محضر محادثات اسماعيل صدقي ـ جون سيمون

محضر محادثات اسماعيل صدقي ـ جون سيمون، في 21 سبتمبر 1932، بين إسماعيل صدقي وجون سيمون، من "وزارة الخارجية المصرية، القضية المصرية 1882 - 1954، المطبعة الأميرية بالقاهرة 1955، ص 446 - 454".

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

المنشور

كان حافظ عفيفي باشا قد أبدى اقتراحا في أحد خطاباته المتعلقة بالمحادثات مع وزارة الخارجية الإنجليزية قال فيه بصدد إمكان استئناف المفاوضات بين البلدين: إن مقابلة - ولو عن طريق الصدفة - بين رئيس الوزارة المصرية والسير جون سيمون قد تكون ذات فائدة كبرى.

فلما قررت السفر إلى أوربا صيف هذا العام سارعت بتذكير عفيفي باشا باقتراحه، ووجهة نظره إلى أن "جنيف" قد تكون أنسب البلاد لمثل هذه المقابلة.

ولقد وصلني فعلا تلغراف من عفيفي باشا، ببودابست في 29 أغسطس ينبئني فيه أن السير جون سيمون - الذي لم يكن قد تمكن من الاتصال به شخصيا حتى الآن نظرا لتغيبه طويلا عن لندن - أخبره أنه لن يكون سعيدا لمقابلتي فحسب بل "إن ذلك يهمه جدا" وأن هذه المقابلة يمكن أن تتم في 20 أو 21 سبتمبر بمدينة جنيف.

وكان من جراء ذلك تأخير يوم عودتي لمصر، ولما تفضل جلالة الملك بالموافقة على هذا التأخير قررت مد أيام إقامتي بالخارج تبعا لذلك.

وقبل حلول الموعد المحدد ببضعة أيام، استدعيت عفيفي باشا للحضور لأنه كان عليه أن يقدمني من جهة للسير جون سيمون، ومن جهة أخرى أن يعاونني في محادثات، من شأنه بعد ذلك أن يتابعها بلندن.

وعندما حضر عفيفي باشا إلى جنيف أبلغني أن المستر رونالد السكرتير الخاص للسير جون سيمون سيخابره مساء اليوم الذي يسبق حضور الوزير عن الموعد الذي يمكن هذا الأخير أن يقابلني فيه، سواء لتناول الغذاء أو العشاء.

واتفقت مع عفيفي باشا على أن يتولى بنفسه توجيه هذه الدعوة لأمكنه من عمل التعارف، وليكون حضوره معنا أمرا طبيعيا إذا ما انتهت المأدبة.

وتوجه المستر رونالد إلى القنصلية صباح اليوم الذي حضر فيه السير جون سيمون إلى جنيف وقال لعفيفي باشا إن السير جون خصص لي مساء يوم 21 وأنه يقبل عن طيب خاطر دعوته لتناول العشاء.

وبعد ظهر يوم 21 أبلغ سير جون عفيفي باشا أنه قد يسره أن يحضر هذه المأدبة المستر إيدن الوكيل البرلماني لوزارة الخارجية والموجود بجنيف لمؤتمر نزع السلاح، وهذا يدل صراحة على أن الوزير يرغب في أن تصطبغ المحادثة بصبغة شبه رسمية، مما أرضاني بعض الشيء لما ستتخذه تلك المحادثة من صفة أكثر جدية.

وقد أقيمت مأدبة العشاء في صالون خاص بفندق البرج، وحضرها علاوة على شخصي وعفيفي باشا كل من السير جون سيمون، والمستر إيدن، والمستر رونالد - ونظرا لما يتصف به الساسة البريطانيون من حب التكتم الشديد دفعني ذلك إلى عدم دعوة حضرة صاحب المعالي فخري باشا إلى هذه المأدبة لأن حضور مصري ليس له اتصال بموضوع المفاوضات قد يجعل الوزير الإنجليزي أشد تحفظا، وهذا لا يتفق والغرض الذي رميت إليه، وقد شرحت ذلك لفخري باشا فسلم بوجهة نظري ووافق عليها.

ولم تبدأ المحادثة السياسية إلا بعد تناول العشاء. وكنت فكرت أن أبدأ الحديث أول الأمر ولكن السير جون سيمون قد سبقني إليه، فقال إنه سعيد بالتعرف على رجل من رجال الدولة عرف اسمه في لندن مشفوعا بشهرة الرجل الإداري، وله سمعة ذائعة كرجل مالي، وكرجل أمكنه إعادة النظام في بلده وأضاف إلى ذلك بأن قال إن تقارير السير برسي لورين تتضمن ما يفيد ذلك والسير برسي يعد في إنجلترا بين الرجال الدبلوماسيين الذين يحررون تقاريرهم بأكثر ما يمكن من الوضوح والجلاء.

فشكرت للسير جون حسن تقديره، وذكرت له أني قبل الدخول في الموضوع الذي يشغلني يهمني أن أدلى إليه بتصريحين، الأول هو شكر الحكومة المصرية للقرار الذي اتخذته أخيرا وزارة الخارجية الإنجليزية في صدد مسألة كوبون الدين العمومي - أما الثاني فهو الاعتراف بالجميل لممثل حكومة بريطانيا العظمى في مصر السير برسي لورين لما يتصف به من السجايا والذي كان لسياسته الرشيدة ومجهوده الشخصي أبعد الأثر في توثيق عرى الروابط بين بلدينا.

وقد شكرني على العبارات الموجهة إلى شخص السير برسي، ذاكرا أنه يقدر فيه هذه الصفات، وقال فيما يتعلق بمسألة الدين إنه ليس ملما بالموضوع كل الإلمام نظرا للفترات القصيرة التي أمضاها بلندن في الأيام الأخيرة، وهذا ما لم يستطع معه أن يخصص للمسألة المصرية إلا الوقت الكافي فقط للاستعداد للمحادثات التي قد تتم بينه وبيني، وأضاف إلى ذلك بأن قال إنه سيهتم شخصيا بمسألة الدين العمومي بمجرد عودته إلى لندن.

وقد بينت له عندئذ أنه يخيل لي أن هناك قرارا قد اتخذ في هذا الصدد لأن المندوب السامي بالنيابة قد أبلغ الحكومة المصرية بهذا القرار ولكي أترك في نفسه الأثر الذي أريده أبديت له الملاحظة التالية: إن مصر توجد في الواقع في حالة غريبة بعيدة عن العدل كل البعد - فبينما تحول الدول الغنية ديونها وتدفع أقل مما عليها، وفي الوقت الذي تمتنع فيه الدول الفقيرة عن الدفع - يطلب إلى مصر وحدها أن تدفع أكثر مما عليها. ولقد أظهر كل من السير جون والمستر إيدن في جلاء أن هذا الدليل قد أثر فيهما وأنه غير قابل للنقد.

وهنا وجهت الحديث إلى صلب المسألة السياسية وتكلمت طويلا فيما لا يخرج معناه عن المذكرة المرافقة بهذا، والتي كنت أعددتها من قبل بقصد تسليمها إلى السير جون سيمون عند نهاية المحادثة (1).

وهنا تناول السير جون الحديث وبدأ بما يأتي: "لا تعتقدوا أن المسألة المصرية تعتبر من المسائل الثانوية بالنسبة لنا. بل إنها ذات أهمية كبرى. ويسرنا لو أتيح لنا حلها كما هي الحال في جميع المسائل التي تهم الإمبراطورية. نعم وإن كانت المسألة المصرية ليست بشائكة كما تقول ولكن الفضل يرجع إليك في توطيد النظام في مصر، وأن الأمور تجري في مجراها الطبيعي وأن علاقاتنا معكم على أحسن ما تكون".

وعلى سبيل المزاح - لأن المحادثات مع الإنجليز مهما كانت جدية يجب أن يتخللها شىء من التفكهة - قلت للسير جون "إني مسرور بما ذكرته لي. لأني خشيت أن ما يسود مصر من الهدوء قد ينقلب عليها. ذلك على عكس ما جاء بالمثل القائل. سعداء تلك الشعوب التي ليس لها تاريخ" ولقد ضحك كثيرا هو ووكيل وزارته من هذا المثل الذي تعمدت ذكره.

وهنا دخل في صميم الموضوع في لهجة جدية مبتدئا قوله بما يأتي:

لقد تحدثوا فعلا عن عدم صلاحية النظام القائم في مصر الآن للتفاوض معنا. غير أن ما ذكرته الآن في هذا الصدد هو معقول جدا. كما وأن تقارير السير برسي تؤيده - ولذا فيمكنني أن أقول لك على الفور إنه لم تعد هناك أية صعوبة في المفاوضة مع حكومة صدقي باشا - بل إن الأمر على عكس ذلك فقد يسر بريطانيا العظمى أن ترى إمضاءكم ممهورة على اتفاقية. لأننا نعرف الآن الشخص الذي نتعامل معه وأن قيمة الاتفاقية، كما تقول، تقدر بقيمة من يقوم على تنفيذها، ولقد سرني ما علمته في هذه المناسبة من السير برسي أن الملك يرغب أيضا في هذا الاتفاق وأنه يؤيد سياستكم وأنك متمتع بثقته. وهذه العوامل نعتبرها دليلا حسنا وبشير نجاح.

(1) وقد يكون من الأوفق قبل الاسترسال في قراءة هذا المحضر أن تأخذ علما بالمذكرة وإلا كان من الصعب متابعة المحادثة.

وأضاف قائلا إني أريد الآن أن أحدثك عن الاتفاق نفسه: إني أعتقد شخصيا أن مشروعي الاتفاق لسنتي 29 و30 يجب اتخاذهما أساسا للمفاوضات المقبلة. وهناك مسائل سلم بها كانتهاء الاحتلال البريطاني والتحالف بين البلدين والمساعدة على إلغاء الامتيازات وقبول مصر في عصبة الأمم غير أنه يجدر بي إبداء تحفظين اثنين: الأول خاص بالنقط العسكرية والثاني بالسودان - ويلوح لي أن السلطات الفنية عندنا لها بعض الطلبات فيما يتعلق بالترتيبات التي تتخذ لإقامة الجنود - فمن المسلم به أنها ستجلو عن المدن ولكن أين تعسكر؟ وهذه المسألة ما زالت تحتاج إلى المناقشات - أما بخصوص السودان فيجب في الاتفاق أن يدور حول مبدأ الاحتفاظ بالإدارة الحالية القائمة في السودان - فإذا ما سلم بهذا المبدأ فيمكن البحث عن الوسائل التي يستطاع بها المحافظة على مصالح مصر المعنوية والمادية في السودان.

فأجبت أني لست الآن في مركز أستطيع فيه إبداء ملاحظات تفصيلية عن النقطتين اللتين أثارهما الوزير، لأننا لا نتفاوض الآن، غير أني لا أريد ترك هذه التحفظات تمر دون أن أصرح فيما يتعلق بالنقطة الأولى أن مصر لا تستطيع الرجوع إلى الوراء في المسائل الأساسية التي اكتسبتها وإني كما أتيح لي ذكره فيما تقدم لا يجوز إعادة البحث في المسائل التي تم الاتفاق عليها إلا لإيضاحها أو تحسينها - وأن الحكومة التي أتشرف برئاستها اليوم والتي بيدها مقاليد مصر، لهي أكثر الحكومات المصرية رغبة من قبول أقل مما سبق عرضه على الحكومات الأخرى. أما بخصوص مسألة السودان فما زالت بكرا تتطلب كل مناقشة حول أساس النظام المزمع إدخاله فيه. وأريد أن أوجه النظر في هذا الصدد إلى أن ميزة المحادثات الشبيهة بالرسمية إذا جرت بالقاهرة هي أنها ستدور حول تبادل وجهات النظر على النقط الجديدة التي يمكن إثارتها من الطرفين والتي تحتاج إلى دراسة تفصيلية.

فرد علي قائلا: أنه يسلم جدلا بالملاحظات التي أبديتها غير أن كل مفاوضة قد تتطلب مزايا في مقابل أخرى بحيث تكون وحدة كاملة يرضاها الطرفان فكل رغبات جديدة تبديها إنجلترا عن بعض المسائل يقابلها مزايا تمنح لمصر عن مسائل أخرى، وأنه فضلا على ذلك يرى في الاقتراح الخاص بإجراء محادثات شبه رسمية في مصر اقتراحا معقولا.

ثم انتقل إلى مسألة المفاوضات نفسها والوقت الذي تبدأ فيه، فسلم مبدئيا بضرورة إجراء هذه المفاوضات في الوقت المناسب وفي أقرب فرصة ممكنة، وأضاف إلى أنه سيرجع في هذا الأمر إلى الوزارة البريطانية لكي تدور المفاوضات التمهيدية وشبه الرسمية في مصر بين المندوب

السامي وبين رئيس الوزارة المصرية - وفي اعتقاده هو أن محادثات مصر يمكن إجراؤها في الشتاء القادم وقال إنه سينتهز أول فرصة ليتحدث في ذلك إلى زملائه وبخاصة رئيس الوزراء، كما أنه سيتباحث فيه مع السير برسي قبل عودته لمصر - وقد وعد السير جون سيمون أنه سيتباحث كذلك مع رئيس الوزراء في شأن الطلب الذي تقدمت به والذي يرمي إلى إرسال تبليغ رسمي من الحكومة البريطانية تسلم فيه بمبدأ استئناف المفاوضات مع الحكومة المصرية الحالية، وسيتصل بالسير برسي بالاتفاق على صيغة هذا التبليغ والوقت المناسب الذي يرسل فيه.

وقد كان الحديث وديا تسوده الثقة من أوله إلى آخره، وكنا نشعر بمبلغ الاحترام الذي يكنه السير جون سيمون نحو النظام القائم في مصر، وفي اعتقادي أني تركت في نفسه أحسن الأثر، وقد طلبت إليه أن يبلغ عفيفي باشا - الذي كلف بمتابعة مسألة المفاوضات - كل ما قد يستجد من التقدم في شأن المسائل التي كانت موضوع محادثتنا بعد أن يتم بحثها والتشاور فيها مع زملائه وقد وعدني بذلك مسرورا.

وعندئذ سلمته المذكرة المكتوبة وقلت له إنها تحوي روح الآراء التي شرحتها لكي يرجع إليها عند بحث المسألة فشكرني على ذلك.

ثم تكلمنا فيما يجب تبليغه للجمهور عن نتيجة هذه المقابلة واقترحت عليه أن يكتفي بذكر أن المقابلة كانت ودية مرضية. فوافق على ذلك وأضاف بأن إذاعة المسائل التي كانت موضوع حديثنا قد تضر القضية التي نعمل من أجلها. فأمنت على قوله ووعدته بالاحتفاظ بسرية الحديث كل الاحتفاظ.

وافترقنا في الساعة العاشرة والدقيقة 20 مساء.

وفى اليوم الثاني تلقيت دعوة لتناول الشاي عند اللادي سيمون وكنت قد أرسلت إليها قبل ذلك وردا وبعضا من فاكهة المانجو وصلتني من مصر فشكرتني على ذلك كثيرا - وقد ضمت حفلة الشاي نفس الأشخاص الذين دعوا بالأمس لمأدبة العشاء وزاد عليهم اللادي سيمون ومسز إيدن ولم نتكلم في السياسة مطلقا. إلا أن السير سيمون قد سر كثيرا عند ما قلت له إن المذكرة الإنجليزية التي أبلغت إلى ألمانيا بخصوص المساواة في التسلح كانت متينة شكلا وموضوعا - وكان مجري الحديث أثناء الشاي فكها تتخلله النكات - وبعد الفراغ من تناول الشاي استأذنت من الوزير وزميليه في الانصراف وعدت إلى مصر في صباح الغد.

وفي ظني أن مسألة الاتفاق مع بريطانيا العظمى قد خطت بفضل هذه المحادثة خطوة كبيرة

مذكرة (قدمت إلى السير جون سيمون في 21 سبتمبر سنة 1932)

(ترجمة)

1 - إن السبب الذي يجعلني أطلب إلى سعادتكم أن أكون البادئ في الكلام هو أني أرى من واجبي أن أعرض المسألة عليكم من الوجهة المصرية لأستوفي ما لديكم من البيانات. وإن كان للطرفين مصلحة كبرى في الوصول إلى اتفاق إلا أن هذا الاتفاق يكاد يكون لمصر محور سياستها الخارجية بينما هو لا يخرج بالنسبة لبريطانيا العظمى عن كونه غاية بين شتى الغايات التي ترمي إليها

2 - وستتناول هذه المذكرة الموضوع من حيث الجوهر وبدون تحيز وسيكون مختصرا نظرا لضيق الوقت الذي يمكن للوزير البريطاني أن يخصصه لحديث يكاد يكون عرضيا.

3 - يقولون إني أتعجل الوصول إلى اتفاق. ومهما كان للبلدين من مصلحة في تذليل مصاعبهما المشتركة في أقرب وقت إلا أن التعبير الصحيح لما أكنه في هذا الشأن هو أني علي الرغم من رغبتي الشديدة في إبرام معاهدة فإني لا أريد المفاوضة إلا في الوقت الملائم المفيد، فالمفاوضة في وقت يساء اختياره لا ينتج عنها - وعلى الأخص بالنسبة لمصر - إلا المضار.

4 - وبودي لو أدرك الوزير أن مفاوضات تمنى بحبوط جديد من شأنها أن تضر كثيرا بما بين البلدين من علاقات وتعرض الأمن الداخلي في مصر للخطر الشديد. فمن الجنون أن تعرض مصر نفسها إلى مثل هذه المجازفة.

5 - إلا أن اليوم الذي يبدو فيه أن المفاوضات قد تؤدي إلى نتائج موفقة. يكون الطرفان قد أساءا إلى المصالح العامة الموكولة إليهما إذا ما أهملا الفرصة السانحة لاستئناف المفاوضات.

6 - وإني في هذا الصدد أدرك تماما أنه مع عدم استقرار الحالة السياسية والاقتصادية التي تسود العالم في الوقت الحاضر. وإزاء المصاعب الحادة التي تواجهها الآن السياسة البريطانية فلا يكون من سداد الرأي طلب فتح المناقشة على الفور في المسألة المصرية، ولكن أليس في الإمكان - علي الأقل إذا ما سلم بمبدأ الدخول في مفاوضات - تمهيد الأسس. حتى نقترب بقدر الإمكان من اليقين بالنجاح؟ وأن الطريقة المتبعة في المؤتمرات العالمية من حيث إنه تسبقها في العادة اجتماعات للدراسة التمهيدية من شأنها أن تؤيد هذه النظرية السليمة.

7 - وهناك عاملان من شأنهما أن يسهلا إلى حدّ بعيد عملية التمهيد هذه:


(أ)

أن أغلب المسائل التي ستدور حولها المناقشة - إن لم تكن كلها - قد تم الاتفاق عليها مبدئيا في المفاوضات السابقة، فإذا ما أعيد النظر فيها فإنما يكون ذلك لاستزادة الدقة في تدوينها.

(ب)

يمكن الشروع في محادثات مفيدة ذات صبغة شبه رسمية بالقاهرة بين رئيس الحكومة المصرية والمندوب السامي البريطاني فهذه المحادثات تتيح للطرفين فرصة زيادة التفاهم في جو أكثر هدوءا. يلائم الظروف الملابسة التي قد تطرأ عند البحث ويجعلنا من جهة أخرى نوفر على انجلترا وقتا قد تفضل تخصيصه لمسائل أكثر أهمية.

8 - وقد يتساءل البعض عن المصلحة المباشرة في إجراء مفاوضات على وجه السرعة، أليست البلد في هدوء؟ ألا تتولى أمورها أداة مصلحية موفقة؟ ألا تسير العلاقات البريطانية المصرية في انسجام ووئام بفضل سعي حكومة ترسمت لها خطة صون الصداقة بين البلدين؟

9 - كل هذا مقطوع بصحته، إلا أن تلك النتائج السارة التي لم تجن اليوم إلا بعد جهود متواصلة وكفاح داخلي مضن ستكون، إذا ما أبرمت المعاهدة، النهاية الطبيعية لحالة دائمة مستقرة. وقد يغيب عن ذهن الوزير أن الحالة الراهنة تستغلها أحزاب المعارضة في مصر وتقيمها دليلا على عدم الاستقرار السياسي. فتشط في سياستها كل الشطط.

10 - إلا أنه بصرف النظر عن هذه الاعتبارات، وعلاوة على أن كل المسائل المحتفظ بها في تصريح 28 فبراير سنة 1922 (1) من شأن التمادي في تأخير حلها أن يتسبب عنها في كل لحظة - وقد وقع ذلك فعلا - مواقف يؤسف لها. لا يكون من الميسور تفاديها إلا باتباع سياسة رشيدة حكيمة فإن هناك من المصالح المادية والأدبية ما لا تحتمل الإبطاء.

11 - وأخص بالذكر بادئ ذي بدء مسألة الامتيازات. وهي مسألة خطيرة، فمن تحصيل الحاصل أن نطيل في تفصيل عواقبها الوخيمة في نمو مصر ماديا وأدبيا، تلك العواقب التي قد تحققت الحكومة البريطانية نفسها من مضارها من زمن بعيد، فالاتفاق الذي قد يبرم مع بريطانيا العظمى يجب أن ينص فيه على أنها ستستعمل ما لها من نفوذ لدى الدول صاحبات الامتيازات ليحل نظام جديد أكثر ملاءمة لمصر محل النظام الحالي الذي تقر بريطانيا العظمى بأنه أصبح لا يتفق وروح العصر الذي نعيش فيه وحالة مصر الحاضرة. ومن ثم فكل إرجاء للاتفاق يعرضنا إلى استمرار حالة لم يعد لنا قبل على احتمالها، وعلاوة على ما تقدم فإن إلغاء قيود الامتيازات

(1) هذا التصريح لم يخرج عن أنه تسوية وقتية لحالة كانت في الواقع حالة أزمة سياسية حقيقية. وكان في نية الحكومة البريطانية نفسها أن يعقب التصريح عاجلا اتفاق نهائي بين البلدين وقد انقضت عشر سنوات ولم يخرج الاتفاق إلى حيز الوجود.

بالنسبة للتشريع المالي قد أصبح ضرورة ملحة منذ أن اشتدت وطأة الأزمة الاقتصادية وحل الكساد المالي. إن القيود وشتى الإجراءات البطيئة التي تعترض هذا التشريع تشل مساعي الحكومة النافعة وتنال حتى من مصلحة أولئك الذين ترمي الامتيازات إلى حمايتهم.

12 - أما من الوجهة الأدبية وبالنسبة لمكانتنا في العالم - وبخاصة العالم الشرقي - فمن المؤلم لمصر أن يرجأ قبولها في عصبة الأمم أكثر من ذلك فهناك بلاد أقل استحقاقا منا انتظمت في الجمعية. أما نحن فقد أوقفنا عند عتبة بابها بدعوى أن مسألة انضمام مصر إلى عصبة الأمم منصوص عليها في مشروع الاتفاق، فلهذا جاز القول أن مصر - بحكم مركزها الخاص - ليس لها أن تدخل بصفة جدية في المشاكل السياسية العصيبة التي تتناولها مناقشات عصبة الأمم فإن هناك من المسائل الاجتماعية والصحية والمالية والاقتصادية مما يدخل في اختصاص الجمعية أو فيما تعنى به ما له بالنسبة لنا أهمية حيوية لا تقل عن أهمية هذه المسائل بالنسبة لسائر البلاد الأخرى.

13 - ولأنتقل الآن إلى موضوع أكثر دقة. فإذا ما تعرضت له فما ذلك لأني أعتقد أنه قد يؤثر على وجهة نظر الحكومة البريطانية من حيث تحديد موعد الدخول في المفاوضات. بل لأن البعض قد أثار مخاوف وشكوكا من حيث صلاحية اتفاق قد يبرم مع ممثلي النظام السياسي القائم الآن في مصر وكل ما أرمي إليه هو إزالة هذه المخاوف والشكوك لصالح مفاوضات يجب أن تقوم على الصراحة وأن تسودها الثقة المتبادلة.

14 - لا أريد الإفاضة في إظهار الناحية الخداعة لحجة قد تستند على استقرار أو عدم استقرار النظام الذي يقوم في بلد يراد الاتفاق معه. فقد سبق لبريطانيا العظمى أن تفاوضت مع حكومات مصرية لم يكن لها من القوة والرسوخ ما للنظام الحاضر. فبريطانيا العظمى وشأنها في ذلك شأن غيرها من الدول لم تكف - ولا سيما في الآونة الحاضرة - عن المفاوضة مع شتى الحكومات بصرف النظر عن أنظمتها. وللوزير البريطاني من حسن الفطنة ما يغنيني عن ذكر أمثلة حديثة. قد يكون من الجرأة ذكرها.

15 - وغنى عن الذكر أن قيمة الاتفاق إنما هي في مراميه وهي الفوائد التي تنجم عنه وفي الحلول التي يصل إليها بحيث لا ينقضه الرأي العام إلا إذا لم يجد فيه ما يرضيه. ولم يفترض بحال من الأحوال أن نظاما قائما بمصر - مهما يكن شأنه - يستطيع أن يهمل الإلحاح في الحصول على أقصى ما يمكن من المزايا.

16 - هذا وأرى من واجبي أن أطمئن الوزير البريطاني على ما للنظام الحاضر من قوة واستقرار وإني أؤكد له ذلك وأنا شاعر بما علي من مسئولية. فمصر لا تخضع اليوم لنظام دكتاتوري مفروض عليها قابل للزوال. وهي ليست أيضا بالبلد ذي المظاهر الدستورية. فقد يحكمها في الواقع

زمرة من الأفراد لا رقابة عليهم (Oligarchia) فلربما كان الحال كذلك في عهود أخرى فمصر - لا تتمتع بدستور منسجم الأوضاع فحسب بل إن حرية الرأي مكفولة تماما في حدود القانون ما دام لم تدع إلى الخروج على النظام أو الإخلال بالأمن.

17 - إن شعوري بما علي من تبعات سبق أن عبرت عنها فيما تقدم. من شأنه أن يمنعني عن الشروع في عمل قد يؤدي حبوطه إلى اضطراب النظام الصالح الذي تتمتع به البلاد، ولم أكن والحالة هذه لأعرضه إلى مجازفة خطرة. أما الآن وأنا شاعر بما لهذا النظام من قوة تحميه من كل ما يجعله عرضة للاعتداء، فأرى من واجبي أن أتوج هذا العمل بتركيز نظام البلاد وذلك تحقيق الاتفاق المنشود. وكل ما سبق من توكيدات هي حالة بعيدة كل البعد عن الغموض بل هي على عكس ذلك تبدو للعيان لسكان مصر من مصريين وأجانب. وأعتقد أن في وسع ممثليكم الرسميين ورعاياكم أن يشهدوا بهذه الحالة التي تبعث إلى الاطمئنان وتشعرهم بالفائدة التي تنتج عن اتفاق مقبل.

18 - وأود أخيرا أن أتقدم بملاحظة ختامية. لا تقف مصلحة البلدين عند حد إبرام اتفاق إنما تمتد أيضا إلى تنفيذه بإخلاص وبروح مشبعة بالصداقة الحقة. وأني أترك للوزير البريطاني أن يقدر ما إذا كان عهد يمتاز بالحكمة والنظام والكفاية لا يكون أحق العهود بتحقيق هذا الغرض.

19 - وبناء على ما تقدم أطلب من الوزير البريطاني أن يشاطرني الرأي:

(أ)

بأن إبرام اتفاق في أقرب وقت مع مصر هو من الأغراض الجديرة بالاعتبار من جميع الوجوه.

(ب)

بأنه إلى أن يحين الوقت المناسب للدخول في المفاوضات الرسمية يكون من المستحسن تمهيد الطريق، والاستفادة في الوقت للشروع في محادثات شبه رسمية.


(ج)

بأن تحديد تاريخ للمفاوضات النهائية يكون بالاتفاق بين الحكومتين. مع مراعاة مصالح الطرفين، ومراعاة أن هناك من المسائل ذات الأهمية الحيوية بالنسبة لمصر ما تتطلب حلا سريعا. فنظرا للتعليقات المغرضة وللأخبار المتضاربة التي تتناقلها بعض الدوائر بمناسبة استئناف المفاوضات بين بريطانيا العظمى ومصر فقد يكون من المرغوب فيه إصدار بلاغ يطمئن المصريين ويزيل ما بنفوسهم من مخاوفهم.


المصادر