطالب الكويتية إلى زيادة مدفوعاتها للعربية السعودية عن الامتياز الأساسي. ولكن السبب الأهم هو اكتشاف حقول نفطية ضخمة في الجرف القاري العائد للسعودية.

في أكتوبر 1948 وقعت اتفاقية جديدة حول بدل الإيجار عن استخراج النفط في الجرف. ووافقت أرامكو على دفع بدل إيجار مماثل لما نصت عليه اتفاقية الامتياز الأولية، يضاف إليه خمسة سنتات أمريكية لقاء كل برميل يستخرج من الجرف القاري. وتعهدت أرامكو أن يكون الحد الأدنى لبدل الإيجار السنوي عن العمليات في الجرف القاري مليوني دولار تدفع مقدما. ووافقت على تحديد فترة مدتها 22 سنة تعيد خلالها بالتدريج القطاعات التي لاتعتزم مواصلة التنقيب فيها من (منطقة الحقوق الخاصة) المعطاة لها.

كانت ألأرباح المتوفرة من استغلال احتياطات النفط في حوض الخليج طائلة إلى حد دفع إلى المنطقة (أطرافا خارجية) مستعدة للحصول على امتياز بشروط أفضل بكثير مما تقدمه الشركات السابقة للحكومات المحلية. وكان بين هذه الأطراف شركات أمريكية مستقلة لايمكن تجاهل ثقلها. فقد كانت متفرقة كثيرا من حيث الموجودات والرأسمال المتداول على كبريات شركات أوروبا الغربية واليابان. وبظهور الأطراف الخارجية أدركت الحكومة السعودية مدى ما كانت أرامكو تحجبه عنها عن أموال، فتعزز موقف الحكومة في التفاوض بشأن إعادة النظر في اتفاقيات الامتياز.

عام 1949 منح امتياز في المنطقة المحايدة لمدة ستين عاما إلى (باسيفيك ويسترن اويل كوربريشن) (بدل اسمها فيما بعد إلى (غيتي اويل كومباني) وذلك على حساب حصة العربية السعودية. ومقابل حق التنقيب والاستثمار في أرض مساحتها ألفا ميل مربع، بما فيها الجرف القاري لمسافة تمتد ستة أميال عن الساحل، وافقت الشركة على : دفع 9.5 مليون دولار مقدما ومنح بدل إيجار قدره 55 سنتا عن كل برميل من النفط الخام و12.5% من عوائد تسويق الغاز ومشتقاته، ودفع سلفة مقدارها مليون دولار كمقدم عن بدل الإيجار. وإذا كان بدل الإيجار المستحق الكامل أقل من هذا المبلغ فإن الحكومة غير ملزمة بإعادة القسط الأول.

عام 1953 تدفقت نافورة النفط الأولى في المنطقة المحايدة ونقلت أول كمية من النفط الخام عام 1954. وشرعت (امين اويل)، و(غيتي اويل) باستخراج النفط كل في حقولها وضخه عبر أنابيبها وموانئها ومستودعاتها.

وقعت في ديسمبر 1957 اتفاقية مع شركة (جابان بتروليوم ترايدنغ كومباني اول طوكيو) اليابانية التي قامت بتأسيس (شركة النفط العربية) ومنحت هذه الشركة حقا استثنائيا في التنقيب لمدة لاتتجاوز السنتين في الجرف القاري للمنطقة المحايدة خارج حدود الستة أميال عن الساحل. وفي حالة اكتشاف النفط تمنح الشركة امتيازا لمدة 44 سنة. وقد بدأ الحفر عام 1959 وتم استخراج الدفعات الأولى من النفط في يناير 1960.

وتعهدت الشركة بدفع 1.5 مليون دولار سنويا لحين اكتشاف كميات تجارية من النفط، ومليون دولار أضافي سنوية بعد اكتشافه على أن تدفع المبالغ الإضافية عن كل الفترة الممتدة من توقيع الاتفاقية وحتى اكتشاف النفط.

شعار قديم لشركة AGIP (إني ENI)

وتقرر أن يكون الحد الأدنى لبدل الإيجار 2.5 مليون دولار ووافقت الشركة على دفع ضريبة دخل عن كل العمليات داخل السعودية وخارجها، بما في ذلك عن بيع النفط الخام وتكريره ونقله وتصديره إلى الأسواق. وفي كل الأحوال تقرر ألا تقل المدفوعات عن 56% من عوائد الشركة، وزيدت النسبة إلى 57% عام 1963. منحت شركات إيطالية حق التنقيب عن النفط في سواحل البحر الأحمر. وفي عام 1965 منح امتياز لشركة (اوكسيراب) الفرنسية ونصت الاتفاقية على أن للعربية السعودية حق المساهمة الفعالة في كل عمليات هذه الشركة. وفيما بعد عقدت شركة بترومين السعودية اتفاقية للتنقيب عن النفط في الربع الخالي مع (اجيب AGIP) (فرع شركة إني الإيطالية) وشركة (فيليبس). وفي سنة 1967 نقلت (بترومين) حق التنقيب على سواحل البحر الأحمر لمجموعة تتألف من (ناتوماس انترناشنل كوربريشين) و(سينكلير ارابيان اويل كومباني) والشركة الحكومية الباكستانية. وقد تغيرت تركيبة المجموعة فيما بعد، ولكن البحث عن النفط في الربع الخالي وعلى سواحل البحر الأحمر لم يسفر عن شيء.

منذ أواخر الأربعينيات وبعد أن تحسن اطلاع الحكومة السعودية على الشئون المالية وإدراكها لضخامة عوائد أرامكو من استثمار ثروات البلد النفطية، أخذت تطالب بتوزيع الأرباح بشكل أكثر إنصافا. وكان السعوديون قد سمعوا بالتوفيق الذي حالف فنزويلا التي تمكنت من زيادة عوائدها من الامتياز زيادة كبيرة، فعقدوا مع (گيتي اويل كومباني) اتفاقية بشروط أفضل بكثير من اتفاقيتهم مع أرامكو. عام 1950 صدر في 4 نوفمبر و27 ديسمبر مرسومان ملكيان فرضت بموجبها ضريبة الدخل على الأرباح الصافية لكل الشركات الأجنبية العاملة في السعودية. وقد احتجت أرامكو ولكن أجحاف الاتفاقية الأولية كان باديا للعيان. ففي السعودية كان صاحب الأرض والحكومة شخصية معنوية واحدة، في حين أن الشركات في البلدان الأخرى، ومن ضمنها الولايات المتحدة، كانت ملزمة بأن تدفع الريع لمالك الأرض والضريبة للحكومة.

بعد مفاوضات مضيئة عقدت في 30 ديسمبر 1950 اتفاقية جديدة تنص على فرض ضريبة عن المداخيل المستحصلة من بيع النفط. وافقت أرامكو على دفع الضريبة بشرط ألا يتجاوز الحجم الإجمالي لكل الضرائب والإيجار والمدفوعات الأخرى للحكومة 50% من العائد الإجمالي لأرامكو، على أن يحدد هذا العائد بعد حسم كلفة العمليات بما فيها الخسائر وضرائب الدخل إن كانت تدفع لأي بلد آخر. والتزمت الشركة بأن تقدم للدولة السعودية مجانا 2.6 مليون غالون من البنزين و200 ألف غالون من الكيروسين و7500 طن من الأسفلت.

كان ذلك إنجازا هاما، وأدى إلى جعل عوائد السعودية من النفط تصل عام 1957 إلى زهاء ضعف ما انت عليه عام 1950. ولكن موطن الضعف في هذه الاتفاقية أن العوائد احتسبت على أساس الدخل الإجمالي لأرامكو. وكان الغبن الواضح متمثلا في تناقص مايدفع للعربية السعودية في حالة فرض ضرائب على الشركة في دولة أخرى. وقد ألغي هذا البند في 13 فبراير 1952.

بالرغم من زيادة المدفوعات للحكومة السعودية، فإن الاحتكارات ظلت تحصل على أرباح طائلة بفعل الكلفة الزهيدة للغاية لاستخراج النفط ورخص الأيدي العاملة. فقد كان النفط المستخرج في السعودية يكلف أرامكو مبلغ يقل عشر مرات تقريبا عن كلفة فنزويلا. وبلغت الأرباح الصافية لأرامكو بعد حسم المدفوعات والضرائب للحكومة السعودية 2.8 مليار دولار في فترة 1952-1963 أي بمعدل 57.6% من الرأسمال المستثمر وبلغت النسبة 81.5% عام 1961. أما في الولايات المتحدة فإن الربح الصافي يعادل 10-12% من الرأسمال المستثمر. في مارس 1963 وافقت التايبلاين على زيادة سعر كل برميل ينقل إلى صيدا، وأن يكون لهذا الإجراء مفعول رجعي منذ 6 أكتوبر 1953، كما وافقت على دفع ضرائب دخل عن الربح الصافي.

أعلن في فبراير 1954 أن الحكومة السعودية منحت مالك الأسطول التجاري اليوناني أرسطو سقراط اوناسيس الحق في أن ينقل بحرا من العربية السعودية كل النفط باستثناء ما ينقل على السفن العائدة أ) للشركات صاحبة الامتياز ب) لشركاتها الأصلية أو لفروعها ج) لمشتري النفط. وأشارت الاتفاقية إلى أن النية متجهة لتأسيس شركة نقل مختلطة يمتلكها اوناسيس والحكومة السعودية وقد نددت بريطانيا بهذه الخطوة تنديدا شديدا، ووصفتها الغرفة البحرية البريطانية بأنها (أوقح مثال على الاستخفاف بالعالم) و (تدخل فظ في القانون التجاري المتعارف عليه). كما أن ناطقا بلسان وزارة الخارجية الأمريكية احتج على الاتفاقية. ونظمت شركات النفط مقاطعة لسفن اوناسيس في كل أنحاء العالم، وبعد بضعة أشهر من الصراع استسلم اوناسيس وتخلي عن العقد.

منذ بداية الأربعينيات، وخاصة في الخمسينيات، أخذ مسئولو أرامكو يدركون أن الظروف المناسبة لاستغلال حقول النفط السعودية قد تتعرض للخطر إذا لم يضمن نظام حكم مستقر موالي لأمريكا في البلد. ولم تكن جهود الشركة أرامكو ووسائل الضغط التي بحوزتها كافية لإبقاء المملكة في الفلك الأمريكي، لذا كان ينبغي تحريك ماكنة الدولة الأمريكية بكل دوائرها السياسية والدبلوماسية والاقتصادية والإعلامية – الدعائية والعسكرية. وأخذ دور العربية السعودية يتعاظم باستمرار في قائمة أولويات السياسة الخارجية الأمريكية.

أواخر عهد عبد العزيز - بداية حكم سعود

في آخر سنوات حياة ابن سعود أخذت إدارته لشئون المملكة تسوء شيئا فشيئا. فإن مؤسس الدولة الإقطاعية المركزية كان وليد عصر ولي زمانه، وليد المجتمع الإقطاعي القبلي، ولم يكن ليفهم التغيرات أو يتقبلها.

بفضل الزيادة السريعة في استخراج النفط وتعديل اتفاقيات الامتياز، ازدادت عوائد السعودية في السنوات الأولى التي أعقبت الحرب عشرات المرات. ورغم ذلك ظلت المملكة بمثابة ضيعة إقطاعية عائلية كبيرة، ويعتقد الحكام أن عوائدها يجب أن تنفق، في المقام الأول، على احتياجات العائلة المالكة.

وبعد أن سافر أفراد العائلة السعودية في الأربعينيات والخمسينيات إلى الخارج واطلعوا على ظروف حياة الطبقات الحاكمة في أوروبا الغربية والولايات المتحدة، تاقت أنفسهم إلى الأبهة المعقولة وغير المعقولة. واقترن ذلك بالعجز التام عن التوفيق بين النفقات والمداخيل، والعزوف عن حساب المال وهو أمر تتميز به الأرستقراطية الإقطاعية القبلية، علاوة على السخاء – وهو خصلة بشرية إيجابية تحولت عندهم إلى نقيضها حينما صارت إسرافا لم يسبق له في التاريخ مثيل في بلد بشكل غالبيته سكان شبه جياع يرزحون في لجة الفقر والأمراض.

الملك سعود مع الرئيس الأمريكي أيزنهاور في البيت الأبيض. كتب الرئيس الأمريكي "أيزنهاور" في يومياته: "سعود" (الملك سعود) كان هنا على عشاء رسمي في البيت الأبيض- كنا بالفراك وكانوا بالعباءات . كان أولاد البترول (رؤساء مجالس إدارات شركات البترول) يجرون من حول الملك – طبعا أرباحهم هذه السنة كانت خيالية. سعود مهتم ببنادق الصيد لكنه يفضل الصيد بالصقور.إنني أختنق من روائح السعوديين والبخور لا زال يملأ البيت الأبيض. إنه شخصية من القرون الوسطى- هذا المخبول أعطى لخدم البيت الأبيض بقشيشا ما بين خمسين إلى مائة دولار لكل واحد منهم – إعطاء البقاشيش ممنوع في البيت الأبيض ولكنني في هذه المرة حبست لساني في فمي فالمهم أن يدخل معنا سعود في مشروعاتنا – لكنه منطو على نفسه وخجول ولا أعرف بحق السماء كيف يتسنى له أن يتحدى شخصية "ناصر" الجذابة على زعامة العالم العربي.

بدأ تصاعد مجنون في الإنفاق على البلاط والفخفخة، وكثرت الأمثلة على إسراف العائلة المالكة وورد ذكرها في العديد من الكتب والمجلات والصحف بحيث لم يعد ثمة داع للاستفاضة فيها. تقاطر على الرياض شذاذ الآفاق والنصابون من جميع أنحاء الشرق الأوسط. ورست الصفقات على كل من يدفع رشوة أكبر. واستشرى الفساد في البلاط الملكي وجهاز الموظفين وبلغ مدى مروعا. ومنذ ذلك الحين بدأت الأموال تتسرب من المملكة لإيداعها في الخارج. وكان التجار والمقاولون الجشعون يخدعون الحكام ويبيعون السلع والخدمات بأسعار تزيد خمس أو عشر أو عشرين مرة عن سعرها الحقيقي. ولكن عندما لايوجد ما يكفي من المال كانت العائلة المالكة لا تكلف نفسها من عناء سوى الامتناع عن سداد الديون. وأصبح الوضع الشاذ وخطره على النظام جليا لعدد من الأفراد العائلة الحاكمة البعيدي النظر. ولكن إجراءات الملك الرامية لتحديث الدولة كانت ذات طابع شكلي وسطحي بحت.

وفي أواخر أيامه فحسب، في أكتوبر 1953، أصدر ابن سعود مرسوماً حول إعادة تنظيم مجلس الوزراء الذي أصبحت وظائفه لا تقتصر على الحجاز بل تشمل، شكليا وفعليا، البلاد كلها. ولكن مجلس الوزراء الجديد لم يشرع بمزاولة أعماله إلا بعد وفاة ابن سعود. كان عبدالعزيز في شبابه وكهولته إنسانا قويا شجاعا، رويت فيه الأساطير. ونقل الزركلي عن طبيب ابن سعود الخاص رشاد فرعون الذي صار وزيرا للصحة وواحدا من أغنى أغنياء البلد، أسطورة تقول أن عبد العزيز أصيب في إحدى المعارك بجرح في بطنه. وقد عرض فرعون عليه أن يحقنه بالمخدر (البنج) فأخذ عبدالعزيز المبضع وشق موضع الإصابة وأخرج الرصاصتين وأمر بخياطة الجرح.

كان عبد العزيز يعاني من آلام بسبب جرح في ساقه وقد تزايدت مع تقدمه في العمر. ولم يكن بوسعه ثني إحدى ركبتيه إذ أن ذلك يسبب له آلاما مبرحة، ولا يستطع أن يخلد للنوم إلا بعد أن تفرك ركبته ساعة أو أكثر. وقد أهداه الرئيس الأمريكي روزفلت كرسيا متحركا هو نسخة طبق الأصل من كرسيه. وأعجب ابن سعود أيما إعجاب بالكرسي ولم يعد يفارقه. ويبدو أن ذلك عجل في وفاته لأنه لم يعد يتحرك فترهل. كان أكثر ما يخشاه ابن سعود هو حدوث تنافس بين ولديه الأكبر سنا. فطلب منهما قبيل وفاته أن يقسما على ألا يتقاتلا. وكان يذكر ماحل بأبيه وأعمامه بعد وفاة جده فيصل ويخاف أن يؤدي الشقاق داخل العائلة إلى تقسيم مملكته.

توفي عبد العزيز في التاسع من نوفمبر 1953 في الطائف. وأقسم زهاء مائة أمير اجتمعوا عند جثمانه يمين الولاء لسعود الذي بايعه ملكاًُ ولفيصل كولي للعهد. ونقل جثمان ابن سعود جوا إلى الرياض حيث دفن وفق التقاليد الوهابية المعتادة دون شاهد أو تابوت أو ضريح. ويصعب تمييز مقبرته عن سواها، وهي تقع إلى جوار مقابر سائر أفراد العائلة ومنهم أحب اخته نورة. وبذا ظل الوهابيون الذين هدموا القباب وشواهد القبور أوفياء لأنفسهم.

في التاسع من نوفمبر 1953 أكد العاهل الجديد سعود تعيين شقيقه فيصل نائبا لرئيس الوزراء ووزيرا للخارجية، واحتفظ لنفسه برئاسة الحكومة. يقول الزركلي أن عبد العزيز حينما توفي كان عدد الأحياء من أبنائه 34 ولدا وبلغ العدد الإجمالي لأبنائه وأحفاده وحفيداته – عدا أبناء بناته – 160، ويزيد العدد على الثلاثمائة إذا أضفنا ذريته بناته. وكان قد عقد خلال حياته عشرات الزيجات.

كان ولي العهد سعود المولود عام 1902 الإبن الثاني لعبد العزيز بعد تركي الذي توفي شابا بسبب إصابته بالأنفلونزا. وأم سعود من آل عريعر الأرستقراطيين وهم شيوخ بنو خالد، وقد توفيت عام 1969، أي بعد وفاة إبنها. وولد فيصل عام 1906 من الزوجة الثالثة لعبد العزيز وهي من آل الشيخ. وقد جرى بين الأخوين غير الشقيقين تنافس مستمر لم ينقطع حتى بعد وفاة والدهما بالرغم من اليمين الذي أقسماه له. كان لسعود 40 ولدا وهو عدد مقارب لعدد إخوته. أما غريمه فيصل فلم يكن له غير ثمانية أولاد بعث خمسة منهم للدراسة في المدارس والجامعات الأمريكية وواحدا إلى اوكسفورد وآخر إلى كلية ساندهيرست العسكرية الملكية البريطانية.

في مارس 1954 أدلى سعود في أول اجتماع لمجلس الوزراء ببيانه السياسي الأولى بصفته ملكا وقد أعلن عن تمسكه بأهداب الدين وعزمه على مواصلة سياسة والده وأساليب حكمه. وقال أن هدفه الأول هو تثبيت أصول الدين والشرع. وذكر أن من مهمات حكومته تعزيز الجيش ومكافحة الفقر والجوع والمرض وتحسين الخدمات الطبية وتأسيس وزارات للمعارف والزراعة والمواصلات. وتضمن خطاب العرش الذي ألقاه سعود فقرات صارت فيما بعد سمة ملازمة لكل التصريحات السياسية للحكومة السعودية : التأكيد على الالتزام بالتقاليد ومراعاتها، وفي الوقت نفسه الإشارة إلى الرغبة في إجراء تحديث وتطوير في الجهاز الحكومي.

تأسست في العربية السعودية ثمان وزارات: الداخلية، الدفاع، والطيران، المواصلات، المعارف، المالية والاقتصاد الوطني، الصحة، التجارة والزراعة، الخارجية. ونجد بين الوزراء عددا من الأشخاص الذين ستظل أسماؤهم تتردد طويلا في الحياة السياسية بالبلد : فهد بن عبدالعزيز (وزير المعارف)، سلطان بن عبدالعزيز (وزير المواصلات)، رشاد فرعون (وزير الصحة). غير أن الملك كان يتدخل باستمرار في أعمال أخيه ويقيد سلطته. وفي أواخر الخمسينيات بلغ الصراع الخفي بينهما حدا جعل الناس تتحدث عن ازدواجية السلطة في المملكة.

الحركة العمالية

في أواخر الأربعينيات ومطلع الخمسينيات لاحت في العربية السعودية البوادر الأولى التي تشير إلى أن قوى اجتماعية جديدة لم يعهدها البلد من قبل أبدا أخذت تظهر على المسرح السياسي، وأن نزاعات اجتماعية لم يسبق لها مثيل آخذة في التطور. ولأول مرة طرحت الطبقة العاملية الفتية مطالبها.

جرى أول إضراب لعمال أرامكو، العمال الأجانب في الأساس، عام 1945. وقدمت الإدارة تنازلات وقتية، إذ ضمنت أن يكون العمل لمدة 8.5 ساعة يوميا وستة أيام في الأسبوع، وأن تعطي إجازة سنوية مدفوعة الأجر لمدة أسبوعين. ولكن الأجانب المضربين سرحوا فيما بعد. وفي أواخر الأربعينيات شهدت حقول النفط اضطرابات عمالية جديدة. إزاء هذا الوضع أصدرت الحكومة السعودية في تشرين الأول (أكتوبر) 1947 قانون عمل استخدمت عند وضعه التشريعات المصرية. وحدد أسبوع العمل بستة أيام ويوم العمل بثماني ساعات في كل مؤسسة يزيد عدد العمال المأجورين فيها على العشرة.

شكل عمال ارمكو عام 1952 لجنة بمثابة نقابة، وفي العام التالي بدأوا كفاحهم بحزم. فقد طالبوا بضمان حق التنظيم النقابي وزيادة الأجور وقطع دابر التمييز العنصري وتوفير مساكن جديدة للعمال ودفع أجور النقل واعتماد اللغة العربية في المدارس. وامتنعت إدارة أرامكو عن تنفيذ هذه المطالب، وأيدتها أعمال اللجنة الملكية الخاصة، واعتقل 12 عضوا من اللجنة العمالية. وفي 17 أكتوبر بدأ إضراب شارك فيه زهاء عشرين ألفا من العمال العرب في أرامكو، وأعرب سكان المنطقة الشرقية عن تعاطفهم مع المضربين، إذ أن الموقف من الأمريكان وثرائهم ونمط حياتهم كان سلبيا أو عدائيا.

أعلنت الأحكام العرفية في حقول النفط، ونقل إلى المنطقة مع اللجنة العمالية والقبول بالكثير من مطالب المضربين : زيادة الأجور بنسبة 12-20% وتزويد العمال بملابس العمل والغذاء وتوفير وسائط النقل ومنحهم درجات تأهيلية أعلى. وأطلق سراح المعتقلين من أعضاء اللجنة وأعيدوا إلى أعمالهم، ولكن العمال لم يحصلوا على حق التنظيم النقابي. وقد انتهى الإضراب في الأول من تشرين الثاني (نوفمبر). بدأ أن الإضراب يعني بداية مرحلة جديدة نوعيا في الحركة العمالية بالعربية السعودية. وبالفعل استمرت في السنوات الثلاث التالية المفاوضات بين ممثلي العمال والشركات، وتولت لجنة ملكية خاصة النظر في النزاع. ولكن السعي للحيلولة دون وجود حركة عمالية منظمة كان القاسم المشترك بالنسبة للسلطات السعودية والشركات.

شكلت أرامكو مايسمى بـ(لجان الاتصال)، وكلفت شكليا بدراسة مطالب العمال لتفادي النزاعات. أما في الواقع فإن هذه اللجان كانت تبحث عن (العناصر الحربية) وتلاحق النشطاء من العمال. عام 1956، حينما أدت الأحداث الثورية في مصر إلى تعاظم الحركة المناهضة للإمبريالية في سائر البلدان العربية، أصبحت المنطقة الشرقية المركز الطبيعي للتحركات الجماهيرية. وعندما وصل الملك سعود إلى ظهران في 9 تموز (يوليو) 1956 استقبلته مظاهرة جماهيرية ترفع شعارات مناهضة للإمبريالية وطالب المتظاهرون بإجلاء القاعدة الأمريكية. وسلمت إلى الملك مطالب العمال وهي : الاعتراف رسميا باللجنة التي انتخبوها وزيادة علاوة غلاء المعيشة وزيادة الأجور وتقليص يوم العمل ووقف التسريح الكيفي ومساواة العمال المحليين والأمريكان في الحقوق وإلغاء التمييز العنصري وإصدار قانون يكفل بحقول عمال أرامكو ويحمي كرامتهم.

بعد مرور يومين، في الحادي عشر من يوليو، أصدر الملك مرسوما يمنع كل الاضرابات والمظاهرات ويوقع على المخالف عقوبة الحبس لمدة لاتتجاوز الثلاث سنوات. بدأت حملة اعتقال وتعذيب العمال النشطاء وفق قوائم أعدتها الأجهزة الخاصة لأرامكو. وفي 17 يوليو أعلنت اللجنة المركزية للعمال العرب الإضراب العام , كان من بين المطالب التي طرحتها الطليعة الواعية من العمال : سن الدستور وإجازة الأحزاب السياسية والتنظيمات الوطنية وتقنين حق التنظيم النقابي وإلغاء المرسوم الملكي حول حظر الإضرابات وإيقاف تدخل أرامكو في شئون البلد الداخلية وإجلاء القاعدة الأمريكية من الظهران وإطلاق سراح المعتقلين كافة. ولكن من المستبعد أن تكون جماهير العمال في الإحساء قد بلغت آنذاك مستوى عاليا من الوعي البروليتاري والسياسي يؤهلها للدفاع عن مثل هذه المطالب لذا فإن الإضراب القصير لم يعطل عمل حقول النفط. واستخدم في عمليات قمع العمال بدو من هجر الإخوان والحرس الشخصي لأمير المنطقة الشرقية المكون من العبيد والمعتوقين. وقد اعتقل مئات الأشخاص وعذبوا وصدرت أحكام بالحبس لمدة مختلفة والطرد من البلاد.

جرى الإضراب الأول بعد مرسوم الحظر الصادر عام 1956، سنة 1958 حينما توقف السواق العاملين لدى إحدى المقاولين عن العمل احتجاجا على الساعات الإضافية. ولكن من المهم الإشارة إلى أن الاضطرابات العمالية عام 1956 كانت آخر تحرك كبير تقوم به البروليتاريا السعودية من الخمسينات إلى السبعينات.

تأزم الوضع الداخلي في أواسط النصف الثاني من الخمسينيات

لم يكن سعود يتمتع بالهيبة وقوة الشخصية اللتين كانتا سمة عبد العزيز، ولكنه كان يحاكي والده في نواقصه إلى حد كبير بحيث بدأ نسخة كاريكاتيرية عنه. فقد واصل العيش في عالم يمت إلى ماضي الجزيرة وله حريم كثير العدد وبلاط قوامه خمسة آلاف شخص، وكان يبذر المال معتبرا عوائد البلد ملكه الخاص ولا يقر بوجود فرق بين كثرة المال ولا محدوديته.

وكان طرد فيلبي من القرائن التي توضح الجو السائد في البلاد عقب وفاة عبد العزيز. فبعد وفاة ابن سعود أخذ فيلبي، الذي كان يعتبره بطلا، يتحدث جهارا عن الفساد المستشري في البلاط والمملكة مما أثار نقمة سعود. ولكن ما أن غادر فيلبي البلد حتى وجد جمهورا كبيرا ومنبرا لانتقاد النظام. فاختار الملك أهون الشرين وسمح له بالعودة لكي يقضي آخر سنوات حياته في وطنه الثاني.

أخذت الرشوة تنخر في جهاز الدولة من أعلاه إلى أدناه. وجاء في كتاب (جحيم الحكم السعودي) الصادر عن ممثلي المعارضة الديمقراطية الثورية، أن حاكم المنطقة الشرقية حصل على ثلاثين ألف ريال مقابل إطلاق سراح مقاولين كبار حكم عليهم بالسجن سنة واحدة والضرب لتعاطيهم الخمرة. وزاول الكثير من أفراد العائلة المالكة وأمراء المحافظات عمليات نقدية غير مشروعة. فقد استغل حاكم المنطقة الشرقية سلطته وأرغم البنوك على بيعه النقد الأجنبي وفق السعر الرسمي (الدولار الواحد = 3.75 ريال) ومن ثم قام ببيع الدولار الواحد في السوق السوداء مقابل ستة ريالات أو أكثر. خلال فترة 15-20 سنة الأولى من عصر النفط أدت الزيادة الكبيرة في عائدات النخبة الحاكمة إلى زيادة الطلب على العمال العبيد. ورغم أن الرق كان ألى حد ما ذا طابع أبوي، فإن العبيد غالبا ماكانوا يتعرضون لاستغلال بشع ومعاملة قاسية في أحوال كثيرة. ولكن ظلت قائمة عادة عتق العبيد حينما يكون السيد في النزع الأخير لأن الإسلام يعتبر ذلك مغفرة للذنوب.

حظر الإتجار بالرقيق - جريدة أم القرى 1936

وفي الخمسينات استمرت في السعودية تجارة العبيد وأسواق الرقيق، وكان غالبية العبيد من الصومال وأثيوبيا والسودان والمستعمرات الفرنسية في غرب أفريقيا، علاوة على بلوشستان.

لم تتأثر تجارة الرقيق في السعودية كثيرا بالكفاح الدولي ضد هذه الآفة. وكانت الحكومة السعودية قد أعلنت عام 1936 أن استيراد العبيد أو استعباد الحر أمر غير مشروع ويعاقب المخالف بالحبس لمدة لاتتجاوز السنة. ولكن تجارة الرقيق استمرت عمليا وكان العبيد ينقلون إلى السعودية في الغالب أثناء موسم الحج كحجاج.

أدى انتشار الفساد بين الفئة الحاكمة وعدم التمسك بالزهد ولو شكليا، والترف في الملبس وأبهة القصور والسيارات، إلى إثارة النقمة ليس في أوساط الجماهير فحسب بل ولدى بعض العلماء من الحريصين على التقاليد الوهابية، وخاصة الذين لم يرتقوا إلى قمة السلم الديني. واعتبر هؤلاء أن اعتماد عناصر التحديث وإن كانت سطحية، وأنماط الحياة الجديدة (بدعة) مرفوضة. وتعارضت أفكارهم مع آراء مجموعة العلماء المقربة من البلاط.

في معرض الحديث عن علماء الدين الرسميين يقول فيلبي : (يبدو أن العلماء المسئولين عن الأخلاق والسلوك في البلد قد تخلوا عن رسالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر معتبرينها مهمة عقيمة. ألم تكم أفواههم بالذهب ؟... يحصل العلماء على مبالغ طائلة مخصصة للإنفاق على الفقراء والمحتاجين وما إلى ذلك من أعمال الخير). ولم يقدم أي كشف بالحساب من قبل هؤلاء الأطهار المنزهين... (ولا توجد أية وصولات ممن يتلقون العون... وهناك فرص سانحة لنهب أموال الدولة. فحتى علماء الدين الوهابيون بشر قبل كل شيء).

في مطلع الخمسينات، وخاصة بعد الثورة المصرية عام 1952 وتحت تأثيرها، ظهرت براعم تنظيم ديمقراطي ثوري سري معارض للنظام. وكانت أول مجموعة شكلت بفعل الإضراب العمالي عام 1953 هي جبهة الإصلاح الوطني التي أسسها شباب سعوديون من منتسبي القوات المسلحة والموظفين والمستخدمين في أرامكو والذين حصلوا على مناصب من التعليم. وأعلنت الجبهة أن أهدافها هي:

- تحرير البلاد الناجز من الهيمنة الإمبريالية ومن التسلط الاقتصادي لأرامكو وشركات النفط الأخرى.

- اعتماد دستور يكفل الانتخاب البرلماني وضمن حرية النشر والتجمع وإجازة الأحزاب والنقابات وحرية التظاهر والإضراب.

- تطوير الصناعة الوطنية وتوفير البذور والأسمدة والآلات الزراعية للفلاحين بأسعار منخفضة.

- إلغاء الرق.

- إعادة النظر في الاتفاقيات المعقودة مع شكرات النفط وتعديلها بشكل يضمن حق استثمار ثروات البلد بشكل يكفل تقدمه الاجتماعي والاقتصادي والثقافي.

- مكافحة الأمية وتأسيس مدارس البنات وتوسيع التعليم العالي والمهني.

واعتبرت جبهة الإصلاح الوطني نشاطها جزءا من الكفاح التحرري الذي تخوضه الشعوب العربية ضد الإمبريالية وفي سبيل التعاون والوحدة على أساس حر ديمقراطي. وعلى صعيد السياسة الخارجية دعت الجبهة إلى تعزيز العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية والثقافية مع البلدان العربية وإقامة علاقات اقتصادية مع الدول الاشتراكية، واتباع سياسة الحياد الإيجابي والتعايش السلمي ومناهضة المذاهب والأحلاف الإمبريالية. أعلنت الحكومة السعودية عام 1956 عن تصفية جبهة الإصلاح الوطني، واعتقل عدد من أعضائها، علاوة على 56 شابا عرفوا بأفكارهم الديمقراطية. وصار عمل الجبهة في الداخل صعبا للغاية، ولكن أعضاءها واصلوا التبشير بآرائهم في مصر وسورية ولبنان وفي المحافل الدولية.

كان من أنشط العاملين على تنظيم جبهة الإصلاح الوطني الملازم عبدالرحمن الشمراني الذي عمل بين مجموعة من الضباط الشباب في الجيش النظامي وسجن الشمراني مع أربعة ضباط آخرين بتهمة التآمر ضد النظام القائم، ثم أعدم. وأهدى كتاب (جحيم الحكم السعودي) لذكراه. وتحت تأثير إذاعة القاهرة وجدت الميول المناوئة للحكومة تربة خصبة بين جزء من الضباط وفئة المنفقين الناشئة والطلاب وتلاميذ المدارس.

كانت صحيفتا (الفجر الجديد) و (أخبار الظهران) تنشران مقالات تنتقد الحكومة علنا أو بشكل غير مباشر. وقد اعتقل صاحب امتياز (الفجر الجديد) ورئيس تحريرها يوسف الشيخ يعقوب والصحفي احمد الشيخ يعقوب، وأغلقت الصحيفة. كما اعتقل رئيس تحرير (أخبار الظهران) عبدالكريم جهيمان وجلد قبل إيداعه السجن. عام 1956 أسست لأول مرة في تاريخ نجد منظمة تلاميذ المدارس في مدن عنيزة وبريدة وشقراء والرس. وكان من مطالبها الأساسية حل جماعة الأمر بالمعروف التي شكلت في العشرينات وصارت بؤرة عفن تشكل خطرا على الأطفال الطامحين إلى العلم. وطالب التلاميذ بتوحيد أساليب وبرامج التدريس وجعلها على غرار النظام المتبع في مصر وسورية، وتأسيس معاهد عليا في البلد. وجرت في بريدة اشتباكات بين التلاميذ والمتعصبين من جماعة الأمر بالمعروف والشرطة، واعتقل أثرها عشرات الأشخاص وجلدوا.

خشيت الحكومة أن يؤدي تطور التعليم والدراسة في الخارج إلى ظهور أفكار هدامة في البلد فقررت منع الدراسة في الخارج. وفي إبريل 1955 أصدر الملك مرسوما يقضي باستدعاء كل الطلبة السعوديين الدارسين في الخارج وحرمان المخالف الجنسية السعودية. واستثنى المرسوم طلبة المعاهد العليا الذين يدرسون الهندسة والحقوق والطب. وكان القرار منافيا لاحتياجات البلد إلى حد بحيث أنه أصبح باطل المفعول عمليا بعد سنوات.

في محاولة لمنع الأفكار الجديدة لجأت الحكومة وعلماء الدين إلى سلاح مجرب، وهو التعصب الديني، فانتعشت في البلد جماعة الأمر بالمعروف وازدادت المبالغ المخصصة لها. استخلص آل سعود من ثورة 1952 في مصر التي جرت بشكل انقلاب عسكري، استنتاجا مفاده أن ثمة خطرا على النظام يكمن في الميول الثورية في الجيش النظامي، وعلى وجه التحديد بين الضباط الذين يتأثرون بالأفكار المناهضة للإمبريالية والحكم المليك. وكان قد جرى بعد الحرب التركيز على بناء الجيش النظامي، وأبقيت الكتيبة التي كانت قد أرسلت لمحاربة اسرائيل عام 1948 في مصر لإعدادها عسكريا. وتولت البعثتان الأمريكية والبريطانية، ومن ثم البعثة المصرية، تدريب الجيش النظامي.

وفي الخمسينات توصل الملك وحاشيته إلى استنتاج مؤداه أن عصبية الإخوان الآخذة في الخمود لم تعد تشكل خطرا على النظام، بل أنها موجهة ضد البدع وإغراءات الحضارة العصرية. لذا أخذت السلطات تولي اهتماما كبيرا للمجندين من البدو.

أصبح البدو المجندون يسمون الحرس الوطني أو الجيش الأبيض. وجهز الحرس الوطني بالأسلحة الحديثة وصار المنتسبون إليه – المجاهدون – يتقاضون رواتب عالية. رابطت غالبية وحدات الحرس الوطني قرب المدن الكبيرة وخاصة قرب حقول النفط. وفي عام 1957 كان يوجد من الحرس الوطني 10 آلاف في الحجاز و5 آلاف في الإحساء و5 آلاف في الشمال. ويقع مقر قيادة الحرس الوطني في الرياض، وهناك مدارس في الحجاز ونجد لإعداد الآمرين والفنيين.

يورد الباحث الفرنسي المختص بشئون الشرق الأوسط بويربى في كتابه (شبه الجزيرة العربية) مضمون الإيعاز الخاص بالصادر عام 1957 بعنوان (الإخوان ينافسون الجيش). وجاء في الإيعاز أن الدولة السعودية سوف تواصل إيلاء الاهتمام لبناء جيش نظامي كبير، غير أنها تفضل مع ذلك الإنفاق على وحدات أفرادها من البدو فقط. ويبقى تنظيم الإخوان القوة الأساسية للجيش بسبب طابعها الديني ووفائها للأسرة المالكة. وتكمن خاصية تنظيم الإخوان في القدرة على تعبئة جيش قوامه مائة ألف مقاتل خلال فترة قصيرة جدا. ولكن اتضح أن الإجراءات التي اقتصرت على تعزيز القوات المسلحة لم تكن من الفعالية بالقدر الكافي لتوطيد النظام. فقد كان البلد على حافة إفلاس اقتصادي. وأدى تبذير آل سعود والبلاط الملكي ونهب أموال الدولة على أوسع نطاق، إلى أن ديون العربية السعودية للبنوك الأجنبية وحدها بلغت عام 1958 زهاء 120 مليون دولار. وبلغت ديون خزانة الدولة للبنوك المحلية والتجار ورجال الأعمال والمقاويل مئات ملايين الريالات. وطوال عدة أشهر لم يتقاض الموظفون رواتبهم فاضطروا إلى الاستلاف أو الاختلاس.

في سنتي 1956-1957 تقلصت إلى حد كبير المدفوعات عن حقوق الامتياز بسبب إغلاق الأسواق الأوروبية أمام النفط السعودي وبدء انخفاض الأسعار القياسية. وأدى تقلص استيراد السلع، ومن ضمنها الأغذية، إلى تزايد الأسعار داخل البلد. وقاد الغلاء وتقلص تدفق العملة من الخارج إلى التضخم والمضاربة بالنقد. وبسبب عدم توفر العملة اللازمة لشراء السلع الضرورية والمعدات في الخارج صار الكثير من المقاولين والتجار السعوديين على حافة الإفلاس، وساعد ذلك على انتشار الاستياء في أوساطهم.

وقد حاول بعضهم إقامة صلات مع البلدان الاشتراكية. ففي عام 1957 اشترى التاجر السعودي العباسي كمية كبيرة من الأسمنت السوفييتي. وزار بعض رجال الأعمال تشيكوسلوفاكيا حيث اتفقوا على شراء معدات مصنع للسكر وسلع صناعية ومواد غذائية. إلا أن أرامكو رفضت التعاون مع التجار ورجال الأعمال الذين يتعاملون مع الدول الاشتراكية ومنعت استخدام الأسمنت السوفييت في مشاريع البناء التي أرستها على مقاولين محليين وهددت المخالف بفسخ عقد المقاولة. وضغطت الحكومة الأمريكية على الملك فمنع التعامل التجاري مع البلدان الاشتراكية.

أحدثت السياسة الداخلية للحكومة السعودية استياء بين أوسع فئات السكان وبدأت تتكون في البلد عناصر وضع ثوري. كان كل من الطبقة الحاكمة والمعارضة يضع في حسبانه عاملا آخر بالغ الخطورة ذا أهمية بالنسبة لمصير النظام، ونعني التأثير الثوري الذي يمارسه الوضع السياسي في الشرق الأوسط على الأوضاع في العربية السعودية.

الاتجاهات الأساسية للسياسة الخارجية

الرئيس الأمريكي هاري ترومان يمنح وسام الاستحقاق فيلق درجة قائد للعاهل السعودي فيصل بن عبد العزيز.

نشر الزركلي وثيقة سرية هامة تحدد السياسة الخارجية للعربية السعودية في النصف الثاني من الأربعينيات والنصف الأول من الخمسينيات، ونعني بتلك الوثيقة التعلميات السرية التي تلقاها ولي العهد سعود قبيل زيارته إلى الولايات المتحدة عام 1947.

وأشارت التعليمات إلى وجود مصالح عديدة ومشاعر بأهداف عامة تربط بين السعودية والولايات المتحدة الأمريكية. وثبتت هذه الأفكار في رسالة رسمية إلى الرئيس هاري ترومان. وطلب من الأمير سعود أن يؤكد للرئيس الأمريكي ولأعضاء حكومته تصميم السعودية على اتخاذ جميع التدابير التي تكفل حسن العلاقات وتنمية الصداقة والمصالح الاقتصادية والأدبية للجانبين. كما طلب ابن سعود من ولده أن ينقل للأمريكان (أننا قد نظرنا بعين الرضاء والاطمئنان إلى ترك الولايات المتحدة سياسة العزل والانقطاع التي كانت تسير عليها في الماضي، وعلقنا الامال الجسام على دخولها معترك سياسة الشرقين الأدنى والأوسط). وبالنسبة لبريطانيا أراد ابن سعود أن يقوم ولي العهد بإفهام ترومان ورجال حكومته (أننا، منذ نشأتنا، كنا ولانزال أصدقاء أوفياء لبريطانيا بالرغم من... حصول مشكلات ومتاعب عديدة. خبرنا الإنجليز وهم خبرونا، وعرفناهم وهم عرفونا) لذا فإن التفاهم بين الطرفين كان سهلا رغم أن بريطانيا اتخذت مواقف سلبية أو غير ودية في بعض الأحيان إزاء السعودية.

وجاء في التعليمات أن بريطانيا كانت حريصة على الاحتفاظ بمنطقة الشرق الأوسط، ضمن دائرة النفوذ السياسي والاقتصادي البريطاني. غير أن دخول أمريكا بنشاطها الملموس، أثار مخاوف الإنجليز. ومن ثم بدأنا نشعر بانحرافهم عنا إلى خصومنا، وأشارت التعليمات إلى عدول بريطانيا عن سياسة التوازن بيننا وبين خصومنا، وشروعها في تقويتهم بصورة مباشرة وغير مباشرة.

وطلب من سعود التأكيد على ضرورة التفاهم مع الولايات المتحدة، وألمحت التعليمات إلى أن التفاهم مع أمريكا أمر ضروري. وهو مانرجو أن نعلم من الآن المدى الذي توافق أمريكا على السير فيه. يتعلق البند السابع من التعليمات بموقف السعودية من الاتحاد السوفييتي، الذي زعم أنه يشكل خطرا غير مباشر على المملكة بسب العلاقات القوية بين الشيوعية والصهيونية والدعاية الروسية التي تقوم بها الكنيسة الأرثوذكسية. وجاء في الوثيقة أننا نناهض الصهيونية والشيوعية، ولا نرى أن تتخذ الكنيسة الأرثوذكسية وسيلة للدعاية الروسية في البلاد العربية).

أما البند الثامن فيتناول الصهيونية ويذكر (نحن مسلمون عرب، قبل كل شيء.. واليهود أعداء ديننا منذ ظهور الإسلام) ولكن الإسلام لايقر مبدأ العنصرية... ونحن لسنا عنصريين. ولسنا نقاوم اليهود لأنهم يهود، ولكننا نقاوم السياسة التي يدعو إليها بعض اليهود. أي الصهيونيون. السياسة الغاشمة. وأسباب مقاومتنا لها عديدة ونذكر أهمها:

- الصهيونية غاشمة ظالمة وتقوم على مبدأ جائر.

- أنها تتظاهر بأنها قائمة على أساس تخليص اليهود المضطهدين. وكيف يجوز معالجة اضطهاد باضطهاد آخر؟ أو رفع الحيف بإيقاع حيف آخر أشد منه؟

- لأنها مناقضة للمصالح السياسية القائمة في البلاد العربية.

- لأنها تهدد البلاد العربية من الوجهتين الحربية والاستراتيجية. يخص البند التاسع من التعليمات الرئيس الأمريكي. فالمسألة الأولى التي نراها هي ضرورة تجرد السياسة الأمريكية عن التأثر بالعوامل اليهودية المحلية وتحررها من سيطرة الدعاية الصهيونية. والمسألة الثانية نرى ضرورة الفصل بين قضية اللاجئين المضطهدين والصهيونية السياسية، للأسباب التالية :

- أن فلسطين لايمكنها استيعاب جميع اللاجئين من اليهود فهي إذن ليست بحل للموضوع.

- لايجوز إرغام بلاد ما على قبول لاجئين إليها بدون إرادتها.

- ليس من العدل أن ترفض الولايات المتحدة قبول اللاجئين إليها، بينما هي تصر على ضرورة فرضهم على فلسطين...

- أن قضية المائة ألف لاجىء ليست في الحقيقة مسألة إنسانية ولكنا ستار لتبرير إيجاد أكثرية يهودية في فلسطين.

- ليس من الحق ولا من العدل أو الإنصاف، أن تسمح الحكومة الأمريكية لرعاياها من اليهود بأن تكون لهم سياسة مزدوجة، كأنهم رعايا دولتين منفصلتين. فيجب أن يكون إخلاصهم للولايات المتحدة فقط، لا أن يكونوا مواطنين أمريكيين وصهيونيين في نفس الوقت).

وكانت السعودية بحاجة إلى الرساميل الأمريكية لأغراض التنمية، فقدم لها قرض قيمته عشرة ملايين دولار، بيد أنها كانت تروم الحصول على 25-30 مليون دولار أخرى لمد خط للسكك الحديد من الخليج إلى الرياض. التعليمات التي نشرها الزركلي وثيقة فريدة لم ينشر مايماثلها. فقد حددت الحكومة السعودية فيها بوضوح تام أن بريطانيا هي خصمها السياسي الخارجي. وطوال سنوات عديدة تزعم عبد العزيز دولة تقع في دائرة النفوذ البريطاني التام، وسارت العربية السعودية في فلك السياسة الخارجية البريطانية، رغم استقلالها شكليا. وبظهور منافس قوي لبريطانيا، هي الولايات المتحدة، تمكنت السعودية من إضعاف، ثم قطع أواصر التبعية التي تربطها بلندن. وساد العائلة السعودية الحاكمة رأي مفاده أن الاعتماد على الولايات المتحدة لايجب أن يؤدي إلى بسط هيمنة استعمارية أمريكية.

على الصعيد العربي ظلت العائلة الهاشمية الحاكمة في شرق الأردن والعراق والتي تقف وراءها بريطانيا الخصم الخطر لآل سعود. وكانت خطتا سوريا الكبرى والهلال الخصيب اللتان جرى إعدادهما في العاصمتين الهاشميتين خطرا يهدد العربية لاسعودية. وظلت المحميات البريطانية تطوق المملكة بنصف دائرة في شبه الجزيرة العربية التي تعتبرها الرياض مجالا لنفوذها. وكان عبد العزيز يتسم بقدر كاف من الحذر منعه من تحدي بريطانيا مباشرة، ولكنه حاول الارتكاز على الولايات المتحدة للوقوف ضدها.

إن النزعة المناوئة لبريطانيا في السياسة الخارجية للعربية السعودية في أواخر الأربعينيات وبداية الخمسينيات قد أدت بها إلى عقد تحالفات ومناورات سياسية غير متوقعة. ويجب ألا يغرب عن البال أن حركة التحرر الوطني في البلدان العربية ذات الصبغة القومية آنذاك، كانت مناوئة لبريطانيا بالدرجة الأولى. وفي البداية لم يكن زعماء الحركة يعتبرون الولايات المتحدة عدوهم الرئيسي. (كان ذلك قبل سنوات من أزمة السويس وانهيار العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 والذي كان يعني أفول الاستعمار البريطاني في الشرق الأوسط). لذا فإن مصالح الأسرة الإقطاعية الحاكمة في الدولة السعودية تطابقت وقتيا مع النضال التحرري الوطني لبلدان عربية أخرى رغم كونه ذا طابع اجتماعي مختلف.

وكانت معاداة الشيوعية متماشية مع فكر الفئة السعودية الحاكمة. ويبدو أن مستشاري ابن سعود هم الذين صاغوا معاداة الشيوعية بالشكل الذي اعتمد في المملكة (الشيوعية المرتبطة بالصهيونية، والتي تستخدم علاوة على ذلك الكنيسة الارثذوكسية كأداة للتغلغل). ومن المؤكد أن واحدا من أولئك المستشارين كان فؤاد حمزة، ذلك الشخص الذي كان هتلر قد عرض من خلاله على ابن سعود (عرش حاكم العرب) مقابل التعاون مع ألمانيا النازية ومحاربة بريطانيا. وظلت المسحة النازية لهذه المنطلقات الأيوديولوجية طاغية على السياسة الخارجية للعربية السعودية سنوات طويلة. ورغم أن مصلحة الدولة لكل من الاتحاد السوفييتي والعربية السعودية لم تكن متضاربة في قضايا كبيرة، بل غالبا ماكانت تتطابق فإن العداء للشيوعية وللاتحاد السوفييتي البالغ حد اللامعقول كان يغشى بصيرة الزعماء السعوديين ويحول بينهم وبين إقامة أبسط الصلات الدبلوماسية مع الاتحاد السوفييتي، ويضعف استقلال البلد.

اتخذت العربية السعودية موقفا ثابتا، قولا وتصريحا، ازاء القضية الفلسطينية. فقد كان ابن سعود قد أشار منذ عام 1937 في حديث مع ديكسون إلى اعتقاده بأن الهدف النهائي للصهاينة هو الاستيلاء ليس على فلسطين فقط، بل وعلى أرض تمتد حتى المدينة المنورة، وفي الشرق يأملون بسط هيمنتهم على أراض تمتد إلى الخليج العربي. وحاول الصهاينة مرارا التوصل إلى اتفاق مع الملك. ومن هذه المحاولات العرض الذي نقله فيلبي من وايزمان (رئيس اسرائيل فيما بعد) إلى ابن سعود عام 1940. إذ أن الصهاينة استغلوا مصاعب ابن سعود المالية فعرضوا عليه عشرين مليون جنيه استرليني مقابل تخليه عن موقفه ازاء القضية الفلسطينية والقبول بإسكان كل عرب فلسطين في الجزيرة العربية. وقد رفض ابن سعود هذا المشروع.

إن ماورد في التعليمات الموجهة إلى سعود من تقييمات للنفوذ الصهيوني في الولايات المتحدة والسياسة الصهيونية في فلسطين هي واقعية في بعضها ومبالغ في بعضها الآخر. وبعد أن أخل ترومان بالوعد الذي قطعه روزفلت بعدم انتهاج سياسة معادية للعرب حيال القضية الفلسطينية، نشأت تعقيدات بين واشنطن والرياض إزاء هذه القضية. بيد أن عبد العزيز ومن تلاه من ملوك كانوا يتعاملون مع القضية الفلسطينية والخطر الصهيوني بشكل براغماتي بحت، واضعين في المقام الأول المصالح الملموسة للعائلة السعودية الحاكمة التي ازدادات روابطها بالولايات المتحدة متانة. وعوضا عن المساهمة في النضال ضد مشاريع الصهاينة وضد العدوان الإسرائيلي فيما بعد كانت العربية السعودية تدفع البلاد بتصريحات شديدة اللهجة على غرار ماورد في التعليمات الموجهة إلى سعود، أو بتقديم عون مالي للفلسطينيين ودول المواجهة.

منذ السنوات الأولى التي أعقبت الحرب تعقدت علاقات الولايات المتحدة مع العربية السعودية بسبب الدعم الأمريكي للمطامع الصهيونية في فلسطين، ولنهج اسرائيل التوسعي العدواني فيما بعد. ففي أكتوبر 1945 قال الرئيس ترومان في حديث مع رؤساء البعثات الدبلوماسية الأمريكية في البلدان العربية الذين أبدوا تخوفهم من ميل واشنطن الواضح إلى جانب الصهاينة، قال (أنا آسف جدا، ولكن ينبغي علي أن أحسب حساب مئات الآلاف من المقيمين في بلدي الذين لهم مصلحة في انتصار الصهيونية. وليس بين ناخبي مئات الآلاف من العرب). إن هذه الكلمات الصلفة يمكن أن تكون ديباجة لأي تصريح صادر عن أي رئيس أمريكي بخصوص النزاع في الشرق الأوسط.

وأوصلت العربية السعودية في السنوات الأولى التي أعقبت الحرب السعي للحصول على مساعدات اقتصادية وعسكرية أمريكية وحصلت عليها بالفعل. وقدم أول قرض للمملكة، خارج إطار برنامج الإعارة والتأجير، في إبريل 1945 وكان عبارة عشرة ملايين دولار لمدة عشر سنوات (بفائدة سنوية قدرها 3%) لشراء مواد غذائية ومعدات زراعية من الولايات المتحدة. وفي السنة نفسها قدم القرض الثالث وقدره 25 مليون دولار لشراء منتجات زراعية. وحصلت السعودية على عشرة ملايين دولار نقدا لإعادة تجهيز ميناء جدة وكهرباء مدينة جدة. وقدمت كل هذه القروض من قبل بنك التصدير والاستيراد الأمريكي. وعلاوة على ذلك حصلت السعودية في مايو 1946 على قرض من الوكالة الأمريكية لتصفية فائض المعدات العسكرية الأمريكية في الخارج قدره مليوني دولار كسلفة تجارية لشراء معدات عسكرية.

عند حلول عام 1951 كان قد أنجز مد خط للسكك الحديد بين الدمام والرياض بمساعدة أمريكية. وطبقا للنقطة الرابعة من برنامج ترومان التزمت الولايات المتحدة منذ عام 1952 بمساعدة العربية السعودية في تطوير الزراعة والمواصلات والثروات الطبيعية. واقتصرت هذه المساعدة عمليا على الدراسات وكانت مخصصاتها ضئيلة (1.7 مليون دولار وفق مصادر سعودية). أضف إلى ذلك أن جزءا كبيرا من الأموال كان مخصصا للإنفاق على البعثة الأمريكية ذاتها. ونظرا لذلك قررت العربية السعودية عام 1954 الكف عن التعاون مع الولايات المتحدة وفق النقطة الرابعة، وتذرعت شكليا بأن اسرائيل تحصل على مبالغ أكبر بكثير وفق البرنامج نفسه.

كانت القاعدة الجوية في االظهران التي أنجز أبناؤها عام 1946 الركيزة العسكرية الأساسية للولايات المتحدة في السعودية. وقد مدد عقد إيجار القاعدة لمدة خمس سنوات حسب اتفاقية وقعت في 18 يونيو 1951، وتعهدت الولايات المتحدة مقابل ذلك بتجهيز الجيش السعودي بطائرات ودبابات حديثة. ونص ملحق خاص بالاتفاقية على أن يتولى خبراء أمريكان تدريب الطيارين السعوديين. أصبحت الظهران مقرا للمستشارين الأمريكان الذين وصلوا إلى السعودية عام 1952، وتولوا إعداد القوات الجوية السعودية في جدة والطائف. وكان اتساع نشاط الخبراء العسكريين الأمريكان يعني إزاحة البريطانيين الذين تولوا تدريب الجنود السعوديين منذ عام 1947.

العلاقات مع بريطانيا - أزمة البريمي

لم ترسم الحدود بين العربية السعودية والمحميات البريطانية – قطر وإمارات ساحل الصلح البحري وعمان ومحميات عدن (جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية فيما بعد) – ومع اليمن في منطقة الربع الخالي، وكانت الحدود موضع خلافات. واكتسبت المسألة حدة خاصة في أواخر الثلاثينيات، وخاصة في الأربعينيات عندما بدأ البحث عن النفط في مناطق شاسعة من شبه الجزيرة العربية. وأصبحت عائدية هذه الأراضي الصحراوية أو تلك، والتي لم تكن لها من قبل قيمة اقتصادية، مثار نزاعات بسبب احتمال وجود نفط فيها.

وفي أواخر الأربعينيات جرى بين السعودية وبريطانيا صراع ضار على واحات البريمي. وادعت ملكية الواحات كل من إمارة أبو ظبي وسلطنة مسقط اللتين كانتا تحت الحماية البريطانية، والمملكة العربية السعودية.

خريطة لأزمة البريمي

بلغت مساحة البريمي، حيث توجد تسعة مراكز مأهولة، زهاء ألفي كيلومتر مربع. وكانت المنطقة تعتبر تقليديا مركز تقاطع طرق القوافل المتجهة إلى الجنوب الشرقي من شبه الجزيرة العربية، وألحقت بالدولة السعودية الأولى عام 1795. واعتبر السعوديون البريمي جزءا من المنطقة الشرقية وقالوا إن هيمنتهم على الواحات استمرت 155 سنة. وطعنت بريطانيا بهذه الادعاءات معلنة أن فترة السيطرة السعودية لم تكن إلا لمحة عابرة في تاريخ البريمي، وأن المنطقة تعود لأبو ظبي وسلطان مسقط.

يقول الزركلي (امتدت أنوف المنقبين عن النفط، تشم رائحته في بعض أراضي البريمي. ولم ير الملك عبد العزيز بأسا في أن يقوم بعض مهندسي شركة الزيت العربية الأمريكية بالتنقيب). كان ذلك عام 1949. طالبت الحكومة البريطانية، نيابة عن أبو ظبي ومسقط، بوقف التنقيب في أراضي لم يتفق على عائديتها. فقرر عبد العزيز ألا يصعد الأزمة وأمر باستدعاء الباحثين عن النفط من هذه الأراضي وتأجيل الأعمال لحين الاتفاق على تدقيق الحدود. غادر جيولوجيو أرامكو وبدأ تبادل سيل من المذكرات بين الحكومتين البريطانية والسعودية.

غير أن جيولوجي B.I.P.C (بريتيش بتروليوم BP) فيما بعد بدءوا عام 1950 التنقيب في بعض الجزر التي تعتبرها السعودية ملكا لها. ومن ثم بدءوا البحث عن النفط في أراضي لم يتفق على عائديتها حسب قول البريطانيين.

في 21 مايو 1950 احتجت الحكومة السعودية، وفي الثالث من كتوبر 1950 رد السفير البريطاني في جدة بأن حكومته ترى أن ادعاء الحكومة السعودية بهذه الأراضي ليس له أساس. عقد في أغسطس 1951 لقاء في لندن بني وفد سعودي برئاسة وزير الخارجية فيصل ووفد بريطاني برئاسة وزير الخارجية هربرت موريسون. وتقرر عقد مؤتمر خاص يشارك فيه ممثلون عن الإمارات المعنية ويترأسه مندوب بريطاني وممثل عن الملك عبد العزيز للاتفاق على الحدود. واتفق الطرفان على وقف أعمال التنقيب الجيولوجي وتحركات القوات المسلحة في المنطقة المتنازع عليها لحين إنجاز المؤتمر. في أواخر يناير وفي فبراير 1952 عقد المؤتمر في الدمام ولكنه لم يتمخض عن نتائج.

بدأ تدهور العلاقات السعودية – البريطانية يشمل مجالات لا علاقة لها بالخلاف على الأراضي. ففي سنة 1951 توقف عمل البعثة العسكرية البريطانية في السعودية. وكانت مجموعة صغيرة من المستشارين العسكريين البريطانيين قد أرسلت إلى السعودية أثناء الحرب العالمية الثانية ولكن عملها لم يؤد إلى نتائج تذكر فاستدعيت قبل انتهاء الحرب. وفي سنة 1947 استأنفت البعثة العسكرية البريطانية عملها للتولي تدريب عشرة آلاف بدوي للعمل في وحدات شكلت على غرار الفيلق العربي بشرق الأردن. وأرسل للدراسة الكليات العسكرية البريطانية نفر قليل من الضباط السعوديين غالبيتهم من أبناء الملك وأقربائه. وتوقف هذا التعاون بسبب النزاع على البريمي. وابتداءا من سنة 1952 أخذ الأمريكان على عاتقهم إعداد الكوادر العسكرية السعودية، بعد أن، توطدت مواقعهم الاقتصادية في البلد. بعيد إخفاق مؤتمر الدمام وصل إلى البريمي وكيل سياسي بريطاني (لأداء وظائفه الإدارية).

وتلقى حاكم الإحساء إيعازا من عبد العزيز بتشكيل بعثة مدنية وإرسالها إلى البريمي. وترأس البعثة تركي بن عطيشان الذي عين رئيسا إداريا لها، وانتقل في مطلع أيلول (سبتمبر) 1952 إلى البريمي ونزل في حماسا.

وللتو توجه الوكيل السياسي البريطاني من الشارجة إلى البريمي على رأس وحدة عسكرية، وتوقف على بعد أربعة كيلومترات من السعوديين وبدأت الطائرات البريطانية تحوم فوق حمامسا. وللتو توجه الوكيل السياسي البريطاني من الشارجة إلى البريمي على رأس وحدة عسكرية، وتوقف على بعد أربعة كيلومترات من السعوديين وبدأت الطائرات البريطانية ابن سعود باستدعاء بعثة ابن عطيشان. في 10 أكتوبر 1952 عرض السفير الأمريكي في جدة التوسط بين الطرفين واقترح أن يحجما عن الأعمال الاستفزازية ويلازما مواقعهما في البريمي ويستأنفا المفاوضات. وكان هذا الاقتراح في صالح أرامكو لأنه يبقى للسعوديين نصف الحقوق في البريمي على أقل تقدير. واقترح عبدالعزيز إجراء استفتاء بين سكان الواحات ولكن البريطانييين رفضوا الاقتراح.

عاد الجيولوجيون البريطانيون إلى منطقة البريمي عام 1953 كان تركي بن عطيشان ما زال في موقعه محاصرا، بينما واصل البريطانيون البحث عن النفط بوتائر حثيثة. في يوليو 1954 وقع مندوبون عن السعودية وبريطانيا اتفاقية في نيس حول رفع الخلاف إلى هيئة تحكيم بدأت أعمالها في جنيف في مطلع عام 1955. وفي شهر سبتمبر 1955 استقال ممثل بريطانيا في المحكمة لإدراكه أن قرارها لن يكون في صالح بلاده. وفي أكتوبر 1955 أدخلت إلى البريمي وحدات من أبو ظبي ومسقط بقيادة ضباط بريطانيين. وبعد مقاومة رمزية استسلم رجال الشرطة السعوديون، فأعيدوا إلى وطنهم عبر أبو ظبي والبحرين. وزعم البريطانيون أنه ليس لهم دخل في احتلال الواحة، بل أن القوات المسلحة لأبو ظبي ومسقط هي التي احتلتها. أو مسقط، بل ثمة خلافات بينها وبين الحكومة البريطانية، واحتجت وطالبت بسحب القوات البريطانية، ثم رفعت شكوى ضد بريطانيا إلى مجلس الأمن للأمم المتحدة.

التزمت الولايات المتحدة في هذه المسألة الجانب السعودي ولكنها عملت كوسيط خوفا من تفاقم النزاع واقنعت الحكومة السعودية بسحب احتجاجها المرفوع إلى هيئة الأمم المتحدة واستئناف المفاوضات مع بريطانيا. وفي مايو 1956 وصل إلى جدة وكيل وزارة الخارجية البريطانية وعقد سلسلة من الاجتماعات مع فيصل، ثم واصل السفير البريطاني في جدة التفاوض من بعده. ولكن السعودية قطعت علاقاتها الدبلوماسية مع بريطانيا في 9 نوفمبر 1956 وحظرت تصدير النفط إليها بسبب اشتراكها في العدوان الثلاثي على مصر.

بعد إعلان استقلال الكويت في يونيو 1961 واجهت هذه الإمارة خطر غزوها من قبل العراق. وقد ساندت السعودية الكويت وألفت نفسها في جانب واحد من المتاريس مع بريطانيا. وأرسلت إلى الكويت قوات سعودية وبريطانية ظلت هناك حتى يناير 1963. وي سنة 1964 إقتسمت السعودية والكويت إدارة المنطقة المحايدة، ولكنها حافظتا على الاتفاقية السابقة القاضية بتقاسم الموارد النفطية مناصفة.

أخذت التناقضات السعودية البريطانية تنحسر تدريجيا تحت ضغط مصالح الطرفين المشتركة في محاربة الحركة الثورية والتحررية الوطنية في الشرق الأوسط عامة والجزيرة العربية خاصة.وفي سبتمبر 1963 التقي الأمير فيصل في دورة هيئة الأمم المتحدة في نيويورك مع وزير الخارجية البريطاني واتفقا على استئناف العلاقات الدبلوماسية واجراء مفاوضات جديدة حول البريمي. وفي يوليو 1963 عاد السفير السعودي الى لندن.

في الخمسينيات كان أحداث عمان قد زادت من تعقيد العلاقات السعودية البريطانية. فقد أخذت الرياض تساند أعداءها السابقين من الأبضيين الذين حاولت تأسيس دولة مستقلة في عمان وخاضوا من عام 1954 وحتى عام 1959 كفاحا مسلحا ضد البريطانيين وقوات سلطان مسقط. وبعد هزيمة إمامة عمان عام 1959 إلتجأ قادتها إلى العربية السعودية.

سياسة المملكة المتحدة في الشرق الأوسط

شارك مندوب عن السعودية في المفاوضات التي جرت بمصر عام 1943 حول تأسيس منظمة إقليمية للبلدان العربية. ووقع ولي العهد سعود وثائق تأسيس جامعة الدول العربية في القاهرة عام 1945. لقد أيدت بريطانيا تأسيس هذه المنطقة الإقليمية آملة إستخدامها كأداة للإبقاء على نفوذها في الشرق الأوسط،ولكنها عجزت فيما بعد عن وقف العلميات الاجتماعية السياسية ذات الطابع المناوئ لبريطانيا، كما عجزت عن شل حركة التحرر الوطني في البلدان العربية.

لم تسنح لإبن سعود الفرصة للعب دور قيادي في الجامعة العربية، لذا كان موقفة إزاءها متحفظا في المرحلة الأولى. وقد أخافه تأثير الأسرة الهاشمية المعادية له على المنظمة، كما أن، لم يكن مرتاحا لمطامع مصر في الزعامة. لذا إشترطت الرياض لإنضمامها إلى الجامعة الحفاظ على وحدة أراضي وإستقلال سوريا ولبنان معتبرة إياهما المعادل للأسرة الهاشمية، كما اشترطت ضمان الحدود القائمة بين البلدان العربية.

في السنوات الأولى التي أعقبت الحرب اعتبر ابن سعود الأسرة الهاشمية ألد خصم له. ومن الطبيعي ان يقف ابن سعود ضد مشاريع إقامة امبراطورية هاشمية تضم العراق وسورية ولبنان وفلسطين وشرق الأردن باسم (الهلال الخصيب) أو إمبراطورية أصغر باسم (سوريا الكبرى). كما كانت القاهرة تنظر بعين الريبة إلى مثل هذه المشاريع.

ظل عبدالله، أمير شرق الأردن، يأمل في استعادة سلطة عائلة الشريف على الحجاز. وفي عام 1947 رتب ما يدعى بمؤتمر الحجاز الذي أيد الكتل المناوئة للسعوديينن في الحجاز. وردا على ذلك عددت الحكومة السعودية بأن تثير مجددا مسألة منطقتي العقبة ومعان المتنازع عليهما واللتين كانت تعتبرهما جزءا من الحجاز. وتخلي عبدالله مؤقتا عن مشاريع إقامة سورية الكبرى بحجة ضرورة اتخاذ موقف عربي موحد حيال القضية الفلسطينية وأوقف الدعاية المناوئة للسعوديين في الحجاز.

خلال فترة الانتداب في فلسطين قامت الحكومة البريطانية بإنشاء (وطن قومي لليهود) هناك. وعملت السلطات البريطانية على إثارة التطاحن القومي والاشبتاكات بين العرب واليهود بغية الإبقاء على هيمنتها في فلسطين.

وفي أكتوبر 1946 دعا الرئيس هاري ترومان إلى تأييد الصهاينة في فلسطين والسماح بدخول مائة ألف يهودي إلى البلد دون مشاورات مع الدول العربية. وردا على ذلك بعث ابن سعود رسالة إلى ترومان جاء فيها : (لقد دهشت للإذاعات الأخيرة التي نسبت تصريحا لفخامتكم بدعوى تأييد اليهود في فلسطين وتأييد هجرتهم إليها بما يؤثر على الوضعية الحاضرة فيها خلافا للتعهدات السابقة).

عندما أحيلت المسألة الفلسطينية إلى هيئة الأمم المتحدة (1947) كانت العلاقات بين اليهود والعرب في فلسطين قد تأزمت إلى أقصى حد، ولكن الدول العربية نفسها لم تجتمع على رأي حيال فلسطين. فقد كانت شرق الأردن تريد ضم فلسطين، بينما عارضت هذه المطامع السعودية ومصر وغيرهما من أعضاء الجامعة العربية، كما جوبهت مشاريع الأمير عبد الله بمقاومة فعالة من الولايات المتحدة الأمريكية.

في 29 مايو 1947 اتخذت الجمعية العامة لهيئة الأمم المتحدة قرارا بإلغاء الانتداب البريطاني في فلسطين وتقسيمها إلى دولتين مستقلتين. وأدى قيام دولة إسرائيل في جزء من الأراضي الفلسطينية والحروب الاسرائيلية العربية الأولى إلى خلق وضع جديد من حيث المبدأ في المنطقة. لم تشارك السعودية عمليا في حرب فلسطين. فقد اقتصر ابن سعود على إرسال كتيبة عملت ضمن قوام الجيش المصري.

وفي يونيو 1948 قام عبدالله بزيارة للرياض تكللت بصلح شكلي مع ابن سعود، غير أن الخلافات بينهما كانت بعيدة عن التسوية.

أدت هزيمة الدول العربية في حرب فلسطين إلى تفاقهم التناقضات بين أعضاء الجامعة العربية. واقترحت الحكومتان السعودية والمصرية طرد شرق الأردن من الجامعة بسبب مشاريعها الرامية إلى إلحاق شرق فلسطين، والتي اعتبرتها الحكومتان الخطوة الأولى في طريق إنشاء سوريا الكبرى. غير أن الجامعة لم تتصرف بشكل حازم، فتجرأ عبدالله وألحق رسميا في ديسمبر 1949 الجزء العربي من فلسطين بشرق الأردن. وفي 20 يوليو عام 1950 قتل الملك عبد الله فخلفه ابنه طلال الذي سرعان ما أصيب بلوثة عقلية فتبوأ العرش الحسين بن طلال.

تراوحت العلاقات بين السعودية ومصر من التحالف الوثيق إلى القطيعة التامة والمواجهة العسكرية. فبعد الاشتباكات الخطيرة التي جرت بين الحجاج المصريين والإخوان عام 1926، رفضت الحكومة المصرية الاعتراف بسلطة ابن سعود على الحجاز. وقد استثار الملك فواد نقمة عبد العزيز حينما حاول أن يصبح خليفة. ولم تستأنف العلاقات الدبلوماسية بين البلدين إلا بعد وفاة فؤاد عام 1936.

زيارة الملك فاروق للملك عبد العزيز آل سعود، 1945

بعد الحرب العالمية الثانية تحسنت العلاقات المصرية السعودية بشكل ملموس ٍ. وبعد زيارته إلى مصر عام 1946 منح ابن سعود الملك فاروق عونا سنويا مقداره زهاء مليون جنيه استرليني. ووصل إلى السعودية معلمون وفنيون ومستشارون مصريون وأرسلت بعثة عسكرية مصرية لتدريب الجيش السعودي.

أكد الملك سعود في خطاب العرش الذي ألقاه في مارس 1954 على ضرورة التعاون مع البلدان العربية في إطار الجامعة العربية وطبقا لميثاقها ومعاهدة الدفاع المشترك. ودعا الملك إلى تعزيز العلاقات مع البلدان الإسلامية ووعد بمواصلة اتباع سياسة مناوئة لاسرائيل وأعلن عن الرغبة في تحسين العلاقات مع الدول كافة. غير أنه أشار إلى وجود قضايا معلقة بين العربية السعودية والحكومة البريطانية الصديقة.

إن الدعوة إلى تعاون البلدان العربية والوعيد التقليدي الموجه لإسرائيل والمسحة المناوئة لبريطانيا في السياسة السعودية، قد هيأت جميعا التربة للتقارب مع مصر. واتخذ الملك سعود موقفا واقعيا من التغيرات الثورية في مصر واعترف بالنظام الجديد. وكان أول رئيس دولة عربية يزور القاهرة بعد ثورة 23 يوليو، والتقى أثناء زيارته الرسمية إلى مصر في مارس 1954 برئيس الدولة محمد نجيب وبجمال عبد الناصر. في مطلع أغسطس توجه عبد الناصر إلى السعودية لأداء فريضة الحج وعقد مفاوضات مع الملك سعود الذي أيد جهود مصر الموجهة ضد حلف بغداد الذي جرى تشكيله آنذاك.

أثار انضمام العراق وإيران إلى حلف بغداد ارتياب العربية السعودية بهذا الحلف، لذا تقاربت وقتيا مع مصر وسوريا واليمن. وزعم أن السعودية، شأن مصر، كان لها ضلع في الاضطرابات التي هزت الأردن شتاء 1955/1956 وأدت إلى طرد قائد الفيلق العربي غلوب باشا ورفض الأردن الانضمام إلى حلف بغداد.

لقد سعى الرئيس عبد الناصر إلى عقد اتفاقيات عسكرية ثنائية مع سائر البلدان العربية لتكون نقيضا ومعادلا لحلف بغداد. ووقع ميثاق الدفاع المشترك مع سوريا آذار (مارس) 1955، وأعلنت السعودية عن تأييدها للميثاق المصري السوري بعد زيارة وفد سوري الى الرياض. وفي أكتوبر من العام نفسه عقد السعودية معاهدة عسكرية ثانئية مع مصر. وشكل مجلس أعلى وزراء الخارجية والدفاع في البلدين، إلى جانب مجلس عسكري وقيادة عسكرية مشتركة. وعقد المعاهدة لمدة خمس سنوات على أن تمدد تلقائيا اذا لم يعلن أي من الطرفين عن أبطال مفعولها. في مطلع عام 1956 رفضت الحكومات العربية الانضام إلى ميثاق الدفاع المشترك للشرق الأوسط الذي دعت إليه لندن وواشنطن.

الملك سعود في زيارة للرئيس المصري جمال عبد الناصر في القاهرة، 1956.

وفي مارس 1956 وصل الملك سعود إلى القاهرة لمقابلة الرئيس عبد الناصر، كما وصل الى هناك الرئيس السوري شكري القوتلي، وتقرر عقد ميثاق للتعاون والاخوة. ونسقت الدول الثلاث ذات الأنظمة المختلفة والمصالح المتناقضة سياساتها على أساس معاد للإمبريالية., ففي أوساط الخمسينات ركب بعض الحكام الاقطاعيين موجة الحركة القوية والنزعات المعادية للغرب ولبريطانيا بالدرجة الاولى في العالم العربي. وفي ابريل 1956 وصل أمام اليمن أحمد إلى جدة حيث التقى بسعود وعبد الناصر، وفي اليوم التالي وقعوا اتفاقية الدفاع المشترك.

يعزى تحالف سعود مع عبد الناصر إلى أن الحكومة المصرية أحجمت لحين تأميم قناة السويس عن معاداة الولايات المتحدة بشكل فعال. وكانت السياسة المصرية موجهة ضد البريطانيين وأنصارهم الهاشميين في العالم العربي. وكان ذلك متفقا مع النهج السياسي للرياض والنزعات التقليدية المناوئة لبريطانيا في صنعاء.

إبان العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 إيدت الرياض القاهرة وأعلنت عن استعدادها لمساعدة مصر عسكريا وقطعت العلاقات الدبلوماسية مع بريطانيا وفرنسا، وأوقفت عمليا ضخ البترول إلى هذين البلدين وأعانت مصر بمبالغ كبيرة من المال.

ولكن مع توقف التعاون بين السعودية ومصر تزايد القلق الذي يثيره هذا التعاون في الأسرة الحاكمة وفي أواسط العلماء المتنفذين. وأخذت الدعاية الاذاعية المصرية تؤثر في بعض فئات السكان في السعودية،والتي كانت ميولها المعادية للغرب وللإمبريالية تقترن بالميول المناوئة للملكية. وأثار تعاظم شعبية الرئيس عبد الناصر في السعودية قلق الملك وحاشيته. ويذكر بعض المؤلفين أنه كانت قد أكتشفت في مايو 1959 مؤامرة لإسقاط نظام الحكم في السعودية أعد لها ضباط سبق لهم أن دربوا في مصر. وزعم أن لعدد من المستشارين العسكريين المصريين ضلغا في المؤامرة. وكانت الاضطرابات والإضرابات العمالية في الظهران ما زالت ماثلة في ذاكرة الملك والأمراء.ولوحظت أيضا دلائل الغليان الثوري في الأردن والعراق. وإضافة إلى ذلك كان إيقاف ضخ النفط إلى بريطانيا وفرنسا ضربة لخزانة الدولة، وبالتالي لخزانات الأمراء الخاصة، مما جعلهم يفكرون فيما اذا كان هناك ما يستحق تقديم هذه التضحيات إلى مصر. وأخيرا فإن واشنطن التي اعتبرت القاهرة خصمها العربي الأول في الشرق الأوسط، عملت على تأليب الرياض ضدها.

بعد فشل العدوان الثلاثي على مصر اخذت واشنطن تبحث عن طرق وأساليب جديدة لإخماد موجة حركة التحرر الوطني والحيلولة دون توطد التعاون بين عدد من البلدان العربية والاتحاد السوفييتي. ونتيجة لذلك البحث ظهر مبدأ أيزنهاور في يناير 1957 الذي زعم بأن هزيمة بريطانيا وفرنسا في العدوان الثلاثي على مصر أدت إلى ظهور فراغ مزعوم في الشرق الأوسط. وجاء في مبدأ إيزنهاور أن القوات المسلحة الأمريكية سوف تستخدم للدفاع عن وحدة أراضي واستقلال البلدان التي قد تحتاج إلى مساعدة لمواجهة العدوان من قبل أي بلد تسيطر عليه الشيوعية الدولية. وطالب الرئيس الأمريكي إيزنهاور إبان ذلك بتخويله صلاحية تمهيدية مع الكونجرس. وفي الواقع كان المقصود من ذلك اعتزام الولايات المتحدة بسط هيمنتها على الشرق الأوسط بقوة السلام ان اقتضى الامر. ولكن مع الاعتماد على الأنظمة الصديقة لواشنطن. وفي مارس 1957 وقع الرئيس الأمريكي برنامج الكونجرس. وطبق مبدأ إيزنهاور عمليا بعد سنة أذ نزل مشاة البحرية الأمريكية في لبنان.

الملك سعود بن عبد العزيز أثناء زيارته للولايات المتحدة 1947 - يمين الصورة: الرئيس دوايت أيزنهاور، يسار الصورة: نائبه ريتشارد نيكسون

أملت واشنطن أن تستخدم العربية السعودية لتنفيذ سياستها في الشرق الأوسط، نظرا لإرتباط المملكة اقتصاديا بالولايات المتحدة، ولما تتمتع به من نفوذ في العالم الإسلامي. ودعا إزينهاور الملك سعود لزيارة الولايات المتحدة في يناير 1957.

في هذه الأثناء عمت عددا من البلدان العربية نشاطات مناوئة لمبدأ إيزنهاور. وعرج الملك سعود وهو في طريقه للولايات المتحدة على القاهرة حيث التقى بالرئيسين المصري والسوري وملك الأردن. وصدر بيان مشترك يعتبر مبدأ إيزنهاور برنامجا لإستبعاد الشعوب التي انخرطت في طريق التطور المستقل. ورفض المجتمعون نظرية ملئ الفراغ الأمريكية وأعلنوا أن بلدانهم لن تتحول أبدا إلى ميدان لنفوذ أي دول أجنبية. وكلف الملك سعود بنقل هذه الأفكار إلى الرئيس إيزنهاور.

ولكن الملك سعود تصرف على نحو آخر في الولايات المتحدة. فقد تم خلال المفاوضات الرسمية الإتفاق على تزويد السعودية بمعدات للقوات البحرية والبرية والجوية،وتدريب طياريها وتوفير الفنيين لقواتها المسلحة بتقديم قرض للسعودية لتعمير ميناء الدمام. كما تقرر مضاعفة تعداد الجيش النظامي السعودي الذي بلغ عدد منتسبيه أنذاك 15 ألف. ووعد سعود بتمديد فترة تأجير قاعدة الظهران الجوية لمدة خمس سنوات، والسعي لإقناع البلدان العربية الأخرى بالقبول بمبدأ أيزنهاور.

ولكن الملك سعود اكتشف بعد عودته إلى الشرق الأوسط إشتداد المعارضة لمبدأ إيزنهاور في المنطقة، بما في ذلك داخل المملكة ذاتها. وكانت سمعة عبد الناصر عالية إلى درجة بحيث لا يمكن تجاهل رأيه. وفي 24-27 فبراير 1957 عقد في القاهرة اجتماع جديد لرؤساء الدول في كل من مصر وسوريا والسعودية والأردن حاول خلاله سعود أن يدافع عن مبدأ إيزنهاور. ولكن الملك إضطر إزاء ضغط الرئيسين عبد الناصر والقوتلي والرأي العام السعودي، إلى التخلي عن تأييده للمبدأ المذكور والانضمام إلى الدول التي رفضته مجددا واعلنت أن العرب أنفسهم يجب أو يتولوا الدفاع عن أنفسهم خدمة لأمنهم الحقيقي وخارج إطار التحالفات الأجنبية.

ولكن موقف السعودية هذا كان بمثابة مناورة تكتيكية لتهدئة الراي العام في المملكة وسائر بلدان الشرق الأوسط ولتفادي مواجهة مع مصر تهدد النظام السعودي بالخطر. وصار واضحا لكل من القاهرة والرياض أن التطابق المؤقت في المصالح قد إنتهى. وكان سعود قد إلتقى في الولايات المتحدة، وبواسطة أمريكية مع ولي العد العراقي عبد الإله، إذ أن العداء العائلي السابق بين آل سعود والأسرة الهاشمية انحسر إلى المقام الثاني ازاء مصلحتهما المشتركة في الاستمرار في الحكم في ظروف الغليان الثوري المتصاعد في الشرق الاوسط.

في أبريل 1957 أقال الملك حسين حكومة سليمان النابلسي المتجهة إلى اليسار. وقدم سعود للملك حسين مساعدة عسكرية وسياسية : فقد وضع تحت امرته لوائي الحرس الوطني السعودي المرابطين في الأردن منذ العدوان الثلاثي على مصر.وحولت الحكومة السعودية للعاهل الأردني قسطا من المعونة السنوية البالغ 30 مليون دولار والذي كان قد تم الاتفاق عليه بين مصر و سوريا والسعودية عام 1956 للتعويض عن المساعدة البريطانية، هذا في حين أن مصر وسوريا رفضتا دفع قسطيهما. وشهد الشرق الأوسط استقطابا للقوى وصارت القاهرة والرياض على طرفي نقيض.

بعد مرور فترة قصيرة على اقالة حكومة النابلسي قام الملك حسين بزيارة الرياض، الأمر الذي كان يعني استمرار التقارب بين العائلتين المالكتين المتعاديتين سابقا. وبضغط أمريكي أخذ الملك سعود يميل إلى فكرة تأسيس اتحاد بين الملوك الثلاثة في السعودية والأردن والرياض ولكن الزيارة لم تسفر عن قيام تحالف رسمي. فان سعود لم يجرؤ على التنصل جهازا من مصر وسوريا خشية حدوث عواقب جدية تهدد عرشه. وآثر أن يؤكد في التصريحات الرسمية إلتزامه بمبدأ الحياد الإيجابي ومقررات مؤتمر القاهرة.

في مارس 1957 أعتقلت في السعودية مجموعة من الفلسطينين بحوزتهم متفجرات، وزعم أن الحكومة المصرية أرسلتهم لنسف قصر الناصرية في الرياض. ورد المصريون بأن المجموعة أوفدت بالاتفاق مع السعوديين للقيام بعمليات ضد حكم نوري السعيد في العراق. وتدهورت العلاقات السعودية المصرية تدهورا خطيرا، ولم يؤد قدوم وفد مصري إلى تحفيف حدة التوتر.

شنت في السعودية حملة معادية للشيوعية بقيادة الجهاز الدعائي لشركة أرامكو، الذي كان ينسب للشيوعية لادولية أي مظهر من مظاهر النضال التحرري الوطني، وأكد بلاغ مشترك صدر في ربيع 1957 أثر الزيارة التي قام بها إلى السعودية ريتشاردس المساعد الخاص للرئيس لتنفقيد برنامج مساعدة بلدان الشرق أوسطيين، أكد على ضرورة مجابهة النشاط الشيوعي.

في فبراير 1958 انبثقت الجمهورية العربية المتحدة المكونة من مصر وسوريا، وكان ذلك انتصارا كبيرا للقوى الوطنية الديمقراطية في العالم العربي. وشجعت واشنطن ولندن قيام الاتحاد العربي بين العراق والأردن ليكون معادلا للجمهورية العربية المتحدة، وأخذتا تسعيان لحمل بلدان عربية أخرى على الانضمام إليه. ولكن الحكومة السعودية اعتبرت الاتحاد المذكور إحياء للخطر الهاشمي ورفضت الانتماء إليه، وأعلنت عن حيادها إزاء الاتحاد العربي والجمهورية العربية المتحدة.

دب البرود في العلاقات السعودية الأردنية، وفي 8 إبريل 1958 توقفت الرياض عن دفع المعونات لعمان المنصوص عليها في اتفاقية 19 يناير 1957.وردا على ذلك طالب الملك حسين بسحب القوات السعودية من الأراضي الأردنية، فعادت إلى الوطن في آيار (مايو).

ورغم ذلك فقد اعتبر الملك سعود الجمهورية العربية المتحدة الخطر الأساسي على عرشه. فقد كانت إصلاحات عبدالناصر تمارس تأثيرا قويا على الرأي العام في العربية السعودية، حيث تزايدت شعبية الرئيس المصري. وخشية الدخول في مجابهة صريحة مع الجمهورية العربية المتحدة، قرر سعود اللجوء إلى أسلوب التآمر بعبد الناصر.

انظر أيضاً

الهوامش

[a].^ توحيد السعودية (إجمالي عدد الضحايا 7,989–8,989+) of:

معركة الرياض (1902) – 37 قتيل.
معركة الدلم (1903) – 410 قتيل.
الحرب السعودية الرشيدية (1903–1907) – 2,300+ قتيل.
ضم الإحساء والطائف (1913) - غير معروف.
معركة جراب (1915)
معركة كانزان (1915)
الحرب النجدية السعودية الأولى (1919–1920) – 1,392 قتيل.[2]
1921 غارة الإخوان على العراق- 700 قتيل
حرب حدود الكويت-نجد (1921) – 200+ قتيل.[2]
فتح حائل (1921) - غير معروف
غارة الإخوان على إمارة عبر الأردن (1922–1924) – 500–1,500 قتيل.
الفتح السعودي للحجاز (1924–1925) – 450+ قتيل.[2]
ثورة الإخوان (1927–1930) – 2,000 قتيل.[2]

هوامش

  1. ^ David Murphy, (Illustrated by Peter Dennis), The Arab Revolt 1916-18: Lawrence Sets Arabia Ablaze, Osprey Publishing, 2008, p. 26.
  2. ^ أ ب ت ث University of Central Arkansas, Middle East/North Africa/Persian Gulf Region

المصادر

  • Almana, Mohammed (1982). Arabia Unified: A Portrait of Ibn Saud. London: Hutchinson Benham. ISBN 0091472903. {{cite book}}: Invalid |ref=harv (help)
  • Commins, David (2006). The Wahhabi Mission and Saudi Arabia. London, New York: I.B. Tauris. ISBN 9781845110802. {{cite book}}: Invalid |ref=harv (help)
  • Helms, Christine Moss (1981). The Cohesion of Saudi Arabia. Baltimore: The Johns Hopkins University Press. {{cite book}}: Invalid |ref=harv (help)
  • Kohn, Hans (1934). "The Unification of Arabia". Foreign Affairs. 13 (1): 91–103. {{cite journal}}: Invalid |ref=harv (help); Unknown parameter |month= ignored (help)
  • Lacey, Robert (2009). Inside the Kingdom: Kings, Clerics, Modernists, Terrorists, and the Struggle for Saudi Arabia. New York: Viking. ISBN 9780670021185. {{cite book}}: Invalid |ref=harv (help)
  • Lacey, Robert (1982). The Kingdom. New York: Harcourt Brace Jovanovich. ISBN 0151472602. {{cite book}}: Invalid |ref=harv (help)
  • Al-Rasheed, Madawi (2010). A History of Saudi Arabia (2nd ed.). New York: Cambridge University Press. ISBN 0521747546. {{cite book}}: Invalid |ref=harv (help)
  • Troeller, Gary (1976). The Birth of Saudi Arabia: Britain and the Rise of the House of Sa'ud. London: Routledge. ISBN 0714630624. {{cite book}}: Invalid |ref=harv (help)
  • Vassiliev, Alexei (1998). The History of Saudi Arabia. London: Saqi. ISBN 0863569358. {{cite book}}: Invalid |ref=harv (help)

وصلات خارجية

  • Hous of Saud, a 2005 documentary by PBS' Frontline. Website includes interviews and an excerpt containing the chapter on the Ikhwan.