مصر في حرب 1948

تعتبر حرب 1948، خاتمة للمؤامرات اليهومية التي سعت منذ البداية إلى إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، ولم تلبث القوى الخارجية والأوضاع المحلية في المنطقة العربية وفلسطين أن ساهمت في خلق المناخ المناسب لإعلان إسرائيل على حساب الشعب الفلسطيني، فبعد إنتهاء الانتداب البريطاني على فلسطين في ليلة 15/5/1948م قامت القوات الإسرائلية بقتل الفلسطينيين وتشريد أهلها وارتكاب الكثير من المذابح بحق الشعب الفلسطيني، فكان لابد من أن يكون لمصر موقف إزاء ما يجري على أرض فلسطين بحق شعبها، فقررت القيادة المصرية دخول الحرب في 15/5/1948 ضد القوات الإسرائيلية لنصرة الشعب الفلسطيني، وبهذا بدأت الحرب العربية الإسرائيلية الأولى وفي بداية المعارك حقق الجيش المصري انتصارات كثيرة، واسترد بعض المناطق التي كانت تحتلها القوات الإسرائيلية، ولكن مع استمرار القتال على أرض فلسطين، تدخل مجلس الأمن ودعا لهدنة بين الأطراف المتحاربة في فلسطين ولم تلتزم إسرائيل بقرارات مجلس الأمن لأن إسرائيل تريد الاحتفاظ بالأرض، أما مصر فتريد استرجاعها دون أن تضطر إلى مفاوضات تنطوي على الاعتراف الضمني بإسرائيل، وربما تؤدي إلى صلح رسمي، ومن ثم يفرض على باقي الدول العربية الأخرى.[1]

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

مقدمة

إن التاريخ بالنسبة أي أمة هو ذاكرتها الحية، وبقدر ما كانت ذاكرة الأمة نشيطة وحيوية بقدر ما تستفيد هذه الأمة منأحداث ماضيها وتتخذه قوة دافعة في بناء مستقبل أفضل، فالأمم تتعلم من تاريخها ومن أخطائها بقدر ما تفتخر بانتصاراتها ومنجزاتها الحضارية. لقد بدأ الصراع العربي الإسرائيلي مع نهاية القرن التاسع عشر، ولم تنته فصوله بعد، وهو في جوهره صراع على العقيدة والأرض، وهي أرض فلسطين التي هي قلب الوطن العربي، وأنه صراع شعب يدافع عن أرضه وتاريخه ووطنه في مواجهة أعتى وأقوى غزو واحتلال صهيوني استعماري في العالم كله.

ويتضح من متابعة الصراع الذي تمر به القضية الفلسطينية حقيقة الضعف والتخلف العربي معا، وهذا أدى إلى تسهيل مهمة الصهيونية العالمية والدول الاستعمارية لتحقيق أهدافها في هذه المنطقة، وتتضح أيضاً الفجوة الواسعة بين العرب وإسرائيل ثقافياً وعسكرياً واجتماعياً واقتصادياً والتي ساعدت في تحقيق الحلم الصهيوني حتى الآن. ومن هنا ركزت الدعاية الصهيونية بقوتها وسطوتها على فلسطين باعتبارها المكان الوحيد لإنشاء الدولة الصهوينية، حيث أخذت الدعاية الصهوينية تربط تاريخياً بين اليهود وأرض فلسطين وبزعم أن لهم الحق في العودة إلى وطنهم القديم، واستندت تلك الدعاية إلى نسيج من الأساطير يقوم على استغلال العاطفة الدينية في الدول الغربية المسيحية، وتعمل دائماً على طمس الهوية العربية الفلسطينية، والترويج لمقولة: "شعب بلا أرض يحتل أرضاً بلا شعب"، وكما ادعت جولدا مائير سائلة: "أين هم الفلسطينيون لا يوجد شعب يحمل هذا الاسم" وسعت الصهيونية جاهدة بكل الوسائل المتاحة أمامها لإثبات ما تروجه من ادعاءات باطلة بأنهم أصحاب الحق في الأرض وإن الأرض هي أرض أجدادهم وآبائهم وبأنهم هم (شعب الله المختار وأن هذه الأرض هي أرض الميعاد).

تتناول هذه المقالة موضوعاً مهماً جداً في تاريخ فلسطين الحديث والمعاصر بل هي قضية العصر ألا وهو الدور المصري في حرب فلسطين 1948 فقبل حرب فلسطين بستة أشهر لم تكن القيادة السياسية في مصر قد خططت لما ستفعله عند إعلان نهاية الانتداب البريطاني في 14 مايو 1948، وكان أقصى ما قام به رئيس الوزراء النقراشي هو إقامة مركز قيادة عسكري في العريش فيه كتيبة مشاة معززة بمدافع هاون لمنع الاضطرابات التي قد تحدث في فلسطين أن تعبر إلى مصر، وكان إسماعيل صدقي والنقراشي يعارضان تدخل عسكري مصري في فلسطين على اعتبار أن مصر عسكرياً ليست مستعدة. وكان رأي إسماعيل صدقي أن مصر ممكن أن تتعايش مع دولة يهودية على حدودها الشرقية وفقاً لقرار التقسيم. أما الملك فاروق فكان يتنازعه آراء ساسته من ناحية وتشجيع السعوديين والعراقيين له لدخول الحرب من ناحية اخرى، وكذلك رغبته في إثبات قيادة مصر للعالم العربي وقيادته هو شخصيا للأمة العربية وما يترتب على ذلك من مسئوليات.

ولكن قبل انتهاء الانتداب البريطاني لفلسطين بأسبوعين، حدث تغير كبير في الموقف المصري، وأصبح الملك فاروق ورئيس وزرائه النقراشي من المؤيدين لدخول جيش مصر الحرب. حدث هذا التغير كنتيجة لما لمسه النقراشي من رضا الإنجليز وموافقتهم على دخول جيش مصر الحرب. وبالفعل عرض النقراشي المسألة على مجلس النواب في جلسة سرية مساء يوم 12 مايو 1948 أي قبل إعلان انتهاء الانتداب بيومين، ووافق المجلس على دخول الحرب. ولقد كان دخول الجيش المصري إلى فلسطين على ثلاث محاور رئيسية: محور الطريق الساحلي من خان يونس إلى مستعمرة نتسانيم شمال غزة، ومحور العوجة إلى بيت لحم ثم الخليل وتعمل عليه قوات المتطوعين بقيادة أحمد عبد العزيز، ومحور شمال النقب الممتد عرضاً من الخليل إلى الفالوجا وعراق المنشية والمجدل على ساحل البحر المتوسط، ولم تكن هذه المحاول متصلة ببعضها، لذلك كانت الطرق الفاصلة بينها الأكثر خطراً، لأن استيلاء القوات الإسرائيلية على هذه الفواصل يعني فصل محاور الجيش المصري عن بعضه، وتحويل كل محور إلى جيب شبه محاصر، وتوالت أحداث الحرب وما تخللها من وقف للقتال بتدخل من الأمم المتحدة وأخيراً بإنهاء الحرب ووصول الجانبين إلى مفاوضات رودس 1949. وبذلك استطاعت الجهود الصهيونية والإمبريالية أن تتكاتف معاً لإقامة دولة صهيونية في قلب الوطن العربي الإسلامي، ولتكون شوكة في حلق العرب، واعتماد مبادئها على إنكار الحقوق الفلسطينية العربية. وبهذا أصبح اليهود كيان دولي مفروض اغتصبوا من أجله الأرض وحاربوا في سبيله شعباً عريقاً في عقر داره وبدأت أخطارهم تقترب من جميع البلدان العربية المجاورة.


المرحلة الأولى: 15 مايو 1948-9 يوليو 1948

اجتمع ملوك ورؤساء العرب بعمان في 29/4/1948 واتفقت الدول العربية ومن بينها مصر على إقامة قيادة موحدة مبدئياً، ثم دار الجدل حول شخصية القائد وكانت مصر تعارض بشدة تولي عبد الله بن الحسين القيادة العليا ثم رضخت نزولاً على رأي الأغلبية. وفي 10/5/1948 عقد اجتماع في دمشق لوضع خطة تحرك الجيوش العربية بناء على قرار جامعة الدول العربية، ومثل مصر في هذا الاجتماع عبد الحميد غالب، وبعد مداولات اتفق الحضور على وضع خطة للتحرك. اقتضى بموجبها بأن تتجه الكتائب العراقية والأردنية نحو الوسط في اتجاه العفولة لفصل الشمال عن الجنوب بين حيفا ويافا، وتصفي الشمال بالتعاون مع الكتائب السورية واللبنانية القادمة من الشمال ثم تتجاه الكتائب المصرية نحو غزة ويافا من جهة بئر السبع والخيل ولتعزل مستعمرات اليهود من الجنوب، على أن يناط بالبحرية المصرية واجب مراقبة السواحل الفلسطينية وفرض حصار عليها مع القوة الجوية وإسداء المساعدة للجيش المصري عند تقدمه، وأن تتجه بعض الكتائب الأردنية من أريحا والقدس ثم يافا وتتضامن مع الكتائب المصرية في تصفية الجنوب، على أن يساعد مجاهدو فلسطين الكتائب العربية كل من مناطقه بإشراف قيادة هذه الكتائب. وكانت قوات الجيش المصري التي دخلت يوم 15 مايو 1948 لم تزيد على عشرة آلاف جندي موزعة على 5 لواءات مشاة، ولواء مدفعية، ولواء مدرع، ووحدة مدافع مضادة للطائرات. أما القوات الإسرائيلية فكانت تتكون من تشكيلات مختلفة، هناك تشكيل يضم حوالي ألفي جندي من الطيارين والبحارة والفدائيين، والتشكيل الثاني يتكون من الجيش الثابت من الشبان الذين يؤدون الخدمة العسكرية، وتشكيل ثالث وهو الأساس يدعى بالحرس الوطني ويتكون من جميع القادرين على حمل السلاح الذين تلقوا تدريباً خاصاً على استخدام المدافع والسيارات المصفحة، وهناك تشكيل رابع للأعمال الوقائية ويتكون من الشبيبة تحت سن 17، وكان عدد القوات الإسرائيلية الكاملة الاستخدام قوامها 6000 مجند موزعين على ألوية قد حددت لها معالم العمل، إلى جانب احتياطي من سكان المدن والمستعمرات يقارب 40.0000 مقاتل وقوى بوليس المستعمرات اليهودية تقدر بنحول 16.000، يضاف إلى هذا كله الحرس المحلي وعصابتا الأرغون وشترين اللتان أصبحتا بعد قيام دولة إسرائيل من أذرع القوات الإسرائيلية وهذه القوى كلها (نحو 70 ألف مقاتل). وشارك في صفوف القوات الإسرائيلية جنود وضباط أمريكيون التحقوا سراً بالجيش أثناء الحرب، وبلغ عددهم أكثر من 2000 أمريكي.

وقد أعطى أنيس صايغ الأرقام التالية بخصوص أنواع الأسلحة الإسرائيلية وكمياتها: 22.000 رشاش، 12.500 مدفع هاون، 800 مدفع مضاد للدبابات، 22.000 بنادق حديثة.

كان الطابع الذي اتسمت به القوات المصرية قبل دخول الحرب في فلسطين عام 1948 طابع السلم والاكتفاء بالمحافظة على الأمن الداخلي، دون أن يكون مدرباً تدريباً كافياً للدخول في غمار الحرب في فلسطين. وهكذا دخلت القوات المصرية حدود فلسطين في 15/5/1948 بقيادة اللواء "أحمد المواوي"، وقامت بأول عمل لها وهو حصار مستعمرة الدنجور من قبل الكتيبة السادسة بقيادة القائم قام جاد سالم، واتجهت باقي القوات المصرية إلى غزة ودخلتها في 16/5/1948، وقصفت القوات الجوية مطار بتاح تكفا وميناء تل أبيب طوال يوم 18/5/1948، وتم التركيز على قصف تل أبيب قصفا ً شديداً ومتواصلاً. وكان قصف تل أبيب بالذات شديداً، لدرجة أن وزارة الخارجية البريطانية أرسلت سفيرها بالقاهرة لممارسة الضغط على الحكومة المصرية وتبيان مدى الضرر الذي قد يسببه استمرار هذه الغارات على القضية المصرية. ومع هذا واصلت القوات البرية المصرية زحفها إلى شرق بلدة رفح واحتلت العوجة، ومنطقة العسلوج، وبئر السبع في ظهر 19/5/1948.

وعلى اثر دخول القوات المصرية أرض فلسطين أذاعت الحكومة المصرية مذكرة للعالم تضمنت أسباب دخولها الحرب أعلنت فيها:

"أن قواتها العسكرية وقد انتهى الانتداب البريطاني في فلسطين بدأت تدخل الأراضي الفلسطينية لتعيد الأمن والسلام إلى ربوعها وبعد أن سادت الفوضى وعمت الاضطرابات وأصبحت البلاد تحت رحمة القوات الإسرائيلية التي ما فتئت تفتك بالسكان العرب الآمنين بما جمعته لهذا الغرض من مختلف الأسلحة ومعدات التدمير، ولقد ارتكبت الكثير من الجرائم ما يشمئز منه ضمير الإنسانية".

وجاء في المذكرة: "لم تستطع الحكومة المصرية إزاء هذه الجرائم الوحشية أن تقف مكتوفة الأيدي ولذلك رأت أنه من الواجب عليها كحكومة لدولة عربية أن تدخل فلسطين لوقف المذابح الدائرة هناك، وتؤكد الحكومة المصرية أن تدخلها العسكري في فلسطين ليس موجهاً ضد يهود فلسطين بل ضد العصابات الإرهابية الإسرائيلية وأنه ليس لها من غرض إلى إعادة السلام والأمن إلى ربوع فلسطين". وتقدمت القوات المصرية بقيادة أحمد المواوي واحتلت مستعمرة دير سنيد شمالاً وهي منطقة تتحكم في طريق غزة-يافا، بعد معركة عنيفة مع القوات الإسرائيلية استولت على المجدل وعراق سويدان، وسيطرت على الطرق المؤدية إلى المستعمرات اليهودية الجنوبية، وقطعت الطريقين الرئيسيين من الشمال إلى النقب. وتقدمت القوات البرية المصرية (اللواء الثاني المصر) حتى دخلت المجدل وتابعت سيرها شمالاً حتى احتلت أسدود دون مقاومة. وكان هذا لتخفيف الضغط عن القوات الأردنية في منطقة اللطرون وباب الواد. وباحتلال أسدود كانت هذه مفاجأة كبيرة للقوات الإسرائيلية التي كانت تدرك مدى أهميتها الاستراتيجية وهي كانت تهدد جميع المستعمرات الشمالية والشرقية حتى منطقة يبنا. وباحتلال القوات المصرية (خط المجدل-الفالوجا، بيت حبرين-الخليل) في 2/6/1948 تم فصل المستعمرات الجنوبية بالنقب عن شمال فلسطين. وبمجرد الاستيلاء على أسدود برز احتمال التقدم من المجدل شرقاً في اتجاه بيت جبرين والقدس للاتصال بالجيش الأردني، لذا كان لابد من الاستيلاء على مستعمرة نجيا فكانت بموقعها على جانب طريق المجدل-بيت جبرين-القدس تهدد القوات المصرية في المجدل وأسدود، خاصة وقد كانت مستعمرة كبيرة وكثيرة المباني وخاض الكتيبة الأولى مشاة معركة ضارية لاقتحامها وتمكنت العناصر الأمامية من الاستيلاء على إحدى الدشم الأمامية، ولكن ما لبثت القوات المصرية أن انسحبت إلى المجدل بعد أن وصلتها تعليمات أن القوات الإسرائيلية تخطط للقيام بهجوم مضاد. ولتأمين القوات المصرية في أسدود من العزل عن سائر القوات تم وضع خطة لاحتلال مستعمرة نيتسانيم، وكانت بمثابة قلاع إسرائيلية محصنة في القطاع الجنوبي، استولت القوات البرية المصرية عليها في 7/6/1948، بعد أن كبدوا القوات الإسرائيلية خسائر فادحة وأسروا 120 إسرائيلياً ولأهمية هذه المستعمرة قامت القوات الإسرائيلية بثلاث محاولات فاشلة لاستردادها باستثناء تبة المغناطيس وكانت معركة تبة المغناطيس آخر المعارك في المرحلة الأولى من الحرب التي استمرت أربعة أسابيع.

لأن الجيوش العربية كانت متفوقة في قوة النيران، وقامت بتنسيق خططها العسكرية ونفذها بعزم وتصميم.

صدى الحرب في الأمم المتحدة

كانت الولايات المتحدة هي التي بادرت بطرح القضية الفلسطينية على مجلس الأمن على اعتبار أن تدخل الجيوش العربية يعد عملاً عدوانياً، وشاركتها بريطانيا تلبية لنداءات اليهود المحاصرين في القدس، أما إسرائيل فليست مسئولة عن الحرب في نظر الولايات المتحدة، وقد طرحت الولايات المتحدة الموضوع بناء على المادة 29 التي تشير إلى أن على المجلس أن يقرر ما إذا كان قد وقع تهديد للسلام أو إخلال به أو كان ما وقع عملاً من أعمال العدوان. وكانت الجمعية العامة قد أصدرت في 21 مايو 1948 القرار رقم 86 الذي ينص على تعيين وسيط للأمم المتحدة لفلسطين هو الكونت فولك "برنادوت" ورالف بانش نائباً له. وكان مركز رئاسة الوسيط الدولي في جزيرة رودس. وتضمنت الفقرة الثانية من هذا القرار تعليمات إلى أن يقدم تقارير شهرية أو في فترات أقرب إذا قدر ذلك إلى مجلس الأمن والسكرتير العام لعرضها على أعضاء الأمم المتحدة. وبعد أن اتضح للولايات المتحدة وبريطانيا أن سير المعارك في فلسطين في صالح العرب، دفعتا مجلس الأمن إلى الاجتماع لبحث الموقف في فلسطين، وأصدر قراره بإيقاف جميع الأعمال الحربية في فلسطين لمدة أربعة أسابيع. وبوصول وسيط الأمم المتحدة برنادوت إلى القاهرة في 28 مايو من عام 1948 سعى جاهداً إلى تنفيذ وقف إطلاق النار لمدة أسابيع ابتداء من 15 يونيو، ودخل الوسيط في محادثات تهديدية مع ممثلي الطرفين في القاهرة وتل أبيب حول مستقبل فلسطين بصفة عامة. وفي القاهرة ألفت اللجنة السياسية للجامعة العربية لجنة فرعية من وزراء مصر، والأردن، ولبنان والأمين العام لجامعة الدول العربية، عهدت إليها مباشرة المفاوضات.

وفي تل أبيب أجرى الوسيط الدولي برنادوت محادثات مع وزير خارجية حكومة إسرائيل المؤقتة، ومن خلال هذه المحادثات تطرق الطرفان خلال المحادثات إلى نظرة اليهود وأهدافهم بالنسبة لتقسيم فلسطين والهجرة اليهودية لها، وبالنسبة للقدس، ولكن كانت هذه المحادثات سابقة لأوانها ولكن الهدف منها التوصل إلى وقف إطلاق النار، انتقل بعدها إلى المحادثات في المسائل الأساسية، ولم يكن الطرفان على استعداد أبداً للمصالحة بأي شكل كان. وكان من رأي الوسيط الدولي برنادوت أنه لا يمكن الجزم بأن أحد الطرفين لن يستأنف القتال بحال من الأحوال ويرى يقينا بأن ساعة التسوية حانت، وحيث أن الجمعية العامة للأمم المتحدة اتخذت قرارات جازمة ذات صفة سياسية فإن الأمل يحدوه أن يعلن الطرفان موافقتهما على أي تسوية معقولة تنال موافقة الأمم المتحدة، وذلك بسبب القرار الذي أصدره مجلس الأمن بوقف كل عمل عسكري، وأنه ليس ضرورياً لتسوية سلمية في الوقت الراهن، وأن أي قرار تصدره الجمعية العامة للأمم المتحدة بالأغلبية المطلوبة يجب أن يلزم الطرفين أدبياً، وأن الدول العربية حتى وإن حرصت أثناء المناقشة والتصويت على إعلان معارضتهما لمثل هذا القرار فمن واجبها العمل لصالح فلسطين، أما اليهود وهو المدينون بالكثير إلى التدخل الدولي ويريدون الانضمام إلى الأمم المتحدة فلن يكونوا أقل إلتزاماً من الوجهة الأدبية بقرار أغلبية الجمعية، على أن الدعوة إلى الهدنة وهي بمثابة إستراحة مقاتل لكل من الطرفين وجاءت في صالح إسرائيل التي قامت بجمع الذخائر وإعادة ترتيب صفوفها إستعداداً لاستئناف القتال واحتلال الأراضي الفلسطينية بأكملها وطرد أصحابها الأصليين وهم الفلسطينيون، وعلى العكس لم تفعل الدول العربية بأي شيء في شأن ترتيب صفوفها الداخلية وإمداد الجيوش بالذخائر، بل عمت المشادات والصراعات الداخلية مما كان له أثره في عدم وجود رأي واحد لدى الدول العربية في صد ومواجهة هذا الهجوم على الأراضي العربية.

رد مصر والدول العربية على اقتراح مجلس الأمن بقبول الهدنة الأولى في أول يونيو 1948:

"اجتمع رؤساء وزراء حكومات الدول العربية ومن بينهم مصر وتناقشوا طويلاً حول موضوع قبول الهدنة، وكان عبد الله ملك الأردن أكثر المتحمسين لقبولها لأنه كان قد حصل تقريباً على القسم الذي يريد ضمه إلى مملكته، ويبدو أن النقراشي أراد قبول الهدنة الأولى لأنه لم يكن منذ البداية مقتنعاً بالحرب. ودافع النقراشي عن موقفه بأن ليس من مصلحة مصر وهي تقف مع الإنجليز وجهاً لوجه أن تزج جيشها في قتال، وأنه إذا كان لابد من العمل لنصرة فلسطين، فليكن ذلك عن طريق المال والأسلحة والمتطوعين."

وبعد المباحثات مع حكومات الدول الأعضاء في جامعة الدول العربية أعلن وزير الخارجية المصري أحمد محمد خشبة موقف الدول العربية بالنسبة لوقف القتال في فلسطين لمدة أربعة أسابيع، كما يلي:

"أعلن حكومات الدول العربية في ردها على الدعوة الأولى الموجهة إليها من مجلس الأمن في الأمم المتحدة لنفس الغرض في 22 مايو، أن أحب شيء للدول العربية هو عودة السلام إلى ربوع فلسطين، وأن ترى اليوم الذي يعيش فيه أهالي فلسطين عرب ويهود جنباً إلى جنب في وئام وتفاهم تام، ,أوضحت الدول العربية أسبابها في رفض قبول هذه الدعوة ولفتت الأنظار إلى الضمانات التي من غيرها لن يكون هناك وقف للقتال الدائر على الأراضي الفلسطينية إلا بمثابة استراحة مؤقتة كتهدئة للاضطرابات والإرهاب الذي سيأتي بعدها.

إن الحكومات العربية تريد حلاً سلمياً للقضية الفلسطينية وأنها على يقين أن وسيط الأمم المتحدة برنادوت وأعضاء لجنته لا يستطيع أن يأتي بحل يحفظ لفلسطين وحدتها السياسية، ولا تراعي فيه إرادة غالبية أهالي فلسطين وأنه لن يكون هناك حظ في النجاح. إن وقف القتال ليس له غرض سوى فتح منافذ فلسطين على مصراعيها لتتلقى سيلاً من المهاجرين اليهود الذين هم في سن حمل السلاح قادمين من أوروبا وأمريكا، ومعظمهم قد تدرب على أعمال القتال والانضمام إلى القوات الإسرائيلي. تريد الحكومات العربية أن تكون هنالك هيئة موفورة الضمانات تتولى الإشراف على تنفيذ أحكام وقرارات مجلس الأمن الخاصة بوقف القتال وشروطه بكل دقة وعناية. إن الدول العربية لا تجد ما يطمئنها من احترام الطرف الآخر شروط وقف القتال، ولكن بوصفها أعضاء في منظمة إقليمية مسئولة عن حفظ الأمن في ساحتها، فإنها ستتعاون مع الوسيط الدولي برنادوت وأعضاء لجنته تعاوناً صادقاً. توافق الدول العربية الحريصة على السلم والاستقرار في ربوع أنحاء فلسطين والوصول إلى الحل العادل للقضية وتلبية دعوة مجلس الأمن وقف القتال لمدة أربعة أسابيع ابتداء من الوقت الذي تقرر فيه ذلك".

شروط وقف القتال

أرسل وسيط الأمم المتحدة برنادوت شروط وقف القتال بين الطرفين حتى يتمكن من تنفيذ الهدنة جاء فيها:

  • التعهد بعدم إرسال محاربين ومواد حربية إلى فلسطين.
  • تطبيق مادة العقوبات العسكرية والاقتصادية على كل من يخالف الأمر.
  • عدم استيراد أي نوع من الأسلحة من قبل المتحاربين.
  • عدم استغلال الهدنة لتقوية النواحي العسكرية في أي معسكر من المعسكرين المتحاربين سواء كان في البر أو البحر أو الجو.

وفي حال قبول هذا القار فإن تاريخ وساعة بدء الهدنة بعد تحديدها سيبلغان إليكم في الرسالة التي وجهها الوسيط الدولي يوم 9 يونيو متضمنة التأييد النهائي حتى يذاع الأمر من جانب أصحاب الشأن في نفس الوقت.

وقد حرص الوسيط الدولي على أن يوضح لكل من الطرفين أنه شديد الغربة في تنفيذ الهدنة وسريان الرقابة اللازمة على صورة تكفل عدم استفادة أي طرف من الأطراف بميزة عسكرية أثناء فترة الهدنة نتيجة لسريانها، وشرح الوسيط الدولي فيما اتخذ بعض القرارات فيما يتعلق بتنفيذها وقام بشرحها بالتفصيل لممثلي الطرفين وتتلخص فيما يلي:

أولاً: إنه لن يسمح لأي شخص من الأشخاص المحاربين المنتمين لوحدات عسكرية أو شخص يحمل السلاح بالدخول إلى دولة عربية أو إلى أي جزء من أجزاء فلسطين.

ثانياً: لا يسمح الوسيط الدولي بدخول رجال في سن الخدمة العسكرية، وفي حال دخول عدد منهم، يكون محدداً ويدخلون في معسكرات أثناء الهدنة تحت إشراف مراقبين من قبل الوسيط الدولي ولن يسمح لهم بالإنضمام إلى صفوف القوات المسلحة لأي من الطرفين.

ثالثا: يقوم الوسيط في أقصى الحدود الممكنة بتعيين مراقبين من الأمم المتحدة على الموانئ لمراقبتها لمنع السفن القلة لمهاجرين حتى لا يتم تهريبهم إلى الأراضي الفلسطينية.

رابعاً: يقرر الوسيط الدولي بمحض إرادته وسلطته أثناء الأسبوع الأول من بدأ الهدنة دخول أي مهاجر إلى فلسطين بصرف النظر عن سنه وجنسيته.

خامساً: ممنوع نقل أي قوات أو عتاد حربية أثناء فترة الهدنة بين دولة من الدول ذات الشأن وأخرى منها أو أي مكان قريب من حدود فلسطين أو جبهات القتال.

سادساً: لا يستورد أي عتاد حربي إلى أي دولة من الدول ذات الشأن أو أراضيها.

سابعاً: يتولى الصليب الأحمر الدولي إغاثة أهالي المدن من الطرفين في المناطق التي أصيبت بأضرار فادحة من جراء النزاع الناشب مدنية القدس ويافا بحيث يضمن لها توفير كميات من مواد الطعام الضرورية.

الهدنة الأولى 11 يونيو-9 يوليو

كان واضحاً منذ البداية أن مراقبة الهدنة عملية صعبة جداً، لا تصل إلى درجة الكمال، ذلك أن مراقبة الهدنة تتطلب توفير عدد كبير جداً من المراقبين وكميات وفيرة من الأجهزة والأدوات ونظراً لضيق الوقت الذي حدده مجلس الأمن بالاشتراك مع الوسيط الدولي برنادوت فقد كانت هناك صعوبات في الحصول على ما يلزم من موظفين وأجهزة لازمة لمراقبة سير تنفيذ الهدنة بين جميع الأطراف، كما كانت الصعوبة الرئيسية التي كانت تواجه لجنة تنفيذ الهدنة تتمثل في أن مجموع جهاز المراقبة يجب إنهاؤه وتسييره بعد بدء الهدنة، وقد كان من المستحيل اتخاذ أي استعدادات مقدماً، وقد عين الوسيط الدولي برنادوت خمس ضباط برتبة كولونيل من الجيش السويدي للاشتراك في مراقب الهدنة بصفة ممثلين شخصيين للوسيط الدولي، وكان الكولونبيل "ثورد بوند" رئيساً لهيئة أركن الحرب في شؤون مراقبة الهدنة، وطلب الوسيط الدولي من كل دولة من الدول الأعضاء في لجنة الهدنة وهي بلجيكا، والولايات المتحدة وفرنسا أن ترسل 21 ضابطاً من قواتها المسلحة ليعملوا كمراقبين. وبالفعل وصل هؤلاء المراقبين الثلاثة والستون إلى القاهرة بين يومي 11 و14 يونيو وأوفدوا إلى فلسطين وبعض الدول العربية وأرسل أيضاً سكرتير عام الأمم المتحدة في 21 يونيو 51 حارساً، انتخبوا من السكرتارية العامة للأمم المتحدة ليساعدوا المراقبين العسكريين، وطلب الوسيط الدولي أيضاً من بلجيكا والولايات المتحدة وفرنسا أن ترسل كل منها عشرة ضباط إضافيين بصفة مراقبين وارسلت الولايات المتحدة سبعون فنياً مساعداً كطيارين وميكانيكيين للطائرات وعمال لاسلكي وسائقين لسيارات وموظفين في الشؤون الصحية. ولأن الموظفين والمعدات لم تكن تكفي لمراقبة تنفيذ الهدنة فلم يكن بالمستطاع إنشاء مركز مراقبة الهدنة في جميع الموانئ والمطارات والحدود والسواحل سواء في الدول العربية السبعة أو في فلسطين، وكانت فلسطين هي مسرح الأحداث فقد كان الجهاز الرئيسي لمراقبة الهدنة في حيفا، برغم من أن المركز الرئيسي كان في أرض محايدة في "رودس"، وقسمت فلسطين إلى خمس مناطق حسب مقتضيات عمليات المراقبة وتشتمل كل منها على مركز إقليمي ورئيس ومركز أو عدة مراكز طبقاً لمقتضيات الظروف والأحوال.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

سير مراقبة الهدنة الأولى

راح اليهود يستغلون الهدنة في إعادة تنظيم صفوفهم. وتدفق عليهم المقاتلون الذين سبق لهم الخدمة في الجيوش الأمريكية والبريطانية وغيرها بأعداد كبيرة، وتدفقت عليهم الأسلحة من مختلف أنحاء أوروبا بكميات هائلة، وفي هذا يقول بن جوروين: "عندما ذكر بطولة الطيارين الإسرائيليين فإننا نذكر معهم إخواننا الذين جاءوا من مختلف أقطار العالم متطوعين للاشتراك في الحرب معنا، وعلى رأس هؤلاء محاربون من أمريكا وجنوب أفريقيا وبريطانيا وكندا". وكان ميناء تل أبيب يستقبل يومياً حمولات كبيرة من العتاد الحربي وقد ظهر أثر ذلك بوضوح عند استئناف العمليات العسكرية بعد انتهاء الهدنة الأولى. وهو يوم إعلان الهدنة استغل الإسرائيليين احترام القوات المصرية لتعليمات الهدنة، وهاجموا بلدة بئر عسلوج، ولم يكن فيها قوات عسكرية مصرية تذكر للدفاع عنها. واحتلت أيضاً القوات الإسرائيلية بعض المواقع والقرى منها جسير وجوليس وأخذت تقوي دفاعاتها بعمل الدشم والخنادق وتوفير وسائل الاتصال.

أما القوات المصرية فقد كانت الأوامر الصادرة لها تنص على ضرورة إحترام قرار الهدنة وعدم البدء في أي هجوم، والاقتصار على فتح النيران فقط في حالات الدفاع عن النفس، إيماناً من مصر بأن هناك ضميراً دولياً عادلاً.

ودارت اشتباكات في فترة الهدنة سيطرت فيها القوات المصرية على مواقع بالقرب من تل أبيب نحو عشرة أميال إلى الشرق منها وتتحكم في طريق حيفا-تل أبيب، كذلك تم توسيع الممر إلى القدس، وتبقى احتلال القرى العربية في القطاع الواقع شرق اللطرون، وإيقاف الضغط على القدس، عن طريق إشغال القوات في القطاع الممتد من الرملة إلى القدس وفتح طريق إلى النقب.

وبالمقابل لم تستغل مصر، والحكومات العربية فترة الهدنة، والحقيقة أنهم لم يكونوا مهيئين للاستفادة من مثل هذه الفرصة، لأنها لم تكن حرة الإرادة، ثم لأن التناقضات بين الأنظمة بدأت تظهر بينهم، لأنها كانت أعجز من أن تحصل على السلاح لتعزيز قواتها، وكان القادة السياسيين لا يريدون دعم القادة الميدانيين للجيش لأن الدول الكبرى كانت تضغط على القادة العرب وتجبرهم على ذلك، وحتى لو أرادو تقديم الدعم لهم لأنهم يعتمدون في التسليح على الاستعمار الذي كان حريصاً على تمكين الإسرائيليين من إحراز تفوق عسكري ليتمكن من إلحاق الهزيمة بالجيش المصري بشكل خاص ليسهل بعدئذ إسكات صوت المطالبين بالجلاء عن القادة، وإخراج الجيش المصري من النقب لتمتد القوات الإسرائيلية ما بين البحرين المتوسط والأحمر. وفي خلال تنفيذ الهدنة الأولى زاد عدد حوادث انتهاك الهدنة وتقديم الشكاوى في غضون الأيام الأولى للهدنة وقبل استكمال نظام المراقبة وأثناء الأيام الأخيرة ولا ننسى أن كل طرف من الأطراف المتنازعة كانت تستعد لاستئناف القتال بمرور فترة الهدنة الأولى، وقدمت الكثير من الشكاوى المقنعة وغير المقنعة من كل طرف من الأطراف، وكلاً يتهم خصمه بانتهاك الهدنة، وقد بلغ مجموع الحوادث والشكاوى التي قدمها كلا الطرفين ما يقارب الخمسمائة شكوى أكثرها لا تستند على حقائق وغير منطقية، ولم يستطع المراقبون تحديد المسئول عن هذه الانتهاكات بشكل دقيق.

أما في المناطق الأخرى حيث سجلت انتهاكات وقدمت شكاوى وصلت إلى 258 شكوى، منها 147 من الجانب العربي، و59 من الجانب الإسرائيلي، و52 حالة من حالات خرق الهدنة وكانت متساوية بين العرب والقوات الإسرائيلية، ولكن هذه الحوادث كانت الأخطر لأنها كانت تتعلق بمهاجمة القرى واحتلالها واحتلال المرتفعات والمواقع الإستراتيجية، فمنذ بدء الهدنة الأولى كان على المراقبين أن يقوموا بتحقيقات دقيقة وشاملة برغم أنهم لا يستندون على حقائق وكل طرف يرمي اللوم على الطرف الآخر مما جعل مهمة المراقبين صعبة من حيث تحميل أي طرف المسؤولية الكاملة عن هذه الحوادث ولكن المسئول الوحيد دائماً هم الإسرائيليون لأنهم هم المحتلون لهذه الأراضي وليس لهم الحق بالعيش عليها.

اقتراح دولي لتمديد الهدنة الأولى

بدأت الهدنة الأولى في 11 يونيو 1948 لمدة أربعة أسابيع حتى 9 يوليو وليس بالمعقول أن يكون هناك تسوية للقضية الفلسطينية في هذه المدة القصيرة، وإرضاء الطرفين على كافة الحلول المقدمة، رغم تنفيذ الهدنة بطريقة مرضية بصرف النظر عن تقديم بعض الشكاوى من الطرفين وظل السؤال قائماً: إذا لم يتم اتفاق على إجراءات تمديد الهدنة هل سيستأنف القتال؟ إن قرار استئناف القتال بين الطرفين بانتهاء الهدنة في 9 يوليو سيقابل باستنكار ذلك أن أي طرف سيبدأ القتال سوف يتحمل المسئولية الكاملة، وإذا لم يتم اتفاق الطرفين على تمديد الهدنة فإن مجلس الأمن سيعاود بحث هذا الموضوع ويتخذ الإجراءات اللازمة لذلك. وكان الوسيط الدولي يرغب في الاستمرار في بذل الجهود لفض النزاع والسعي إلى حل سلمي للمشكلة وبذلك كل الجهود للوصول إلى ذلك واقترح على الطرفين في 3 يوليو 1948 تمديد الهدنة مدة ثانية. وبعد إطلاع اللجنة السياسية لجامعة الدول العربية ومن بينهم مصر على الاقتراح الذي قدمه وسيط الأمم المتحدة بشأن تمديد الهدنة الاولى، درست وجهة نظره والأسباب التي جعلته يطلب التمديد، حيث ذكرت اللجنة أن الدول العربية دخلت فلسطين في 15 مايو مضطرة لكي تدافع عن الشعب الفلسطيني، ومن أجل إنقاذ أهل فلسطين من المذابح التي ترتكب بحقهم والدمار الذي أحدثته العصابات الصهيونية، وقد كأن أغلب سكان فلسطين من العرب، ولإرجاع الحقوق العربية الفلسطينية لأهلها ونشر الأمن بين الأهالي، وبدخول جيوش الجامعة العربية إلى فلسطين أنقذ الكثير من الفلسطينيين وجنبت فلسطين الكثير من الدمار وإعادة السلم وحكم القانون إلى المناطق التي استردتها الجيوش العربية. وقد احترمت الدول العربية قرار مجلس الأمن في 29 مايو بوقف القتال بالرغم من إمساكهم بناصية الأمر، وهذا لتمكين وسيط الأمم المتحدة من السعي لحل سلمي في المنطقة، ومع أنه وقع ما كان تخشاه الدول العربية من عدم احترام إسرائيل لوقف القتال واختراقها الهدنة واستمرارها في عدوانها على الشعب الفلسطيني. وقد كانت الدول العربية ومن بينهم مصر على استعدد لاستئناف القتال ولكن ليس بالشكل الكافي، وكيف أنها منيت بخيبة أمل كبيرة من الاقتراح الذي قدمه الوسيط الدولي لأنه يعتمد على أساس قرار التقسيم الذي صدر من الأمم المتحدة ولم يأت بجديد، وليس هناك أي أمل في إيجاد تسوية سلمية للقضية الفلسطينية مما يؤيد ذلك ما جاء في مذكرة الوسيط الدولي في 5 مايو المرسلة تعليقاً على مقترحات جامعة الدول العربية وعلى أنه مقتنع تماماً بقول إسرائيل فكرة قيام كيان ثقافي وسياسي منفصل وقبولهم الاندماج في دولة فلسطينية موحدة. وأن تمديد الهدنة لا يمكن الوصول إليه إلى بتسوية سلمية وليس غير ذلك، لأن التمديد يؤدي إلى إمعان العصابات الصهيونية في أعمالها التخريبية ضد الفلسطينيين، التي أدت لنزوح الكثير من عرب فلسطين إلى الدول العربية خوفاً من الدمار، على حين فتحت القادة الإسرائيليون أبواب فلسطين لهجرة اليهود إليها، ومن الطبيعي أن يرحب بتمديد الهدنة لأنا تعطيه الوقت الكافي لممارسة الإرهاب ضد الفلسطينيين وإدخال الكثير من المهاجرين إلى فلسطين.

وكانت الدول العربية راغبة في السلام وحقن الدماء ولكن إسرائيل لم تكن تريد إلى أن تشرد الفلسطينيين وتدمر فلسطين بالكامل، وهذا التصور لا يحتم على الدول العربية أن تستمر في وقف إطلاق النار بالشروط المفروضة، وإنما عليها أن تتخذ التدابير اللازمة لوقف العدوان الإسرائيلي على فلسطين. وأدرك النقراشي خطا دخول مصر الحرب بعد الهدنة الأولى، حيث صرح لعبد الرحمن عزام (الأمين العام لجامعة الدول العربية) بأن الجيش المصري ليس مستعداً للحرب وكل ما تستطيع الحكومة المصرية تقديمه هو المال فقط. أما إسرائيل فقد أبدت استعدادها لقبول التمديد، وهذا ما يؤكد أنها قد استفادت من هذه الهدنة بتحصين أماكنها الدفاعية وتنظيم صفوفها ورسم خططها المستقبلية وتهريب السلاح والذخائر والعتاد للأراضي الفلسطينية التي احتلتها وتهريب الرجال في سن حمل السلاح ودعوة اليهود للهجرة إليها.

وباقتراب انتهاء الهدنة الأولى بد أن أمر تمديدها مشكوك فيه، إذ بدأت إسرائيل تستعد لاستئناف القتال ولكن سلامة المراقبين حدث بالوسيط برنادوت، إلى المبادرة بنقل جميع الموظفين والأدوات والأجهزة في 7 يوليو تجنباً لحدوث أي أمر أو اعتداء على المراقبين والموظفين الفنيين، وقد تابعت لجنة الهدنة مهمتها في القدس تحت قيادة كولونيل سويدي كان يمثل الوسيط الدولي شخصياً، وموظف من الأمم المتحدة وثمانية حراس أيضاً، وذلك لمساعدة لجنة الهدنة ومراقبة منطقة (جبل المكبر) هذا يدل على اقتناع لجنة الهدنة وعلى رأسهم الوسيط الدولي برنادوت بأن من المستحيل أن تتم أي تسوية بين الطرفين في مدة الهدنة وهي قصيرة وبمثابة استراحة مقاتل بين الطرفين، وبينما قامت القوات الإسرائيلية في هذه الفترة بإعادة صفوفه وتنظيمها وتقوية دفاعاته، مما أتاح له استئناف القتال بقوة أكبر من قبل، لم يستفيد منه العرب كثيراً.

انتهاء الهدنة الأولى

جرى تطبيق الهدنة الأولى ولكن ليس بالشكل المفهوم للهدنة، والمقصود بذلك هو أنه وقع كثيراً جداً من الأحداث بين الطرفين وكان هذا نتيجة لمحاولات متعمدة من القوات الإسرائيلية باختراق الهدنة وتكرار هجوم القوات الإسرائيلية على أهالي فلسطين، وتحسين مراكزهم القتالية تحت ستار الهدنة، وكان تدخل المراقبين لحل هذه النزاعات فقد كانت ترجع الوضع إلى الوضع الاعتيادي، ولكن خلال الهدنة كانت اشتباكات بين الطرفين في جهات معينة، وهذا بسبب العجز الذي كان في المراقبين لأنهم كانوا لا يستطيعون الإشراف على جميع المناطق في جميع الأوقات، وقد استفادت القوات الإسرائيلية استفادة كبيرة أي أنهم كانوا في موقف دفاعي من الهجوم العربي، وقد خدمتهم الهدنة في تحصين دفاعاتهم وتنظيم صفوفهم وفي نفس الوقت أوقفت الهدنة من حدة الهجوم العربي عليهم.

المرحلة الثانية من 8 يوليو إلى 18 يوليو 1948

بعد أن قدم الوسيط الدولي برنادوت اقتراحه أواخر الهدنة الأولى بشأن تمديد وقف إطلاق النار وموافقة الإسرائيليين على تمديد الهدنة، ورفض العرب ومن ضمنهم مصر تمديدها، ولكن كان رفضهم دون أن يستعدوا للقتال كما استعدت القوات الإسرائيلية ودون أن تجري أي تعديلات لمخططاتها الحربية، أو أي خطوة لتوحيد صفوف الجيش العربي الذي كان لكل كتيبة قيادة خاصة. بمعنى أنه كان غياب واضح للاستراتيجية السياسية والعسكرية العربية. أما القوات الإسرائيلية فقد كانت مستعدة لاستئناف الحرب استعداداً كاملاً ومع أنهم كانوا راغبين في تمديد الهدنة خوفاً من بطش العرب بهم. انتهت الهدنة الأولى في تمام الساعة الثامنة من صباح يوم الجمعة 9 يوليو 1948، وكان وضع الجيش العربي في غاية اليأس والإحباط، وتجدد القتال وكانت القوات الإسرائيلية تقصد القدس لتحتلها ودافع عنها الجيش العربي بكل قوته حتى لا تدخلها القوات الإسرائيلية.

وأعيد تنظيم الجبهة المصرية وقسمت إلى عدة قطاعات، وبدأت القوات المصرية عملياتها العسكرية على طول الجبهة وتمكنت من استرجاع بلدة كوكبا بعد حصارها، واسترجعت أيضاً بلدة الحليقات، وفي 10/7/1948 تم الاستيلاء على مستعمرة كفار داروم والتي كانت تتحكم في طريق رفح، وبذلك تم تأمين طريق رفح-غزة. في 17/7/1948 صدرت الاوامر للكتيبة الأولى احتياط بمهاجمة مستعمرة الدنجور ولكن لم تنجح في ذلك وتوجهت إلى مهاجمة بئر عسلوج (التي أعاد اليهود احتلالها). كما قررت القوات المصرية استرجاع كراتيا، ولكنها لم توفق في ذلك واكتفت باسترجاع سلسلة تباب تشرف على الطريق الموصل إلى الفالوجا، ولكن في مساء الثامن عشر من يوليو 1948 صدرت الأوامر بوقف إطلاق النار تنفيذاً لقرار مجلس الأمن بقيام الهدنة الثانية.

ولكن انقلب كل هذا إلى هزيمة نتيجة سوء تقدير القادة العسكريين لقوة القوات الإسرائيلية ومدى استعدادهم للقتال، وهو ما ساهم في هزيمة القوة العربية وتقليص الأراضي العربية لصالح إسرائيل الوليدة.

الهدنة الثانية 19 يوليو 1948

عقد مجلس الأمن في الخامس عشر من يوليو 1948 جلسة برئاسة بانولسكي مندوب أوكرانيا، وحضر الجلسة الوسيط الدولي برنادوت الذي طلب من المجلس أن يتدخل بحزم لوقف القتال في فلسطين، فأصدر مجلس الأمن قراراً بوقف إطلاق النار عملاً بالمادة 40 من ميثاق الأمم المتحدة والكف عن أي عمل عسكري والأمر بوقف إطلاق النار بين الطرفين، وعلى الطرفين الالتزام بهذا القرار في أقل من ثلاثة أيام من تاريخ صدوره (18 يوليو). ويدعو القرار جميع الحكومات والسلطات المختصة إلى الإستمرار في التعاون مع الوسيط الدولي برنادوت للتوصل إلى السلم في فلسطين وفق قرار مجلس الأمن الصادر في 29 مايو 1948. وقد أرسلت الولايات المتحدة الأمريكية برقية إلى الحكومات المعنية لتنفيذ القرار جاء فيها: "إن الولايات المتحدة الأمريكية في غاية الانزعاج بسبب تطور الأحداث في فلسطين، وهي تأمل أن تتعاون الحكومات العربية على تنفيذ أمر وقف القتال المقترح لجميع الجبهات في فلسطين". ولما لم يكن يهم الولايات المتحدة إلا مصلحة إسرائيل، فقد مارست ضغوطها على الحكومات العربية من ضمنهم مصر بقبول وقف القتال إلا لقناعتها التامة بأن تنفيذ وقف إطلاق النار هو في مصلحة إسرائيل، ولم تكن الحكومات العربية في وضع يسمح لها بالتمرد على إرادة الولايات المتحدة الأمريكية.

وجاء في القرار على لجنة تنفيذ الهدنة اتخاذ جميع التدابير اللازمة لتنفيذ أمر وقف القتال وعلى الوسيط متابعة الجهود لتوصل إلى السلام في فلسطين، وبمراقبة الهدنة وتقديم التقارير الكاملة والتحقيق بأي انتهاك للهدنة من كلا الطرفين وعمل كل الاجراءات اللازمة لتثبيت الهدنة وأن تظل الهدنة سارية المفعول إلى أن يتوصل الطرفان إلى تسوية سلمية للموقف في فلسطين.

وقد حدد برنادوت الساعة 17.00 من يوم 18 يوليو 1948 موعدا محدداً لبدء الهدنة الثانية في فلسطين، وفقاً لقرار مجلس الأمن المذكور، وما كاد القرار يبلغ للطرفين حتى أبرق الإسرائيليون قبولهم الهدنة، ولكن اقتصر قبول الدول العربية ومصر في بادئ الأمر على سريان الهدنة في القدس فقط دون الميادين الأخرى. ولكن إصرار مجلس الأمن على اعتبار مواصلة القتال في فلسطين تكديراً للسلم العالمي، وتهديده الصريح بتوقيع عقوبات على الدول العربية إذا رفضت وقف إطلاق النار. وبعد اجتماع اللجنة السياسية التابعة لجامعة الدول العربية في بيروت بحضور كلاً من رئيس وزراء مصر محمود النقراشي ورؤساء وزراء الأردن ولبنان والعراق، وغيرهم من الدول العربية، قرروا في 18/7/1948 قبول قرار مجلس الأمن في جميع أنحاء فلسطين، واتخذ القرار بالأكثرية وليس بالإجماع. وقد أرسل أمين عام الجامعة العربية إلى الوسيط الدولي برنادوت في رودس رسالة يبلغه فيها موافقة العرب على الهدنة.

ولم تعبأ القوات الإسرائيلية بشروط الهدنة الثانية ففي 28/7/1948 هاجمت القوات الإسرائيلية الفالوجا وقطعت الاتصالات بينها وبين عراق المنشية وتمكنوا من دخول الجزء الشرقي من البلدة، ولكن صمود المدافعين عن البلدة من القوات المصرية والأهالي المتطوعين أجبروهم على الانسحاب، وقصفت القوات الإسرائيلية عراق المنشية من جميع الجهات ولكن انسحبت من المكان بسبب التصدي له وتكبيده خسائر كبيرة. وحاولت القوات الإسرائيلية في 1/8/1948 المرور شرق الفالوجا إلى الجنوب لتموين مستعمراتها المعزولة في النقب، ولكن تراجعت بعد أن دخلت حقل ألغام ودمرت بعض مركباتها. وفي 18/8/1948 تقريباً بعد شهر من بدء الهدنة الثانية، قامت القوات الإسرائيلية بالهجوم على جبل المكبر في القدس، ولم تتمكن من احتلال لتصدي القوات المصرية والمتطوعين لها، ولكن نجحت وبعد فترات متقطعة من احتلال بعض القرى والأراضي في مناطق الخليل والقدس ورام الله وطولكرم وجنين. وفي 29/8/1948 عقد في القاهرة مؤتمر بمكتب وزير الحربية حضره هيئة أركان الجيش والجنرال لاندستروم ومسيو سكارني من مندوبي الأمم المتحدة، وقد نتج عن هذا المؤتمر السماح بتموين (بالغذاء والدواء) المستعمرات اليهودية المعزولة في النقب.

المرحلة الثالثة 19 يوليو – 5 نوفمبر 1948

بعد استئناف القتال ظهر التباين في حجم القوات والعتاد بين الجانبي الإسرائيلي والعربي وكان الجانب الإسرائيلي أقوى وكان هذا ملحوظا في ساحات القتال الدائر على أرض فلسطين. وفي 1/10/1948 قامت القوات الإسرائيلية باحتلال بلدة المحجر فقامت الكتيبة السادسة المصرية وتمكن قائدها الصاغ جمال عبد الناصر باسترداد البلدة من اليهود. كما قامت القوات الإسرائيلية بالهجوم على مواقع القوات المصرية في عراق المنشية، والفالوجا براً وجواً ولكنه لم يستطع تحقيق أهدافه. وقد قام اللواء "المواوي" بعمل الكثير من التدابير لمواجهة الموقف، فقسم الجبهة المصرية إلى 6 مناطق عسكرية، وكل منطقة قسمت إلى عدة قطاعات، وكان الهدف من هذه التقسيمات إحكام الحصار المفروض حول المستعمرات في النصف الجنوبي والسيطرة الكاملة عليها. وقامت القوات الإسرائيلية بتنفيذ عملي تجاه الجبهة المصرية في أكتوبر 1948م قد أطلق عليها قادتها اسم عملية يؤاب، وكانت على عدة مراحل: ففي المرحلة الأولى تقدمت القوات الإسرائيلية باحتلال قطاع عراق سويدان-بيت جبرين، وفي المرحلة الثانية يتم احتلال المجدل، وفي الثالثة يتم الالتفاف نحو قطاع غزة جنوباً، وبدأت عملية الهجوم على خطوط المواصلات المصرية في البداية طبقاً للخطة الموضوعة فدمرت سكة الحديد قرب رفح وزرعت الألغام على الطريق الأسفلتي الواصل إلى خان يونس، وفي 16 أكتوبر 1948 بعد أن أصبحت خطوط المواصلات مقطوعة من الشمال، لم تجد أمام القوات المصرية سوى التحول إلى الدفاع والتمسك بالمواقع التي تحتلها، واندفعت القوات الإسرائيلية تجاه بيت حانون، لعزل عراق المنشية عن بيت جبرين، وباتجاه عراق المنشية فشل الهجوم الإسرائيلي، فقد تمكنت خلالها المدفعية المصرية من صد الهجوم وتدمير عدد من آليات القوات الإسرائيلية أما في مواجهة عراق سويدان وحتى يوم 17 أكتوبر 1948 احتلت القوات الإسرائيلية أحد مواقع الجيش المصري، وكانت النتيجة أن عزلت القوات المصرية في عراق سويدان عن قواتها في منطقة المجدل، فانقسمت هذه الجبهة الرئيسية إلى قسمين منفصلين، واحتلت القوات الإسرائيلية مدينة بئر السبع بعد أن مهدوا لها بقصف جوي عنيف استمر أربع ليال متتالية من 16-20 أكتوبر، ساعدهم في ذلك سكون الجيوش العربية في الجبهات الأخرى. والحقيقة أن سقوط بئر السبع قد أدى إلى ضياع السيطرة المصرية على النقب بأكمله. وفي 22 أكتوبر 1948 أصدر مجلس الأمن قراراً بايقاف اطلاق النار إيذاناً ببدء هدنة ثالثة.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

المرحلة الرابعة 6 نوفمبر 1948 – 11 يناير 1949

عقد رؤساء هيئة أركان الجيوش العربية برئاسة اللواء عثمان مهدي رئيس هيئة أركان الجيش المصري مؤتمراً في القاهرة يوم الأربعاء في 11 نوفمبر 1948 لبحث الموقف في فلسطين، وما آلت إليه حالة الجهات العسكرية ورفعوا تقريرهم إلى اللجنة السياسية لجامعة الدول العربية، وحدد رؤساء الأركان في هذا المؤتمر إمكانيات جيوشهم للقتال وما يملكون من مدافع وطائرات وعتاد، والمدة التي تستطيع كل دولة أن تصمد فيها ضد القوات الإسرائيلية. ولكن بعد أن ضمنت إسرائيل وقوف الجيوش العربية داخل حدود المناطق المخصصة لها، ركز كل قواتها على الجبهة المصرية للوصول إليها، لذا تم وضع خطط لتطويق الجيش المصري، وأن القضاء على هذا الجيش كان في نظر الإسرائيليين هو الحل لقضيتهم.

وبدأت القوات الإسرائيلية بعملية جديدة في 22 ديسمبر 1948 وقد أطلق على هذه العملية اسم حوريب وكان هدفها الاستيلاء على النقب كله، وبدأ الهجوم تجاه العريش وخاصة المطار، ورفح، وخان يونس، وطريق رفح-غزة الرئيسي، وكانت القيادة المصرية قد اتخذت احتياطيات ضد الهجوم تجاه العسلوج والعوجة اللتين تقعان على الطريق المتجه من بئر السبع إلى الحدود المصرية وأصبحت المعارك الحربية مقصورة على القوات المصرية والقوات الإسرائيلية، وفي 26 ديسمبر 1948 سيطرت القوات الإسرائيلية على تبة الوادي جنوب غرب العسلوج، ومواقع أخرى بينها وبين العسلوج والعوجة، ووجهت هجوم آخر على القوات المصرية في العسلوج والعوجة التي سقطت في 27 ديسمبر 1948، وبعد يومين احتلت القوات الإسرائيلية أبو عجيلة، ثم اتجهت نحو الشمال الغربي إلى العريش لتطويق القوات المصرية المنتشرة في الغرب، إلا أنها تصدت لها كتيب مشاة مصرية التي قامت بالدفاع عن مدخل العريش، وفشلت عملية الالتفاف والتطويق، ثم استعدت القوات الإسرائيلية لتنفيذ مرحلة أخرى من عملية حوريب حيث حاولت الاستيلاء على رفع لعزل القوات المصرية في قطاع غزة منتهزين فرصة سكون الجبهات العربية لالتزامها بقرار مجلس الأمن رقم 62 الصادر في 16 نوفمبر 1948 بإقامة هدنة دائمة في جميع أنحاء فلسطين.

وقد انتهت هذه العملية بعبور القوات الإسرائيلية الحدود المصرية وأدت إلى الضغط على القوات المصرية بالانسحاب من جنوب فلسطين. وفي هذه التطورات العسكرية على الأرض أعلنت الحكومة البريطانية حينها أنها ستضطر لمساعدة مصر ما ل توقف إسرائيل عدوانها، وقد أرسلت إنذاراً إلى السلطات الإسرائيلية مفاده أن عدم انسحاب القوات الإسرائيلية من سيناء سيرغم بريطانيا على تطبيق معاهدة 1936. أقر مراقبو الهدنة بانسحاب جميع القوات الإسرائيلية التي كانت تسللت داخل الحدود الفلسطينية إلى الأراضي المصرية. ودفعت الولايات المتحدة قرضاً لحكومة إسرائيل المؤقتة مقابل انسحاب قواتها، وكانت عملية حوريب آخر عملية في حرب فلسطين 1948، وقد رأينا كيف أن هذه الحرب بدأت بقوة، ولكنها انتهت خلال شهور قليلة بالهزيمة المعروفة، في ظل شجاعة وبسالة الجندي المصري ولكن لم يجد ما يساعده ويقف بجواره في هذه الحرب من قبل الجيوش العربية الأخرى.

نتائج حرب فلسطين 1948

لقد تركت حرب فلسطين 1948 آثاراً عميقة على حياة جميع الدول العربية وكانت نقطة تحول كبيرة في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي وكانت لها آثار اقتصادية وسياسية واجتماعية وعسكرية، فإن أهم خسارة على الفلسطينيين هي خسارة الأرض الفلسطينية والشهداء الذين ضحوا من أجل أرض فلسطين المقدسة والمباركة، وبرزت مشكلة اللاجئين وهي كانت أهم وأخطر المشاكل التي نتجت عن الحرب.

وبالإضافة إلى ذلك أن الدولة العبرية سيطرت على الرقعة التي خصصت لها بقرار التقسيم للجمعية العامة لعام 1947، وزادت مساحتها بمقدار الثلث، أي اتسعت من أربعة عشر ألفاً وخمسمائة كيلو متر مربع (قرار التقسيم) إلى عشرين ألفاً وتسعمائة كيلو متر مربع، على حين تقلصت فلسطين من إحدى عشر وثمانمائة كيلو متر مربع إلى خمسة آلاف وأربعمائة كيلو متر مربع، وأصبحت نسبة اليهود تبلغ 3% من سكان فلسطين، ويملكون 8% من مساحتها، على حين حشر عرب فلسطين وهم يملكون 70% في مساحة 20% من أرض فلسطين.

المصادر

  1. ^ الدور المصري في حرب فلسطين 1948م، أ. أحمد عوض حمدان، مجلة الأقصى (سلسلة العلوم الإنسانية)، المجلد السادس عشر، العدد الثاني، ص 85-113، يونيو 2012