تقرير مرفوع من عدلي يكن إلى سلطان مصر

تقرير مرفوع من عدلي يكن إلى سلطان مصر،، 19 مايو 1921، مفاوضات سنة 1921- 1922 (عدلي-كرزون). منشور من "وزارة الخارجية المصرية، القضية المصرية 1882- 1954، المطبعة الأميرية بالقاهرة 1955، ص 205- 212"

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

المنشور

يا صاحب العظمة

أتشرف بأن أرفع إلى عظمتكم بيان ما جرى في المفاوضات التي دارت بين وزارة الخارجية الإنجليزية وبين الوفد الذي ألف بمقتضى الأمر الكريم الصادر بتاريخ 19 مايو سنة 1921:

أبحرنا من الإسكندرية أول يوليه فوصلنا إلى لوندره في الحادي عشر من ذلك الشهر. وقد أرسل لي اللورد كيرزن يوم وصولنا يدعوني لمقابلته وعلمت أنه هو الذي سيتفاوض مع الوفد المصري من جانب الحكومة الإنجليزية يعاونه بعض كبار موظفي وزارته، فقصدت إليه في اليوم التالي وكان لي معه حديث تمهيدي لتحديد إجراءات المفاوضة، وقد أفضى لي في ذلك الحديث بأنه يقدر صعوبة المسألة ولكنه شديد الرغبة في الوصول إلى اتفاق يرضي البلدين. ورجا أن يتذرع كلانا بالأناة والصبر على الخلاف وألا تمنعنا شدته في أمر من أن نتركه حينا ونعالج غيره من الأمور. وإذا كنا قد اتفقنا معه على أن تكون المناقشة مطلقة من كل قيد وأن يدلي كل فريق فيها بما يراه، كان لنا أن نتوقع أن تظهر مسافة الخلف بين وجهتي نظرنا ونظر الحكومة الإنجليزية واسعة في أول الأمر على الأقل نعم إن الدعوة التي وجهتها الحكومة الإنكليزية إلى عظمتكم قريبة في صيغتها العامة من أساس برنامجنا الذي تضمن جوابنا على تلك الدعوة. ولكنه قد يسهل الاتفاق على مبدأ ويختلف على تفصيل ذلك المبدأ والتفريع عليه. أما وجهة النظر المصرية فكانت سهلة واضحة إذ هي تنحصر في طلب الاستقلال وإلغاء الحماية. ويترتب على ذلك أن تكون مصر متمتعة بكل الحقوق التي تتمتع بها الدول المستقلة ذات السيادة التامة، غير أنه لما كان الشعور العام في مصر قد درج من أول الحركة المصرية على التسليم بتقديم الضمانات الواجبة لمصالح إنجلترا ومصالح الأجانب على العموم لم يكن لنا بدّ من أن نطلب من اللورد كيرزن بادئ الرأي أن يحدّد تلك الضمانات لنتعرف مبلغ اتفاقها مع معنى الاستقلال، فإن كانت لا تنافيه قبلناها، أو كانت تنافيه وتجعله اسما على غير مسمى لم نتردد في رفضها. أما الاعتراف باستقلال مصر وإلغاء الحماية الإنجليزية فلم يكونا مثار خلاف بيننا وبين الحكومة الإنجليزية إذ أن مفهوم المناقشة أنه إذا وصلنا إلى اتفاق بشأن تلك الضمانات كانت نتيجة ذلك الاتفاق وضع معاهدة تقرر استقلال مصر وإلغاء الحماية دوليا وتثبت تلك الضمانات.

لم تكن مسألة الضمانات أمرا جديدا أو موضوعا بكرا. فقد جرت بشأنها أحاديث في العام الماضي ووضعت لجنة اللورد ملنر عنها مشروعا أبدى عليه المصريون بعض التحفظات وأعلنت الحكومة الإنجليزية في دعوتها أنها لم تعلن قرارها بشأنه. وذكر لنا اللورد كيرزن في جلستنا الأولى أنها لم ترتبط بما فيه وأنها لا ترتبط بغير الدعوة التي وجهت إلى عظمتكم بواسطة المارشال أللنبي في 26 فبراير سنة 1921 فهو إذا لم تلتق إرادة الفريقين على أساس الحلول التي عرضت فيه. فلا نزاع في أنه حصر وجوه الاستشكال ومواقع الصعوبة في المسألة المصرية. وقد جرت المناقشة في الجلسات التي حضرها الوفد مجتمعا في 13 و14 و 19 و20 و 29 يوليه في مسائل القوة العسكرية الإنجليزية في مصر وتمثيل مصر السياسي والموظفين الإنجليزيين في وزارتي المالية، والحقانية والامتيازات باعتبار أنها المسائل التي ترتبط بمعنى الضمانة والتأمين.

أما مسألة القوة العسكرية التي كانت في مشروع اللورد ملنر وسيلة لتحقيق غاية هي حماية المواصلات الإمبراطورية، فقد أصبحت في نظر الحكومة الإنجليزية وسيلة لتحقيق غايات مختلفة:

الأولى- الدفاع عن سلامة المواصلات الإمبراطورية في حالتي السلم والحرب.

الثانية- مساعدة مصر في الدفاع عن سلامة الحدود المصرية من أي اعتداء خارجي إذا دعت إليها الحالة؛

الثالثة- حماية المصالح الأجنبية؛

الرابعة- مساعدة الحكومة المصرية في قمع الفتن الخطيرة وحفظ النظام إذا دعت الحاجة إلى ذلك.

وأصبح لهذه القوة أن ترابط في أي مكان من مصر ولأي زمان.

ولقد يظهر من تعدد هذه الغايات وامتدادها إلى أهم مظاهر الحياة السياسية. أن القوة العسكرية أصبحت بنفسها غاية لا وسيلة. وقد قيل لنا إن الحكومة الإنجليزية لم تشاطر لجنة اللورد ملنر الرأي في هذه المسألة. وكانت حوادث الإسكندرية حجتها الكبرى في هذا المذهب الذي كان جديدا علينا.

وأما التمثيل السياسي. فقد وجدت الحكومة الإنجليزية أن لجنة اللورد ملنر تجاوزت مدى ما يحسن التسليم به لمصر. وعندها أنه يحق لمصر أن تكون لها وزارة خارجية ووزير خارجية على أن يكون هذا الوزير في أوثق اتصال وألصق علاقة مع مندوب إنجلترا السامي وأن يكون تمثيلها السياسي موكولا إلى ممثل إنجلترا وإنما يجوز لها أن تعين قناصل للأعمال التجارية. وأنه ليس له أن يعقد أية معاهدة من غير موافقة إنجلترا.

أما الموظفان الإنجليزيان للمالية والحقانية فقد اتخذت الوزارة الإنجليزية بشأنهما الرأي الذي ورد به المشروع الأخير. وهو من كل الوجوه أشد مما ذهبت إليه لجنة اللورد ملنر.

وأما الامتيازات فقد كانت وزارة الخارجية سائرة في طريق المفاوضة رأسا مع الدول على أساس ينقصه التعريف والتحديد.

يتبين من هذا الموقف الذي اتخذته الوزارة الإنجليزية بشأن المسائل التي تدور حولها الضمانات الواجبة لمصالح إنجلترا ومصالح الأجانب أنه يختلف في جملته وتفصيله عن المذهب الذي تعهدنا بالسعي في تحقيقه. وقد قضينا الجلسات الخمس الأولى نمحص هذه المسألة ونرد النتائج إلى أسبابها والمعلومات إلى عللها الحقيقية، وشفعنا المناقشة الشفهية بمذكرات أرسلت بتاريخ 26 و28 يوليه جلونا فيها بعدما بين آراء الوزارة الإنجليزية والاستقلال.

ونعتقد أننا في نهاية هذا الدور ظفرنا بإقناع اللورد كيرزن بمذهبنا في علاقات مصر الخارجية وتمثيلها السياسي. ثم إنه لما كان الأساس الصحيح في نظرنا للمفاوضة مع الدول في إلغاء الامتيازات لا يتعين إلا بعد الفراغ من وضع المعاهدة بيننا وبين إنجلترا. وكنا نخشى أن هذه المفاوضات يطول أمدها. ولا نريد أن يعلق نفاذ المعاهدة على انتهائها؛ فقد رأينا أن خير ما يتحقق به ذلك النفاذ. ويتقى به التعليق هو أن تبقى الامتيازات الآن وأن تجري المفاوضات بيننا وبين إنجلترا على أساس بقائها، وقد وجهنا البحث إلى هذه الغاية. فأفسح اللورد كيرزن صدره لهذا الرأي ثم تلقاه بقبول حسن، ولكنا لم نمارس في هذا الدور تفصيل ذلك الرأي وترتيب النتائج عليه. وفوق ذلك تقدم الكلام في الموظفين المالي والقضائي اللذين أصبحا يسميان مندوبين، شوطا يسيرا. غير أن بعدما بين مذهبنا ومذهبهم في المسألة العسكرية كان يقضى علينا قبل أن نخطو خطوة جديدة بأن نعالجها معالجة شديدة. وقد كان مع اللورد كيرزن حديث في ذلك الشأن تلته مذكرة جديدة منه عن تلك القوات. وليس بين مذكرته الأولى في هذا الموضوع وهذه المذكرة الجديدة اختلاف جدي في تعريف أغراض القوة وأحكام وجودها. وكل ما زادته الثانية على الأولى أن عدد تلك القوات والأماكن التي ترابط فيها أصبحا محلا لإعادة النظر. وقد اقترحت المذكرة الجديدة أن تكون هذه المادة من المعاهدة قابلة للتعديل باتفاق الطرفين بعد عشر سنين؛ ويراعى في ذلك التعديل ما سوف يجدّ من الظروف وعلى الأخص قدرة الحكومة المصرية على احتمال قدر أكبر من المسئولية بشأن تنفيذ الأغراض التي نيط بتلك القوة القيام عليها. وقد دعانا اللورد كيرزن إلى استئناف اجتماعاتنا إذا نحن قبلنا هـذه المقترحات أساسا لها- فتبينا أن الاتفاق على هذه المسألة عزيز المنال إذ كنا قد أبدينا حججنا في هذا الصدد وأعدناها أكثر من مرة، ولكننا لم نكن نعرف بعد مدى ما تقبله الحكومة الإنجليزية في غيرها من المسائل إذ لم تكن المقترحات التي عرضت علينا إلا اقتراحات أولية لا تلبث أن تتكيف بفعل المناقشة والتفاهم إلى صيغ وحلول أخرى، غير أننا كنا نخشى من جهة أن يعتبر اللورد أن قبولنا الاستمرار في معالجة المسائل الأخرى بعد ذلك الكتاب رضى منا بمقترحاته في المسائل العسكرية، ونؤمل من جهة أخرى أن نجلو وجه المسألة المصرية ونتعرف حقيقة مذهب الحكومة الإنجليزية إذا نحن استزدنا من المناقشة فيها. وكنا بين أن نجتزئ من المناقشة بذلك القدر الناقص ونقفل راجعين قانطين من الوصول إلى حل قبل أن نتبين حقيقة مقاصد الحكومة الإنجليزية أو أن نأخذ بما اتفقنا عليه في الجلسة الأولى من أنه لا يمنعنا اتساع مسافة الخلف بين مذهبينا في مسألة من أن نعالج غيرها من المسائل، فرجحنا الرأي الأخير- على أننا أردنا أن نتق كل شبهة تستفاد من استئنافنا. فرددنا على اللورد كيرزن برسالة كاشفناه فيها مرة أخرى بحقيقة رأينا ورأي الأمة في اقتراحاته بشأن المسألة العسكرية. وأبدينا استعدادنا للمناقشة في المسائل الأخرى ليكون البحث كاملا شاملا لوجوه القضية المصرية وليسمح بقياس مسافة الخلف بيننا وبينهم.

وعلى أثر ذلك سارت المناقشات فيما عدا مسألتي القوة العسكرية والتمثيل السياسي سيرا معتدلا أما هاتان المسألتان فقد بقيتا معلقتين حتى نفرغ من المسائل الأخرى. وبقي كل منا محتفظا برأيه إلى حين يجيء دورهما وقد بدأنا هذه المفاوضة التفصيلية مجتمعين ثم توليتهما وحدي أو مع زميل لي وامتدت من 17 أغسطس إلى 26 عقدت فيها خمس جلسات قطعنا فيها شوطا بعيدا في تقريب ما بين وجهتي نظرنا ونظرهم في المسائل التي تعرضنا لها.

أما مسألة الامتيازات فقد أصبح من المسلم به تأجيل البحث فيها فانقطع بذلك الكلام فيما ارتبط بها من أحكام مشروع لجنة ملنر التي بنيت على تقدير أن إلغاء الامتيازات جزء من المعاهدة لا يتجزأ وشرط لازم لنفاذها وانقطع أيضا، تبعا لذلك، الكلام فيما يتعلق بهذه الأحكام من التحفظات المصرية. كذلك بقي صندوق الدين باختصاصه الحالي باعتباره نظاما دوليا ينطبق عليه ما ذكرناه عن الامتيازات من طول الزمن اللازم للمفاوضة في تغييره، وقد ترتب على هذه الحالة وعلى ما حصلنا عليه من التأكيدات المتعددة بأن الحكومة الإنجليزية ليست راغبة في التدخل في الإدارة المصرية أن الحديث في الوسائل التي يراد بها حماية المصالح الأجنبية لم يعد يتخذ صورة المندوبين المالي والقضائي بل أصبح من المنتظر ألا تكون تلك الوسائل ذات خطر على الاستقلال.

وقد عرضت وزارة الخارجية للمناقشة شؤونا شتى. منها مسألة قناة السويس وكانوا قد طلبوا أن تنظر الحكومة المصرية في تأمين الشركة على مدّ امتيازها، ومسألة أسلاك التلغراف البحرية ومحطات التلغراف اللاسلكي والترخيص من الآن للحكومة الإنجليزية وللشركات التي توصي بها تلك الحكومة بإنشاء ما ترى إنشاءه منها واشتراط موافقة المندوب السامي على إنشاء الأسلاك والمحطات في الحالات الأخرى، ومسألة تعهدات مصر فيما يتعلق بالخراج الذي تدفعه مصر سدادا لدائني تركيا، ومنها تعويض الموظفين الذين تخرجهم الحكومة المصرية من خدمتها على أثر تنفيذ المعاهدة أو يخرجون من تلقاء أنفسهم. وقد كانت هذه المسائل محلا لأبحاث مستفيضة ومذكرات وافية قررنا فيها وجهه نظرنا. ويظهر أن ردودنا على المسألتين الأوليتين حملتهم على الاقتناع بالعدول عن مطالبهم بشأنهما.

اعترضنا هنا فصل الإجازة وهو الفصل الذي توقف فيه جلسات البرلمان، وينقطع رجال السياسة عن العمل مدة تتراوح بين الثلاثة أو الخمسة أسابيع. وقد مضى الأمر هذا العام على سننه المعروف فلم يكن بد من التربص بعملنا حتى تنقضي هذه الفترة، وقد غادرنا لوندرة في هذا الفصل وجعلنا نستعد لإتمام ما بدأناه من تضييق مسافة الخلف في المسائل التي كانت تشغلنا في هذا الدور فلما عدنا في نهاية الأسبوع الأول من أكتوبر استأنفنا أحاديثنا وعقدنا ثلاث جلسات بين الحادي عشر والسابع عشر من أكتوبر.

لم يبق شيء من أغراضنا خافيا أو مجهولا. وقد أصبحت المسألة ناضجة لأن تنتقل المناقشة من المبادئ إلى النصوص، لذلك ذكر لنا اللورد كيرزن مع عودتنا في أكتوبر أنه بعد انتهاء المناقشة سيحصر ما انعقد عليه الاتفاق. أما ما ثار عليه الخلاف فما استطاع تذليله من هذا ذللـه، وما لم يستطع عرضه على الوزارة البريطانية داعيا جهده إلى التوفيق عاملا على ذلك.

في اليوم الثاني من نوفمبر بعد الفراغ من هذه المناقشات اجتمعت بالمستر لويد جورج- وكان قد سبق لي به اجتماع قبل سفرنا للإجازة وعدني فيه بأنه سوف يهتم شخصيا بمسألتنا بعد عودته من الإجازة- فقصصت عليه نبأ ما جرى من المفاوضات وأحطته علما بموقفنا في مختلف المسائل. وقد ذكر لي أنه أجل المناقشة في المسألة المصرية في الوزارة حتى يتحدث معي في شأنها وأنه شديد الرغبة في صداقه الأمة المصرية ثم وعد بإرسال المشروع بمجرد الفراغ من وضعه- فلبثنا ننتظر ما يستقر عليه رأي الحكومة الإنجليزية وتنتهي إليه رغبتهم في الاتفاق.

في اليوم العاشر من نوفمبر سلمني اللورد كيرزن مشروع الحكومة الإنجليزية. وقد رددنا عليه بالإيجاز معلنين في ختام ذلك الرد أن المشروع لا يجعل محلا للأمل في الوصول إلى اتفاق وقد رأينا لذلك أنه لا وجه للبحث في الطريقة التي يكون بها الاعتراف باستقلال مصر دوليا كما لم نروجها لإعادة البحث والمناقشة في أبواب المشروع الأخرى. وإن عظمتكم لتجدون في المذكرات التي تبادلناها مع وزارة الخارجية وفي محاضر الجلسات التي أثبتنا فيها مذكراتنا الشفهية تفصيل ما كان منا ومنهم: وهذه المذكرات والمحاضر تغنينا عن نقد المشروع وتفصيل الرد عليه. إذ الواقع أن هذا المشروع غاب عنه كل أثر للتطور الذي جرى في المفاوضات فهو لم يتحول عن الاقتراحات الأولى التي عرضت في شهر يوليو إلا في مسألة التمثيل السياسي. وقد قبله المشروع ولكنه أحاطه بقيود لاشت من أثره ومعناه بل لم يقتصر الأمر فيه على إيراد الاقتراحات الأولى نفسها فإن المادة المتعلقة بالمسألة العسكرية فضلا أنها لم تعد تذكر التوقيت عدلت بيان الأغراض التي ينبغي من أجلها وجود القوة العسكرية فاستبدلت من حماية المصالح الأجنبية والمساعدة في قمع الفتن إذا دعت الحاجة لذلك. الدفاع عن المصالح الحيوية لمصر وهي عبارة أبعد مرمى وأوسع مدلولا. لا يكاد يمتنع معها أي قدر من التداخل في شؤون الإدارة المصرية.

على أن فداحة الاقتراح الإنجليزي الذي عرض علينا في يوليو كانت تجعلنا نعتقد أنه اقتراح ابتدائي لا يلبث أن يتغير تحت فعل رغبة التفاهم خصوصا وقد استمر المفاوضون الإنجليز في المفاوضة بعد أن لم نترك لهم محلا للشك في أننا لا يسعنا قبوله أو دعوة الأمة إلى قبوله. وقد جاء المشروع في هذا الصدد مختلفا جد الاختلاف عما اقترحته لجنة لورد ملنر وأنه كان حقا أن الحكومة الإنجليزية تحفظت في دعوتها للحكومة المصرية فلم تذكر أنها وافقت على اقتراحات تلك اللجنة، فقد كان لنا أيضا بحق أن نذكر أن الحكومة الإنجليزية تركت اقتراحات لجنة اللورد ملنر تنتشر ويستشار فيها وهو أمر لم يجر له مثال في هذا النوع من المفاوضات. ويصعب جدا بعد ذلك على من يحكم بدون هوى أو تحيز أن يقدر أن الحكومة الإنجليزية تفكر جديا في إرضاء المصريين والوصول معهم إلى اتفاق على أساس أقل مما عرض عليهم في العام الماضي وهو مالم يقبلوه إلا معدلا بتحفظاتهم. نعم إن اللجنة لم تربط الحكومة الإنجليزية وإن هذه لم ترتبط. ولكن نشر مشروع اللجنة رسميا في مثل هذه المسائل يغني عن التعهد الصريح بأن لا تنزل الحكومة دونه. هذا إذا لم تدفعها رغبة الاتفاق إلى قبول ما فوقه.

لا ننكر أن حوادث الإسكندرية وقعت بعد ذلك وكنا أول الآسفين لها . غير أنه مهما يكن من خطورة تلك الحوادث ومن تهويل بعض الأجانب فيها واضطرابهم بسببها فقد بينا وجه الحق فيها. وأظهرنا أنها لم تنشأ عن تعصب أو كراهة للأجانب وأنها عرضية لم تكن لتحدث في غير الدور التاريخي الذي حدثت فيه. وكما اقتنع الأجانب هنا بأنهم يعيشون مع المصريين في أمن ودعة. فقد كنا نرجو أن تقتنع الحكومة الإنجليزية بأن المصالح الإنجليزية والأجنبية على السواء غير مهددة فلا ينبني على تلك الحوادث أوعلى ما يشبهها حكم دائم أو نظام ثابت.

وقد لا نكون على العموم توقعنا مشروعا يرضينا لأول وهلة. بل مشروعا يترك محلا للأخذ والرد. وإنما يطلب إلى جانب ذلك أملا في أننا لا نزال به حتى نصل إلى أساس صالح للاتفاق.

والذي لا نزاع فيه أن هذا المشروع يصدر عن شيء كثير من الحذر والحرص من جانب الحكومة الإنجليزية. ومع أن قدرا من الحذر والحرص معقول . فإن الغلو فيهما ناف للثقة التي يجب أن تكون أساسا لمحالفة بين بلدين مناف لها.


وقد أشرنا إلى المحالفة بين البلدين. وكانت أحاديث العام الماضي قد جرت بأنها خير ما يبرم بين البلدين من العلاقة وجاءت دعوة الحكومة الإنجليزية إلى إنشاء علاقة مرضية بين البلدين مؤيدة لذلك الرأي، ثم جاءت المادة الأولى من المشروع تذكر المحالفة بالنص الصريح ، ولكننا قلبنا المشروع كله فلم نجد في ثناياه غير تلك الإشارة المجملة وكان حقا ألا تلتقي المحالفة. وما تذهب إليه إنجلترا من أنها مسئولة عن مصر في مشروع واحد. فإن كُلاَّ من الوجهتين معنى وحكما لا يتفقان وقد أدرك واضع المشروع ذلك فجعل المساعدة التي تبذلها مصر لإنجلترا والتي هي أهم مظاهر المحالفة من الجانب المصري.نتيجة لازمة عن المسئولية التي تقبلها إنجلترا متطوعة بها منفردة فيها. بدلا من أن تكون أحد العوضين في عقد له طرفان.

أخذنا على أنفسنا أن نسعى للاعتراف بمصر دولة مستقلة في الداخل وفي الخارج ولإلغاء الحماية إلغاء صريحا. ولكننا ألفينا المشروع الذي تمخضت عنه مفاوضات طويلة عسيرة لا يحقق الغاية التي جئنا للمفاوضة من أجلها- فكان حقا علينا أن نرى المفاوضات غير منتجة وألا نسترسل فيها لأكثر من ذلك.

بعد عودتنا إلى مصر. اطلعنا على المذكرة التفسيرية التي أرسلتها الحكومة الإنجليزية إلى عظمتكم بيانا لخطتها في المفاوضات ومرامي سياستها في مصر، ولسنا في حاجة لأن نقول إن هذه المذكرة أيدت ما فهمناه من المشروع. وقد كان محور المفاوضة تأمين المصالح الإنجليزية والأجنبية وكنا مستعدين لأن نقدّم ما يلزم من الضمانات، إذ لا ننكر أن الاتفاق على هذه الضمانات مدعاة لحسن التفاهم وصدق التعاون بين البلدين، ولكن ما نفهمه نحن في هذه الضمانات أنها تترك استقلال مصر قائما سيما وتقوم إلى جانبه لحماية تلك المصالح فقط دون افتيات على حرية مصر، غير أن المذكرة تبني على تلك المصالح حقوقا تتعدى مجرد المحافظة عليها إلى تقرير مشروعية وضع يد إنجلترا على مصر فلم يكن لهذه المذكرة أن تجعلنا نغير رأينا في المشروع أو نتحول عن الخطة التي سلكناها.

ولا يفوتني قبل أن أختم هذه الكلمة أن أشير إلى الصدمة العنيفة التي باغتتنا بمرض صديقي رشدي باشا. وهو أشد ما يكون انهماكا في العمل وزهدا في دواعي الراحة، وما خلفه ذلك الحادث في نفوسنا من الحزن العميق. وقد كنا وإياه على اتفاق تام في كل ما فعلناه قبل أن يصيبه ذلك المرض وعلمت منه أنه موافق على ما جرى بعده.

كذلك لا يفوتني أن أشير إلى العون الجليل الذي لقيته أنا وزملائي أعضاء الوفد من المستشارين الفنيين ورجال السكرتارية.

وإن من دواعي الفخر والسرور لنا ما أظهرته الأمة المصرية من الحكمة واليقظة أثناء سير المفاوضات. ومن التجمل والتجلد عند انقطاعها. وإن ذلك لجدير بأن يتغلب على الظنون والمخاوف التي لا تزال تساور الوزارة الإنجليزية على مصير البلاد إذا ترك أمرها بيدها.

وقد يخفف عنا أن الرأي العام الإنجليزي، بمقدار ما تنطق بلسانه صحافته الكبرى. وتعبر عنه الأوساط السياسية المختلفة التي غشيناها، أحسن ظنا بمصر إذا حققت آمالها وأجيبت مطالبها. وأنه لا يعتبر إرضاء مصر تهاونا أو تفريطا. بل عدلا وحسن سياسة.

وعلى أي حال فليس لنا أن نيأس من روح الله أو من صحة عزيمة الأمة على المطالبة باستقلالها. ولنا بعد ذلك في عظمتكم خير من يرعى هذه الأمة ويسهر على مصالحها.

والله أسأل أن يكلأ عظمتكم بعين رعايته وأن يوفقكم إلى ما فيه خير البلاد.

وإني لا أزال لعظمتكم العبد المطيع والخادم الخاص الأمين ،

القاهرة في 9 ربيع الثاني سنة 1340 (8 ديسمبر سنة 1921)

عدلي يكن


المصادر