بيان الدكتور محمد صلاح الدين وزير الخارجية في مجلس البرلمان

بيان الدكتور محمد صلاح الدين وزير الخارجية في مجلس البرلمان، في 6 أغسطس 1951، منشور من "وزارة الخارجية المصرية، القضية المصرية 1882 - 1954، المطبعة الأميرية بالقاهرة 1955، ص 676 - 680".

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

المنشور

في هذه المرحلة الدقيقة التي تجتازها العلاقات المصرية البريطانية جاء بيان المستر موريسون في مجلس العموم ناطقا بعمق الهوة التي تفصل وجهتي النظر المتباينتين في أهم مسائل الخلاف بين مصر والمملكة المتحدة وهي الجلاء والسودان وفلسطين. فقد حدد وزير الخارجية البريطانية سياسة حكومته بالنسبة إلى هذه المسائل الثلاث في شيء، غير قليل من التفصيل والصراحة، وحمل البرق حديثه إلى جميع أرجاء المعمورة. فمن حقكم علينا. بل من حقنا على أنفسنا أن نبين من جهتنا بنفس التفصيل والصراحة سياسة الحكومة المصرية في كل هذه الأمور.

أولا - عن الجلاء

منذ أن منيت مصر بالاحتلال البريطاني في 11 يوليو سنة 1882، وهي تطالب بالجلاء والإنجليز يتذرعون بشتى العلل لإطالة أجل الاحتلال. فحماية الخديو، وحماية الأجانب، وحماية ذوي الجلابيب الزرقاء، وحماية الأقليات، وحماية أصحاب المصالح الحقيقة. كل هذه العلل المختلفة المتناقضة في بعض الأحيان تذرعوا بها. الواحدة بعد الأخرى. فلما نهضت مصر نهضتها الكبرى وتجلى إجماعها على المطالبة بحقها، وقضى هذا الإجماع على كل علة تتمسح بالغير، وترمي إلى إظهار الإنجليز بمظهر الساعين إلى الخير. أفصحوا في النهاية عن العلة الحقيقية فجابهوا الوطنية المصرية بحماية المواصلات البريطانية. فلما فقدت هذه العلة أكثر قوتها باستقلال الهند والباكستان. وقد كانت الهند في يوم ما أكبر جوهرة في تاج الإمبراطورية. لم تفرغ جعبة الإنجليز من العلل والحجج فهم اليوم يتذرعون بما سماه سعادة المستر موريسون "مسئوليات بريطانيا العظمى في الشرق الأوسط بالنيابة عن باقي دول الكومنولث وعن حلفاء الغرب بوجه عام".

وإلى جانب هذه العلل لإطالة أجل الاحتلال بذلت السياسة البريطانية بكل سخاء عددا هائلا من وعود الجلاء لتخدير المصريين حتى زادت هذه الوعود على الستين. آخرها وعدهم الصريح في سنة 1946 بأن يتم الجلاء برا وبحرا وجوا في أجل أقصاه شهر سبتمبر سنة 1949.

أما أثر الاحتلال الهدام في تفريقنا وتأخيرنا وإفساد أمورنا وتعطيل مرافقنا فذلك ما لا أحسبني في حاجة إلى التنويه عنه في هذا المكان. ولكني لا أجد بدا من إشارة واحدة على سبيل التمثيل إلى حالة الجيش المصري بعد تسعة وستين عاما من الاحتلال، وبعد خمسة عشر عاما من إبرام معاهدة سنة 1936 التي أخذ الإنجليز فيها على عاتقهم تدريب الجيش المصري وتزويده بالأسلحة والمهمات. ولو أنهم كانوا مخلصين فيما زعموه من أنهم احتلوا مصر لخير المصريين أو في القيام بالمهمة التي أخذوها على عاتقهم في معاهدة 1936 لأصبح جيشنا اليوم من القوة والتدريب والتجهيز بحيث يعتمد عليه أكبر اعتماد في الدفاع عن مصر وجاراتها الدول العربية وبحيث يستطيع أن يحمل في نطاق ميثاق الأمم المتحدة جانبا مهما من مسئولية استتباب السلام واستقرار الأمن الدولي في الشرق الأوسط.

ولكن كيف يعمل الإنجليز على تقوية الجيش المصري فتسقط حجتهم في احتلال مصر فيما يزعمونه لأنفسهم من مسئوليات في الشرق الأوسط؟! لا بد إذن من أن يبقى الجيش المصري الباسل مجردا عن السلاح والعتاد فلا تغنى مصر بسالة الجنود.

وهذا ما عمل عليه الإنجليز في كل وقت وما ضاعفوا الهمة في العمل عليه الآن. فهم لا يكتفون بأن يمتنعوا عن توريد الأسلحة التي تعاقدنا معهم عليها ودفعنا بالفعل أكثر أثمانها، ولا بالضجة التي يثيرونها بين الحين والحين في مجلس العموم ومجلس اللوردات لتأكيد عزمهم على حرمان مصر من كل سلاح. بل يتعقبوننا إلى كل مصدر من مصادر الحصول على الأسلحة ليسدوا دوننا كل سبيل.

وهكذا يستطيعون أن يواصلوا مزاعمهم التي يحتجون بها في تثبيت قدم الاحتلال.

حلقة مفرغة لا مخرج منها إذا جارينا علل الإنجليز، وغضضنا الطرف عن حقائق الماضي المؤلمة مقتصرين على النظر كما يدعوننا إلى حقائق الموقف الحالي أي إلى خطر الحرب الذي يقولون إنه يهدد الشرق الأوسط كما يهدد العالم كله.

ومتى خلص العالم من خطر الحرب؟

قبل الحرب العالمية الأولى. قيل لنا إن هذا الخطر يهب من ناحية ألمانيا وحليفاتها دول التحالف الثلاثي.

وقبل الحرب العالمية الثانية قيل لنا إنه يأتي من ناحية دول المحور (برلين - روما - طوكيو).

وبعد الحرب العالمية الثانية يقال إن مصدره الاتحاد السوفيتي وتوابعه من دول الكومنفورم.

وسيكون هناك على الدوام خلاف دولي يلبس ثوب خطر الحرب ويجوز القول بأنه يهدد السلام فهل يمكن أن يطالبنا منصف بأن نقبل على سيادتنا واستقلالنا عار الاحتلال إلى الأبدين لأن العالم لن يخلو يوما من خطر يهدد أمن الدول؟

لا يا حضرات الشيوخ والنواب المحترمين.

لقد عقدت مصر العزم وطيدا على أن ترفض بكل قوة أي أثر للاحتلال مهما كان الخطر الذي يقال إنه يتهددها.

إن الاحتلال الجاثم على صدر مصر حقيقة قائمة تنتهك استقلالنا وتجرح عزتنا الوطنية، وأثر باق من آثار الاستعمار البريطاني ذي التاريخ المشئوم الطويل فلا بد لنا. أن نمحوه. أما خطر الحرب الذي يلوح به. ونحذر منه فإنه لا يعدو أن يكون احتمالا نرجو الله أن لا يتحقق. ولن يتحقق بإذن الله. إذا عمت المساواة في السيادة بين الدول، واحترمت كل دولة قوية سيادة الدول الصغيرة الضعيفة ووحدة أراضيها بادئة بنفسها ضاربة المثل الطيب في حسن السلوك الدولي بصرف النظر عن تصرفات غيرها.

وهذا في الواقع ما يدعو إليه ميثاق الأمم المتحدة الذي أكد مبدأ المساواة في السيادة، وحرم على كل دولة من الأعضاء أن تنتهك سيادة غيرها من الدول أو وحدة أراضيها. وهذا ما قضت به الجمعية العمومية للأمم المتحدة إذ أوصت في 14 ديسمبر سنة 1946 بأنه لا يجوز لأية دولة أن تحتفظ بقوات في أراضي غيرها من الدول المستقلة بدون رضاها. وما أحسبني في حاجة إلى التأكيد بأن مصر ترفض رفضا باتا بقاء القوات البريطانية في أرضها.

ومن جهة أخرى فقد نص الميثاق على مختلف الإجراءات والوسائل التي تكفل فض الخلاف بين الدول، وضمان السلم العالمي. وليس منها فيما أعلم أن تحتل بريطانيا أرض مصر رغم أنفها.

فإذا قيل إن هذه الإجراءات والوسائل لم تستوف بعد كامل تفصيلاتها. ولم تتهيأ لها كل العوامل المواتية. أجبنا بأن الجمعية العمومية قد رسمت في دورتها الماضية وسيلة العمل المشترك لتوطيد السلام. فكان أساس هذه الوسيلة الاعتماد على الجيوش الوطنية للدول في مهمة حفظ الأمن الدولي بها وفي المناطق المجاورة لها. وقد أبدت مصر من أول لحظة تمام استعدادها للاشتراك في هذه المهمة الدولية الجليلة الشأن. إذا قدم لها ولدول الشرق الأوسط ذات الموقع الاستراتيجي الحساس ما ينقصها من السلاح والعتاد للمساهمة في صيانة الأمن الدولي في هذه المنطقة.

نعم يا حضرات الشيوخ والنواب المحترمين. إني أعلن من هذا المنبر العالي إخلاصنا الأكيد للمبادئ السامية والأهداف العظيمة التي قام عليها ميثاق الأمم المتحدة وللقرارات التي تصدرها هذه الهيئة وفقا له. ومن تمام هذا الإخلاص أن نرفض الاحتلال، ونصر على الجلاء، وأن نبادر إلى دحض هذه البدعة الأخيرة من بدع السياسة البريطانية. وأعني بها المسئولية التي يقول الإنجليز الآن بأنهم يحملونها في الشرق الأوسط بالنيابة عن دول الكومنولث وعن حلفاء الغرب بوجه عام فليس مهما بأن يدعي الإنجليز لأنفسهم في الشرق الأوسط من المسؤوليات ما يشاءون إذا كانت دول الشرق الأوسط نفسها لا تقرهم على ما يدعون.

يا حضرات الشيوخ والنواب المحترمين. هذه هي وجوه الخلاف بين الحكومتين المصرية والبريطانية في مسألتي الجلاء والسودان. ويستتبع هذا الخلاف بالطبع خلافا حتميا آخر على معاهدة سنة 1936 فالإنجليز يتمسكون بها، ويدعون أننا لا نستطيع إلغاءها من جانبنا وحدنا. لأنها تمكن لاحتلالهم ومناوراتهم في السودان. أما مصر فإن سيادتها واستقلالها ووحدتها مع السودان أعز عليها من أن تقف في سبيلها معاهدة سنة 1936.

ويعتمد الإنجليز في موقفهم من هذه المعاهدة على قداسة المعاهدات. وينسون أو يتناسون أن قرار مجلس الأمن الدولي الصادر في 14 أبريل سنة 1946 في شأن النزاع السوفييتي الإيراني صريح في أن وجود القوات الأجنبية في أرض دولة من الدول يسلبها حرية الاختيار في المفاوضات.

ومن جهة أخرى فإن معاهدة سنة 1936 تنتهك قداسة معاهدتين دوليتين عظيمتي الشأن كبيرتي الخطر. هما من غير شك أولى منها بالتقديس والاحترام. وأعني بهما معاهدة القسطنطينية المعقودة في 21 أكتوبر سنة 1888، وميثاق الأم المتحدة الموقع عليه في 26 يونيو سنة 1945.

الأولى سابقة في التاريخ على معاهدة سنة 1936. والثاني لاحق لها. والمعاهدة المذكورة تقف بينهما كما يقف الكافر في محراب الصالحين. فهي في جملتها وتفصيلاتها إخلال صارخ بمعاهدة القسطنطينية المتعددة الأطراف التي كان هدفها والدافع على عقدها المساواة التامة بين جميع الدول باستثناء الدولة صاحبة الإقليم فيما يتعلق بحق المرور في قناة السويس وما يستتبعه من التدبيرات والاحتياطات. وهي إخلال صارخ بميثاق الأمم المتحدة كما سبق البيان.

فأي قداسة ترجى لمعاهدة عقدت تحت ضغط الاحتلال. وهي في حد ذاتها انتهاك قائم لقداسة المعاهدات والمواثيق.

لقد كانت الحكومة المصرية يا حضرات الشيوخ والنواب المحترمين في حدود حقها الدولي حينما وعدتكم في خطاب العرش الأخير بإلغاء معاهدة سنة 1936 ولن يلقى خطاب العرش المقبل حتى تكون الحكومة بإذن الله قد أوفت بما عاهدتكم عليه من إلغاء هذه المعاهدة. إن العهد كان مسئولا.

يا حضرات الشيوخ والنواب المحترمين. تلك سيرة الإنجليز مع مصر في أمور الاحتلال. ومع ذلك يؤكد المستر موريسون أن الشعب المصري سيقف إلى جانبهم كما فعل في الماضي إذا نشبت نار الحرب من جديد. إلا إنها أضغاث أحلام وأوهام في أوهام.

لقد أكدنا للحكومة البريطانية في المحادثات وبمناسبة الدعوة التي وجهوها إلينا للاشتراك في مؤتمر نيروبي. أن مصر لن تساهم معهم في أي مجهود حربي وهم ينتهكون أقدس حقوقها باحتلال أرضها والمماراة في وحدتها مع السودان.

وإني لعلى يقين من أننا لا نقف هذا الموقف وحدنا. بل تقفه أيضا معنا سائر الشعوب العربية التي ينتهك الإنجليز استقلالها أو التي جرحوها في المسألة الفلسطينية جرحا لا يريدون له أن يندمل.

والآن ما هي خلاصة الموقف بين مصر والإنجليز؟ إنني أجملها لكم في كلمات: لقد أغلق وزير الخارجية البريطانية بتصريحاته الأخيرة في مجلس العموم باب المحادثات التي كانت تجرى بين الحكومتين. أما الخطوات التالية فستنتهي اللجنة السياسية الوزارية التي يرأسها رئيس مجلس الوزراء من تقريرها في الأيام القليلة المقبلة. ثم يعرض الأمر على مجلس الوزراء لإقرار هذه الخطوات بصورة نهائية. ثم نعود إليكم في البرلمان قبل فض هذه الدورة لنطلعكم على الحقائق كاملة، ونحدثكم في جميع ما ننتويه لتحقيق الأهداف الوطنية التي أجمع عليها شعب مصر والسودان وللوفاء بالعهد الحاسم الذي قطعته حكومتكم على نفسها في خطاب العرش الأخير.


المصادر