مقابلة صحفية ما بين الفريق أول أحمد إسماعيل وزير الحربية والقائد العام للقوات المسلحة المصري ومحمد حسنين هيكل

مقابلة صحفية ما بين الفريق أول أحمد إسماعيل وزير الحربية والقائد العام للقوات المسلحة المصري ومحمد حسنين هيكل، منشور من جريدة الأهرام، العدد الصادر في 18 نوفمبر 1973.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

المنشور

بدأ اللقاء مع الفريق أول أحمد إسماعيل وزير الحربية والقائد العام للقوات المسلحة المصرية - لقاءً خاصاً ثم انتهى لقاءً عاماً - أعني أن هذا اللقاء بدأ بيننا زيارة عادية له في مركز القيادة الذي أدار منه عمليات حرب أكتوبر، ثم خطر لي في نهاية لقائنا أن أسأله:

لماذا لا يكون بعض ما دار بيننا اليوم للناس أيضاً؟

وقال القائد العام باستقامة جندي طالت عشرته مع السلاح:

لست أعرف: هل من حق الجنود أن يتكلموا؟ لست واثقاً: هل الوقت مناسب الآن؟

وقلت له:

إن الحرب في العصر الحديث أصبحت جزءاً من الجهد السياسي الشامل للدولة. ولتحقيق مطالب شعبها في سلامه وفي أمنه. والدولة الحديثة لا تستطيع أن تقوم بدورها إلا في دائرة الضوء أمام شعبها وأمام العالم. وذلك لم يعد اختياراً في يد الدولة، وإنما أصبح ضرورة مفروضة عليها في وقت أصبع فيه عطاء الجماهير في الوطن أساساً لأي جهد، كما أن تعاطف العالم الخارجي أصبح ضمانة لأي نجاح.

وأمس فقط كنت أتحدث مع الجنرال أندريه بوفر قائد حملة السويس سنة 1956، ومدير مركز الدراسات الاستراتيجية في فرنسا لسنوات طويلة، وكان مما قاله لي أندريه بوفر "أن الخلاف بينه وبين الأدميرال بارجو القائد العام لقوات الحلفاء في حملة السويس، بدأ أساساً بسبب الصحافة".

كان الأدميرال بارجو يريد الصحافة معه في القيادة العامة، وكان الجنرال بوفر يريد الصحافة معه في قلب العمليات.

وقال لي بوفر "أن واحداً من أهم أسباب ارتباك حملة السويس - إلى جانب أسباب أخرى - يعود إلى أن الصحافة كانت بعيدة عن ميدان القتال، وبالتالي فقد كان هناك تضارب بين ما ينشر من مقر القيادة العام، الذي بقى في مالطة، وبين ما هو جار على أرض العمليات في بورسعيد وأمام شواطئها".

وقال لي بوفر "لم يعد ممكناً لأي قائد في العصر الحديث، إلا أن يعتبر الصحافة سلاحاً أساسياً من أسلحته، كالطيران والمدرعات والبحرية... إلى آخره".

واستطردت:

إن الحرب الحديثة لم يعد ممكناً إدارتها بعيداً عن علم وفهم وتأييد الرأي العام الوطني والدولي. هذا من ناحية حق الجنود في أن يتكلموا.

هناك سؤالك عن الوقت، وهل هو مناسب الآن:

إن الوقت مناسب باستمرار، وفيما يتعلق بنا في مصر، فإني أريد أن ألخص لك رأيي فيما يلي:

1- لقد ثبت أن السلام لا يستطيع أن يعيش إلا في حماية القوة.

2 - إن القوات المسلحة المصرية قامت في حرب أكتوبر بعمل مجيد.

3 - إن أحداً لم يعد من حقه أن يشك أو يشكك في أهمية دور القوات المسلحة في حماية السلام القومي والأمن القومي لهذا الوطن، ثم إن أحد لم يعد من حقه أن يشك أو يشكك في أن القوات المسلحة المصرية أثبتت قدرتها على القيام بهذا الدور.

ولقد رأينا كيف كانت أحوال هذا الوطن في فترة أحس فيها بعجزه عن حماية سلامه وأمنه، وأن أثر ذلك لم يقتصر على المجال السياسي، بل أنه أمتد إلى حياة كل إنسان على هذه الأرض.. أقول أن كرامة الإنسان على هذه الأرض.. كرامته نفسها أصبحت مكشوفة معرضة.. أكاد أصل إلى القول بأننا أحسسنا بنوع من التآكل الأخلاقي، نتيجة إحساسنا بقصور قوتنا عن حماية سلامنا وأمننا، أن كثيرين، كانوا يعايروننا بشارع الهرم، والترخص الذي تفشى فيه بعد سنة 1967، ناسين أن ذلك كان الوجه الآخر للهزيمة.. إذا لم نكن قادرين بالقوة على حماية سلامنا وأمننا - إذن فلماذا بقى لكي نحرص عليه.. كل شيء يصبح بعد ذلك قابلاً للتصدع.. قابلاً للتآكل.. قابلاً للانهيار.

ولولا جهد خرافي في إعادة بناء القوات المسلحة، لكي يستعيد هذا الوطن قدرته على حماية سلامه وأمنه، لسارت الأمة كلها على منطق ما تفشى في شارع الهرم التصدع.. التآكل.. الانهيار.

4 - أن شباب هذا الوطن - وهم جنوده - هم أبطال العصر بغير جدال، لقد مضت أيام البطولة الأسطورية على القمة، ولعلي واحد من الذين - يؤمنون بأن "الأمة التي يظهر فيها البطل الأسطوري فهي أمة في مشكلة وأما الأمة التي تنتظر ظهور البطل الأسطوري فهي أمة في محنة".. العصر إذن هو عصر الرجل العادي .. بطولة الإنسان العادي، وذلك أثبتته لنا حرب أكتوبر، وهذه علامة تحول في حياتنا لابد أن نتمسك بها.

5 - إن الآمال والأعمال والنتائج التي تحققت في حرب أكتوبر، بعد هذا كله لابد أن تكون مفتوحة، متاحة لأوسع الجماهير، لكي تعرف الحقيقة، وليس عيباً أن يقال أننا حققنا إلى هذا المدى .. ولكننا حققنا.. وليس عيباً أن يقال أننا أخطأنا في هذه النقطة.. ولكننا فكرنا وخططنا وقاتلنا ونجحنا بأكثر مما أخطأنا.

6 - ثم لماذا لا ننظر إلى ما يفعله قادة إسرائيل .. ندرسه وليس ضروريا أن نقلده.. إنهم يتكلمون ولم يكفوا حتى الآن عن الكلام ولن يكفوا عنه، لأن كلامهم جزء من حربهم بتأثيره على الناس عندهم وعندنا وفي كل مكان.

قال لي الفريق أول أحمد إسماعيل:

إنني أفهم وجهة نظرك، وربما كنت من أنصار قاعدة "أداء الواجب في صمت".. واستطرد القائد العام:

- لعلك على حق، لعله من الضروري أن يعرف الناس - ومن هنا مباشرة - لمحات من صورة مما حدث.. أن الوقت مبكر لرواية كل التفاصيل.. لمحات مما حدث تكفي الآن.. ولقد كنت أتكلم معك وفكرة النشر بعيدة عن خواطري.. ومن هنا فأنك تستطيع أن تختار.

وقلت:

- إنك في كل ما تحدثت به إليّ كنت حريصاً، وهذه طبيعة فيك، وحتى ما رويته لي من سر، لم يعد هناك خطر من إذاعته، ولذلك فلقد تأذن لي أن أعيد ترتيب الحوار كما دار بيننا وبأكمله تقريباً.

أريد أن أجعل منه شبه محضر دقيق - قدر الإمكان - لما دار بيننا من حديث.. إنك كنت تتكلم بدون حساب أو تحسب لاحتمال النشر على الناس.. وذلك جعل الحديث أليفاً ومفتوحاً وصريحاً، وهذه قيمته التي أحرص على الاحتفاظ بها له.. وإذا وافقت فإنني أحاول.

سيارة جيب عسكرية تصعد وتهبط على أرض وعرة، وأقول لضابط شاب صحبني فيها إلى مركز، قيادة العمليات:

- وكأنني عدت إلى أيام شبابي، عندما كانت ميادين القتال البعيدة في العالم عملي.

ثم وقفه أمام تل من الرمال، وفتحة في تل الرمال يظهر داخلها باب حديدي كأنه باب خزانة ضخمة، ثم ممر طويل، ثم سلالم تنزل في الأرض وتنزل، ثم باب حديدي آخر وممر طويل في نهايته باب حديدي ثالث، ثم ينفسح المكان فجأة: قاعات اجتماعات، غرف عمليات، مراكز اتصالات، صالات خرائط، مكاتب.

وأدخل إلى مكتب صغير منها عليه لافته تقول: "وزير الحربية والقائد العام" ويلقاني الفريق أول أحمد إسماعيل ويقول لي ضاحكا:

- كنت تتحدث كثيراً عن التكنولوجيا والحرب.. تعال لترى غرفة العمليات.. وقل لي رأيك بعدها.

وذهبنا عبر ممر أمام مكتبه إلى باب يفتح مباشرة على غرفة العمليات الرئيسية للقوات المسلحة المصرية.

قاعة كبيرة.. أضواؤها باهرة.. ألوانها بالخرائط حية، والخرائط ليست ألواناً فقط، ولكنها حركة متدفقة.. حول القاعة مجموعات تمثل قيادات أفرع القوات المسلحة كلها، كل مجموعة وراءها خرائطها وأمامها أدوات اتصالها بكل الجبهات.

صدر القاعة يعلو بمنصة لهيئة القيادة العامة: وزير الحربية والقائد العام، رئيس أركان الحرب، مدير العمليات.

في مواجهة المنصة مجموعة الخرائط الرئيسية التي تمثل الموقف العام، مرسومة على مسطحات من الزجاج بعرض القاعة كلها: الموقف في البر - الموقف في الجو - الموقف في البحر - الوضع على الجبهة السورية.

أجهزة الاتصال تدق، المشاورات تجري بسرعة، الأوامر تصدر مشحونة، لمسات ملونة تضاف على الخرائط المرسومة فوق مسطحات الزجاج، وفقا لبيانات.. الدقيقة.. الثانية.

أشعر أن البقاء طويلاً في هذه القاعة فضول لا مبرر له، ثم هو مضيعة لوقت آخرين له نفس قيمة الدم.

وأخرج من القاعة مع وزير الحربية والقائد العام، راجعين إلى مكتبه.

دار الحديث في مكتبه على النحو التالي:

هيكل - كان مشهد قاعة العمليات مهيباً.. الجو هناك فيه رائحة العصر، وفيه عطره وهذا مطمئن

الفريق أول أحمد إسماعيل: كان يجب أن ترى هذه القاعة في يوم "ي" - يوم 6 أكتوبر - وكان يجب أن تراها في ساعة "س" - ساعة الصفر - أي الساعة الثانية بعد ظهر ذلك اليوم.

وقتها كنت تشعر حقيقة أن هذه القاعة لم تكن العصر وحده، وإنما كانت تاريخ مصر كله.. سوف يبقى ذلك اليوم مشهوداً لمصر وجيشها مهما كان أو يكن.

كنا جميعاً في مقاعدنا.

وكانت الخطط أمامنا، والعمليات تجري أمام عيوننا، تحملها إلينا البلاغات من الجبهة.

المهمة "كذا" بدأ تنفيذها.. المهمة "كذا" تم تنفيذها.

من الساعة الثانية بعد ظهر يوم 6 أكتوبر، كان المشهد في هذه القاعة مثيراً إلى أبعد حد.

كان العمل دقيقاً بأكثر مما يتصور أحد.

أنا نفسي كنت مأخوذاً بما يجري.. أثبتت الخطة كفاءتها.. كانت المهام تنفذ بجسارة واقتدار.

كانت هناك لحظات تهز المشاعر إلى الأعماق، ولكننا لم نسمح لأنفسنا بأي انفعال.

ضربة الطيران الرئيسية الأولى - تمهيد المدفعية ونيرانها الكثيفة - موجات العبور الأولى - عمليات الاقتحام المبكرة لخط بارليف - بداية إقامة الجسور - الجيش الثاني يفرغ من إقامة جسوره في الموعد المحدد - الجيش الثالث يتأخر بعض الشيء بسبب طبيعة الأرض في إتمام إقامة جسوره - الهجمات المضادة للعدو بالدبابات تجئ في الموعد الذي توقعناه في الخطة - جسور الجيش الثالث لابد من تركيبها بسرعة لكي تعبر الدبابات قبل أن تبدأ الهجمات المضادة للعدو أمام الموجات الأولى التي عبرت بالأسلحة المضادة للدبابات.. لابد أن تكون دباباتها وراءها بسرعة - أعصابنا يجب أن تظل قوية، لأن أي ارتباك في مركز القيادة يحدث خللاً في توازن العمليات كلها - العدو يقاوم على الجسور وفي الحصون - قواتنا تواصل تنفيذ مهامها - أبطال من رجالنا يستشهدون على الجسور وأمام الحصون، ولكنهم يعبرون ويقتحمون - خسائرنا أقل مما توقعنا - خسائر العدو أكبر مما توقع.

ليس لدي شك في أننا حققنا انتصاراً كبيراً.

قد أقول لك أنني اعتبر انتصارنا مضاعفاً، لأنني تمكنت بالخروج بقواتي سليمة بعد التدخل الأمريكي السافر في المعركة.

قواتي ليست سليمة فقط وقادرة على الحرب، ولكنها ثابتة في مواقعها في الشرق.

كانت سلامة قواتي شاغلي طوال الحرب، كانت ذاكرتي ما تزال تحمل صورة الموقف الذي دخلت إليه في أول يوليه سنة 1967، عندما عينت قائداً لقوات الجبهة.

لم تكن هناك جبهة.. ولم يكن هناك جيش.

كان كل شيء محطماً ومهلهلاً.

وكان علينا أن نستعد لمرحلة الصمود كما سماها جمال عبد الناصر.

كان علينا أيضاً أن نستعد لحرب الاستنزاف كما سماها جمال عبد الناصر.

ولم يكن العدو يريد أن يعطينا الفرصة لالتقاط أنفاسنا.. دخلنا معه بعد أيام قليلة، كما قد تتذكر في معارك رأس العش. ذلك كله في ذاكرتي.

ربما كان هناك من رأوا أنه كان علينا أن نقبل مخاطر أكبر.. كنت على استعداد لأي مخاطر، ولأية تضحيات، ولكني صممت باستمرار على هدف رأيته أمام عيني وأحسسته في ضميري: المحافظة على سلامة قواتي.

لقد كنت أعرف الجهد الذي أعطته مصر لإعادة بناء الجيش، وكان عليّ أن أوفق بين معرفتي بحجم هذا الجهد - الذي لا يمكن أن يتكرر بسهولة - وبين تحقيق هدفي الحربي. كنت أعرف معنى أن نفقد جيشنا.. معناه أن تستسلم مصر وإذا استسلمت مصر فقد ضاعت في هذا الجيل ولأجيال لاحقة.

هيكل: لقد قفزنا من البداية إلى النهاية بسرعة خاطفة.. دعنا نعود إلى البداية مرة أخرى.. أريد أن أسمع القصة كاملة بقدر ما يمكن؟

الفريق أول أحمد إسماعيل:

عندما تسلمت القيادة العامة للقوات المسلحة المصرية في شهر أكتوبر 1972، كانت حالة اللاسلم واللاحرب هي الجمود الذي تحجرت به أزمة الشرق الأوسط وعن اقتناع، فقد كنت واثقا أننا لن نخرج

من هذه الحالة إلا بالقوة المسلحة.. لن تقتنع إسرائيل بغير القوة المسلحة حتى تنسحب من أراضينا العربية المحتلة.

في ذلك الوقت بدأت أفكر.. كان شاغلي سؤالاً واحداً؟

- ما الذي نستطيع عمله..؟

كانت أوجه الاختيار المطروحة أمامي - وقد بحثتها وقلبتها على كل جانب - كما يلي:

- هل نعود إلى حرب الاستنزاف؟

- أم هل نقوم بجهد أكبر من حرب الاستنزاف؟

كان رأيي أن حرب الاستنزاف قد استنفدت أغراضها في الفترة التي جربناها فيها، ثم أن إسرائيل لن تقبل بالعودة إليها، وأي محاولة من جانبنا لذلك سوف تواجه من إسرائيل برد فعل قوي.

ومعنى ذلك أنني كنت أمام احتمال أن أقوم بعمليات صغيرة وأتلقى فيها من العدو رد فعل كبير.. أكبر بكثير من قيمتها السياسية والعسكرية.

وهكذا استبعدت حرب الاستنزاف.

بقى أمامي أن أفكر في جهد أكبر.. عمل أوسع وأشمل.. يساوي على الأقل أن نقبل إزاءه رد فعل كبير من العدو.

أي: لتكن ضربتنا ضد العدو كبيرة، ولنكن مستعدين لضربة من العدو كبيرة وهذه الضربة من العدو سوف تكون كبيرة على أي حال مهما كانت ضربتنا له محدودة.

وإذن فلتكن ضربتنا ضده أقوى ما نستطيع توجيهه.

كذلك كانت تصوراتي الأولى وفي وقت لاحق لتولي القيادة العامة للقوات المسلحة المصرية تم الاتفاق على مستوى دولة الاتحاد، أن أتولى قيادة القوات المسلحة لدولة الاتحاد.

وأضاف ذلك الوضع الجديد إلى تفكيري اعتباراً ثانياً:

كان الاعتبار الأول: أن تكون ضربتنا كبيرة.

وجاء الاعتبار الثاني: وهو أن تكون ضربتنا مشتركة من جبهتين.

وتكونت في ذلك الوقت جماعة تخطيط، وضعت أمامها تصوراتي عن العدو وعنا.

كان تقديري بالنسبة للعدو أنه يملك أربع ميزات أساسية:

  • تفوقه الجوي.
  • مقدرته التكنولوجية.
  • تدريبه الدقيق.
  • اعتماده على معاونة سريعة من الولايات المتحدة الأمريكية، تكفل له إمداداً مستمراً.

ولكن هذا العدو كانت له عيوبه الأساسية إلى جانب ميزاته الأساسية:

خطوط مواصلاته طويلة كما أن هذه الخطوط على الجبهات المتعددة ممتدة يصعب الدفاع عنها.

أوضاعه البشرية لا تسمح له بتحمل خسائر كبيرة.

ظروفه الاقتصادية تمنعه من قبول حرب طويلة.

ثم هو عدو أصابه الغرور.

كان ذلك بشكل عام تقديري للعدو، وكان علينا أن نحاول قدر ما نستطيع تلافي نقط امتيازه واستغلال نقط ضعفه.

ولست أريد أن أدخل في تفصيل كل ما فعلناه لتحقيق هذا المنطق.

سوف أركز على نقطة واحدة ولعلها تشرح هذا المنطق، ثم لعلها تدل عليه.

لقد اخترت مثلا أن يكون هجومنا على كل المواجهة.. على خط يمتد 180 كيلومترا، هي طول القناة من بورسعيد في الشمال إلى السويس في الجنوب.

وكان ذلك في إطار منطق تلافي نقط امتيازه، لأن الهجوم على طول المواجهة بهذا الشكل سوف يفرض على العدو ما يلي:

1 - سوف يكون مرغماً على توزيع ضرباته الجوية المضادة على قواتنا.

2 - بسبب هذا التوزيع فإن هذه الهجمات المضادة في كل مكان، سوف تكون ضعيفة في كل مكان لأن المواجهة متسعة.

3 - بسبب هذا الاتساع فإن العدو لن يستطيع اكتشاف اتجاه المجهود الرئيسي لقواتنا المهاجمة، وبالتالي فإنه لن يستطيع التركيز عليه.

وعلى سبيل المثال فلقد تصورنا وخططنا ونفذنا بالفعل، عندما بدأت العمليات، مجموعة كبيرة من الكباري ورؤوس الكباري، وكان ما نفذنا أقل مما كنت أحتاجه فعلاً، وكنت مستعداً لاحتمال تدمير بعضها، ولكنها جميعاً نجحت وفشل العدو في تدمير أي منها.

4 - بسبب هذا الاتساع مرة أخرى، فإن العدو سوف يتأخر في رد فعله بالهجمات المضادة على الأرض، لأنه سوف ينتظر لكي يكتشف اتجاه المجهود الرئيسي لقواتنا وبعده يتحرك.

هكذا بدأ تفكيرنا، وثبت عند بدء العمليات أنه كان سليماً.

هيكل: سوف أعترضك هنا بسؤال: هل تعتقد أن العدو اكتشف نوايا الهجوم قبل أن يبدأ بساعات، أنني سمعت أن ذلك حدث فعلاً، حدث فعلاً في الصباح الباكر من يوم 6 أكتوبر أن المخابرات الإسرائيلية تأكدت من نية الهجوم لدينا، واتصلت الحكومة الإسرائيلية بالحكومة الأمريكية تبلغها بذلك، فهمت أن السفارة الإسرائيلية في واشنطن أيقظت الدكتور هنري كيسنجر وزير الخارجية الأمريكية في الساعة السادسة صباحاً بتوقيت واشنطن، أي الواحدة بعد الظهر بتوقيت القاهرة - قبل ساعة الصفر بساعة كاملة - وأبلغته بمعلومات لدى الحكومة الإسرائيلية بهجوم مصري وشيك. في الساعة السادسة وثلاث دقائق اتصل الدكتور كيسنجر بإدارة المخابرات المركزية الأمريكية وسأل عن تأكيد لهذه المعلومات، ويبدو أنهم أكدوها له من مصادر أخرى نقلتها إليهم قبل دقائق.

وفي الساعة السادسة وسبع دقائق اتصل الدكتور هنري كيسنجر بالرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون، أيقظه من النوم وأبلغه، ويبدو أن التقديرات الأولى كانت تشير إلى أن الحشود واحتمالات الهجوم هي من آثار التوتر السائد في المنطقة، ومن إحساس كل طرف من الطرفين بأن الآخر يستعد للتحرش به، وهكذا اتصل الدكتور هنري كيسنجر في الساعة السادسة وعشر دقائق بوزير الخارجية المصرية، وكان في نيويورك وقتها، وأبلغه على التليفون بما وصلهم من معلومات - وأكد له - إذا كانت الحشود المصرية تحسباً لهجوم إسرائيلي محتمل - فإن إسرائيل لا تنوي أن تهاجم، وأنه لمصلحة الجميع أن يضبطوا أعصابهم. كل ذلك كان قبل ساعة.. أو ساعة تقريباً من ساعة الصفر.

وسؤالي هو: هل أحسست مما كان أمامك في ميدان القتال أن العدو أحس؟

الفريق أول أحمد إسماعيل: أمامنا في ميدان القتال أحسست بأن المفاجأة بالنسبة لهم كانت كاملة. لقد كانت لهجة التبليغات من المواقع الإسرائيلية المتقدمة إلى قياداتها توحي كلها بالمفاجأة الكاملة.

كانت هذه التبليغات تحمل عصبية لا تصنعها غير المفاجأة. وفي الحقيقة فإن المنظر الذي رأوه أمامهم بعد المفاجأة الأولى كان منظراً مخيفاً من وجهة نظرهم، عظيماً من وجهة نظرنا.

وقد بدأوا يضربون ضربات طائشة، ثم بدأت هجماتهم المضادة مرتبكة، ثم أخذوا يتمالكون أعصابهم ويردون. لكن قواتنا كانت تتدفق من الغرب على الشرق. وفي الساعات الأولى من القتال لم تكن الدبابات قد دخلت، وإن كانت قد دخلت عناصر مضادة للدبابات انتظاراً لهجمات العدو المضادة على قواتنا التي لم تكن دروعها قد لحقت بها بعد. لكن كل شيء كان يسير وفق ما قدرناه، وربما أحسن مما قدرنا.

كنا على استعداد لخسائر في العبور كبيرة، لأنه كان علينا أن نقتحم طريقنا مهما كان الثمن، ولقد ضحينا ولكن تضحياتنا كانت أقل مما قدرناه لأن الإنسان المصري كان في هذه الساعات الحاسمة على مستوى إحساسه بتاريخه وعلى مستوى أمله في مستقبله.

هيكل: لقد قاطعتك بهذا السؤال عن المفاجأة، هل نعود إلى السياق الذي كنت تتحدث عنه، لقد تكلمت عن العدو وعن تصوراتك إزاءه، وهذه التصورات أخذت اعتبارها في التخطيط، ماذا عن ناحيتنا نحن، عن قواتنا؟.

الفريق أول أحمد إسماعيل: كانت المشكلة بالنسبة لقواتنا أن الظروف فرضت عليها أن تعيش ست أو سبع سنوات في الدفاع، معظمها في الدفاع الجامد، والقوات على هذا النحو، أي قوات في الدنيا معرضة لما نسميه في العسكرية "بمرض الخنادق".

كان لابد أن نتخلص من تأثير مرض الخنادق وعقده، وركزت في تلك الفترة على مجموعة ضرورات، رأيت أننا بغيرها لن نستطيع عمل شيء، أي شيء.

أولى هذه الضرورات: أن تقتنع القوات بأنه لا مفر من القتال ولا حل بدونه، وقمت بزيارات للقوات المسلحة في مواقعها أشرح الظروف للرجال، وأقول لهم أن الوضع الذي نحن فيه لابد من تغييره، وإذا لم نغيره نحن فإن العدو قد يفرض علينا التغيير، ومعنى ذلك أننا إذا لم نبدأ بالقتال فإن العدو سوف يبدأ هو بالقتال، لأن حالة اللاسلم واللاحرب غير قابلة للاستمرار إلى ما لا نهاية.

وكانت الثانية من الضرورات: أن يأخذ الرجال ثقة في سلاحهم، وكنت أريد تغيير المفهوم القديم، بأن الرجل بالسلاح، والحقيقة أن السلاح بالرجل، إذا لم يكن واثقاً من نفسه فلن يحميه أي سلاح وإذا كان واثقاً، فإن كل سلاح في يده يحميه.

ربما نستطيع أن نفهم ذلك في التطبيق العملي إذا تذكرنا أن طائرة من طراز ميج 17 تمكنت أثناء القتال من إسقاط طائرة فانتوم، وهذا ما أقصده بأن السلاح بالرجل وليس الرجل بالسلاح.

وكانت الثالثة من الضرورات: وهي تتصل بذلك مباشرة: أن يكون التدريب تدريباً كثيفاً. إذا كنت أقول أن السلاح بالرجل، فذلك يعني أول ما يعني قدرة الرجل على استيعاب سلاحه والسيطرة الكاملة عليه.

وكانت الرابعة بين الضرورات: أن أجعل قوات أدركت حتمية القتال، وعرفت قيمة سلاحها، وأحسنت التدريب عليه - ترى رُأى العين ما سوف تواجهه وتكسر الرهبة ما بينها وبينه. وهكذا بدأت أختار للتدريب ميادين قريبة الشبه إلى أقصى حد بظروف وطبيعة المهمة التي سوف تقوم بها القوات، وأُولاها عبور القناة.

اخترنا مناطق للتدريب فيها مجار مائية بعمق القناة تقريباً، وعليها سواتر بارتفاع سواتر القناة، وفيها تيارات بقوة تيارات القناة.

بل إننا في بعض المرات أجرينا تدريباتنا على القناة نفسها في منطقة كانت تمتد في فرعين أحدهما إلى ناحيتنا وكان تحت السيطرة الكاملة لقواتنا.

في ذلك الوقت كانت الخطة العامة تتبلور لما سوف نقوم بها، تختمر "تتبلور" تظهر ملامحها شيئاً فشيئاً بالدراسة المستمرة والتطوير الدؤوب.

هيكل: هناك سؤال سوف يظل مطروحاً لمناقشات طويلة عندنا وعندهم، ناحيتنا وناحية العدو، كنا نقول أننا لا نستطيع ناحيتنا أن نكتم سراً، وكنا نتصور أن العدو من ناحيته يستطيع اختراق أي سر.

كيف فاتهم أن يروا ما كان يحدث؟.

الفريق أول أحمد إسماعيل: في كل حرب هناك خطة للعمليات وهناك خطة للخداع، وأعتقد أننا نجحنا، فلقد وضعنا خطة الخداع على المستوى الاستراتيجي والتعبوي، ووضعت لها توقيتات وجداول سارت جنبا إلى جنب مع خطة العمليات وتوقيتاتها وجداولها.

سوف أتحدث إليك بعد قليل عن العوامل التي دفعتنا إلى اختيار يوم (ي) يوم بدء العمليات، وإلى اختيار ساعة (س) ساعة الصفر أو ساعة بدء العمليات.

لكني الآن أقول لك أننا وصلنا في الكتمان إلى درجة أن يوم (ي) لم يكن معروفاً بعد تحديده مبدئياً إلا من اثنين: الرئيس وأنا.

وحتى عندما بدأ العد التنازلي من يوم (ي) بالناقص، وكان ذلك قبل شهر من بدء العملية، ي ناقص 30، ي ناقص 29، ي ناقص 28 ... وهكذا، فإن السر ظل محصوراً.

وعندما بدأنا الحشد، وأنا أعرف أن العدو يستطلع كل يوم، فلقد كنت أدفع إلى الميدان بلواء مثلاً وأعود في الليل بكتيبة لكي يشعر العدو أن القوات المسلحة كانت في مهمة تدريب أدتها وعادت منها.

ولقد أخرت إرسال معدات العبور إلى أقصى حد ممكن، فقد كان مؤكداً أن خروج هذه المعدات من مخازنها كفيل بتنبيه العدو إلى نوايانا، ولقد صنعنا لبعض هذه المعدات صناديق خاصة لا يشعر أحد أن اللواري الضخمة التي تحملها لواري مهندسين، ثم رتبنا لهذه المعدات حفراً على جانب القناة نزلت إليها فور وصولها في الليل.

كانت الخطة خلال هذا كله بالطبع قد اكتملت إلى آخر التفاصيل، بل إلى تفاصيل التفاصيل، وكان ذلك طوال الوقت بالتنسيق مع سوريا.

وقبل أيام قليلة من يوم (ي) كانت تفاصيل الخطة تنزل من قادة الجيوش إلى قادة الفرق، ثم قادة الألوية، ثم قادة الكتائب، بعض الجنود من طلائع الهجوم عرفوا قبله بثمان وأربعين ساعة وبعضهم عرفوا في الصباح يومها.

ولقد تتذكر أننا تعمدنا تسريب أنباء تصرف النظر تماماً عن نوايانا.

أذعنا مثلاً أن وزير دفاع رومانيا قادم في زيارة لي يوم 8 أكتوبر. وطلبنا منكم في "الأهرام" مثلاً نشر خبر بأنني فتحت الباب لقبول طلبات الضباط والجنود الراغبين في أداء العمرة.

هيكل: لقد كانت هذه مرة من مرات قليلة نادرة نَشر فيها الأهرام، خبراً غير صحيح. لكني رضيت بنشره عارفاً القصد منه، ولقد قبلنا "للأهرام" أن يكذب لأننا تمنينا لعمليتك أن تصح.

الفريق أول أحمد إسماعيل: لقد كنت واثقا أنك سوف تبلعها وتسكت، المهم في كل ما قلته التخطيط لعملية الخداع الاستراتيجي على مستوى رفيع وناجح.

هناك مسألة أخرى لابد أن أشير إليها قبل أن أدخل معك في تحديد يوم (ي) وفي تحديد ساعة (س)، هذه المسألة هي أنني أحسست مع تقدم مراحل التخطيط بأنه يتحتم علينا أن نقوم بعمليتنا من قاعدة وطيدة، وقد أحسست أن دفاعاتنا في القناة ينقصها التحصين الكافي، وهكذا بدأت أبني دفاعاتنا استعداداً للهجوم.

كان علينا أن نبني ونرفع مواقع قادرة على التحكم في الشاطئ الغربي للقناة وفي الشاطئ الشرقي أيضاً. كان خط بارليف أمامنا يكشف مواقعنا، ورحنا كما قلت لك نبني ونرفع ونكشف الضفة الغربية ونتحكم فيها، وكان ذلك عملاً صعباً، غاليا في تكاليفه، ولكنه كان ضرورياً حتى أستطيع مساعدة قواتي وهي تعبر من الغرب إلى الشرق، ثم حتى أستطيع حماية قواتي للحشد وإخفاءها قبل التقديم لمفاجأة العبور.

كل ذلك يعطينا ثباتاً في المواقع، ثم أنه كان يعطينا ميزة فيما لو أحس العدو بنوايانا وحاول القيام بضربة إحباط أو ضربة إجهاض، كان ذلك يمكننا من صده وتدميره.

هيكل: هل ننتقل إلى عوامل تحديد يوم (ي) وتحديد ساعة (س)

الفريق أول أحمد إسماعيل: لقد كان تحديد يوم (ي) عملاً علمياً على مستوى رفيع، وحين نطرح وثائقنا كلها للدراسة التاريخية، فإن هذا العمل سوف يأخذ حقه من التقدير وسوف يدخل التاريخ العلمي للحروب كنموذج من نماذج الدقة المتناهية والبحث الأمين.

كان لابد أن يتحرك الموقف من وجهة نظر التقدير السياسي سنة 1973 بعد وصول التأييد العربي والعالمي لنا في كل المجالات إلى الذروة العالية التي لا مجال بعدها لإضافة إلا إضافة نصنعها نحن بقوة السلاح. هذا من وجهة نظر عامة.

ومن ناحية التحديد، فقد كنا نريد ما يلي:

1 - ليلة مقمرة يتصاعد فيها القمر معنا في الساعات الحاسمة.

2 - ليلة يكون تيار القناة مناسباً للعبور من ناحية السرعة.

3 - ليلة يكون عملنا فيها بعيداً عن توقعات العدو.

4 - ليلة لا يكون فيها العدو نفسه مستعداً للعمل. هذه الميزات حددت لنا يوم 6 أكتوبر من قبلها بشهور.

1 - الحسابات الفلكية تعطينا في تلك الليلة قمراً ينمو في أول الليل ثم يغيب في آخره.

2 - علماؤنا في القوات المسلحة درسوا تقارير هيئة قناة السويس لسنوات طويلة سبقت لكي يحسبوا سرعة التيارات في كل يوم من أيام السنة، وكان يوم 6 أكتوبر أكثرها مناسبة.

3 - العدو لا يتوقع منا العمل في شهر رمضان.

4 - العدو مشغول بمناسبات مختلفة بينها انتخاباته العامة التي تشد اهتمام الجميع.

لقد كان شهر رمضان هو الذي أوحى لنا باختيار الاسم الرمزي لعملية الهجوم، كان الاسم الرمزي هو "بدر" تيمناً بغزوة بدر.

كان الرئيس من وجهة نظره السياسية يسميها عملية "الشرارة"، وأما الاسم الرمزي في كل خططنا العسكرية فقد كان "بدر".

ذلك ما أستطيع قوله الآن عن تحديد يوم (ي).

وأما عن تحديد ساعة (س)، فقد ظل الموعد إلى أيام قبل بدء القتال موضوع مناقشة بيننا وبين إخواننا في سوريا.

كان السوريون لعدة أسباب من بينها اتجاه الشمس معهم وضد العدو يفضلون العمل مع أول ضوء في الفجر. وكنا نحن - لعدة أسباب من بينها إلى جانب اتجاه الشمس وضرورات العبور ونصب الكباري وفتح الطريق لدخول المعدات الثقيلة كالدبابات في ظلام الليل، نفضل العمل في آخر ضوء في المساء.

وكنت بوصفي قائداً عاماً للجبهتين قد بعثت إلى السورين يوم 30 سبتمبر بإشارة التحذير بأن العملية محتملة في أي وقت - رهناً بإشارة تقول: "بدر".

وسافرت بنفسي يوم 2 أكتوبر إلى سورية وتناقشنا حول الساعة وبعد دراسة تفصيلية صدق عليها الرئيس حافظ الأسد تحددت الساعة الثانية بعد الظهر موعداً "لساعة س".

وعدت من سورية فقصدت إلى مركز قيادة العمليات وبقيت هناك لم أخرج لعدة أيام.. كان أول يوم رأيت فيه الشارع بعدها هو اليوم الذي ذهبت فيه مع الرئيس إلى مجلس الشعب يوم 16 أكتوبر.

هيكل: لم نصل بعد إلى 6 أكتوبر هل نعود إلى 5 أكتوبر.. وتأذن لي أن أسألك ماذا كان شعورك؟

الفريق أول أحمد إسماعيل: كان شعوري مزيجا من أحاسيس كثيرة ولكني أستطيع أن أقول أنني كنت متفائلاً.. كنت قد ناقشت الخطة مع القادة.. قمت بتدقيقها - كما يقولون في التعبير العسكري.. مع الذين سوف يقومون بتنفيذ مهامها.. ذهبت بنفسي الجيشين الثاني والثالث المكلفين بالهجوم وأحسست أن القادة على كل المستويات مقتنعون بما كلفوا به من مهام.

كان اقتناعهم بالنسبة لي أهم من مجرد إطاعة الأوامر، كنت أيضاً قد رأيت تجارب تثبت قدرة الإنسان المصري على الابتكار وعلى مواجهة المواقف الصعبة.

كانت هناك معالجات وابتكارات جديدة في صنع كباري العبور.

كانت هناك معالجات وابتكارات جديدة في عملية فتح الساتر الترابي.. كنا في تجاربنا لفتح هذا الساتر الترابي على القناة قد جربنا المدافع بكل العيارات فلم تحقق ما نرجوه، وجربنا المفرقعات بكل الوسائل فلم تحقق ما نرجوه ثم جربنا اندفاع الماء بقوة فتحقق لنا ما نرجوه واستقر رأينا على الماء ولم نأت بالمعدات اللازمة لذلك - تأخذ الماء من القناة وتوجهه بقوة قذف جبارة إلى السواتر الترابية فإذا هي تنهار - إلا في آخر لحظة حتى يظل سرنا في مأمن.

كانت هناك معالجات وابتكارات جديدة في فتح الثغرات واقتحام المواقع الحصينة.

فوق ذلك كانت هناك ثقتي بالضباط والجندي المصري.. لم تكن ثقتي غيبية ولكنها كانت ثقة علمية.. كنت أعرف أن كليهما - الضابط والجندي - إذا كلف بمهمة اقتنع بها وإذا حمل سلاحاً وثق فيه وإذا أحس أنه جزء من جهد كبير يعرف لنفسه هدفاً - فإنه لن يتوقف قبل بلوغ هذا الهدف.

لو أنك رأيت اندفاعهم.

لو أنك رأيتهم بالأعلام في أيديهم يعبرون الجسور وسط النار.

لو أنك رأيتهم يقتحمون المواقع الحصينة بأجسادهم قبل سلاحهم.

لو أنك رأيت هذا كله لأدهشك.. أعود معك إلى يوم 5 أكتوبر.. كانت مشاعري كما قلت مزيجاً من أحاسيس كثيرة وأتذكر أن الرئيس جاءنا يومها في مركز القيادة وأتذكر أننا سويا هو وأنا وجميع القادة من أعضاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة تعاهدنا أمام الله بأن كلا منا سوف يبذل قصارى جهده.

كانت هناك عمليات تجري في ذلك اليوم ولكنها كانت تجري في صمت.

كانت هناك دوريات تسللت في هدوء لنظرة استكشاف أخيرة على النقط الحصينة وما وراءها من خط بارليف.

كانت هناك جماعات دفعت لقص الخراطيم التي كان مفروضاً طبقا لخطة العدو أن تحمل كميات هائلة من السولار وتلقيها في القناة لكي تشتعل بالنار عند الإحساس بأول هجوم ولتكن من هذه النار أول عقبة ضد العبور خصوصاً بقوارب المطاط.

لقد قصوا الخراطيم ولم يتنبه العدو إلى أن ذلك جزء من مخطط أكبر.

اكتشفوا قص الخراطيم في أحد المواقع وجاءوا بمهندس لإصلاحه وكان هذا المهندس مازال يقوم بعمله عندها وجد قواتنا فوق رأسه وكان واحدا من أول الأسرى في أيدينا.

وجاءت ساعة "س" ساعة الصفر.

وبدأ كل شيء يتحرك وفقا للخطة.

ضربة الطيران الرئيسية. مائتا طائرة تقوم بالضربة الأولى على مواقع العدو الحساسة في الجبهة المصرية، ومائة طائرة تقوم بالضربة الأولى على الجبهة السورية.

تمهيد هائل بالمدفعية: ألفا مدفع تهدر في نفس الوقت على أربع قصفات متلاحقة.. موجات الهجوم الأول: فجأة وجد العدو أمامه ثمانية آلاف رجل ينزلون إلى قوارب المطاط وغيرها من الوسائل ويبدأون العبور تحت النار.

العدو يقاوم من النقط الحصينة لخط بارليف على طول القناة، والدبابات الرابضة في مكامنها بجانب النقط الحصينة وأوكار المدفعية التي تعززها تشارك في صد موجات الهجوم الأولى.

جنودنا يصلون إلى النقط الحصينة برغم كل مقاومة.. بعض النقط الحصينة عنيدة في دفاعها ولكن جنودنا يقتحمون والمعارك بالمدافع الرشاشة والقنابل اليدوية داخل الحصون.

كانت أصعب اللحظات بالنسبة لي هي الساعات التي سبقت دخول الدبابات خصوصاً في قطاع الجيش الثالث.

إن الجيش الثاني نصب جسوره وأخذ دباباته وراءه في الوقت المحدد.

أما في قطاع الجيش الثالث فقد اكتشفنا أن الساتر الترابي أعمق مما قدرنا.. كان في بعض المواقع بعرض مائتي متر ولم تكن الأرض صالحة لنصب كباري العبور لكن المهندسين كانوا في أعظم لحظات حياتهم ولقد بعثت مدير سلاح المهندسين بنفسه إلى مواقع جسور الجيش الثالث وطلبت منه إتمام المهمة بأي ثمن وأتمها واستشهد نائب مدير سلاح المهندسين على أحد جسور العبور.

قواتنا البحرية تتحرك لضرب أهداف حيوية للعدو على شاطئ البحر الأبيض وعلى شاطئ البحر الأحمر.

قواتنا الخاصة تنزل وراء خطوط العدو في عمق سيناء لتضرب خطوط إمداده ولتعطل هجماته المضادة وتعرقلها.

التدفق من الغرب إلى الشرق مستمر في نفس الوقت لا يتوقف ولا ينقطع. في أربع وعشرين ساعة كانت لدينا في الشرق خمس فرق كاملة.

ذلك شيء لم يحدث مثله من قبل في تاريخ الحروب.

وبدأت قواتنا في توسيع وتعميق وضم رؤوس الكباري ليصبح لنا ثلاثة رؤوس أساسية فقط، وفي نفس الوقت فلقد كانت أول مهمة باشرناها - وهذه من مفارقات المعركة - أن نبدأ بعملية نسف مواقع خط بارليف وأن نزيلها من مكانها وإلى الأبد محتفظين بواحدة منها للعبرة والذكرى.. في أول يوم دمرنا 14 موقعاً وفي اليوم التالي تسعة وهكذا حتى تحولت النقط الحصينة، حلم إسرائيل في الأمن المطلق، إلى أنقاض وركام.

هيكل: أريد أن أسألك، وقد تأذن لي أن أكون صريحاً، عن السبب الذي من أجله لم يجر تطوير هجومنا الشامل بالسرعة الواجبة في رأي بعض الخبراء.. أن هذا البعض من الخبراء يرون أن النجاح الهائل لعملية العبور لم يجر استغلاله بسرعة؟ وهناك تساؤلات كثيرة في هذا الصدد:

هل كان تخطيطنا المسبق لافتتاحية العبور العظيمة وحدها؟

هل لم نستطع أن نرى الفرصة المتاحة لنا؟

هل كنا أكثر بطئاً مما يجب أو ماذا حدث بالضبط؟

الفريق أول أحمد إسماعيل: أن هذه الأسئلة كلها يجب أن تطرح وليس هناك ضرر في رأيي من طرحها، وإن كانت الإجابة الكاملة عليها لابد أن تنتظر إلى وقت نكون فيه أكثر إحساسا بالأمان حتى نفتح أوراقنا ونطرح صورة الوقائع كلها لبحث مستفيض، أثق أننا لابد أن نأخذ منه دروساً مستفادة.

لكني أريد أن أجيب بسرعة على بعض التساؤلات.

وسوف آخذا النقط التي أثرتها في سؤالك واحدة بعد واحدة:

هل خططنا للعبور وحده؟ بالطبع لا..

لقد كانت لدينا خطة أوسع بكثير، وكان لابد أن تكون لدينا خطة أوسع بكثير، لأن الحرب حوار بين تخطيط وتخطيط.. قوة نيران وقوة نيران.. مقدرة حركة ومقدرة حركة.

وليس معقولاً أن تكون لدينا خطوة واحدة نتعطل بعدها فلا نعرف كيف نواصل الحوار بالتخطيط وبالنيران وبالحركة.

بالطبع فإن عملية العبور أخذت جزءاً كبيراً من اهتمامنا، لأنها كانت المدخل، ولأنها كانت خطوة درسنا كل تفاصيلها، لأننا عرفنا أننا سنبدأ بها، هذه ميزة الأخذ بزمام المبادأة.

ما يجئ بعد ذلك؟.. احتمالات متعددة مدروسة.

وقد حسبناها إلى أقصى حد، ولكن الأمر في النهاية كان يتوقف على ما سوف يقوم به العدو، وبالتالي فإن خطة العبور كانت خطة كاملة إلى النهاية، وكان ما بعدها قد شمله التخطيط، ولكن اختيار الاحتمالات كان متوقفاً على رد فعل العدو.

هل لم نستطع رؤية الفرصة؟

أن الموضوع بالنسبة لي لم يكن مسألة فرصة، وإنما كان مسألة حسابات، ومهما وجدت من فرص تبدو متاحة أمامنا، فقد كان عليّ أن لا أغامر..

أننا بدأنا العملية في حماية شبكة الصواريخ الشهيرة.

وإذا كان عليّ أن أتقدم بعدها، فقد كان لابد - سواء كانت هناك فرص يراها غيري أو حتى أراها بنفسي - أن أنتظر حتى أتأكد أن قواتي وراءها الحماية الكافية.. كان لابد أن أعطي الفرصة لمدرعاتي بالدخول وكان لابد أن أعطي الفرصة لصواريخي المتحركة المضادة للطائرات بالدخول.

إن قواتنا الجوية قامت بعمل بطولي.

ولكن لو أني دفعت بقواتي وراء الفرصة المتاحة التي يتحدثون عنها، ولم تكن دفاعاتي ضد تفوق العدو الجوي جاهزة، لكان معنى ذلك أنني ألقي العبء كله على الطيران، وأحمله بما لا يطيق، في وقت أعرف فيه أن الساعات الصعبة مازالت أمامنا.

هل كنا أبطأ مما يجب؟

لا أعرف.. ما أعرفه هو أنني التزمت بالتخطيط.. كان التخطيط.. الخطة الأصلية أقصد، يقتضي وقفة تعبوية بعد إتمام العبور، وبعد تأمين رؤوس الجسور... وقفة أعيد فيها تقدير الموقف على ضوء رد فعل العدو، وأتأهب للخطوة التالية، واتخذ لها احتياطاتها الكافية وأتقدم.

أن الوقفة التعبوية لم تكن فترة سكون، ولكنها كانت فترة تقبل لهجمات مضادة من العدو وتدميرها، وربما لا ننسى أننا في فترة تقبل الهجمات المضادة للعدو وصدها دمرنا له خمسمائة دبابة، وليس ذلك بالشيء القليل.

ومع ذلك، ولست أظنني بذلك أذيع سراً لا يعرفه العدو، فإننا اضطررنا إلى القيام بهجوم واسع بأسرع من الوقت المناسب وكان هدفنا من ذلك تخيف الضغط على سورية، ولقد حدثت معارك ضخمة بالمدرعات وكانت هذه المعارك خارج نطاق الصواريخ، وحينما أحسست أننا اضطرننا العدو إلى سحب جانب من قواته العاملة على الجبهة السورية إلى جانب تحويله لمجهود طيرانه من هناك إلى جانب إسراعه بالاحتياطي إلى ناحيتنا - فأنني فضلت العودة إلى رؤوس الجسور، نواصل تدعيمها، ونجعل منها صخرة تتحطم عليها الهجمات المضادة للعدو.

هيكل: سوف أسأل مرة أخرى، ولعلك تقبل مني إلحاحي.. هل كنا تقليديين أكثر مما يجب؟

الفريق أول أحمد إسماعيل: أريد أن أسألك هل كان تخطيط وتنفيذ عملية العبور التي رأيت وسمعت بنفسك تقدير خبراء العالم لها.. هل كان ذلك عملا تقليديا.. إن الذين سمعوني أتحدث إلى القوات عرفوا أن أكثر ما كنت أحذر منه هو أن نكون تقليديين.

لم أكن أريد أن نكون تقليديين.. وفي نفس الوقت فلم أكن أريد أن نكون مغامرين.

الحرب قضية أكبر بكثير من المغامرة..

هيكل: سوف أسألك إذن عن الثغرة.. كيف حدثت؟.. ولماذا سمحنا بحدوثها؟.. لماذا تضاربت البيانات الرسمية حولها؟. لماذا هونا من أمرها على النحو الذي هونا به، فقلنا في البداية أنها سبع دبابات تسللت بالليل، ثم قلنا أننا حرقنا معظمها، ثم قلنا أننا أنذرنا الباقي بالاستسلام أو الدمار.. ثم فجأة بدأت بيانات تتحدث عن القتال على ضفتي قناة السويس؟ هنا مسألة عسكرية. هنا أيضاً مسألة نفسية.. وإعلامية.

إن العملية من الناحية العسكرية بدت صدمة لانتصارنا ثم أنها من الناحية النفسية بدت صدمة لثقتنا فيما يقال لنا؟

الفريق أول أحمد إسماعيل: سوف أبدأ بالنقطة الثانية، وأسلم معك على طول الخط بأن علاجنا لهذه الثغرة من ناحية البيانات لم يكن على النحو الذي تمنيته والتزمت به من أول لحظة في الحرب، وهو أن لا نقول غير الحقيقة.

وأريدك أن تعرف على الفور أنني لم أقصد في أي لحظة أن أقول فيما يتعلق بهذه الثغرة - أو أسمح لغيري أن يقول - شيئا غير الحقيقة.

ومعنى ذلك أن ما قلناه عكس في معظم الأحيان صورة ما كنا نراه..

وأعترف أن رؤيتنا للصورة كانت مهتزة لأسباب عديدة؟ ولكننا حاولنا أن نعبر عما نراه.

لقد كنت أعرف من البداية أن جزءاً كبيراً من نجاح الحرب يرتهن بثقة الناس في صدق ما نقوله عن حقيقة ما نفعله، ولهذا فإني طلبت التزاماً دقيقاً في صياغة البيانات.

وكانت هناك شكاوى عديدة تصل إلي من قلة البيانات الرسمية، ومن قلة المعلومات التي تذاع عن المعارك؟ ولكني وضعت قاعدتين:

الأولى: أن نقول ما نستطيع قوله مما لا يكشف خططنا وأوضاعنا للعدو - وربما كنا متزمتين في ذلك بعض الشيء، ولكن التزمت كان في رأيي أفضل من التسيب، خصوصاً إذا كان الأمر متعلقاً بالحرب.

الثانية: هي أن ما نقوله يجب أن يكون صادقاً.. ولكي أكون صريحاً معك، يجب أن يكون قريبا من الصدق.

هذا عن الناحية النفسية في علاج الثغرة.

أعود إلى الناحية العسكرية؟ وأقول بصراحة أيضاً أن صورة ما جرى فعلاً كانت مهتزة أمامنا لعدة اعتبارات.

كانت المعلومات الأولى التي تلقيتها عن العملية، وقد وجدتها في انتظاري بعد أن عدت من جلسة مجلس الشعب يوم 16 أكتوبر، تشير إلى أعداد صغيرة متسللة من الدبابات البرمائية، وكان تقدير قيادتنا المحلية في موقع التسلل أن القضاء عليها بسرعة أمر ممكن، وبالفعل فإن القائد المحلي حرك كتيبة صاعقة لمواجهتها.

كان هذا سبباً.

سبب آخر هو أن المعلومات تقطعت نتيجة اعتبار يتصل بتبادل في المسؤوليات أجريناه لظروف طارئة في بعض القيادات.

سبب ثالث أن العدو استطاع أن يخفي دباباته المتسللة في منطقة الثغرة، وهي منطقة حدائق فاكهة، ساعدت على التخفي في المراحل الحرجة من بداية عمليته.

سبب رابع هو أن العدو استمات في فتح هذه الثغرة، ذلك أنه ألقى بثقله كله فيها، وكان على استعداد لتحمل أية خسائر لتحقيق هدفه، وربما كان يريد إرغامنا على أن نسحب من قواتنا في الشرق ما نواجه به عمليته في الغرب، وذلك ما لم أكن أريده. وربما قلت أن لدي من الشواهد ما يؤكد لي أن العدو فشل في محاولة أولى لفتح الثغرة وكاد يعدل عنها، وكان ذلك عندما أذعنا أننا دمرنا قواته المتسللة ولكنه عاد بعد ذلك في مجهود أخير أدرك أنه لو نجح فيه فإنه سوف يحدث بنجاحه أثراً نفسيا عليه وعلينا وعلى العالم يفوق القيمة العسكرية لهذا العمل.

هناك سبب خامس، وقد أكدته ملابسات الوقائع فيما بعد وهو أن العدو كان يعرف أن قرار وقف إطلاق النار سوف يصدر، وبالتالي فإن هذا القرار وسريانه سوف يكون عنصر تأمين له في مغامرة محفوفة بالمخاطر قام بها ولم يكن في استطاعته بسبب انتشار قواته في الغرب وبسبب تبعثرها المقصود لأثره النفسي كحرب عصابات بالدبابات أن يحتفظ بها لوقت طويل.

ويتصل بالسبب الخامس أن العدو لم يأخذ قرار وقف إطلاق النار المنتظر كعنصر تأمين لعمليته فقط، ولكنه كما رأينا استغله بعد حدوثه لكي يجعل موقفه في الثغرة قابلا للاستمرار ولم يكن هذا الموقف قابلا للاستمرار إلا بتضحيات رهيبة يدفعها لو أن القتال استمر.

ولقد كان قبولنا لقرار وقف إطلاق النار عملية تتصل بأسباب أوسع وموازين أكبر من عملية الثغرة.

ولقد استغل العدو قرار وقف إطلاق النار، ولم نكن نحن غافلين، ولقد نذكر أنني حذرت من غدر العدو على أساس تجارب 1948 و 1956 و 1967 - لكن علينا لكي نكون بشراً - أن نعرف أن كلمة وقف إطلاق النار لها تأثير على القوات المتحاربة.

ومع ذلك فإن القوات تنبهت واستطعنا حصر منطقة الثغرة، وحاولنا ضغطها بكل الوسائل.

دعني أقول باختصار في موضوع الثغرة، وبالصدق كله، ما يلي:

لم أقصد، ولم أحاول أن أضع أمام الناس صورة تختلف عن صورة الحقيقة كما كنا نراها.

أنني أسلم بأن هذه الثغرة كانت فترة غير طبيعية بالنسبة للقوات المحلية لأسباب متعددة سوف نتقصاها جميعاً لكي نتعرف أسبابها.

ومع ذلك هل يمكن لهذه الثغرة أن تؤثر في قيمة ما حققناه.

هيكل: كيف تقدر خسائر العدو؟

الفريق أول أحمد إسماعيل: التقديرات الأمريكية تكفيني.. هذه التقديرات تعد خسائر إسرائيل بما يلي:


3000 قتيل ورأيي - بما شاهدته بعيني - أن هذا الرقم يقل عن نصف الرقم الحقيقي.

20000 جريح - وهذا رقم قريب من الحقيقة.

970 دبابة - وهو أكثر من نصف القوة المدرعة التي بدأت إسرائيل بها الحرب.

150 طائرة - وشواهدنا ووثائقنا تقول أن خسائر العدو في الطائرات أكبر من هذا بكثير، وربما كانت المصادر الأمريكية تحسب الخسارة في الطائرات الأمريكية وحدها.

هيكل: ما هو تقديرك لخسائرنا؟

الفريق أول أحمد إسماعيل: خسائرنا أعرفها يقيناً وليس تقديراً ولا أريد أن أتحدث فيها الآن.

أكتفي بالقول بأن خسائرنا لا تتناسب مع حجم ما حققناه.

كانت التقديرات العالمية كلها لخسائرنا المحتملة في عملية العبور وحدها تتراوح ما بين 25 ألفا إلى 30 ألفا شهيد. ذلك لم يحدث والحمد لله.

أستطيع أن أقول بصفة إجمالية أن خسائرنا كلها مع كل ما حققناه بالحرب كانت أقل من خسائرنا في سنة 1967، ولم نحقق بها شيئا مع الأسف.

ولعلي أضيف هنا شيئا عن الأسرى.. لقد كان أسرانا لدى العدو إلى يوم 16 أكتوبر وبكل ما حققناه في حربنا ضده لا يزيدون عن ستين إلى سبعين أسيراً وكان معظمهم من قوات الصاعقة التي أسقطت وراء خطوط العدو، وكان هؤلاء من أشرس المقاتلين وقد ظلوا يطلقون النار حتى نفذت ذخيرتهم وقاوموا حتى أحيط بهم إحاطة كاملة. من أين إذن جاء باقي العدد الكبير من أسرانا لدى العدو طبقاً لأرقامه؟ لقد جاء هذا العدد ببساطة بعد الثغرة ومن الإحاطة ببعض مناطق الشؤون الإدارية ومن مطاردة جموع من سكان المنطقة من الفلاحين والقبض عليهم رهائن وليس أسرى!

هيكل: أريد أن أسألك عن نتائج حرب 6 أكتوبر، النتائج الإيجابية التي تراها أمامك وقد تحققت.. من وجهة نظرك؟

الفريق أول أحمد إسماعيل: هناك نتائج محققة، وهذه النتائج يمكن تقسيمها إلى مجموعات مختلفة.

هناك مجموعة من النتائج العسكرية أعدها كما يلي:

1 - لقد زالت خرافة الجندي الإسرائيلي بعد أن كادت تثبت في بعض الأذهان بطريقة خطيرة. لقد وجدناه جنديا عاديا.. دُرب تدريباً حسناً عزز من قدرته القتالية، وهذا هو كل شيء.. أي أنه في مقدور جندي آخر غيره درب تدريباً حسناً يعزز قدرته القتالية أن يتصدى له وأن يهزمه.

2 - لقد ثبت أمامي أن الجندي المصري من أشجع الجنود وأصلبهم في العالم، ويكفيه صبره وجسارته.. ولقد مرت علينا أيام كان لنا فيها جنود يعيشون على نصف التعيين المقرر لغذائهم، ولكن استعدادهم للقتال لم يتأثر.

هناك ضمانات يجب أن نعطيها للجندي المصري لكي نأخذ منه أحسن ما عنده: تدريب جيد، سلاح يثق فيه، ضابط يشعر به.

هذا هو كل شيء.

3 - أن أي عمل يحسن التخطيط له علمياً، ويحسن التدريب عليه عملياً قابل للنجاح بنسبة مائة في المائة.

4 - هناك دروس أخرى مستفادة، في نواح فنية، ولا أظنها مما يهم الناس بصفة عامة، وإنما هي تهم القوات المسلحة بصفة خاصة.

أنتقل بعد ذلك إلى مجموعة أخرى من النتائج.. مجموعة من النتائج الاستراتيجية وأعدها كما يلي:

لقد كسرنا الجمود الذي كان يحيط بأزمة الشرق الأوسط.

لقد غيرنا صورتنا أمام العالم كله، وبعد أن كان يظننا جثة هامدة، فلقد رآنا قادرين على الحركة.. قادرين على القتال.. قادرين على الانتصار، ولم تتغير صورة مصر وحدها أمام العالم، ولكن تغيرت صوره الأمة العربية كلها.

لقد أثبتنا لإسرائيل أن منطقها في الحدود الآمنة منطق مضروب.

لم تكن قناة السويس مانعاً كافياً أمام إرادة مصممة ولم يكن خط بارليف عائقاً كافيا أمام استعداد للتضحية.

وإذن فإن على إسرائيل أن تبحث عن منطق آخر في الأمن.

وفوق ذلك، فإن إسرائيل في أي منطق للأمن تحاول العثور عليه، لابد لها أن تعرف أن أمامها في مصر عدوا يتحتم عليها أن تحسب حسابه، بل أقول وعليها أن ترهبه.

إن الحرب أثبتت بطريقة قاطعة أن شرم الشيخ ليست لها الأهمية الكبرى التي كانت إسرائيل تظنها وتبني عليها مطامعها في سيناء.

إن شرم الشيخ لم تعد مفتاح إيلات، وإنما نزل المفتاح إلى أقصى الجنوب عندما اكتشفنا استراتيجية عربية للبحر الأحمر قررنا بمقتضاها قفل باب المندب.

هيكل:

ماذا تتوقع من إسرائيل.. هل تتوقع أن تفهم ذلك كله؟

الفريق أول أحمد إسماعيل:

سوف تعاند في الفهم، ولهذا فإني لا أتجاوز إذا قلت لك أن استئناف القتال يبدو بالنسبة لي أمراً محتملاً جداً، وفي أي وقت. أنها خرجت من الحرب مجروحة..

ولم يكن جرحها عسكرياً فقط، وإنما كان جرحها في غرورها، وهذا شيء لا تستطيع تقبله بسهولة.

هيكل:

كيف تتصور جيش المستقبل في مصر؟

الفريق أول أحمد إسماعيل:

جيش المستقبل في مصر لابد أن يكون هدفاً من أهم أهداف مصر الوطنية. لابد لمصر باستمرار من جيش قوي.

هيكل:

أليس غريباً أن إسرائيل بتعداد يقل عن 3 ملايين نسمة تحتفظ بجيش تصل قوته إلى خمسين لواء؟

الفريق أول أحمد إسماعيل -

ذلك صحيح، ولابد لمصر من جيش يتناسب مع تعداد سكانها من ناحية، ويتناسب مع مسؤولياتها في المنطقة.

ولكن علينا لكي لا نجعل من هذا الجيش عبئا ثقيلاً على اقتصادنا الوطني، أن نواصل تطوير نظام التعبئة العامة عندنا.

كذلك لابد كلنا أن نستوعب تجارب حربنا في أكتوبر، وأظنها سوف تغير كثيرا من العقائد العالمية في الحرب.

أكاد أقول أن الدبابة فقدت سيادتها. لم تفقد قيمتها ولكن فقدت سيادتها كما قلت بتطور الصواريخ المضادة للدبابات.

وأكاد أقول أن الطائرة فقدت سيادتها.. لم تفقد قيمتها ولكن فقدت سيادتها كما قلت بتطور الصواريخ المضادة للطائرات. سوف تلعب الصواريخ دوراً رئيسياً في حروب المستقبل.

هيكل:

ما هي نظرية الأمن المصرية.. أو دعني أطور سؤالي بطريقة أخرى.

هل تعتقد أن هناك نظرية أمن مصرية تختلف عن نظرية أمن عربية؟

الفريق أول أحمد إسماعيل -

نظرية الأمن المصرية لابد أن تكون نظرية أمن عربية.. ألا ترى ذلك؟

هيكل:

إنني واحد من الذين اعتقدوا دائما ويعتقدون أنه لا حياة ولا مستقبل لمصر بدون انتمائها العربي، ومن هنا فإنني أعتقد بوجود نظرية أمن عربية، وبوجود نظرية رخاء عربية.. نظرية أمن عربية على خط - بالطول من حلب إلى عدن. ونظرية رخاء عربية على خط - العرض - من البصرة إلى الدار البيضاء.

الفريق أول أحمد إسماعيل -

هناك أمن عربي واحد.. ونظرية واحدة لهذا الأمن.

هيكل:

كيف تعرف نظرية الأمن العربية؟

الفريق أول أحمد إسماعيل:

أن تكون الأمة العربية باستمرار في وضع من القوة يسمح لها بأن تقرر لنفسها في الحاضر وفي المستقبل وفق إرادتها وبغير خشية من أي تهديد يزحف عليها من الخارج أو يزرع في قلبها من الداخل.

لكن علينا للوصول إلى ذلك أن نضمن وجود استراتيجية واحدة تحدد لنا تماماً من هو العدو الحالي، ومن هم الأعداء المحتملون في المستقبل الذي يقع في نطاق ما نخطط له.

هذا هو ما يمكننا من بناء القوة العسكرية الموحدة التي نحتاجها ولست أقصد بالقوة العسكرية الموحدة أن يكون لنا جيش واحد، فذلك يتعلق بأوضاع سياسية ليست داخلة في اختصاصي.

ما يهمني بالدرجة الأولى استراتيجية تحدد عدونا.

واستراتيجية نستطيع على أساسها بناء قواتنا، ثم نوزع الأدوار في بناء قوتنا على أنفسنا..

تكون هناك قيادة موحدة تكلف هذه الدولة بكذا، والدولة الأخرى بكذا، والدولة الثالثة بكذا، إلى آخره.

ويكون هذا كله قوة متحالفة مشتركة توفر لها جميع الإمكانيات وتكون لهذا كله خطة عمل جاهزة تحدد بمقتضاها المهام.

إن الحرب لا يمكن أن تكون لقاء مصادفات، وإنما لابد أن تعرف القوات مهامها، وتعرف بعضها من خلال التدريب المشترك.

بعض الناس يقولون إن الحرب تجربة لا إنسانية، ورأيي أن الحرب هي أكثر التجارب في إنسانيتها، ذلك لأن كل محارب يعرف أن حياته وانتصاره يتوقفان على رفيق سلاح بجانبه في المعركة.

هيكل:

دعني أسألك: هل الحرب ممكنة في ظل الوفاق بين القوتين الأعظم؟

الفريق أول أحمد إسماعيل:

ممكنة إذا كانت حرباً محدودة في هدفها وفي مدتها.

إن الحرب الحديثة أصبحت حرباً هائلة في تكاليفها بسبب قوة فتك هذه الأسلحة، وبسبب سرعة هذه الأسلحة، وبسبب دقة هذه الأسلحة، نتيجة للثورة الإليكترونية.

إذا استبعدنا الحرب بين الكبار، وسوف تكون نووية، ولهذا فهي مستحيلة - إذن فإن الحرب على هذا النحو سوف تكون بين الدول المتوسطة والصغيرة.

وسوف تكون حروباً لا تستطيع دولة متوسطة أو صغيرة أن تواصلها بغير حد تتوقف بعده.

ثم إن القوى العظمى لن تترك مثل هذه الحروب تجري، خصوصاً إذا كانت هي مصدر السلاح للمتحاربين.. لأن ترك مثل هذه الحروب على هواها قد يجرها هي نفسها إلى ما لا تهواه خذ مثلا ما حدث في حرب أكتوبر.

في أقل من عشرين يوماً من القتال جرى تدمير 2500 دبابة لكل الأطراف.

وتستطيع أن تعرف خطورة هذا الرقم إذا تذكرت أن إنتاج فرنسا من الدبابات كله لا يزيد عن ثلاثمائة دبابة في السنة.

كانت معارك الدبابات في حرب أكتوبر أكبر من كل ما جرى في الحرب العالمية الثانية.

كانت الخسائر فيها أعلى بسبب الصواريخ.

النتيجة أن إسرائيل طلبت مدداً من أمريكا.

نحن أيضاً طلبنا من الاتحاد السوفيتي

وهكذا تحدث الحركتان في نفس الوقت:

الدول المتوسطة والصغيرة لا تستطيع مواصلة الحرب بغير حد.

والقوى الأعظم لن تظل في عزلة عما يجري بعد حد معين.

والمهم في إدارة الحرب المحدودة أن يستطيع أي جيش محارب بلوغ الهدف السياسي المقدر له، ثم أن يصل إلى ذلك الهدف محتفظاً بأكبر قدر من قوته.

أعود مرة أخرى إلى ما بدأت به معك..

أعود فأقول: أنني حاولت طوال ما تحملت به قواتنا من مخاطر، أن أحتفظ بها سليمة.. وحين أتطلع إلى أوضاع قواتنا الآن، فإني أشعر بأننا حققنا جزءا كبيرا من الهدف السياسي للحرب، ثم إننا استطعنا الاحتفاظ بقواتنا سليمة.

وهذا يريحني كقائد.. كمواطن.. كإنسان.. بل يريحني كضمير.

وسألني الفريق أول أحمد إسماعيل:

ما هو رأيك أنت في الموقف كله؟

وقلت - رأيي باختصار كما يلي:

لقد قام الإنسان العربي في هذه الحرب بعمل مجيد اكتشف من خلال القيام به نفسه واكتشف قدراته واكتشف وحدته.

لقد ثبت أن هذا الإنسان كما قلت أنت قبل قليل قادر على الحركة قادر على القتال قادر على النصر.

لقد كنت أتمنى أن لا تحدث هذه الثغرة التي حدثت في الغرب.

برغم هذه الثغرة، فإنني لو خيرت بين أوضاعنا يوم 5 أكتوبر سنه 1973، وبين أوضاعنا يوم 22 أكتوبر 1973 - لاخترت بغير تردد أوضاعنا في يوم 22 أكتوبر، واعتبرتها قفزة هائلة.. هائلة إلى الأمام، برغم ما أراه فيها من احتمالات الخطر.

يوم 5 أكتوبر كنا في وضع أليم. ويوم 22 أكتوبر أصبحنا في وضع خطر.

ولعلي من الذين يفضلون الحياة مع الخطر على الحياة مع الألم.

لعلي واحد من الذين يعتقدون أن الألم مهين.. وأن الخطر مقدس. وهذا هو رأيي..

محمد حسنين هيكل


المصادر