انهض واقتل أولاً

Rise and Kill First: The Secret History of Israel's Targeted Assassinations
Rise and Kill First.pdf
نسخة كاملة من الكتاب. انقر لمطالعتها.
المؤلفرونن برگمن
المترجمماهر أبي نادر
Ronnie Hope
البلدالولايات المتحدة
اللغةالإنگليزية
الناشررندم هاوس
تاريخ النشر
1 فبراير 2018
الصفحات750
الموقع الإلكترونيriseandkillfirst.com

انهض واقتل أولاً: التاريخ السري لإغتيالات إسرائيل Rise and Kill First: The Secret History of Israel's Targeted Assassinations هو كتاب صادر في 2018، كتبه رونن برگمن عن تاريخ الإغتيالات التي قامت بها أجهزة المخابرات الإسرائيلية.[1] يقول مؤلفه أن عدد من اغتالتهم إسرائيل أكثر ممن اغتالهم أي بلد غربي منذ الحرب العالمية الثانية.[2] يسلط الكتاب الضوء على اغتيال مسئولين بريطانيين، أعضاء من حماس، حزب الله، ومنظمة التحرير الفلسطينية، والعلماء النوويين الإيرانيين. لكتابة الكتاب، أجرى برگمن حوالي ألف مقابلة مع شخصيات سياسية وعملاء سريين[1] ودرس آلاف الوثائق.[2]

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الترجمة

ماهر أبي نادر
ساهم بشكل رئيسي في تحرير هذا المقال


"إنهض واقتل أولاً، التاريخ السري لعمليات الإغتيال الإسرائيلية"

كتاب انهض واقتل أولاً مترجم للعربية
كتاب انهض واقتل أولاً مترجم للعربية (للمطالعة انقر الصورة)

يشرح الكاتب رونن برگمن في مقدمة الكتاب أنه في مرحلة البحث عن الوثائق السرية لأجهزة الاستخبارات الإسرائيلية، التي مرّ عليها خمسون عاماً، راوغت هذه الأجهزة ومنعته من الوصول إليها، وعندما لجأ إلى المحكمة الإسرائيلية العليا، فإن هذه الأخيرة، وبضغط مخابراتي، رفعت فترة الحجر على الوثائق إلى سبعين عاماً عبر تعديل قانوني أظهر بشكل فاضح تسخير القضاء لمصلحة قرارات أجهزة الإستخبارات.

يقول الكاتب "لقد ذهبت كل الجهود التي بذلتها لإقناع المؤسسة العسكرية بالتعاون مع الأبحاث التي أجريها هباءً منثوراً، وواجهت كل الطلبات التي تقدمت بها لأجهزة الإستخبارات لتنفيذ القانون الذي يتيح فتح أرشيفها أمام الوثائق التي تجاوز عمرها الخمسين عاماً، آذاناً صماء، وعند اللجوء إلى المحكمة العليا للمطالبة بتنفيذ القانون، جرت المماطلة لسنوات وإنتهت إلى لا شيء سوى تعديل القانون نفسه عبر تمديد فترة الحجر على الوثائق سبعين عاماً، أي أكثر من عمر الدولة نفسها".

ومع صدور التعديل على القانون، لم تقف المؤسسة العسكرية مكتوفة الأيدي، يضيف الكاتب، بل إنها، وفي عام 2010، وحتى قبل توقيع عقد كتابة الكتاب، عقدت وحدة العمليات في الموساد اجتماعاً خاصاً لمناقشة كيفية عرقلة أبحاث برگمن، وأرسلت تعميماً إلى كل موظفي "الموساد" السابقين تنذرهم فيه بعدم إجراء اية مقابلات مع الكاتب، لا بل جرى استدعاء بعض الموظفين الذين كان مشكوكاً بأمر إلتزامهم بالتعليمات، وتم التشديد عليهم بضرورة تنفيذ التعليمات. وتوجه رئيس أركان الجيش الإسرائيلي عام 2011 إلى قيادة جهاز الامن الداخلي "الشين بيت" بإتخاذ إجراءات زاجرة بحق مؤلف الكتاب "بزعم أن بحوزته وثائق سرية تشكل تهديداً إستخباراتياً"، ومنذ ذلك الحين، قام العديد من الأجهزة بإتخاذ خطوات عدة لوقف نشر الكتاب أو على الأقل وقف نشر أجزاء منه، يقول الكاتب.

إخفاء هويات المصادر

جرت العادة أن تطلب الرقابة العسكرية من وسائل الإعلام أن تضيف شبه جملة "وفقاً لوسائل نشر أجنبية"، عندما تريد أن تذكر أعمالا سرية منسوبة إلى الإستخبارات الإسرائيلية، وبالتحديد عمليات الاغتيال، بهدف إضعاف مصداقية مصادر المعلومة، وعدم إقرار أجهزة الإستخبارات الإسرائيلية بمسؤوليتها عن تلك الاعمال السرية. ووفقاً لهذه القاعدة فإن هذا الكتاب يجب أن يعتبر "وفقا لوسائل نشر أجنبية" ويعفي الأجهزة الإستخباراتية من أية مسؤولية.

على أي حال، فإن المؤسسة العسكرية الإسرائيلية لم تقر بأي من ألف مقابلة شكّلت الاساس الذي بُني عليه محتوى الكتاب، مع مروحة واسعة من المصادر التي تراوحت بين قادة سياسيين أو مسؤولين في وكالات الإستخبارات أو حتى مع منفذي العمليات أنفسهم. ومع ذلك، فإن معظم المصادر المذكورة في الكتاب معروفة بالاسماء الحقيقية، فيما خشيت مصادر أخرى من كشف هوياتها ووافقت على ذكر الحرف الاول من أسمائها وأسماء عائلاتها.

وحتى يؤكد الكاتب على مصداقية ما يذكره في كتابه، يقول إنه بالاضافة إلى المقابلات المذكورة، "لجأت إلى الآلاف من الوثائق التي زودتني بها مصادري من دون أن تسمح الأجهزة الرسمية بنقلها من المؤسسات، وبطبيعة الحال، من دون أن تسمح بتسليمها لي". ورداً على السؤال البديهي الذي قد يخطر ببال القارىء عن الاسباب التي دفعت تلك المصادر للكلام وتقديم الوثائق للنشر يقول الكاتب "كل واحد من هذه المصادر له هدفه الخاص وأحياناً عنده قصة غير معلنة، ومن الواضح هنا أن بعض الوثائق وعلى الاقل إثنين من المسؤولين الإستخباراتيين المحترفين في عمليات الخداع وإستخدام الاعلام، كانوا يحاولون إستخدامي لتمرير الجانب الذي يخدمهم. لكن وفي كل مقابلة ومع كل وثيقة إستلمتها، كنت أقاطع المعلومات مع أكثر من مصدر للتأكد من أنني لن أكون فريسة الخداع في ما أكتب".

ويضيف الكاتب أنه من الأسباب الأخرى لإعطائه هذا العدد الكبير من المقابلات والوثائق "هو ذلك التناقض في المجتمع الإسرائيلي، فمن جهة كل ما له علاقة بالإستخبارات والامن القومي يصنف "سرياً للغاية" ومن جهة ثانية كل شخص يريد أن يتكلم عما فعله، وهي أفعال تعتبر في دول أخرى مدعاة للخجل، لكنها مدعاة للفخر عند الإسرائيليين، فهي برأيهم أعمال ضرورية لحماية الكيان الإسرائيلي نفسه. ومع ذلك، فقد نجحت "الموساد" بالحؤول بيني وبين بعض المصادر (في معظم الاحيان بعد أن أكون قد أجريت معهم مقابلات)".

مائير داگان القاتل الأسطوري

يحاول برگمن من خلال هذا العرض إضفاء أكبر قدر من المصداقية على محتوى كتابه، فينطلق في سرده من أول لقاء في تاريخ الكيان الإسرائيلي يجريه قائد للموساد مع الصحافيين. إنه مائير داگان، الذي يصفه الكاتب بـ"الجاسوس والقاتل المحترف الاسطوري". مكان اللقاء كما يذكر رونين برگمن، هو مقر قيادة "الموساد" الحصين في أحد الاحياء في شمال تل أبيب، وزمانه كان في الثامن من يناير عام 2011. ويقول نقلاً عن داگان غير المحب للصحافة بشكل عام أنه يعتبر الصحافة "وحشاً لا يشبع" لذلك لا معنى لإقامة علاقات مع الصحافيين. ومع ذلك، "قبل ثلاثة أيام من هذا اللقاء، إستلمت وثلة من المراسلين دعوة سرية أثارت دهشتي، لأني وعلى مدى عقد من الزمن، لم أوفر "الموساد" من النقد في كتاباتي وبصورة خاصة لم أوفر داگان نفسه".

لقد عمل الموساد كل ما يمكن من أجل إضفاء أقصى درجات الرهبة على اللقاء، فقد طُلب من الصحافيين ركن سياراتهم في موقف سيارات غير بعيد عن مقر قيادة "الموساد"، وأن يتركوا كل ما بحوزتهم في سياراتهم، باستثناء دفاتر الملاحظات والأقلام… "ومن هناك، جرى نقلنا في حافلة تمت تغطية نوافذها بستائر سوداء. مررنا خلال الرحلة بالعديد من البوابات واللوحات الالكترونية التي توضح ما هو المسموح به وما هو الممنوع داخل حرم المقر، ومن ثم مررنا تحت حواجز الكترونية تكشف على المعادن قبل أن ندخل إلى غرفة الاجتماع مع داگان حيث إنتظرناه بضع دقائق قبل أن يدخل"، يروي الكاتب.

"لم يكن داگان وحيداً عندما دخل الغرفة، بل رافقه الناطق باسم رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، ورئيس شعبة المراقبة الاعلامية العسكرية، وهذه كانت امرأة برتبة عميد. وللتوضيح فإن "الموساد" وحدة عسكرية تتبع مباشرة لمكتب رئيس الوزراء، وبحسب القانون، فإن أي تقرير عن أي من أعمالها "يخضع مباشرة للرقابة الاعلامية العسكرية" يقول برگمن.

ويضيف الكاتب "ما قاله داگان فاجأ مرافقيْه اللذين كانا يعتقدان أنه دعا إلى هذا الاجتماع كنوع من حفل وداع قبيل تركه مهامه، لأن هذا الاجتماع كان قبل يوم واحد من تقاعده، ولكن مع بدء كلامه وإسترساله، كانت حدقات عيون مرافقيْه تتسع من الدهشة فيما هو يواصل الكلام غير آبه بهما. إذ قال "إن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو يتصرف بعدم مسؤولية ولأسباب أنانية بحتة وهو يقود البلاد إلى كارثة".

تصفية علماء نويين إيرانيين

يعود برگمن بالتاريخ ثماني سنوات قبل الاجتماع المذكور، فيقول إن رئيس الحكومة حينها أرييل شارون كان قد عين داگان رئيساً للموساد حتى يكون مسؤولاً عن ضرب مشروع إيران في الحصول على السلاح النووي، وهو المشروع الذي كان يعتبره الرجلان تهديداً وجودياً لإسرائيل. ويرى الكاتب أن داگان إختار الطريقة الاصعب ولكن الاكثر تأثيراً لتنفيذ المهمة الموكلة اليه. فقد كان يعتقد أن تحديد العلماء النوويين وعلماء الصواريخ الايرانيين وتحديد أمكنة إقامتهم وحركتهم ومن ثم قتلهم هي الطريقة الأفعل لضرب المشروع النووي الايراني. وقد حدد جهاز الموساد خمسة عشر عالماً وتمكنت من تصفية ستة منهم بعمليات أحادية، من خلال إستهدافهم الواحد تلو الآخر، عندما يكونون في طريقهم إلى عملهم، حيث يقوم سائق دراجة نارية بلصق عبوة ناسفة بسياراتهم قبل وقت قصير من التفجير. كما تم اغتيال قائد في الحرس الثوري الايراني كان مسؤولاً عن مشروع الصواريخ البالستية الايرانية بتفجير عبوة كبيرة في مكتبه حيث قتل مع سبعة عشر من رجاله.

يقول الكاتب إن هذه العمليات وأخرى مماثلة نفذها الموساد، والبعض منها بتنسيق كامل مع الولايات المتحدة الأمريكية، كانت ناجحة للغاية، لكنها لم تكن كافية لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه إيهود باراك، اللذين بدءا يشعران أن الحاجة لهما بدأت تتراجع، فقررا أن هذه العمليات لم تعد فعالة في تأخير المشروع النووي الايراني وأن القصف الجوي العنيف والواسع للمنشآت النووية الايرانية من شأنه منع إيران من حيازة سلاح نووي. هذا الامر عارضه داگان بشدة لأنه كان على قناعة بأن اللجوء إلى خيار الحرب المفتوحة يتم فقط عندما "يصبح حد السيف على الحنجرة" أو كخيار أخير لا بديل له.

وينقل الكاتب عن داگان قوله "إن الاغتيال له تأثير كبير على المعنويات كما له تأثير فعلي مادي مباشر، فلا أعتقد أنه كان هناك العديد من الاشخاص الذين كان بإمكانهم الحلول مكان نابوليون او روزفلت او ونستون تشرشل، فالعامل الفردي يلعب دورا أساسياً، واذا كان صحيحاً القول ليس من شخص لا يمكن إستبداله ولكن الفرق شاسع بين إستبدال شخص قوي وحيوي بشخص لا حياة في شخصيته".

إقتل السائق

ووفق نظرية داگان، فإن الاغتيال هو بشكل أساسي أمر معنوي أفضل من خوض حرب كبيرة، فتصفية عدد من الشخصيات يكون كافياً لتفادي خيارات أخرى غير ضرورية وينقذ حياة عدد لا يحصى من الجنود والمدنيين على طرفي الصراع. ويضيف أن حرباً واسعة النطاق ضد ايران يمكن أن تؤدي إلى صراع واسع المدى في الشرق الاوسط وقد لا تتسبب بالضرر المطلوب للمشروع النووي الايراني. ويختم داگان أن شنّ إسرائيل الحرب على ايران سيشكل إدانة لكل مهنته وسيذكر التاريخ أنه لم ينفذ المهمة التي أوكلها اليه شارون لوضع حد لطموحات إيران النووية عبر العمليات السرية بدل خوض هجوم معلن. ولمزيد من شرح نظريته الداعمة للاغتيال بدل الحرب يقول داگان "في بعض الاحيان، يكون أكثر فعالية أن تقتل السائق، وهذا يكون كل شيء".

يقول الكاتب إن معارضة داگان إلى جانب ضغوط كبيرة من كبار مسؤولي الإستخبارات دفعت إلى تأجيل الضربات الجوية على إيران عدة مرات. ولم يتورع داگان عن التوجه مباشرة إلى مدير وكالة الإستخبارات المركزية الأمريكية ليون بانيتا من دون إذن نتنياهو ليشرح خطة الاخير لضرب إيران ويحذر من عواقبها، ما أدى إلى قيام الرئيس الأمريكي باراك أوباما بتوجيه تحذير شديد اللهجة لنتنياهو لوقف خطته. وقد أدى ذلك إلى ارتفاع نسبة التوتر بين داگان ونتنياهو، لكن هذا التوتر إزدادت وتيرته مع عملية الاغتيال ضد احد قادة حركة حماس، محمود المبحوح، الذي كان في زيارة إلى دبي، وقد نفذت العملية مجموعة مؤلفة من 27 عنصراً من الموساد.

كتاب برگمن عن إغتيالات الموساد: تغيير مجرى التاريخ

محمود المبحوح، أحد قياديي كتائب عز الدين القسام التابعة لحركة حماس، اغتالته إسرائيل في دبي عام 2010.

يقول رونين برگمن في كتابه ان عملية الاغتيال التي نفذتها مجموعة من الموساد ضد محمود المبحوح، احد قادة حماس في مدينة دبي الاماراتية، كانت كالقشة التي قصمت ظهر البعير في العلاقة بين رئيس الموساد مائير داگان ورئيس الوزراء بنيامين نتنياهو. فقد ارسل داگان فريقاً من 27 ضابطاً وعنصراً من القتلة المحترفين إلى دبي لقتل مسؤول فلسطيني رفيع في حركة حماس، وقد نجح الفريق في تنفيذ مهمته عبر حقن المسؤول الفلسطيني بحقنة قاتلة في غرفته، في احد فنادق دبي، وغادر الفريق دولة الامارات قبل اكتشاف جثة المغدور، ولكن ما لم يكن بحسبان الموساد هي سلسلة الاخطاء الجوهرية التي ارتكبها اعضاء الفريق، والتي بدأت بتجاهل وجود عدد لا يحصى من كاميرات المراقبة المنتشرة ليس فقط في الفندق بل في كل شوارع هذه الامارة الخليجية ومؤسساتها، واستخدام جوازات السفر المزورة نفسها التي كان اعضاء الفريق قد استخدموها سابقاً عند دخولهم إلى دبي خلال عملية الملاحقة والترصد واستخدام نفس مجموعة الهواتف التي لم يكن من الصعب على الشرطة الاماراتية متابعتها وفك "الداتا" الخاصة بها، وهكذا فقد ظهرت امام العالم كله مقاطع فيديو مأخوذة من كاميرات المراقبة تظهر وجوه اعضاء الفريق وكل حركاتهم قبل عملية الاغتيال وبعدها.

لقد بينت كل تلك الاخطاء ان عملية الاغتيال تحمل بشكل واضح بصمة الموساد وقد تسببت باضرار عملياتية جدية لهذا الجهاز الاستخباراتي، يقول برگمن، كما تسبب باحراج شديد لدولة إسرائيل التي إستخدمت جوازات سفر مزورة لدول غربية صديقة لها. وهكذا، فقد صرخ نتنياهو في وجه داگان ، وهو يزبد قائلاً له: "لقد اخبرتني ان العملية ستكون سهلة وبسيطة وان نسبة الخطأ فيها قريبة جداً من الصفر". على الفور، اصدر امره لداگان بوقف كل عمليات الاغتيال التي كان مخططاً ان تتم ولكل عمليات "الموساد" في الخارج حتى اشعار آخر. هكذا، تصاعدت حدة الخلافات بين نتنياهو وداگان إلى ان قرر نتنياهو (بحسب روايته هو) ان لا يمدد ولاية داگان لرئاسة الموساد او بحسب رواية داگان "لقد سئمت منه وقررت ان اتقاعد".


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

القتل الهادف

وفي عودة إلى الملف النووي الايراني، ينقل برگمن عن داگان قوله خلال لقائه الاول مع الصحافيين في مقر الموساد، وفي مقابلات اخرى اجراها معه في اطار ابحاثه المسبقة لاعداد الكتاب انه كان بمقدور الموساد تحت قيادته وقف ايران عن حيازة اسلحة نووية عبر عمليات الاغتيال وضربات موضعية اخرى، وقد اعرب عن ثقة قوية بان العمل مع الولايات المتحدة يمنع ايران من استيراد بعض القطع الحيوية لمشروعها النووي بسبب عدم قدرتها على تصنيعها..

يسترسل برگمن في كتابه بالقول "انه من بين كل الوسائل التي تستخدمها الديمقراطيات في العالم لحماية امنها، لا شيء اكثر اثارة للجدل من عمليات قتل السائق، الاغتيال". البعض يسميها "تصفية" ووكالات الاستخبارات الامريكية تسميها، ولاسباب قانونية، "عمليات القتل الهادفة"، وفي كل الاحوال، فان كل التعابير تنتهي إلى معنى واحد وهو قتل فرد ما (نظرية قتل السائق)، وذلك من اجل تحقيق هدف محدد ألا وهو انقاذ حيوات اناس ينوي المستهدف ان يقتلهم وازالة الخطر الذي يشكله هذا الهدف، واحيانا يكون الهدف من قتل قائد ما هو تغيير مجرى التاريخ، يضيف الكاتب.

ويرى برگمن ان استخدام دولة ما للاغتيال يثير معضلتين، الاولى، تتمثل في السؤال الآتي: هل عملية الاغتيال فعالة؟ اي هل ان تصفية فرد ما او مجموعة افراد ستجعل العالم اكثر اماناً؟ الثانية، تتمثل في السؤال هل عملية الاغتيال مبررة اخلاقياً وقانونياً؟ وهل ان قيام بلد ما باستخدام اسوأ انواع الجرائم وفق اي قانون او اخلاق (حرمان انسان او مجموعة بشر من حياتهم) من اجل حماية مواطنيها؟ يسأل الكاتب.

يترك برگمن الاجابة عن هذه الاسئلة للقارىء، قبل أن يمضي في شرح مضمون كتابه بالقول "ان هذا الكتاب يتعامل بصورة رئيسية مع عمليات الاغتيال والقتل الهادف التي نفذها جهاز "الموساد" والاذرع الاخرى للحكومة الإسرائيلية في حالتي السلم والحرب، كما يتعامل في فصوله الاولى مع مثل هذه العمليات التي نفذتها منظمات وميليشيات سرية قبل نشوء دولة إسرائيل والتي صارت بعد العام 1948 الجيش الرسمي لهذه الدولة واجهزة الاستخبارات الرسمية لها.

800 عملية إغتيال

ويخلص برگمن من خلال مضمون الوثائق التي حصل عليها والمقابلات التي أجراها إلى انه منذ الحرب العالمية الثانية كانت إسرائيل من بين الدول الغربية الاكثر تنفيذا لعمليات اغتيال، ويضيف، في عدد لا يحصى من المناسبات، فان قادة إسرائيل قرروا انه من بين كل الخيارات المتاحة، فان ما هو افضل للدفاع عن امن بلادهم القومي هو تنفيذ عمليات اغتيال وتفجيرات موضعية. وبرأيهم ان هذه العمليات تحل المشاكل التي تعاني منها الحكومة واحياناً تغير مجرى التاريخ".

يعرض برگمن أنه حتى كتابة هذا الكتاب (الذي نشر في الولايات المتحدة باللغة الإنگليزية في عام 2018)، نفذت إسرائيل 800 عملية قتل هادف تقريبا، كلها كانت من ضمن حربها ضد حماس في قطاع غزة، في اعوام 2008 و2012 و2014 او في اطار عمليات الموساد في الشرق الاوسط ضد اهداف فلسطينية وسورية وايرانية (أغلبها بالمسيرات). وللمقارنة هنا، فان الولايات المتحدة الأمريكية نفذت في عهد الرئيس جورج دبليو بوش 48 عملية إغتيال وفي عهد الرئيس باراك اوباما نفذت 353 عملية مشابهة.

ويضيف برگمن "لا شيء اروع مما قاله الرئيس السابق لوكالة المخابرات الأمريكية ووكالة الأمن القومي الأمريكية الجنرال مايكل هايدن في استخدام سلاح الاغتيال القائم على الاستخبارات، لانه هو ما جعل حرب إسرائيل على الارهاب اكثر فعالية من اي حرب مشابهة خاضتها اية دولة غربية على الاطلاق، ففي عدد كبير من المناسبات، كان القتل الهادف هو ما انقد إسرائيل من أزمات عميقة".

ويشير برگمن إلى أن قيام جهاز الموساد واجهزة استخبارات إسرائيلية اخرى بعمليات اغتيال لاشخاص مصنفين كتهديد مباشر للامن القومي "قد أرسل رسالة أكبر من عملية الاغتيال نفسها ومفادها إذا كنت عدواً لإسرائيل فاننا سنجدك ونقتلك أينما كنت".

الضوء الأخضر

ويقول برگمن انه "ليس كل عمليات الاغتيال نفذتها مجموعات صغيرة ومغلقة، لانه كلما كانت العملية معقدة كلما كان عدد المشاركين فيها اكبر وقد يصل إلى المئات، ومعظمهم اعمارهم دون 25 سنة، وفي بعض الاحيان، كان هؤلاء الشباب يأتون مع قادتهم قبل التوجه لتنفيذ عمليتهم للقاء رئيس الوزراء (وهو الشخص الوحيد المخول باعطاء الضوء الاخضر لعمليات الاغتيال) حيث يشرح لهم العملية ويعطيهم الموافقة النهائية الشفهية، وهذا امر فريد من نوعه في العالم، وبعض الضباط من الرتب الصغيرة الذين شاركوا في مثل هذه اللقاءات ارتقوا ليصبحوا قادة وطنيين وحتى رؤساء حكومات، لذلك اسأل ما هي العلامات التي طبعت في ذاكرة هؤلاء عن عمليات الاغتيال والقتل الهادف التي شاركوا فيها"؟

ويشير الكاتب إلى ان الولايات المتحدة اخذت من إسرائيل تقنيات الاغتيال كنموذج بعد أحداث 11 سبتمبر 2011 وتنفيذا لقرار الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش لشن حملة قتل هادفة ضد تنظيم القاعدة استخدمت اجهزة الاستخبارات الامريكية تقنيات وطرق الحرب على الارهاب التي ابتكرتها إسرائيل ومن ضمنها نظام السيطرة والقيادة، غرف العمليات، طرق جمع المعلومات وتقنيات المسيرات الطائرة والطائرات من دون طيار.

ويختم برگمن مقدمة كتابه بالقول عندما تستخدم الولايات المتحدة ضد اعدائها اليوم نفس نوع القتل الخارج عن القانون الذي دأبت إسرائيل على استخدامه لعقود خلت، من المناسب ليس فقط ابداء الاعجاب بالقدرات العملياتية التي انجزتها إسرائيل بل ايضا دراسة السعر الاخلاقي العالي الذي دفع ولا يزال يدفع لاستخدام هكذا نوع من القوة.

كتاب برگمن عن الإغتيالات: نافورة دماء من رأس ويلكين

ينطلق رونين برگمن في سرده من تأسيس بريطانيا لاول لواء عسكري من يهود العالم لمساعدتها في الحرب العالمية الثانية، تحوّل عناصره وضباطه لاحقاً حتى يكونوا نواة المنظمات الصهيونية الارهابية التي لاحقت الضباط النازيين وقامت بتصفيتهم في جميع أرجاء أوروبا والعالم، وخلال عملياتها هذه ـ يقول الكاتب ـ إن العشرات من الأبرياء قتلوا، إما للشبهة وإما كأضرار جانبية لعمليات الإغتيال.

يعود برگمن بالتاريخ إلى عام 1896، عندما نشر الصحافي اليهودي النمساوي تيودور هرتسل كتابه "الدولة اليهودية"، فيقول إن الاخير ناقش معاداة السامية التي كانت معشعشة في عمق الثقافة الاوروبية وأن "الشعب اليهودي يمكنه تحقيق الحرية الحقيقية والأمان فقط في دولته الخاصة". ولكن معظم أبناء النخبة اليهودية في أوروبا الغربية والتي كانت تعيش حياة مريحة، رفضت فكرة هترسل، يقول برگمن، لكن جمهور الفقراء والعمال اليهود في أوروبا الشرقية، رحبوا بهذه الأفكار وتبنوها على نطاق واسع، كونهم كانوا يعانون من قمع دموي جعل الكثيرين منهم ينضمون إلى مجموعات وإنتفاضات يسارية في البلدان التي كانوا يعيشون فيها، على حد قول الكاتب.

ويقول برگمن إن هرتسل نفسه رأى في فلسطين، أرض أجداد اليهود، المكان المثالي لإقامة الدولة اليهودية في المستقبل، لكنه كان يعتقد أن أي إستيطان في تلك الأرض، يجب أن يتم بهدوء وروية وعبر القنوات الدبلوماسية وبدعم دولي، كي تتمكن هذه الدولة من العيش بسلام. وبذلك يكون هرتسل قد أسّس ما عُرف لاحقاً بنظرية "الصهيونية السياسية".

اللواء اليهودي

الكتيبة الأولى من اللواء اليهودي في عرض عسكري.

خلال الحرب العالمية الثانية، تطوع نحو 38 ألفاً من يهود فلسطين لمساعدة الجيش البريطاني والخدمة في صفوفه، ولم يعرف البريطانيون في البداية ماذا يفعلون بهذه الأعداد من المتطوعين، فنظموهم في إطار ما أسموه "اللواء اليهودي"، وارسلوهم للتدريب في إحدى القواعد العسكرية البريطانية في مصر، ومن ثم عادوا وأرسلوهم إلى أوروبا للقتال إلى جانب قوات الحلفاء، وبصورة أساسية في كل من إيطاليا والنمسا، فرأى ضباط وجنود هذا اللواء بأم العين رعب "الهولوكوست"، وأرسلوا تقارير إلى القيادات اليهودية في فلسطين، ومن بين هؤلاء الجنود، كان موردخاي گيشون، وهو من مواليد برلين عام 1922 لأب روسي وأم يهودية ألمانية كان أخوها الحاخام ليو بايخ زعيم حزب اليهود الألمان الأحرار، وهو حزب إصلاحي، وكان على گيشون أداء التحية النازية وإنشاد النشيد النازي في المدرسة الألمانية التي كان يتعلم فيها قبل الهجرة مع عائلته إلى فلسطين في عام 1933، لكنه عاد إلى أوروبا في إطار "اللواء اليهودي"، ليجد أن المجتمع اليهودي قد دُمّر بالكامل على أيدي النازيين، وينقل برگمن عن گيشون قوله "لقد آن الاوان للإنتقام، لقد كنت أحلم بأن أحد أشكال الانتقام تتضمن قتل صديق ألماني عزيز عليّ جداً يدعى ديتليف، فقط لأن والده كان ضابطاً في الشرطة الألمانية، بهذه الطريقة فقط نستطيع إستعادة الكرامة اليهودية المهدورة". موردخاي الذي يحمل كل هذا الحقد والكراهية، أصبح لاحقاً أحد مؤسسي الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية.

يقفز برگمن في سرده التاريخي من الأقدم إلى الأحدث وبالعكس، فيروي بطريقة لا تخلو من التشويق، وقائع عملية إغتيال رئيس مكتب التحقيق الجنائي البريطاني في فلسطين توم ويلكين في 24 سبتمبر 1944 على أيدي نشطاء من منظمة "لحي" ("المحاربون من أجل حرية إسرائيل") الصهيونية السرية التي كانت تحارب الإنتداب البريطاني في فلسطين في أوائل أربعينيات القرن العشرين، والتي كانت تعتبرها سلطات الإنتداب منظمة إرهابية، وتطلق عليها تسمية "عصابة شتيرن"، تيمناً باسم مؤسسها القومي المتطرف إبراهام شتيرن، وقد كان قائد هذه المنظمة الارهابية إسحاق شامير (الذي أصبح لاحقاً رئيس وزراء إسرائيل)، ويقول شامير نفسه إن المنظمة نفّذت الكثير من عمليات الإغتيال والقتل المتعمد والتفجير في إطار حملة "الإرهاب الشخصي".

مكتب التحقيق و"ليهي"

ويبرر برگمن قرار إغتيال توم ويلكين بالقول إن الاخير كان رئيس الوحدة اليهودية في مكتب التحقيق الجنائي في فلسطين (سي اي دي)، وكان يقوم بعمله بصورة ممتازة، لا سيما في خرق المنظمات الصهيونية السرية بعملائه وتمكنهم من وقف الكثير من انشطتها وعملياتها، وكان بعد 13 عاماً من الخدمة في فلسطين، يتكلم العبرية بطلاقة وباتت لديه شبكة واسعة من المخبرين الذين بفضلهم تمكن ويلكين من اعتقال العديد من النشطاء السريين ومصادرة كميات كبيرة من الاسلحة، ناهيك بإحباطه الكثير من العمليات التي كانت تهدف إلى إكراه البريطانيين على مغادرة فلسطين.

يقول برگمن إن ويلكين كان يعرف أن منظمة "ليهي" الارهابية تستهدفه لأنها حاولت عام 1942 إغتياله مع رئيسه البريطاني جفري مورتون في أوائل عمليات الإغتيال التي نفذتها، ففي 20 يناير من ذلك العام، زرع أعضاء المنظمة عبوات ناسفة على سطح أحد الطوابق داخل مبنى يقع في شارع يائيل ثمانية في تل أبيب، ولكن إنفجار العبوات أدى إلى مقتل ثلاثة رجال شرطة، إثنان منهم يهود والثالث إنگليزي. وغادر مورتون فلسطين بعد محاولة إغتيال أخرى أدت إلى إصابته بجروح اثر مقتل مؤسس "ليهي" ابراهام شتيرن في صدام مسلح مع الـ"سي اي دي".

في تلك الليلة، كمن ديڤيد شومرون ورفيقه ياكوڤ باناي (اسمه الحركي "مازال" اي "الحظ") لتوم ويلكين قرب أحد مقرات الـ"سي اي دي" في شارع سان جورج بالقدس، غير آبهين بأن للمستهدف عائلة وأقارب، بل كل ما يعنيهم، أنه يشكّل هدفاً ذات قيمة فقط، بحسب قول شومرون نفسه بعد عقود من تلك العملية. قرار الإغتيال أصدره رئيس المنظمة إسحاق شامير نفسه. في تلك الليلة، تزود شومرون وباناي بمسدسات وقنابل يدوية فيما كانت مجموعة الدعم تننتشر في المكان، متنكرة ببدلات رسمية وقبعات على النسق الإنگليزي. عندما خرج ويلكين من مقر إقامته، متجهاً سيراً على الأقدام إلى مباني الـ"سي اي دي"، حيث كانت تجري التحقيقات مع عناصر المنظمات الارهابية الصهيونية، وما ان مرّ من زاوية تقاطع شارعي السان جورج وميا شيريم، حتى نهض فتى في محل بقالة على مقربة من الزاوية ورمى قبعته بالأرض، هذه كانت الإشارة للبدء بتنفيذ العملية، مر شومرون وباناي من أمام ويلكين وتأكدا من انه الهدف المحدد فعلاً (عرفاه من خلال صور اعطيت لهم مسبقاً)، وتجادلا من يطلق النار أولاً حيث "ان باناي كان يريد ان يفعل ذلك ولكن ما ان استدرنا معاً نحوه لم أتمالك نفسي وأطلقت النار أولاً"، يقول شومرون ويضيف، "من بين 14 طلقة أطلقناها، أصيب ويلكين بـ11 طلقة علما أنه بعد الطلقات الأولى، تمكن من سحب مسدسه، ليرد علينا لكنه تهاوى ووقع ووجهه إلى الارض ونافورة دماء تنبع من رأسه".


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

يتسحاق بن تصڤي

وعلى الفور، غادر شومرون وباناي نحو ظلال الأبنية، حيث كانت في إنتظارهم سيارة تاكسي يقودها أحد أعضاء منظمة "ليهي". يقول شومرون عن العملية "إن الشيء الوحيد الذي أسفت عليه هو أني لم آخذ حقيبة يد ويلكين التي كانت بالتأكيد تحوي الكثير من الوثائق، باستثناء ذلك، لم يتمالكني أي شعور ولو ضئيل بالذنب، لأننا كنا نؤمن أنه كلما زاد عدد التوابيت التي تعود إلى لندن كلما اقترب موعد يوم الحرية".

يقول برگمن ان استراتيجية استخدام القوة كطريق وحيد لاعادة الشعب اليهودي إلى "أرض إسرائيل" لم تكن صنيعة منظمة "لحي" ولم يخترعها شتيرن بل تعود جذورها إلى ثمانية رجال إجتمعوا في شقة عبارة عن غرفة واحدة تطل على حقل برتقال في مدينة يافا في 29 سبتمبر 1907، أي بالتحديد قبل سبعة وثلاثين عاماً من نافورة الدماء التي إنطلقت من رأس ويلكين. حينذاك، كانت فلسطين لا تزال جزءاً من الدولة العثمانية، وكان قد استأجر تلك الغرفة مهاجر روسي يدعى يتسحاق بن تصڤي جاء إلى فلسطين شأنه شأن باقي زملائه السبعة الآخرين في الغرفة الذين كانوا قد غادروا هم ايضا الامبراطورية الروسية، وكانوا جميعاً صهاينة ملتزمين تبنوا فكرة "الصهيونية السياسية" لهرتسل وزادوا عليها "بدلاً من إنتظار أن يعطينا العالم وطناً يجب أن نعمل على بناء وطننا بأنفسنا عبر العودة إلى فلسطين والعمل في الأرض وجعل الصحراء تزهر وذلك كحق تاريخي لنا والدفاع عن هذا الحق بكل قوة".

ويضيف برگمن أن هذه الإستراتيجية وضعت الصهاينة الملتزمين في مواجهة مباشرة مع معظم اليهود الذين كانوا أساساً يعيشون في فلسطين كأقلية صغيرة في الأرض العربية، وكانوا بمعظمهم يعملون كباعة متجولين أو طلبة مدارس دينية أو موظفين في الإدارة العثمانية، وكان هؤلاء قانعين بما هم عليه من حياة عبر التذلل والرشوة والتسويات التي كانت تعطيهم نسبة عالية من السلام والأمن في حياتهم.

ويتابع الكاتب، لم ترق تلك الحياة لبن تصڤي وللقادمين الجدد لأنهم وجدوا أن الكثير من اليهود كانوا يعيشون في العوز، ولا يملكون ما يدافعون به عن أنفسهم، وبطبيعة الحال كانوا تحت رحمة الغالبية العربية ومزاجية المسؤولين العثمانيين الفاسدين، وما وجده بن تصڤي وصحبه أسوأ الأمور، هو إعتماد اليهود على حراس عرب لحماية مستوطناتهم، وهؤلاء كانوا بدورهم يتواطأون مع جماعات عربية لمهاجمة المستوطنات. وقد اعتبر بن تصڤي وصحبه أن هذا الأمر غير مقبول ولا يحتمل، وقد كان بعض صحبه أعضاء في حركات ثورية يسارية روسية قبل القدوم إلى فلسطين. إحدى هذه الحركات كانت "نارودنيا فوليا" أي "ارادة الشعب"، وهي منظمة سرية متطرفة ضد القيصر في روسيا وتعتمد تكتيكات الإرهاب ومن ضمنها الإغتيال. وقد أدى فشل الثورة في روسيا عام 1905 إلى إحباط العديد من الثوريين والديمقراطيين الإشتراكيين والليبراليين، ما جعلهم ينزحون إلى فلسطين لـ"إعادة" بناء الدولة اليهودية.

بن تصڤي وصحبه السبعة القادمين من روسيا القيصرية، كانوا فقراء للغاية بالكاد يحصلون على قوت يومهم عبر العمل المضني في الحقول وبساتين الليمون، وغالباً ما يناموا جائعين، ولكنهم كانوا فخورين بكونهم صهاينة، وكانوا يؤمنون أنه لبناء دولتهم يجب أن يبدأوا بالدفاع عن أنفسهم بأنفسهم، وهكذا فقد سار هؤلاء فرادى أو كل اثنين معاً، ليلاً في شوارع يافا، وتوجهوا إلى تلك الغرفة في 29 سبتمبر 1907 لتأسيس أول مجموعة يهودية محاربة في التاريخ الحديث، وتعاهدوا في ما بينهم أنه "لن يبقى اليهودي في صورة الضعيف والمضطهد في أي مكان في العالم، ووحدهم اليهود سيدافعون عن اليهود". وأطلقوا على مجموعتهم إسم "بار گيورا" تيمناً باسم قائد ثورة اليهود ضد الامبراطورية الرومانية في القرن الأول بعد الميلاد وتبنوا شعار "بالنار والدم سقطت يهودا وبالنار والدم ستنهض يهودا".

ويختم رونين برگمن هذا الفصل بالقول "صحيح أن يهودا ستنهض وسيصبح بن تصڤي يوماً ما الرئيس الثاني لدولة إسرائيل، ولكن قبل ذلك، سيكون هناك الكثير من النيران والكثير من الدماء".

التاريخ السري للإغتيالات.. ماذا فعلت الهاگاناه بالإنگليز

عناصر الهاگاناه يقتادون فلسطينيين خارج بيوتهم

يقول رونين برگمن أن منظمة بار گيورا كانت في بدايتها حركة شعبية، ولكن مع مجيء المزيد من المهاجرين اليهود إلى فلسطين من روسيا واوروبا الشرقية (بمعدل 35 الف مهاجر سنويا بين العامين 1905 و1914) حاملين معهم الفلسفة الصهيونية نفسها اخذت المنظمة تعيد تركيب تنظيمها لتصبح منظمة اكثر عسكرة تحت اسم "الحرس" او "هاشومير" باللغة العبرية. وبدءا من العام 1912 كانت تتولى المنظمة حراسة 14 مستوطنة يهودية واخذت تطور قدراتها لتصبح هجومية اكثر منها دفاعية وذلك في اطار ما كانت تعتبره الحركة الصهيونية حربا لا بد واقعة من اجل السيطرة على كل فلسطين، وبالتالي، رأت "هاشومير" نفسها النواة التي سيبنى عليها لاحقا الجيش اليهودي وكل وكالات استخباراته.

راح عناصر "هاشومير" يغيرون على القرى والبلدات الفلسطينية لـ"معاقبة" المواطنين الذين تسببوا بالاذى لليهود، وذلك اما بضربهم او باعدامهم، ولم تتورع المنظمة عن استخدام قوتها ضد يهود تشتبه بتعاونهم مع العثمانيين. وفي العام 1920 طورت "هاشومير" نفسها شكلا ومضمونا لتصبح تحت اسم قوات الدفاع اي "الهاگاناه" باللغة العبرية.

وقبل مضيه قدما في سرده التاريخي، يورد برگمن نبذة عن حياة ديڤيد بن گورين قائلا انه ولد عام 1886 في پولندا تحت اسم ديڤيد يوسف، وبدأ في سن مبكرة يسير على خطى والده كناشط صهيوني وهاجر إلى فلسطين عام 1906 حيث انه بفضل الكاريزما التي كان يتمتع بها، وعلى الرغم من صغر سنه، اصبح احد ابرز قادة المجتمع اليهودي، عندها، غيّر اسمه ليصبح ديڤيد بن گوريون تيمناً باحد قادة الثورة اليهودية على الامبراطورية الرومانية.

"الهاگاناه".. وأولادها

ويقول برگمن ان "الهاگاناه" تأثرت كثيرا بالروح العدوانية التي كانت تتمتع بها منظمة "هاشومير"، ولم تتورع عن قتل يهود معارضين لها. ففي يونيو 1924 قتل اعضاء من "الهاگاناه" في احد شوارع يافا يعقوب إسرائيل دي هان، اليهودي الحريدي (يهود متطرفون)، وقد اعتبرت "الهاگاناه" إن دي هان معاد للصهيونية، وجاءت عملية اغتياله عشية سفره المقرر إلى بريطانيا لثنيها عن وعدها لليهود بدولة لهم في فلسطين (وعد بلفور). وقد صدر قرار اغتيال يعقوب دي هان عن يتسحاق بن تصڤي الذي اصبح احد ابرز قادة "الهاگاناه".

لم يرض بن گوريون عن عملية الاغتيال هذه، واعتبر ان هكذا عمليات تبعد الدعم البريطاني لدولة اليهود. وينقل برگمن شهادة لقائد "الهاگاناه" إسرائيل گاليلي يقول فيها إن بن گوريون رفض في اكثر من مناسبة اعطاء الموافقة على اغتيال شخصيات عربية مثل القائد الفلسطيني الحاج أمين الحسيني واعضاء اخرين في اللجنة العربية العليا، كما رفض قتل بريطانيين بينهم مسؤول رفيع في سلطات الانتداب البريطاني كان يضع العراقيل امام مشاريع الاستيطان اليهودي.

لم ترق مواقف بن گوريون للعديد من قادة واعضاء "الهاگاناه"، ومن ضمنهم إبراهام تيهومي الذي نفذ عملية اغتيال يعقوب دي هان، فانشق هو وعدد من قادة واعضاء "الهاگاناه" عن المنظمة في عام 1931، واسّسوا منظمة "إرگون تسڤاي لئومي"، اي "المنظمة العسكرية الوطنية" التي اعتمدت اختصارا لاسمها كلمة "ايتزال"، أما الإنگليز، فقد أسموها "ايزل" او "إرگون". تولى قيادة هذه المنظمة اليمينية المتطرفة في اربعينيات القرن الماضي مناحم بيگن الذي اصبح في العام 1977 رئيسا للوزراء.

يقول برگمن ان بن گوريون كان لا يزال على موقفه الرافض للاغتيال والقتل المتعمد إنتقاماً لضحايا "المحرقة"، وصرح اكثر من مرة "ان الانتقام الآن لا قيمة له، فهو لن يعيد الحياة للملايين الذين قتلوا". لكن العديد من قادة "الهاگاناه" كانوا يعتبرون الاغتيال والقتل المتعمد تحقيقاً للعدالة التاريخية وردعاً لاية عمليات قتل لليهود في المستقبل، وخطط هؤلاء لعمليات انتقامية ضد النازيين ومن تحالف معهم.

الأرشيف النازي

بعد الحرب العالمية الثانية، تأسست داخل "اللواء اليهودي"، الذي كان الانگليز قد اسّسوه خلال الحرب، وحدة سرية بأمر من القيادة العليا في "الهاگاناه" ومن دون علم السلطات الانگليزية، واسميت "گمول" اي "التعويض"، ومهمتها الانتقام من رجال المخابرات النازية الالمانية "إس‌إس" الذين شاركوا بأنفسهم في عمليات قتل اليهود.

وينقل برگمن عن موردخاي گيشون قوله بعدما كُسر جدار الصمت في الحديث عن تلك المرحلة "بحثنا عن السمكة الكبيرة، كبار المسؤولين النازيين الذين خلعوا بزاتهم العسكرية وعادوا لمنازلهم".

عمل عملاء "گمول" بسرية تامة في اطار عملهم داخل "اللواء اليهودي"، حتى گيشون نفسه حمل خلال مطاردة النازيين هويتين مختلفتين، واحدة كمواطن الماني واخرى كضابط إنگليزي برتبة رائد. وبصفته مواطناً المانياً، تمكن غيشون من انقاذ الارشيف النازي في مدن ترافيزيو وفيللاخ وكلاگنفورت بعد ان اشعل النازيون النار فيه، ولكن گيشون وصل اليه قبل ان تلتهم النيران كل شيء فيه وحصل على معلومات مهمة منه. وبصفته ضابطاً انگليزياً، حصل گيشون على معلومات كثيرة من الشيوعيين اليوغوسلاڤ ومن ضباط مخابرات يهود امريكيين.

استخدم عملاء "گمول" أيضاً عمليات الابتزاز والاكراه للحصول على المعلومات، ففي يونيو 1945، وجد هؤلاء العملاء في ترافيزيو زوجين المانيين من اصول بولندية، كانت الزوجة تعمل على نقل ممتلكات مسروقة من اليهود من النمسا إلى ايطاليا والمانيا في ما كان زوجها مساهماً في ادارة مكتب اقليمي الگستاپو". فعرض الضباط اليهود عليهما التعاون او الموت. هنا ينقل برگمن عن يسرائيل كارمي (رئيس الشرطة العسكرية الإسرائيلية بعد قيام دولة "إسرائيل") قوله "لقد كلفت الزوج بإعداد لائحة تضم كبار المسؤولين النازيين الذين عرفهم وكانوا من "الگستاپو" وجهاز "إس‌إس"، تتضمن الاسماء وتواريخ الميلاد ومستوى التعليم والمواقع التي تولوها.. فكانت النتيجة مذهلة، لقد حصلنا على لوائح فيها العشرات من الاسماء تولى عناصر "غمول" ملاحقتها ومنهم من كانوا جرحى في مستشفيات محلية تحت اسماء وهمية، ومن هؤلاء تم الحصول ايضاً على معلومات اضافية كثيرة بعد ان كان يعدهم عناصر "گمول" إنهم ان تعاونوا، لن يتعرضوا لأذى ولكن بعد ان تستنفذ منهم كل معلوماتهم، كان يصار إلى اعدامهم واخفاء جثثهم".

تولى گيشون شخصياً الكثير من عمليات القتل التي كانت تبدأ أولاً بالتحقق من اسم الهدف وتحديد مكانه وبعدها الحصول على كل تفاصيل حركته. يقول غيشون المولود في المانيا "لم يشتبه احد بي فقد كانت اوتاري الصوتية من اصول برلينية. كنت اقف عند محل بقالة او قرب ملهى او حتى كنت اقرع الباب لنقل التحيات إلى شخص ما، في معظم الاحيان، كان الهدف يرد عندما اناديه باسمه الحقيقي او يلزم الصمت، وهذا كان بمثابة تأكيد لمعلوماتي، وما ان يتم التأكد من الهوية حتى كنت ارسم خارطة تفصيلية لمنزل الهدف او للمنطقة التي ستتم تصفيته فيها".

كانت عملية الاغتيال تتم بواسطة فرق لا يتجاوز عديد الواحدة منها الخمسة افراد، وكان هؤلاء في معظم الاحيان عند لقائهم مع الهدف يرتدون الزي العسكري البريطاني حيث يقولون للهدف إنهم يريدون اخذه للتحقيق، فكان الهدف في معظم الاحيان يمضي معهم من دون اعتراض. يقول احد افراد هذه الفرق وإسمه شالوم غيلادي في شهادة له وجدها برگمن في ارشيف "الهاگاناه": "كان الهدف يقتل فوراً وفي احيان اخرى يصار إلى سوقه إلى مناطق نائية حيث تتم تصفيته".

إبادة "طائفة المعبد"

ويورد برگمن بعض نماذج الاغتيال والقتل المتعمد التي نفذها عملاء "گمول" والتي تقشعر لها الابدان وبعضها يتضمن اغتصاب ضابطة نازية قبل اعدامها. ويقول ان هذه العمليات استمرت قرابة ثلاثة اشهر قتل خلالها عملاء "گمول" ما بين مئة إلى مئتي شخص، ويقول مؤرخون لعمل هذه الوحدة السرية انه بعد متابعة دقيقة للذين قتلوا تبين ان ابرياء إستهدفوا، اما بسبب اخطاء في الهوية او بسبب استغلال البعض هذه الوحدة لتنفيذ تصفيات تخدم مصالح طرف ما ضد طرف اخر. وقد تم وقف نشاط "گمول عندما اكتشف الانكليز ما يحصل من جراء الشكاوى العديدة التي تلقوها عن اختفاء افراد من عائلات المانية، لكن الانگليز لم يحققوا في اي من هذه العمليات بل اكتفوا بنقل "اللواء اليهودي" بعيدا عن المانيا إلى كل من بلجيكا وهولندا. كما اصدرت قيادة "الهاگاناه" امرا بوقف عمليات الانتقام.

يقول برگمن إن عمليات القتل التي كان ينفذها عناصر "گمول" انتقلت من اوروبا إلى داخل فلسطين حيث مكان وجود العديد من ابناء طائفة "المعبد" الالمانية. هؤلاء الألمان كانت السلطات البريطانية قد ابعدتهم من فلسطين مع بداية الحرب العالمية بسبب تعاطفهم مع النازية، وقد انضم الكثير منهم للجهود النازية في الحرب وشاركوا في تصفية اليهود، ولكن مع انتهاء الحرب، عاد العديد منهم إلى فلسطين. وكان زعيم هذه الطائفة الالمانية في فلسطين صناعي غني يدعى غوتهيلف فاغنز شارك في اعمال الجيش الالماني و"الگستاپو" خلال الحرب.

في 22 مارس 1946، اغتيل گوتهليف ڤاگنر في مدينة تل ابيب على ايدي مجموعة قتلة محترفين بأمر من القيادة العليا لـ"الهاگاناه"، واذيع الخبر في اليوم التالي عبر الاذاعة السرية لـ"الهاگاناه"، مستتبعاً بالقول "فليكن معلوماً ان لا مكان لنازي ان تطأ قدمه تراب إسرائيل". بعدها قتلت فرق اغتيال "الهاگاناه" اثنين من ابناء طائفة "المعبد" في منطقة الجليل واثنين اخرين في منطقة حيفا. هذه العمليات ادت إلى اختفاء ابناء طائفة المعبد. وقد اصبح مقر طائفتهم في تل ابيب لاحقاً مقر قيادة الجيش الإسرائيلي واجهزة مخابراته واصبح رافائيل ايتان (كان عمره 17 سنة عندما نفذ عملية اغتيال ڤاگنر) احد مؤسسي وحدة الاغتيال في جهاز "الموساد".

إخراج بريطانيا من فلسطين

يقول برگمن ان تصفية طائفة "المعبد" في فلسطين شكل تحولاً كبيراً، فمنذ ذلك التاريخ اعطى كل من بن گوريون و"الهاگاناه" سياسة الاغتيال وحرب العصابات أولوية على ما عداها في سياق السعي لاقامة الدولة اليهودية. وفي سياق ترجمة هذا التحول التاريخي، يقول برگمن، أنشأت وحدات "الهاگاناه" كتيبة خاصة لشن عمليات "ارهاب شخصي"، وهو تعبير استخدم في ذلك الوقت لوصف عمليات القتل المتعمد لضباط ومسؤولين انگليز في مكتب التحقيقات الجنائية الذي كان يطارد المنظمات الصهيونية المتطرفة وتفجير مراكز الاستخبارات البريطانية والمحاكم البريطانية التي تصدر احكاماً ضد يهود متطرفين.

وقد تنبأ بن گوريون حينها، بحسب برگمن، بان الدولة اليهودية الناشئة ستكون عاجلاً أم آجلاً امام مواجهة حربية مع العرب في فلسطين ومع احتمالات مواجهة مع جيوش عربية في الدول المجاورة. لذلك، بدأت قيادة "الهاگاناه" التحضير بشكل سري لحرب واسعة النطاق، وبينها إطلاق حملة إغتيالات ضد شخصيات قيادية فلسطينية، وهذه العملية اسميت "زرزير" اي الزرزور (احد انواع الطيور).

"لقد قتلونا"

وفيما كانت اوامر "الهاگاناه" قيد التحضير، باشرت مجموعات صهيونية متطرفة بتنفيذ عمليات الاغتيال والقتل المتعمد في مسعى لاخراج القوات البريطانية من فلسطين. ومن ابرز قيادات هذه المجموعات اسحاق شامير الذي كان يقود منظمة "ليهي"، وقد اصدر الاوامر ليس فقط بقتل مسؤولين من الانتداب البريطاني في فلسطين من ضمنهم رئيس الشرطة في القدس مايكل جوسف ماكونيل والمندوب السامي البريطاني هارولد ماك مايكل بل ايضا مسؤولين بريطانيين في دول اخرى كان يعتبر إنهم يشكلون تهديدا لاهدافه السياسية، وبينهم والتر إدوارد گينيس الذي كان يعرف باسم لورد موين والذي كان يشغل منصب وزير الدولة البريطاني المقيم في القاهرة التي كانت حينها تحت الحكم البريطاني. وقد اصدر شامير الامر بقتل لورد موين وارسل اثنين من اعضاء منظمته، إلياهو حكيم وإلياهو بت-صوري، إلى القاهرة حيث انتظرا امام منزل الهدف وعند خروجه من المنزل اطلقا عليه وعلى سائقه النار فامسك موين بحنجرته المصابة وصرخ "لقد قتلونا" قبل ان يسقط في مقعده مضرجا بدمائه، وكانت خطة شامير ان يغادر القتلة منطقة العملية بسيارة ولكنهما غادرا بدراجة هوائية ما أتاح للشرطة القبض عليهما حيث حوكما واعدما بعد ستة اشهر.

ان نتائج عملية الاغتيال هذه، يقول برگمن، لم تأت كما توقع لها شامير، اذ ان رئيس الوزراء البريطاني حينها وينستون تشرشل، وهو من ابرز المتحمسين لدعم قيام الدولة اليهودية، كان متوجهاً إلى قمة يالطا حينها مع الرئيسين الاميركي فرانكلين روزفلت والروسي يوسف ستالين حاملا معه طلبا بدعم قيام الدولة اليهودية، لكن عملية الاغتيال جعلته يعلن أنه سيعيد النظر بموقفه.

فندق الملك داود

بعد عملية "ليهي" في القاهرة، امر مناحم بيگن الذي كان يقود منظمة "إرگون" بتفجير فندق الملك داود بالقدس في 22 يوليو 1946 بحوالي 350 كيلوگراما من المتفجرات، وكان الفندق مقرا لادارة الانتداب والمخابرات البريطانية في فلسطين وقد قتل في التفجير 91 شخصاً واصيب 45 آخرين، بينهم عدد من اليهود. اثارت العملية نقاشات في اوساط القيادات اليهودية في فلسطين، إذ اعلن بن گوريون ان "إرگون" باتت عدواً للشعب اليهودي. ومع ذلك، واصل المتطرفون عملياتهم ضد الانگليز، فبعد ثلاثة اشهر من تفجير الفندق، قامت خلية سرية تابعة لمنظمة "ليهي" بتفجير السفارة البريطانية في روما من دون علم وموافقة بن گوريون، ولكن نظراً لان العملية تمت ليلاً، سقط فقط ثلاثة جرحى، احدهم حارس السفارة واثنان من الايطاليين المارة. بعد العملية، ارسلت منظمة "ليهي" رسائل بريدية مفخخة لكل عضو في الحكومة البريطانية في لندن، لكن اياً من هذه الرسائل لم تنفجر وانتهت العملية بفشل ذريع علما انها اوصلت لبريطانيا رسالة قوية، وقد وصفت المخابرات البريطانية، بحسب وثائق ارشيفها، الارهاب الصهيوني بانه الخطر الاكبر على الامن القومي البريطاني، وحتى انه اكثر خطرا من الاتحاد السوفيتي نفسه، وتقول هذه الوثائق ان خلايا تابعة لمنظمة "إرگون" في لندن كانت تحضر لهجمات ضد مسؤولين بريطانيين، بينهم وزير الخارجية إرنست بيڤن ورئيس الوزراء نفسه كلمنت أتلي. وتحصي وثائق المخابرات البريطانية 176 قتيلاً بين موظفين في ادارة الانتداب البريطاني ومدنيين انكليز في فلسطين. "اعمال القتل هذه هي التي ادت إلى خروج البريطانيين من فلسطين، ولولاها لما قامت دولة إسرائيل"، على حد تعبير ديڤيد شومرون.

التاريخ السري للإغتيالات: إسرائيل ترصد الإتصالات منذ الأربعينيات

يبدأ رونين برگمن هذا الفصل من الكتاب بقرار الجمعية العامة للامم المتحدة تقسيم فلسطين إلى دولتين، واحدة منهما لليهود وذلك في 29 نوفمبر 1947 (دخل حيز التنفيذ بعد ستة اشهر من صدوره). تزامن الاعلان مع عاملين اساسيين اديا إلى قيام الكيان الصهيوني، اولهما، اكتمال البنية التحتية للحركات الصهيونية كنواة لقيام الاجهزة الامنية والعسكرية والاستخباراتية والادارية للدولة، مقابل عدم وجود اية نواة لقيام دولة فلسطين لجهة التنظيم والادارة، اذ كان الجانب الفلسطيني بعيدا كل البعد عن اية اشكال تنظيمية بالرغم من الحماسة الوطنية، ثانيها، تحالف الحركات الصهيونية مع قوات الحلفاء في الحرب العالمية الثانية ومشاركتها في المعارك من خلال لواء اليهود في الجيش البريطاني مقابل مراهنة الفلسطينيين على العلاقة مع ألمانيا النازية التي خسرت الحرب. في سياقه السردي، يُظهر برگمن الفلسطينيين بصورة المعتدي عبر عملية السرد القائمة على ان كل ما ارتكبته العصابات الصهيونية كان بمثابة ردة فعل على اعمال عدائية فلسطينية، متناسياً ان العدد الاكبر من اليهود في فلسطين هو من المهاجرين الذين اتوا واستوطنوا على اراض يملكها فلسطينيون.

الحرب الأهلية

يقول برگمن ان الرد الفلسطيني على القرار الدولي جاء بعد يوم واحد من صدوره، اذ شنّ القائد الفلسطيني حسن سلامة مع مجموعة من رفاقه هجوماً على حافلتين تقلان يهوداً قرب مستوطنة بتاح تكفا وسط فلسطين، فتسببوا بقتل ثمانية اشخاص وجرح آخرين، لتنطلق بعدها ما يصفها برگمن بالحرب الاهلية بين اليهود والفلسطينيين، فيما يصح توصيفها بأنها كانت حرباً بين اصحاب الارض ومهاجرين قادمين من مختلف اصقاع المعمورة. يقول مؤلف الكتاب ان حسن سلامة وقف بعد هذا الهجوم في الساحة الرئيسية لمدينة يافا الساحلية يخاطب جمهور الفلسطينيين قائلاً "سيكون هناك حمام دم في فلسطين". يضيف برگمن "لقد وفى سلامة بوعده إذ قتل في الاسبوعيين التاليين 48 يهودياً وجرح 155 اخرين". وكان سلامة حينها يقود قوة مؤلفة من حوالي 500 مقاتل، بحسب برگمن، واصبح ينظر اليه كقائد وطني بطل بلغت هجمات مجموعته قلب تل ابيب.

يقول برگمن انه في ذلك الوقت، كان ديڤيد بن گوريون يعتبر الفلسطينيين اعداء والبريطانيين رعاة لهم حتى فترة تنفيذ القرار الدولي في مايو 1948. ويضيف ان تسليح وحدات "الهاگاناه" كان ضعيفاً حينها وفي مستودعات سرية بعيداً عن اعين سلطات الانتداب البريطاني. لكن برگمن يناقض نفسه عندما يقول ان تدريبات عناصر "الهاگاناه" كانت ضعيفة، ذلك انه يقول في مكان آخر ان النواة الاساسية خدمت في صفوف الجيش البريطاني في الحرب العالمية الثانية، ولكن كان العدد الاكبر من هؤلاء العناصر، من المهاجرين اليهود الذين نجوا من "الهولوكوست"، وبينهم من خدموا في صفوف الجيش الاحمر السوڤيتي!

ويشرح برگمن ان بن گوريون لاقى قناعة إستخباراتية غربية ولا سيما امريكية مفادها ان الفارق العددي لصالح الفلسطينيين سيؤدي إلى انهيار القوات اليهودية. ولكن بن غوريون بالرغم من ذلك كان واثقا من "النصر".

"الهاگاناه" وخطة "الزرور"

يشرح الكاتب كيف إختارت وحدات النخبة في "الهاگاناه" اهدافاً ذات تأثير قوي على الفلسطينيين. ومن ضمن هذه الخطة، التي اطلق عليها اسم "سترلنگ" (الزرور)، اختارت "الهاگاناه" 23 قائداً فلسطينياً ليكونوا هدفا لعملياتها. وينقل برگمن عن قائد قوات "الهاگاناه" حينها ياكوڤ دوري قوله في وصف الخطة انها كانت مؤلفة من ثلاث طبقات: "قتل القادة الفلسطينيين؛ او اعتقالهم؛ وضرب المراكز السياسية والاقتصادية والصناعية للفلسطينيين". وكان على رأس قائمة الاهداف حسن سلامة نفسه الذي كان يعمل تحت قيادة مفتي القدس الحاج أمين الحسيني الذي قاد الانتفاضة الفلسطينية في العام 1936.

وقد غادر سلامة والحسيني فلسطين إثر اعلان سلطات الانتداب البريطاني انهما بين اكثر الاشخاص المطلوبين. ويزعم برگمن ان القائدين الفلسطينيين الحسيني وسلامة وحّدا جهودهما في عام 1942 مع اجهزة الاستخبارات النازية والإس‌إس لتنفيذ عملية عسكرية ضخمة تحت اسم عملية أطلس والتي كانت تقتضي انزال مجموعات من المظليين الالمان والفلسطينيين في تل ابيب لتسميم مصادر المياه في تل ابيب وقتل اكبر عدد ممكن من اليهود، وقد فشلت هذه الخطة فشلاً ذريعاً بعد ان كانت القوات البريطانية قد فكت شيفرة "أنيگما" الالمانية، فاعتقلت القائد سلامة واربعة من رفاقه اثر هبوطهم في صحراء مدينة أريحا في 6 أكتوبر عام 1944.

إغتيال حسن سلامة أولوية

بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، كان القسم السياسي للوكالة اليهودية العامل في اوروبا (وهو فعلياً جهاز استخبارات) يضع نصب عينيه ملاحقة الحسيني وتتبع حركاته وقتله وقد نفذ العديد من المحاولات الفاشلة بين العامين 1945 و1948 وكان الهدف المعلن هو الانتقام منه لتحالفه مع النازيين خلال الحرب ولكن الهدف المضمر هو دفاعي بإمتياز، بحسب برگمن، فقد كان الحسيني، وعلى الرغم من وجوده خارج فلسطين، ناشطاً في تنظيم الهجمات ضد المستوطنين اليهود في شمال فلسطين وفي محاولات عدة لاغتيال قادة يهود ولكن نظراً لضعف استخباراته وسوء التدريبات لعناصره باءت كل هذه المحاولات بالفشل.

كانت مطاردة سلامة أول عملية لـ"الهاگاناه" يدمج فيها العامل البشري مع العامل الالكتروني وكانت "عملية واعدة"، بحسب برگمن، فقد تمكنت وحدة من استخبارات "الهاگاناه" المسماة حينها "شاي" بقيادة إيسر هارئل من التعليق على خطوط الهاتف الرئيسية التي توصل مدينة يافا بباقي انحاء البلاد وذلك تحت احدى المدارس الزراعية، ومن خلال رصد المكالمات بين النشطاء العرب، سمعت الوحدة حسن سلامة يقول في احدى المكالمات انه سيأتي إلى يافا، فنصبت له كميناً على الطريق الذي سيسلكه حيث تم رمي جذع شجرة لاعاقة حركة سيارته. لكن العملية فشلت شأنها شأن عمليات عديدة اخرى قبل ان يقتل سلامة في مواجهة حصلت لاحقاً.

القتل بالأنابيب المعدنية

يقول برگمن انه من العمليات الناجحة كانت تلك التي نفذتها وحدات النخبة في "الهاگاناه" التي كانت تتبع عملياً لميليشيا "بالماخ" الجيدة التدريب والتسليح. هذه الميليشيا كانت تتميز بكتيبتين هما "باليام" (الكتيبة البحرية) و"مفرزة المستعربين" التي كان عناصرها يتنكرون بالزي العربي. وينقل الكاتب عن إبراهام دار، احد عناصر وحدة "باليام"، قوله ان اولى مهام وحدته كانت السيطرة على ميناء حيفا فور مغادرة القوات البريطانية البلاد والاستيلاء على الاسلحة والذخائر التي يخلّفها البريطانيون وراءهم ومنع الفلسطينيين من القيام بذلك. وينقل الكاتب عن إبراهام دار أيضاً قوله انه واثنان من وحدته تنكروا بزي جنود بريطانيين والتقوا بوسطاء فلسطينيين حيث زعموا إنهم يودون بيع كميات من السلاح المسروق، وحددوا لهم موعداً لعملية التبادل قرب طاحونة احدى القرى الفلسطينية، حيث كمنت مجموعة اخرى من وحدته لهم وانقضت على الوفد الفلسطيني لتقتل اعضاءه بانابيب معدنية كي لا تستخدم الاسلحة النارية التي كان كان يمكن لأصواتها أن تفضحهم.

اما عن "مفرزة المستعربين"، فيقول برگمن ان "الهاگاناه" انشأتها عندما تيقنت انها بحاجة لخلايا من المقاتلين المدربين جيداً للعمل خلف خطوط العدو، وكانت عملياتها تتضمن جمع المعلومات وتنفيذ عمليات تخريب للمنشآت وعمليات اغتيال. وكان معظم عناصر هذه الوحدة من اليهود المهاجرين من دول عربية وتضمنت تدريباتهم تكتيك الحرب الانصارية والتفجيرات بالاضافة إلى التعمق في دراسة الاسلام والتقاليد العربية.

مفرزة المستعربين

ويروي برگمن كيف اثمر التعاون بين "مفرزة المستعربين ("مستعرڤيم")" و"پاليام" العديد من العمليات الناجحة، ومنها محاولة اغتيال الشيخ نمر الخطيب رئيس المنظمة الإسلامية الفلسطينية الذي كان له تأثيره الكبير في الشارع الفلسطيني، وفي فبراير 1948، كمنت قوة مشتركة من الوحدتين للخطيب، وتمكنت من اصابته بجروح خطرة أدت إلى نقله خارج فلسطين حيث لم يلعب أي دور بعدها. ويروي برگمن نقلا عن إبراهام دار كيف تمكنت قوة مشتركة من الوحدتين من تفجير سيارة اسعاف كان الفلسطينيون، بحسب زعمه، قد فخّخوها بالمتفجرات بهدف تفجيرها في الحي اليهودي المكتظ في حيفا.

يقول برگمن أنه قبل اعلان بن گوريون قيام "دولة إسرائيل" في 14 مايو عام 1948، كان الأخير قد عمل بصورة حثيثة على نسج شبكة علاقات واسعة مع مصادر في الدول العربية، وقبل الاعلان بثلاثة أيام، ابلغه رئيس القسم السياسي للوكالة اليهودية (قسم المخابرات في الوكالة) ان الدول العربية قرّرت شن هجوم واسع على المستوطنات اليهودية تزامناً مع الاعلان. وثبُت لاحقاً ان هذه المعلومة كانت دقيقة، اذ بعد ساعات من اعلان الدولة، وفي منتصف الليل، شنّت سبعة جيوش عربية هجوماً واسع النطاق على المستوطنات حققت خلاله نتائج مهمة في البداية وتسببت بالكثير من الخسائر البشرية، ولكن المستوطنين اليهود تمكنوا من استيعاب الصدمة واعادة تجميع انفسهم وخطوط دفاعهم وإنتقلوا إلى الهجوم. وبعد قرابة الشهر من المعارك وبوساطة من الامم المتحدة عبر مبعوثها الخاص الكونت فولك برنادوت، توصل الطرفان إلى وقف لاطلاق النار.

إنشاء الوكالات الثلاث

بعد استئناف القتال، كانت الصورة قد انقلبت رأساً على عقب لمصلحة المستوطنين بفضل استخباراتهم القوية وادارتهم المنظمة للقتال. وبذلك، تمكن المستوطنون ليس فقط من صد الهجمات العربية بل التوسع في اراض فلسطينية لم يشملها القرار الدولي بالتقسيم.

ويستطرد برگمن هنا بالقول ان بن غوريون لم تغره الانتصارات المحققة، فأخذ يعمل على بناء أجهزة تجسس محترفة تتناسب مع "قيام الدولة الشرعية"، ولم يواجه بن گوريون الكثير من العناء في إقناع قادته بذلك خلال الاجتماع الذي عقده في 7 يونيو (أي بعد ثلاثة أسابيع من إعلان الدولة). فتقرر خلاله انشاء ثلاث وكالات، الاولى، هي قسم الاستخبارات التابع للقيادة العامة لقوات الدفاع الإسرائيلية والتي عرفت اختصارا باسم "أمان"؛ الثانية، هي وكالة الامن العام وعرفت اختصارا باسم "شين بيت" وكانت مهماتها محصورة بالامن الداخلي وهي على شاكلة "إف بي آي" الامريكية و"إم آي فايڤ" البريطانية (تم تغيير اسم هذه الوكالة لاحقا ليصبح وكالة الامن الإسرائيلي او "الشاباك")؛ الثالثة، هي القسم السياسي التابع للوكالة اليهودية والمتخصص باعمال الاستخبارات الخارجية وجمع المعلومات.

"إنهض واقتل أولاً".. بن گوريون يأمر بإغتيال رياض الصلح

يقول برگمن إن أولى الخطوات التي نفذت في هذا الإطار كانت إستيعاب عناصر وكوادر وكالات الهاگاناه في الأجهزة الأمنية والإستخبارية المستحدثة في الكيان العبري الناشىء، وينقل عن إيسر هاريل، أحد الآباء المؤسسين للأجهزة الإستخبارية الإسرائيلية قوله في وصف تلك السنوات الأولى من عمر الكيان "كانت سنوات صعبة، كان علينا أن ننشىء بلداً وندافع عنه، ولكن التركيب التنظيمي للوكالات الأمنية وتوزيع العمل في ما بينها تم من دون أحكام منظمة ومن دون النقاش مع الأشخاص الملائمين وفي كثير من الأحيان بطريقة مؤامرتية". ويعلق الكاتب هنا بالقول "في الأوضاع العادية، يقوم الإداريون بتحديد أطر العمل والحدود الفاصلة بين الوكالات، ويقوم العملاء الميدانيون بتكييف مصادر معلوماتهم ومراكمتها مع مرور السنين، ولكن إسرائيل لم تكن تملك هذا الترف، اذ كان عليها أن تبني عملياتها الإستخبارية في خضم مواجهة قاسية وتحت الحصار وفي قلب معركة الدفاع عن وجودها".

أولى التحديات التي واجهت عملاء ديڤيد بن گوريون في تلك المرحلة، يضيف برگمن، كان التحدي الداخلي، إذ كان هناك الكثير من منظمات اليهود اليمينيين المتطرفين الذين يرفضون سلطة بن گوريون، وخير مثال على ذلك ما عرف بموضوع "ألتالينا"، وهي سفينة أرسلتها منظمة أرگون" من أوروبا إلى إسرائيل وعلى متنها مهاجرين يهود وكميات من الأسلحة، وقد رفضت المنظمة تسليم الأسلحة للجيش الذي كان قد أُنشىء حديثاً، وأصرت على الإحتفاظ بها وتوزيعها على خلاياها. عرف بن گوريون من خلال عملائه في المنظمة بالأمر، فأمر بأن تصادر الأسلحة بالقوة، وعندما بدأ تنفيذ الأمر تطور إلى إشتباك بالنيران بين قوات الجيش وعناصر المنظمة، ما أدى إلى غرق السفينة ومقتل 16 عنصراً من المنظمة وثلاثة عناصر من الجيش. بعد هذا الحادث بوقت قصير، نفذت الأجهزة الأمنية حملة اعتقالات لعناصر المنظمة أدت إلى إعتقال أكثر من 200 شخص وبالتالي أدت إلى إنهاء وجودها.


خطة برنادوت

من التحديات الأمنية أيضاً، يقول برگمن، أن إسحاق شامير (الذي أصبح لاحقاً رئيساً للوزراء) وكل عناصر منظمة ليهي التي يقودها رفضوا ما وصفوه "السلطة المعتدلة" لبن گوريون، وذلك على خلفية الموقف من الخطة التي طرحها مبعوث الأمم المتحدة الكونت فولك برنادوت في صيف ذلك العام (1948) لإنهاء القتال مع العرب في فلسطين. رفض شامير ومنظمته الخطة وإتهم برنادوت بأنه تعاون مع النازيين إبان الحرب العالمية الثانية.

يذكر أن خطة برنادوت تضمنت حينذاك إعادة رسم حدود دولة إسرائيل بإعطاء معظم منطقة النقب والقدس للعرب ووضع ميناء حيفا ومطار اللد تحت السيطرة الدولية وإجبار الدولة اليهودية على إعادة 300 ألف لاجىء فلسطيني.

أثارت خطة برنادوت غضب شامير ومنظمة ليهي التي أصدرت تحذيرات شديدة اللهجة للمبعوث الدولي يقول أحدها "نصيحة للعميل برنادوت ارحل من بلادنا"، أما الإذاعة السرية للمنظمة فقد ذهبت أبعد من ذلك في تهديداتها لبرنادوت عبر نشرها بياناً يقول "سينتهي الكونت كما إنتهى اللورد (في إشارة إلى إغتيال مبعوث الإنتداب البريطاني لفلسطين لورد موين)". تجاهل الكونت برنادوت التهديدات وإستخف بها لدرجة أنه أمر المراقبين الدوليين بعدم حمل السلاح قائلاً لهم "علم الأمم المتحدة يحمينا"!

ناثان يلين-مور (وسط) وماتيتياهو شموئيلي‌ڤتس أمام سجن عكا، بعد اطلاق سراحهما في 1949

تولدت لدى شامير قناعة بأن بن گوريون سيوافق على خطة برنادوت فأمر بإغتيال المبعوث الدولي. وهكذا في 17 سبتمبر 1948، وبعد أربعة أشهر على قيام الدولة، وبعد يوم واحد من تقديم برنادوت خطته بصورة رسمية إلى مجلس الأمن الدولي، وبينما كان يتحرك في موكب مؤلف من ثلاث سيارات من نوع سيدان في إحدى ضواحي القدس، قطعت سيارة جيب الطريق عليه، فقفز منها ثلاثة شبان، إثنان منهم أطلقوا النار على إطارات السيارات، وفتح الثالث، واسمه يهوشوا كوهين، باب سيارة برنادوت وأطلق نيران رشاشه من نوع شمايزر إم بي-40، على من بداخلها، فاصابت طلقاته الرجل الجالس قرب الكونت، وهو كولونيل فرنسي إسمه أندريه سيروت، وأصابت الصلية الثانية الكونت مباشرة في صدره، فمات الإثنان على الفور لينتهي الهجوم في غضون ثوانٍ معدودة. ويصف ضابط الإتصال الإسرائيلي الذي كان في موكب الكونت، الكابتن موشيه هيلمان، العملية قائلاً "تماماً كالبرق والرعد كانت سرعة إطلاق خمسين طلقة"، ولم يجر إعتقال الجناة منفذي العملية أبداً، حسب قول برگمن.

حل منظمة ليهي

كانت عملية إغتيال الكونت أول إعتداء تتعرض له الأمم المتحدة بعد ثلاثة أعوام على إنشائها، وقد أدت إلى إحراج القيادة اليهودية، خاصة وأن مجلس الأمن الدولي أدان العملية، ووصفها بـ"العمل الجبان الذي قامت بتنفيذه مجموعة من المجرمين والإرهابيين في القدس". وقد علّقت صحيفة "نيويورك تايمز" على العملية بالقول "ما من ضرر كان يمكن أن تسببه الجيوش العربية للدولة اليهودية يفوق الضرر الذي تسببت به هذه العملية".

إعتبر بن گوريون أن "العملية المارقة" تشكل تحدياً لسلطته، وقد تقود إلى إنقلاب في البلاد أو إلى حرب أهلية، فأمر على الفور بإعتبار كل من منطمتي ليهي وأرگون منظمات خارجة على القانون، وأمر قائد جهاز الشين بيت إيسر هاريل بإعتقال كل عناصر ليهي، وعلى رأسهم اسحاق شامير نفسه، لكن الأخير لم يعتقل فيما جرى إعتقال العديد من أعضاء منظمته، وجرى التحفظ عليهم تحت الحراسة المشددة لفترة من الزمن.. وصولاً إلى إنهاء وجود هذه المنظمة، وكافأ بن گوريون هاريل بأن جعله رجل الإستخبارات الأول في البلاد.

ويصف برگمن هاريل بأنه رجل قصير القامة صلب ومتأثر بحركة الثورة البلشفية الروسية وإستخدامها عمليات التخريب وأنشطة حرب الأنصار والإغتيال، ولكنه كان ضد الشيوعية، وتحت إمرته حافظ جهاز الشين بيت على عمليات التجسس الداخلي ضد كل الخصوم السياسيين لبن گوريون، وواظب على وضعهم تحت المراقبة الدقيقة وكان هؤلاء الخصوم مروحة واسعة من قوى شيوعية ويسارية وإشتراكية إلى حزب "هيروت" اليميني الذي أنشأه عناصر من منظمتي أرگون وليهي المنحلتين.

بن گوريون يأمر بإغتيال الصلح

ينتقل برگمن من التحديات الداخلية لالدولة الوليدة إلى التحديات الخارجية، فيقول إن بن گوريون ووزير خارجيته موشيه شاريط كانا يعملان بقوة على صياغة السياسة التي يتوجب إتباعها مع العرب. وقد كان شاريط من أوائل المسؤولين الإسرائيليين الكبار الذين يعتقدون أن الدبلوماسية هي الطريقة الأفضل لتحقيق السلام الإقليمي وتأمين أمن البلاد. لذلك وقبل إعلان الدولة، أجرى شاريت إتصالات سرية مع ملك الأردن عبد الله (والد الملك حسين) ومع رئيس الوزراء اللبناني رياض الصلح اللذين كانا يلعبان دوراً كبيراً في تشكيل التحالف المناهض للدولة الجديدة ويساعدان الميليشيات الفلسطينية في شن هجمات دموية تسببت بعدد كبير من "الضحايا" اليهود.

بالرغم من موقف رياض الصلح المعروف بعدائه للدولة اليهودية، فإنه أجرى خلال عام 1948 عدة لقاءات في العاصمة الفرنسية باريس مع إلياهو ساسون أحد مساعدي موشيه شاريط "لمناقشة إمكانية عقد اتفاقية سلام"، كما يقول برگمن، وينقل عن ساسون قوله في إجتماع للحكومة الإسرائيلية إنه إذا كان لا بد من إتصالات مع العرب لإنهاء الحرب "فلا بد أن تكون هذه الاتصالات مع الذين في السلطة حالياً، مع هؤلاء الذين أعلنوا الحرب علينا..".

لم تنجح المساعي الدبلوماسية الإسرائيلية في تحقيق أي شيء، فأصدر بن گوريون أمراً بتاريخ 12 ديسمبر 1948 للمخابرات العسكرية بإغتيال رياض الصلح. ينقل برگمن عن آرثور بن ناتان في القسم السياسي لوزارة الخارجية الإسرائيلية في ذلك الحين قوله "إن شاريط كان بالمطلق ضد فكرة إغتيال الصلح وعندما طلب من قسمنا السياسي مساعدة الإستخبارات العسكرية في تنفيذ الأمر عبر إتصالات مع مصادرنا في بيروت، رفض شاريت الأمر ودفنه في مهده".

الإمساك بالأجهزة

يقول برگمن إن هذه الحادثة بالإضافة إلى إشكالات أخرى بين شاريط وهاريل، جعلت الدماء تغلي في عروق بن گوريون الذي إعتبر أن الجهاز الدبلوماسي لديه أضعف من أن يماشي المؤسسة العسكرية القوية ووكالات الإستخبارات الجبّارة، وإعتبر أن شاريت شخصياً ينافسه ويشكل تهديداً لسلطته، فأمر في ديسمبر 1949 بنقل القسم السياسي من تحت سلطة وزير الخارجية ليصبح تحت سلطته المباشرة كرئيس للوزراء، وحوّله لاحقاً إلى وكالة تحمل إسم "مؤسسة الإستخبارات والعمليات الخاصة"، وهي المؤسسة المعروفة عند العامة بإسم "المؤسسة" أو "الموساد".

بعد ذلك، أصبحت الموساد كوكالة إستخبارات، واحدة من ثلاث وكالات أمنية في البلاد لا تزال تحتفظ إلى يومنا هذا وإلى حد ما بالشكل الذي أنشئت عليه، وهي أمان أي الإستخبارات العسكرية التي تزوّد الجيش بالمعلومات، والشين بيت المسؤولة عن الاستخبارات الداخلية ومكافحة الإرهاب ومكافحة التجسس، والموساد التي تتولى كل الأنشطة السرية خارج حدود البلاد. يقول برگمن إن هذا القرار شكّل إنتصاراً لايسر هاريل الذي كان يتولى مسؤولية جهاز الشين بيت، فأُضيفت إلى مسؤولياته أيضاً مسؤولية قيادة الموساد ليتحول إلى الرجل الأمني الأقوى في تاريخ الدولة الناشئة.

يقول برگمن إن هذه القرارات جعلت كل وكالات الأمن والإستخبارات تحت السلطة المباشرة لبن گوريون، فالموساد والشين بيت كانتا تحت سلطته كرئيس للوزراء. والاستخبارات العسكرية (أمان)، كانت تحت سلطته كوزير للدفاع (كان يحتفظ بهذه الحقيبة إلى جانب كونه رئيساً للوزراء). ويضيف الكاتب أن هذه السلطة الهائلة، سياسياً وعسكرياً وأمنياً بيد بن گوريون، بقيت بعيدة عن أعين العامة من الناس لأن بن گوريون كان صارماً في إحاطة هذه الشبكة العنكبوتية من الأجهزة الأمنية الرسمية بجدار من الكتمان حتى عام 1960، كما أن بن گوريون منع وضع أية أسس قانونية لعمليات الموساد والشين بيت أو وضع أي قانون يحدد أهدافهما ودورهما ومهماتهما أو حتى موازناتهما والعلاقة بينهما، أي أبقاهما تحت العتمة تماماً وتحت أمرة بن گوريون ومن دون أي إشراف أو مراقبة من البرلمان (الكنيست) أو أية جهة أخرى.

ويختم برگمن هذا الفصل بالقول إنه في إطار شعار أمن البلاد، كان يجري تبرير الكثير من الأعمال والعمليات التي لو ظهرت للعلن لكانت محل مساءلة قانونية وجرمية بالتأكيد وكانت ستؤدي بمرتكبيها إلى السجن لسنوات طويلة. ومن ضمن هذه الأعمال، على سبيل المثال لا الحصر، المراقبة المستمرة لمواطنين فقط بسبب إنتمائهم العرقي أو السياسي؛ أساليب التحقيق التي تضمنت إعتقال أشخاص لفترات طويلة بلا مسوغ قانوني والتعذيب خلال الإعتقال وإخفاء الحقيقة عن القضاء.


"إنهض واقتل أولاً".. عن تهديد مصر لإسرائيل ورمى الجثث في البحر

يقول رونين برگمن أنه في يوليو 1952، اقيم في المتحف الوطني في القاهرة معرض لرسوم الفنان الفرنسي الألماني شارل دوڤال، وهو شاب طويل القامة، تتدلى السيجارة من شفتيه دائماً على طريقة الفنانين البوهيميين، وكان انتقل من باريس إلى القاهرة قبل عامين من ذلك التاريخ، بذريعة "عشقه ارض النيل"، وقد امتدحت الصحافة المصرية أعمال دوفال ليتحول بعدها إلى شخصية تختلط بكبار القوم في مصر، ومنهم وزير الثقافة.

بعد خمسة اشهر من معرضه، تذرع دوفال بمرض والدته في باريس، وقال أنه مضطر للعودة للاعتناء بها، وغادر القاهرة وارسل بعد ذلك بضعة رسائل لاصدقاء فيها قبل أن تنقطع أخباره كلياً، ويقول برگمن ان دوفال هذا لم يكون سوى جاسوساً يعمل لمصلحة الموساد واسمه الحقيقي شلومو كوهين اباربانيل، وهو الاصغر بين اربعة اخوة لأب حاخام من مدينة هامبورگ في المانيا، وعند صعود الحزب النازي إلى السلطة عام 1933 وبدء تنفيذ قوانين التمييز العرقي، فرت عائلة اباربانيل إلى فرنسا ومنها إلى فلسطين، وغادر هو إلى باريس في عام 1947 وكان قد بلغ السابعة والعشرين من عمره، حاملاً معه موهبة الرسم حيث هذبها ونمّاها عبر الدراسة الأكاديمية، وما أن بلغت أخباره الهاگاناه، حتى جنّدته في تزوير جوازات السفر واوراق قانونية اخرى ليهود من اوروبا وشمال افريقيا من اجل نقلهم إلى فلسطين في عملية خرق فاضحة لقوانين الهجرة البريطانية التي كانت سائدة في فلسطين في عهد الانتداب البريطاني، وبهذا بدأ اباربانيل مسيرة مهنية طويلة في عالم التجسس.


"بالحيلة تخاض الحرب"

تمكن اباربانيل من تجنيد شبكة كبيرة من الجواسيس في مصر والعالم العربي، وفّرت له جمع معلومات مهمة جدا عن النازيين الذين فروا إلى دول في الشرق الاوسط بحثاً عن الامان بعد إنهيار ألمانيا النازية، ومن ضمن اعماله، بحسب برگمن، تزويد رؤسائه بأسماء علماء الصواريخ الألمان الذين حاولوا بيع معلوماتهم للجيوش العربية.

يقول برگمن، إنه بعد وقت قصير من تولي ايسر هاريل مسؤولية جهاز الموساد، استدعى اباربانيل وطلب منه ان يصمم شعاراً رسمياً لهذا الجهاز، فأغلق اباربانيل باب غرفته على نفسه لأيام قبل ان يخرج حاملا معه مسودة رسم لشعار يتوسطه شمعدان بسبعة رؤوس، هو الشمعدان المقدس لليهود الذي كان في هيكل سليمان عندما دخله الرومان عام 70 قبل الميلاد ودمروه، مع عبارة "بالحيلة تخاض الحرب"، وهذه هي الآية السادسة من الفصل 24 في سفر الأمثال الذي تقول الرواية اليهودية الرسمية ان سليمان الحكيم هو من كتبه بنفسه، ولكن هذه الآية استبدلت لاحقاً بالآية 14 من الفصل 11 من الكتاب والتي تقول "حيث لا تستخدم الحيلة تسقط الامة ولكن الامان يكمن في حكمة المستشارين". من خلال هذا الشعار، كانت رسالة اباربانيل واضحة وهي ان الموساد درع الامة اليهودية، يقول برگمن.

على خط مواز، كتب هاريل ميثاق الموساد الذي حدّد اهداف هذا الجهاز بالعمل السري في جمع المعلومات وتنفيذ عمليات خاصة خارج الحدود ومنع الدول المعادية من حيازة وتطوير اسلحة غير تقليدية ومنع حصول عمليات ارهابية ضد إسرائيل وضد اهداف يهودية خارج "إسرائيل" والعمل على تطوير علاقات سياسية واستخباراتية مع الدول التي لا تقيم علاقات دبلوماسية مع الدولة اليهودية، وجلب اليهود من الدول التي ترفض بلدانهم السماح لهم بمغادرتها إلى فلسطين ووضع خطط لحماية اليهود المتبقين في هذه الدول.

مصر مصدر تهديد لإسرائيل

واجهت الاجهزة الامنية والاستخبارية الإسرائيلية الفتية تحديات كبرى اهمها كيفية مواجهة حلقة من 21 دولة عربية معادية تحيط بالكيان الإسرائيلي وتشكل تهديداً وجودياً له، وكان من ابرز خطط مواجهة هذا الواقع هو تحديد اهداف بعيدة المدى في عمق الخطوط الخلفية لهذه الدول.

يقول برگمن أنه مقابل الموساد، انشأت وكالة أمان وحدة خاصة اسمتها "وحدة الاستخبارات رقم 13" (يعتبر هذا الرقم جالباً للحظ بحسب التقاليد اليهودية). ويضيف في عام 1951، غادر احد كبار ضباط هذه الوحدة ابراهام دار إلى القاهرة لانشاء شبكة عملاء من الصهاينة المتحمسين الذين كانوا لا يزالون في مصر، وكان يرسل الجواسيس الذين يجنّدهم إلى اوروبا ومنها إلى تل ابيب لتلقي التدريبات على اعمال التجسس والتخريب، ويقول دار ان الطريقة التي كان يدير فيها الملك فاروق حكومته "جعلت من مصر مصدر تهديد لإسرائيل، فاذا استطعنا التخلص من هذه العقبة، فان الكثير من مشاكلنا سيحل"، مضيفا أنه "من دون كلب، لا يوجد داء كلب".

لكن التطورات السياسية التي حصلت في مصر في تلك الفترة اكدت ان لا داعي "للتخلص من الكلب"، يقول برگمن، فقد اطاح انقلاب حركة الضباط الأحرار (1952) بالملك فاروق وسقطت كل توقعات جهاز أمان بان الامور ستكون افضل من دونه، غير ان جهاز أمان كان قد شكّل شبكة لا بأس بها من الجواسيس الذين تم استخدامهم ضد حركة الضباط الأحرار. لكن الجهاز مني بكارثة كبيرة عندما تمكنت السلطة المصرية الجديدة من مطاردة العديد من عناصره اثر فشل معظم عمليات التخريب التي كانوا يخططون لها او يحاولون تنفيذها، والقت القبض على 11 عنصراً بعضهم اعدم بعد فترة وجيزة وانتحر احدهم اثر التعذيب القاسي الذي تعرض له، اما المحظوظون منهم فقد نالوا احكاماً بالسجن مع الاشغال الشاقة لاعوام طويلة. اثارت هذه العملية عاصفة من الانتقادات وحولتها إلى نقاشات حامية بين الاحزاب السياسية لاعوام حول ما اذا كان جهاز أمان قد حصل على اذن مسبق بتنفيذها.

"نحن لا نقتل يهوداً"

يقول برگمن ان الدرس الذي تعلمته القيادات الامنية من خلال فشل هذه العملية هو أنه يجب الا يتم ابدا تجنيد اليهود المقيمين في دول معادية لان اعتقالهم سيكون اكيدا وسيكون ايضا الموت بانتظارهم. على اي حال، يضيف الكاتب، لم تتغير قناعة القادة الامنيين ان العمل بشجاعة وقوة خلف خطوط العدو من شأنه ان يغير مجرى التاريخ، وقد بقيت هذه المقولة في قلب خطط هؤلاء القادة حتى يومنا هذا.

ينتقل رونين برگمن من فشل اولى عمليات أمان في مصر إلى فشل اولى عمليات الموساد في اوروبا، فيقول أنه في نوفمبر 1954، فر ألكسندر يسرائيلي، النقيب في البحرية الإسرائيلية، من البلاد بعد ارتكابه عمليات تزوير كبيرة للتخلص من ديونه، مستخدماً جواز سفر مزور وحاول ان يبيع معلومات سرية للسفارة المصرية في روما، لكن احد جواسيس الموساد في السفارة عرف بالامر وارسل إلى رؤسائه في تل ابيب يخبرهم عن الموضوع، فقرر هؤلاء العمل بسرعة على خطة لخطف يسرائيلي من روما واعادته للمحاكمة بتهمة الخيانة.

يقول الكاتب، لقد كانت هذه العملية اختبارا كبيرا لهاريل واجهزة الاستخبارات، وكان من شأن اي فشل ان يكون قاتلاً لطموحاتهم والعكس صحيح. لذلك، جمع هاريل فريقا من افضل ضباطه في الموساد والشين بيت وامرهم بخطف يسرائيلي من روما، واعطى الامرة لابن عمه رافائيل إيتان الذي كان شاباً يافعاً عندما نفذ عملية اغتيال إلمانيين من "ابناء المعبد" في القدس.

ينقل برگمن عن ايتان قوله ان بعض الضباط الحاضرين ارتأووا ان يصار إلى ايجاد إسرائيلي في روما وقتله على الفور ولكن هاريل رفض الفكرة بالمطلق، وقال "نحن لا نقتل يهوداً"، ويستطرد برگمن هنا بالقول ان موضوع عدم قتل اليهود لليهود هو امر عميق في التقاليد اليهودية لانه يحمل القاتل مسؤولية دينية باعتبار اليهود هم عائلة كبيرة ولا يجوز لافراد العائلة ان يقتل بعضهم بعضا وهذا سبب بقاء اليهود على قيد الحياة على مدى الفي عام بحسب الكاتب. ويتابع ان قتل اليهود الخونة قبل قيام الدولة كان له مسوغه اما بعد ذلك حتى لو كان هؤلاء يشكلون خطرا على امن البلاد لا مسوغ لقتلهم طالما بالامكان محاكمتهم.

رمي الجثة من الطائرة في البحر

في بداية العملية، سار كل شيء على ما يرام، فقد قامت واحدة من جواسيس الموساد بايقاف يسرائيلي عند تقاطع باريس في العاصمة الايطالية فيما قام ايتان وثلاثة من زملائه الضباط بحقن الضحية بابرة منومة ونقلوه إلى مكان آمن حيث قام احد الاطباء التابعين للموساد بحقنه مجددا بمنوم اخر وتم وضعه في صندوق يستخدم لنقل الاسلحة قبل نقله إلى طائرة عسكرية إسرائيلية كانت لديها عدة محطات قبل ان تصل إلى تل ابيب. وكان يسرائيلي يحقن في كل محطة بابرة منوم جديدة لابقائه تحت السيطرة، ولكن ما ان وصلت الطائرة إلى مطار أثينا اليوناني حتى اصيب يسرائيلي بذبحة قلبية وفارق الحياة، وتنفيذا لاوامر هاريل قام احد ضباط الموساد برمي الجثة من الطائرة في البحر.

شكلت هذه العملية صفعة كبيرة لهاريل ونظريته في عدم قتل اليهود، يقول برگمن، فقام عملاؤه بتزويد الصحافة بمعلومات مغلوطة عن يسرائيلي تقول أنه سرق كمية من المال وهرب إلى مكان ما في أمريكا الجنوبية مخلفا زوجته الحامل، وامر هاريل باخفاء كل الوثائق التي لها علاقة بالعملية في واحدة من الخزائن السرية للموساد. غير ان الدرس الذي تعلمه هاريل كان أنه كانت هناك حاجة ماسة لتشكيل وحدة خاصة تكون مهمتها حصريا القيام بعمليات التخريب والاغتيال والقتل المتعمد، فبدأ البحث عن مقاتلين جيدي التدريب وقساة وعندهم ولاء اعمى ولا يترددوا بالضغط على الزناد عند الضرورة، فوجد ضالته في اخر مكان كان يفكر في البحث فيه، أنهم عناصر منظمتي إرگون وليهي المنحلتين اللتين حاربهما هاريل بشراسة. ولكن العقبة امام الاستعانة بهؤلاء العناصر كانت ان بن غوريون كان قد اصدر امرا صارما بعدم السماح لعناصر اي من هاتين المنظمتين الانضمام إلى الوظائف الحكومية. وكان جهاز "الشين بيت" يعتبر ان بعض هؤلاء العناصر يشكلون خطرا فعليا على النظام في البلاد اذا ما اتيح لهم اعادة تجميع انفسهم في تنظيم سري.

يضيف برگمن ان استعانة هاريل بهؤلاء العناصر جعلته يصيب عصفورين بحجر واحد، فمن جهة يكون قد انشأ وحدة عمليات خاصة تابعة له، ومن جهة ثانية جعل هؤلاء المقاتلين السريين يعملون تحت امرته خارج حدود البلاد من دون محاسبة، فكان ان استدعى إلى منزله في شمال تل ابيب كلاً من ديفيد شومرون واسحاق شامير ورفاق لهم في منظمتي إرگون وليهي وجعلهم يقسمون يمين الولاء في اطار وحدة عمليات خاصة تسمى ميفراتز اي الخليج وقد اصبحت هذه الوحدة اول وحدة اغتيال تابعة للموساد".

عمليات الموساد: شارون خلف الحدود.. "إتبعوني"

غداة إعلان دولة إسرائيل، لم يجد الفلسطينيون الذين جردوا من ارضهم ومنازلهم الا شن حرب عصابات وصفها الصحافي الإسرائيلي رونين برگمن في كتابه "انهض واقتل اولا، التاريخ السري لعمليات الاغتيال الإسرائيلية"، بـأنها كانت عبارة عن "عمليات ارهابية تستهدف قتل اليهود"، ويقول ان الجيش الإسرائيلي احصى في العام 1952 وحده 16 ألف عملية من هذا النوع، بينها 11 ألفا تمت عن طريق الاردن والباقي عن طريق مصر.

في تلك الفترة، كانت حركة الضباط الاحرار في مصر تولت السلطة بعد الانقلاب على الملك فاروق، واصبح الجنرال محمد نجيب أول رئيس للجمهورية المصرية، لكن رجل الدولة القوي حينها كان الضابط الشاب جمال عبد الناصر، صاحب القناعة القومية العربية والمتمسك بحق الفلسطينيين بارضهم وبعدم مشروعية إسرائيل، لذلك، اعطى كل الرعاية والدعم لحركة الفدائيين.

يروي الكاتب رونين برگمن، وفقا لوثائق الاستخبارات الإسرائيلية، كيف ان المخابرات المصرية كلفت النقيب الشاب مصطفى حافظ مهمة تنظيم حركة الفدائيين الفلسطينيين وتدريبهم لمواصلة كفاحهم. ومع مطلع عام 1953 (اي بعد ستة اشهر من تولي الضباط الاحرار السلطة في مصر)، اطلق حافظ والملحق العسكري المصري في الاردن صلاح مصطفى اوسع عملية تجنيد وتنظيم وتدريب ترجمت بالمئات من عمليات التسلل إلى فلسطين عبر قطاع غزة، وتخللها تنفيذ عمليات طاولت بنى تحتية واراض زراعية وزرع الغام وتدمير عربات القطارات حيث احصت المخابرات الإسرائيلية مقتل اكثر من الف مستوطن في هذه العمليات حتى العام 1955 ناهيك عن نشر الخوف والرعب في صفوف المستوطنين.

يقول برگمن ان حرب الفدائيين هذه اثبتت نجاحها في تحقيق اهدافها من دون ان تحمل اية بصمات مصرية أو أردنية، فما كان من المخابرات الإسرائيلية الا ان قررت إعتماد الاسلوب نفسه عبر تجنيد مخبرين عرب لصالحها مهمتهم جمع المعلومات عن الفدائيين وقادتهم من اجل تحديد اماكن تواجدهم وحركتهم واغتيالهم، وقد انشئت لهذه الغاية وحدة إستخباراتية خاصة أسميت الوحدة 504 بامرة ريهافيا فاردي، البولندي المولد والذي سبق له ان عمل ضابطا في استخبارات الهاگاناه قبل اعلان الدولة (العبرية). وكان فاردي قاسي الشخصية وصاحب مواقف متطرفة، ومن اقواله بحسب برگمن “يمكن تجنيد اي عربي عبر واحدة من ثلاث طرق: النساء، المال، او المديح لكبريائه”. تمكن فاردي من تجنيد اكثر من 500 عربي للعمل لدى وحدته التي كان عناصرها من اليهود الذين نشأوا وعاشوا بين الفلسطينيين قبل اعلان الدولة، لذلك فقد كانوا يجيدون اللغة العربية ويعرفون جيدا العادات والتقاليد الفلسطينية. وتبعا لشبكة المخبرين العرب تمكنت "الوحدة 504″، كما يقول الكاتب، من تحديد اماكن العديد من قادة الفدائيين واغتيالهم، حتى ان مخبرين (من العرب) شاركوا في وضع عبوات ناسفة لقتل الفدائيين.

وبغرض صنع العبوات الناسفة بطريقة احترافية، انشأت المخابرات الإسرائيلية وحدة خاصة حملت اسم شايطيت 13 اي "الزورق 13" بقيادة ناتان روتبرگ، وهو احد الضباط الذين شاركوا في تأسيس الاجهزة الاستخبارية الثلاثة الموساد وأمان والشين بيت. وكان روتبرگ شخصا غليظ الرقبة وصاحب شارب كث وملامح قاسية. وقد اتخذت وحدته مقرا سريا لها في تل ابيب وكان يحظر على افرادها ان يذكروا اسم وحدتهم او ان يخبروا احدا عما يفعلون او اين يخدمون. وينقل برگمن عن روتبرگ قوله "انا لا اعمل بكراهية ضد اعدائي اذ علينا ان نتعلم كيف نكون متسامحين مع الاعداء، وعلى اية حال ليست مهمتنا مسامحة الاعداء، فهذا عمل الرب وحده ولكن جلّ عملنا تنظيم لقاء اعداءنا مع الرب، وهذه كانت مهمة مختبري".

ويقول برگمن، ان رجال فاردي كانوا يحددون الهدف، فيما يتولى رجال روتبرگ صناعة العبوات وتمويهها من اجل تنفيذ المهمة، وغالبا ما كانت العبوات توضع في سلال مزدوجة القعر، تكون العبوة في القعر الاول، فيما تُغطى بالفاكهة والخضار الموسمية. يقول روتبرگ: "كنا نستخدم الاقلام لاطلاق العبوة ولكن هذه التقنية لم تكن دقيقة بما يكفي للتحكم بلحظة تفجير العبوة، فاخذنا نلجأ إلى ساعات التوقيت".

بالرغم من كل هذا التنظيم الاستخباراتي الدقيق، يعترف برگمن ان عمل فاردي وروتبرگ لم يحد من عمليات الفدائيين، لا بل اخذ الضابطان يتلقيا النقد من قيادة الجيش خاصة بعد ان فشل رجالهما عدة مرات في التسلل إلى قطاع غزة وسيناء والضفة الغربية والاردن، ما حدا برئيس الوزراء ديڤيد بن گوريون دعوة الحكومة المصغرة إلى اجتماع سري في 11 يونيو 1953 حيث اقرت توصية وزير الدفاع (بن گوريون نفسه) بالرد على عمليات الفدائيين خلف خط الهدنة المرسوم مع الاردن.

جاءت فرصة بن گوريون لتنفيذ خطته الجديدة عندما قتل الفدائيون حارسين لمستوطنة إيڤين سابير قرب القدس في عملية خطّط لها وقادها الفدائي مصطفى صامولي من بلدة صامولي في الضفة الغربية، فكلف بتنفيذ عملية الرد الضابط الشاب آرييل شاينرمان الذي عرف لاحقا باسم آرييل شارون، وكان هذا الضابط تلميذا في الخامسة والعشرين من عمره، لكنه كان سلطويا وشجاعا وقوي البنية ويتمتع بمواصفات قيادية اثبتها خلال الحرب (1948) واصيب خلالها اصابة حرجة. لم يتردد شارون بالموافقة على تنفيذ المهمة الموكلة اليه، بحسب ما ينقل برگمن عن جلعاد نجل آرييل شارون.

يقول الكاتب ان شارون وثمانية من رجاله تمكنوا من التسلل إلى قريية صامولي في الضفة الغربية حيث فجروا منزل الفدائي مصطفى صامولي لكن استخباراتهم كانت مخطئة في تقديراتها بشأن وجود الهدف في منزله والحراسات الفلسطينية في البلدة، فخاضت مجموعة شارون اشتباكاً نارياً نجت منه باعجوبة من دون خسائر. اعتبرت قيادة الجيش ان العملية ناجحة على عكس شارون الذي عاد منها منهكاً وغير راض عن النتيجة، وقال لرؤسائه ان هذا النوع من العمليات يتطلب جنوداً من نخبة الكوماندوز، فكان له ما اراد وتأسست الوحدة 101 بقيادته وكانت مهماتها بحسب قواعد عملها التي كتبها شارون نفسه “تنفيذ عمليات عابرة للحدود برجال ذوي تدريب واداء عالي المستوى”.

اطلقت قيادة الجيش لشارون العنان في اختيار رجال وحدته وتدريبهم الذي كان يتضمن التدريب لمدة عام على كل انواع الاسلحة والمتفجرات والطوبوغرافيا والسير ليلا في الاماكن الجبلية الوعرة، وقد ميّز شارون وحدته تدريباً وتسليحاً. كانت البندقية التشيكية سلاح جنود الجيش، بينما حصلت وحدة شارون على رشاش كارل گوستاف الاوتوماتيكي، وكانت اول من استخدم رشاش عوزي الإسرائيلي الصنع والذي كان سرياً في ذلك الحين. وكان شارون شخصيا يتقدم جنود وحدته في تنفيذ عملياتها تحت شعار “اتبعوني”.

تزامن وجود شارون على رأس هذه الوحدة الفتاكة بوجود موشيه دايان على رأس هيئة اركان الجيش، فشاركه الأخير رؤيته الدموية بعدم الاكتفاء بتحديد هوية المسؤولين الفلسطينيين الرئيسيين (المخططين) واصطيادهم بل اعتماد سياسة الانتقام لمقتل اي مستوطن بشن هجمات على القرى والبلدات العربية التي ينطلق منها الفدائيون وترويع اهلها. وينقل برگمن عن دايان قوله "لا نستطيع ان نمنع قتل المستوطنين الآمنين في مزارعهم وبيوتهم ولكننا نستطيع ان نجعل قتلتهم يدفعون ثمناً غالياً لدمائهم".

ووفقاً لهذه النظرية اختار شارون بلدة قيبيا في الضفة الغربية لتنفيذ عملية عقابية للفلسطينيين على خلفية قتل مستوطنة واولادها جنوب شرق تل ابيب، ففي 15 أكتوبر، قاد شارون 130 من رجال الوحدة 101 المحملين بكمية كبيرة من المتفجرات واقتحم البلدة ودمر كل منازلها خلال ساعات قليلة. وينقل برگمن عن احد الضباط المشاركين في العملية قوله "لقد دمرنا 43 منزلا.. عند عودتنا ذكرنا في تقريرنا عن العملية ان عدد الضحايا من المدنيين بلغ 11 قتيلا فقط". لكن الحقيقة كانت مختلفة تماما، فقد كانت العملية مجزرة دموية بلغ عدد ضحاياها اكثر من ستين قتيلا معظمهم من النساء والاطفال، ما اثار غضب العالم وادانها مجلس الامن الدولي ووزارة الخارجية الامريكية التي قررت اثرها وقف مساعداتها لإسرائيل لخرقها اتفاقيات الهدنة الموقعة عام 1949، يقول برگمن: "أبدى بن گوريون دعمه لشارون في هذه العملية. اما شارون نفسه فقد قال في تعليقه على العملية أنها ومثيلاتها “ساهمت في حماية امن حدود إسرائيل".

يقول برگمن أنه بعد خمسة اشهر على تأسيس الوحدة 101 في عام 1954، دمج موشيه دايان هذه الوحدة مع لواء المظليين، واصبح شارون احد قادة الكتائب فيه، وكان موشيه ديان يعتقد ان هذه الوحدة تشكل نموذجا في التدريب والانضباط والكفاءة والالتزام وان باستطاعة شارون تعميم النموذج في اللواء وبعده في كل وحدات الجيش.

وينهي الكاتب هذه الصفحات من كتابه بالقول إنه في احدى المرات وبينما كانت، مائير هار صهيون، شقيقة احد الضباط المعروفين في الوحدة 101 تمارس هواية المشي في الجبال الوعرة في منطقة غير مسموح الدخول إليها عبر الحدود الاردنية، قتلت مع اثنين من رفاقها على ايدي البدو الاردنيين. بتشجيع ودعم كاملين من شارون قام شقيق القتيلة (هار صهيون) بالتسلل إلى موقع الحادثة وانتقم لشقيقته بقتله بالسكاكين اربعة رعاة بدو، فامر احد حمائم السياسة الإسرائيلية موشيه شاريت بان يحال هار صهيون إلى المحاكمة العسكرية، ولكن دايان وشارون وبدعم من بن گوريون اسقطا الامر. وكتب شاريت في تعليقه على العملية متسائلا "اتساءل كيف سيكون قدر هذه الامة وطبيعتها وهي التي تملك هذه الروح الطيبة والحساسة والحب للانسانية من جهة، ومن جهة ثانية تنتج من بين صفوف شبيبتها اليافعين شباناً يستطيعون قتل الناس بدم بارد وصفاء ذهن عبر غرز سكاكينهم في اجساد شبان ابرياء لا حول لهم من البدو، اتساءل اي من هاتين الروحيتين التي يتحدث عنهما التوراة في صفحاته ستنتصر ضد الاخرى في هذه الامة".

كتابان مفخخان من الموساد.. يصرعان ضابطين مصريين

يقول رونين برگمن انه في منتصف خمسينيات القرن العشرين كان الضابط المصري مصطفى حافظ (مسؤول المخابرات المصرية في غزة) يحقق انتصارات كبيرة على "الاستخبارات الإسرائيلية" من خلال حرب الفدائيين، وراح يتردد اسم حافظ في كل التقارير الاستخباراتية الإسرائيلية عن الهجمات الفدائية، ولكن بحسب احد ما يقول احد القادة الميدانيين في الاستخبارات الإسرائيلية ياكوڤ نمرودي "كنا نعرف ان حافظ شاب في الثلاثين من العمر بهي الطلعة وصاحب كاريزما قوية وكان الاسرى لدينا يتكلمون عنه بإعجاب شديد، وكنا نعتبر حافظ من افضل العقول الاستخباراتية المصرية". ويضيف نمرودي، الذي كان نظير حافظ على الجانب الإسرائيلي، ان حافظ "تمكن من القبض على العديد من عملائنا وتصفيتهم او انه حولهم إلى عملاء مزدوجين عبر المعاملة الطيبة التي كانوا يعاملهم بها. وفي حرب العقول هذه كان النصر فقط للافضل". ويضيف برگمن، نقلا عن نمرودي "كان حافظ رأس الافعى الذي كان علينا ان نقطعه".

كانت هناك ثلاثة اسباب تحول دون قتل حافظ، بحسب ما ينقل برگمن عن ابراهام دار، الذي كان حينها ضابطا برتبة رائد في جهاز أمان الاستخباراتي والذي كلف بجمع المعلومات عن حافظ. "اولاً، صعوبة جمع المعلومات الكافية عن حافظ وتحركاته ومكان اقامته، ثانياً، صعوبة الوصول اليه وقتله، ثالثاً، فان حافظ كان ضابطا بارزا في جيش دولة ذات سيادة ومن شأن قتله ان يعتبر تجاوزا للخطوط الحمر في العلاقة مع مصر وقد يؤدي إلى تدهور الامور إلى المجهول".

ويقول برگمن ان كل محاولات الأمم المتحدة لوقف حرب الفدائيين عبر التوسط بين إسرائيل ومصر وصلت إلى حائط مسدود، وواصل الفدائيون بدعم من حافظ هجماتهم طوال عام 1955 إلى ربيع عام 1956. وفي 29 أبريل من ذلك العام، تمكن الفدائيون من قتل الملازم الشاب في الجيش الإسرائيلي روي روتبرگ الذي كانت مهمته حراسة كبيوتس ناحال عوز عند الحدود الجنوبية، ويضيف برگمن ان الفدائيين لم يكتفوا بقتل روتبرگ بل اقتلعوا عينيه وسحبوا جثته إلى خط الحدود كي يبدو ان قتله تم بعد ان اجتاز تلك الحدود المرسومة من الامم المتحدة.

نزل مقتل روتبرگ على رئيس اركان الجيش موشيه دايان نزول الصاعقة، اذ انه كان قد التقى به قبل يوم واحد من مقتله خلال جولة له على المستوطنات الجنوبية، فوقف دايان في اليوم التالي امام حفرة قبر روتبرگ وقال ما يمكن ان يلخص التوجه الإسرائيلي للتعامل مع الفلسطينيين في الاعوام المقبلة. قال دايان "دعونا اليوم لا نلوم القتلة، فمن نحن لنناقش اسباب كراهيتهم لنا؟ لثماني سنوات هم يعيشون في مخيمات للنازحين في قطاع غزة ينظرون باعينهم إلى الاراضي والقرى التي ولدوا ونشأوا فيها هم واباؤهم وهي ارض اجدادنا. نحن جيل المستوطنين، من دون الخوذ الحديدية وهدير المدافع لن نستطيع ان نزرع شجرة او نبني بيتا على هذه الارض، ولن يستطيع اولادنا العيش من دون ان نحفر ملجأ ومن دون اسلاك شائكة وبنادق رشاشة لن نستطيع ان نعبد طريق او ان نحفر بئر ماء. ان ملايين اليهود الذين همشوا لانه لم يكن لديهم وطن، هؤلاء ينظرون الينا من تحت التراب عبر التاريخ العميق ويأمروننا ان نستوطن ونبني وطنا لشعبنا".

وفيما كان دايان يلقي كلمته هذه، كان يقف إلى جانب القبر ناتان روتبرگ وهو قائد وحدة شايطيت 13 المتخصصة بتصنيع العبوات الناسفة والمتفجرات، وهو ابن عم الضابط القتيل. بعد الانتهاء من مراسم الدفن، اقترب ناتان من عمه شمارياهو ووعده بان ينتقم لولده، وكان هذا الامر محط تأييد من دايان نفسه الذي تمكن من اقناع رئيس الحكومة ديڤيد بن گوريون ليس فقط بشن عمليات انتقامية ضد القرى الفلسطينية بل ايضا باصدار الامر بعملية اغتيال مزدوجة تطال الضابطين المصريين حافظ وصلاح. وكان ذلك يعني "تصعيدا غير مسبوق"، بحسب رونين برگمن، واضاف ان ابراهام دار هو من كتب الامر العملياتي لهذه المهمة تحت اسم عملية أونوخ، وقد كان هذا اول امر بالاغتيال المتعمد يكتب ويباشر بتنفيذه في تاريخ دولة إسرائيل.

وينقل برگمن عن ابراهام دار قوله "كان يتضمن الامر وضع عبوات ناسفة للضابطين المذكورين وكان واضحا لدينا ان قتل حافظ يتطلب ان يقدم له العبوة شخص يثق به"، فوقعت اعين المخبرين الإسرائيليين على محمد الطلالقة، وهو شاب بدوي يعيش في قطاع غزة ويعمل كعميل مزدوج لدى حافظ ووحدة "شايطيت 13" من دون معرفة حافظ بان عميله يعمل لدى الإسرائيليين ايضا، فقرر مشغلو الطلالقة ان يسلموه رزمة ما ليسلمها لحافظ شخصيا، ولكن بقي السؤال ماذا يجب ان تكون اهمية هذه الرزمة حتى يتسلمها حافظ شخصيا وليس احد مساعديه؟ تقرر ان تكون هذه الرزمة عبارة عن كتاب يتضمن كل حلول الشيفرة والمورس التي يستخدمها الإسرائيليون.

ينقل برگمن عن ناتان روتبرگ قوله للمخابرات الإسرائيلية انه اذا تم تأمين كتاب سميك إلى حد ما، فانه بمقدوره زرع عبوة فيه بزنة 300 گرام من المتفجرات، وهي كمية اكثر من كافية لقتله اذا انفجرت بين يديه. وقد نجحت العملية نجاحا باهرا، ففي 11 يوليو 1956، عبر الطلالقة الحدود وتوجه مباشرة إلى مقر قيادة الاستخبارات العسكرية المصرية في غزة، وقدم الرزمة بحماسة كبيرة لحافظ. وعندما فضّ حافظ غلاف الرزمة، وقعت منه ورقة على الارض وما ان انحنى ليلتقطها حتى انفجرت الرزمة بين يديه متسببة له بجروح قاتلة، فصرخ وهو يهوي ارضا "قتلتوني يا كلاب".

يقول برگمن انه في اليوم التالي للعملية ذهب ناتان روتبرگ، وهو بكامل لباسه العسكري إلى منزل عمله شمارياهو وقال له "لقد انهيت لك حسابك مع مصطفى حافظ"، ويضيف نقلا عن روتبرگ "سقطت دمعة من عين عمي وشكرني ليلتزم بعدها الصمت".

ويضيف الكاتب ان قتل حافظ شكل احراجا كبيرا للمصريين لما تضمنه من خلل استخباراتي فكتبت صحيفة الأهرام في اليوم التالي لوفاة حافظ خبرا صغيرا يقول "الكولونيل مصطفى حافظ الذي يعمل في قطاع غزة قتل بانفجار لغم ارضي بسيارته، لقد كان احد ابطال الحرب في فلسطين التي حارب من اجل تحريرها، وقد سجل التاريخ اعماله البطولية وكان اسمه يثير الذعر والخوف في قلوب الإسرائيليين".

في اليوم نفسه الذي قتل فيه حافظ، وفي وقت متقارب استلم مسؤول المخابرات المصرية في الضفة مصطفى صلاح بالبريد نسخة من كتاب أوختنج بانزر، لمؤلفه هاينس گودريان احد ابطال حرب الدبابات الالمان، وقد اختار ابراهام دار هذا الكتاب لمعرفته انه سيثير شهية مصطفى لمعرفته بالاهمية الاستراتيجية للكتاب. ويشرح كيف تم ارسال الكتاب إلى مصطفى من دون ان يثير شكوكه بشأن مصدره، فيقول ان اثنين من عملائه دخلا إلى القدس الشرقية خلسة (كانت لا تزال تحت الحكم الاردني) وارسلا الكتاب بالبريد مع الختم البريدي الاردني عليه، ولم يكن صلاح يعلم بعد باغتيال حافظ، ففتح الكتاب الذي انفجر بوجهه على الفور وادى إلى اصابته اصابات بالغة تسببت بوفاته في المستشفى لاحقا. سارع موشيه دايان إلى الترحيب بنتائج عمليتي القتل واقام لهذه المناسبة حفلاً في حديقة منزله للاحتفال بقتل الضابطين المصريين حافظ وصلاح.

كتاب برگمن: إسرائيل وطائرة عامر.. وخطاب خروتشوڤ

يقول الصحافي الإسرائيلي رونين برگمن في كتابه "إنهض واقتل اولاً، التاريخ السري لعمليات الاغتيال الإسرائيلية"، إن اغتيال ضباط المخابرات المصرية في كل من قطاع غزة والضفة الغربية شكّل ضربة كبيرة مزدوجة لكل من مصر والعمل الفدائي في فلسطين، ولكن هذه الهجمات لم تكن هي السبب الوحيد لتراكم الغيوم السوداء في سماء "الأمن الإسرائيلي".

في 26 يوليو 1956، اعلن الرئيس المصري جمال عبد الناصر، تأميم قناة السويس، الشريان المائي الحيوي بين البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر والذي تمر عبره امدادات النفط الخليجي إلى العالم وكانت الشركات المشغلة لهذا الشريان مملوكة لمواطنين إنگليز وفرنسيين، وبطبيعة الحال، فقد أثارت خطوة عبد الناصر غضب الدولتين الإنگليزية والفرنسية، فيما رأت إسرائيل فيه فرصتها لضرب طموحات عبد الناصر العروبية من جهة وإنهاء تهديده لها بعدم استخدام القناة لمرور سفنها من جهة أخرى.

يضيف برگمن، عند هذه النقطة تلاقت المصالح بين إسرائيل وكل من فرنسا وبريطانيا، وقد رأى فيها المدير العام الشاب والمليء بالحيوية لوزارة الدفاع الإسرائيلية في ذلك الحين شمعون پـِرِس الفرصة لوضع خطة حرب طموحة على مصر تبدأ بشن هجوم على شبه جزيرة سيناء يكون مبرراً لتدخل فرنسي ـ إنگليزي بذريعة حماية الممر المائي، وباشر فورا تنفيذ خطته بالتواصل الاستخباراتي مع البلدين الاوروبيين اللذين تعهدا له بتأمين غطاء جوي للقوات الإسرائيلية المهاجمة.

وقبل وقت قصير من اليوم المقرر للهجوم الإسرائيلي، يقول برگمن أن جهاز الاستخبارات أمان علم أن رئيس أركان الجيش المصري المشير عبد الحكيم عامر سيغادر القاهرة على رأس وفد من كبار القادة العسكريين المصريين إلى دمشق، وهذا الأمر شكّل فرصة كبيرة لم تكن منتظرة عند الإسرائيليين، فبضربة واحدة بالامكان القضاء تقريبا على كل القيادة العسكرية المصرية، وحظيت هذه الخطة بتأييد رئيس الوزراء ديڤيد بن گوريون ورئيس الأركان موشيه دايان. وهكذا، بدأت القوات الجوية الإسرائيلية سلسلة تدريبات ليلية مكثفة لاعتراض الطائرة المصرية التي تقل الوفد لاسقاطها بطريقة توحي بأنها سقطت جراء عطل فني كي لا تتحمل إسرائيل مسؤولية الهجوم.

وقبل أيام قليلة من الموعد المقرر لزيارة عامر إلى دمشق، كلّف جهاز أمان وحدة من سلاح الإشارة لديه تحديد المسار الجوي لرحلة الوفد المصري في طائرتين من نوع إليوشين-14 (تحمل هذه الوحدة اليوم اسم الوحدة 8200). على الفور حدد عشرون شابا لا تتجاوز أعمارهم الخامسة والعشرين من فنيي هذه الوحدة الاشارة اللاسلكية التي ستستخدمها الطائرات المصرية ورسموا خطة عزلها وتناوبوا على ليلا نهارا على مراقبة هذه الاشارة في مقر قيادة وحدتهم في مستوطنة رامات هاشاروم شمال تل أبيب، ووضعت القيادة العسكرية الإسرائيلية ضغوطا هائلة عليهم لان القوات البرية كانت على أهبة الاستعداد للبدء بهجومها على شبه جزيرة سيناء المقرر في 29 أكتوبر ما إن تسقط الطائرتان، حيث سيصبح الجيش المصري تقريبا بلا قيادة عسكرية. وكان الوقت يمر ببطء قاتل عندما سمع عناصر وحدة التنصت الإسرائيلية اشارة طائرتي الإليوشن بالانطلاق في الساعة الثانية بعد الظهر من يوم 28 أكتوبر. وتولى قيادة هذه العملية الحساسة ضابط سلاح الجو شاتو برگر، وهو أحد أكفأ ضباط هذا السلاح. في الساعة الثامنة مساء علم سلاح الاشارة الإسرائيلية أن طائرة واحدة غادرت المطار وأعرب عناصر السلاح عن اعتقادهم أن كل أعضاء الوفد المصري على متن هذه الطائرة فصدر الأمر بالمباشرة بتنفيذ العملية.

ما إن صدر القرار بالبدء بتنفيذ العملية، حتى تسلق الضابط شاتو طائرته من نوع متيور إم كي 13 وانطلق في الجو مع ملاحه شيڤي باروخ. كان الظلام حالكا في تلك الليلة، ارتفع شاتو بطائرته إلى علو عشرة الاف قدم وثبت في موقعه وما هي الا دقائق حتى اعطاه الرادار اشارة عن اقتراب طائرة منه. اقترب شاتو من الطائرة إلى درجة أنه كان يرى من خلال نوافذها عناصر الوفد المصري بلباسهم العسكري يتجولون بين المقاعد، فأرس لإلى الأرض تأكيده أن هذه الطائرة هي التي تم التخطيط لاستهدافها وطلب الإذن بضربها، وما إن أتاه الرد بالموافقة، حتى أمطر مقدمة طائرة الإليوشين من رشاشات طائرته الأربعة من عيار عشرين ميلليمتر، فأعمت النيران التي اندلعت فيها على الفور عيونه لا سيما عندما انفجرت الطائرة المصرية وبدأت قطعها تهوي في البحر، فصرخ عبر جهاز اللاسلكي "نلت منه". فجاءه السؤال من البر هل تؤكد تحطم الطائرة وسقوطها فأجاب "بالتأكيد". فتلقى شاتو تهنئة مباشرة من رئيس الاركان موشيه دايان بعد ان كان قائد سلاح الجو "دان تولوڤسكي" قد نقل إليه الخبر، ولكن الاستخبارات الإسرائيلية كانت قد أبلغت دايان أيضا أن المشير عامر كان قد قرر في اللحظات الاخيرة ان ينتظر الطائرة الثانية للمغادرة فلم يكن على متن الطائرة التي قصفت، وهذا ما اعلمه دايان لشاتو، فقال له الاخير انه على الاستعداد للعودة والتزود بالوقود لضرب الطائرة الثانية ولكن دايان رفض الفكرة، وقال ان ذلك سيشير بشكل واضحإلى دورنا في العملية وسيكشف عميلنا في الجانب المصري، لذلك فلندع عبد الحكيم عامر حياً.

يقول برگمن، لا شك ان هذه العملية كانت أحد اكبر انجازات الاستخبارات الجوية وقد اطلق عليها الذين شاركوا فيها اسم "عملية اسقاط هيئة الأركان المصرية"، ولا شك ايضا ان الفوضى التي احدثتها هذه العملية في القيادة المصرية شكلت عاملا حاسما في ما اسماه الإسرائيليون النصر في الهجوم البري الذي انطلق في اليوم التالي. ويضيف برگمن، بمعزل عما إذا كان تأثير هذه العملية كبيرا كما يزعم هؤلاء، فان جيش الدفاع شق طريقه بسهولة في اليوم التالي مجتاحا قوات الجيش المصري ومظهرا للعالم أن "الدولة اليهودية" قد اصبحت قوة مقاتلة لا يستهان بها في المنطقة وجعل بن گوريون المغمور بالسعادة يرس لإلى الضباط والجنود الذي شاركوا في العملية رسالة يتحدث فيها عن "مملكة إسرائيل الثالثة".

من الواضح أن برگمن يهمش دور المملكة المتحدة وفرنسا في العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 ويظهر وكأن الحرب في تلك الايام كانت فقط بدور إسرائيلي ولكن الحقيقة انه بغطاء عسكري جوي فرنسي وإنگليزي ضخم هو الاكبر بعد الحرب العالمية الثانية، بدأ الجيش الإسرائيلي هجومه البري تماما في الموعد المحدد فتقدمت قواته لتجتاح بسهولة قطاع غزة وشبه جزيرة سيناء، وعندما ثبت الإسرائيليون احتلالهم للقطاع ارسل "ريهافيا فيردي" البعض من عناصر الوحدة 504 لتفتيش المبنى الذي كانت تتخذه الاستخبارات المصرية مقرا لها حيث قتل قبل اشهر ضابط الاستخبارات مصطفى حافظ وعثروا هناك على كنز من المعلومات لا يقدر بثمن. اذ وجدوا ملفات فات رجال الاستخبارات تلفها قبل رحيلهم على عجل وكانت هذه الملفات تتضمن اسماء كل الفلسطينيين الذي كانوا يعملون تحت امرة حافظ لخمس سنوات قبل غزو سيناء. وكانت هذه الملفات المصرية بمثابة لائحة اغتيال بالنسبة لفيردي الذي طلب موافقة دايان للبدء بحملة اغتيال واسعة لهؤلاء الفلسطينيين، وبدوره، حصل دايان على موافقة بن گوريون على اطلاق حملة الاغتيالات، فاصدر فيردي أمره لقائد وحدة المتفجرات ناتان روتبرگ ورجاله بالبدء بالتنفيذ.

يقول برگمن: لقد تمكن رجال روتبرگ في الفترة الممتدة من نوفمبر 1957 إلى مارس 1958 (أي خلال خمسة اشهر)، من قتل ثلاثين فدائيا فلسطينيا من الذين وردت اسماؤهم في ملفات المخابرات المصرية في قطاع غزة، وقد استخدموا في عمليات الاغتيال كل ما يمكن ان يخطر على البال من سلال الخضار والفواكه إلى ولاعات السجائر وقطع المفروشات. وينقل برگمن عن فيردي قوله تعليقاً على عمليات القتل المتعمد هذه "لقد شكلت انتصارا تكتيا لنا ولكنه لم يكن انتصارا استراتيجيا لان كل من جرى قتله استبدل بسرعة وبسهولة".

ما بدا انه انتصار للمؤامرة السرية الإسرائيلية-الإنگليزية-الفرنسية، تحول إلى كارثة دبلوماسية عالمية، فقد اجبرت الولايات المتحدة الأمريكية إسرائيل على الانسحاب من قطاع غزة وشبه جزيرة سيناء فيما انكفأ الفرنسيون والإنگليز عن المنطقة وتقبلوا واقع خسارتهم لقناة السويس. وادت هذه النتيجة إلى اظهار عبد الناصر منتصرا على قوتين اوروبيتين كبيرتين وحولته إلى بطل يقود العالم العربي، علما ان عبد الناصر وافق على السماح للسفن الإسرائيلية بعبور القناة وبوقف دعمه لعمليات الفدائيين الفلسطينيين في قطاع غزة، على حد تعبير برگمن.

وللدلالة على ما وصلت اليه الاستخبارات الإسرائيلية من كفاءة، يقول برگمن انه بعد وفاة زعيم الاتحاد السوڤيتي جوزيف ستالين وتولي خلفه نيكيتا خروتشوڤ منصب الامين العام للحزب الشيوعي السوڤيتي، ألقى الأخير كلمة سرية في المؤتمر العشرين للحزب في موسكو تحدث فيها بصورة واضحة عن الجرائم التي ارتكبها سلفه، وقد جهد عملاء كل اجهزة الاستخبارات السرية الغربية للحصول على النص الحرفي للكلمة وفشلوا، غير أن عملاء الاستخبارات الإسرائيلية نجحوا في الحصول عليها وأمر رئيسها أيسر هارئل بإرسال نسخة من الكلمةإلى رئيس وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية ألان دالاس الذي قدمها بدوره إلى الرئيس الأمريكي دوايت أيزنهاور الذي امر بدوره بتسريب الكلمةإلى صحيفة نيويورك تايمز ما أثار عاصفة سياسية عالمية وأثار إحراجا كبيرا للاتحاد السوڤيتي. وشكلت هذه العملية إحدى مقدمات ولادة تعاون سري بين اجهزة الاستخبارات السرية الأمريكية والإسرائيلية. وقاد هذا التعاون من الجانب الأمريكي رئيس جهاز مكافحة التجسس في "السي آي إيه" جيمس جيسس أنگلتون الذي كان ممسوسا بهاجس وجود جاسوس سوڤيتي تحت كل سرير في بلاده، بحسب ما يقول برگمن، والذي كان ايضا من اكثر الداعمين لدولة إسرائيل. وعبر قناة التعاون المتمثلة بهاريل أنگلتون، حصلت السي اي ايه على كمية كبيرة من المعلومات الاستخبارية في الشرق الاوسط ولا تزال تحصل عليها حتى يومنا هذا.

ويقول برگمن في كتابه ان الراحة النسبية من شن الحروب التي قدمتها حملة سيناء ساهمت إلى حد كبير في اعادة اطلاق الاستخبارات الإسرائيلية حملتها ضد المسؤولين النازيين في العالم وكان من نتيجتها في عام 1960 رصد أدولف أيخمان وهو احد كبار قادة جهاز إس إس الاستخباري النازي ومطاردته في العاصمة الارجنتينية بيونس ايرس حيث كان يعيش منذ عشرة اعوام تحت اسم ريكاردو كليمانت.

ويروي برگمن تفاصيل عملية تشبه أفلام جيمس بوند نفذها فريق كبير من الاستخبارات الإسرائيلية بقيادة رئيسها ايسر هاريل، وبامر من بن گوريون شخصيا، في احد شوارع بيونس ايرس حيث جرى خطف كليمانت وتهريبه بطائرة عال إلى تل ابيب حيث حوكم واعدم.

صواريخ مصر تقلق بن گوريون.. فيأمر بقتل علماء ألمان

يتابع الصحافي الإسرائيلي رونن برگمن في كتابه "إنهض واقتل اولاً، التاريخ السري لعمليات الاغتيال الإسرائيلية" الكشف عن فصول من الحرب السرية بين مصر وإسرائيل في خمسينيات القرن المنصرم وكيف خطط الرئيس المصري جمال عبد الناصر لتجنيد علماء المان سابقين من اجل تحديث ترسانة مصر الصاروخية، وكيف واجه "الموساد" هذه الخطة باستباحة القارة الاوروبية لخطف وقتل العلماء الالمان.

يقول رونن برگمن في كتابه: "في 21 يوليو 1962، استيقظ الإسرائيليون على أسوأ كوابيسهم، فقد نشرت الصحف المصرية تقارير عن نجاح اختبارات اطلاق نوعين من صواريخ أرض-أرض اسمتهما الظافر والقاهر، وجرى استعراض هذه الصواريخ مزنرة بالعلم المصري في احتفال رسمي حضره عبد الناصر وثلاثمئة دبلوماسي اجنبي على ضفاف نهر النيل في القاهرة، وقال عبد الناصر في الاحتفال أن بلاده باتت قادرة على ضرب أي هدف جنوب العاصمة اللبنانية بيروت". يضيف برگمن إن القلق عند الإسرائيليين تضاعف في الأسابيع التالية عندما تأكد لهم ان فريقا من العلماء الالمان لعبوا دورا اساسيا في تطوير الصواريخ المصرية، وقد شكل ذلك خطرا وجوديا جديدا لليهود بعد 17 عاما من انتهاء الحرب العالمية الثانية التي شهدت مجازر الهولوكوست، لقد أصبحت أسلحة الدمار الشامل في أيدي ألد الأعداء الجدد لإسرائيل، جمال عبد الناصر، الذي كانت تنظر إليه القيادة الإسرائيلية على أنه "هتلر الشرق الأوسط". وقد وصفت الصحافة الإسرائيلية الأمر بالقول إن المسؤولين النازيين السابقين يساعدون عبد الناصر في مشاريع الإبادة الجماعية التي يعد لها.

لقد شكل واقع التجارب الصاروخية المصرية الناجحة صدمة في عالم الاستخبارات الإسرائيلية كي لا نتحدث عن القوى السياسية والرأي العام في إسرائيل، بحسب قول برگمن، إذ أن المعلومات عن هذا الموضوع لم تصل إلى الموساد، إلا قبل أيام قليلة من الاعلان المصري، ما شكل فشلا استخباريا ذريعا للموساد. الأسوأ في الأمر أن العلماء الألمان الذين طوّروا الصواريخ المصرية لم يكونوا مجرد فنيين بل إن بعضهم كان من أبرز المهندسين في النظام النازي، وقد عملوا خلال الحرب العالمية في مركز أبحاث الماني في قاعدة بينينموند الواقعة في شبه جزيرة في بحر البلطيق حيث جرى تطوير معظم أسلحة الرايخ الثالث.

وينقل برگمن عن مدير عام وزارة الدفاع، حينذاك، آشر بن ناتان قوله "لقد شعرت وكأن السماء تقع فوق رؤوسنا وقد تحدث عن الأمر ديڤيد بن گوريون شخصيا مرارا وتكرارا مؤكدا أنه لا ينام الليل بسبب الكوابيس التي تنتابه من هذا الأمر، فكيف له كأول رئيس وزراء أن يأتي باليهود من أنحاء مختلفة من اوروبا لكي يواجهوا كابوس الهولوكوست ثانية فوق أرض بلدهم هذه المرة".

لقد دفع هذا الأمر رئيس الموساد إيسر هاريل إلى اعلان حالة طواريء استخباراتية شاملة في كل زاوية في مقر الوكالة، وبدأت البرقيات تتطاير إلى كل محطات الموساد في اوروبا لجمع كل ما أمكن من المعلومات عن الألمان الذين شاركوا في مشروع عبد الناصر وامكانية تجنيدهم للعمل مع العملاء الإسرائيليين، حتى لو اقتضى الأمر استخدام القوة معهم. على الفور، بدأ عملاء الموساد العمل على خرق البعثات الدبلوماسية المصرية في اوروبا لتصوير ما لديها من وثائق، ومن ضمن هذه العمليات تجنيد عامل سويسري في الخطوط الجوية المصرية في زيوريخ، اتاح لعملاء الموساد الإستحصال على حقائب البريد الدبلوماسي المصري ليلا مرتين في الاسبوع، حيث كانوا يأخذون الحقائب إلى مكان آمن في المدينة ويقومون بفتحها وتصوير محتوياتها من وثائق، قبل أن يعيدوا اغلاقها بطريقة احترافية تحول دون معرفة أنها سبق ان فتحت، ويعيدوها إلى مقر الخطوط الجوية المصرية في الليلة نفسها. لقد أدى ذلك بعد فترة وجيزة إلى إن يكوّن الموساد فكرة عن برنامج الصواريخ المصرية وكل القيمين عليه من أجانب ومصريين.

وتبين لجهاز الموساد من خلال تلك الوثائق، يقول برگمن، إن من أطلق مشروع تطوير الصواريخ المصرية هما العالمان الألمانيان الدكتور أويگن سانگر وڤولفگانگ بيلتز اللذان كان لهما الدور الاساس خلال الحرب العالمية الثانية في مركز الابحاث التابع للجيش الالماني في قاعدة "بينينموند". وقد انضم هذان العالمان في عام 1954 إلى مركز ابحاث فيزياء الدفع النفاث في مدينة شتوتگارت الألمانية الذي ترأسه سانجر نفسه، فيما تولى بيتلز رئاسة اقسام المركز ومعه عالمان ألمانيان خدما في صفوف الجيش الألماني، هما الدكتور پول گورسكي والدكتور هانس كروگ. وقد شعرت هذه المجموعة من العلماء أنها لم تنل ما تستحقه من مراكز عمل ومستحقات مالية بعد الحرب العالمية، فلجأ أفرادها في عام 1959 إلى التواصل مع النظام المصري وعرضوا خدماتهم لتطوير برنامج صواريخ أرض-أرض البعيدة المدى. وافق عبد الناصر على تجنيدهم وعيّن أحد اقرب مستشاريه العسكريين الجنرال عصام الدين محمود خليل لتنسيق البرنامج والانطلاق به، وكان هذا الجنرال مديرا للمخابرات الجوية المصرية.

أنشأ الجنرال خليل قسما خاصا لهذا البرنامج كان منفصلا عن منظومة الإمرة والقيادة للجيش المصري، وبدأ وصول الدفعة الأولى من العلماء الألمان إلى مصر في أبريل 1960، وفي أواخر ذلك العام كان كل من سانجر وبيلتز وگورسكي قد تموضعوا في مصر ومعهم 35 عالما وفنيا المانيا. وتضمن المجمع الذي عاشوا فيه حقول اختبار ومختبرات وأماكن سكنية فاخرة إضافة إلى رواتب خيالية وبقي الدكتور هانس كروگ في ألمانيا حيث أنشأ شركة تجارة دولية كانت عبارة عن غطاء اوروبي لتزويد مجموعة مصر بما تحتاجه من معدات ومواد.

ويقول برگمن أنه كلما كانت المعلومات تتدفق إلى مقر الموساد عن عمل هذه المجموعة، كلما كان الهلع يزداد لدى قادة الموساد، ففي 16 أغسطس 1962، حصل عملاء الموساد من الحقائب الدبلوماسية المصرية على رسالة موقعة من العالم الألماني بيلتز نفسه تعدد كل القطع التي يحتاج إلى أن يستحصل عليها فريق العلماء لصناعة 900 صاروخ للجيش المصري، ويضيف أن هذه الوثيقة أوقعت قادة الموساد في حالة من الذعر لأن هذا العدد من الصواريخ كان هائلا بالنسبة إليهم وما كان أسوأ من هذا الرقم هو ما تضمنته الوثيقة عن تزويد الصواريخ برؤوس مشعة وكيميائية. وقد استدعى ذلك دعوة بن گوريون إلى اجتماع عالي المستوى سأل فيه ايسر هاريل عن خطته لمواجهة الأمر. فكان رد الأخير أنه طالما أن المشروع الصاروخي لم يصل إلى درجة الانتاج، فهو يحتاج إلى العلماء الالمان. كانت خطته تقضي بأن يخطف أو يقتل هؤلاء العلماء الالمان للحؤول دون نجاح المشروع.

نموذج مفهوم سانگر-2 في متحف شپاير التكنولوجي.

وفي نهاية شهر أغسطس، سافر هاريل في جولة اوروبية لوضع خطته موضع التنفيذ، ولما فشلت كل مساعي عملائه في تحديد مكان اقامة بيلتز، قرر هاريل أن يركز عمله ضد العالم كروگ. ويروي برگمن تفاصيل مثيرة عن عملية خطف كروگ قائلا أنه في الساعة الخامسة بعد ظهر يوم الاثنين في العاشر من سبتمبر 1962 اتصل هاتفيا شخص بالعالم كروگ في منزله وقدم نفسه على أنه يدعى (قاهر صالح)، وقال أنه يتكلم نيابة عن العقيد سعيد نديم كبير مساعدي الجنرال محمود خليل، وقال له أن العقيد نديم الذي يعرفه كروگ شخصيا يود اللقاء به بخصوص أمور مهمة جدا، وكان صالح يتحدث بلغة ودودة جدا، وقال له أنه يقيم فندق إمباسدور في ميونيخ وأن الأمر الذي يود العقيد نديم ان يحدثه به يتضمن صفقة تدر على كروگ ارباحا كبيرة ولا مجال لمناقشتها في مقر الشركة التي يتولى رئاستها بسبب طبيعتها الخاصة.

لم ير كروگ ما يثير الريبة في الموضوع وقَبِلَ دعوة صالح للقاء، ولكن الأخير لم يكن سوى أحد عملاء الموساد القدماء ويدعى عيديد وهو من مواليد العراق، وقد درس في مدارس بغداد إلى جانب المسلمين وتعلم كل تقاليد حياتهم ناهيك عن تمكنه من اللغة العربية بصورة جيدة، وكان ناشطا سريا صهيونيا هناك حتى العام 1949 حين فر من العراق قبل وقت قليل من اكتشافه ومحاولة القبض عليه، وقد عمل بعدها مع الموساد في عمليات عديدة ضد اهداف عربية.

إتفق عيديد مع كروگ أن يلاقيه في مقر الشركة في اليوم التالي حتى يأخذه إلى الفيلا التي يقطن فيها العقيد نديم خارج المدينة، وهذا ما حصل، إذ جاء عيديد في اليوم التالي إلى مقر الشركة بسيارة تاكسي من نوع مرسيديس، وكان كروگ سعيدا بمجيئه من دون أن يراوده أدنى شك بهويته الحقيقية إلى درجة أنه طلب منه أن يدخل إلى مكاتب الشركة، حيث قدمه إلى الموظفين قبل ان يغادرا معا بالتاكسي. وينقل برگمن عن عيديد قوله "كانت هناك كيمياء بيننا عندما كنت أطري على شخصيته خلال تبادلنا الحديث في السيارة وكنت أقول له أننا في المخابرات المصرية نقدر عاليا خدماته واسهاماته في ما أخذ هو يخبرني بدوره عن المرسيديس الجديدة التي إقتناها".

وصلت السيارة إلى الفيلا التي كان يفترض أن تكون مقر اقامة العقيد نديم، وعندما خرج كروگ من السيارة فتحت له مدخل الفيلا سيدة وأدخلته من دون أن يدخل عيديد، وفي الغرفة التي دخلها كان هناك ثلاثة عملاء من الموساد عاجلوا كروگ ببضع لكمات ورموه أرضا قبل ان يكبلوه وقام طبيب فرنسي يهودي بفحصه حيث رأى أنه تحت وقع الصدمة ونصح بعدم إعطائه آية مسكنات وبادره أحد عملاء الموساد بالقول باللغة الألمانية "أنت الآن سجين لدينا فإما أن تفعل ما نقوله لك أو أننا سننهي حياتك الآن"، فوعده كروگ بالتعاون.

تم نقل السجين كروگ في عربة تجرهها سيارة فولكس‌ڤاگن وانطلق موكب الجميع، ومن ضمنهم أيسر هاريل، برا نحو الحدود الفرنسية، وفي الطريق توقف الموكب في إحدى الغابات حيث أبلغ هاريل العالم الألماني كروگ أنه إذا أتى بأية حركة مشبوهة عند المرور على الحدود، سيعمل سائق العربة على بث نوع من السم يقضي عليه على الفور. مرت الأمور بسلام على الحدود ووصل الموكب إلى مدينة مارسيليا الفرنسية حيث جرى تخدير كروگ قبل نقله على متن احدى طائرات شركة العال التي كانت تتولى نقل اليهود المهاجرين من شمال أفريقيا إلى إسرائيل، وقال عملاء الموساد لضباط المطار أن كروگ هو مهاجر مريض جدا لتبرير تخديره، في ما تولى عملاء آخرون بث معلومات مغلوطة تضمنت صورا لشخص يشبه كروگ، وهو يتنقل حاملا حقيبة وثائق في أمريكا الجنوبية للايحاء بأن كروگ قبض الأموال من المخابرات المصرية وفر، وبشكل مواز، سربت وكالة الموساد إلى الإعلام أن كروگ تشاجر مع الجنرال خليل وجماعته، ما أدى إلى اعتقاله وقتله من قبل المخابرات المصرية.

ويضيف برگمن، في إسرائيل جرى التحفظ على كروگ في أحد المقرات السرية للموساد حيث أخضع لتحقيق قاس لعدة أشهر، في البداية، لزم السجين الصمت ولكن مع الوقت انهار، وبدأ بالتعاون وقدما معلومات غاية في الأهمية، بحسب ما يقول تقرير لوكالة الموساد عن الواقعة، ويضيف التقرير "كان الرجل يتمتع بذاكرة قوية جدا ولديه معلومات تفصيلية دقيقة جدا عن البرنامج الصاروخي المصري في ما كانت الوثائق في حقيبته أيضا تتضمن معلومات قيمة".

بعد أن انتهى التحقيق معه عرض كروگ أن يعود إلى ميونيخ ويتعاون مع الموساد، وقد أغرت الفكرة عملاء الوكالة لكن أيسر هاريل رأى فيها مخاطرة كبيرة خشية أن يقوم السجين بتسليم نفسه للشرطة ويروي واقعة خطفه فقرر ما هو أسهل، إ أمر أحد رجاله بنقل كروگ إلى منطقة نائية شمال تل أبيب واطلاق النار عليه قبل أن تقوم طائرة عسكرية إسرائيلية بأخذ جثته ورميها في البحر.

نجاح عملية خطف كروگ زادت حماسة بن گوريون، فأعطى الضوء الأخضر لعمليات قتل أخرى، كما أقر باستخدام الوحدة رقم 188 في الاستخبارات العسكرية أمان لتنفيذ الأمر. يقول برگمن أن هذا الأمر أطلق منافسة حامية بين الموساد وأمان لتنفيذ عمليات القتل.

اغتيالات جديدة تحضيراً لحرب 1967

بعد نجاح عملية اختطاف العالم الالماني "هانز كروگ" من بلاده ونقله إلى تل ابيب حيث جرى التحقيق معه لعدة اشهر وسحبت منه كل المعلومات عن البرنامج الصاروخي المصري، امر رئيس الموساد "ايسر هاريل" بنقله إلى احد ضواحي تل ابيب وقتله ومن هناك نقلت طائرة عسكرية جثته ورمتها في عرض البحر.

نجاح هذه العملية شجّع رئيس الوزراء ديڤد بن گوريون على اعطاء الضوء الاخضر للمزيد من عمليات الاغتيال والقتل المتعمد وسمح باستخدام المخابرات العسكرية "امان" للوحدة 188 وهي الوحدة التي تضم جنود نخبة يتم زرعهم في قلب دول الاعداء، بغطاء من المعلومات الكاذبة عن حياتهم، وكان مقر هذه الوحدة في مجمع "سارونا" غير البعيد عن مكتب بن گوريون في تل ابيب ولديها منشآت تدريب خاصة بها على الشاطىء شمال تل ابيب بالقرب من مختبرات ناتان روتبرگ العسكرية التي تعد المتفجرات للعمليات الخاصة. لم يقتنع اللواء مائير عاميت رئيس المخابرات العسكرية "أمان" بان العلماء الالمان يشكلون خطرا مصيريا على "إسرائيل" كما كان يعتقد "هاريل"، ولكن نظرا للتنافس المهني بين الموساد وبين الوحدة 188 التي كانت ضمن امرته سمح "اميت" لتلك الوحدة بالتصرف ضد العلماء الالمان. وهكذا حصلت المنافسة بين الجهازين حول من يقتل اكثر، كما يقول الكاتب والصحافي رونين برگمن في كتابه "إنهض واقتل اولاً، التاريخ السري لعمليات الاغتيال الإسرائيلية".

في ذلك الوقت، كان لدى الوحدة 188 عميل سري في مصر يتمتع بغطاء كبير، كان اسمه "ڤولفگانگ لوتس" وهو ابن رجل طيب القلب وام يهودية ويتمتع بمظهر الماني واضح ولم يكن مختونا (كان حينها يشكل الختان علامة فارقة على ان المختون إما يهوديا او مسلما، يعني كان باستطاعة هذا العميل ان يقول انه ليس يهودياً). وكان يزعم وفق القصة ـ الغطاء انه كان احد ضباط الجنرال النازي رومل في الجيش الذي غزا به افريقيا وبعد هزيمة المانيا تحول لتربية الخيل وعاد إلى مصر حيث انشأ مزرعة خيل. وخلال وقت قصير تمكن "لوتس" الذي كان بارعا في التمثيل ان يخالط المجتمع الالماني في القاهرة، واستطاع الحصول على الكثير من المعلومات عن البرنامج الصاروخي المصري وعن العاملين فيه لكنه لم ينخرط في اية عملية تصفية لاي منهم خوفا من انكشافه، فقرر قائد الوحدة 188 يوسف ياريڤ ان افضل الطرق لتنفيذ عمليات القتل هي اللجوء إلى الرسائل والهدايا المفخخة، فامر "ناتان روتبيرغ" بتحضير القنابل والمفخخات المطلوبة، وقد اعد الاخير قنابل من ورق رقيق يستخدم للكتابة.

يشرح برگمن الطريقة المعقدة لهذه المفخخات نقلا عن روتبرگ نفسه ويعزو الفضل في تقنية التفخيخ الحديثة للتعاون الذي جرى مع الاستخبارات الفرنسية حينها حيث تم تبادل معلوماتهم في التفخيخ والمتفجرات بالمعلومات التي كان ينقلها "لوتس" عن نشطاء جبهة التحرير الوطني الجزائرية المقيمين في القاهرة. كما ساعدت الوحدة 188 الاستخبارات الفرنسية بنقل عبوات ناسفة إلى القاهرة لقتل عناصر من جبهة التحرير الوطني الجزائرية.

يقول برگمن ان اول اهداف الرسائل المفخخة كان الالماني "ألڤيس برونر" الذي كان يقيم منذ ثماني سنوات في دمشق ويدرب الاستخبارات السورية على تقنيات التحقيق كونه خدم خلال الحرب العالمية الثانية نائبا لأدولف آيخمان قائد احد معسكرات التعذيب النازية في فرنسا. وكان من كشف هوية "برونر" في دمشق هو أحد كبار عملاء الوحدة 188 العميل الشهير إيلي كوهين الذي كان على صلة مباشرة وعلاقات جيدة مع نخبة المسؤولين في المؤسسة العسكرية السورية. وبعد موافقة بن گوريون على قتل "برونر" ارسل قائد الوحدة 188 "يوسف ياريڤ" اولى الرسائل المفخخة التي اعدها "روتبرگ" إلى الضحية وفي 13 سبتمبر عام 1962 انفجرت الرسالة بين ايدي "برونر" في دمشق فتسببت باصابات بالغة في وجهه وخسر عينه اليسرى لكنه بقي على قيد الحياة.

شجعت هذه العملية عناصر الوحدة 188 على قتل العلماء الالمان بالطريقة نفسها لكن وبحكم المنافسة المهنية بينهم وبين "الموساد" اعترض رئيس الموساد" على استخدام هذه الطريقة وبرر اعتراضه بالقول "انا ارفض اي عمل لا يمكنني ان اسيطر عليه، ماذا لو فتح ساعي البريد الرسالة او ماذا لو فتحها احد الاولاد؟ من يفعل امورا كهذه؟"

كان من الصعب جدا استخدام طريقة الرسائل البريدية مع العلماء الالمان في مصر لانهم ما كانوا يستلمون رسائلهم بانفسهم، فقد كانت الاستخبارات المصرية تجمع كل الرسائل المرسلة إلى البرنامج الصاروخي المصري والعاملين فيه في مكاتب شركة مصر للطيران وتعيد ارسالها إلى القاهرة، لذلك تقرر اقتحام مكاتب شركة الطيران ليلا وزرع الرسائل المفخخة في البريد المرسل إلى القاهرة.

ويضيف برگمن لقد اختارت الاستخبارات "بيلتز" ليكون اول اهدافها في القاهرة ومن خلال المعلومات المجمعة عنه انه كان يريد الزواج من مساعدته "هانلور ويندي" ومن اجل ذك كان في خضم عملية طلاق زوجته التي كانت تعيش في برلين والتي كانت كلفت محاميها في هامبورگ لمتابعة معاملات الطلاق. لذلك فقد حملت الرسالة المفخخة اسم وعنوان المحامي في هامبورگ على اعتبار ان هكذا رسالة شخصية لن يفتحها غيره ولكن المخططين اخطأوا في تقديرهم لان من استلم الرسالة كانت "ويندي" نفسها، وباعتبار ان الرسالة ستترك بالغ الاثر على حياتها الشخصية، فقد بادرت إلى فتحها في 27 نوفمبر فانفجرت بين يديها لتتسبب لها بخسارة العديد من اسنانها واحدى عينيها وتضرر الثانية. على الفور، عرفت المخابرات المصرية ماذا يجري فبادرت إلى جمع كل الرسائل وعرضتها على الاشعة السينية لتبين المفخخ منها وبمساعدة المخابرات السوڤيتية تم تفكيك تلك الرسائل. تسببت تلك العملية بحالة من الهلع عند العلماء الالمان وعائلاتهم لكن ليس لدرجة ان يتخلوا عن عملهم وما يؤمنه لهم من مدخول سخي فيما قامت المخابرات المصرية باستخدام ضابط استخبارات الماني سابق اسمه "أدولف هيرمان فالنتاين" الذي بادر على الفور إلى تغيير كل الاقفال لابواب شركة الطيران المصرية وتأمين عمليات تسليم البريد والتحقق من خلفيات بعض العاملين في البرنامج الصاروخي المصري.

يقول برگمن ان الهدف التالي على لائحة القتل التي اعدها رئيس الموساد أيسر هاريل كان العالم الالماني "الدكتور هانس كلاينووتشر" ومختبره في بلدة لورش الالمانية، ولهذه الغاية ارسل "هاريل" رجاله من احدى وحدات "الشين بيت" العاملة تحت قيادته إلى اوروبا بتوجيهات واضحة بضرورة خطف كلاينووتشر والمجيء به إلى تل ابيب وان تعذر ذلك فليقتل حيث هو. واقام "هاريل" مقر قيادته الشخصية للعملية في مدينة مولهاوس الفرنسية. يقول رافي ايتان الذي اصبح لاحقا رئيسا للموساد "ان الطقس كان باردا جدا في ذلك الحين والحرارة كانت تقارب العشرين تحت الصفر وكان عملاؤنا متعبين من ملاحقة العلماء الالمان وتجميع المعلومات عنهم فقلت لهاريل ان الظروف غير ناضجة لتنفيذ العملية واذا كان بالامكان ان تعطيني مهلة شهر فسانفذ العملية من دون ان يعلم احد اني كنت في المنطقة حتى". لكن "هاريل" لم يصغ لضابطه واصر على مواصلة العملية فاعاد عملاء الشين بيت إلى تل ابيب واستدعى وحدة "ميفراتز" للاغتيال التي كان يقودها إسحاق شامير (اصبح لاحقا رئيس وزراء الكيان العبري). ولكن ما لم يعلمه "هاريل" هو ان تقديرات "فالنتاين" كانت ان كلاينووتشر سيكون الهدف التالي للموساد فزوده بالاضافة إلى مسدس حربي مصري بمرافقة دائمة وببعض التعليمات لكيفية التصرف.

ويواصل برگمن سرده قائلا انه في 20 فبراير رأى عملاء الموساد كلايتووتشر يغادر مدينة لورش وحيدا إلى مدينة "بازل" فتقرر ان تكون عملية الاغتيال في طريق عودته وتولى قيادة العملية في الميدان شامير وهاريل بانفسهما وكلفا احد القتلة المعروفين في منظمة "إرگون" الصهيونية المتطرفة "أكيڤا كوهين" باطلاق النار على كلاينووتشر بمساعدة "تصڤي أهاروني" الذي كان يجيد اللغة الالمانية. انتظر القتلة هدفهم ليعود من رحلته لكنه تأخر كثيرا ولم يظهر فقرر شامير وهاريل الغاء العملية وبعد اصدارهم الامر بذلك ظهر كلاينووتشر فعاجلا إلى الغاء الامر بالغاء العملية فتحولت العملية برمتها "إلى عمل مبتدئين" كما يقول برگمن اذ قام القتلة باعتراض سيارة الهدف ولكن طريقة وقوف سيارتهم كانت تمنعهم من العودة إلى طريق الهرب باتجاه السيارة التي تنتظرهم والاسوأ انه عندما توجه "اهاروني" شاهرا مسدسه إلى سيارة الهدف واطلق الطلقة الاولى تعطل المسدس معه ولم تصب الطلقة سوى الشال الذي كان يرتديه الهدف ما اتاح للاخير ان يشهر مسدسه ويطارد القتلة باطلاق النار، لم يصب احد منهم ولكن فشلت العملية فشلا ذريعا ومحرجا للاستخبارات الإسرائيلية.

يقول برگمن ان "هاريل" لجأ بعد هذه العملية الفاشلة إلى القيام بعدد من الاعمال التي هدفت إلى بث الذعر في قلوب العلماء الالمان وعائلاتهم بما في ذلك ارسال رسائل التهديد لهم تتضمن معلومات عن حياتهم كما ارسال زوار الليل الخفيين الذين يطرقون الباب ويهربون فقط لتوجيه رسائل التهديد، وحتى هذه العمليات فشلت ايضا عندما القت الشرطة السويسرية القبض على احد عملاء الموساد "جوزيف بن جال" اثر تهديده ابنة العالم البورفسر غورسكي فابعدته إلى المانيا حيث حوكم وسجن لفترة قصيرة وقد ظهر خلال المحاكمة "فالنتاين" نفسه بابتسامة لئيمة على وجهه من دون ان يخفي المسدس الذي كان يحمله.

ويضيف برگمن انه في ربيع عام 1963 وبعد سلسلة اخفاقات ميدانية للموساد لم يهدأ "هاريل" ولم يتوقف البرنامج الصاروخي المصري فانتقل هاريل إلى عملية تسريب قصصة مفبركة إلى الصحافة وتوجها بقصة عن مساعدة يقدمها الالمان لمصر لانتاج قنابل ذرية واخرى تعمل باشعة الليزر لابادة اليهود، وكانت السلطات الالمانية تعرف بدور العلماء الالمان في تطوير البرنامج الصاورخي المصري وحدوده وكانت تعتبر ان العلماء الالمان الذين اعتادوا حياة البذخ ابان الحكم النازي وجدوا انفسهم عاطلين عن العمل بعد انتهاء الحرب الثانية فاخذوا يعملون لدى المصريين ليجنوا المال السهل. لكن "هاريل" كان قد اصبح في حالة من الهوس جر اليها ليس فقط الموساد بل البلاد كلها. فاخذ ينشر معلومات عن الالمان في القاهرة علماء وغير علماء ليستفز المانيا الغربية التي كانت قد عقدت عدة اتفاقيات مع "إسرائيل" لتعويضها عما لحق باليهود ابان الحرب العالمية الثانية لكن كل ذلك لم يخرج المانيا من عقول الصقور في الادارة "الإسرائيلية" امثال هاريل وگولدا مائير على انها غير المانيا النازية وهي المانيا جديدة ومختلفة تماما.

ووصل الامر بهاريل ان استدعى رؤساء تحرير الصحف الذين كانوا بطلب من الحكومة يمارسون الرقابة الذاتية على ما ينشرون، وطلب منهم تسمية ثلاثة صحافيين للعمل معه، وقد جندهم في الموساد وارسلهم إلى اوروبا على حساب الموساد لجمع معلومات عن الشركات التي تشكل واجهة لشراء معدات مهمة للبرنامج الصاروخي المصري، وحقيقة الامر ان هاريل كان يزود هؤلاء الصحافيين بالمعلومات التي يود ان ينشرها ولكن بصيغة انها تحقيق من صناعة هؤلاء الصحافيين. وقد تسببت قصص هاريل بحالة من الذعر في إسرائيل ما حدا ببن گوريون نفسه ان يعمل على تهدئته بلا جدوى، وينقل برگمن عن رئيس الشين بيت "اموس مانور" قوله "لقد بلغ الامر بهاريل اكثر من الهوس إلى درجة بات من المستحيل ان تجري اي نقاش عقلاني معه حيال الموضوع".

ويقول برگمن كما كل حالات الهوس انتهت حالة "هارئل" بتدميره، فقد وصل الامر به إلى ان القصص التي بدأت تظهر في الصحف تتحدث عن عودة النزعة الهتلرية عبر مصر وبرنامجها الصاروخي والذري ما ادى إلى اصابة بن گوريون باذى شديد وانطلقت ضده الحملات السياسية التي اتهمته بالتقصير في مواجهة خطر العلماء الالمان في مصر الذين لم تفعل المانيا الغربية شيئا لمنع خطرهم ايضا وبالتالي تعتبر مسؤولة عن الخطر المحدق بالكيان الصهيوني.

ويضيف برگمن انه في 25 مارس 1963 استدعى "بن گوريون" "هاريل" إلى مكتبه وطلب منه توضيح ما يتسرب في وسائل الاعلام المحلية والعالمية من دون موافقته وتحولت المناقشة بين الرجلين إلى صراخ عال حول سياسة الحكومة "الإسرائيلية" اتجاه المانيا الغربية و"قال رئيس الوزراء لهارئل إن مهمتك هي تنفيذ سياسة الحكومة لا صناعتها فرد هاريل بعرض استقالته ظنا منه ان الرئيس العجوز لا يستطيع الاستغناء عنه لكن الاخير سرعان ما وافق عليها".

ويختم برگمن بالقول لقد انتهت مهنة آيسر هاريل الذي كان لامعا في فترة ما وانتهى بالفشل الذريع والهزيمة المدوية ليحل محله في رئاسة الموساد "مائير اميت" رئيس جهاز الاستخبارات العسكرية "أمان".

برنامج مصر الصاروخي.. كونتيسة تقود الموساد إلى وحش نازي

يقول الكاتب رونن برگمن أنه في العام 1963 وبعد أن أدى هَوسُ رئيس الموساد إيسر هارئل بملاحقة العلماء الألمان المشرفين على البرنامج الصاروخي المصري إلى الاطاحة به واستبداله بمئير عميت رئيس جهاز الاستخبارات العسكرية أمان، شعر رئيس الحكومة ديڤد بن گوريون بأنه خسر دعم حزبه، فاستقال ليحل محله لڤي إشكول.

في غضون ذلك، كانت مصر تواصل تجاربها الصاروخية الناجحة التي وصلت إلى أربعة تجارب بحسب رونن برگمن في كتابه إنهض واقتل اولاً. أولى مهمات الضابط اللامع مئير عميت الذي كان العقل المخطط للعدوان على مصر عام 1956 هي رفع المعنويات المنهارة لجهاز الموساد جراء سلسلة الاخفاقات في مواجهة البرنامج الصاروخي المصري.

انكب عميت على اعادة بناء جهاز الموساد عبر تزويده بافضل الكفاءات البشرية التي إخترها في موقعه على رأس جهاز أمان، وأمر بوقف كل المصاريف الخارجية المبالغ بها كما أمر بتخفيض كبير في الموارد التي كانت مخصصة لمطاردة من أسماهم بالمجرمين النازيين قائلاً: "الأمر يتعلق بالأولويات، فقبل كل شيء علينا تركيز الجهود على الأعداء الحاليين للدولة الإسرائيلية".

وفي هذا الاطار، غير عميت توجه الموساد حيال البرنامج الصاروخي المصري من تركيز الجهود لمطاردة العلماء الألمان إلى وضع كل الامكانيات لمعرفة ماذا يجري داخل هذا البرنامج وإلى أين وصلت القدرات الصاروخية المصرية. هذا في العلن، بحسب ما يقول برگمن، أما سراً، فقد حضّر مئير عميت لائحته الخاصة لاغتيال العلماء الألمان، وذلك عبر ارسال الرسائل المفخخة من داخل مصر نفسها لتوفير الوقت والجهد الذي يتطلبه ارسالها من الخارج مع التركيز على الأهداف السهلة التي كان من ضمنها الطبيب هانس ايزيل الذي كان يعيش في منطقة المعادي في القاهرة تحت اسم "الدكتور كارل ديبوشي"، غير أن الرسالة الموجهة إليه انفجرت بيدي ساعي البريد وتسببت له بالعمى.

لقد تسبب فشل عملية اغتيال الطبيب الألماني باعادة عميت النظر مجدداً في عمليات القتل هذه كي لا تتسبب لجهاز الموساد بمزيد من احراجات الفشل أمام القيادة السياسية. فأعطى أوامره للموساد بتحضير خطط الاغتيال للعلماء الألمان إما باطلاق النار أو بالعبوات الناسفة أو بدس السم، كما أمر بتشديد المراقبة على كل المكاتب التي على صلة بالبرنامج الصاروخي المصري في كل من ألمانيا وسويسرا وتصوير كل ما يمكن أن تصل إليه يد الموساد من وثائق لكن ذلك لم يكن بالأمر السهل، فقد شددت المخابرات المصرية تدابير الأمان على تلك المكاتب عبر عملاء الخبير الأمني الألماني هيرمان فالنتاين اضافة إلى الحراسة المشددة من قبل اجهزة الأمن الأوروپية المحلية التي لم تكن تتهاون في تطبيق القانون.

برغم ذلك، نفذ عملاء الموساد في الفترة الممتدة بين شهر أغسطس 1964 وشهر ديسمبر 1966 أكثر من 56 عملية سطو على مكاتب شركة مصر للطيران في فرانكفورت والملحقية التجارية المصرية في مدينة كولونيا ومكاتب شركة إنترا في ميونيخ، وبلغ عدد الوثائق التي جرى تصويرها حتى نهاية العام 1964 حوالي ثلاثين ألف وثيقة، وعلى الرغم من أهمية هذه الوثائق غير أنها لم تكن كافية لاعطاء صورة واضحة عن تطور البرنامج الصاروخي المصري، فقرر الموساد تجنيد أحد ما داخل البرنامج نفسه، وقد كانت هذه المهمة صعبة للغاية فتم تكليف وحدة تسمى "المفصل" لتنفيذها وقد كان عناصر هذه الوحدة مدربين جيداً كما أن معظمهم كانوا خبراء نفسيين يعرفون كيف يقنعون شخصاً ما لكي يخون كل شيء وكل شخص وكل ما يؤمن به من أصدقائه وعائلته إلى منظمته ووطنه.

يضيف برگمن، أن عملاء وحدة "المفصل" لم يتمكنوا من تجنيد أحد على معرفة بالبرنامج الصاروخي مباشرة فتحول أمر تجنيد العملاء العرب إلى أولوية استراتيجية بعيدة المدى ولكن على المدى القريب كان على عملاء "المفصل" العمل لايجاد شيء آخر لأن عقارب الساعة تجري بسرعة والبرنامج الصاروخي المصري يتطور أيضاً.

في أبريل 1964، أرسل عميت رافي إيتان إلى باريس، التي كانت تعتبر مركز العصب الرئيس للاستخبارات الإسرائيلية في أوروبا، ليقود عمليات وحدة "المفصل" في كل القارة، بعدما كانت كل عمليات هذه الوحدة لتجنيد أي من العلماء الألمان قد باءت بالفشل نظراً للتدابير الأمنية الصارمة حولهم والتي كان يفرضها الخبير الأمني فالنتاين الذي أصبح يشكل بدوره عقبة كأداء أمام الموساد. لذلك، انصبت جهود الاستخبارات الإسرائيلية على كيفية التعامل معه، واسفرت تلك الجهود عن اصطياد سمكة اكبر بكثير منه، بحسب رونن برگمن.

يقول الكاتب أن منسق عمليات "المفصل" في مدينة بون الألمانية إبراهام أخي‌طوڤ جاء إلى باريس في شهر مايو 1964 للقاء مديره إيتان حاملا معه فكرة تجنيد شخصية مثيرة للجدل تتولى بيع أسلحة ومعلومات استخبارية للنظام المصري برئاسة جمال عبد الناصر، وهو على علاقة وطيدة مع العلماء الألمان. ولكن هناك مشكلة صغيرة في هذا الشخص، بحسب ما قال أهيتوڤ لمديره، وهي أن هذا الشخص ويدعى أوتو سكورزني كان قائد العمليات الخاصة في الجيش النازي والمفضل عند هتلر نفسه بين كل ضباطه. يضيف برگمن أن إيتان صعق بفكرة أهيتوڤ ورد عليه بسرعة وبسخرية "رائع.. وأنت تريد أن تجند أوتو هذا؟" فرد عليه أهيتوڤ بالقول "هناك مشكلة صغيرة أخرى أيضاً وهي أن أوتو كان نازياً حتى النخاع وعضواً في جهاز الاستخبارات النازي إس إس، واضاف أهيتوڤ قائلا لمديره أنه في العام 1960، وفي اطار حملة مطاردة مجرمي الحرب النازيين، أمر رئيس الموساد حينها إيسر هارئل بجمع كل ما أمكن من معلومات عن أوتو سكورزيني بهدف سوقه للعدالة أو قتله. وبحسب ملفه عند الموساد، فإن سكورزيني كان عضواً متحمساً في الحزب النازي النمساوي وهو في عمر الثالثة والعشرين وانضم إلى الاستخبارات النازية إس إس في العام 1935 وشارك في عملية ضم النمسا إلى ألمانيا النازية، وتسلق سلم الرتب بسرعة قياسية حيث أصبح قائد وحدات العمليات الخاصة في الإس إس. ومن ضمن أعماله أنه أنزل بالمظلات مع إحدى وحداته في إيران خلف خطوط الحلفاء ودرب قبائل محلية على عمليات تفجير أنابيب النفط التي كانت تخدم جيوش الحلفاء في الحرب كما خطط لعملية اغتيال لم يكتب لها النجاح واستهدفت في الوقت نفسه تشرشل وستالين وروزڤلت كما خطط لخطف وقتل الجنرال دوايت أيزنهاور في العام 1944 وأيضاً يعود له الفضل في نجاح عملية گران ساسو التي نفذها بامر من هتلر شخصيا لانقاذ صديقه وحليفه الدكتاتور الفاشي الايطالي بنيتو موسوليني الذي كانت تحتجزه الحكومة الايطالية سجينا في فيلا في منطقة جبال الألپ.

ويضيف برگمن، أن أجهزة استخبارات الحلفاء كانت تعتبر سكورزني الرجل الأخطر في كل أوروبا، وعندما جرى اعتقاله بتهم غير جرائم الحرب، استطاع الفرار بمساعدة اصدقاء سابقين له في جهاز إس إس واتخذ من اسبانيا تحت حكم الدكتاتور فرانكو ملجأ حيث انشأ علاقات تجارية واسعة مع أنظمة فاشية في العالم كما كان على تواصل مع العلماء الألمان في مصر. ونظرا لهذا التواصل ولحقيقة كون سكورزني سابقا الضابط المسؤول عن الخبير الأمني في مصر ڤالنتاين، فان ذلك كان كافيا بنظر إيتان لمحاولة تجنيده بالرغم من كل ماضيه النازي.

وافق إيتان، لكن بقى السؤال الأساس، ما هو الطريق الأضمن لتجنيد هذا الضابط النازي الكبير للعمل لمصلحة دولة إسرائيل؟

أوتو سكورزني وزوجته الكونتسة إيلزى فون فينكن‌شتاين.

يقول برگمن أن عملاء الموساد استطاعوا عبر عدة وسطاء الوصول الى زوجة سكورزيني وهي الكونتيسة إيلزى فون فينكن‌شتاين (45 سنة) Ilse von Finckenstein التي أصبحت مدخلاً لعمليتهم في تجنيد زوجها. وبحسب ملف الكونتيسة لدى الموساد فإنها كانت تنتمي لأسرة ارستقراطية وهي ابنة عم وزير المالية الالماني هيالمار شاخت (قبل الحرب العالمية الثانية) وكانت سيدة جذابة وجميلة وممتلئة حيوية.

وينقل برگمن عن رافائيل ميدان ضابط الموساد المولود في المانيا والذي كلف بالعملية قوله عن الكونتيسة انها كانت منخرطة في شتى انواع النشاطات ذات المردود المالي من بيع الالقاب الشرفية والنبيلة الى بيع الاسلحة وكانت علاقتها جيدة بجهاز الاستخبارات التابع للفاتيكان. ويضيف ميدان ان الاهم من كل ذلك هو انها كانت وزوجها يتبادلان الافكار الليبرالية في العلاقات الزوجية اذ لم يكن لديهم اولاد وكانت هي تقوم بالعلاج بالهرمونات في سويسرا كل سنتين للحفاظ على نضارتها وشبابها.

وكان ميدان، بحسب برگمن، يملك سحرا خاصا على النساء بسبب جماله الأوروبي الذكوري، وبحسب احد تقارير الموساد، فقد جرى الاعداد بصورة جيدة للقاء يجمع بين ميدان والكونتيسة في مدينة دبلن الأيرلندية في أواخر يوليو عام 1964 وقد قدم ميدان نفسه لها على أنه من موظفي وزارة الدفاع الإسرائيلية وأنه شارف على التقاعد ويبحث عن فرصة لإنشاء عمل في مجال السياحة وأنه قد يهتم بالمشاركة بمشروع سياحي في جزر الباهاماز كانت الكونتيسة منخرطة فيه.

يضيف برگمن ان الكونتيسة اعجبت بالضابط الإسرائيلي واخذت علاقتهما تصبح حميمة وعندما انتهت احاديثهما عن العمل، دعته الكونتيسة الى حفلة في مزرعتها، وكان ذلك بداية سلسلة لقاءات تضمنت سهرات في نواد ليلية في انحاء عدة من اوروبا. وفي تلميح الى اقامة ميدان علاقة جنسية مع الكونتيسة، يقول احد تقارير الموساد ان ميدان قدم نفسه اضحية لبلاده، ولكن ميدان نفسه يرفض الكلام عن هذا الجزء من العلاقة، ويقول بابتسامة خبيثة ان الرجل النبيل لا يتحدث في هذه المواضيع.

في ليلة السابع من سبتمبر 1964، إلتقى ميدان بالكونتيسة في مدريد وقال لها ان صديقا له من وزارة الدفاع الإسرائيلية يود ان يلتقي زوجها بشأن قضية مهمة جدا وان هذا الصديق موجود في اوروبا وينتظر اجابة. لم تكن عملية اقناع الكونتيسة بهذا اللقاء صعبة فيكفي انه ذكرها انه قبل اربع سنوات من ذلك التاريخ تمكنت الاستخبارات الإسرائيلية من العثور على النازي أدولف آيخمان والقبض عليه وسوقه للمحاكمة في تل ابيب واعدامه وان عملية مشابهة تطال زوجها شورزيني لن تكون صعبة في ظل النفوذ الاستخباري الإسرائيلي في العالم وان العرض الذي لن تستطيع الكونتيسة ولا زوجها رفضه هو الحياة بلا خوف.

في صباح اليوم التالي، وبعد ليلة طويلة من السكر والتدخين، ابلغت الكونتيسة ميدان بسعادة بالغة ان زوجها على استعداد للقاء صديقه في المساء اذا كان ذلك ممكنا. على الفور، اتصل ميدان بمديره أهيتوڤ وطلب منه المجيء الى مدريد حيث نظم له لقاء مع شورزيني في صالة استقبال باحد الفنادق. وصلت الكونتيسة اولا الى اللقاء وهي في غاية الاناقة ووصل بعدها بربع ساعة زوجها الكولونيل شورزيني فما كان من ميدان بعد ان قدم الرجلان لبعضهما البعض الا ان اخذ الكونتيسة جانبا من اجل "محادثات عمل" وتركهما وحيدين.

وينقل برگمن عن احد تقارير الموساد عن الاجتماع قوله لقد كان صعبا جدا على أهيتوڤ ان يعقد مثل هذا الاجتماع كونه من اصول يهودية متشددة وتلقى تعليمه في مدرسة يهودية في المانيا وبالنسبة له فان مجرد عقد لقاء مع وحش نازي كان تجربة صادمة تفوق كل متطلبات العمل. اما أهيتوڤ وبحسب تقريره عن الاجتماع، فإنه يصف شورزيني بانه "عملاق بجسد قوي البنية على خده الايسر اثار جرح كبير يمتد الى اذنه جراء اصابة تسببت له بضعف في السمع في تلك الاذن ما حدا به ان يطلب مني ان اجلس الى يمينه كي يسمعني، وعندما اراد تزويدي برقم هاتف من مفكرته اخرج من جيبه نظارة بسلسلة توضع على عين واحدة، ووضعها في حجرة عينه اليمنى فبدا حينها مع هذه النظارة وتكاوين جسده الضخمة واثار الجرح على وجهه ونظرته العدائية نموذجا كاملا لضابط نازي. وما اكد هذه الصورة عنه انه وخلال عشائنا تقدم منه احد الاشخاص وطرق كعبي حذاءه ببعضهما البعض وحياه بالقول جنرالي، فاخبرني شورزيني حينها ان هذا الشخص هو صاحب المطعم وكان نازيا من هذه الانحاء".

ويضيف أهيتوڤ انه بعد حديث مطول عن الحرب العالمية وعن دوره الذي انكر خلاله اي مشاركة في اي من جرائم الحرب "شعرت انه لم يعد من جدوى من الاستمرار في لعبة الغميضة"، فقلت له انني ضابط في الموساد، فاجابني انه لم يتفاجأ باننا وصلنا اليه وانه على استعداد لتبادل وجهات النظر معنا. وكان تعبير تبادل وجهات النظر هو الطريقة الدبلوماسية المهذبة ليقول انه على استعداد تام للتعاون الكامل مع إسرائيل، وسارع الى السؤال: ما هو الثمن؟ ثم ذهب ابعد من ذلك بان حدد شروطه للتعاون والمساعدة وتلخصت بحصوله على جواز سفر نمساوي صالح باسمه الحقيقي وامر خطي بالعفو عنه والحصانة له طوال عمره من اية محاكمة على أن تكون موقعة من رئيس الحكومة " ليفي اشكول" نفسه بالاضافة الى ازالة اسمه من لائحة النازيين المطلوبين للقتل وكمية من المال.

الموساد يغري العلماء الألمان.. فتفقد مصر العقل الصاروخي

يشرح رونين برگمن كيف استخدم جهاز الموساد أحد ضباطه، رفائيل ميدان لتنفيذ المهمة مستفيداً من أصله الألماني، فتمكن بسرعة قياسية من اقامة علاقة حميمة مع الكونتيسة إيلزى فون فينكن‌شتاين زوجة الضابط النازي السابق أوتو سكورزني الضابط المسؤول حينذاك (1964) عن هيرمان فالنتاين، وهو خبير ألماني مكلف بأمن البرنامج الصاروخي المصري.

يروي برگمن كيف استطاع رفائيل ميدان بعد سلسلة من اللقاءات وحفلات السكر والمجون مع الكونتيسة في نواد ليلية اوروبية أن يعرض عليها فكرة لقاء زوجها مع مسؤول في وزارة الدفاع الإسرائيلية، الأمر الذي وافقت عليه، كما وافق عليه زوجها، فحصل اللقاء في مدينة مدريد الاسبانية بين سكورزني وإبراهام أخي‌طوڤ منسق عمليات وحدة المفصل في مدينة بون الألمانية. ويقول الكاتب أن سكورزني وضع شروطاً للتعاون مع الموساد أبرزها حصوله على مبلغ معتبر من المال وجواز سفر نمساوي باسمه الحقيقي وأمر خطي بالعفو عنه والحصانة له طوال عمره من آية محاكمة على أن يكون موقعاً من رئيس الحكومة لڤي إشكول نفسه بالاضافة الى ازالة اسمه من لائحة النازيين المطلوبين للقتل.

يضيف برگمن أن شروط سكورزني أثارت جدلاً واسعاً في قيادة الموساد، فقد اعتبر كل من أخي‌طوڤ ومدير عمليات وحدة المفصل في اوروبا رافي إيتان أن تنفيذ شروط الضابط الألماني ضروري لنجاح المهمة واجهاض البرنامج الصاروخي المصري، فيما اعتبر مسؤولون أمنيون آخرون ان شروط سكورزني هدفها تنظيف سجله الإجرامي كمجرم حرب نازي، فصدر قرار باعادة النظر في تاريخ هذا الضابط، وقد أظهرت التحقيقات الجديدة أن سكورزني كان قائداً لواحدة من المجموعات التي أحرقت كنيساً يهودياً في العاصمة النمساوي فيينا، وأنه حتى وقت قريب كان من أكبر داعمي منظمات النازية الجديدة، ومع ذلك، فقد أيّد مائير عاميت رئيس جهاز الموساد الرأي الأول، ولكنه رمى الكرة في ملعب رئيس الحكومة إشكول لاتخاذ القرار النهائي، فما كان من الأخير إلا أن استشار كبار مسؤولي الجهاز الذين نجوا من الهولوكوست، فرفضوا دعم القرار، لكن إشكول، وبرغم رفض هؤلاء، أعطى الأمر بصرف الأموال للألماني سكورزني ووقع قرار منحه الحصانة وجواز سفر إسرائيلي. غير ان قرار ازالته عن لائحة النازيين المطلوبين للقتل لم يكن عند إشكول بل عند لجنة صائدي النازيين التي يرأسها سيمون ويزنتال ويمتد عملها إلى كل أنحاء المعمورة، علماً أنها كانت تتلقى تمويلها من الموساد. وقد رفض ويزنتال رفضاً قاطعاً ازالة اسم سكورزني من اللائحة، وعندما أبلغ الأخير باستحالة ازالة اسمه عن لائحة القتل، أعرب عن خيبة أمله ولكنه وافق على المضي قدماً بالاتفاق. وهكذا حصل ما لم يكن بالامكان تصديقه، فقد أصبح الضابط المفضل لدى الفوهرر والمطلوب في كل أنحاء العالم كمجرم حرب نازي والمشتبه به بحرق كنيس يهودي عميلاً أساسياً ومشاركاً في واحدة من اهم العمليات الاستخبارية التي نفذها جهاز الموساد في ستينيات القرن المنصرم.

Cquote2.png عندما سمع فالنتاين ذلك لمعت عيناه لشعوره بالفخر، ولو أن الترقية الآن أصبحت ذات طابع رمزي، إلا أنها عنت له الكثير فوقف على الفور بحالة تأهب وصاح بالتحية النازية هايل هتلر، وشكر سكورزني بحرارة. Cquote1.png

ويضيف برگمن أن الخطوة الأولى في عمل سكورزني كانت التواصل مع أصدقائه العلماء الالمان في مصر وأن يزعم أمامهم أنه بصدد إحياء شبكة لجهاز الاستخبارات النازية إس إس والضباط السابقين في الجيش النازي من أجل العمل على بناء ألمانيا الجديدة أو ما أسماه الرايخ الرابع، وأنه من أجل تنفيذ ذلك، كان عليه أن يقول لهم أن مهمتهم ستكون جمع ما أمكن من معلومات سرية، وبالتالي فإن العلماء الألمان في مصر مطالبون تحت قسمهم يمين الولاء العسكري بتزويد المنظمة الوهمية لسكورزني بكل التفاصيل عن أبحاثهم الصاروخية من أجل إستخدامها في بناء القوة العسكرية الألمانية الجديدة التي كانت قيد الانشاء. وهنا كانت الحاجة ماسة إلى استخدام الخبير الأمني الألماني هيرمان فالنتاين الذي كان على اطلاع كامل على تفاصيل البرنامج الصاروخي المصري، فاتفق سكورزني وأخي‌طوڤ على استخدام الحيلة معه. فاستدعى سكورزني الضابط فالنتاين إلى اجتماع عاجل في مدريد تحت ذريعة أن الأول يعقد لقاء خاصاً لكل من كانوا مرؤوسيه إبان الحرب المجيدة. فجاء فالنتاين ونزل في أفخم فنادق العاصمة الإسبانية على نفقة الموساد، وهنا قال له سكورزني أن اللقاء معه لا يهدف فقط إلى مناقشة الخطة (الوهمية) لاعادة احياء الرايخ بل أنه يريده أن يلتقي صديقاً له في الاستخبارات البريطانية (MI6) لأن الإنگليز مهتمون جداً بما يجري في مصر، وطلب من فالنتاين مساعدة صديقه هذا، لكن الأخير بدا مشككاً في الأمر، وسأل محدثه "هل أنت متأكد أن لا علاقة للإسرائيليين بالأمر؟" فما كان من سكورزني إلا إن صاح بوجهه "قف بحالة تأهب عندما تتحدث إليّ واعتذر فوراً، كيف تجرؤ على قول مثل هذا الأمر لضابط ارفع رتبة منك؟" وعلى الفور اعتذر فالنتاي” عما قاله لكنه لم يكن مقتنعاً برواية محدثه، وفي الحقيقة لم يكن ضابط الاستخبارات البريطانية المزعوم سوى ضابطاً في الموساد من أصل استرالي إسمه هاري باراك. وافق فالنتاين على لقاء هذا الضابط لكنه لم يوافق على التعاون معه.

لم تحبط النتيجة سكورزني بل قرر اللجوء إلى حيلة جديدة، ففي لقائه الثاني مع فالنتاين أبلغه أن صديقه الأمني البريطاني قال له أنه قبل انتهاء الحرب العالمية بقليل، اعترضت المخابرات البريطانية برقية مرسلة منه إلى هيئة قيادة أركان الجيش الألماني يبلغهم فيها ترقيته فالنتاين إلى رتبة أعلى ولكن البرقية لم تصل إليه ولا إلى هيئة الاركان، يقول برگمن أنه عندما سمع فالنتاين ذلك لمعت عيناه لشعوره بالفخر، ولو أن الترقية الآن أصبحت ذات طابع رمزي، إلا أنها عنت له الكثير فوقف على الفور بحالة تأهب وصاح بالتحية النازية هايل هتلر، وشكر سكورزني بحرارة. فاستغل الأخير الأمر، وقال له أنه على استعداد لأن يسلمه رسالة خطية موقعة منه تتضمن هذه الترقية، فكان جواب فالنتاين إنه سيتعاون مع البريطاني وسيزوده بكل ما يطلبه من معلومات تتوفر لديه.

Cquote2.png أجهض الموساد البرنامج الصاروخي المصري من داخله عبر عدة وسائل، منها ارسال رسائل تهديد إلى العلماء الألمان مصاغة بطريقة ذكية جداً تتضمن تفاصيل حميمة عن متلقي الرسالة مثل القول "تذكر انه حتى لو لم تلام على الجرائم التي ارتكبتها الأمة الألمانية في الماضي، فإنك لا تستطيع أن تنكر مسؤوليتك عما تفعله اليوم". Cquote1.png

ويضيف برگمن، مع الوقت أخذ سكورزني يستدعي الى مدريد الضباط السابقين في الجيش الألماني الذين كانوا على صلة بالبرنامج الصاروخي المصري حيث ينزلون في أفخم الفنادق ويجتمعون في منزله يأكلون ويشربون حتى ساعات الصباح الأولى على نفقة الحكومة الإسرائيلية فيما كانت كل أحاديثهم تسجل وترسل إلى جهاز الموساد. وهكذا بين تلك الأحاديث والمعلومات التي وفرها الثنائي فالنتاين وسكورزني أصبح لدى الموساد صورة كاملة عن البرنامج الصاروخي المصري مع تحديد مهمة كل عالم في البرنامج وتفاصيل دقيقة عن عمله. وبفضل كنز المعلومات هذا تمكن رئيس الموساد مائير عاميت من اجهاض البرنامج الصاروخي المصري من داخله عبر عدة وسائل، منها ارسال رسائل تهديد إلى العلماء الالمان مصاغة بطريقة ذكية جداً تتضمن تفاصيل حميمة عن متلقي الرسالة مثل القول "تذكر أنه حتى لو لم تلام على الجرائم التي ارتكبتها الأمة الألمانية في الماضي، فإنك لا تستطيع أن تنكر مسؤوليتك عما تفعله اليوم. فمن المستحسن أن تأخذ مضمون هذه الرسالة بجدية وذلك من أجل عائلتك الصغيرة ومن أجل مستقبلك ومستقبل عائلتك وأطفالك". وكانت تلك الرسائل توقع باسم منظمة مجهولة تدعى جيدوين وهذا اسم احد الأبطال” اليهود في التاريخ السحيق كما انه اسم منظمة مسيحية إنجيلية كانت توزع كتب التوراة في غرف الفنادق في الولايات المتحدة وغيرها من الدول الغربية.

في ذلك الحين وأيضاً بفضل المعلومات التي حصل عليها الموساد من مصادر عدة ولا سيما تلك التي قدمها له فالنتاين، كشف الجهاز الإسرائيلي خطة سرية مصرية لتجنيد أعداد من العلماء والمهندسين في مصنع الصواريخ والطائرات الألماني هليگ في مدينة فرايبورگ والذين كانوا على وشك خسارة عملهم، فبادر رئيس الموساد (مائير عاميت) إلى القيام بخطوة كبيرة من أجل منع مغادرتهم المانيا. ففي التاسع من ديسمبر 1964، قام شمعون پـِرِس نائب وزير الدفاع في ذلك الحين ورافي ميدان بنقل حقيبة مغلقة جيداً تحوي عدداً من الوثائق باللغة الإنگليزية تم اعدادها من قبل مكتب مدير الموساد استناداً إلى المعلومات التي وفرها سكورزني وفالنتاين وبعض العلماء الألمان، وطارا بها إلى ألمانيا الغربية حيث اجتمعا مع النائب السابق لوزير الدفاع الألماني فرانتس يوزف شتراوس لمدة ست ساعات قدما خلالها الوثائق التي تضمنت معلومات لا يرقى إليها أدنى شك عن كل تفاصيل البرنامج الصاروخي الذي ينفذه أعتى أعداء إسرائيل جمال عبد الناصر فيما ألمانيا لا تتخذ أي تدبير حيال ذلك. وينقل برگمن عن پـِرِس قوله إن الاجتماع كان دافئاً جداً وتخلله شرب الكثير من الكحول، وبحسب پـِرِس، فإن شتراوس كان يستطيع شرب كل نبيذ وبيرة العالم. في تلك الجلسة، قال پـِرِس إلى مضيفه في ما يشبه التهديد: هل تتخيل ما هي ردود الفعل على ألمانيا إذا ما وصلت هذه المعلومات إلى وسائل الإعلام العالمية؟

يقول برگمن، إنه على الفور وافق شتراوس على التدخل واستدعى لودڤيگ بولكوڤ الرجل الأكثر تأثيراً في الصناعات الجوية الألمانية، فقام الأخير بارسال مندوبين عنه للتواصل مع العلماء والمهندسين العاملين في مصنع هليگ الذين كانوا على وشك خسارة وظائفهم وقدم لهم عروض عمل مغرية لدى مؤسساته بشرط وحيد وهو عدم التعاون مع المصريين. نجحت الخطة، وحالت دون مغادرة معظم هؤلاء العلماء والمهندسين ألمانيا على الرغم من الحاجة الملحة لهم في البرنامج الصاروخي المصري، ما أدى إلى شل البرنامج بالكامل، بحسب برگمن.

وجاءت الضربة القاضية للبرنامج الصاروخي المصري، عندما قام مندوب لودڤيگ بولكوڤ بزيارة إلى مصر لاقناع العلماء الألمان هناك بالعودة إلى بلادهم وفق شروط مغرية أيضاً، فبدأوا بالمغادرة واحداً تلو الآخر. وبحدود يوليو 1965، غادر العالم بيلز القاهرة وعاد إلى ألمانيا ليرأس أحد الاقسام في مصنع للطائرات تحت إمرة لودڤيگ بولكوڤ.

يختم برگمن هذا الفصل بالقول إن جهاز الموساد إستخدم كل ما أتيح من قدراته لوقف تهديد وجودي من عدو خارجي، وكانت المرة الأولى التي سمحت إسرائيل لنفسها أن تستهدف بالقتل مدنيين من دول على علاقات دبلوماسية معها. وفي تقرير داخلي سري كتب في العام 1982، يقر الموساد بأن استخدام الطرق الناعمة والاغراءات المالية من قبل الدولة الألمانية لاستعادة العلماء الألمان من مصر كان أجدى من استخدام القوة، وأدى إلى خسارة مصر كفاءات ألمانية عالية.

سقط كوهين في دمشق ولوتز في القاهرة.. فإنهارت "قيصرية"

ويروي رونن برگمن بعض فصول الإصلاحات التي نفذها رئيس الموساد مئير عميت في الجهاز، وبينها زيادة عدد الخبراء وادخال المعدات التكنولوجية في عمل الجهاز، بالاضافة إلى تقوية العلاقات الاستخبارية مع العديد من وكالات الاستخبارات في العالم.

أراد مئير عميت انشاء قسم عمليات خاص في الموساد يضم تحت مظلته كل الوحدات الاستخبارية التي لها علاقة بعمليات التخريب والقتل المتعمد والاغتيال والتجسس على الدول العربية. لفعل ذلك، كان عليه أن يقوم بما حاول سلفه إيسر هارئل أن يفعله لسنوات، وكان هو (أي عميت) يرفضه، إذ نقل الوحدة 188 (المسؤولة عن مثل هذه العمليات الخارجية) من جهاز الاستخبارات العسكرية أمان الى الموساد ودمجها مع وحدة مفراتز للاغتيال بقيادة إسحاق شامير وعين على رأسها جوسيف باريڤ فيما عين شامير نائباً له، واطلق على هذه الوحدة اسم قيصرية تيمنا باسم مدينة ساحلية على شاطيء المتوسط (هي العاصمة الادارية لفلسطين في أيام الامبراطورية الرومانية، وكانت تقع جنوب مدينة حيفا وتبعد عن القدس 88 كلم وقد دمرت في عام 640 ميلادية على أيدي المسلمين خلال حربهم مع البيزنطيين، وتقول الرواية التوراتية أن سقوط المدينة تم بخيانة ارتكبها أحد قادتها عبر ادخاله وحدات من جيوش المسلمين إليها سراً)، وأطلق على عمليات هذا القسم اسم السيناتورات.

أراد عميت أن ينشىء قسماً استخبارياً خاصاً به، فأخذ وحدة العصافير التي كانت تعمل بشكل مشترك بين جهاز الموساد والاستخبارات الداخلية شين بيت في الوقت نفسه، وكلفها بالعمل فقط للموساد خارج إسرائيل وأنشأ من عناصر هذه الوحدة قوة صغيرة أسماها كولوسوس (اسم لتمثال عملاق في التاريخ الاغريقي القديم دمر بزلزال في العام 226 قبل الميلاد).

Cquote2.png فر طيار عسكري عراقي يدعى منير ردفة إلى إسرائيل على متن طائرة من طراز ميگ 21 كانت في ذلك الزمن من أحدث الطائرات الحربية السوڤيتية والأكثر تهديداً للقدرات العسكرية الإسرائيلية، وقد أثارت هذه العملية شهية وزارة الدفاع الامريكية لفك شيفرة عمل هذه الطائرة فما كان من عميت إلا أن أرسل الطائرة وطيارها المدرب جيداً هدية لواشنطن. Cquote1.png

تمكن جهاز الموساد بقيادة مائير عميت من جمع كمية هائلة من المعلومات عن الدول العربية وأجهزة استخباراتها، وأبرز الانجازات التي حققها بعد التغييرات البيروقراطية التي أجراها كان عملية أطلق عليها اسم الجوهرة التي كانت عبارة عن تجنيد طيار عسكري عراقي يدعى منير ردفة الذي فر إلى إسرائيل على متن طائرة من طراز ميگ 21 كانت في ذلك الزمن من أحدث الطائرات الحربية السوڤيتية والأكثر تهديداً للقدرات العسكرية الإسرائيلية، وقد أثارت هذه العملية شهية وزارة الدفاع الامريكية لفك شيفرة عمل هذه الطائرة فما كان من عميت إلا أن أرسل الطائرة وطيارها المدرب جيداً هدية لواشنطن.

ويقول الكاتب لقد تمكن عميت أيضاً بعد التغييرات التي أجراها من اقامة علاقة استخبارية مع المغرب التي وبرغم علاقتها الوطيدة بالدول العربية المعادية لإسرائيل، فإنها كانت تحت قيادة سياسية معتدلة يقودها الملك الحسن الثاني الموالي للغرب وليس لها حدود مع دولة إسرائيل. وبموجب هذه العلاقات حصل المغرب على معلومات استخبارية هامة بالاضافة إلى مساعدات تكنولوجية إسرائيلية مقابل السماح ليهود المغرب بالهجرة إلى إسرائيل وانشاء مكتب اتصالات للموساد في الرباط كان يسهل لها عمليات التجسس على الدول العربية كلها. وبلغت ذروة هذا التعاون مع المغرب في أيلول 1965 عندما سمح الملك الحسن الثاني لفريق عمل من الموساد بقيادة زڤي مالخين ورافي إيتان بزرع أجهزة تنصت في جميع الغرف والأجنحة الخاصة بزعماء الدول العربية وقادتهم العسكريين خلال اجتماع القمة العربية في مدينة الدار البيضاء، وكان هدف هذه القمة مناقشة كيفية اقامة قيادة عسكرية عربية مشتركة في أي حرب مقبلة مع إسرائيل. وقد وفرت عملية التنصت معلومات إستخبارية غير مسبوقة بشأن الاسرار العسكرية والاستخبارية العربية. وقد قال قادة الجيوش العربية في تلك القمة أن جيوشهم ليست جاهزة لخوض حرب جديدة مع إسرائيل وقد أسهمت هذه المعلومات بأن يتجرأ رئيس الحكومة الإسرائيلية لڤي إشكول على شن حرب واسعة النطاق على الدول العربية المجاورة بعد عامين من تلك القمة (حرب 1967). إن المعلومات الاستخبارية التي تم جمعها في تلك القمة العربية ساهمت بشكل كبير في خوض الجيش الإسرائيلي حرب 1967، بحسب ما يقول رونن برگمن.

بعد هذا الانجاز الاستخباري الكبير، بدأت الكوارث الاستخبارية تتوالى واحدة تلو الأخرى على عميت، يقول الكاتب. أولى هذه الكوارث هي قصة عميل وحدة قيصرية المدعو إيلي كوهين الذي عاش في سوريا تحت قصة غطاء تقول أن اسمه كمال أمين تابت وهو تاجر ثري جداً عاد من مهجره في العاصمة الأرجنتينية بيونس آيرس ليعيش في وطنه سوريا بعد سنوات طويلة في الغربة، وتحت هذا الغطاء تمكن كوهين من خرق دوائر السلطة العليا في سوريا، وزوّد الموساد بكمية كبيرة من المعلومات التي كان من ضمنها تحديد موقع الخبير النازي الويس برونر الذي أرسلت له وكالة الموساد رسالة مفخخة.

إيلي كوهين في دمشق.
Cquote2.png ثقته المبالغ بها بالقصة ـ الغطاء التي كان يعتمدها في وجوده في سوريا جعلت كوهين يبث الرسائل الى مشغليه بصورة يومية مستخدماً آلة تلغراف مخبأة في شقته في دمشق، وتضمنت تقاريره معلومات عن المنشآت العسكرية السورية السرية والخطة السورية لوضع اليد على مصادر المياه في المنطقة بمساعدة من شركة تعهدات سعودية. Cquote1.png

ويضيف الكاتب أن مهمة كوهين بشكل أساسي كانت أن يكون عميلاً نائماً يجمع المعلومات ويرسلها إلى تل أبيب وأن لا يصبح عميلاً مكشوفاً إلا في حالة واحدة: أن تتناهى إليه معلومات عن أية تحضيرات تقوم بها سوريا لشن حرب مفاجئة على إسرائيل. غير أنه وتحت ضغط مشغليه وثقته المبالغ بها بالقصة ـ الغطاء التي كان يعتمدها في وجوده في سوريا جعلته يبث الرسائل إلى مشغليه بصورة يومية مستخدماً آلة تلغراف مخبأة في شقته في دمشق، وتضمنت تقاريره معلومات عن المنشآت العسكرية السورية السرية والخطة السورية لوضع اليد على مصادر المياه في المنطقة بمساعدة من شركة تعهدات سعودية يملكها محمد بن لادن (والد أسامة بن لادن)، وعلاقات سوريا مع الاتحاد السوڤيتي والنازيين المختبئين في سوريا وصراع القوى داخل البلاد وصولاً إلى النميمة بين أعضاء البرلمان السوري. لقد كان ارسال كل هذه الرسائل بوتيرة كثيفة خطأ مهنياً في عالم الاستخبارات، ليس من قبل كوهين نفسه فقط بل من قبل مشغليه أيضاً.

وينقل الكاتب رونن برگمن عن أحد مدربي كوهين في عالم الاستخبارات موتي كفير الآتي: "عاش كوهين حياته يسير مع الحائط، وعندما تسير مع الحائط تظن في بعض الأحيان بأن أحداً لا يراك، ولكنه كان مخطئاً لأنه كان قد أصبح شخصية مرموقة في المجتمع السوري وكنت خلال تدريبه قد حذرته مراراً بأن يتجنب الحياة الصاخبة خلال عمله ولكن ما فعله كان عكس ذلك تماماً". ويضيف كفير: "عندما أنجزت الرسالة المفخخة للخبير النازي الويس برونر في سوريا، أبدى كوهين خلال أحاديثه مع كبار المسؤولين السوريين اهتماماً زائداً بالنازيين الموجودين في سوريا، ناهيك عن حقيقة أنه كان يعيش وضعاً غير عادي كونه مغترب من دون عمل يقيم الحفلات لعلية القوم ويقدم لضيوفه وأصدقائه كل أنواع الترفيه العالية الكلفة. كل ذلك أثار حفيظة وشكوك أجهزة الاستخبارات السورية التي عادت لتتعقب كل القصة-الغطاء لحياته في المهجر وعودته إلى سوريا".

كان كوهين في 24 يناير 1965 يبث احدى رسائله على التلغراف في الوقت نفسه الذي كانت تبث رسائل من مقر قيادة الأركان العسكرية السورية الواقع قبالة شقته الفخمة في دمشق، فاحتار السوريون بأمر هذا البث المتقاطع مع ارسالهم، وطلبوا من جهاز الاستخبارات السوڤيتية مساعدتهم فأرسل السوڤيت سيارة مجهزة بمعدات تعقب للارسالات اللاسلكية، وقد استطاعت هذه السيارة أن تحدد موقع جهاز الارسال في شقة كوهين، فجرى اعتقاله وتعذيبه بوحشية وتمت محاكمته بسرعة وحكم عليه بالاعدام ونفذ الحكم في احدى ساحات دمشق في مايو عام 1965 وأبقي جسده معلقاً في الساحة وعلى صدره ورقة تحمل حكم الاعدام الصادر بحقه في رسالة واضحة لدولة إسرائيل.

Cquote2.png جوزيف ياريڤ يأمر جواسيسه الاأرين في قيصرية بالعودة إلى إسرائيل على الرغم من أن تدريبهم وبناء قصص-غطاء حياتهم كلف جهداً كبيرا على مدى سنوات، لقد بلغ الأمر بهذه الوحدة تقريباً حد الدمار. Cquote1.png

وينقل برگمن عن جيداليا خلف الضابط الإسرائيلي الذي جند كوهين ودربه وكان مسؤولاً عن تشغيله في مهمته السورية قوله: "لقد نظرت إليه على شاشة التلفزيون السوري، نظرت إلى صنيعتي إيلي، فرأيت على وجهه آثار التعذيب الشيطاني الذي تعرض له فلم أعرف ماذا أفعل بنفسي، أردت أن أصرخ أو أن أفعل شيئاً ما كأن أخذ مسدسي واقتحم سجن المزة الذي كان محتجزاً فيه، أردت أن اضرب رأسي بالحائط حتى أكسره أردت أن أفعل أي شيء، لقد قتلوه ولم نستطع فعل شيء سوى أن نقف ونشاهد عملية قتله". ويشير أحد تقارير الموساد إلى أن كوهين تعرض لتعذيب وحشي تضمن اقتلاع أظافره واحداً تلو الآخر ومن ثم إلى كهربة خصيتيه قبل تحطيمهما وذلك قبل أن يكشف كل شيفرة الاتصالات السرية التي كان يعمل بها مع مشغليه في تل أبيب كما فك شيفرة مئتي رسالة كان السوريون قد حصلوا عليها سابقاً ولم يستطيعوا فكها وأخبر المحققين كل ما يعرفه عن كيفية حصول عمليات التجنيد في الموساد وعن أساليب التدريب وعن طرق بناء القصص-الغطاء للعملاء.

وبعد وقت قصير من الامساك بكوهين أصيبت وحدة قيصرية بكارثة أخرى، فقد انكشف العميل ڤولفگانگ لوتس الذي اخترق مجتمع علية القوم في القاهرة وكان العنصر الرئيس في جمع المعلومات الهادفة إلى قتل العلماء الالمان في مصر، وقد وقع في قبضة المخابرات المصرية في العاشر من فبراير 1965 بعد نشاطه الاستخباري الزائد وثقته المبالغ بها بالقصة-الغطاء التي كان يعتمدها لوجوده في مصر بالإضافة إلى أخطاء أخرى ارتكبها هو ومن كان يتولى تشغيله في تل أبيب. وقد كان الشيء الوحيد الذي أنقذ لوتس من مواجهة المصير نفسه الذي واجهه كوهين هو التدخل المباشر لجهاز الاستخبارات الألماني الغربي BND الذي تدخل بطلب من إسرائيل وأخبر المصريين أن لوتس كان عميلاً مزدوجاً للموساد والمخابرات الألمانية في الوقت نفسه، ما أنقذ حياته ولكن حكم عليه وعلى زوجته والترود بالسجن المؤبد مدى الحياة ليتم اطلاق سراحهما بعملية تبادل للأسرى بعد حرب يونيو عام 1967.

وقد كانت تلك أيضاً ضربة قاسية للموساد، يقول رونن برگمن، ما حدا بقائد وحدة قيصرية جوزيف ياريڤ إلى أن يأمر جواسيسه الآخرين بالعودة إلى إسرائيل على الرغم من أن تدريبهم وبناء قصص-غطاء حياتهم كلف جهداً كبيراً على مدى سنوات، لقد بلغ الأمر بهذه الوحدة تقريباً حد الدمار.

الموساد يكافىء المخابرات المغربية بتصفية المهدي بن بركة

يقول الكاتب الإسرائيلي رونن برگمن في كتابه إنهض واقتل أولاً، إن رئيس الوزراء الإسرائيلي لڤي إشكول إعتبر سقوط عميليه إيلي كوهين في دمشق وڤولفگانگ لوتس في القاهرة في أقل من شهرين في العام 1965 بمثابة "كارثة وطنية".

برغم الحالية المزرية التي كان يعيشها جهاز الموساد جراء حادثتي كوهين ولوتز، أقرّ لڤي إشكول لوحدة قيصرية في الموساد تنفيذ عملية قتل في أوروگواي. الهدف هو هربرت كوكورس الضابط اللاتڤي الذي تطوع لمساعدة جهازي الأمن الألمانيين إس إس وگستاپو في قتل اليهود إبان الحرب العالمية الثانية. كان القتل بالنسبة إلى كوكورس بمثابة رياضة يومية، فقد كان يأمر اليهود بالركض في الشوارع طلباً لإنقاذ أرواحهم ويقوم هو بإصطيادهم بنيران مسدسه.

وفق تقارير الموساد، فإن كوكورس حشر عدداً من اليهود في كنيس وأقفل عليهم الأبواب وأحرقهم أحياء فيما جلس يشرب الويسكي وهو يستمتع بصرخاتهم، ما جعل بعض الناجين من الهولوكوست يطلقون عليه لقب جزار ريگا (عاصمة لاتڤيا). وقد أُدرج اسم كوكورس في لوائح محاكمات نورمبرگ لمجرمي الحرب لإتهامه بالضلوع المباشر في قتل 15 ألف يهودي والضلوع غير المباشر بقتل عشرين ألفاً آخرين.

مع إنتهاء الحرب العظمى، نجح كوكورس في الفرار إلى البرازيل حيث أنشأ شركة تعنى بالأمور السياحية وأحاط نفسه بحماية أمنية كبيرة.

ولأجل تنفيذ عملية قتل كوكورس، أرسلت وحدة قيصرية أحد ضباطها ياكوڤ ميداد إلى البرازيل بصفة رجل أعمال نمساوي ينوي الإنخراط في أعمال السياحة في جنوب القارة الأمريكية، وكان ميداد يجيد اللغتين الإسپانية والألمانية، وقد نجح في إستدراج كوكورس للمجيء إلى أحد الفنادق الفخمة في مونتيڤيديو، عاصمة أوروگواي، من أجل عقد لقاء مع مجموعة من المهتمين بتطوير صناعة السياحة، وكان هناك في إنتظاره ثلاثة من القتلة المحترفين. كانت الخطة تقتضي بأن يدخل ميداد أولاً ويتبعه كوكورس، وعندها يقوم أحد القتلة بدفع الهدف إلى الداخل ويوصد الباب خلفه بإحكام ويسيطر عليه القتلة الآخرون قبل أن يطلق كوكورس النار عليه ويقتله.

لم تسر العملية بالإنسيابية المخطط لها، بحسب رونن برگمان، فقد شعر كوكورس بشيء من الخوف من كمين يعد له، ففي اللحظة التي دخل فيها إلى الغرفة، قام أحد القتلة بوضع يديه حول رقبته ليخنقه، فيما قام قاتل آخر بجره إلى الداخل، لكن كوكورس تمكن من اسقاط هذا القاتل أرضاً وتمسك بقبضة الباب محاولاً منع إغلاقه، فتدخل القاتل الثالث، وبتكاتف القتلة الثلاثة تمت السيطرة عليه ولكن كوكورس تمكن من عض إصبع أحد القتلة بقوة لدرجة أنه قطع جزءاً منه بأسنانه، فصرخ هذا الأخير وترك كوكورس الذي كاد أن ينجو من قبضة الآخرين لو لم يقم زئيڤ عميت ابن عم مدير الموساد (مئير عميت) بضربه بمطرقة على رأسه مراراً وتكراراً حتى فارق الحياة، وأعقب ذلك قيام إلعازر شارون رئيس وحدة الإغتيال في منظمة أرگون الصهيونية المتطرفة بإطلاق رصاصتين عليه لتأكيد موته. بعد ذلك، قام القتلة بوضع جثة الضحية في حقيبة كانوا يحتفظون بها في الفندق وعلقوا على صدره ورقة كتبوا عليها حكم بحق المسؤول شخصياً عن قتل حوالي ثلاثين ألف يهودي بوحشية مرعبة. وقد وقعت الورقة بإسم الذين لن ينسوا أبداً.

يقول رونن برگمان إنه من الناحية الرسمية، كانت عملية قتل كوكورس ناجحة ولكن الحقيقة هي أن عدم الحرفية في التنفيذ كادت تودي إلى كارثة، وفي الحالتين، فإن أحد المنفذين خسر إصبعه فيما عانى زئيڤ عميت الذي ضرب الضحية بالمطرقة على رأسه من كوابيس ليلية طوال بقية حياته.

Cquote2.png قال الدليمي لقادة الموساد: "أنتم جيدون بالقتل، نريدكم أن تقتلوا زعيم المعارضة المغربية المهدي بن بركة، إفعلوها". Cquote1.png

أما الرواية الأكثر إثارة في عمليات القتل المتعمد التي كان الموساد يرتكبها والتي كادت تطيح برئيس الحكومة لڤي إشكول وبمدير الجهاز الإستخباري مئير عميت، فقد كانت عملية إغتيال المعارض المغربي المهدي بن بركة، التي يتكشف من خلالها حجم العلاقات الإستخبارية الإسرائيلية مع أول جهاز إستخباري عربي، ولسخرية الموقف، فقد كان هذا الجهاز هو الاستخبارات المغربية، ابان حكم الملك الحسن الثاني الذي قرر أن يرتمي في أحضان الموساد حماية لعرشه من المعارضة الداخلية. باع الحسن الثاني أسرار اجتماع القمة العربية المنعقد في الدار البيضاء عام 1965 للموساد عبر السماح للجهاز الإسرائيلي بزرع أجهزة تنصت وتسجيل في كل غرف وأجنحة قادة الوفود العربية والقادة العسكريين المرافقين لهم.

يقول رونن برگمان إن الكارثة التالية بعد عملية الأورغواي والتي كانت قاب قوسين ان تحدث وتكلف كلاً من أشكول منصبه كرئيس حكومة وعميت منصبه كمدير للموساد، حصلت في 30 أيلول عام 1965، بعد يوم واحد من استلام الموساد كل أشرطة التنصت على الزعماء العرب في قمة الدار البيضاء بتنسيق مع المخابرات المغربية.

في 30 سبتمبر 1965، اتصل ضابط المخابرات المغربي أحمد الدليمي بجهاز الموساد وطالبهم بإيفاء الدين بأسرع ما يمكن، ففي عالم المخابرات لا هدايا مجانية. قال الدليمي لقادة الموساد: "أنتم جيدون بالقتل، نريدكم أن تقتلوا زعيم المعارضة المغربية المهدي بن بركة، إفعلوها". وكان بن بركة قد نُفي من المغرب في مطلع الستينيات وحُكم عليه غيابياً بالموت، لكنه كان حريصاً جداً في تنقلاته ويستخدم أسماء وهمية، ما حدا بقادة المخابرات المغربية إلى مطالبة الموساد بالمساعدة في تحديد مكان وجوده وقتله. وهنا ينقل برگمان عن عميت قوله: "كنا عندها نواجه معضلة حقيقية فإما أن نساعد المغاربة ونغرق في أمور داخلية لا شأن لنا فيها أو نرفض التعاون ونعرض للخطر الإنجاز الوطني المحقق في الحصول على أشرطة التجسس على القادة العرب" (قمة الدار البيضاء).

يقول برگمان: لقد حاول عميت أن يظهر نفسه على أنه سار بين الخيارين كالسائر بين نقاط المطر عبر عدم الإنخراط المباشر بالقتل، ولكن مراسلات الموساد وتقاريره عن تلك الحقبة تظهر أن الجهاز الإسرائيلي إنخرط حتى النخاع في العملية برمتها.

يروي الكاتب تفاصيل عملية قتل بن بركة قائلاً إن الموساد تمكن من تحديد متجر صغير (كيوسك) في مدينة جنيڤ السويسرية ترسل إليه الصحف والمجلات المخصصة لبن بركة. عبر المتجر أمكن تحديد مكان وجود بن بركة. قضت خطة الموساد أن يُستدرج بن بركة إلى پاريس عبر شخص يزعم أنه صانع أفلام سينمائية مولع بقصص حياة المنفيين المغاربة وأنه مهتم جداً بإعداد فيلم وثائقي عن الموضوع. وقد أمّن الموساد للمغاربة في پاريس البيوت الآمنة وجوازات السفر المزورة والآليات ونوعين من السم المخصص للقتل من دون ترك أية آثار. وعندما أتى بن بركة إلى پاريس في 29 أكتوبر 1965، إختطفه جهاز المخابرات المغربية بمساعدة ضابط فاسد في الشرطة الفرنسية وتم إقتياده إلى أحد بيوت الموساد الآمنة في العاصمة الفرنسية حيث أخضع لتعذيب وحشي قبل أن يموت مختنقاً بالمياه الآسنة التي كانوا يغرقون رأسه فيها.

Cquote2.png إختفاء بن بركة في پاريس على يد مجموعة ضباط من المخابرات المغربية وبعض المرتزقة الفرنسيين (ضباط في الموساد) إنفجرت في الصحف الفرنسية وإحتلت عناوينها وصفحاتها الرئيسية لوقت طويل، ما حدا بالرئيس الفرنسي شارل ديگول للإطاحة بمسؤولي مخابراته. Cquote1.png

يضيف برگمان، أن أياً من عناصر الموساد لم يكن موجوداً لحظة قتل بن بركة لكنهم أخذوا على عاتقهم التخلص من جثته، فقام فريق من الموساد بنقل الجثة إلى غابة سانت جيرمان عند أطراف باريس حيث حفروا حفرة عميقة جداً ودفنوها هناك بعد أن رشوا عليها مسحوقاً كيميائياً يتفاعل بسرعة مع الماء فيجعل الجسد يتآكل. مباشرة بعد الدفن، أمطرت السماء بغزارة وعلى الأرجح أن ذلك لم يبق الكثير من جثة بن بركة، ولكن عناصر الموساد حرصوا على نقل البقايا إلى مكان آخر يقع اليوم تحت أحد الطرق المؤدية إلى مؤسسة [[لوي فيتون] الحديثة ويمكن أن يكون قد دفن تحت أساسات مبنى المؤسسة نفسها، بحسب الرواية التي ينقلها رونن برگمان عن أحد الذين شاركوا في تنفيذ العملية.

حرص مدير الموساد على إبلاغ لڤي أشكول بأن كل شيء سار على ما يرام في موضوع المهدي بن بركة، لكن الحقيقة أن لا شيء كان على ما يرام، فقضية اختفاء بن بركة في پاريس على يد مجموعة ضباط من المخابرات المغربية وبعض المرتزقة الفرنسيين (ضباط في الموساد) إنفجرت في الصحف الفرنسية وإحتلت عناوينها وصفحاتها الرئيسية لوقت طويل، ما حدا بالرئيس الفرنسي شارل ديگول للإطاحة بمسؤولي مخابراته ومحاكمة البعض منهم، وعندما رفض الملك الحسن الثاني أن يسلّم قادة أجهزة مخابراته للقضاء الفرنسي، أمر ديغول بقطع العلاقات الدبلوماسية مع المغرب.

لم تمر واقعة قتل بن بركة في إسرائيل بسلام أيضاً، إذ أنها فتحت باب المؤامرات والمؤامرات المضادة بين مراكز القوى في أجهزة الاستخبارات، ففي ذلك الحين كان إيسر هارئل الرئيس السابق للموساد قد أصبح مستشار أشكول للشؤون الاستخبارية، ولأن هارئل كان غاضباً من الطريقة المهينة لإطاحته من قيادة الموساد وكان يشعر بالحسد من نجاح عميت في هذا الموقع، فقد إستخدم الوثائق الإستخبارية التي تشرح تفصيلياً عملية قتل بن بركة لخوض حربه ضد عميت. وفي تقرير مطول حول الموضوع أرسله إلى رئيس الحكومة، قال إيسر هارئل إن الموساد ومن خلاله دولة إسرائيل "تورطا في أعمال شتى من ضمنها عملية إغتيال سياسي لم يكن لإسرائيل مصلحة فيها ولا يجب أن يكون لديها مصلحة أيضاً، وبالتالي فإنني أعتقد أنه كان يجب عدم التورط في هكذا أعمال على الإطلاق". وطالب هارئل رئيس الحكومة بإقالة عميت من منصبه. رفض أشكول إقالة عميت، فإتهمه هارئل بالتورط شخصياً بعملية القتل، وطالبه بالإستقالة وهدّده بأن أصداء عملية الإغتيال هذه "قد تصل إلى الرأي العام وعندها ستلطخ سمعة حزب العمل (بزعامة أشكول) بالعار".

يقول برگمان إن ذلك لم يثن أشكول عن موقفه الداعم لعميت، ما حدا بهارئل إلى تسريب المعلومة إلى إحدى الصحف الصفراء التي تصدر أسبوعياً، ولكن الرقابة العسكرية منعت نشر الموضوع، فقام هارئل بإبلاغ عدد من كبار مسؤولي حزب العمل بتفاصيل العملية ودعاهم إلى الانتفاضة على زعامة أشكول. حاول هؤلاء المسؤولين إقناع گولدا مئير بقيادة الإنقلاب على أشكول، فوافقت گولدا مئير على ضرورة رحيل عميت لكنها قالت: "أُفضل أن أرمي نفسي في البحر قبل أن أتآمر عليه" (أشكول).

قرر الثنائي أشكول وعميت الرد على هارئل، فتقرر نبش تاريخ الأخير في أرشيف الموساد لدحض إدعاءاته التي يقول فيها إنه الراعي الأخلاقي للموساد. أخرج عميت من الأرشيف وثائق عملية الضابط البحري ألكسندر إسرائيلي الذي باع وثائق سرية للمخابرات المصرية عام 1954 (حينها كان إيسر هارئل مديراً للموساد) وقام عملاء الموساد حينها بقتله عن غير قصد بإعطائه جرعة منوم زائدة كانت تهدف إلى إفقاده وعيه قبل نقله من إيطاليا إلى تل أبيب ولكن مع موته تم رمي جثته بالبحر وقيل لعائلته أنه فرّ ليعيش في أمريكا الجنوبية.

أعطى عميت نسخة من وثائق العملية لضابط متقاعد في الموساد قام بدعوة صديقه الضابط هارئل إلى اجتماع وقال له: "برأيك ماذا ستكون ردة فعل الرأي العام إذا ما وصلت هذه الوثائق إلى الصحافة المفتوحة الشهية في هذه الأيام؟" فهم هارئل الرسالة وسارع بعدها بوقت قصير إلى الإستقالة.

يضيف الكاتب أن الدرس الذي تعلمه عميت من هذه العملية هو أنه: "علينا ألا نورط أنفسنا في أمور حساسة ما لم يكن لنا مصلحة مباشرة فيها.. ويجب ألا نقتل شخصاً إلا إذا كان وجوده يهدد مصالح إسرائيل، فعملية القتل هي إما أزرق أو أبيض في اشارة إلى علم إسرائيل".

في الموساد قيصر.. هكذا يُجنّد العُملاء

اثر ما أطلقته عملية اغتيال المعارض المغربي المهدي بن بركة في پاريس من صراعات داخلية إسرائيلية كادت تطيح برئيس الحكومة الإسرائيلية لڤي أشكول ورئيس جهاز الموساد مئير عميت، يشرح الكاتب الإسرائيلي رونن برگمان كيف أن لجان تحقيق عدة أنشئت لمعرفة أسباب الاخفاقات الإسرائيلية في القاهرة ودمشق وأخطاء عملية پاريس.

يقول رونن برگمان إن رئيس الموساد مئير عميت أنشأ لجان تحقيق لتحديد الخطأ الذي حصل خلال عملية إيلي كوهين في دمشق، وكان الشخص الأبرز في تلك اللجان جميعها هو مايكل هراري أو مايك، وعندما انتهت تلك اللجان من تحقيقاتها، قرر عميت تعيين هراري نائباً لرئيس وحدة قيصرية. ومن موقعه هذا الذي احتله لمدة تقارب الخمسة عشر عاماً، شكّل هراري الروح النابضة للوحدة والقائد الفعلي لها، وكانت فترة ولايته الأكثر اضطرابا في تاريخ هذه الوحدة وكان الاسم السري له القيصر الذي تحول الى اكثر الشخصيات تأثيراً في عمليات الموساد في شتى أنحاء العالم.

وفي نبذة عن حياة القيصر، يقول برگمان أنه من مواليد تل أبيب عام 1927. رسمت حادثتان صورة حياته المستقبلية، الأولى، في عام 1936 (كان في التاسعة من عمره) "عندما شاهدت بأم عيني أعمال العنف التي نفذها فلسطينيون ضد اليهود والبريطانيين والتي سميت لاحقاً بالثورة الفلسطينية، ويضيف "لقد رأيت كيف أحرق المتظاهرون الفلسطينيون آلية عسكرية بريطانية وفي داخلها رقيب بريطاني احترق حتى تفحم وهو خلف المقود ورأيت كيف كانوا يتقاتلون مع اليهود فسارعت إلى التقاط عصا غليظة لانضم إلى اليهود في المعركة". أما الحادثة الثانية، فقد حصلت في عام 1942 "عندما كنت فتى يافعاً وشاهدت أيضاً كيف أن الشرطة السرية البريطانية أطلقت النار على الناشط في حركة ليهي الصهيونية السرية المتطرفة ابراهام ستيرن وكيف أخذوا جثته وخبأوها في خزانة في إحدى الشقق حيث رأيتها بعيني".

يقول برگمان أنه في عام 1943 كذب هراري في تحديد عمره من أجل الانضمام إلى صفوف حركة پالماخ التي كانت بمثابة الجيش السري للتسوية اليهودية في فلسطين. لقد كان العمل سرياً جداً ما أضفى المزيد من التشويق لديه. وقد نفذ خلال عمله في هذه المنظمة الكثير من عمليات التخريب التي طاولت السكك الحديدية والجسور وهجمات ضد مخافر الشرطة البريطانية بالاضافة الى جمع المعلومات، ويضيف برگمان أن هراري اعتقل عدة مرات خلال عمله هذا من قبل الشرطة السرية البريطانية.

بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، علمت قيادة الهاگاناه أن هراري يجيد عدة لغات فأرسلته إلى أوروپا للمساعدة في عمليات ترحيل اللاجئين اليهود الى إسرائيل، فكان له دور كبير في الاستحصال على السفن وحل التعقيدات اللوجستية لتنفيذ عمليات تهريب النازحين غير الشرعيين إلى دول أوروپا المدمرة بالحرب ومنها إلى زوارق ومن ثم تهريبهم إلى فلسطين، ما أكسبه معرفة جيدة في تغطية النشاطات غير الشرعية في الخارج واستخدام هذه التقنيات في عمله في الموساد لاحقاً.

منذ تولى هراري عملية اعادة بناء وحدة قيصرية، تم إرتكاب بعض الأخطاء لكن على مدى تاريخ مهمته في قيادة الوحدة، لم يعتقل ويعدم إلا عميل واحد هو إيلي كوهين في سوريا.

ويضيف برگمان، أنه بعد اعلان دولة إسرائيل قام رئيس الموساد حينها إيسر هارئل بتجنيد هراري في صفوف جهاز الشين بيت (الأمن الداخلي) ومن ثم نقله إلى الموساد حيت ترقى في المواقع بسرعة قياسية قبل أن يعينه مئير عميت رئيساً للتحقيق في اخفاقات وحدة قيصرية. هنا، يقول الكاتب إن هراري إكتشف في تحقيقاته أن الوحدة كانت في حالية مزرية جداً وفيها خليط غريب عجيب من فريق عمل مؤلف من وحدة ميرفاتز 188 للاغتيال ووحدة العصافير للعمليات في الشين بيت بالاضافة إلى آخرين وكلهم يشكلون فرقاً تعمل بلا أهداف محددة. ما جعل هراري يصل إلى استنتاج بان هناك ضرورة لاعادة بناء وحدة قيصرية من الصفر مع تحديد أهدافها ومهامها والعناصر العاملة فيها.

بعد أشهر عديدة من العمل، قدم هراري إلى رئاسة الموساد اقتراحه الملموس حول هذه الوحدة. وينقل برگمان عنه قوله في هذا الصدد: "بحسب رؤيتي للعالم فإن أي بلد يريد أن يعيش لا بد له من امتلاك وحدة قيصرية الخاصة به التي تشكل جسماً مؤلفاً من جنود النخبة لتصبح الحجر الأساس في تنفيذ عمليات خارج حدود البلاد لا يستطيع تنفيذها أي جهاز آخر. إنها باختصار الاداة النادرة التي بامكان قيادتنا استخدامها للعمل ضد أعداء بلادنا".

ويضيف برگمان أن هراري حدد الأهداف الرئيسية لوحدة قيصرية بتنفيذ عمليات القتل المتعمد والاغتيال بالاضافة لعمليات التخريب وجمع المعلومات الاستخبارية عن الدول المعادية المستهدفة وتنفيذ عمليات خاصة كالخطف والتهريب عبر الحدود. ويقول الكاتب، أنه خلال التحقيقات وجد هراري أنه كان في الوحدة العديد من عناصر المجموعات السرية المتطرفة التي عملت ضد البريطانيين، "عناصر صلبة جداً ولديها خبرة واسعة في عمليات القتال والعمليات السرية ولديها الجرأة للضغط على الزناد عند الحاجة بلا تردد ولكنها كانت ضعيفة جداً في رسم خطة خروج من مسرح العمليات"، وهذا ما جعله يأمر بأنه خلال التخطيط لأية عملية "يجب إيلاء الخروج من مسرح العملية الأهمية نفسها التي يتم ايلاءها لهدف العملية، وإن لم يكن بالإمكان تحقيق هذا الخروج بسلام يجب الامتناع عن تنفيذ العملية".

كما أنشأ هراري ما أسماها لجنة الأهداف التي كانت مهمتها "القيام بدراسات معمقة لتقرر من يجب أن يكون على لائحة القتل المتعمد والاغتيال وقرر أنه يجب أن لا تنفذ هذه العمليات أبداً عن قرب بالسكاكين أو السلاح الابيض".

وفي تحديده لمسرح عمليات الوحدة، ينقل برگمان عنه قوله أن: "هناك البلد القاعدة، والمقصود أي بلد تقيم إسرائيل معه علاقات دبلوماسية كاملة مثل فرنسا أو إيطاليا وتكون نتيجة انكشاف العميل أن يسجن لمدة طويلة، وهناك البلد الهدف مثل سوريا أو مصر وتكون نتيجة انكشاف العميل أن يتعرض لتحقيقات مضنية ولتعذيب مرعب قبل أن يعدم، ويكون ذلك بمثابة كارثة وطنية، لذلك كان الاصرار على الانضباط الحديدي وعن نسبة خطأ لا تتجاوز الصفر في أية عملية نخطط لها".

Cquote2.png بعد انكشاف العميل إيلي كوهين في سوريا وانكشاف استخدام إسرائيل لليهود من أصول عربية لعمليات التجسس، قرر هراري الإعتماد على أشخاص يحملون جينات غربية، وتحديداً من أصول أوروپية. Cquote1.png

وفي الانتقال من العمل التنظيمي لوحدة قيصرية إلى العمل على تجنيد العملاء، يقول برگمان إن كل المعلومات عن المواطنين الإسرائيليين وضعت بتصرف الموساد والتي كان هناك خبراء من وحدة قيصرية يبحثون فيها عن نوع محدد من المستهدفين للتجنيد، ولكن بالنسبة لهراري فإن المكان الطبيعي لهذا النوع من البحث كان يجب أن يبدأ من الذين يخدمون أو سبق أن خدموا في الوحدات القتالية بالجيش الإسرائيلي، وبعد انكشاف العميل إيلي كوهين في سوريا وانكشاف استخدام إسرائيل لليهود من أصول عربية لعمليات التجسس، قرر هراري الإعتماد على أشخاص يحملون جينات غربية، وتحديداً من أصول أوروپية إذ كان بإمكان أي عميل بهذه المواصفات أن يدخل إلى أي بلد عربي بصفة سائح أو رجل اعمال. كما كان من بين أفضل المرشحين للتجنيد أبناء موظفين إسرائيليين في السلك الدبلوماسي قضوا سنوات طويلة في الخارج بسبب عمل أهلهم، كما كان من ضمن المرشحين المفضلين لهذا العمل اليهود الذين عاشوا فترة لا بأس بها في بلاد نشأتهم وفي حالات نادرة جندت وحدة قيصرية يهوداً لا زالوا يعيشون في بلاد النشأة، وهنا ينقل برگمان عن كبير المدربين الاستخباريين موتي كفير شرحه: "إن كل المرشحين للتجنيد كانوا يخضعون بطبيعة الحال للبحث في تاريخ حياتهم من قبل جهاز شين بيت ولكن من ضمن تعقيدات هذا التجنيد هو أنه ما لم يكن المرشح منخرطاً كثيراً في المجتمع الإسرائيلي وما لم يكن (هو أو هي) منخرطاً في صفوف الجيش الاسرائيلي وما لم يكن قد أنشأ شبكة أصدقاء لوقت طويل في هذا المجتمع وما لم يكن له أقارب وعلاقات عائلية في البلاد كان من الصعب جداً أن نضمن ولاءه لكل من إسرائيل والموساد هذا بالإضافة إلى إحتمال أن يكون عميلاً لدولة اخرى”.

ويضيف برگمان، عندما يتم الانتهاء من كل الأبحاث الضرورية عن حياة المرشح للتجنيد، كان يتلقى اتصالاً من اشخاص يعرفون عن أنفسهم بأنهم موظفون حكوميون ويقترحون عليه لقاء على فنجان قهوة في مقهى ما حيث يشرحون له بصورة عامة طبيعة العمل، وكان مرشحون آخرون يتلقون رسائل مشفرة من مكتب رئيس الوزراء أو من وزارة الدفاع وعادة ما كانت الرسالة تقول: "إننا نعرض عليك الفرصة لتشارك في عملية تتضمن نشاطات متعددة وفريدة من نوعها سوف تضعك في مواجهة تحديات مثيرة وتعطيك الفرصة للتعامل معها باستخدام كل قدراتك لتحقيق ذاتك". بالاضافة الى هذه الطريقة باستدراج المرشحين، استخدم جهاز الموساد الاعلانات المبوبة في الصحف، ومنها ما كان يقول الآتي: "مؤسسة حكومية تبحث عن توظيف مرشحين لعمل فيه الكثير من التحديات"، على أن يتم إخضاعهم لاحقاً إلى فحوص وإختبارات نفسية وبرامج تدريبية متنوعة.

وينقل الكاتب رونن برگمان عن هراري قوله أنه أطلق برنامجاً طموحاً للتجنيد "فلقد سمعت أن المخابرات السوڤيتية (كي جي پي) كانت تقوم بتجنيد العملاء من الأيتام الذين لم يكن لديهم آية ارتباطات عاطفية فهم بلا أب أو أم ومن أعمار 13 أو 14 عاماً وأخضعتهم إلى برنامج تدريبي حتى يكونوا عملاء سريين. أعتقد أنها فكرة عظيمة جداً". لذلك، طلب هراري من علماء النفس التابعين لوحدة قيصرية تبني أيتام من عمر الأربعة عشر عاماً ووضعهم تحت جناح الوحدة وتحت رعايتها من دون أن يعرفوا من يتكفل بهم، على أن يخضع اليتيم المجند لرقابة دائمة من عالم نفسي بالاضافة الى مدربين اثنين ويقدم له التعليم الممتاز وصفوفاً تغني ثقافته العامة في الفن والثقافة بالاضافة إلى دروس في الرياضة واعطائه وقتاً للراحة مع امتيازات "كنا نقول لهم أننا نريدهم أن يخدموا أمتهم عندما يكبروا".

وإذا كانت عملية تربية هذا النوع من العملاء مضت بسلاسة خلال مراحل التعليم وصولاً إلى تحويل المتدرب إلى جندي ومن ثم إلى ضابط موهوب ومثقف ولديه القدرة على العمل السري، فضلا عن مراعاة المساواة الجندرية، فان البرنامج برمته فشل لاحقاً بسبب أنه غير معد لبلد مثل إسرائيل. لماذا؟ يجيب هراري أن هذا الشكل من تدريب العملاء "يمكن أن ينجح في بلد توتاليتاري مثل روسيا ولكن ليس في إسرائيل، فاليهودي ليس لديه مثل هذه العزيمة وسرعان ما يريد صديقة وعملاً مدنياً وراتباً جيداً".

بعد نجاح المرشح في العبور إلى مرحلة البدء بالتدريب فإنه يخضع لبرنامج عملاني، يقول برگمان، ويضيف أن معظم متدربي وحدة قيصرية لا يزورون مقر قيادة الموساد أبداً خلال فترة تدريبهم ولا اتصالات بينهم وبين متدربين آخرين، ولا يصلهم إلا النذر القليل من المعلومات حتى إذا ما وقع أحدهم في الأسر وخضع للتعذيب فإن ما يملكه من المعلومات لإفشائها ليس بالكثير. وتكون عادة قاعدة تدريب هؤلاء في شقق خاصة تابعة لجهاز الموساد في تل أبيب كي لا يلتقوا أبداً بالعاملين كل يوم في مقر الجهاز.

ويكمل برگمان أنه يتم استضافة المتدربين في حقل تدريبي خاص بالجاسوسية حيث يخضعون للتدريب على تقنية إرسال الرسائل بالمورس (بقي هذا الجهاز معتمداً حتى تطور تكنولوجيا الاتصالات)، وعلى فن المراقبة وطريقة التخلص من المراقبة بالإضافة إلى أنواع شتى من الأسلحة والقتال اليدوي كما يدرسون تاريخ وجغرافية العالم العربي والسياسات فيه. وتشحذ مهارات المتدربين في عمليات تمرينية تجري كلها على الأراضي الإسرائيلية وتتضمن عادة دس جهاز تنصت في هاتف أحد الممرات في مصرف ما، جلب وثائق سرية، اقتحام منازل أو مراكز عمل، وكل ذلك للتأكد من امتلاك العميل للمهارة.

قصة الغطاء في الموساد: قولبة العميل حتى يكون مقنعاً

يقول رونن برگمن إن اكتساب العميل في وحدة قيصرية التابعة للموساد تجربة ميدانية يبدأ بسلسلة مهمات ميدانية بسيطة على الأراضي الإسرائيلية، بينها دس جهاز تنصت في هاتف أحد الممرات أو في قاعة انتظار في أحد المصارف أو إقتحام منزل سراً أو سرقة وثائق من مؤسسة ما، كل ذلك كان يهدف للتأكد من أن العميل بات يمتلك المهارات الميدانية الأساسية. ولكن الأصعب في هذا التدريب هو صناعة قصة الغطاء، وهي مسألة تتجاوز الحصول على إسم وهمي. في مثل هذه الحالة، على المجند، أي العميل، أن يعيش حياة كاملة، قائمة على قصة وهمية لا تمت بصلة إلى حياته الأصلية، وهي تتضمن مكان الولادة والنشأة في كنف والدين وهميين والخلفيات الإجتماعية والثقافية والإقتصادية التي ترعرع فيها والهوايات التي يمارسها، وغيرها من التفاصيل التي تمس أبسط حياته الشخصية.

والأهم من ذلك تحديد المهنة التي تتضمنها قصة الغطاء، فعادة يجب أن تتطلب هذه المهنة السفر الدائم، وهنا يقع الإختيار عادة على مهن يكون فيها السفر في صلب المهنة، كما لا يكون العميل مرتبطاً بمكتب ودوام عمل محدد وأشخاص محددين، وهنا تكون مهنة الصحافي المستقل أو المصور أو كاتب النصوص السينمائية أفضل الخيارات لقصة الغطاء، وعادة ما يكون جواز سفر العميل هو لجنسية بلد صديق لإسرائيل ولا فرق إن كان حقيقياً أم مزوراً طالما أن هذا الجواز سيتيح له السفر بسهولة عند الحاجة ودخول دول غير صديقة ولا ترحب بأصحاب الجنسية الإسرائيلية.

ويضيف برگمن، إن قصة الغطاء التي يتقولب بها العميل مع مرور الوقت تبعده عن حياته الحقيقية وتهبه حياة جديدة في بلد جديد وتبعد عنه الشبهات. هناك أيضاً التدريب على صناعة قصة الغطاء المتعلقة بوضع محدد. على سبيل المثال، على المتدرب أن يبتكر بسرعة قصة غطاء عن سبب تواجده في مكان محدد في وقت محدد، فإذا كان يراقب مقراً وزارياً معيناً يحصي عدد الداخلين والخارجين وأوقفه رجل شرطة وسأله عن سبب وجوده في هذا المكان، عليه أن يكون مقنعاً في إجابته، ولكي يكون كذلك، يجب ان تكون اجابته هادئة ومقنعة وسريعة ولا تردد فيها من دون أن يعطي تفاصيل، لأن اعطاء الكثير من التفاصيل يثير الشبهات تماما كعدم تقديم اي شرح.

Cquote2.png كانت مكاتب الوحدة، في الطابق الحادي عشر في المبنى رقم 2 في شارع كابلان في تل أبيب، هادئة جداً ويسودها جو أوروپي فرضه هراري، فطريقة الكلام والعادات والسلوك والبراعة في الأداء كلها كانت من المميزات التي أحضرها معه عندما تولى مسؤولية الوحدة. Cquote1.png

أما التدريب الأصعب فهو في محاكاة عملية اعتقال العميل وتعرضه للتعذيب الوحشي. ويضيف برگمن أن متدرباً إسمه الحركي كورتز شرح له هذا التدريب قائلاً: "كانوا يرسلوننا أزواجاً لمراقبة دبلوماسي ما ورفع تقرير عن حركته لقيادتنا، وهي مهمة تبدو بسيطة لا تتضمن إجراء أي تواصل معه وكنا نحمل جوازات سفر أجنبية وكانت التعليمات صارمة جداً بأنه وتحت أي سبب يمنع منعاً باتاً أن نكشف هويتنا الحقيقية لأي انسان. فجأة تنقض علينا ثلاث سيارات شرطة ويخرج منها رجال بلباس مدني يرموننا أرضاً ويكبلون أيدينا ويضعوننا في صندوق السيارة، بعدها ينقلوننا إلى أد مقرات التحقيق التابع للأمن الداخلي (الشين بيت) في المجمع الروسي في القدس. هناك نقضي ثلاثة أيام مرعبة فعلاً، معصوبي العينين ومحرومين من النوم، ونكون مكبلي اليدين خلف ظهرنا ومشدودين إلى كرسي بطريقة تجعل كل جسدنا مشدوداً جداً وهي وضعية مؤلمة للغاية، ثم يكبلون أيدينا ونحن معلقين بالسقف بحيث أننا نقف على رؤوس أصابعنا فقط، وخلال التحقيق يقوم عملاء الشين بيت ورجال الشرطة بضربنا والبصق علينا وسمعت أنه في أحد المرات بوّلوا على أحد المتدربين خلال التحقيق. الهدف من هذا التدريب هو رؤية من يستطيع أن يصمد ويعيش في مثل هذه الأوضاع من دون أن ينهار ويكشف المعلومات التي بحوزته. حتماً من ينهار في هذا التدريب يتم الاستغناء عنه". مع إنتهاء هذا التدريب، يستحق العميل تسميته عميلاً ميدانياً، وتبدأ رحلة عمله في مهمات عادة ما تكون في دول معادية.

يقول برگمن، لقد فرض مايكل هراري انضباطاً حديدياً على وحدة قيصرية وأمر بالطاعة المطلقة، وأي مخالفة لهذه الشروط كانت تؤدي إلى الطرد الفوري. كانت مكاتب الوحدة، في الطابق الحادي عشر في المبنى رقم 2 في شارع كابلان في تل أبيب، هادئة جداً ويسودها جو أوروپي فرضه هراري، فطريقة الكلام والعادات والسلوك والبراعة في الأداء كلها كانت من المميزات التي أحضرها معه عندما تولى مسؤولية الوحدة.

Cquote2.png هراري كان عنده نظرة بعيدة فكان يرى مثلاً إن من مصلحة وحدة قيصرية أن يكون لديها شركة للشحن البحري في إحدى الدول الشرق أوسطية. وفي وقت ما، احتاجت الوحدة لسفينة تجارية مدنية لنقل فريق من عملاء الموساد في المياه الاقليمية اليمنية، فكان أن حمّل الفريق السفينة باللحوم ونقلها من مكان الى مكان بينما كانت المهمة الأساسية هي التجسس. Cquote1.png

ويضيف برگمن: "لقد كان مكتبه دائماً نظيفاً ومرتباً من أصغر شيء الى أكبره وكذلك كان هو في غاية الأناقة دائماً في لباسه كما في سلوكه، كان دائما حليق الذقن مع رائحة العطر الفرنسي المحبب لديه تلاحق ظله أينما تحرك في المكتب".

ويقول برگمن نقلاً عن هراري قوله لرئيس الموساد إن الاستخبارات الجيدة ووحدة قيصرية حتى تكون قوية تتطلب كلفة مالية عالية. لذلك كان يطلب موازنة عالية وكانت هذه الموازنة تكبر عاماً بعد عام وكان يصرفها بصورة أساسية على تدريب العملاء وعلى انشاء المزيد والمزيد من الشركات وشبكات العملاء في العالم. لقد أسس عملاء هراري مئات المؤسسات التجارية في عدد لا يحصى من دول العالم وقد قدمت هذه المؤسسات خدمات كثيرة لعمل الموساد لسنوات بعد رحيله. معظم هذه الشركات لم يكن لها غاية آنية عند تأسيسها، ولكن هراري كان عنده نظرة بعيدة فكان يرى مثلاً أن من مصلحة وحدة قيصرية أن يكون لديها شركة للشحن البحري في إحدى الدول الشرق أوسطية. وفي وقت ما، احتاجت الوحدة لسفينة تجارية مدنية لنقل فريق من عملاء الموساد في المياه الاقليمية اليمنية، فكان أن حمّل الفريق السفينة باللحوم ونقلها من مكان إلى مكان بينما كانت المهمة الأساسية هي التجسس.

يضيف برگمن أنه في عام 1967 بدأت تظهر نتائج العمل الذي قام به هراري في وحدة قيصرية، فقد كان عملاء الوحدة يرسلون بصورة يومية معلومات غاية في الأهمية من دول معادية لإسرائيل إلى مشغليهم في تل أبيب معظمها تتعلق بالقدرات العسكرية لهذه الدول وهي بالأخص مصر وسوريا والأردن والعراق، "ما اتاح للمسؤولين في تل أبيب أن يجهزوا البلاد للمواجهة الكبرى في يونيو من ذلك العام". ومع ذلك، يقول برگمن لقد فشل عملاء الموساد وجهاز الاستخبارات العسكرية أمان في تحديد التحدي الكبير المتمثل بملايين الفلسطينيين الذين باتوا جاهزين لقتال إسرائيل من أجل العودة إلى بلادهم، فقد انطلقت في ذلك الحين موجة كبيرة من عمليات الارهاب الفلسطيني ضد الإسرائيليين واليهود في أنحاء عدة دول من الشرق الأوسط وأوروپا. وهنا ينقل برگمن عن هراري قوله لم نكن مستعدين لمواجهة هذا التهديد.

أدرك الموساد خطورة عرفات متأخراً

يروي رونن برگمن أن الظهور الأول لبوادر الثورة الفلسطينية كان مع الفتى الفلسطيني خليل الوزير (من مواليد الرملة جنوب شرق تل أبيب عام 1935، وقد هجر مع عائلته إلى قطاع غزة في العام 1948 حيث عاش في مخيم للاجئين). تولى هذا الشاب، وهو في سن الثامنة عشرة، قيادة أكثر من مائتي مقاتل فلسطيني في عمليات روّعت المستوطنين اليهود. ويضيف أن القيادة المصرية عززت قدرات خليل الوزير برفده بالشباب الفلسطيني المقيم في مصر وكان من بين هؤلاء شاب يدعى محمد ياسر عبد الرحمن عبد الرؤوف القدوة الحسيني الذي كان يعرف باسم ياسر عرفات وباسمه الحركي أبو عمار.[3]

يشير الكاتب إلى تضارب المصادر حول مكان ولادة عرفات، فيقول البعض منها أنه ولد في العام 1929 في مدينة القدس، فيما تقول مصادر أخرى أنه ولد في القاهرة أو في قطاع غزة، ولكن بمعزل عن مكان الولادة فقد كان عرفات سليل عائلة فلسطينية عريقة إذ ارتبط اسمه باسمي القائدين الفلسطينيين الشهيرين المفتي الحاج أمين الحسيني وقائد القوات الفلسطينية في حرب العام 1948 عبد القادر الحسيني.

يقول برگمن أن اجهزة الاستخبارات استخفت بهذين القائدين (عرفات والوزير) وبحركتهما في قطاع غزة، كما في الشتات، وكان اهتمامها منصباً على مواجهة عبد الناصر وملاحقة العلماء الألمان في مصر إذ ينقل عن أحد قادة جهاز أمان قوله: "لم يكن لدى عرفات والوزير قوة معتبرة تشكل خطراً استراتيجياً بل أقصى ما يمكن اعتباره هو أنهما مع ما امتلكاه من قوة شكلوا خطراً تكتياً انتهى مع النصر الذي حققته إسرائيل في حرب العام 1956 عندما اجتاحت قطاع غزة"، والتي كان من نتيجتها ان مصر اوقفت كل عمليات الفدائيين التي كانت تنطلق من غزة. غير ان ياسر عرفات وخليل الوزير اعتبرا ان معركة التحرير لا بد ان تكون على ايدي حركة مسلحة مستقلة عن اي نظام وبالتالي لا بد من انشاء هكذا حركة.

Cquote2.png أولى العمليات الارهابية التي شنتها حركة فتح كانت في اول كانون الثاني/يناير عام 1965 وقد استهدفت تفجير خزان المياه الرئيسي وقناة المياه التي تزود جنوب البلاد بالماء من بحيرة طبريا (يسميها الكاتب بحر الجليل) في الشمال. Cquote1.png

بعد سنوات من التنقل من بلد عربي الى اخر، استقر عرفات والوزير عام 1959 في الكويت وعملا الى جانب ثلاثة قادة اخرين، على مدى سنتين، على صياغة اطار تنظيمي وعملياتي، وذلك بسرية تامة لعدم مواجهة اي اعتراض رسمي عربي. وهكذا في العاشر من اكتوبر عام 1959 انشئت رسميا حركة التحرير الفلسطيني (اختصارها حتف) ولكن نظرا الى ان هذا الاختصار يعني باللغة العربية الموت السريع فقد اقترح خليل الوزير الذي بات يعرف بـ ابو جهاد ان تعدل التسمية لتصبح فتح اي النصر العظيم.

وبعد أن يعرض برگمن إلى بعض ما نص عليه اعلان حركة فتح، الذي اصبح لاحقا دستورا للفلسطينيين، وبينها إعتبار الصهيونية اداة للامبريالية العالمية ، يقدم سرديته لتاريخ الثورة الفلسطينية بالقول ان اولى العمليات الارهابية التي شنتها حركة فتح كانت في اول كانون الثاني/يناير عام 1965 وقد استهدفت تفجير خزان المياه الرئيسي وقناة المياه التي تزود جنوب البلاد بالماء من بحيرة طبريا (يسميها الكاتب بحر الجليل) في الشمال. ويقول الكاتب ان هذه العملية حملت بعدا رمزيا كبيرا اكثر من نتائجها العسكرية التي لم تكن ذات اهمية. فقد كانت القوة المكلفة بتنفيذ العملية مؤلفة من ثلاث مجموعات، تم اعتقال المجموعة الاولى في غزة قبل اسبوع من التنفيذ فيما اعتقلت المجموعة الثانية في لبنان قبل ايام قليلة من العملية التي اقتصر تنفيذها على المجموعة الثالثة القادمة من الاردن والتي تمكنت من تفجير عبوة ناسفة في منطقة الخزان الرئيسي للمياه من دون ان تتسبب باية اضرار تذكر، ويضيف الكاتب على الرغم من هذا الفشل الصارخ للعملية فقد ترددت اصداؤها في كل ارجاء العالم العربي على انه بات هناك قوة فلسطينية منظمة اخذت على عاتقها محاربة اسرائيل ، ومع ذلك ـ يضيف الكاتب ـ ان اجهزة الاستخبارات اخذت علما بالامر ولكنها لم تفعل شيئا.

الى جانب الاعلان الرسمي لقيام حركة فتح والعملية الاولى لها، كان هناك ضابط في الموساد اسمه يوري اسرائيل يعمل في الاستخبارات تحت اسم لدية وبصفة رجل اعمال فلسطيني، ويقول برگمن إن لدية انشأ علاقات وطيدة مع الفلسطينيين، ومن بين هؤلاء هاني الحسن الذي كان يترأس منظمة الطلبة الفلسطينيين في المانيا الغربية والذي كان اخوه خالد الحسن احد القادة الخمسة الذين انشأوا حركة فتح.

Cquote2.png استمع ايتان لاحاديث القادة الفلسطينيين عبر اجهزة التنصت ورأى فيها حركة ذات افاق جدية ولديها قائد خطير وذو كاريزما عالية هو ياسر عرفات. Cquote1.png

كان الحسن يواجه مشاكل مالية، فتقدم لدية لمساعدته وعرض عليه ان يدفع عنه ايجار الشقة التي كان يستأجرها في شارع بيتهوفن 42 في فرانكفورت، وكانت تستخدم مقراً رئيسياً لمنظمة الطلبة الفلسطينيين وكان قادة فتح يجتمعون فيها من وقت لاخر. وفي يناير، تمكنت عناصر من وحدة كولوسيوس التابعة للموساد من زرع اجهزة تنصت في الشقة. وعلى مدى ثمانية اشهر استمع عناصر الوحدة الى قادة فتح وهم يتحدثون عن خططهم لمسح اسرائيل عن الخريطة ، بحسب اقوال مسجلة لابو جهاد (خليل الوزير).

في تلك الاثناء، حل رافي ايتان مسؤولا لعمليات الموساد في اوروبا وهو كان ضابطاً في الجيش نفذت وحدته عملية ابعاد عائلة ابو جهاد من منزلها في مدينة الرملة خلال حرب العام 1948. بصفته الاستخبارية في ذلك الحين، استمع ايتان لاحاديث القادة الفلسطينيين عبر اجهزة التنصت ورأى فيها حركة ذات افاق جدية ولديها قائد خطير وذو كاريزما عالية هو ياسر عرفات، كما سمع في الاحاديث ان الطلبة الفلسطينيين قالوا لعرفات ولابي جهاد ان هناك خمس عشرة منظمة فلسطينية في اوساطهم لا بد ان تتوحد تحت قيادة واحدة، لكن عرفات قال لهم ان لا ضرورة لذلك بل من المفيد ان يكون لكل منظمة ميليشيا وموازنة خاصتين بها وبذلك سنضمن مواصلة النضال ضد الصهيونية حتى نرمي اليهود في البحر.

ويضيف برگمن انه طوال العام 1965 صعدت حركة فتح عملياتها بزرع الالغام في الطرق وتخريب خطوط الانابيب واطلاق النار على مستوطنين مسلحين باسلحة خفيفة، وقد بلغ عدد العمليات في ذلك العام حوالي 39 عملية، مع العلم ان معظم هذه العمليات كان فاشلا غير انه أحدث صدى كبيرا وصل الى رافي ايتان في باريس الذي طلب من رئيس الموساد حينها مائير اميت ان يعطي امرا لوحدة قيصرية لاقتحام الشقة في شارع بيتهوفن في فرانكفورت واغتيال كل من فيها لكن اميت رفض الاقتراح واعتبر ان هذه المجموعة من الفلسطينيين هي عبارة عن مجموعة شباب يشكلون عصابة ليس لديها امكانيات حقيقية.

يقول برگمن انه مع تصاعد عمليات فتح بات واضحا ان ياسر عرفات وخليل الوزير اصبحا مشكلة يبدو حلها غير قريب. وهكذا فقد فرض هذا الواقع على عالم الاستخبارات ان يرد بطريقتين نموذجيتين بحسب قول نائب رئيس جهاز امان اهارون ليفران. هاتان الطريقتان هما اولا انشاء قسم خاص للتعامل مع الموضوع وثانيا ضرب رأس الهرم، بحسب قول ليفران . وهكذا فقد تم في اغسطس/اب عام 1965 انشاء لجنة سرية لدرس كيفية التعامل مع العمليات الفدائية للفلسطينيين، ضمت ثلاثة اعضاء هم الى جانب ليفران، نائب رئيس وحدة قيصرية مايك هراري وقائد الوحدة 504 في جهاز امان شاموئيل غورين. وتوصلت هذه اللجنة الى اصدار قرار باغتيال ابو عمار وابو جهاد ولكن نظرا للفشل الذي منيت به وحدة قيصرية في العديد من عملياتها خلال تلك الفترة، فقد نصحت اللجنة باللجوء الى الرسائل المفخخة المرسلة الى قادة ومسؤولين في فتح في كل من سوريا ولبنان عبر استخدام المعلومات التي كان يزودها بها لدية وفريقه. وهكذا استقر الرأي على ارسال هذه الرسائل الى القادة على انها من اشخاص معروفين جيدا من قبلهم وقد اختيرت لتنفيذ هذه المهمة في بيروت امرأة اسمها سيلفيا رافائيل وهي امرأة من جنوب افريقيا تحمل جواز سفر بريطاني ومن اب يهودي وقد تدربت على ايدي موتي كفير لتصبح لاحقا اشهر عميلة ميدانية عملت ضمن وحدة قيصرية.

Cquote2.png عملت المؤسسات الاستخبارية كل ما يمكنها لمنع ذكر اسم حركة فتح عند الكلام عن العمليات الفدائية وعند السؤال عن هوية منفذي العمليات كان الرد بكلمة باها وهي اختصار عبري لـ نشاطات ارهابية معادية. Cquote1.png

يقول برگمن إن اميت أبلغ رئيس الوزراء ليفي اشكول انه ستكون هناك عما قريب موجة كبيرة من الرسائل المتفجرة، ثلاث منها كانت لاهداف خاصة بـ الموساد و12 لاهداف خاصة بجهاز امان ولكن الاهداف الـ 15 هي لمسؤولين في حركة فتح في كل من الاردن ولبنان. يضيف الكاتب ان اشكول شكك بجدوى العملية، مذكرا اميت بفشل عمليات مماثلة في مصر وسوريا لكن اميت اكد ان العملية ستنجح هذه المرة لان كمية المتفجرات في الرسالة ستكون حوالي عشرين غراماً. غير ان مخاوف اشكول تحققت وفشلت العملية اذ ان عددا قليلا من مستلمي الرسائل اصيب بجروح بسيطة فيما جرى اكتشاف معظم الرسائل الاخرى وفككت قبل ان تتسبب باي اذى.

يضيف برگمن، في تلك الفترة كان ابو عمار وابو جهاد يقيمان في دمشق التي قدمت لحركة فتح منشآت تدريبية سورية، بينما كانت قدرات الاستخبارات الاسرائيلية هناك محدودة جداً، خاصة بعد انكشاف أمر عميلها ايلي كوهين واعدامه ما ادى الى اخلاء كل العملاء الاخرين، وهكذا تمكن الفلسطينيون من تنفيذ المزيد من العمليات ضد اهداف في اسرائيل، وعلى الرغم من ان عدد هذه العمليات لم يحقق رقما اعلى من الذي نفذ في العام 1965 اذ بقي بحدود الاربعين عملية ولكن النوعية اختلفت وباتت هذه العمليات تقترب اكثر الى الاهداف العسكرية، وفي 11 نوفمبر/تشرين الثاني عام 1966، قتل ثلاثة جنود في الجيش الإسرائيلي ، عندما اصطدمت اليتهم بلغم ارضي، فكان أن ردت اسرائيل بعملية في قرية صموا جنوب مدينة الخليل التي كانت تحت الوصاية الاردنية، وذلك بتهديم بيوت الفلسطينيين في البلدة، ولكن صداما وقع بين القوة العسكرية الاسرائيلية المهاجمة والجيش الاردني ادى الى مقتل 16 جنديا اردنيا وجنديا اسرائيليا واحدا.

يقول برگمن إنه برغم الكر والفر، كان التوجه الاستخباري الاسرائيلي يقضي بـ اخفاء المشكلة الفلسطينية الجديدة تحت السجادة، فعملت المؤسسات الاستخبارية كل ما يمكنها لمنع ذكر اسم حركة فتح عند الكلام عن العمليات الفدائية وعند السؤال عن هوية منفذي العمليات كان الرد بكلمة باها، وهي اختصار عبري لـ نشاطات ارهابية معادية.

مع بدايات العام 1967، ازدادت وتيرة العمليات الفدائية وبلغ عددها حتى مايو حوالي المائة عملية عبر حدود سوريا ولبنان والاردن ومصر وقتل فيها 13 اسرائيليا بينهم اربعة جنود، ما ادى الى ارتفاع وتيرة التوتر على كل الحدود مع الدول المجاورة. وهكذا فقد اصدرت اسرائيل في 11 مايو انذارا لسوريا تقول فيه ان لم تسارع دمشق الى لجم عمليات حركة فتح فانها ستلجأ الى عمل عسكري واسع النطاق، وقد ادى هذا الانذار الى قيام قيادة عسكرية مشتركة لكل من مصر وسوريا والاردن واستنفار القوى العسكرية على جبهات هذه الدول.

معركة الكرامة تكرّس زعامة عرفات.. والموساد يريد رأسه؟

عشية حرب يونيو عام 1967 كانت إسرائيل قد أكملت تجهيز مسرح العمليات بجوانبه كافة، الاستخبارية والعسكرية والنفسية والإعلامية والأهم من كل ذلك الحصول على ضوء أخضر براق (بحسب تعبير الكاتب رونين برگمن) من الإدارة الأميركية ممثلة بوزير الدفاع روبيرت ماكنامارا خلال إستقباله في واشنطن رئيس جهاز الموساد مائير اميت. وما كان ينقص إطلاق العملية العسكرية هو إيجاد الذريعة، ولم تخل جعبة الاستخبارات الاسرائيلية من هذا الموضوع، إذ إستطاعت أن تخرق الوعي الإجتماعي العام عبر تكثيف الحديث عن عمليات الفدائيين طوال شهر مايو وتكبير الخطر الوجودي الذي تمثله هذه العمليات على دولة الكيان (على الرغم من كل أشكال النكران السابقة التي مارستها والتي وصلت الى حد منع ذكر حركة فتح في الإعلام كمحرك ومنفذ رئيس لهذه العمليات) وذلك مقابل تكثيف الحديث عن الخطر العربي المتمثل بقيادة الرئيس المصري جمال عبد الناصر وطروحاته الراديكالية.[4]

وهكذا في الساعة 7:45 من صباح الخامس من يونيو 1967 انطلقت حرب الأيام الستة بحملة قصف جوي مكثف نفذتها الطائرات الحربية الإسرائيلية على عشرات المطارات العسكرية في كل من مصر وسوريا والاردن مستندة الى المعلومات الإستخبارية الدقيقة التي كان وفرها لها جواسيس جهازي الموساد و أمان على مدى سنوات طويلة من التحضير للحرب، بحسب وصف برگمن، وفي خلال ساعات معدودة تمكنت المقاتلات الإسرائيلية تقريبا من تدمير كل طائرة حربية لدى مصر وسوريا والاردن، ومع انتهاء الحرب في العاشر من يونيو كانت القوات الإسرائيلية قد تمكنت من زيادة مساحة الكيان الإسرائيلي بنسبة 300 في المئة عبر احتلالها لكل من الضفة الغربية والقدس ومرتفعات الجولان وقطاع غزة وشبه جزيرة سيناء، يقول رونين برگمن.

Cquote2.png الحل بالنسبة لـ يهودا اربل قائد الشين بيت في القدس والضفة الغربية يكمن في قتل ياسر عرفات لا سيما بعد ان تمكن الاخير من الاطاحة باحمد الشقيري الذي عينه قادة الدول العربية رئيسا لمنظمة التحرير الفلسطينية. Cquote1.png

يقول رونين برگمن انه في الوقت الذي كان مائير اميت يرى في الانتصار فرصة للسلام مع العرب فقد رأى ياسر عرفات (ابو عمار) ومعه خليل الوزير (ابو جهاد) انه بالامكان استغلال الهزيمة العربية وان الفشل المذل لقادة الدول العربية سيفسح في المجال امام الراي العام العربي لتقدم قادة شبابيين جدد شجعان وغير فاسدين، وكان رأي ابو جهاد ان هذه الهزيمة ستفتح الباب امام اطلاق حرب عصابات واسعة ضد قوات الاحتلال على مختلف الجبهات. وبعد عشرة ايام من انتهاء الحرب، يقول برگمن، اعلن كل من عرفات وابو جهاد من بيروت مواصلة الكفاح ولكن فقط من داخل الاراضي المحتلة، وتحقيقا لاعلانهما هذا فقد اجتاحت المناطق المحتلة موجة من هجمات الفدائيين قطاع غزة والضفة الغربية مطاولة في اهدافها منشآت مدنية كالمنازل ودور السينما والمصانع، ومع ذلك لم يتجرأ احد من قادة اجهزة الاستخبارات ان يطرح امكانية التفاوض مع قادة حركة فتح لا بل على العكس فان الحل بالنسبة لـ يهودا اربل قائد الشين بيت في القدس والضفة الغربية يكمن في قتل ياسر عرفات لا سيما بعد ان تمكن الاخير من الاطاحة باحمد الشقيري الذي عينه قادة الدول العربية رئيسا لمنظمة التحرير الفلسطينية عندما انشأوها في العام 1964. ومع وصول عرفات الى هذا الموقع الأول، صار ليس فقط قائدا لحركة فتح بل لكل فصائل المقاومة الفلسطينية المنضوية تحت لواء منظمة التحرير وعين ابو جهاد منسقا لكل النشاطات العسكرية للمنظمة. ودأب عرفات منذ ذلك الحين على ارتداء الكوفية الفلسطينية بطريقة تظهر وكأنها خارطة فلسطين وليتحول بذلك الى رمز النضال الفلسطيني.

وينقل برگمن عن ايهود اربل قوله في مذكراته ان قتل ياسر عرفات هو شرط لا غنى عنه لايجاد حل للمشكلة الفلسطينية وقد ضغط اربل لتشكيل لجنة استخبارية ثلاثية لتحقيق هذا الهدف، ومن جهته، فقد اصدر منشورا بعنوان مطلوب (على طريقة افلام الكاوبوي) وتحتها رسم بخط اليد لعرفات مع شرح تفصيلي لمواصفاته يقول قصير القامة، بين 155 و160 سم، اسمر البشرة، بدين ويتوسط رأسه بقعة جرداء، فيما باقي شعره يتخلله البعض من الشيب، حليق الشارب وذابل العينين مع حركة دائمة الى الخلف والى الامام . ويقول برگمن، لقد حاولت القوات الاسرائيلية قتل عرفات عدة مرات خلال حرب الايام الستة وبعدها مباشرة، فبعد الحرب بايام عديدة، حدّد احد المخبرين لدى الشين بيت مكان وجود عرفات في المدينة القديمة في القدس ليس بعيدا عن بوابة يافا، فارسلت مباشرة قوة من الجنود للنيل منه حيا او ميتا ولكنه تمكن من الفرار قبل وصول القوة اليه بوقت قصير، وبعدها بيومين وبناء على معلومة من احد المخبرين داهم الجنود منزلا في قرية بيت حانين الواقعة شرقي القدس فلم يجدوا سوى رغيف خبز لم يقضم منه سوى بضع قضمات الى جانب صحن سلطة مع طحينة. وبعدها بيوم واحد تمكن عرفات من عبور احد الجسور على نهر الاردن متنكرا بزي امرأة قدمت نفسها بوصفها زوجة من كان يرافقها وهو أحد مرافقي عرفات!

ويقول برگمن ان هجمات الفدائيين تصاعدت بعد ذلك بوتيرة عالية واصبحت تتسبب بالكثير من الاصابات وايقاع الكثير من القتلى مضيفا انه بين انتهاء حرب الايام الستة وآذار/مارس عام 1968 (حوالي عشرة اشهر) قتل في هذه الهجمات 65 جنديا و50 مدنيا فيما جرح 249 جنديا و295 مدنيا، وقد كانت كل هذه الهجمات تنطلق من مقر قيادة حركة فتح في منطقة الكرامة جنوب وادي الاردن وكان ذلك يتسبب باشتباكات بين الجيشين الاردني و الاسرائيلي ويتسبب ايضا بتوتر شديد على طول الحدود مع الاردن ما يجعل الحياة على الجانب الاسرائيلي مستحيلة. وقد دفع هذا الامر قادة الجيش الاسرائيلي لان يطلبوا من رئيس الحكومة اشكول الموافقة على عملية عسكرية واسعة لكنه كان مترددا في ذلك. وهنا ينقل برگمن عن رئيس وحدة قيصرية زفي اهاروني قوله لقد كان الموساد محبطا جراء هذه الهجمات التي تسببت بالشعور بالعجز لذلك قلت لفريقي فكروا من خارج السياق، فكروا بطريقة ما لقتل عرفات.

Cquote2.png برگمن: بعد معركة الكرامة لم يعد احد يستطيع ان يشكك بوجود الامة الفلسطينية حتى لو واصلت اسرائيل نكرانها لهذا الواقع على مدى سنوات تلت، كما لم يعد احد يستطيع ان يشكك بان ياسر عرفات اصبح القائد الذي لا تشوب قيادته شائبة. Cquote1.png

وهكذا فقد واتت الموساد فكرة قتل عرفات في يناير عام 1968 عبر عملية مركبة تضمنت شحن سيارة كبيرة من اوروبا الى بيروت حيث تحمّل بكمية كبيرة من المتفجرات وينقلها احد عملاء وحدة قيصرية برا الى دمشق متنكرا بصفة رجل اعمال حيث يركن السيارة على مقربة من مقر اقامة عرفات ليصار الى تفجيرها في الوقت المناسب. وقد حمل هذه الخطة رئيس الموساد مائير اميت الى رئيس الحكومة ليفي اشكول لكن الاخير لم يوافق عليها ورفضها رفضا قاطعا بذريعة ان من شأن هذه العملية ان تؤدي الى رد مشابه ومبرر ضد قادة سياسيين اسرائيليين لان عرفات بالاضافة لكونه ارهابيا بنظر اشكول فهو استطاع ان يتحول الى مسؤول سياسي، وهذا بحسب برگمن يعتبر نجاحا كبيرا لرئيس منظمة التحرير الفلسطينية.

سرعان ما تبدد رفض اشكول تنفيذ عملية تهدف إلى قتل عرفات وذلك عندما إنفجر في 18 مارس 1968 لغم ارضي تحت حافلة نقل مدرسية وتسبب بقتل شخصين وجرح عشرة اطفال، فاقر اشكول ردا على هذا الهجوم القيام بعملية عسكرية واسعة في منطقة الكرامة وحولها ضد كل مقرات المنظمات الفلسطينية ومن ضمنها قيادة عرفات.

في اجتماع للحكومة المصغرة تحضيرا للهجوم على منطقة الكرامة عشية الهجوم، قال حاييم بارليف رئيس اركان الجيش الاسرائيلي انها ستكون عملية نظيفة لن يسقط فيها اي ضحايا في الجانب الاسرائيلي ، وقد كلفت قوة خاصة من نخبة وحدات الكوماندوس في الجيش الاسرائيلي اسمها سايريت متكال بالقيام بعملية انزال بالهليكوبتر في 21 اذار/مارس في منطقة صحراوية متقدمة على مقربة من قاعدة فتح المركزية في منطقة الكرامة مع امر بسيط وواضح شنوا هجومكم في وضح النهار وافرضوا سيطرتكم على المنطقة واعزلوا واقتلوا كل الارهابيين فيها، يقول برگمن.

ولكن رياح التنفيذ جرت بما لا يشتهي المخططون، فقد كان نهر الأردن غزيرا في تلك الفترة ومحاطا بالاعشاب العالية والكثة على ضفتيه ما صعب امكانية تحرك القوات المجوقلة الداعمة لقوة الكوماندوس المهاجمة كما انه ونتيجة ضعف التنسيق بين القوى المهاجمة، رمت الطائرات الحربية قبل الوقت المفترض لها منشورات تدعو المدنيين الى الخروج من المنطقة ما افقد القوى المهاجمة عنصر المفاجأة وانذر المقاتلين الفلسطينيين بوقوع الهجوم واعطاهم الوقت الكافي لتحضير انفسهم للمواجهة التي خاضوها بشراسة مشهودة. ومجددا تمكن عرفات من الفرار، متنكرا مرة اخرى بثوب امرأة، على دراجة نارية بعيدا عن المنطقة، يقول برگمن.

ويضيف الكاتب انه على الرغم من الفارق الكبير في عدد الضحايا في المعركة (قتل 33 جنديا اسرائيليا و61 جنديا اردنيا ومئة مقاتل فلسطيني بحسب برگمن)، فقد تمكن الفلسطينيون من الصمود والمواجهة وجها لوجه مع قوات الجيش الاسرائيلي اقوى جيش في منطقة الشرق الاوسط. وهذا يظهر من هو المنتصر الفعلي في المعركة. وقد صنعت هذه المعركة من الفدائيين اسطورة حيث زعم الفلسطينيون انهم تمكنوا من اصابة وزير الدفاع الاسرائيلي موشيه دايان وجعلت الاف الفلسيطينيون يطلبون الانضمام الى صفوف منظمة التحرير الفلسطينية. ويقول مؤلف الكتاب بعد معركة الكرامة لم يعد احد يستطيع ان يشكك بوجود الامة الفلسطينية حتى لو واصلت اسرائيل نكرانها لهذا الواقع على مدى سنوات تلت، كما لم يعد احد يستطيع ان يشكك بان ياسر عرفات اصبح القائد الذي لا تشوب قيادته شائبة، على حد تعبير برگمن.

إسرائيل يوم قرّرت إغتيال أبو عمار بالتنويم المغناطيسي

بعد إنتهاء حرب يونيو 1967، نفذت الأجهزة الأمنية الإسرائيلية العديد من المحاولات لاغتيال رئيس منظمة التحرير الفلسطينية وحركة فتح ياسر عرفات (أبو عمار)، لكنها باءت جميعها بالفشل، وأبرزها هجوم اسرائيلي واسع على منطقة الكرامة الاردنية التي كانت تضم المقر الرئيسي لحركة فتح وبضعة قواعد للمنظمات الفلسطينية الاخرى. وقد مني الجيش الاسرائيلي خلال الهجوم بخسائر كبيرة في الارواح ناهيك عن تعرضه إلى هزيمة معنوية كبيرة.[5]

يقول الكاتب الإسرائيلي رونين برگمن ان فشل عملية الكرامة ، جعل القيادة الاسرائيلية تقرر إتباع سياسة متشددة حيال اية غارات داخل الحدود الاردنية، ما ولد حالة من الاحباط والعجز داخل صفوف الجيش الإسرائيلي . ويستشهد برگمن بمحاضر اجتماعات القيادة العسكرية في تلك الفترة ليشير الى حجم الاهتمام الذي باتت توليه هذه القيادة لياسر عرفات الذي بات يتمتع بشعبية واسعة في صفوف الشباب الفلسطيني. ويضيف الكاتب استنادا الى هذه الوثائق ان الهم الرئيس لقيادة اجهزة الاستخبارات انصب على محاولة تحديد مكان وجود عرفات والعمل على تصفيته ولكن كل هذه الجهود ذهبت هباء منثورا، وقد وصل اليأس بهذه الاجهزة الى درجة موافقتها على خطة غريبة مقتبسة من فيلم هوليودي منتج عام 1962 بعنوان Manchurian Candidate ، وتقوم حبكة الفيلم على فكرة قيام ضابط استخبارات صيني بغسل دماغ اسير حرب اميركي وتنويمه مغناطيسيا قبل ان يرسله الى الولايات المتحدة لاغتيال الرئيس الاميركي. وقد اتى بهذه الفكرة عالم نفسي من اصول سويدية يعمل في صفوف البحرية الاسرائيلية واسمه بنيامين شاليت . وقد ادعى شاليت ان باستطاعته القيام بالامر نفسه وان يكون الهدف ياسر عرفات، وقال شاليت في اجتماع ضمه الى رئيس جهاز امان اللواء اهارون ياريف انه اذا تم تسليمه سجين فلسطيني، من بين الاف السجناء في السجون الاسرائيلية ، وكان هذا السجين يتمتع بالمواصفات المطلوبة، فانه قادر على غسل دماغه وتنويمه مغناطيسيا ليصبح قاتلا مبرمجا ويرسله عبر الاردن لينضم الى صفوف حركة فتح بانتظار اللحظة المناسبة لقتل عرفات. وافقت اللجنة الاستخبارية على هذه الخطة واختار جهاز الشين بيت عدة مرشحين مناسبين وارسلهم الى شاليت لاجراء المقابلات معهم حتى يختار افضلهم للمهمة. بعد مقابلات مطولة، اختار شاليت من اعتبره الافضل بينهم، وهو من مواليد مدينة بيت لحم وعمره 28 سنة، قوي البنية ولا يتمتع بذكاء كبير ومن السهل التأثير عليه ولم يكن يبدو عليه انه كثير الالتزام بقيادة ياسر عرفات، وكان خلال فترة اعتقاله يعيش في قرية صغيرة قرب مدينة الخليل في الضفة الغربية وكان مجرد ناشط على مستوى قاعدة حركة فتح، وقد اعطته الاستخبارات الاسرائيلية اسما حركيا لتنفيذ المهمة هو فتحي .

Cquote2.png رافي سوتون: فكرة غبية ومجنونة وتذكرني بافلام الخرافات العلمية القائمة على الخيال الواسع والتضليل. Cquote1.png

ويمضي برگمن بالقول ان الوحدة 504 في جهاز امان كلفت بتأمين البنى التحتية الضرورية للمهمة على الرغم من اعتراض قادتها على كامل الخطة التي وصفها قائد قاعدة الوحدة في القدس رافي سوتون بانها فكرة غبية ومجنونة وتذكرني بافلام الخرافات العلمية القائمة على الخيال الواسع والتضليل .

لم يأخذ أحد بإعتراض سوتون ومضى الشين بيت بتنفيذ الخطة. لهذه الغاية، تم تخصيص منزل من عشر غرف وضع بتصرف العالم نفسي شاليت الذي امضى ثلاثة اشهر من العمل المضني على فتحي مستخدما تقنيات عدة من التنويم المغناطيسي، وكانت الرسالة التي يراد غرسها في رأس فتحي هي فتح جيدة، منظمة التحرير جيدة، عرفات سيء يجب التخلص منه .

يضيف برگمن انه بعد مرور شهرين على عملية غسل الدماغ والتنويم المغناطيسي، بدا كأن فتحي قد تلقى الرسالة جيدا. فتم الانتقال الى المرحلة الثانية من الخطة وهي ان يوضع فتحي في غرفة جهزت خصيصا للمهمة بحيث يوضع في يده مسدس وتبدأ صور عرفات بالقفز امامه من زوايا مختلفة في الغرفة، ويقال له أطلق النار عليها مباشرة من دون تفكير مسبق، والهدف ان يطلق النار تماما بين عيني الصورة بهدف القتل.

خلال عملية اعداد السجين فتحي للمهمة، قام رئيس جهاز امان المدعو اهارون ياريف ومعه اهارون ليفران ، وهما اثنان من ثلاثة رجال يشكلون وحدة القتل المتعمد في الجهاز، بزيارة مقر التدريب وراقبا عن كثب عمل شاليت . وينقل برگمن عن ليفران قوله إن فتحي وقف في وسط الغرفة فيما كان شاليت يتحدث اليه وكأنهما يجريان محادثة عادية، وفجأة ينقر شاليت يده على الطاولة فينطلق فتحي بالدوران حول الطاولة، حيث كان يتحرك بصورة الية كردة فعل على اي اشارة يطلقها له شاليت ، ثم وضعه في غرفة اخرى حيث اظهر لنا شاليت كيف رفع فتحي المسدس واطلق النار كلما ارتفعت امامه صورة لياسر عرفات من بين احدى قطع الاثاث، لقد كان الامر مثيرا جدا .

Cquote2.png أارد جهاز أمان أن يؤجل تنفيذ العملية ولكن شاليط أصر على أن فتحي في أقصى حالات التنويم المغناطيسي وأنه لا بد من انتهاز هذه الفرصة. Cquote1.png

في منتصف ديسمبر عام 1968، اعلن شاليت انه بات بالامكان الانطلاق نحو تنفيذ العملية. وهكذا فقد حددت ساعة الصفر في التاسع عشر من ديسمبر حيث كان من المقرر ان يقوم فتحي بالسباحة عبر نهر الاردن نحو الاراضي الاردنية. في تلك الليلة، هبت عاصفة قوية وتساقط المطر بلا انقطاع وطافت مياه النهر على ضفتيه على غير عادتها في تلك الاوقات، اراد جهاز امان ان يؤجل تنفيذ العملية ولكن شاليت اصر على ان فتحي في اقصى حالات التنويم المغناطيسي وانه لا بد من انتهاز هذه الفرصة. فقام موكب كبير بمرافقة فتحي من القدس ومعهم شاليت نفسه الذي قال بضعة كلمات مرتبطة بالتنويم المغناطيسي لـ فتحي قبل القائه في النهر حيث كان يمشي على ارض النهر وعلى ظهره حقيبة سوداء فيها امتعته، وما ان مشى مسافة قليلة حتى باتت المياه تغمره بالكامل ولم تعد اقدامه تطأ الارض واخذ التيار المائي يجرفه وبات غير قادر على المضي نحو الجانب الاردني من النهر وغير قادر على العودة، فانقذ الموقف سائق يعمل في الوحدة 504 يدعى اوفاد ناتان ، وكان قوي البنية ومفتول العضلات، اذ قفز في الماء مخاطرا بنفسه وربط حبلا بينه وبين فتحي وقاده الى الجانب الاردني حيث تأكد ان اقدامه باتت على البر الاردني وعاد الى رفاقه في الجانب الاسرائيلي حيث كان رافي سوتون يراقب العملية وهو يرتجف من البرد. وقف فتحي على الجانب الاخر ملوحا بالوداع ورفع اصابعه على شكل مسدس كأنه يطلق النار بين عيني هدف متخيل. ينقل رونين برگمن عن سوتون قوله ان شاليت عبر عن سعادته باستجابة مريضه وكانت عندها الساعة الواحدة فجرا.

بعد خمس ساعات من عملية الانزال، وصلت الى الوحدة 504 رسالة من احد عملائها في الاردن تقول ان شابا فلسطينيا ناشطا في صفوف حركة فتح في بيت لحم سلم نفسه الى مقر للشرطة الأردنية في منطقة الكرامة الاردنية واخبر أحد ضباط الشرطة الاردنية ان الاستخبارات الاسرائيلية حاولت غسل دماغه ليقتل عرفات وقام بتسليم المسدس الذي اعطاه له مشغلوه. وقال مصدر من داخل حركة فتح ان الحركة استلمت فتحي من الشرطة الاردنية بعد ثلاثة ايام حيث القى خطابا حماسيا يدعم فيه ياسر عرفات.. وكان مصير الفيلم الهوليودي الفشل الذريع.

داگان قائد الموساد السابق.. جثة تقتل بلا رحمة!

يقول رونين برگمن انه بعد حرب الايام الستة في العام 1967، وجد الفلسطينيون في الضفة الغربية وقطاع غزة انفسهم محكومين من قبل العدو الذي احتل ارضهم. وجدوا أنفسهم أيضا بين حجري رحى: إحتلال يريد إثبات سلطته في الاراضي التي احتلها من جهة وتصميم منظمة التحرير الفلسطينية على تحرير الارض من جهة اخرى.. في الوقت نفسه، تغيّرت مهمة الجيش الاسرائيلي جذرياً. في السابق، كانت مهمات الوحدات القتالية هي تسيير دوريات على الحدود لحمايتها من العدو الخارجي، اما الان فقد اصبحت مهمتها فرض سلطة النظام في المدن والقرى الفلسطينية المحتلة.[6]

أدت حرب الأيام الستة الى تغيير مهمات اجهزة الاستخبارات. تخلى جهاز الموساد عن العمل في الاراضي المحتلة حديثاً لمصلحة جهاز الشين بيت الذي كان حينها وكالة صغيرة نسبيا بعديد لا يتجاوز السبعمائة موظف كانت مهمتهم سابقا مكافحة التجسس والتخريب السياسي.

وبين العامين 1968 و1970، كانت هجمات منظمة التحرير ضد الجنود والمدنيين الاسرائيليين تتنامى وتتسبب باعداد اكبر من الضحايا، وبالتالي كان جهاز الشين بيت يتنامى بسرعة اكبر وراح يحصل على موازنات ومعدات بالاضافة الى تجنيد أفراد ناطقين باللغة العربية كانوا يخدمون في جهاز امان وبالاخص في الوحدة 504″ التي كان من ضمن مهماتها تجنيد افراد من اصول عربية. وهكذا فقد اصبحت المهمة الاساس لـ الشين بيت مواجهة الارهاب الفلسطيني (وقع 500 هجوم فدائي في قطاع غزة في العام 1970 وسقط 18 مستوطناً وجرح المئات).

من أجل مواجهة هجمات الفدائيين المتصاعدة ، يقول برگمن، إن جهاز الشين بيت أعدّ لوائح بالمطلوبين الغزيين راحت تكبر إلى أن بات هذا الجهاز غير قادر على المهمة وحده في منطقة هي الأكثر كثافة في السكان بالعالم، فكان أن طلب من القيادة العسكرية تقديم المساعدة، ووجد طلبه اذاناً صاغية لدى اللواء ارييل شارون الملقب اريك الذي كان عين في العام 1969 قائدا للمنطقة الجنوبية. بدأ شارون يدفع بالمزيد من القوات العسكرية الى قطاع غزة لمساعدة الشين بيت في عمليات اعتقال النشطاء الفلسطينيين (الارهابيين بنظر برگمن) وقتلهم. وكانت مصادر المعلومات عن هؤلاء بصورة اساسية من مخبرين فلسطينيين او من المعلومات التي يتم الحصول عليها من معتقلين بعد تعرضهم لتعذيب وحشي وقاس جدا. لم تحظ طريقة شارون الدموية بتأييد الكثيرين في القيادة، اذ اعتبر العميد اسحاق بونداق الحاكم العسكري للقطاع أن مواجهة الارهاب الفلسطيني تكمن في تحسين نوعية الحياة لسكان القطاع والسماح لهم بادارة شؤونهم المدنية والبلدية بانفسهم وبوجود عسكري اسرائيلي في حده الادنى، وينقل برگمن عنه قوله ان الاعتقال والقتل من اجل القتل لا يقود سوى الى انتفاضة شعبية ، فيما كان وزير الدفاع موشيه دايان يرى ان الحل باجراء اتصالات وعلاقات مع السكان المحليين بينما شارون لم يكن ينظر الى هؤلاء سوى من مهداف البندقية ولم يكن يعنيه امر المدنيين أبداً.

Cquote2.png ينقل برگمن عن بونداق قوله انه سمع شارون يقول لضباطه كل من يقتل ارهابيا فلسطينيا له مني زجاجة شمبانيا اما من يحضر لي اسيرا فله قنينة صودا. Cquote1.png

وينقل برگمن عن بونداق قوله انه سمع شارون يقول لضباطه كل من يقتل ارهابيا فلسطينيا له مني زجاجة شمبانيا اما من يحضر لي اسيرا فله قنينة صودا (اشارة واضحة الى ان شارون لا يريد معتقلين بل يحفز ضباطه على القتل فقط).

يقول برگمن ان واجبات شارون كقائد للمنطقة الجنوبية كانت الحفاظ على دوريات منتظمة على طول الحدود مع مصر وخوض المعارك في حرب الاستنزاف على طول قناة السويس التي استمرت ثلاث سنوات، لذلك فقد كان شارون بحاجة الى وحدة عسكرية خاصة لمواجهة الارهاب وليس اقل اهمية من ذلك هو ان شارون كان بحاجة الى وحدة صغيرة من الرجال الذين يقدمون التقارير اليه مباشرة ويعملون وفق منظومة افكاره نفسها. وعندما حان الوقت لتعيين قائد لهذه الوحدة توجه تفكير شارون مباشرة الى مائير داغان.

في اواسط العام 1969، زرعت حركة فتح مجموعة من صواريخ الكاتيوشا موجهة الى احدى قواعد الجيش داخل حقل الغام، ولم يجرؤ اي جندي او ضابط من الاقتراب من تلك الصواريخ خوفا من الالغام الى ان تقدم ضابط شاب يدعى مائير داغان ومشى بهدوء نحو الصواريخ بلا خوف ولا وجل وعطلها قبل ان يعود ادراجه، وقد ذكر ذلك الضابط شارون بنفسه عندما كان ضابطا صغيرا.

يستعرض برگمن هنا مسيرة حياة داغان بالقول انه من مواليد العام 1945 لابوين بولنديين غادرا بلدتهما لوكوف قبل ست سنوات من ولادته بعد ان اخبرهم ضابط سوفياتي ان الجيش الالماني يقترب من احتلال بلدتهم وان الامور لن تكون على ما يرام للسكان اليهود، فانتقل الوالدان الى سهوب سيبيريا الباردة، ومع انتهاء الحرب العالمية الثانية عادا مع الف من المهجرين اليهود الى بولندا ليجدوا انه لم يتبق لهم شيئاً هناك، كما لم يبق اي يهودي من الذين بقوا هناك خلال فترة الاحتلال الالماني. وكانت ولادة داغان في احدى محطات القطار في مكان غير معروف من اوكرانيا، وكانت فرص بقائه على قيد الحياة ضئيلة لولا العناية الكبيرة التي اولاها له والداه بالاضافة الى بنيته الجسدية القوية. وينقل الكاتب عن داغان قوله ان والديه لم يتحدثا اليه ابدا عن الفترة الممتدة من العام 1939 الى العام 1945 وكأن هذه الفترة قد محيت تماما من حياتهما.

ويضيف الكاتب ان والد داغان تحدث مرة وحيدة عن مرحلة ما بعد العودة الى بلدتهم المدمرة حيث قال انه وجد فقط وادي الموت حيث دفن في قبر جماعي كل اليهود الذين قتلوا في المنطقة على يد الالمان والناجي الوحيد من مجازر الغستابو (جهاز الاستخبارات الالماني خلال الحرب العالمية الثانية) كان مصورا طلب منه الجستابو ان يصور ارتكابهم للمجازر ولكنهم نسوا اخذ الفيلم منه عند رحيلهم فاعطى هذا الرجل الفيلم لوالد داغان وعندما ظًهر الفيلم فوجىء الوالد بوجود والده في احدى الصور (جد مائير) قبل لحظات من قتله ورميه في القبر الجماعي. ويضيف كانت الصورة تظهر دوف ايرليك (جد مائير) بلحيته الطويلة وجدائل شعره المنسدلة تحت اذنيه وعلامات الخوف في عينيه وهو يركع امام بنادق الجنود الالمان.

يتابع برگمن روايته عن حياة داغان قائلا انه بعد ان امضى الاخير خمسة اعوام في بولندا تعلم خلالها اللغة البولندية التي استخدمها لاحقا كقائد لجهاز الموساد في كسر الجليد مع القيادة البولندية، غادر داغان مع عائلته الى ايطاليا واستقلوا باخرة لنقل المواشي كانت تستخدم لنقل المهاجرين اليهود الى اسرائيل ، خلال تلك الرحلة، يقول احد اصدقاء داغان ان والده اعطاه برتقالة وهي كانت اول برتقالة يتذوقها في حياته، وقال له انها من ارض اسرائيل فشعر بفخر كبير. امضت الباخرة شهرا كاملا قبل ان تصل الى ميناء حيفا حيث استقبل ركابها وفد من مسؤولي الوكالة اليهودية ونقلوهم الى مخيم مؤقت للمهاجرين فناموا في خيم رثة قبل ان يتم نقلهم الى منازل مؤقتة في احدى القواعد العسكرية التي كان قد خلفها الجيش البريطاني قبل رحيله عن منطقة اللد.

يذكر ياتوم انه صدم من اول مرة التقى بها داغان، اذ رآه يطلق سكينه نحو اي جذع شجرة او عامود هاتف امامه فقال لنفسه لقد انضممت الى وحدة من القتلة الحقيقيين ومن غير المرجح ان استطيع العيش معهم

يقول برگمن أن داگان ترك المدرسة الثانوية في عمر السابعة عشرة وانضم إلى وحدة سايريت متكال في الجيش الإسرائيلي، وهي إحدى وحدات النخبة التي كانت تتولى العمليات السرية خلف خطوط العدو (والتي تخرج منها العديد من القادة العسكريين والسياسيين لاحقاً)، ويضيف الكاتب أنه من بين الثلاثين متطوعاً لوحدة سايريت متكال أكمل فقط أربعة عشر منهم برنامج التدريب الذي استمر خمسة أسابيع. أحد هؤلاء المتخرجين إلى جانب داگان كان داني ياتوم الذي تولى في أوقات لاحقة عدداً لا يستهان به من المناصب في الجيش الاسرائيلي إضافة إلى رئاسته جهاز الموساد، قبل داگان مباشرة. ويذكر ياتوم أنه صدم من أول مرة التقى بها داگان، إذ رآه يطلق سكينه نحو أي جذع شجرة أو عامود هاتف أمامه، فقال لنفسه لقد انضممت إلى وحدة من القتلة الحقيقيين ومن غير المرجح أن استطيع العيش معهم.

يضيف برگمن ان داغان انضم الى احدى وحدات لواء المظليين وخضع لدورة تدريب ضابط مشاة وحصل على رتبة ملازم في العام 1966، وفي حرب الايام الستة خدم كقائد كتيبة مظليين حيث قاتل اولا في سيناء ومن ثم في مرتفعات الجولان. وينقل الكاتب عنه قوله لقد وجدنا انفسنا فجأة في حلقة مغلقة من الحروب التي ولدت لدي شعور ان وجود اسرائيل غير مؤكد سوى من خلال حركة اقدامي في الميدان ومن خلال خوضي للمعارك.

بعد حرب الايام الستة، عاد داغان وانضم مجددا الى الجيش النظامي وتم تعيينه ضابطاً للعمليات في سيناء حيث كان لقاؤه الاول مع شارون عندما فكّك صواريخ الكاتيوشا. في العام 1969 اصبح داغان آمر وحدة العمليات الخاصة لدى شارون. كانت تلك الوحدة صغيرة نسبيا مع عدد جنودها البالغ 150 وتعمل بسرية تامة واتخذ داغان مقرا له في احدى الفيلات المهجورة قرب الشاطىء جنوب قطاع غزة والتي كان يستخدمها الرئيس المصري جمال عبد الناصر في احد الايام.

يشير رونين برگمن إلى أن داغان كان يخرج من غرفته عند الصباح عاري الصدر ويتوجه الى الساحة القريبة من مسكنه برفقة كلاب الدوبرمان فيشهر مسدسه ويبدأ باطلاق النار على علب الصودا التي خلفها جنوده وراءهم متناثرة على الارض خلال الليل، يقوم بعدها فريق من المساعدين باعداد الفطور له وتلميع حذائه. كان داغان يختار جنوده بنفسه وينتقيهم من مختلف الوحدات الاخرى على قاعدة واحدة هي ان يتبعوه بلا سؤال حيثما شاء ان يقودهم.

يضيف برگمن ان داغان كان في اواسط العشرينات من عمره عندما بدأ يطور عقيدته القتالية التي تقوم على فكرة اساسية هي ان على اسرائيل تجنب خوض حرب طويلة لان النصر السريع الذي تحقق في حرب الايام الستة لن يتكرر . ويتابع في شرح عقيدته ان على اسرائيل ان لا تدخل في مواجهة شاملة الا عندما يكون السيف على الرقبة ، وبدلا من ذلك كان داغان يعتقد ان العرب يمكن ان يهزموا في هجمات موضعية هنا وهناك، وانه يجب ملاحقة قادة العدو ونشطائه الميدانيين واصطيادهم وقتلهم بلا رحمة.

يشير برگمن، إلى أنه في نهاية العام 1969 وبعد اكثر من نصف عام على تجنيد وتدريب وبناء وحدته وعناصرها، قرر داغان انه آن الاوان للانتقال الى الميدان. قدّم له جهاز الشين بيت ملفا يتضمن اسماء اكثر من 400 مطلوب ويقول افيغدور ايلدان ، وهو احد اوائل جنود هذه الوحدة ان الملف كان يكبر كل يوم ولم يكن لدى الشين بيت القدرة على التعامل معه بسب النقص في عديده.

قسّم الجهاز اسماء المطلوبين الى فئتين، الاولى هي فئة الاهداف السوداء والثانية هي فئة الاهداف الحمراء . وكان الذين على الفئة الاولى اسماء نشطاء ثانويين لا يعرفون انهم مطلوبون لدى سلطات الاحتلال، كان رجال داغان يلاحقون هذه الاهداف ويسلمونها بعد اعتقالها لـ الشين بيت ومن يرفض التعاون يصار الى تعذيبه بقسوة وبعدها يعاد الى وحدة داغان حيث يضعونه في سيارة تاكسي محاطا برجلين من الوحدة في يد كل منهما مسدس ويطلبا منه ان يؤشر الى اماكن اختباء نشطاء منظمة التحرير وعائلاتهم وطرق امداداتهم وكثير من الامور الاخرى، ويكون خلف السيارة سيارة جيب عسكرية فيها جنود من جوالة القنابل اليدوية الذين يتحركون فورا عندما يشير المعتقل الى هدف ما لاعتقاله.

اما الذين أدرجوا على لائحة الاهداف الحمراء ، فقد كانوا يعرفون انفسهم انهم مطلوبون ومطاردون لذلك كانت حركتهم حذرة وكانوا مسلحين وكانت تصفية هذه الاهداف تتطلب العمل بسرعة وعن قرب، لذلك كان داغان يرسل لهذه المهمات خيرة جنوده فيتعمقون داخل قطاع غزة مرتدين الزي العربي يرافقهم متعاملون فلسطينيون ليشكلوا لهم غطاء مقنعا. وكان يطلق على هذه المجموعة من رجال داغان اسم سري هو زيكيت او كاميلون . تألفت هذه المجموعة في البداية من ثمانية رجال ضمن برنامج كاميلون السري ولم يكن احد يعلم ما هو الهدف الذي يدربوننا لاجله يقول ايلدان. وكان رجال هذه الوحدة يحملون هويات مزورة امنها لهم جهاز الشين بيت وكان بامكانهم التسلل الى عمق المناطق المكتظة بالسكان والخروج منها دون ان يلحظهم احد الا عندما يشهرون اسلحتهم.

Cquote2.png شلومو گازيت هدد بالاستقالة من منصبه وقال لا اجد ما اصف به ما فعله شارون سوى انه تطهير عرقي وجريمة حرب. Cquote1.png

وعن اسلوب عمل داغان، ينقل برگمن عنه قوله كنا نستغل نقاط ضعف الخلايا الارهابية. كانوا بمعظمهم من خلفيات ماركسية يمارسون العمل السري بحيث يعرف كل فرد اعضاء خليته فقط ولا يعرف احد من الخلايا الاخرى. المثال على ذلك، يقول احد عناصر تلك الوحدة موشي روبين لقد علمنا ان الارهابيين كانوا يحصلون على الاموال والاسلحة من لبنان. كانوا يبحرون في السفينة الام من بيروت وعندما تصل السفينة الى عمق البحر قبالة ساحل غزة يتم توزيع حمولتها على زوارق صيد صغيرة لنقلها الى الشاطىء، فقلنا لانفسنا لما لا نكون نحن ايضا من الآتين من بيروت؟ . وفي اجابة على هذا السؤال، رسمت الخطة ونفذت، ففي نوفمبر 1970 ركب ستة رجال من برنامج كاميلون زورق صيد جرته البحرية الاسرائيلية الى نقطة قريبة من شاطىء غزة، وكان هذا الفريق عبارة عن ثلاثة جنود يهود يرأسهم داغان نفسه وانضم اليهم متعاملان فلسطينيان، احدهما كان قد نجا من مجزرة ايلول الاسود التي نفذها الملك حسين ضد منظمة التحرير الفلسطينية في الاردن قبل شهرين وكان ممتنا للاسرائيليين لانقاذه من تلك المجزرة والثاني كان ملقباً بـ الغواصة ، وهو مجرم متهم بقتل احد اقاربه بغرز سكين في رأسه وقد وافق الشين بيت على اطلاق سراحه مقابل تعاونه والعنصر السادس كان ضابطا بدويا في الجيش الاسرائيلي مهمته مراقبة اجهزة الارسال التي يستخدمها الفلسطينيون وأيضاً ان يتقدم المجموعة ويتوصل الى اقامة اتصال مع الرجال المطلوبين ويبلغ مجموعته بالامر اضافة الى مهمة اخرى وهي مراقبة الفلسطينيين العاملين في المجموعة اذا قررا خيانة داغان.

وعندما وصلت المجموعة الى الشاطىء، اختبأت عدة ايام في تخشيبة مهجورة في بستان، وفي كل يوم كان المتعاملون يقومون بجولة في المخيمات المجاورة زاعمين انهم من عناصر الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وقدموا من لبنان. في البداية، لم يتواصل معهما احد، لذلك فقد تم تنظيم عملية مسرحية عبارة عن مطاردة نفذها جنود الجيش الاسرائيلي ضد هذه المجموعة بعد ان اكتشفها في البستان واطلقوا النيران الحقيقية متظاهرين انهم يطاردون المجموعة، فقاد داغان المجموعة الى منطقة في خراج مخيم بيت لاهيا. اثارت المطاردة الوهمية حفيظة السكان المحليين وتمكن الغواصة من اجراء اتصال مع امرأة كانت على تواصل مع مسؤول كبير في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين مطلوبا لدى سلطات الاحتلال، فقام رجال داغان بقتل دجاجة ونثروا دمها على ضمادات ربطوها الى اعناقهم ليشرحوا للمحليين ان ليس باستطاعتهم الكلام بسبب اصابتهم ما يجعل المتعامل يتحدث بالنيابة عنهم، والذي بدوره قال للمرأة لقد اتينا لمساعدتكم فوّفرت له اتصالاً مع كبار المسؤولين الفلسطينيين في المنطقة.

في اليوم التالي، ظهر الارهابيون يقول داغان وكانوا رجلين وامرأة مسلحين وهم من كبار المسؤولين، وبعد تبادل التحية، همس داغان بكلمة السر، فاطلق الجنود النار من مسافة قريبا من مسدسات بيريتا عيار 9 ملم كانوا يحملونها فقتلوا الرجلين على الفور، ولكن المرأة لم تصب. وتوجه داغان نحو احد القتيلين واخذ من يده مسدسا من طراز ستار، واطلق طلقتين في رأس كل منهما، واحتفظ بعدها بالمسدس لنفسه، وتم تسليم المرأة إلى الشين بيت .

يقول برگمن انه في صبيحة احد ايام يناير عام 1971، قام رجل اعلانات شهير في اسرائيل يدعى بوب ارويو، وهو في الثلاثين من عمره مع زوجته وولديه برحلة سياحية الى بحيرة البردويل شمال سيناء، وبعد ظهر ذلك اليوم وفيما كانت عائلة ارويو عائدة من رحلتها بسيارة فورد كورتينا وعندما وصلت إلى شمال منطقة العريش، وعلى مقربة من قطاع غزة، اوقفها شاب مراهق ورمى على المقعد الخلفي للسيارة قنبلة يدوية ما ادى اشتعال السيارة من الداخل ككرة نار وخرج منها بوب مصابا يطلب المساعدة فلم يلب طلبه احد فمات الولدان وتسببت القنبلة باعاقة دائمة لزوجته. بعد هذه الحادثة، تعززت وجهة نظر شارون القائلة بالتعامل مع سكان قطاع غزة بمنطق القوة، فقامت قوة عسكرية كبيرة جدا بامرة شارون بتدمير منازل الفلسطينيين تحت ذريعة توسيع الطريق الذي يشق مخيم اللاجئين الفلسطينيين، وفي احدى ليالي كانون الثاني/ يناير عام 1972 امر شارون بابعاد الاف البدو مسافة اكثر من ثلاثة كيلومترات جنوب رفح ما تسبب بصدمة لدى الجنرال شلومو غازيت الذي كان مسؤولا عن كل النشاطات الحكومية في الاراضي المحتلة، فهدد بالاستقالة من منصبه وقال لا اجد ما اصف به ما فعله شارون سوى انه تطهير عرقي وجريمة حرب . ولكن كانت القيادة الاسرائيلية قد اطلقت العنان لشارون واعطته الاذن باستخدام القوات الخاصة والوحدات السرية لكشف الخلايا السرية للنشطاء الفلسطينيين وقتلهم.

ويضيف برگمن ان داغان ورجاله طوروا تكتيكهم في مطاردة النشطاء الفلسطينيين وقتلهم عبر نصب الكمائن في بساتين الليمون او بين الصيادين على الشاطىء او عبر ارسال متعاونين معهم لبيع عبوات ناسفة وقنابل يدوية بعد العبث بصمام الامان فيها فبدلا من ان تنفجر القنبلة بعد ثلاث ثوان من ازالة مسمار الامان كانت تنفجر بعد نصف ثانية، اي بيد حاملها، وفي احدى المرات، تظاهر داغان نفسه انه جثة يحملها رفاقه وهم من المتعاونين الفلسطينيين وعندما وصلوا الى مخبأ للنشطاء الفلسطينيين، قفز وأطلق النار مع رجاله فقتلوا كل من كان في المخبأ.

في العام 1972 لم يبق على قيد الحياة من لائحة الـ400 مطلوب مع من اضيف إليها لاحقا سوى عشرة اسماء، ولم يقع طوال ذاك العام سوى 37 هجوما على اهداف اسرائيلية واستمر هذا العدد بالهبوط في السنوات الاربع التي تلت، وهذا ما أمّن بناء المستوطنات في المناطق المحتلة، وجعل قادة اليمين يتمسكون بعدم الانسحاب من هذه المستوطنات ومن كل الاراضي المحتلة عام 1967 خاصة وان الضفة الغربية (اسمها التوراتي يهودا والسامرة) وفق المنطق الديني قد تحررت بتدخل الهي من اجل ضمها الى ارض اسرائيل.

الفلسطينية ليلى خالد "أفضل إرهابية جذابة في العالم"

إثر سياسة القبضة الحديدية في قطاع غزة والضفة الغربية المحتلين، غداة حرب الأيام الستة عام 1967، انتقلت منظمة التحرير الفلسطينية إلى اللعب على المسرح الدولي بحسب، رونن برگمن، مستنداً إلى مقابلات أجراها مع مسؤولين في الإستخبارات الإسرائيلية ووثائق استحصل عليها. [7]

يشير برگمن الى ان أبرز اللاعبين الفلسطينيين على المسرح (الفدائي) العالمي، كانوا ثلاثة قادة: وديع حداد وجورج حبش من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وصلاح خلف (أبو إياد) من حركة فتح. وبحسب النصوص التي يستند إليها برگمن، فان ابرز عمليات الجبهة الشعبية كانت تلك التي قامت على خطف طائرات العال الإسرائيلية من دول مختلفة والتفاوض على اطلاق سراح أسرى فلسطينيين مقابل رهائن إسرائيليين، فيما كانت أبرز عمليات أبو إياد هي تلك التي قادها أبو داود وإستهدفت مقر إقامة الوفد الرياضي الإسرائيلي في أولمپياد ميونيخ وأدت إلى مقتل عدد كبير من الرياضيين الإسرائيليين.

يبدأ برگمن روايته من عند عملية اختطاف طائرة العال 426 من مطار ليوناردو دا ڤينشي الإيطالي في روما في 23 يوليو 1968: الهدف هو طائرة من طراز بوينگ 707 كان على متنها 38 راكباً، بينهم طاقمها الإسرائيلي المؤلف من عشرة أشخاص إضافة إلى 12 راكباً إسرائيلياً. هذه الطائرة أقلعت في الساعة 22:30 ليلاً، بتوقيت گرينتش، وكان من المفترض نزولها في مطار تل أبيب عند الساعة 1:18 فجراً، ولكن بعد عشرين دقيقة من اقلاعها اقتحم ثلاثة نشطاء فلسطينيين (يسميهم الكاتب ارهابيين) قمرة القيادة، فظن قائد الطائرة انهم سكارى، وطلب من احدى المضيفات سحبهم، ولكن أحدهم إستل مسدسا ووضعه في وجه القبطان ماووز بورات الذي سارع وضرب يد الفدائي الفلسطيني سعياً إلى اسقاط المسدس منه، ولكنه لم يفلح بل أن حامل المسدس سارع إلى ضرب بورات على رأسه بعقب المسدس، ما إدى إلى اصابته بجروح قبل أن يطلق عياراً نارياً نحوه من دون ان يصيبه، ثم أخرج الخاطف قنبلة يدوية من جيبه ولكن بورات سارع إلى القول له أنه على استعداد لأن يحط بالطائرة حيث يريد.

وعند الساعة 23:07، تسلم برج المراقبة في روما رسالة تقول ان الطائرة على علو 33 ألف قدم (حوالي 3300 متر) عن سطح الأرض وأنها غيرت اتجاهها نحو الجزائر حيث حطت هناك عند الساعة 00:35 بعد منتصف الليل، وذلك بعد حصولها على موافقة السلطات الجزائرية. قبل الوصول إلى الجزائر، وخلال تلك الرحلة، أعلن الخاطفون لكل من يسمع نداءات الطائرة أنه تغير اسم المناداة ليصبح تحرير فلسطين 707. وعند وصولها إلى مطار العاصمة الجزائرية، أطلق الخاطفون كل الركاب غير الإسرائيليين” وكل النساء والأطفال وأبقوا على سبعة من أعضاء طاقم الطائرة وخمسة ركاب كرهائن في أحد الأبنية التابعة للشرطة الجزائرية قرب المطار، وذلك لمدة ثلاثة أسابيع ولم يطلق سراحهم إلا مقابل اطلاق سراح 24 أسيراً فلسطينياً من السجون الإسرائيلية.

Cquote2.png حققت الجبهة الشعبية في هذا الهجوم انتصاراً تكتيكياً آنياً عبر اثبات قدرتها على تنفيذ هجوم على طائرة مدنية إسرائيلية وبالتالي وضع القضية الفلسطينية تحت الضوء في كل أنحاء العالم، كما أنها أجبرت سلطات تل أبيب على التفاوض مع منظمة ترفض الاعتراف بوجودها وأن تفرض عليها التنازل المذل. Cquote1.png

خطف طائرة العال 426، حسب رونن برگمن، "كان هجوماً مفاجئاً نفذته مجموعة فلسطينية جديدة تطلق على نفسها اسم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، التي كانت قد تأسست في دمشق في ديسمبر (قبل ثمانية اشهر من هذه العملية) على يد لاجئين فلسطينيين كلاهما ماركسي ومسيحي أرثوذكسي وطبيب أطفال من خريجي الجامعة الأمريكية في بيروت، أولهما جورج حبش من مدينة اللد وثانيهما وديع حداد من مدينة صفد.

حققت الجبهة الشعبية في هذا الهجوم انتصاراً تكتيكياً آنياً عبر اثبات قدرتها على تنفيذ هجوم على طائرة مدنية اسرائيلية وبالتالي وضع القضية الفلسطينية تحت الضوء في كل أنحاء العالم، كما أنها اجبرت سلطات تل أبيب على التفاوض مع منظمة ترفض الاعتراف بوجودها وان تفرض عليها التنازل المذل، والأسوأ من كل ذلك أن إسرائيل أجبرت بهذه العملية على القبول بعملية تبادل بين الرهائن الإسرائيليين وأسرى فلسطينيين لديها، وهو ما قالت أنه لن يتكرر أبداً، ويضيف برگمن أن خطف هذه الطائرة لم يكن سوى مقدمة لما هو آت، فالجهود التي بذلها الجيش الإسرائيلي وجهاز الشين بيت كانت قد نجحت في خفض العمليات الفدائية في المناطق المحتلة وعلى طول الحدود ولكنها لفتت نظر ياسر عرفات والمنظمات الفلسطينية الأخرى، إلى أن العالم يشكل مسرحا للعمليات أكبر بكثير من قطاع غزة والضفة الغربية. إذ يمكن للعمليات (التي يصفها برگمن بالارهابية) أن تحصل في أي مكان ولم تكن أوروپا الغربية مهيأة لمواجهتها، فالحدود كانت شبه مفتوحة والعوائق في المطارات والمرافىء البحرية كانت سهلة الاختراق وقوات الشرطة كانت متراخية وغير كفوءة، في المقابل، كانت الحركات الطلابية اليسارية (الأوروپية) متعاطفة مع الفلسطينين ذوي الميول اليسارية فيما المنظمات اليسارية الاوروبية المتطرفة مثل بادر ماينهوف الألمانية والألوية الحمراء الإيطالية تقدم للفلسطينيين الدعم اللوجستي والتعاون العملياتي.

بعد أقل من عام على خطف طائرة العال 426، انطلقت طائرة تابعة لشركة طيران تي دبليو إيه الأمريكية في رحلة رقم 840 من مطار لوس أنجلس إلى تل أبيب وعلى متنها 120 راكباً، ستة منهم إسرائيليين فقط، وطاقم مؤلف من سبعة أعضاء. توقفت الرحلة في نيويورك ثم في روما للتزود بالوقود، ولكن بعد نصف ساعة من انطلاقها نحو محطتها الأخيرة وفيما كانت تحلق في أجواء أثينا، كان أربعة فلسطينيين استقلوها في محطة روما قد بدأوا بتنفيذ عمليتهم. شهر أحدهم مسدساً بوجه إحدى المضيفات وطلب منها أن فتح قمرة القيادة، وفوجىء مساعد القبطان هاري أوكلي بإمرأة تقف خلف المسلح، وهي تحمل قنبلة يدوية، وقد وصفت المضيفة مارگريتا جونسون هذه المرأة بالقول إنها كانت ترتدي احدث ثياب موضة تلك الأيام مع قبعة بيضاء اللون.

يقول رونن برگمن إن هذه المرأة الجذابة أمرت قائد الرحلة بتغيير وجهة طائرته لتطير فوق مدينة حيفا، التي قالت أنها ولدت فيها ولن يسمح لها الصهاينة بالعودة إليها، ولم تكن تلك السيدة سوى ليلى خالد المولودة في العام 1944، أي في العام نفسه الذي اجبرت فيه عائلتها على مغادرة هذه المدينة الساحلية بعد قتال شرس وتوجهت إلى لبنان بامل العودة بعد انجلاء دخان الحرب. لكن سلطات الاحتلال منعت عودة اللاجئين فنشأت ليلى خالد في احد مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في مدينة صور الساحلية في جنوب لبنان حيث اكتسبت معارفها السياسية لتتحول وهي في سن الخامسة عشرة الى ناشطة في صفوف الفرع الأردني لحركة القوميين العرب العلمانية الاشتراكية التي كان يرأسها جورج حبش الذي أسس لاحقاً الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.

تحولت ليلى خالد بعد هذه العملية إلى أيقونة ورمز كبير لتلك المرحلة، فهي أفضل إرهابية في العالم وكُتبت عنها مئات المقالات في صحف عالمية ودخل اسمها في الأغاني التي تحيي النضال من أجل الحرية وطبعت لها صور كبيرة بالأسود والأبيض وهي ترتدي الكوفية الفلسطينية وتحمل رشاش الكلاشنكوف.

لم يكن الهجوم على طائرة تي دبليو إيه 840 هو الأول لليلى خالد، حسب برگمن، ففي 18 فبراير 1969 شاركت ليلى خالد في التخطيط لهجوم على طائرة العال من طراز بوينگ 707 قبيل اقلاعها من مطار زيوريخ عندما قام أربعة من عناصر الجبهة الشعبية يحملون رشاشات كلاشنكوف وقنابل يدوية بالهجوم على قمرة قيادة الطائرة بعد أن تسللوا إلى المدرج وأمطروا القمرة بوابل من الطلقات النارية، ما إدى إلى إصابة قاتلة لمساعد القبطان، ويضيف برگمن أن ليلى خالد كانت لها اليد الطولى مباشرة أو بصورة غير مباشرة في عدة هجمات أخرى غير ان خطف الطائرة تي دبليو إيه 840 كان الهجوم الذي أعطاها شهرة واسعة.

يواصل برگمن رواية خطف الطائرة الأمريكية قائلاً أنه بعد أن قامت الطائرة بناء على طلب ليلى خالد بجولة فوق مدينة حيفا بمرافقة الطائرات الحربية الإسرائيلية التي لم يكن باستطاعتها فعل أي شيء خوفاً من التسبب بقتل الركاب، تمكنت الطائرة من الهبوط بسلام في مطار دمشق حيث جرى إطلاق سراح كل أفراد الطاقم والركاب باستثناء إسرائيليين استبقيا كرهائن لمدة ثلاثة أشهر، حيث أطلق سراحهما مقابل الإفراج عن جنود سوريين أسرى لدى إسرائيل.

يضيف برگمن أن ليلى خالد تحولت بعد هذه العملية الى ايقونة ورمز كبير لتلك المرحلة، فهي افضل إرهابية في العالم وكُتبت عنها مئات المقالات في صحف عالمية ودخل اسمها في الأغاني التي تحيي النضال من أجل الحرية وطبعت لها صور كبيرة بالأسود والأبيض وهي ترتدي الكوفية الفلسطينية وتحمل رشاش الكلاشنكوف وتضع خاتماً مخيفاً في اصبعها قالت أنها صنعته بنفسها من صمام أمان لقنبلة يدوية.

وفي السادس من سبتمبر عام 1970، حاولت ليلى خالد وأحد رفاقها خطف طائرة العال من أوروپا ولكن القبطان يوري بارليڤ الذي كان ضابطاً سابقاً في سلاح الجو، قاد الطائرة بوضعية الغطس السريع والمفاجىء الأمر الذي جعل الخاطفين يفقدان توازنهما ويقعان أرضاً فيما قام أحد عناصر الشين بيت السريين على متن الطائرة باطلاق النار على أحدهم وقتله وخرج عنصر أمن سري آخر من قمرة القيادة وسيطر على ليلى خالد، وتم تسليمها للسلطات البريطانية في لندن حيث حطت الطائرة هناك. وفيما لم تنجح خالد في هذه العملية، تمكنت أربع مجموعات للجبهة الشعبية من النجاح في تنفيذ أربع عمليات خطف لطائرات تابعة لأربع شركات طيران هي بان أمريكا وسويس إيرلاينز وتي دبليو إيه وبواك في آن معاً، وتمكنوا من اقتياد الطائرات المخطوفة إلى الأردن وطالبوا باطلاق سراح ليلى خالد والعديد من رفاقها. أطلق الخاطفون سراح كل ركاب الطائرات الأربع باستثناء 55 يهودياً وأفراد الطواقم الذين اقتيدوا إلى أحد الأحياء الفلسطينية في العاصمة الأردنية عمان بعد أن قام الخاطفون بتفجير الطائرات على أرض المطار على مرأى من عدسات التصوير العالمية.

ذلك اليوم لم يكن اليوم الأكثر سوادا في تاريخ الملاحة الجوية، حسب رونن برگمن، بل كان أيضاً يوماً أسوداً للملك الأردني حسين الذي وصفته الصحافة العالمية بالأحمق وغير الكفوء والفاقد للسيطرة على مملكته. كان الفلسطينيون حينها يشكلون غالبية سكان الأردن وكان الملك حسين يخشى، وهو محق، بان يفتح هذا الأمر شهية ياسر عرفات والمنظمات الفلسطينية على سلبه مملكته بعد أن أصبحوا يتصرفون فيها وكأنها بلادهم. وجاءت عملية الطائرات المخطوفة لتشكل احراجاً عالمياً كبيراً للملك حسين تبعتها محاولة لاغتياله على يد مجموعة فلسطينية. كل ذلك أدى إلى أن يرد الملك حسين بقوة وشراسة على الفلسطينيين، فأمر الجيش الأردني والشرطة وأجهزة استخباراته بشن هجوم دموي على الجماعات الفلسطينية دام لمدة شهر كامل، ما ادى الى ارتكاب مجزرة أيلول الأسود التي راح ضحيتها آلاف الفلسطينيين وأجبرت فيها منظمة التحرير على مغادرة الأردن وإعادة التموضع في لبنان (العرقوب) حيث بدأ كوادرها عملية اعادة بناء القدرات من جديد.

يقول رونن برگمن إن حركة فتح كانت الأسرع في إعادة لملمة أوضاعها التنظيمية واطلاق موجة ارهاب عالمي جديدة، الأمر الذي برّره القيادي في الجبهة الشعبية بسام أبو شريف بالقول أن الهدف كان أن نظهر للعالم أن إبعادنا من الأردن لم يضعفنا على الإطلاق.

الأكيد أن تلك العمليات أربكت القيادة السياسية الإسرائيلية وأبرزت عجز أجهزة استخباراتها أمام دقة التخطيط والتنفيذ ووضعت، في الوقت نفسه، القضية الفلسطينية على أجندة العالم.


أيلول الأسود يرتد في اللد.. تل أبيب تدمّر مطار بيروت

في كتابه، يتحدث رونن برگمن عن ظهور منظمة فلسطينية جديدة هي منظمة أيلول الأسود. من خلال اسمها، تبدو واضحة مهمتها: الانتقام للمجازر التي ارتكبها الجيش الأردني بحق الفلسطينيين في عمان خلال سبتمبر 1970. اولى عمليات هذه المنظمة في 28 نوفمبر عام 1971 تمثلت بقتل وصفي التل، رئيس الوزراء الأردني في القاهرة وهو الذي أعطى الأمر بعمليات التصفية الدموية لمنظمة التحرير في عمان قبل عام. بعد هذا الهجوم بأسبوعين، حاولت المنظمة اغتيال السفير الأردني في لندن زيد الرفاعي، وبعد شهرين، قتل مسلحون فلسطينيون خمسة أردنيين في ألمانيا بعد اتهامهم بالتعامل مع إسرائيل وفجروا شركة غاز وألكترونيات ألمانية بعد اتهامها بالتعامل التجاري مع إسرائيل أيضاً.[8]


إن اسم [[منظمة أيلول الأسود كان اسماً حديثاً بين المنظمات الفلسطينية، ولكن تبين أن المنظمة نفسها لم تكن جديدة، بحسب ما يقول رونن برگمن. سرعان ما اكتشف جهاز الموساد الإسرائيلي أن هذه المنظمة لم تكن سوى أحد أذرع حركة فتح بقيادة صلاح خلف (أبو إياد) آمر جهاز الرصد الاستخباري في منظمة التحرير الفلسطينية. وبصفته هذه، أعاد أبو إياد ترتيب لائحة أعداء القضية الفلسطينية بدءاً بالامبريالية الأمريكية، مروراً بالأنظمة العربية المرتبطة بها إنتهاءً بإسرائيل.

وينتقل برگمن إلى الحديث عن أول عملية نفذتها منظمة أيلول الأسود ضد هدف إسرائيلي قائلاً: في 8 مايو عام 1972، قام ثلاثة عناصر من المنظمة وعنصر من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بخطف طائرة سابينا تحمل 94 راكباً وطاقماً مؤلفاً من سبعة أفراد خلال رحلة لها من بروكسل إلى تل أبيب. وكان أكثر من نصف الركاب من الإسرائيليين أو اليهود، وعندما حطت الطائرة في مطار اللد (اسمه اليوم مطار بن گوريون)، طالب الخاطفون باطلاق سراح 315 أسيراً فلسطينياً في السجون الإسرائيلية مقابل اطلاق الرهائن لديهم.

تقدم وزير الدفاع حينها موشيه دايان بخطتين لإحباط العملية، الأولى المرفوضة قدمها مائير داگان وقضت بان يَحلُق داغان ومجموعته من وحدة كاميليون رؤوسهم وينخرطوا مع فلسطينيين مطلق سراحهم إاى أن يصلوا إلى قلب الطائرة المخطوفة حيث يخرجون أسلحتهم ويقضون على الخاطفين وعلى الأسرى الفلسطينيين المفرج عنهم، إذا اقتضت الضرورة، بحسب اقتراح داگان. أما الخطة الثانية التي اعتمدت، فكانت خطة إيهود باراك قائد وحدة سيريات ميتكال، فقد اقترب باراك ووحدته من الطائرة متنكرين بزي طاقم فني في المطار وعندما أصبحوا على مقربة من الطائرة قاموا بمهاجمتها وقتلوا الخاطفين جميعاً إضافة إلى راكبة فيما جرح راكبان، وجرح أيضاً جندي شاب من الوحدة المهاجمة برصاص أحد رفاقه وكان اسمه بنيامين نتنياهو (رئيس الوزراء الحالي).

Cquote2.png كل اهتمام عملاء الشين بيت كان منصباً على شبان يحملون ملامح شرق أوسطية ويتصرفون بعصبية وبالتالي لم يكن لديهم اهتمام بالتمعن في سلوك سياح آسيويين. فجأة استل اليابانيون الثلاثة رشاشات كلاشنكوف ورمانات يدوية من حقائبهم وبدأوا باطلاق النار عشوائياً على كل المتواجدين حولهم في مطار اللد. Cquote1.png

وعلى الرغم من نجاح إسرائيل في إحباط عملية خطف الطائرة، فإن الهدف الاستراتيجي للفلسطينيين من العملية قد تحقق بحسب ما يقول أحد قادة منظمة أيلول الأسود كانت قضية فلسطين على مدى يوم كامل محط أنظار العالم وكان ثوريو العالم كلهم يحبسون أنفاسهم بانتظار ما ستسفر عنه هذه العملية، وينقل رونن برگمن عن هذا القائد الذي لم يهمه أن الكثير من الحركات الثورية في العالم أقامت مهرجانات تضامن مع القضية الفلسطينية. وبدأت ترد إلى المنظمات الفلسطينية طلبات انتساب من أنحاء المعمورة وكانت جملة واحدة تتردد في معظم هذه الطلبات، بحسب ما يقول القائد الفلسطيني نفسه "وأخيراً وجدتم طريقة تجعل صوتنا مسموعاً في العالم، والكلام ينقله برگمن عنه.

ويضيف برگمن، من بين المتطوعين الجدد كان هناك ثلاثة عناصر من منظمة الجيش الأحمر الياباني اليسارية السرية تدربوا على أيدي مسؤولين في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في كوريا الشمالية ولبنان. استقل هؤلاء طائرة إيرفرانس من مطار روما إلى مطار اللد، وكانت هناك شكوك لدى بعض مدربيهم بمدى التزامهم بالقضية وهم من أصحاب الأفكار الماوية المتعارضة مع الأفكار الماركسية للجبهة الشعبية، ولكن هؤلاء سرعان ما اعجبوا بمدى التزام اليابانيين بالقضية الفلسطينية ورغبتهم الجامحة للموت في سبيلها.

عندما وصل أعضاء الجيش الأحمر الياباني الثلاثة إلى مطار اللد، لم يلفتوا الأنظار، فكل اهتمام عملاء الشين بيت كان منصباً على شبان يحملون ملامح شرق أوسطية ويتصرفون بعصبية وبالتالي لم يكن لديهم اهتمام بالتمعن في سلوك سياح آسيويين. فجأة استل اليابانيون الثلاثة رشاشات كلاشنكوف ورمانات يدوية من حقائبهم وبدأوا باطلاق النار عشوائيا على كل المتواجدين حولهم في المطار.

أدت عملية مطار اللد إلى مقتل 26 شخصاً، بينهم 17 من المسيحيين البورتوروكيين الذين كانوا في رحلة حج إلى القدس، وجرح 78 اخرين. امتلأت شوارع تل أبيب بسيارات الإسعاف التي صمت أصوات زماميرها الآذان. وأعلن القيادي في الجبهة الشعبية بسام زايد (زوج الفدائية ليلى خالد) في بيان له من بيروت أنه لم يكن في نية الجبهة قتل أبرياء ولكن كل من لا يرفع يده تأييداً للقضية الفلسطينية هو مذنب. أما في إسرائيل فقد كانت المرارة تعم القيادات العسكرية في وزارة الدفاع لفشلها في منع حصول المجزرة، على حد تعبير برگمن.

أمام هذه الموجة العارمة من الهجمات على الملاحة الجوية الإسرائيلية، أمر رئيس الوزراء الإسرائيلي ليڤي أشكول برد عقابي ضد أهداف سهلة نسبياً، يقول برگمن، وهي الملاحة الجوية العربية. كان ذلك مبنياً على فكرة أن الأنظمة العربية هي التي تمتلك شركات الطيران العربية وهي المسؤولة عن الهجمات بسبب دعمها لمنظمة التحرير الفلسطينية. وهكذا في ديسمبر عام 1968، قامت مجموعة من الوحدات الخاصة الإسرائيلية بمهاجمة مطار بيروت الدولي، وفجرت على مدرجاته 14 طائرة مدنية تابعة لشركة طيران الميدل إيست، شركة الخطوط الجوية اللبنانية الدولية وشركة طيران عبر المتوسط وكلها لبنانية.

يضيف برگمن لقد نجحت العملية في تدمير هذه الطائرات من دون أن تتسبب بآية اصابات في صفوف الإسرائيليين ولكن لم يكن لها أي تأثير في ردع اية هجمات مستقبلية على الملاحة الجوية الإسرائيلية وكان الرد العالمي غضبا عارما على الغارة الإسرائيلية” ضد أهداف مدنية في لبنان.

وبالاضافة إلى إدانة واضحة من مجلس الأمن الدولي، أعلن الرئيس الفرنسي شارل ديگول تضييق التعامل التسليحي مع إسرائيل وألغى صفقة لبيع تل أبيب خمسين مقاتلة حربية فرنسية. وبهذا المقياس، تعتبر العملية الإسرائيلية في مطار بيروت فاشلة، وقد تبعتها عمليات فاشلة أخرى شكلت بداية حملة إسرائيلية لمواجهة الإرهاب تولتها رئيسة الوزراء الإسرائيلية الجديدة گولدا مائير التي تولت منصبها بعد وفاة ليڤي أشكول في فبراير عام 1969. ومن هذه العمليات كانت محاولة قتل القيادي في الجبهة الشعبية وديع حداد في بيروت.

ينقل برگمن عن رئيس وحدة قيصرية تسڤي أهاروني قوله: "لم يكن من الصعب معرفة مكان منزل ومكتب وديع حداد (شارع محي الدين في العاصمة اللبنانية)، إذ أنه لم يكن يتخذ أية احتياطات. وهكذا في العاشر من يوليو عام 1969، جرى انزال مجموعة كوماندوس من الوحدة 707 (في قيصرية) على الشاطىء قرب كازينو لبنان في منطقة كسروان، وقامت هذه المجموعة بتسليم قاذفتي قنابل إلى المجموعة المكلفة بالاغتيال والتي كانت قد استأجرت شقة مقابلة لشقة وديع حداد، وفي التاسعة صباحاً وجهت القاذفات نحو الغرفة التي كان يجلس فيها حداد وتم توقيت اطلاقها بعد ثلاثين ثانية، وهي مدة قام خلالها حداد بمغادرة الغرفة إلى غرفة أخرى كانت تجلس فيها زوجته وأولاده فانتهت العملية إلى الفشل.

في غضون ذلك، استطاع عميل إسرائيلي تحديد مقر إقامة قائد الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين جورج حبش في بلدة بسابا الشوفية في منطقة جبلية جنوب شرق بيروت وتمكن هذا العميل من تصوير حبش مع بعض رجاله جالسين على مصطبة امام المنزل، فأُرسلت في 15 مايو 1969 مقاتلات حربية إسرائيلية لشن غارة على المنزل وتدميره على رأس حبش غير أن الطائرات أخطأت الهدف وأصابت منزلاً مجاوراً وتمكن حبش من الفرار سالماً.

بعد سلسلة العمليات الفاشلة التي اعتبر فيها تسڤي أهاروني مسؤولاً عن عدم القدرة على تصفية زعماء الإرهاب، استقال من مسؤوليته على رأس وحدة قيصرية ليخلفه مايك هراري.

عملية أيلول الأسود في ميونخ.. فشل إسرائيلي ذريع

گولدا مائير تأمر بتصفية منفذي عملية ميونخ .. في أي مكان

إستغلت إسرائيل عملية قتل الرياضيين الإسرائيليين في مدينة ميونخ الألمانية، خلال الألعاب الاولمپية في سبتمب 1972، فأطلقت العنان لأكبر حملة إغتيالات ضد الفلسطينيين في أوروپا، وذلك بعد حصول رئيسة الوزراء حينها گولدا مائير على موافقة الكنيست الإسرائيلي. يشرح برگمان أسباب تراجع گولدا مائير عن قرارها السابق بعدم تغطية الإغتيالات التي تستهدف فلسطينيين في القارة الأوروبية، ثم كيف أعطت الأوامر بالقتل والإغتيال في دول أوروپية، قائلاً إن مائير ولدت في مدينة كييڤ الأوكرانية ونمت وترعرعت في ولاية ميولووكي الأمريكية وكانت الأمور بالنسبة لها إما أسود أو أبيض وإما سيئة أو جيدة. كانت گولدا مائير تقول إنه لا علم لها بالأمور العسكرية والإستخبارية وأنها تعتمد في هذه الأمور على وزير دفاعها موشيه دايان والوزير في الحكومة المصغرة يزرائيل جاليلي ورئيس الموساد زڤي زامير، ولكن بعد عملية ميونيخ، فهمت مائير بشكل واضح أنها لا تستطيع أن تعتمد على الدول الأخرى في حماية مواطنيها، وبالتالي على إسرائيل أن تقتل أياً كان في أي مكان، متجاوزة مبدأ إحترام سيادة الدول الأوروبية على أراضيها. [9]

هذا التغيير في موقف مائير كان له أثره الكبير على عمليات وحدة قيصرية. قبل عملية ميونيخ، كانت الأهداف الأمنية الفلسطينية محصورة في دول معادية مثل سوريا ولبنان ومصر، لكن كان من الصعب على عناصر وحدة قيصرية تنفيذ إغتيالات في تلك الدول نظرا للبيئة المعادية لإسرائيل، فإستخدام قناص مع بندقية لتنفيذ العملية يمكن أن يجذب إنتباه السلطات المحلية، وحتى لو إستطاع المنفذ مغادرة مسرح العملية، فقد كانت هناك مخاطر بأن يُلقى القبض عليه أثناء مغادرته حدود تلك الدول، وهذا يعرضه للتعذيب الوحشي قبل قتله. أما القتل عن بعد، وتحديداً بالعبوات الناسفة، في تلك الدول، فقد كان من شأنه أن يكون أقل فعالية مع مخاطر قتل الكثير من الأبرياء. لذلك، يقول بيرغمان، كانت عمليات القتل في دول صديقة لإسرائيل أكثر ملاءمة، ففي حال القبض على القاتل، يمكن أن ينال في أسوأ الأحوال حكماً قضائياً بالسجن، وكان هناك قسم إسمه الموساد العالمي الذي أصطلح على تسميته بالأريكة الناعمة في جهاز الموساد ومهمته التواصل مع أجهزة الإستخبارات الأجنبية وتبادل الخدمات معها.. ومن شأن ذلك أن يسهل حياة السجين أو أن يؤدي إلى إطلاق سراحه.

يقول الكاتب رونين برگمان إن تنفيذ العمليات التي نالت الضوء الأخضر من گولدا مائير، بدأ في العاصمة الإيطالية روما في شهر اكتوبر 1972، عندما قامت وحدة الحربة التابعة لقوات قيصرية الإستخبارية بقتل المترجم في السفارة الليبية في إيطاليا الفلسطيني وائل زويطر الذي كانت تعتبره أجهزة الإستخبارات الإسرائيلية قائد مجموعات منظمة أيلول الأسود في إيطاليا، وتعتقد أن عمله كمترجم في السفارة ما هو إلا غطاء لمهمته الأساسية، كما تعتبر أن أجهزة الإستخبارات الإيطالية كانت ضعيفة في مواجهة الإرهاب على أراضيها، وأن أوروبا باتت مركزاً للإرهاب الفلسطيني في ذلك الوقت. وكان الموساد يعتقد أن زويطر كان مسؤولاً عن تهريب النشطاء الفلسطينيين والأسلحة وتحديد الأهداف التي يجب ضربها. كما كان يعتقد أن زويطر كان مسؤولاً في سبتمبر من ذلك العام عن محاولة زرع عبوة ناسفة في إحدى طائرات شركة العال الإسرائيلية المتجهة من روما إلى تل أبيب، ويضيف برگمان أن السلطات الإيطالية كانت تشتبه بعلاقة ما لزويطر بمنظمة أيلول الأسود لذلك أوقفته في أغسطس من ذلك العام وحقّقت معه في هجمات نفذتها المنظمة ضد شركات نفط إيطالية تتاجر مع إسرائيل لكنها أطلقت سراحه لعدم وجود أدلة ضده.

في إحدى ليالي أكتوبر، أعطى قائد قيصرية مايك هراري أمره من موقع قيادته للعملية في روما إلى المنفذين بالقول "اوكي، تحركوا وكونوا جاهزين للاشتباك، لقد غادرت الجميلة سارة المبنى وهي في طريقها إلى منزلها". لم تكن الجميلة سارة ـ حسب رونين برگمان ـ سوى الإسم الوهمي الذي أعطاه الجهاز الإستخباري الإسرائيلي لرجل طويل القامة نحيف البنية مع نظارة طبية وشعر أسود فاحم ووجه معبر كثيراً، وكان إسمه الحقيقي وائل زويطر. كان الأخير تقريباً قد أنهى للتو ترجمة كتاب ألف ليلة وليلة من العربية إلى الإيطالية، وأمضى تلك الأمسية مع صديقته الفنانة الأسترالية جانيت فين براون مناقشاً معها تفاصيل الرسوم التي ستتضمنها الترجمة الإيطالية لكتابه. قبل مغادرته منزلها، قدّمت فين براون إلى زويطر رغيفاً من الخبز (باگيت) كانت قد خبزته خصيصاً له فوضعه في المغلف نفسه الذي كان يضع فيه أوراق كتابه المترجم.

غادر زويطر منزل مضيفته متجهاً إلى منزله في شارع 4 بلازا أنيبليانو مستخدماً حافلتين، وعندما نزل من الحافلة الثانية، إتجه إلى مقهى قريب وهو لا يزال يحمل مغلف الخبز في يده، بينما كان فريق المراقبة التابع لوحدة "الحربة" يلاحقه. بعد برهة من الوقت، غادر زويطر المقهى متوجهاً إلى منزله، فأبلغ فريق المراقبة إثنين من المجموعة، عبر جهاز الإرسال، بإقتراب زويطر منهما، فما أن دخل زويطر في الممر الخفيف الإضاءة داخل البناية وضغط زر المصعد، حتى خرج الرجلان المكلفان قتله من الزاوية المظلمة قرب منور البناية وأمطراه بـ 11 طلقة من مسدسي باريتا مزودين بكاتمين للصوت، فوقع زويطر أرضاً وتناثرت صفحات كتابه ألف ليلة وليلة حول جثته. وخلال ساعات قليلة تمكن الفريق المنفذ للعملية المؤلف من 17 عنصراً من مغادرة إيطاليا عائداً إلى إسرائيل.

أول لائحة إغتيال أعدتها قيصرية، كانت تضم أحد عشر إرهابياً كانوا على صلة بمجزرة الألعاب الأولمپية في ميونيخ، حيث تبين أن كل هؤلاء يعيشون إما في دول عربية أو في دول أوروپا الشرقية (كانت دول أوروپا الشرقية والاتحاد السوڤيتي مناصرة قوية للقضية الفلسطينية وتقدم الدعم لمنظمة التحرير)، وذلك ما كان يصعّب الوصول إليهم. ومع ذلك، بدأت المعلومات تتراكم أكثر فأكثر عن أهداف أخرى أقل أهمية تعيش في أوروپا، فبعد عملية ميونيخ بات الموساد يعتبر أن أي شخص له علاقة بمنظمة أيلول الأسود (يستطرد الكاتب هنا بالقول وبالحري اي شخص ينتمي إلى منظمة التحرير الفلسطينية بصورة عامة) يُعتبر هدفاً مشروعاً للإغتيال.

وقبل أن ينتقل رونين برگمان لرواية عملية إغتيال نفذها عملاء وحدة الحربة التابعة لقيصرية ضد ناشط فلسطيني في أوروپا، يروي قصة حياة أحد منفذي عملية الإغتيال. إنه ناميا مائيري الذي يقول عنه بيرگمان إنه كان قائداً لإحدى فرق الإغتيال والقتل المتعمد. هو واحد من الناجين من الهولوكوست في الحرب العالمية الثانية وإبن عائلة يهودية من قرية دمبلين جنوب پولندا.

يقول الكاتب إن مائيري كان في الثانية عشرة من عمره عندما جمع جهاز الإستخبارات الألماني ("الگستاپو") اليهود في القرية وأجبرهم على السير إلى غابة مجاورة لبلدتهم حيث أمرهم بأن يحفروا خندقاً وأن يصطفوا على حافته قبل أن يتم رشهم بوابل من الرصاص. كان الطفل ("مائيري") ولداً واسع الحيلة وقوي البنية في ذلك الحين، فتمكن من التسلل بين المصطفين والقفز إلى الخندق قبل ثوانٍ من بدء إطلاق النار عليهم، ولم يلاحظه الجنود الألمان عندما فعل ذلك، وبعدها بقي مستلقياً بين جثث أفراد عائلته وأقاربه إلى حين إنتهاء عملية القتل. عندما رحل الجنود الألمان، زحف من القبر الجماعي الغارق بالدماء وغادره. في وقت لاحق من الحرب العالمية الثانية، ألقي القبض على مائيري وأجبر على الأشغال الشاقة في أحد المطارات العسكرية الألمانية حيث أنقذ حياة طيار برتبة رفيعة عندما أسقطت طائرته الحربية على المدرج فتسلقها مائيري وهي مشتعلة وأنقذ حياة الطيار الغائب عن الوعي، ما جعله يحصل على حماية لسنوات طويلة.

ويضيف بيرگمان أنه مع إنتهاء الحرب العالمية، هاجر مائيري إلى فلسطين وشارك في حرب 1948 حيث وقع في الأسر، ومرة أخرى.. نجا بأعجوبة خلال تصفية أحد الجنود الأردنيين لأسرى حرب إسرائيليين (لا يشرح الكاتب كيف نجا هذه المرة). في ما بعد إنضم "مائيري" إلى جهاز "الشين بيت" وخدم ضمن فريق المرافقة الأمنية لرئيس الوزراء ديڤيد بن گوريون، من منطلق أنه "صاحب دم بارد وليست لديه أية روادع أخلاقية لقتل أي شخص يعتبره مؤذياً لليهود". وينقل الكاتب عن أحد أعضاء فريقه قوله إن مائيري كان يستيقظ صباحاً وهو يضع سكيناً بين أسنانه!

مائيري كان منضوياً في وحدة الطيور، وهي تضم فريقاً من القتلة من عملاء جهازي الموساد والشين بيت، وقد شارك مائيري في خطف الضابط البحري الإسرائيلي ألكسندر يزرائيلي الذي حاول بيع أسرار عسكرية للسفارة المصرية في روما، كما شارك في حملة إغتيالات العلماء الألمان الذين كانوا يتولون البرنامج الصاروخي للرئيس المصري جمال عبد الناصر . إنضم مائيري إلى وحدة الحربة المخصصة لعمليات الإغتيال. وينقل بيرگمان عن أحد أشهر الصحافيين الإسرائيليين إيتان هابر الذي خدم مديراً لمكتب إسحاق رابين قوله إنه وبّخ رئيس الموساد زامير لتعيينه اللأخلاقي لمائيري في وحدة الحربة، وقال هابر عن هذا التعيين إنه "إستغلال لرعب الهولوكوست من أجل خلق آلة للقتل".

يقول برگمان إنه بعد سنوات من خدمة مائيري في وحدة الحربة، كان يتساءل الناس القريبون منه عما إذا كان مهجوساً بصور الناس الذين قتلهم في حياته أو عما إذا كانت تراوده الكوابيس بشأنهم، فكان يجيبهم "أنا أحلم فقط بعائلتي وأحلم بوادي الموت قرب قرية دمبلن البولندية. أحلم بأقربائي الجوعى والمرضى في مخيمات التعذيب الألمانية. هذه هي الأحلام التي تزعجني وليس لدي أي مشكلة مع أي شخص قتلته. كل من قتلتهم كانوا يستحقون رصاصة في الصدر ورصاصتين في الرأس لكل واحد منهم".

يضيف برگمان أن مائيري كان أحد العنصرين الإستخباريين اللذين أطلقا النار على زويطر في روما، وبعد هذه العملية بأسبوعين تحدد الهدف الثاني وهو محمد الهمشري الذي كان يصنفه جهاز الموساد الرجل رقم اثنين في منظمة أيلول الأسود، وحمّل جهاز الموساد الهمشري مسؤولية استخدام البريد الجوي لزرع قنابل على متن الطائرات المنطلقة من أوروپا إلى إسرائيل، وقد إنفجرت واحدة من تلك القنابل في فبراير عام 1970 وذلك بعد وقت قصير من اقلاع طائرة من مطار فرانكفورت في رحلة إلى ڤيينا ولكن الطيار تمكن من تنفيذ هبوط اضطراري، وزرعت قنبلة ثانية في طيارة تابعة لشركة طيران سويس إير كانت في رحلة من زيوريخ إلى هونگ كونگ يتخللها توقف في تل أبيب، لكن الطيار فشل في تنفيذ هبوط اضطراري عندما إنفجرت القنبلة في قسم الشحن في الطائرة فتحطمت الطائرة في إحدى الغابات وقتل الركاب الـ 47 الذين كانوا على متنها. كما كان الموساد يعتقد أن منزل الهمشري في باريس عبارة عن ترسانة سلاح لمنظمة أيلول الأسود وأنه كان مسؤولاً عن محاولة الإغتيال الفاشلة لبن گوريون خلال زيارة له إلى الدانمارك في مايو 1969.

وفي سرده لعملية قتل الهمشري، يقول بيرغمان إن عملاء الحربة الذين كانوا يراقبون الهمشري في باريس تبين لهم أنه كان يمضي معظم أوقاته مع زوجته وطفلته في المنزل، أما باقي الوقت فكان يمضيه بلقاءات مع أناس في أماكن عامة مكتظة بالناس. وكونه معظم الوقت محاطا بأناس أبرياء شكّل معضلة لعملاء الموساد كون رئيسة الوزراء گولدا مائير كانت شديدة الحساسية حيال الأعمال الأمنية وبالأخص في فرنسا إلى درجة أنها استدعت قائد وحدة قيصرية إلى منزلها وقدمت له كوباً من الشاي وقالت له: "مايك، عليك أن تكون متأكداً جداً أن شعرة واحدة من رأس مواطن فرنسي يجب أن لا تسقط، شعرة واحدة، هل تفهم ما أقول؟"

ويضيف الكاتب أنه على الرغم من الرغبة المستجدة لمائير في تنفيذ عمليات القتل في أوروپا، فقد كانت تعتبر أن هناك بروتوكولاً لا بد أن يتبع، وكانت لا تزال تعتبر أن اتخاذ قرار بقتل إنسان مسؤولية كبيرة ملقاة على عاتقها لذلك كلما حمل اليها مدير الموساد زڤي زامير "الورقة الحمراء" لتوقيعها (يوضح الكاتب هنا أن الورقة الحمراء هي أمر بالقتل يطبع على ورقة لونها احمر) كانت تطلب الإجتماع بمجموعة من وزراء الحكومة المصغرة وبينهم وزير الشؤون الدينية زيراك وارهافتيج لوضع الختم الديني على الموافقة على القتل.

وهكذا بات واضحاً أن قتل الهمشري يجب أن يتم عندما يكون وحيداً في منزله، يقول الكاتب رونين برگمان، وفي الثالث من ديسمبر، قام فريق من وحدة قوس قزح (الاسم الجديد لوحدة كولوسيوس وهو بالعبري كيشيت) بالتسلل إلى شقة الهمشري، وقام بتصوير كل محتوياتها مع التركيز على الاماكن التي كان يعمل الهمشري فيها، وتم ارسال الصور إلى إسرائيل لدراستها في القسم التقني التابع للموساد. هناك لوحظ وجود هاتف على قاعدة رخامية، فقام القسم بتصنيع نسخة مطابقة لهذه القاعدة ولكنها محشوة بالمتفجرات، وفي السابع من ديسمبر اتصل رجل بالهمشري مقدماً نفسه كصحفي إيطالي إسمه كارل، وهذا الرجل لم يكن سوى ناميا مائيري نفسه واتفق معه على اجراء مقابلة صحفية في مقهى قريب من منزله في اليوم التالي، وفيما كان الهمشري يجري المقابلة، كان فريق قوس قزح يتسلل مجدداً إلى منزله ويستبدل قاعدة الهاتف بالقاعدة المفخخة التي جُهِزَت في تل أبيب.

بعد وقت قصير من عودة الهمشري إلى منزله رن هاتفه: "هل المتحدث هو السيد الدكتور همشري"؟ جاء الصوت عبر سماعة الهاتف وما أن أعطى المجيب الرد بالايجاب حتى جرى تفجير عبوة القاعدة عبر مفجر عن بعد ما أدى إلى إنقطاع جسد الهمشري تقريباً إلى نصفين بسبب شظايا الرخام وقد توفي بعد بضعة أسابيع في إحدى مستشفيات باريس.


عملية فردان: الجاسوسة يائيل ترصد أنفاس القادة الفلسطينيين الثلاثة

يقول الكاتب رونن برگمن إن إطلاق أوسع حملة إغتيالات لمسؤولين فلسطينيين في العالم لم يُثر نقاشا أخلاقياً داخل أروقة مؤسسات القرار الإسرائيلي، خاصة بعد أن نالت الضوء الأخضر من السلطتين التشريعية (الكنيست) والتنفيذية (رئيسة الوزراء گولدا مائير)، بل أكثر من ذلك، فقد كانت مائير تستقبل بعض منفذي تلك العمليات قبل أو بعد تنفيذ عملياتهم، وينقل برگمن عن مائير قولها عن هؤلاء القتلة "كنت أجلس أمامهم وأنا ممتلئة إعجاباً بشجاعتهم وهدوئهم وعمق معرفتهم وقدرتهم الدقيقة على التنفيذ. لقد كانوا يعيشون بين فكي العدو.. لم أستطع أن أشرح لنفسي كم كنا مباركين بإمتلاك هذه المجموعة من الأشخاص". وينقل برگمن عن أحد ضباط وحدة “قيصرية” التي كانت مكلفة بعمليات القتل قوله "بعض العرب الذين قتلناهم في تلك المرحلة، لم نعرف لماذا قتلناهم، وبطبيعة الحال هم لم يعرفوا لماذا قتلوا، وائل زويطر (المترجم الفلسطيني في السفارة الليبية) مثلاً لم تكن له أية علاقة بعملية قتل الرياضيين الاسرائيليين في ميونيخ. ربما العلاقة الوحيدة هي أن الطائرة التي أقلت القتلة (عناصر منظمة أيلول الأسود) مرّت في أجواء روما، وهي في طريقها إلى مطار ميونيخ". وينقل برگمن أيضاً عن أحد كبار المسؤولين في الموساد بعد إطلاعه على ملف زويطر بعد سنوات من قتله قوله "كان قتله خطأً رهيباً"، فهو كما ذكر الفلسطينيون، مجرد مثقف مسالم مناهض للعنف، ولكن بالنسبة لقادة آخرين في الموساد، ذلك ليس مهماً (أي سلميته). [10]

ويضيف نقلاً عن أحد كبار قادة جهاز أمان (الإستخبارات العسكرية) الذي كانت مهمته التحقق من الأهداف المعدة للقتل "فلنفترض أن زويطر كان فقط ممثلاً لمنظمة التحرير في روما، وهذا الأمر لم يكن هناك توافق عليه في الجهاز، فقد كنا ننظر إلى المنظمة كهيئة معنوية واحدة، ولم نكن لنوافق على التمييز بين أولئك العاملين في الشأن السياسي وزملائهم العاملين في شؤون الارهاب. بالنسبة إلينا كانت فتح منظمة إرهابية تقتل اليهود وعلى كل عضو في هذه المنظمة أن يعلم أنه هدف مشروع للقتل". بعد كل هذه السنوات، يصعب التأكد ما إذا كان قتل وائل زويطر خطأ أم تنفيذاً لمقاربة حكمت العقل الإسرائيلي المدبر لعمليات قتل الفلسطينيين والقائمة على فكرة أن أي عضو في منظمة إرهابية، حتى ولو لم يكن نشاطه يرتبط بصورة مباشرة بأعمال الإرهاب، هو هدف مشروع للقتل، يقول رونن برگمن. وفقاً لهذه المقاربة، يضيف الكاتب نفسه، سُمِح للموساد بقتل من يستطيع قتله وليس بالضرورة من كان الجهاز يعتقد أنه يستحق القتل. وهكذا فقد إعتبر الجهاز أن حملة الإغتيالات تلك كانت حملة ناجحة، ولكن مع حلول عام 1973 كانت هذه الحملة قد فشلت في التسبب بأية أضرار على مستوى القيادة الفلسطينية، فهذه الأهداف كانت تتخذ من بيروت مقراً لها وهناك كان على إسرائيل أن تضرب وهذا الأمر كان صعباً للغاية. الموديل، حسب رونن برگمن، هو الإسم السري لكلوفيس فرنسيس أحد أهم عملاء أمان والموساد في تاريخ عمل الجهازين في لبنان. فقد كان فرنسيس إبن عائلة مسيحية لبنانية غنية ولها علاقات واسعة مع علية القوم في لبنان، وخدم دولة إسرائيل بإخلاص على مدى عقود بهذه الكلمات مهّد الكاتب لرواية تفاصيل عملية إغتيال القادة الفلسطينيين الثلاثة (كمال ناصر وكمال عدوان ومحمد يوسف النجار) في منازلهم في شارع فردان في بيروت. يقول برگمن في التاسع من أكتوبر عام 1972 وصلت إلى وحدة الإتصالات مع العملاء في الشرق الأوسط في جهاز أمان الإستخباري رسالة مشفرة تقول إن الموديل يطلب لقاءً عاجلاً. كان فرنسيس يرسل البرقيات المشفرة منذ أربعينيات ذلك القرن، مُستخدماً كاميرا مثبتة على باب سيارته حيث تمكن على مدى سنوات من إرسال أكثر من مئة ألف صورة إلى أجهزة الإستخبارات الإسرائيلية توثّق كل زاوية في لبنان، وكان يزور إسرائيل بصورة دورية عبر إحدى الغواصات أو المراكب العسكرية الإسرائيلية من أجل تقديم معلومات قيمة لكبار مسؤولي الإستخبارات الإسرائيليين ولم يكن يطلب أي مقابل مالي لعمله، وكان يقول إنه يتجسس من منطلق "إيمانه بالتحالف بين لبنان وإسرائيل ولاحقاً لأني رأيت أن نشاطات الفلسطينيين في لبنان تشكل خطراً كبيراً على بلادي".

يضيف برگمن، أنه بعد ثلاثة أيام من وصول برقية الموديل التي يطلب فيها اللقاء العاجل، وصل زورق مطاطي في عتمة الليل إلى شاطىء مدينة صور في جنوب لبنان إصطحب الموديل إلى زورق سريع كان في عرض البحر، تولى نقله إلى ميناء حيفا حيث كان بإنتظاره كبار ضباط الوحدة 504 ليستمعوا إلى ما يحمل إليهم من معلومات. وبالفعل، ما خاب أمل المسؤولين الإسرائيليين من الموديل. أحضر الرجل إليهم عناوين سكن أربعة من كبار المسؤولين في منظمة التحرير الفلسطينية في بيروت وهم: محمد يوسف النجار (أبو يوسف النجار)، مسؤول جهاز الاستخبارات في منظمة فتح، الذي كان مسؤولاً عن التخطيط والموافقة على عملية ميونيخ، كمال عدوان المسؤول عن عمليات فتح داخل إسرائيل والضفة الغربية وقطاع غزة، كمال ناصر الناطق الرسمي بإسم منظمة التحرير الفلسطينية، وأبو جهاد (خليل الوزير) الرجل الثاني في منظمة فتح بعد ياسر عرفات، وكان الثلاثة الأول (النجار وعدوان وناصر) يقطنون في منازل متقاربة في مبنيين عاليين ومتقاربين في شارع فردان في بيروت.

يتابع برگمن سرده قائلاً: تم نقل المعلومات إلى رومي الضابط في وحدة قيصرية الذي باشر على الفور بالدعوة إلى سلسلة من الإجتماعات في مقر قيادة الوحدة في شارع كابلان 2 في تل أبيب. وبالإضافة إلى المعلومات عن مكان سكن القادة الفلسطينيين، توفرت معلومات عن أهداف أخرى لمنظمة التحرير من ضمنها أماكن تصنيع وتخزين الأسلحة ومقرات قيادية. ولكن كانت هناك ثغرات معلوماتية تتطلب مزيداً من الإستقصاء، بحسب قول هراري قائد وحدة قيصرية الذي كان قد حدد قاعدة للعمل تقوم على الآتي: "إن لم تكن هناك معلومات وافية، ليس هناك عملية ونقطة على السطر"، يقول رونن برگمن. ومن أجل تفادي النقص في المعلومات (سد الثغرات)، قررت وحدة قيصرية أن ترسل إلى بيروت عميلة ميدانية، فوقع الخيار على يائيل (لم يسمح سوى بنشر إسمها الأول) المولودة في كندا عام 1936، وهي نمت وترعرت في نيوجرزي الأمريكية لوالدين يهودين لا تربطهما أية علاقة بإسرائيل.

إرتبطت يائيل بعلاقة عاطفية بإسرائيل قبل حرب الأيام الستة (1967) وقررت هجرة رفاهية العيش في الولايات المتحدة والعيش في الدولة الفتية حيث عملت في البداية مبرمجة كومبيوتر، قبل أن يتم تجنيدها في وحدة قيصرية وإخضاعها للبرنامج التدريبي القاسي لعملاء هذه الوحدة. مع الوقت، باتت يائيل معروفة بمواهبها الإستثنائية وهدوء أعصابها في الميدان كما بشخصيتها الكاريزمية وجاذبية مظهرها، وهذا كله إستخدمته سلاحاً في عملها الميداني التجسسي. في هذا السياق، وقبل توجهها إلى بيروت، قال لها هراري "أنت بأنوثتك وأناقتك وجمالك، من يمكنه أن يشتبه بك؟". وصلت يائيل إلى لبنان في 14 يناير عام 1973 ونزلت في فندق البريستول بضعة أيام قبل أن تنتقل إلى شقة إستأجرتها في مبنى فخم، في منطقة فردان، مقابل تماماً للمبنيين اللذين يقيم فيهما القادة الفلسطينيون الثلاثة يقول برگمن إن يائيل أعطيت في الموساد إسما ميدانياً هو نيلسون وقصة غطاء أنها أتت إلى لبنان لكتابة مسلسل تلفزيوني عن حياة الليدي هيستر ستانهوب، وهذه السيدة سليلة عائلة أرستقراطية بريطانية هجرت عائلتها وتحوّلت في أواخر القرن التاسع عشر إلى ناشطة إجتماعية وسياسية جالت في العديد من البلدان العربية، لتستقر في أواخر أيام حياتها بين لبنان وسوريا.

وصلت يائيل إلى لبنان في 14 يناير عام 1973 ونزلت في فندق البريستول بضعة أيام قبل أن تنتقل إلى شقة إستأجرتها في مبنى فخم، في منطقة فردان، مقابل تماماً للمبنيين اللذين يقيم فيهما القادة الفلسطينيون الثلاثة (لم يكن ابو جهاد ـ خليل الوزير ـ يقيم في المنطقة نفسها)، وتمكنت بسرعة فائقة من نسج علاقات صداقة مع أبناء المحلة ومع أجانب مقيمين في بيروت وافقوا على مساعدتها في أبحاثها من أجل عملها التلفزيوني عن حياة الليدي ستانهوب، وقد ساعدتها قصة الغطاء هذه في الحصول على مبرر مشروع للتنقل بحرية تامة في كل أنحاء لبنان. وبالفعل، بدأت “يائيل” تجول حول المباني ـ الهدف وتستطلع الأماكن المحتملة للإنزال، وهي تحمل حقيبة مزودة بكاميرا مخفية كان بالامكان تشغيلها بكبسة زر موجودة مثبتة خارج الحقيبة. كل تفصيل مهما صغر كان مهماً وقد تمكنت “يائيل” من رصد وتوثيق كل أمر روتيني يخص الأهداف الثلاثة (كمال ناصر ومحمد يوسف النجار وكمال عدوان) ليلاً ونهاراً. متى كانت تشتعل أضواء منازلهم ومتى كانت تنطفىء. من يمكن رؤيته من النافذة وفي أي وقت بالإضافة إلى تفاصيل تخص سياراتهم وزوارهم وما إذا كانت أماكنهم محروسة أم لا. مع سيل المعلومات المُرسلة من “يائيل”، بات بإمكان “الموساد” أن يعرف من سيقتل وأين وكيف، لكن ثمة مصاعب جمة للتنفيذ، يقول رونن برگمن، فمنازل هؤلاء القادة الثلاثة كانت واقعة في بنايات، وسط منطقة مكتظة بالسكان في بيروت، ما يعني أن ليس بالإمكان إستخدام المتفجرات لأن من شأن ذلك أن يؤدي الى مقتل عدد من المدنيين الأبرياء إلى الحد الذي لا يمكن تحمله، ويعني أيضاً أن عملية القتل يجب أن تنفذ عن قرب، وهنا كان لبنان يُصنّف ضمن البيئات المعادية، وبالتالي فإن إعتقال أي شخص من المنفذين سيؤدي إلى تعرضه إلى تعذيب شديد ينتهي بموته، ومن المصاعب أيضاً أن كل عملاء وحدة “قيصرية” في لبنان كانوا مدربين على مهمات غير قتالية وبقصص غطاء لعملهم الميداني الاستطلاعي فقط، أما القتلة في وحدة “الحربة” الذين لديهم القدرة على تنفيذ عمليات قتل نظيفة، فلم يكن لديهم قصص غطاء مقنعة للتواجد في البلد ـ الهدف لمدة تكفي لتنفيذ عمليتهم، وحتى لو توفرت لهم مثل هذه “القصص” (الغطاء)، فإن مغادرتهم البلد ـ الهدف بسرعة بعد قتل ثلاثة قادة فلسطينيين ستكون أمراً مستحيلاً. إزاء هذه المعطيات، يقول رونن برگمن، توصل “هراري” و “رومي” الى قناعة مفادها ان وحدة “قيصرية” لا تستطيع تنفيذ هذه العملية بمفردها وأنه لا بد من اللجوء إلى الجيش “الإسرائيلي” فهو الجهة الوحيدة التي لديها القوات والموارد الضرورية لتنفيذ إغارة ناجحة. وهذا كان أمراً جديداً فلم يسبق أبداً للجيش و”الموساد” أن تعاونا في عملية هجومية على الأرض، وكان من تداعيات ذلك أن “اسرائيل” كانت تنفي مسؤوليتها عن عمليات الإغتيال التي ينفذها “الموساد” أما في هذه الحالة وفي ظل وجود قوة عسكرية كبيرة مشاركة في القتل، حتى ولو لم يكن الجنود بزيهم العسكري، كان يستحيل على “إسرائيل” أن تنفي تورطها! يضيف برگمن أن الخطة الأولية للجيش كانت شبه فوضى عارمة “تضمنت إشراك كتيبة عسكرية مؤلفة من حوالي مئة جندي تقوم بمهاجمة المبنيين وإنزال سكانهما إلى الشارع وتبدأ بالتحقق منهم فرداً فرداً وما أن يتم التحقق من الأهداف حتى يصار إلى قتلها. لكن رئيس أركان الجيش “الإسرائيلي”، وقتذاك، ديفيد اليعازر شكك بإمكانية نجاح هذه الخطة وطلب من إيهود باراك (أصبح لاحقاً رئيساً للوزراء) قائد وحدة “سايريت ميتكال” أفكاراً أخرى”. يستطرد برگمن للقول إن هذه الوحدة “أنشئت في العام 1950 لتكون قوات نخبة تستطيع أن تخترق صفوف العدو وتعمل خلف خطوطه وأن يكون بامكانها القيام بأعمال هجومية تتضمن التخريب وتجميع المعلومات، وبقيت هذه الوحدة حتى العام 1970 متخصصة بإختراق خطوط العدو لزرع أجهزة تنصت ومراقبة متطورة جداً، وكانت ولا تزال تعتبر أفضل وحدات “جيش الدفاع الإسرائيلي” التي عادة ما يرفدها بأفضل المجندين الجدد لكي يخضعوا لدورة تدريبية مدتها 20 شهراً يقال إنها من أصعب دورات التدريب في العالم. وكان ايهود باراك المولود في أحد الكيبوتزات والشاب القصير القامة مع جسم رياضي وإرادة مصممة أول ضابط عامل في هذه الوحدة، إذ تولى قيادتها في العام 1971 بصفته يحمل المواصفات المطلوبة، ناهيك عن مهارة سياسية تخوّله معرفة كيفية التعامل مع رؤسائه، وهكذا منذ اللحظة التي تولى فيها قيادة الوحدة، عمل على تحويلها إلى جزء من عمليات الجيش “الإسرائيلي”، بدل أن تقتصر مهمتها على جمع المعلومات خلف خطوط العدو”، يقول برگمن.

باراك على رأس أكبر فرقة إعدام في بيروت.. ماذا حصل في فردان؟

ينقل الكاتب رونن برگمن عن أحد ضباط قائد وحدة “سيريات ميتكال” إيهود باراك (أصبح لاحقاً رئيساً للوزراء ولحزب العمل) قوله إنه عندما طلب رئيس اركان الجيش “الاسرائيلي” حينذاك الجنرال ديفيد اليعازر منه المساعدة في التخطيط لعملية قتل القادة الفلسطينين الثلاثة في بيروت، “إرتسمت على وجهه (باراك) نظرة رضا كالنظرة التي ترتسم على وجه طباخ يبدأ بالعمل على طبخ طبق إستثنائي”. تفقد باراك المعلومات الإستخبارية الأولية وخريطة بيروت وخطة المائة جندي التي قدّمها الجيش والتفت إلى اليعازر، وقال “سيدي هذه ليست خطة جيدة، فقوة بهذا الحجم تدخل بيروت ويمكن أن تمضي وقتاً طويلاً لتنفيذ عملها في صف الناس على الطريق لإنتقاء الأهداف من بينهم وقتلها يمكن أن تتورط بإشتباك ناري ويمكن أن يكون لديها عدد كبير من الإصابات والضحايا من جانبنا كما من الجانب الآخر ومن المدنيين أيضاً”. سأله اليعازر “كيف تنفذ هكذا عملية أنت؟” فأجاب باراك “ما أن نتأكد أن الأهداف الثلاثة في منازلهم، ندخل المدينة بقوة صغيرة لا يتجاوز عديدها الخمسة عشر عنصراً تتجه مباشرة إلى شقق الأهداف، فتقتحمها وتقتلهم كلهم خلال دقائق قليلة. ومع التخطيط والأدوات الصحيحين والتدريب المناسب، بإمكاننا الدخول والخروج قبل أن يتمكن العدو من إرسال قوات إضافية إلى مسرح العملية، وفي الوقت الذي يتحقق العدو مما حصل، نكون قد إختفينا. أهم عامل في نجاح العملية هو عنصر المفاجأة”. إبتسم اليعازر وأعطى لباراك الضوء الأخضر للبدء بالتخطيط للعملية. أنجز التصميم الأولي لخطة عملية “ربيع الشباب-الغارة على بيروت” خلال أيام قليلة، وتضمنت قيام وحدة الكوماندوس البحري “فلوتيلا 13” بنقل القوة المغيرة إلى أحد شواطىء بيروت حيث يكون بإنتظارها عملاء ميدانيون لوحدة “قيصرية” مع سيارات مستأجرة يقومون بنقل القوة إلى شارع فردان حيث تفاجىء القادة الثلاثة في منازلهم وتقتلهم وتتسلل عائدة إلى “إسرائيل”، في الوقت نفسه، تقوم مجموعات كوماندوس أخرى بتشتيت الإنتباه عبر مهاجمة أربعة أهداف مختلفة في لبنان. وبدا واضحاً أنه بعد هكذا عملية سيكون من الصعب تنفيذ عملية أخرى، لذلك أراد “الإسرائيليون” قتل أكبر عدد ممكن من القادة خلال هذه العملية. يقول رونن برگمن إن الخطة كانت تمريناً معقداً يتضمن التنسيق بين وحدات عسكرية وإستخبارية مختلفة، لذلك، أشرف أليعازر شخصياً على عمليات التدريب وأعرب عن قلقه من “أن مجموعة من الرجال يتحركون في منتصف الليل في شوارع بيروت. لذلك، أقترح أن يرتدي بعض هؤلاء الرجال ثياب نسائية للتمويه، ومن شأن ذلك أيضاً أن يعطيهم الفرصة لحمل المزيد من الأسلحة”، قال أليعازر مع إبتسامة على وجهه. ينقل برگمن عن ضابطين هما أميتاي ناهماني وأميت بن هورين قولهما إن وحدتهم لم تنشأ لتكون فرقة إعدام وأنهما لا ينويان أن يتحولا إلى قتلة وفشل باراك في إقناعهما، فطلبا مقابلة السلطات العسكرية العليا، فأمّن باراك لهما لقاء مع رئيس الأركان أليعازر نفسه الذي إستطاع إقناعهما بأن هذه العملية تهدف إلى قتل من يسيل الدم اليهودي بأعماله الإرهابية وأن من واجب الجيش أن يرد بقوة، فإقتنعا بشرحه وكلفا بقيادة الوحدة المهاجمة.[11]

وفيما كانت الوحدات المكلفة بالعملية تواصل تدريباتها، كان “الموديل” (الإسم السري لكلوفيس فرنسيس أحد أهم عملاء “أمان” و”الموساد” في تاريخ عمل الجهازين في لبنان) والجاسوسة “يائيل” (لم يسمح سوى بنشر إسمها الأول وهي أميركية يهودية مولودة في كندا وتطوعت بعد حرب الأيام الستة لـ”خدمة دولة إسرائيل”) يواصلان عملهما الإستطلاعي في بيروت، فاختارت “يائيل” الموقع المناسب للإنزال، وهو شاطىء “فندق ساندز” (منطقة السان سيمون) الذي يمنع الدخول إليه إلا لنزلاء الفندق بالإضافة إلى قربه من مرآب للسيارات. بعدها كانت هذه الشابة الجميلة (“يائيل”) تتنقل في الشوارع المحيطة بالهدف، وهي تلبس تنورة قصيرة وتضع نظارات شمسية وتحمل حقيبة تصور عبر الكاميرا الخفية فيها كل الشوارع التي ستجتازها القوة المغيرة والشاطىء ومقر الهاتف العمومي الذي قد تضطر القوة المغيرة لتفجيره كي لا يتصل أحد عبره بالشرطة والمباني في شارع فردان ونواطير الأبنية. كما نقلت “يائيل” معلومات عن مخفر الشرطة القريب الذي كان يبعد حوالي ستمائة متر فقط عن المباني المستهدفة وعن دوريات الشرطة التي كانت تجوب الحي وكم من الوقت تحتاج للوصول إلى المباني المستهدفة. وقبل أن يتم إبلاغ رئيس الأركان أن القوة باتت جاهزة للتنفيذ، طلب قائد قوات المشاة والقوات المظلية العميد ايمانويل شاكيد، وهو المسؤول عن العملية أن يلتقي شخصياً بأفراد وحدة “قيصرية” الذين سيتولون قيادة جنوده من وإلى الشاطىء في بيروت. هنا، ينقل الكاتب رونن برگمن عن شاكيد قوله إن اللقاء “كان كارثياً”، فقد طلب منهم أن يقدموا أنفسهم وأن يصفوا تجاربهم العسكرية السابقة ومتى كانت آخر مرة حمل كل منهم بندقية في يده وجاءت إجاباتهم لتبث الذعر في قلبه عندما أجاب معظمهم أنهم لم يحملوا سلاحاً في حياتهم. فقط نال عدد قليل منهم تدريباً أولياً في الجيش وحتى هؤلاء يفتقدون إلى أية مهارات قتالية. فإنفجر شاكيد غاضباً وتوجه إلى رئيس “الموساد” زامير قائلاً “أخرِج عصافيرك فوراً من هذه الغرفة”، وقال لمايكل هراري (قائد وحدة قيصرية) “لست مستعداً أن أدع هذه العملية تمضي قدماً بهؤلاء الرجال الذين يفتقرون للمهارات القتالية”. فرد هراري غاضباً “لو كان هؤلاء جنود قتال لما كنا بحاجة لجنود الجيش”. فتدخل عندها أليعازر وحسم النقاش لمصلحة المضي بالعملية. يتابع الكاتب، في السادس من أبريل/ نيسان (1973)، طار ستة عملاء ميدانيين من وحدة “قيصرية” إلى بيروت من عدة مطارات أوروبية حاملين جوازات سفر مزورة ألمانية وبلجيكية وبريطانية، ونزلوا كل لوحده وفي أوقات مختلفة في “فندق ساندز” وإستأجروا سيارات أميركية الصنع وركنوها في مرآب الفندق، وبعد ظهر يوم التاسع من أبريل/ نيسان، تم نقل جنود الجيش المكلفين بالعملية بحافلة إلى القاعدة العسكرية البحرية في حيفا. وفي آخر لقاء لهؤلاء الجنود مع العميد شاكيد، قال لهم “لا تطلقوا النار على الهدف وتغادروا بل غادروا الشقة فقط بعد أن تتأكدوا أن الهدف لن ينهض مرة ثانية”. عند الساعة الرابعة فجراً، وفيما كان البحر الأبيض المتوسط هادئا، كانت ثماني قوارب “إسرائيلية” سريعة تتجه شمالاً على بعد 12 ميلاً من بيروت أطفأت محركاتها وفي الخامسة فجراً كانت “يائيل” على موعد مع عملاء وحدة “قيصرية” في فندق فينيسيا حيث أكدت لهم أن الأهداف الثلاثة في منازلهم فأرسل العملاء عبر أجهزة اللاسلكي رسالة تقول “العصافير في أعشاشها”. عندها إنطلقت واحدة من أكبر عمليات القتل المتعمد في القرن العشرين إن لم يكن أكبرها على الإطلاق ـ يقول رونن برگمن ـ إذ شارك فيها 19 قارباً مطاطياً ممتلئين بالجنود من ضمنهم 20 عنصراً من وحدة “سيريات ميتكال” و34 عنصر كوماندوس بحري و20 عنصراً من القوات المظلية وكل هؤلاء من جنود النخبة كانوا مدعمين بقوة قوامها ثلاثة آلاف عنصر في جهوزية كاملة للتدخل عند الضرورة، وكان كل قادة أجهزة الإستخبارات مستنفرين في مقر جهاز “أمان” في تل أبيب، فيما كان سلاح البحرية أيضاً في حالة إستنفار قصوى. عندما وصلت القوارب إلى الشاطىء اللبناني، حمل جنود وحدة “فلوتيلا 13” الجنود المكلفين بتنفيذ الغارة كي لا يتبللوا بالماء إلى الشاطىء الجاف مع إعطاء إهتمام خاص للجنود المتنكرين بأزياء نسائية، وكان عملاء “الموساد” بإنتظارهم في مرآب السيارات في الفندق مع السيارات المستأجرة. وكان باراك نفسه متنكراً بزي إمرأة يجلس في المقعد الأمامي لإحدى السيارات الثلاث، فأعطى الأمر بالإنطلاق، لكن شيئاً لم يحصل، فقد كان السائق من عملاء “الموساد” يتعرق وكل جسمه يرتجف، فظن إيهود باراك أنه إما مريض وإما مصاب، لكن الحقيقة هي أنه كان خائفاً إذ قال لباراك “لم أكن يوماً في مكان يحصل فيه إطلاق نار وقد رأيت رجلي شرطة في الشارع المستهدف يحملان بنادق آلية حربية”، فهدّأ باراك من روعه، وقال له إنه لن يكون هناك أي إطلاق نار، مُكرراً الأمر بالإنطلاق. فدخلت السيارات الثلاث شارع الرملة البيضاء الذي يقع على بعد حيين من المباني المستهدفة، فخرج الفريق من السيارات، وبدأ بالسير نحو الهدف كل رجل و”إمرأة” على حدة. كانت الساعة قاربت الحادية عشرة ليلاً، وكان لا يزال عدد قليل من الناس في الشارع. هناك رجلا شرطة مسلحين يحاولان التخلص من الملل بتدخين سيجارة ولا يعيران إنتباهاً إلى الأزواج المارين قربهم، كان أحد عناصر الوحدة موكي بيتسر يلف ذراعه حول باراك وكأنهما زوجين رومانسيين في كزدورة مسائية، فهمس بيتسر لباراك قائلاً “كل هذا يذكرني بروما”!

يواصل برگمن سرده: كان أبو يوسف النجار نائماً في مسكنه في أحد المباني وفي المبنى الثاني كان كمال عدوان وكمال ناصر نائمين في مسكنين منفصلين وعند مدخل المبنيين إنفصل الرجال عن النساء ليشكلوا ثلاث مجموعات تتجه كل واحدة منها إلى أحد الأهداف بأمرة باراك ومن ضمنهم طبيب كانت مهمته مراقبة الشارع.

كان حراس القادة الفلسطينيين الثلاثة نائمين في سياراتهم، فلم يشعروا بالجنود يتسلقون السلالم. وعندما وصلت المجموعات الثلاث كل إلى هدفها ووضعت عبوة صغيرة على قفل الباب، قام قائد كل مجموعة بالطرق ثلاث مرات على جهاز الإرسال الذي في يده وعندما سمع باراك الطرقات الثلاث من قادة المجموعات الثلاث، أجاب هو نفسه بالطرق على جهازه خمس مرات، ما يعني الأمر بالمباشرة بالتنفيذ، وفي الوقت نفسه، أعطى الإشارة إلى شاكيد ليعطي الأمر بالبدء بتنفيذ هجمات في أنحاء أخرى من لبنان. يقول برگمن إن سيدة في منزل أبو يوسف النجار سمعت خطى الجنود على السلالم، فنهضت ونظرت من عين الباب لترى ما يحصل فقتلت بإنفجار العبوة الصغيرة على الباب. عندها نهض أبو يوسف النجار من نومه عند سماع الإنفجار وخرج من غرفته لكنه ما أن أدرك ما يحصل حتى حاول أن يحتمي في غرفة أخرى، فقام بيتسر برش باب الغرفة بوابل من الرصاص ما أدى إلى مقتل النجار وزوجته، أما كمال ناصر، فقد إختبأ تحت سريره ومسدسه في يده وقد تمكن من إطلاق النار منه وإصابة أحد الجنود في قدمه، لكن الجنود قلبوا السرير وأمطروه بوابلين من الرصاص، وفي الشقة الثالثة، خرج كمال عدوان من الباب وهو يحمل رشاش كلاشنكوف بيديه ليفاجأ برجل وإمرأة أمامه، فتردد في إطلاق النار، ما كلفه حياته لأن الجنديين المتنكرين بزي رجل وإمرأة اطلقا نيران رشاشات العوزي التي كانت مخبأة تحت ثيابهما. يتابع الكاتب برگمن أنه في ذلك الوقت، كان أحد حراس القادة نائماً في سيارة “رينو دوفين” لكنه إستيقظ على أصوات الإنفجارات على ما يبدو وخرج من السيارة شاهراً مسدسه فأرداه باراك على الفور بمسدس مزود بكاتم للصوت ولكن إحدى الطلقات أصابت سيارة متوقفة في الشارع، فأطلقت العنان لبوق الإنذار فيها، ما أدى إلى إيقاظ الجيران، فإتصل بعضهم بالشرطة التي أرسلت عناصرها من المخفر القريب في شارع فردان في الوقت الذي كان الجنود يبحثون في الشقق المداهمة عن وثائق مهمة قبل أن يبدأوا بالمغادرة على عجل، وكادوا أن ينسوا خلفهم يوناتان نتنياهو، شقيق بنيامين نتنياهو، ليجدوا أنفسهم وجهاً لوجه مع رجال الشرطة. وقف الضابط ليفين في منتصف الشارع ولا يزال الشعر الأشقر الأنثوي المستعار على رأسه، وبدأ يطلق نيران رشاشه العوزي ذات اليمين وذات اليسار فيما أخذ باراك يطلق النار بإتجاه رجال الشرطة، وقام بيتسر بإطلاق النار نحو سيارة جيب بداخلها أربعة من رجال الشرطة ومن ثم رمى نحوها قنبلة يدوية أدت الى مقتل ثلاثة من ركابها، فيما أصيب السائق بجروح طفيفة حيث رأته “يائيل” من نافذة شقتها المطلة على مسرح العملية وهو يجلس على الرصيف لفترة طويلة قبل نقله إلى المستشفى. تمكنت مجموعة القتل من صد رجال الشرطة فيما تجمع الجنود وإنطلقوا بالسيارات المستأجرة في طريقهم عائدين إلى شاطىء الأوزاعي، وعندها وجه باراك نداءه عبر جهاز الإرسال منادياً رجال الكوماندوس البحري لنقله وجنوده. ويقول برگمن إنه على الرغم من الفوضى العارمة التي واكبت العملية، بقي باراك محافظاً على هدوئه، وينقل عنه قوله “كنت أنظر بدهشة إلى تلك الطرقات، فلم أكن في حياتي أبداً في مثل تلك الشوارع الرائعة ولم أشاهد في حياتي منازل وأبنية بمثل هذا الجمال. كانت أبنية وشققاً لم نعهد مثيلاً لها في إسرائيل”. في غضون ذلك، كانت مجموعة أخرى من المظليين تشن هجوماً في موقع آخر في بيروت (لم يسمه الكاتب) لكنها كانت أقل حظاً، فقد قتلوا حراس مبنى يشكل مقراً للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين لكنهم لم ينتبهوا إلى موقع حراسة آخر تمكن أحد عناصره من إطلاق نيران رشاشه على القوة المهاجمة متسبباً بإصابة ثلاثة من أفرادها بجروح بالغة، تم إخلاء إثنين منهم نحو السيارات أما الثالث، ييغال برسلر، الذي كان مصاباً بأربع عشرة رصاصة، فقد حمله أحد رجال الكوماندوس البحري وأخذ يجري به نحو السيارة، فظن الحارس الفلسطيني أن برسلر كان فلسطينياً فهبّ لمساعدته متعاوناً مع رجل الكوماندوس فسقط الثلاثة على مطب بالشارع وكانت إحدى أذرع برسلر قد شُلت بالكامل، لكنه تمكن من تلقيم مسدسه بأسنانه، فهرب الفلسطيني بعد أن أدرك الواقع، فطارده الكوماندوس، ما جعل برسلر يظن أنه تُرك وحيداً ففكر بأن يفجّر نفسه بقنبلة يدوية كان يحملها لكن الكوماندوس عاد إليه وحمله إلى السيارة، فيما كانت تسمع أصوات إنفجارات وأعيرة نارية في كل الأرجاء.

ويضيف الكاتب برگمن أنه بدل الإنسحاب فوراً، فإن قائد الوحدة آمون ليبكين شاحاك، وبهدوء تام، أدى إلى حصوله لاحقاً على تنويه رئيس الأركان، أمر رجاله بمواصلة العمل في مهمتهم بزرع المتفجرات في المبنى المستهدف (للجبهة الشعبية). وينقل برگمن عنه قوله “أصعب اللحظات التي عشتها لم تكن خلال الإشتباك الناري، بل كانت عندما رجعنا إلى السيارات وتفاجأت أن السيارة التي تقل الجرحى لم تكن هناك”. فقد كان هو ورجاله ومن ضمنهم برسلر المصاب بجروح خطيرة عالقين في قلب بيروت ومعهم فقط سيارتين، أما السيارة الثالثة التي كان يقودها عملاء وحدة “قيصرية” مع إثنين من الجنود المصابين إصابات حرجة قد إختفت وأجهزة اللاسلكي لم تكن تعمل ولم يؤد البحث السريع إلى إيجادهم. “لقد كان أمراً مثيراً للقلق”، ينقل برگمن عن آمون شاحاك قوله، إذ أنه لم يكن يريد الإنسحاب من دون معرفة مصير جنوده المصابين ولكن لم يكن لديه خيار آخر، فأمر جنوده بأن يتكدسوا في السيارتين المتوفرتين والإنطلاق إلى الشاطىء، وما أن إنطلقت بهم السيارات حتى سمعوا صوت إنفجار ضخم ورأوا المبنى الذي فخّخوه ينهار وعلموا لاحقاً أن 35 من أعضاء الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين قتلوا في هذا الإنفجار الضخم، حسب الرواية الإسرائيلية.


عملية فردان بلسان جاسوسة الموساد: كان عرضاً تُرفع له القبعات

يقول رونن برگمن في كتابه “إنهض واقتل أولاً، التاريخ السري لعمليات الاغتيال الاسرائيلية”، إنه عندما وصلت آخر المجموعات المنسحبة إلى شاطىء منطقة السان سيمون، تبين أن أحد عملاء وحدة قيصرية كان جالسا في السيارة خلف المقود يتصبب عرقاً ويدخن سيجارة بأصابع مرتجفة وفي المقعد الخلفي، اثنان من رفاقه احدهما ميت بسبب نزفه كمية كبيرة من الدماء، والثاني في حالة حرجة جراء اصابته أثناء العملية. يقول قائد المجموعة ليبكين شاحاك: “عندما سألت سائق السيارة ماذا حصل ولماذا لم تنتظرنا او على الاقل لماذا لم تنتظر طبيب المجموعة لكي يعالج الجرحى؟ فأجاب بطريقة غير متوازنة أنه عندما بدأ إطلاق النار في بداية الغارة، فكر أن أياً منا لن يخرج حياً فقرر الإنسحاب والعودة الى الشاطىء”. ويضيف “لقد كان من الخطأ إشراك أناس لا خبرة قتالية لديهم في هكذا عملية، فهذا العميل رأى أننا في مشكلة، فوقع تحت تأثير الصدمة وقرر النجاة بنفسه”! يقول برگمن ان الجنود المنسحبين ركبوا القوارب السريعة باتجاه المركب الكبير الذي كان ينتظرهم في عرض البحر. [12]

تولى احد الاطباء محاولة انقاذ حياة الجندي الجريح لكنه لم يفلح فتوفي الثاني، خلال اجراء عملية جراحية له على متن القارب، ففقد رفاقه أعصابهم، وبدأوا بالصراخ في وجه عميل وحدة قيصرية وحمّلوه مسؤولية موت إثنين من رفاقهم، فردّ على صراخهم بالصراخ، فقام أحد الجنود بصفعه بقوة، ما جعله يرد بلكم الجندي لينشب عراك بالايدي على متن القارب لم ينته إلا بعد أن تدخل جنود آخرون لفصلهما عن بعضهما البعض. ومع بداية ضوء النهار، كان كل الجنود المشاركين في الإغارة قد أصبحوا في “إسرائيل”، وعندما وصل إيهود باراك إلى منزله، كانت زوجته “نافا” لا تزال نائمة، فوضع حقيبته أرضاً، واستلقى قربها بحذائه وكامل لباسه بعدما أنهكه التعب، وعندما إستيقظت قبله صباحاً، فوجئت به نائماً بجانبها، وعلى وجهه مساحيق التبرج (كان متنكراً بزي إمرأة خلال العملية) وأحمر الشفاه الفاقع يغطي شفتيه. في بيروت، لم ينتبه أحد الى تلك السيدة النحيفة، “يائيل”، التي أتت الى مركز البريد في شارع مدام كوري في شارع الحمراء، لترسل الى الضابط المسؤول عنها رسالة اظهرت الصدمة التي كانت تحت وقعها جراء ما شاهدته من نافذة شقتها.

تقول الرسالة: “عزيزي إميل، ما زلت من الليلة الفائتة أرتجف، فجأة في منتصف الليل إستيقظت على أصوات إنفجارات قوية. فأصبت بنوبة ذعر. الإسرائيليون يهاجمون المنطقة. كان أمراً مرعباً. في الصباح، بدا كأن الأمر كان حلماً سيئاً، ولكن في الحقيقة لم يكن كذلك، لقد كان هؤلاء الإسرائيليون المرعبون بالفعل هنا. للمرة الأولى، صرت أرى لماذا يوجد هذا الكم من الكراهية لليهود في هذا البلد. فعلاً إن هذه المنطقة السكنية رائعة ومسالمة وسكانها طيبون”. اضافت “يائيل” في الرسالة انها تريد رؤيته (إميل) وانها بحاجة الى فترة نقاهة لتهدئة أعصابها بعد ما رأته. وفي جملة أُضيفت بالحبر السري غير المرئي، كتبت “يائيل”: “لقد كان عرضاً رائعاً بالأمس تُرفع له القبعات”. وحتى لا تلفت “يائيل” الأنظار إلى دورها في العملية، بقيت في بيروت لأسبوع برغم المخاطر الناجمة عن بقائها ربطاً بالتدابير الأمنية الصارمة التي أعقبت العملية، وينقل برگمن عن “يائيل” قولها “ما أن إرتفعت عجلات الطائرة عن ارض مدرج مطار بيروت، حتى إسترخيت في مقعدي، وعندما حطّت الطائرة في مطار هيثرو في لندن، إرتخت ذراعيّ ولم أستطع النهوض من مقعدي، فقد إحتجت لثوان إضافية قبل أن أستطيع مغادرة الطائرة”. ويقول رونن برگمن إن عملية “ربيع الشباب” (اسم عملية اغتيال القادة الفلسطينيين الثلاثة) حققت كل أهدافها “بنجاح باهر”، ويعدّد تلك الأهداف: قتل ثلاثة من كبار قادة منظمة التحرير الفلسطينية إلى جانب خمسين عنصراً من المنظمة، وقد نجا صلاح خلف (أبو أياد) قائد “منظمة أيلول الأسود” من القتل بالصدفة في تلك الليلة، لانه كان قد غادر قبل وقت قليل، من بدء الغارة، احدى الشقق المستهدفة حيث كان غالباً ما يمضي أمسياته فيها، وتم تدمير أربعة أبنية (لم يذكر الكاتب مكان تلك الأبنية) كانت تستخدم لتصنيع السلاح وتخزينه كما تم الإستحواذ على عدد كبير جداً من الوثائق في شقة كمال عدوان وهذه بحد ذاتها اعتبرها الفلسطينيون كارثة، لأنها زوّدت جهاز “الشين بيت” بتفاصيل دقيقة عن خلايا منظمة التحرير في الأراضي المحتلة وأدت إلى إعتقال عدد من الناشطين فيها ما أدى الى تدمير شبكات حركة فتح هناك.

ويتابع الكاتب ان مردود العملية حرف الإنتباه عن السلوك غير المحترف لعميلي “الموساد” اللذين توليا قيادة السيارات، وكلاهما من عناصر النخبة في وحدة “قيصرية” التي يقودها “هراري”، كما لم ينتبه أحد إلى حقيقة أنهما منعا وصول العناية الطبية لرجلين ماتا متأثرين بجروحهما، وكان يمكن لسلوكهما أن يؤدي إلى كارثة أكبر. يقول برگمن إنه بفضل عملية “ربيع الشباب” باتت أسطورة ان “الموساد” يستطيع ان يضرب في اي مكان واي زمان “تحفر عميقا في الوعي العربي”، يضيف ان العملية لم تنه مسلسل عمليات القتل المتعمد التي اطلقها جهاز “الموساد” في اوروبا ضد الفلسطينيين، فخلال التحضير لهذه العملية كان القاتل المحترف في “الموساد” ناهيميا مائيري وعميل آخر في باريس ينتظران باسل الكبيسي، استاذ مادة القانون في احدى جامعات بيروت وهو ناشط من دون مسؤوليات في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ويطلقا عليه النار ويقتلاه.


ويتابع الكاتب، أنه بعد ساعات قليلة من عودة الجنود من عملية “ربيع الشباب”، سافر “هراري” و”مائيري” وخمسة عملاء آخرين الى العاصمة اليونانية أثينا لقتل زياد مونشاسي بزرع عبوة ناسفة تحت سريره في احد الفنادق، وكان مونشاسي قد عين للتو ممثلاً لحركة فتح في قبرص خلفا لحسين عباد الشير الذي قتل قبل ثلاثة اشهر بعبوة ناسفة زرعها عملاء “الموساد” ايضا في سريره في احد فنادق مدينة نيقوسيا القبرصية. وفي العاشر من يونيو/ حزيران 1973 (بعد شهرين من عملية بيروت)، وصلت الى “الموساد” معلومات تفيد بان وديع حداد (القيادي في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين) ارسل اثنين من رجاله الى روما لتنفيذ هجوم ضد مكاتب “شركة طيران العال الاسرائيلية” هناك. وكان مصدر المعلومة احد العملاء المزروعين “عميقاً” في منظمة حداد وكان “واعدا جدا”، ووصفه التقرير السنوي لجهاز “امان” الاستخباري بأنه “مصدر رائع وممتاز ولديه وصول حصري للمعلومات في تنظيم وديع حداد”. وكان وافق على التجسس مقابل المال وأُعطي اسماً حركياً هو “ايتزافون” وهي تعني في اللغة العبرية “التعاسة”. بعد وصول المعلومة، بدأ فريق من عملاء وحدة “الحربة” (وهي وحدة من القتلة المحترفين) بقيادة العميل “كارلوس” بملاحقة الرجلين اللذين كانا يتحركان في شوارع روما بسيارة مرسيدس تحمل لوحة تسجيل المانية. وفي ليلة 16-17 يونيو/ حزيران، زرع فريق “الحربة” عبوة ناسفة في اسفل السيارة، وفي الصباح عندما قاد احد الرجلين السيارة تبعته سيارة تابعة لـ”الموساد” يقودها “هراري” نفسه والى جانبه “كارلوس” حاملا جهاز التفجير عن بعد في علبة بحجم صندوق حذاء، ولكي تتم عملية التفجير، كان لا بد ان تبقى السيارة على مسافة معينة من العبوة، بعد عدة دقائق توقفت سيارة الفلسطيني لتقل الرجل الثاني المستهدف قبل ان تتحرك من جديد، وكان “كارلوس” على وشك ان يكبس زر التحكم عن بعد تماما عندما دخلت السيارة المستهدفة “ميدان باربيريني” حيث توجد “نافورة تريتون” الاثرية للنحات المشهور جيان لورنزو بيرنيني، فصرخ “هراري” برفيقه “لا، لا، توقف. انها لبرنيني لا تفجر”، ثم راح “هراري” الذي يعرف روما جيداً منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية، يشرح لزميله اهمية المعلم الفنية. وبعد ثوان من مغادرة سيارة الفلسطينيين منطقة النافورة، كبس “كارلوس” على الزر فانفجر الجزء الامامي من السيارة وادى الى اصابة راكبيها باصابات بالغة توفي احدهما في المستشفى متأثرا بجراحه. وقد وجدت الشرطة الايطالية اسلحة في السيارة ففسرت الانفجار على انه “حادث عمل”، معتقدة ان الرجلين كانا ارهابيين يحملان عبوة في السيارة وانفجرت بهما جراء خطأ ما.

وارسل العميل “تعاسة” تقريرا عن نشاطات محمد بودية مسؤول عمليات الجبهة الشعبية في اوروبا، وكان بودية مزيجا متنوعا من الثوري الجزائري واللعوب البوهيمي ويعمل لكل من وديع حداد و”منظمة ايلول الاسود”، وكان المسرح الصغير الذي يديره في باريس “تياتر دي ليكويست” مجرد غطاء لخططه في الهجوم على “الاسرائيليين” واليهود. وبفضل تقارير العميل “تعاسة”، تمكن جهاز “الشين بيت” من احباط العديد من مخططاته قبل تنفيذها، وكان احد هذه المخططات يستهدف تفجير عبوات كبيرة من مادة “تي. ان. تي.” في سبعة فنادق كبرى في تل ابيب. وخلال يونيو عام 1973 ارسل العميل “تعاسة” تقريرا يفيد بان بودية يخطط لهجوم كبير (لم يذكر الكاتب شيئا عنه)، فقام فريق من عملاء وحدتي “الحربة” و”قوس قزح” (قتلة محترفين) مؤلفاً من ثلاثين عميلاً بملاحقته في طول باريس وعرضها قبل ان يحصلوا على فرصتهم عندما ركن سيارته وخرج منها في شارع “روي دي فوسيه سانت برنارد” في منطقة الحي اللاتيني، وعندما عاد إلى السيارة، وما أن أدار المحرك حتى إنفجرت عبوة ناسفة كانت مزروعة تحت مقعده، فقتل على الفور.

الموساد يلاحق أبو حسن سلامة.. فيصطاد عاملاً في بركة سباحة

يقول الكاتب الإسرائيلي رونن برگمن في كتابه “إنهض واقتل أولاً، التاريخ السري لعمليات الإغتيال الإسرائيلية”، إنه برغم مرور أكثر من تسعة أشهر على أوسع حملة إغتيالات وقتل متعمدة نفذها عملاء وقتلة محترفون في أجهزة الإستخبارات “الإسرائيلية” ضد أهداف فلسطينية رداً على عملية ميونيخ، إعتبر مسؤولون “إسرائيليون” أن الإنتقام لعملية “منظمة أيلول الأسود” في ميونيخ (قتل الرياضيين خلال الألعاب الأولمبية في العام 1972) لم يتم بعد، إذ أن أحداً من المسؤولين الأحد عشر (بحسب تقدير “إسرائيل”) عن التخطيط والتنفيذ لعملية ميونيخ لم يقتل، ومن بين هؤلاء ثلاثة من الناجين الفلسطينيين من عملية ميونيخ إعتقلوا في ألمانيا وأطلق سراحهم في عملية تبادل بعد أن خطفت مجموعة من “أيلول الأسود” طائرة “لوفتهانزا” ألمانية وأجبروا السلطات الألمانية على إطلاق سراح الثلاثة. يقول الكاتب رونن برگمن إنه على رأس لائحة المطلوبين الاحد عشر هؤلاء كان علي حسن سلامة (1941-1979) مسؤول العمليات في “منظمة أيلول”، وكان والد سلامة احد اثنين قادا القوات الفلسطينيية في العام 1947 اثر قرار تقسيم فلسطين إلى دولتين والذي أدى إلى قيام دولة “إسرائيل”، وقد فشلت قوات “الهاغاناه” الصهيونية في قتل سلامة الاب بالرغم من كل محاولاتها إلى أن قتل في إحدى المعارك على أرض فلسطين. وينقل برگمن عن علي سلامة الملقب بـ”أبو حسن سلامة”، قوله في واحدة من المقابلتين الوحيدتين اللتين اجراهما في حياته: “كوني ابن حسن سلامة شكّل عبئاً ثقيلاً عليّ، فقد كنت أريد أن أكون أنا نفسي ولكن كنت أعي أن حقيقة كوني إبن حسن سلامة أصبحت مُطالباً بأن أعيش وفقاً لهذه الحقيقة، ولكن أحداً لم يقل لي كيف يجب أن أكون حتى أبقى على مستوى هذه الحقيقة، فكل نشأتي كانت مسيّسة وعشت القضية الفلسطينية عندما كانت هذه القضية تواجه حلقة مفرغة، فقد كان الشعب مشتتاً وبلا قيادة وأنا كنت جزءاً من هذا التشتت ووالدتي كانت تريدني حسن سلامة آخر”. في أواسط ستينيات القرن الماضي، أدى الضغط الذي مارسته عائلة سلامة عليه بالاضافة إلى ضغط ياسر عرفات إلى أن يتوجه الشاب علي سلامة إلى أحد مراكز التجنيد لدى حركة فتح، وينقل عنه برگمن قوله في إحدى المقابلتين “لقد أصبحت منتمياً لحركة فتح ووجدت ما كنت أبحث عنه”. كان سلامة حينها شاباً يافعاً وصاحب شخصية كاريزمية وبهي الطلعة وغني، وهذا ما جعله يعيش حياة مترفة على غرار تلك التي كان يعيشها عناصر جهاز إستخبارات حركة فتح. وينقل برگمن عن احد ضباط “الموساد” قوله “لقد جمع سلامة بين حبه للنساء والحفلات الصاخبة وبين نشاطاته الإرهابية إلى درجة مثيرة للدهشة حتى داخل فتح نفسها”.[13]

وينقل برگمن عن قادة في “الموساد” اعتقادهم ان سلامة كان مسؤولاً عن عدد كبير من العمليات ضد “إسرائيل”، ومن ضمنها خطف طائرة تابعة لشركة “سابينا”، كما عثر بين الوثائق التي اخذها الجنود “الإسرائيليون” من شقة ابو يوسف النجار في بيروت على وثيقة تشير إلى ان سلامة كان مسؤولا عن تنسيق كل العمليات “الارهابية” في اوروبا وانه احضر إلى احد معسكرات التدريب التابعة لحركة فتح في لبنان الالماني “اندرياس بادر” احد مؤسسي حركة “بادر ماينهوف” اليسارية المتطرفة، وقد اظهر مسؤول مكافحة الارهاب في “الموساد” شمشون اسحاقي هذه الوثيقة للمسؤولين الالمان “ليصبح واضحا لديهم ان خطر الارهاب الفلسطيني شأناً يعنيهم ايضا”. يقول رونن برگمن انه على الرغم من النفي المتكرر لأحد مسؤولي عملية ميونيخ محمد عودة (ابو داوود)، وجود اية علاقة لعلي سلامة بالعملية، فقد أجمع قادة “الموساد” ان سلامة كانت له اليد الطولى في التخطيط والتنفيذ وانه لم يكن بعيدا عن مسرح العملية في القرية الاولمبية في ميونيخ. وينقل الكاتب عن “مايك هراري” قوله “على اي حال اصبح سلامة الهدف رقم واحد للموساد وقد طاردناه لسنوات طويلة ولم يكن لدينا سوى صورة واحدة له استخدمناها لتحديد مكان وجوده ولكن من دون جدوى، وكل المعلومات التي جمعتها عنه وحدة “الحربة” إستدعت مطاردته في هامبورغ وبرلين وروما وباريس واستوكهولم ومدن اوروبية اخرى وفي كل مرة كان يفلت من المراقبة في اللحظات الاخيرة، إلى ان حدث الخرق في منتصف يوليو/ تموز عام 1973 عندما غادر الجزائري كمال بنيامين شقته في مدينة جنيف ليستقل طائرة متوجهة إلى العاصمة الدانماركية كوبنهاغن، وكان بنيامين يعمل لصالح حركة فتح ولديه صلات بـ”منظمة ايلول الاسود”، وكان عملاء “الموساد” يعتقدون انه يخطط مع سلامة لهجوم ما، فقرروا تتبعه واعتبروا انهم اذا استمروا لصيقين به لا بد وان يقودهم إلى علي سلامة فيقتلونه. عندما وصل بنيامين إلى مطار كوبنهاغن لاحظ عملاء وحدة “قيسارية” انه لم يغادر المطار بل انتقل إلى قاعة الترانزيت ومنها استقل طائرة متوجهة إلى اوسلو (العاصمة النروجية) ومن هناك استقل قطارا متوجها إلى مدينة ليلهامر، وكان طوال الوقت تحت اعين عملاء الوحدة، واستنتج مسؤولو “الموساد” انه سيقابل الهدف (علي سلامة) هناك. على الفور، قرر المسؤولون عن الموضوع ادخال فريقين من وحدة “الحربة” للاغتيال يعملان في اوروبا إلى العملية، وشكل “هراري” قوة تدخل سريع، وكان على رأس فريق الاغتيال المؤلف من 12 عميلاً القاتل المحترف المشهور لدى “الموساد” ناهيميا مائيري اضافة إلى خليط من القتلة المحترفين وعملاء ميدانيين من وحدة “قيسارية” يجيدون اللغة النروجية ومن بين اعضاء الفريق العميلة “سيلفيا رافاييل” التي جابت خلال عملها معظم الدول العربية بصفة مصورة صحافية كندية معادية لـ”إسرائيل” تحت اسم “باتريشيا روكسبورغ” وتمكنت خلال جولاتها من جمع معلومات قيمة جدا عن جيوش المنطقة، كما كان بين اعضاء الفريق “افراهام غيمير”، وهو مدرب “رافاييل”، ورجل الاعمال الدانماركي دان اربيل الذي شارك موسميا بعمليات لـ”الموساد” في الدول العربية مساعدا في الامور اللوجستية مثل استئجار السيارات والشقق، كما كان بين اعضاء الفريق ماريان جلادنيكوف وهي مهاجرة من السويد وموظفة سابقة في جهاز “الشين بيت” كانت انضمت مؤخرا إلى صفوف “الموساد” وهي تتقن اللغات الاسكندنافية بطلاقة.

يضيف برگمن ان ما حصل بعد ذلك هو امر مثير للجدل ولكن من خلال وصف العملية يمكن للقارىء ان يستنتج باختصار ان الاشتباه بشخص كان سبباً كافياً لقتله. هناك روايات عدة لما حصل ولكن الاكثر دقة بينها ان فريق المراقبة التابع لوحدة “قيسارية” اضاع اثار بنيامين في مدينة ليلهامر، لذلك بدأوا باستخدام تقنية “التمشيط” وهي التقنية التي استخدمها مائيري في الخمسينيات لملاحقة عملاء جهاز الإستخبارات السوفياتي “كي جي بي” في “إسرائيل”.

بعد يوم كامل من البحث المضني، توصل العملاء إلى تحديد الهدف الذي كان عبارة عن رجل يجلس في مقهى مع مجموعة من العرب وسط المدينة، اعتقدوا انه كان يشبه إلى حد كبير الصورة التي بحوزتهم لسلامة، وينقل الكاتب عن مسؤول مكافحة الارهاب في جهاز “امان” الجنرال “اهارون ياريف” قوله “كان الشبه بين الرجل وسلامة كبيرا جدا لدرجة انهما يبدوان وكأنهما توأمان”. وفي رواية اخرى، فان الرجل الذي حدد انه سلامة لم يكن فقط جالسا مع مجموعة من العرب في مقهى بل كان يحضر اجتماعا لمجموعة من النشطاء المعروفين في حركة فتح. ووفقا لهذه الرواية رأى عملاء المتابعة ان المشتبه به يربتط بارهابيين معروفين وكان ذلك بالاضافة إلى الشبه مع الصورة في حوزتهم مؤشرا اضافيا على انه الرجل الذي يبحثون عنه (أي علي سلامة).

يتابع الكاتب انه في كلتا الحالتين، تم ارسال تقرير إلى مقر “الموساد” في تل ابيب بان الشخص المشتبه به هو علي سلامة نفسه، ولكن قائد وحدة “قيسارية”، أي “مايك هراري”، لم يتمكن من رؤية رئيس “الموساد” زفي زامير لان الاخير قرر التوجه شخصيا إلى ليلهامر كي يكون حاضرا عندما يتم قتل الهدف وبالتالي فان “هراري” اعطى اوامره لفريقه بمواصلة المراقبة، وقد اكتشف هؤلاء ان الرجل المشتبه بكونه سلامة يعيش حياة هادئة في ليلهامر، وعنده خليلة نروجية شقراء وهي حامل في مرحلة متقدمة ويذهب إلى السينما وإلى بركة سباحة مغلقة في المدينة، وهكذا فقد اشترت ماريان جلادنيكوف ثوب سباحة وذهبت إلى بركة السباحة لمراقبته، ولكن ما شاهدته جعلها تتساءل ايعقل ان يكون هذا الرجل هو “الارهابي” الفلسطيني الذي يحتل رأس قائمة المطلوبين لدى “الموساد”. لم تكن وحدها التي شككت. احد العملاء الذي كان يستخدم اسما حركيا (شاوول) يقول “لقد قلنا للمسؤولين بوضوح اننا نعتقد ان هذا الرجل ليس هو الرجل المنشود ولكن “هراري” وزامير قالا لا فرق في الامر فحتى لو لم يكن هذا الرجل هو سلامة نفسه فمن الواضح انه عربي اخر على صلة بالارهابيين، وحتى لو لم نقتل سلامة فان اسوأ ما سنفعله هو قتل ارهابي اقل اهمية، ولكنه يبقى ارهابياً”. ويقول برگمن نقلا عن “هراري” إن سبعة من عناصر فريق المتابعة “أعطى تحديداً ايجابياً بين الصورة التي بحوزتنا والرجل الذي رأيناه في الشارع وفقط عدد قليل من العملاء اعتقد ان هذا الرجل ليس الهدف المنشود وعليك ان تقرر في هذه الحالة ان تمضي برأي الاكثرية. اسهل الامور هي أن تعطي الامر بعدم سحب الزناد ولكن اذا اعطيت هكذا امر فانك لا تكون قد عملت اي شيء على الاطلاق”. وهكذا بعد ان تخلف زامير عن اللحاق بالقطار المتوجه إلى ليلهامر اتصل ليل 21 يوليو/ تموز بمايك “هراري” وامر بالاستمرار بالعملية وقتل الهدف. في تلك الليلة، غادر الرجل وخليلته شقتهما واستقلا حافلة إلى احد دور السينما، وكان فريق الاغتيال التابع لوحدة “الحربة” يلاحقهما بالسيارات وعلى الاقدام وفي الساعة العاشرة والنصف ليلاً، غادر الثنائي دار السينما واستقلا الحافلة عائدين إلى منزلهما، وما ان غادرا الحافلة توقفت على مقربة منهما سيارة فولفو رمادية اللون وخرج منها شاوول وعميل اخر (لم يسمه الكاتب ولكن ذكر ان الحرف الاول من اسمه هو اي) وشهرا مسدسيهما من طراز بيريتا مع كاتمي صوت واطلقا على الهدف ثمانية رصاصات قبل ان يركضا عائدين إلى سيارتهما تاركين المرأة التي لم يطلقا النار عليها راكعة فوق الضحية تولول وتحمل رأسه المخضب بالدم. يتابع برگمن، عاد القاتلان المحترفان إلى الشقة في المكان المتفق عليه مسبقا حيث كان ينتظرهما “مايك هراري” واعضاء الفريق. وهنا ابلغ شاوول الحضور ان العملية نفذت بنجاح ولكنه وزميله شاهدا المرأة التي رأت عملية القتل تسجل رقم لوحة تسجيل سيارة الفولفو عندما كانا يغادران المكان. فطلب “هراري” من اربيل المسؤول عن الامور اللوجستية ان يركن السيارة على جانب احد الطرقات ويرمي مفاتيحها. وغادر بعدها اربيل وجلادنيكوف بالقطار إلى اوسلو ومنها بالطائرة إلى لندن ومنها إلى “إسرائيل” وكان على العملاء الاخرين ان ينتظروا بضعة ساعات في الشقة المستأجرة قبل ان يطيروا خارج البلاد، وكان على “هراري” وقاتلين محترفين ان يغادرا بالسيارة إلى اوسلو ويستقلا مركبا بحريا إلى كوبنهاغن فيما غادر شاوول والقاتل الذي كان معه على متن طائرتين منفصلتين إلى الدانمارك، واستقل “هراري” طائرة إلى امستردام وهو واثق من نجاح المهمة ويعيش نشوة النجاح لان قتل سلامة كان يعني انه اصبح على اخر درجة من سلم ترقيته ليصبح مديرا لـ”الموساد” خلفاً لزفي زاميرعندما تنتهي ولاية الاخير، وعندما وصل إلى امستردام لم يشعر “هراري” بحجم الكارثة الحاصلة الا عندما شاهد نشرة الاخبار على التلفزيون. لم يكن الرجل الذي قتله “الإسرائيليون” علي سلامة بل كان مواطنا مغربيا يدعى احمد بوشيكي، وهو نادل وعامل تنظيفات في بركة السباحة المغلقة، وكان متزوجاً من امرأة تدعى توريل، وهي حامل في شهرها السابع. يقول رونن برگمن إن رئيس “الموساد” زامير قلّل من أهمية الكارثة، قائلاً “لم يكن أي منا يملك الادوات الدقيقة لإتخاذ القرار الصحيح، فالتحديد الخاطىء للهدف ليس فشلاً. انه غلطة”! الحقيقة ـ كما يقول برگمن ـ ان بوشيكي لم يكن له اية علاقة بالارهاب وان كل عملية ليلهامر كانت ببساطة قتل بدم بارد لعامل بسيط في بركة سباحة.

گولدا مائير تُغطي فشل إغتيال سلامة.. والحربة تضرب في روما

يقول رونن برگمن مؤلف كتاب “انهض واقتل اولا، التاريخ السري لعمليات الاغتيال الاسرائيلية” نقلا عن احد المشاركين في عملية القتل المتعمد للمواطن المغربي احمد بوشيكي في مدينة ليلهامر النروجية، إن التداعيات الأمنية والقانونية لتلك العملية على وحدة الاغتيالات “الحربة” بدأت تظهر تباعاً، فمسؤول الشؤون اللوجستية فيها (رجل الأعمال الدانماركي) دان أربيل إشترى مباشرة بعد العملية حنفيات وامور اخرى للمنزل الذي كان يبنيه في “اسرائيل” ووضع كل الحاجيات التي اشتراها في سيارة “فولفو” رمادية اللون كان منفذو عملية الاغتيال استخدموها، وكانت زوجة المغدور بوشيكي قد نجحت في كتابة رقم لوحة السيارة وسلمتها للشرطة النروجية. وخلافاً لتعليمات قائد وحدة “قيسارية” مايك هراري، فإن دان أربيل لم يتخلص من السيارة بل استخدمها لنقل حاجياته الى مطار اوسلو مع زميلته في العملية جلادينكوف حيث كانت الشرطة تنتظرهما في مكتب تأجير السيارات وهناك اعتقلته وزميلته. خلال التحقيق معه، إنهار دان أربيل سريعاً لأنه كان يعاني من رهاب (فوبيا) الاماكن المغلقة. وينقل برگمن عن شاوول (احد المشاركين في العملية) قوله “لم يقرأ احد في التقرير الشخصي لأربيل عن خوفه من الاماكن المغلقة ومدى تأثير ذلك عليه في حال الامساك به، وهذا سلوك غير احترافي ابدا من قبل وحدة قيسارية، فقد كتب الرجل تقريرا صادقا لم يكلف احد نفسه عناء قراءته، فلو حصل ذلك لكان ألغي دوره في العملية فوراً”. [14]

يضيف برگمن أن أربيل أخبر الشرطة النروجية عن مكان وجود أفراهام غيمير وسيلفيا رافاييل، وادت حملة بحث عنهما الى اعتقالهما ايضاً مع اثنين آخرين من المشاركين في العملية، واصبح واضحا للشرطة النروجية ان العملية هي عبارة عن قتل متعمد من تنفيذ “الموساد”، ووجدت الشرطة بحوزة المعتقلين وثائق، كان قد طُلِبَ منهم التخلص منها فور قراءتها، ويستدل منها على البيوت السرية الآمنة لـ”الموساد” في معظم أنحاء أوروبا بالإضافة إلى أسماء المتعاونين معهم وقنوات الإتصال التي يستخدمونها وطرق تنفيذ العمليات، كما ساعدت المعلومات التي حصلت عليها الشرطة من هذه الوثائق والتحقيقات مع الموقوفين في كشف السلطات الامنية الفرنسية والايطالية عن عمليات قتل متعمد نفذها “الموساد” على اراضي فرنسا وإيطاليا. واحتل توقيف العملاء الستة وتقارير التحقيق معهم عناوين الصحف في العالم اجمع، ما شكّل إحراجاً كبيراً لدولة “إسرائيل”.


وتمثل الإحراج الأكبر في أن أربيل سلّم المحققين كل ما لديه، حتى رقم هاتف المقر الرئيسي لـ”الموساد” في تل أبيب. ومع ذلك لم تقر “إسرائيل” بمسؤوليتها عن قتل المغربي أحمد بوشيكي لكنها قدمت المساعدة القانونية للدفاع عن المعتقلين، وقد وجدت المحكمة النروجية ان جهاز “الموساد” كان مسؤولاً عن عملية القتل وادانت المحكمة خمسة من المعتقلين الستة وحكمت عليهم بالسجن لمدد تراوحت بين سنة وخمس سنوات ونصف السنة لكن اخلي سبيلهم بعد وقت قصير من سجنهم عبر اتفاق سري بين حكومتي النروج و”اسرائيل” وعادوا الى البلاد حيث استقبلوا استقبال الابطال.

وعن تداعيات كل ذلك على وضع قيادة “الموساد”، يقول رونن برگمن ان رئيس الجهاز زفي زامير وقائد “وحدة قيسارية” مايك هراري احتفظا بمنصبيهما، غير ان حلم هراري بوراثة زامير بعد انتهاء ولايته تلاشى، وينقل عن احد العملاء المخضرمين في وحدة “قيسارية” موتي كفير قوله “لقد كانت عملية ليلهامر فشلاً ذريعاً بدءاً من الذين كانوا يتعقبون الهدف الى الذين اطلقوا النار.. ومن جهاز “الموساد” الى كل دولة اسرائيل، وبمعجزة ما، نجا المسؤولون الفعليون عما حصل من اي اذى او مساءلة”. يقول رونن برگمن إن هذه المعجزة اسمها جولدا مائير (رئيسة الوزراء) التي كانت من اشد المعجبين بجهاز “الموساد”، وينقل عن هراري زعمه انه اقر وزامير “بالمسؤولية عما حصل وعرضنا لجولدا (مائير) إستقالتنا الفورية من منصبينا لكنها قالت لنا انها لا تريد ان تسمع هذا الكلام ابداً وان هناك امورا مهمة يجب القيام بها وهناك حاجة كبيرة لنا.

لذلك يجب ان نبقى”. يضيف هراري انه في الاسابيع التي تلت العملية، دعته جولدا مائير الى بيتها المتواضع في تل ابيب “وصنعت لي الشاي بيدها في مطبخها وعملت جاهدة إلى رفع معنوياتي”. يقول برگمن ان فشل عملية ليلهامر رفع من منسوب الحذر في سياسة القتل المتعمد التي تعتمدها وحدة “قيسارية” ففي الرابع من سبتمبر (عام 1973) كان هراري يتولى قيادة عملية واسعة النطاق لوحدته ووحدة “قوس قزح” (تعمل كلا الوحدتين في القتل المتعمد) في روما حيث كان وعملاء الوحدتين يتتبعان مجموعة من “منظمة ايلول الاسود” يقودها امين الهندي، وهو من ضمن لائحة الأحد عشر إسماً في لائحة القتل لدى “الموساد” ممن يُعتقد انه لهم نصيب من المسؤولية عن عملية ميونيخ (قتل الرياضيين “الاسرائيليين”) وكانت (مجموعة روما) تعمل بتوجيهات من الزعيم الليبي معمر القذافي الذي جهّزهم بست صواريخ مضادة للطائرات من طراز “ستريلا اس اي 7” التي تطلق عن الكتف وهي دقيقة جدا في اصابة اهدافها، وكان هدف هذه المجموعة اسقاط احدى طائرات “العال” مباشرة بعد اقلاعها من مطار “فيمشينو” في روما. لاحق مايك هراري وفريقه اعضاء هذه المجموعة فيما كانوا ينقلون الصواريخ الى شقة في منطقة “اوستيا” في احد ضواحي روما على مرمى حجر من مدرج المطار، وبحسب هراري، فان المجموعة كانت تنوي اطلاق الصواريخ من على سطح المبنى الذي كانت تقيم في أحد شققه.

يروي الكاتب ان هراري ورئيسه زامير كانا يجلسان على ارضية عشبية قرب احد الملاعب، حيث كان اطفال يلهون برفقة أمهاتهم، مقابل البناء الذي كانت فيه شقة مجموعة الهندي وكانا يتناقشان مع القاتل المحترف ناهيميا مائيري الذي كان يرجوهما ان يسمحا له باقتحام الشقة، قائلاً “دعوني ادخل. سأقتلهم خلال دقيقة واحدة وآخذ الصواريخ وأخرج”. لكن بعد فشل عملية ليلهامر، كان زامير وهراري حذرين جداً، وبعد اعتراض مائيري الغاضب، قال له زامير:”ناهيميا، ليس الآن. هذه المرة سنخبر الاستخبارات الايطالية وهي ستتولى الأمر بيدها”، فرد عليه مائيري قائلاً “وماذا سنُحصّل من وراء ذلك؟ سيقوم العرب باختطاف طائرة ايطالية او يهددون الطليان فيقوم الآخرون باطلاق سراح هؤلاء الاشخاص”؟. وهنا تدخل هراري قائلاً له “لو كانت طائرة العال في حالة خطر داهم، لكنا لم نكتف بتفجير الشقة التي يقيم فيها هؤلاء الاشخاص بل المبنى برمته، ولكن ما تزال امامنا بضع ساعات قبل ان يطلقوا الصواريخ بالاضافة الى ذلك عندما فجرنا الهمشري (في منزله في العاصمة الفرنسية باريس) كنا نعلم ان العبوة ستطيح فقط بمصباح الزاوية والمقعد الذي يجلس عليه بالاضافة الى رأسه ولكن هنا، يبدو الامر مختلفاً. كيف لي ان اسمح لك ان تبدأ عملية تبادل لاطلاق النار في مبنى سكني مؤلف من ست طبقات في الوقت الذي لا اعرف من هم جيرانهم في هذا المبنى ومن يمكن ايضا ان يصاب باذى؟ ربما يكون رئيس الوزراء الايطالي نفسه يعيش في الشقة المجاورة او ربما تكون جدة رئيس الوزراء”؟

يقول برگمن ان مائيري لم يقتنع بالحجج التي ساقها المسؤولون عنه وازداد غضبه عندما امره زامير ان يكون ممثلا لـ”الموساد” لدى الشرطة الايطالية لإرشاد رجالها الى الشقة المستهدفة لأنه كان افضل من يتكلم اللغة الايطالية في الوحدة. ورد مائيري على هذا الامر بالقول “اذا رأوني، سأحترق (أنكشف) كعميل ولن يكون بامكاني المشاركة في تنفيذ اية عملية مستقبلاً”، فحاول هراري تهدئته قائلاً “لا تقلق يا ناهيميا فلدينا في اسرائيل افضل جراحي التجميل في العالم، سنعطيك وجها جديدا وسيكون افضل بكثير من الذي تحمله الان، اذهب وارشدهم الى الشقة”. داهمت الشرطة الايطالية الشقة واعتقلت كل مجموعة امين الهندي بداخلها ولكن حصل تماما ما كان يقوله مائيري. لاحقاً، وتحديداً بعد ثلاثة أشهر، أطلق الإيطاليون سراحهم بضغط من معمر القذافي. اما وحدة “الحربة” للاغتيالات والقتل المتعمد التي كان مائيري احد ضباطها، فقد اهملت بعد عملية ليلهامر لا سيما ان السلطات النروجية كانت قد عثرت بحوزة المعتقلين بعد العملية على جواز السفر الايطالي المزور الذي استخدمه مائيري، ما ادى الى تقليص سفره وصولاً إلى تركه “الموساد” بعد فترة وجيزة.

حرب أكتوبر، كما يرويها برگمان: فائض القوة يهزم إسرائيل

يقول رونن برگمن ان الفشل الذريع الذي انتهت اليه عملية ليلهامر في النروج (قتل عامل مغربي لجمع النفايات ظنّ الموساد انه القيادي الفلسطيني الفتحاوي ابو حسن سلامة) لم يستطع ان يطغى على شعور النشوة العارمة التي كانت تعيشها القيادات العسكرية والسياسية “الاسرائيلية” جراء عملية “ربيع الشباب” (اغتيال القادة الفلسطينيين الثلاثة كمال ناصر وكمال عدوان وأبو يوسف النجار في بيروت). فعملية قتل القادة الفلسطينيين اوجدت شعورا من الثقة الفائضة لدى القيادات “الاسرائيلية” وليس فقط لدى قيادة “الموساد”. بعد يومين عملية فردان (ليل 10 أبريل 1973)، تسلق وزير الدفاع موشيه دايان اعلى قمة حصن “ماسادا”. (قلعة تقع على مرتفع صخري بارز شرق صحراء النقب الفلسطينية بالقرب من البحر الميت بارتفاع 49 متراً عن مستوى البحر الابيض المتوسط. وتقول الاسطورة اليهودية ان ماسادا كانت عبارة عن صخرة حولها ملك اليهود هيرود الذي نصبه الرومان على القدس الى قلعة حصينة بين العامين 31 و37 قبل الميلاد وقد فضل اليهود المتعصبون المقيمون في القلعة ان يقتلوا انفسهم وكل افراد عائلتهم على الاستسلام للرومان). من تلك القمة، اعلن دايان أننا “سننشيء اسرائيل جديدة بحدود واسعة جدا وليس فقط بالحدود التي انشئت عليها في العام 1948”. [15]

يضيف برگمن، ان الثقة بالنفس يمكن ان تنحدر بسهولة الى ثقة زائدة وهو ما ادى الى مزالق اكبر بكثير من تلك التي وقعت فيها وحدة “قيسارية” في ليلهامر، وينقل الكاتب عن ايهود باراك قائد عملية قتل القادة الفلسطينيين والذي تولى بعدها الكثير من المسؤوليات العسكرية والسياسية من ضمنها رئاسة اركان الجيش ووزارة الدفاع ورئاسة الوزراء قوله ان هذه الغطرسة لها عواقب كارثية على الامة باجمعها، ويضيف باراك “لقد بدا لي ان قادة البلاد وصلوا الى استنتاجات خاطئة بعد عودتنا من العملية الناجحة في بيروت، فقد ادت العملية الى اضفاء شعور زائد بالثقة بالنفس يفتقد الى الاسس، فمن المستحيل ان تبني على عملية كوماندوس موضعية لكي تُعمم الامر على قدرات الجيش بأكمله، وكأن جيش الدفاع الاسرائيلي بات قادرا على فعل اي شيء واننا بتنا لا نُقهر، فقد رأى وزير الدفاع ورئيسة الوزراء وكل المسؤولين الاخرين ان الموساد ووحدة سيريات تلقوا امرا وعملوا خلال اسابيع قليلة على تنفيذه بنجاح وهذا ما اعطاهم شعورا ان هكذا قدرات هي حالة عامة في كل المؤسسة العسكرية، ولكن نجاحنا في حرب الايام الستة وفي العمليات التي تلتها كانت ناجمة عن التخطيط الدقيق والاستخدام الاقصى لعنصر المفاجأة، فقد كنا نحن من يبادر ومن يحدد الجدول الزمني والنتائج. ومع شعورنا المستجد بالامن والرضا عن النفس لم نفكر ابدا انهم يمكن ان يفاجئونا هم ايضا وان يتسببوا لنا بضرر بالغ”.

يضيف برگمن ان الايمان العميق بقدرات القوات المسلحة والاعتقاد بان الاذرع العسكرية الثلاث، الجيش و”الشين بيت” و”الموساد” بامكانهم ان ينقذوا “اسرائيل” من اي خطر يتهددها، جعل القيادات السياسية تشعر بان لا حاجة ملحة للتوصل الى تسوية ديبلوماسية مع العرب، على الرغم من عدم موافقة الآخرين خارج البلاد على هذا الامر. ففي العام 1972 اطلق مستشار الامن القومي الاميركي هنري كيسنجر مبادرة دبلوماسية سرية هدفت الى التوصل الى اتفاق سلام او اتفاق عدم اعتداء بين مصر و”اسرائيل”، فقد كان كيسنجر يعتقد انه طالما ابقى “الاسرائيليون” على احتلالهم للاراضي المصرية التي غنموها عام 1967، فان مصر ستفعل كل ما يمكنها لاستعادة تلك الاراضي، وانها مسألة وقت قبل اندلاع الحريق الهائل في الشرق الاوسط. ويتابع برگمن ان مبادرة كيسنجر وصلت الى ذروتها مع الاجتماعات الدراماتيكية التي حصلت في احد المنازل السرية الآمنة للوكالة “سي اي ايه” في شارع ارمونك في نيويورك في 25 و26 فبراير عام 1973 بينه وبين مبعوث رسمي مصري أوفده الرئيس أنور السادات. خلال تلك الاجتماعات السرية، اعلن المبعوث المصري عن استعداد بلاده لتوقيع اتفاقية سلام مع “اسرائيل” شرط أن تتضمن اعترافاً “اسرائيلياً” بالسيادة المصرية على شبه جزيرة سيناء مع الابقاء على الجنود “الاسرائيليين” فيها، على ان ينسحبوا منها بشكل كامل لاحقا مقابل اقامة علاقات دبلوماسية بين البلدين، وهذا الامر كان بصورة غير مسبوقة لصالح “اسرائيل”، ومقابل ذلك، انذر الرئيس المصري انور السادات “الإسرائيليين” انه ما لم يتم الأخذ بهذا العرض في مهلة اقصاها شهر سبتمبر، ايلول فانه سيذهب الى الحرب. فجاء الرد من رئيسة الوزراء جولدا مائير بالرفض قائلة لكيسنجر “سنمرر هذا الامر”، اما وزير دفاعها موشيه دايان، فقد قال رداً على العرض المصري “أنا افضل شرم الشيخ من دون سلام على السلام من دون شرم الشيخ”!

في غضون ذلك، كانت كل من مصر وسوريا في ذروة تحضير قواتهما للحرب، فقد كانتا تناوران بتحريك قوات كبيرة نحو الخطوط الامامية ومن ثم الى الخلف. كما كانتا تجريان تدريبات جوية مكثفة مع حيازتهما على انظمة صواريخ ارض ـ جو سوفياتية الصنع وتدربان قوات الكوماندوس لديهما على استخدام صواريخ “ساجر” المضادة للدروع وتقومان بمناورات عسكرية ضخمة تضمنت سيناريو عبور قناة السويس بقوات كبيرة. يقول رونن برگمن، أن كل ذلك كان بمثابة تحضير واضح للحرب ولكن لم تكن هناك اية تقارير استخبارية تؤكد هذه الحقيقة بل على العكس فقد دأبت المؤسسة العسكرية “الإسرائيلية”على وصف ذلك بانه “مجرد الاعيب حربية”، فقد كان رئيس الاركان اليعازر على يقين بان جهازي “الموساد” و”امان” سيكونان قادرين على توفير 48 ساعة من الانذار المبكر لـ”اسرائيل” قبل نشوب اية حرب، وهي مهلة كافية لاستدعاء الاحتياط العسكري لديها، ولم يكن اليعازر وقادته العسكريين قلقين على اي حال بل كانوا يشعرون بالثقة بان العرب كانوا مرعوبين من “اسرائيل” ولن يتجرأوا على البدء بالحرب، واذا ما فعلوا “فاننا باعطاء امر صغير سنكسّر عظامهم”. هنا يختم برگمن قائلاً: لقد كانوا مخطئين.

في كل ما سبق وما يتبع يحاول الكاتب ان يقلّل من شأن الانجاز العسكري التاريخي والمشهود الذي حققه الجيشان المصري والسوري، كل على جبهته، اذ انه يغيّب بصورة متعمدة انجاز الجيش المصري في تنفيذ خطته المحكمة والجريئة وغير المسبوقة في التاريخ العسكري لعبور قناة السويس وضرب خط بارليف الذي كان يتحصن خلفه الجيش “الاسرائيلي” على طول الضفة الشرقية للقناة، كما يغيّب الانجاز السوري في تسلق مرتفعات الجولان القاسية العلو. ويمضي برگمن في روايته لحرب اكتوبر بطريقة توحي وكأن جبهتي السويس والجولان كانتا شبه خاليتين من الجنود “الاسرائيليين” في حين يضخم عدد القوات المصرية والسورية المهاجمة والاسلحة التي استخدمت.

يقول برگمن إنه في الساعة الثانية من بعد ظهر السادس من أكتوبر، شن الجيشان المصري والسوري هجوما متوازيا ضخما ومفاجئا على “اسرائيل”، لقد كان ذلك اليوم “عيد الغفران اليهودي” حيث يصوم فيه اليهود، وحتى غير المتدينين منهم، ويذهبون الى الكنيس (دار العبادة عند اليهود) او يبقون في بيوتهم، وهكذا فان عديد القوات التي كانت منتشرة في الخطوط الامامية كان ضئيلا جدا وهي عبارة عن وحدات مؤلفة من مئات من جنود الاحتياط الذين وضعوا هناك للسماح لجنود القوات النظامية بالذهاب الى بيوتهم لقضاء العيد مع عائلاتهم. مقابل هذه الوحدات، يضيف برگمن، دفع المصريون 2200 دبابة و2900 عربة مدرعة و2400 مدفع ومئات الالاف من جنود الكوماندوس والمظليين، لعبور قناة السويس. وعلى جبهة الجولان السورية، دفع الجيش السوري بستين الف جندي (ان مساحة ميدان المعركة لا يمكن ان تستوعب هذا العدد من الجنود) مدعمين بـ 1400 دبابة و800 مدفع. كما فعّل الجيشان قواتهما الجوية والبحرية. والجدير بالانتباه أن الارقام التي يوردها برگمن عن عديد الجيوش المصرية والسورية المتحركة على الجبهة والتجهيزات العسكرية التي بحوزتهم يستدعي السؤال كيف استطاعت كل هذه الجيوش ان تتحرك من دون ان تتمكن كل اجهزة الاستخبارات “الاسرائيلية” والجيش “الإسرائيلي” كشف “نوايا” مصر وسوريا، ولو قبل ثمان واربعين ساعة (بحسب ما كان ذكر الكاتب مسبقا)؟ الجواب البسيط هو ان هذه الاجهزة منيت بفشل ذريع تجنب الكاتب التعرض إليه.

يضيف برگمن انه خلال الايام الاولى للحرب، حقق الجيشان المصري والسوري انتصارات ملحوظة ضد الجيش “الاسرائيلي” الذي بالاضافة الى انه أُخِذَ على حين غرة، فانه قرأ تكتيكات الطرف الاخر بصورة خاطئة، فقد تمكن الجيش المصري من اقامة شريط ساحلي واسع على الضفة الشرقية لقناة السويس وتمكن الجيش السوري من اختراق مرتفعات الجولان والسيطرة عليها في العمق وبدأ يهدد بالتوجه نزولا الى وادي الاردن والجليل، “ولكن بمجهود جبار وتضحيات جسام تمكن الجيش “الاسرائيلي” من وقف الهجوم العربي”. هنا يزعم الكاتب ان الجيش “الاسرائيلي” تمكن من دفع الجيش المصري الى الضفة الغربية لقناة السويس وان وحدات منه تمكنت من عبور القناة وتقدمت لتصبح على بعد ستين ميلا (مائة كيلومتر) من العاصمة المصرية القاهرة (هذا الامر لم يحصل بالتأكيد وجل ما حصل هو ان كتيبة مؤللة من المظليين بقيادة أرييل شارون تمكنت من النزول خلف خطوط الجيش المصري الثالث على الضفة الشرقية للقناة واقفلت طرق امداده). ولا يأتي برگمن على ذكر اعلان الرئيس المصري انور السادات وقف الهجوم بصورة منفردة ومن دون تنسيق مع الجانب السوري، والدخول في مفاوضات “الكيلو مائة وواحد” مع الجانب “الاسرائيلي”، ما اراح الجيش “الاسرائيلي” وجعله يسحب الكثير من وحداته المقاتلة على الجبهة المصرية ليزجها في مواجهة الجيش السوري في مرتفعات الجولان. وهنا يقفز الكاتب عن هذه الحقائق للقول ان “الاسرائيليين” تمكنوا من دحر السوريين في المرتفعات وتقدموا حتى اصبحت العاصمة السورية دمشق تحت مرمى مدفعيتهم.

يصف برگمن حرب اكتوبر بانها نصر كبير لـ”اسرائيل” ولكن بكلفة باهظة حيث خسرت 2300 من جنودها في حرب كان بالامكان تجنبها عبر المفاوضات او على الاقل من خلال الإستعداد الإفضل لها عبر معلومات استخبارية مسبقة. هنا يناقض برگمن نفسه عندما يقول ان موجة عارمة من الاحتجاجات اجتاحت المجتمع “الاسرائيلي” (كيف يمكن للمجتمع ان يحتج على نصر كبير!)، ما ادى الى انشاء لجنة تحقيق خاصة اجبرت رئيس الاركان بن اليعازر على الاستقالة وكذلك الامر مع قائد جهاز “الشين بيت” زئيري بالاضافة على عدد كبير من كبار الضباط، كما بدّدت الحرب ولو مؤقتا الشعور العسكري والاستخباري “الاسرائيلي” بالتفوق ومعه الشعور بالامن، ويختم برگمن انه على الرغم من عدم تحميل لجنة التحقيق الخاصة المسؤولية لجولدا مائير ووزير دفاعها موشيه دايان، فان الضغط القوي للرأي العام ادى الى تقدم جولدا مائير باستقالتها من رئاسة الوزراء في 11 ابريل 1974.

أبو جهاد يطوي صفحة أيلول الأسود.. عمليتان موجعتان في فلسطين

يقول الكاتب رونن برگمن في كتابه “انهض واقتل اولا، التاريخ السري لعمليات الاغتيال الاسرائيلية”، إنه بعد شهر من استقالة جولدا مائير، وفي الرابعة والنصف فجر الثالث عشر من مايو 1974، قام ثلاثة عناصر من الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين بالتسلل من الاراضي اللبنانية الى الداخل “الاسرائيلي”، حيث اختبأوا في احد الكهوف حتى هبوط الليل، ولكن احد رجال شرطة الحدود لاحظ آثار أقدامهم، لكن تعذر العثور عليهم. وتحت ستار الظلام الدامس، شقّ الفدائيون الثلاثة طريقهم الى مستعمرة “معالوت”، وهي مستوطنة تبعد حوالي عشرة كيلومترات عن الحدود وتسكنها غالبية من المهاجرين الجدد. وفي طريقهم الى هذه البلدة، نفذوا كميناً ليلياً لآلية تنقل نساء عائدات من اعمالهن، فقتلوا امرأة وجرحوا اخرى قبل ان يواصلوا طريقهم. تم إستدعاء الجيش “الاسرائيلي” الى مسرح العملية، لكن الجنود فشلوا في العثور على منفذي الكمين. عند الساعة الثالثة والنصف من فجر الرابع عشر من مايو، وصل الفدائيون الثلاثة الى منزل عند اطراف المستعمرة نفسها (معالوت)، وكان اثنان منهم من ابناء مدينة حيفا ويتكلمون العبرية بطلاقة، وقد اخبروا سكان المنزل انهم من رجال الشرطة ويبحثون عن الارهابيين، وعندما فتحوا لهم الباب، بادروا إلى اطلاق وابل من الرصاص فقتلوا على الفور يوسف وفورتونا كوهين وولدهم موشيه واصابوا ابنتهم بيبي بجروح قبل ان يغادروا المنزل ويتجهوا الى منزل ياكوف كادوش احد سكان المستعمرة (يصفه الكاتب رونن برگمن بانه موظف حكومي محلي) وطلبوا منه ارشادهم الى مدرسة المستعمرة، وعندما فعل ذلك.. اطلقوا النار عليه ما تسبب بإصابته بجروح. عندما وصل الفدائيون الثلاثة الى مدرسة “ناتيف مائير”، كانت نيتهم ان يستلقوا هناك ليرتاحوا بانتظار مجيء الطلاب في الصباح ولم يتوقعوا ان يجدوا في المدرسة 85 شابة وشاباً تتراوح اعمارهم بين 15 الى 17 سنة بالاضافة الى عشرة من كبار السن كانوا نائمين هناك. كان هؤلاء الشباب قادمين من مدرسة دينية في مدينة صفد لقضاء ليلة واحدة. وعندما وصلت القوى الامنية الى مسرح العملية، صرخ الفدائيون مطالبين باطلاق سراح عشرين من رفاقهم في السجون “الاسرائيلية” بحدود الساعة السادسة صباحاً والا فانهم سيقتلون جميع الرهائن.[16]

كانت جولدا مائير لا تزال في مرحلة تصريف الاعمال، وعلى الرغم من مواقفها العدائية الشديدة، فانها بعد صدمة حرب اكتوبر والنتائج التي انتهت اليها لجنة التحقيق والتظاهرات الغاضبة ضدها، فانها لم تشأ ان يكون آخر عمل رسمي لها هو تعريض حياة مجموعة من الشبان للخطر. وقد دعمت الحكومة المصغرة موقفها هذا، غير ان وزير دفاعها موشيه دايان الذي كان ايضاً على وشك مغادرة موقعه الرسمي لم يوافق، فالسقوط المدوي له في حرب اكتوبر (حرب يوم الغفران، حسب برگمن، وهو الاسم “الاسرائيلي” الرسمي لهذه الحرب) ترك اثراً معاكساً عليه، فبعد ان كان الآلاف من المتظاهرين في تل أبيب يهتفون مطالبين بإقالته، شعر دايان ان مستقبله السياسي بات على حافة النهاية المذلة، فأراد أن يظهر التصميم والقوة فقال لرئيسة الحكومة “ان الطريقة الوحيدة للتعامل مع الارهابيين هي ان لا نعطيهم ما يريدون وان لا نسمح لهم بالخروج من هنا احياء.

يجب ان نقتلهم”. فاعطت مائير الامر بالموافقة على تنفيذ هجوم على الفدائيين. وعند الساعة الخامسة والربع فجراً تلقت وحدة “سييرت متكال” الامر باقتحام المدرسة. لم تكن وحدة “سييرت متكال” على قدر المهمة هذه المرة، فالقناص الذي اطلق الرصاصة الاولى، تسبب باصابة طفيفة لاحد اهدافه، والقوة المهاجمة التي كانت بأمرة اميرام ليفين دخلت الغرفة الخطأ في الطابق الخطأ (من المؤكد ان الفدائيين تمكنوا من التمويه وخداع القوة المهاجمة عبر نقل الرهائن في وقت مسبق الى غرفة وطابق مختلفين)، فرد “الارهابيون” ـ يضيف برغمان ـ على الهجوم برمي القنابل اليدوية واطلاق الرصاص عشوائيا على الرهائن. ولان الرهائن كانوا من المتدينين المتشددين فان الذكور منهم كانوا يجلسون قرب الحائط منفصلين عن الاناث اللواتي كن يجلسن في وسط الغرفة. وقد ادى ذلك الى تلقي الاناث الحصة الاكبر من الاصابات. فخلال ثلاثين ثانية من بدء الهجوم، تمكنت وحدة “سييرت متكال” من الوصول الى “الارهابيين” والقضاء عليهم لتظهر النتيجة الكارثية لهذا الهجوم: مقتل 22 من الرهائن، 18 منهم من الاناث؛ مقتل اربعة من كبار السن وجندي واصابة 68 شخصاً بجروح، وهؤلاء كانوا كل من نجا من الحادثة.

يقول الكاتب رونن برگمن إن هذه الوقائع وضعت النهاية “الكئيبة” لحياة جولدا مائير السياسية. وفي الثالث من يونيو عام 1974 حلّ اسحق رابين محلها في رئاسة الوزراء. ورابين، حسب برگمن، كان رئيس اركان الجيش “الاسرائيلي” في حرب الايام الستة عام 1967 وكان ايضا سفيرا سابقا في الولايات المتحدة، وعندما تولى منصب رئيس الوزراء كان في الثانية والخمسين من العمر، اي انه كان اصغر شخص يتولى رئاسة الوزراء في ذلك الوقت واول يهودي مولود في الكيان يتولى هذا المنصب. وكان يختلف في ادائه بالكامل عن طريقة مائير التي كانت تحاذر التدخل في توصيات مستشاريها العسكريين والاستخباريين، أما رابين، فكان يتدخل بادق واصغر التفاصيل لكل العمليات العسكرية وعمليات مكافحة الارهاب.

يتابع برگمن ان هجوم “معالوت” لم يكن سوى بداية لجولة جديدة من “الارهاب” كما انه كان جزءاً من تداعيات عملية “ربيع الشباب” (التي قتل فيها ثلاثة من القادة الفلسطينيين في شارع فردان في بيروت)، فبعد هذه العملية اجرت منظمة التحرير الفلسطينية تغييرات بنيوية وتنظيمية عديدة، وتركت عملية فردان اثارا مرعبة في نفوس الفلسطينيين. وينقل الكاتب عن رئيس وحدة “قيساريا” مايك هراري قوله “لقد اجبرناهم على الفرار والاختباء، لقد قمنا بشل حركتهم، ولم يكن بالامر السهل ان عرفات لم يكن ينام في السرير نفسه ليلتين متتاليتين”. وفي الجانب الاخر من المشهد، أدت عملية “ربيع الشباب” إلى تشديد قبضة خليل الوزير “ابو جهاد”، فمعظم الذين كانوا ينافسونه في القيادة قد ازيحوا من طريقه بفضل “اسرائيل”. وبعد عملية “ربيع الشباب”، قرر عرفات و”ابو جهاد” انهاء كل نشاطات “منظمة ايلول الاسود” ووقف الهجمات على اية اهداف خارج “اسرائيل” والاراضي الفلسطينية المحتلة. ويعتقد بعض المؤرخين والصحافيين، ومن ضمنهم فلسطينيون، ان الاعمال “الارهابية” ضد اليهود و”الاسرائيليين” في الدول الغربية كانت في النهاية تضر بالقضية الفلسطينية اكثر مما تساعد في دعمها، كما انهم رأوا أن هذا النوع من العمليات يعطي مشروعية لعمليات القتل المتعمد والاغتيال التي ينفذها “الاسرائيليون” ضدهم. ويقول اخرون ان تلك الاعمال حققت الهدف المنشود منها عندما حصلت منظمة التحرير على اعتراف دولي بها وصل الى حد دعوة ياسر عرفات للتحدث من على منبر الجمعية العامة للامم المتحدة في نيويورك.

بمعزل عن اي من الامرين هو الادق، يقول الكاتب رونن برگمن ان “ابو جهاد” الذي بات القائد العسكري الاعلى في منظمة التحرير اعطى اوامره بان تنحصر كل الهجمات “الارهابية” في داخل فلسطين المحتلة. فاخذ المقاتلون يتدفقون الى الداخل عبر المطارات والمرافىء الاوروبية او عبر الحدود الاردنية او كما فعل المقاتلون الذين نفذوا “عملية معالوت”، أي عبر لبنان. ولم يكن هذا الهجوم الذي خططت له ونفذته الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين سوى تنفيذا دقيقا للاستراتيجية الجديدة التي حددها “ابو جهاد”. فقد كان هذا الهجوم هو الاعنف منذ “عملية ميونيخ” وأسوأ هجوم يتم بالتسلل عبر الحدود الى الداخل “الاسرائيلي” وايضا لم يكن آخر هجوم من هذا النوع بل كان مؤشرا لما سيأتي من بعده.

يتابع برگمن، أنه في الساعة الحادية عشرة من ليل الخامس من مارس عام 1975 ابحر ثمانية من رجال “ابو جهاد” داخل المياه “الاسرائيلية”على متن مركب زاعمين انه مركب تجاري مصري، وفي عتمة ليل بلا قمر ركب “الارهابيون” الثمانية زورقا مطاطيا وابحروا به باتجاه شواطىء تل ابيب. هناك شقوا طريقهم فوق الرمال نحو الشارع حيث امطروا مبنى هيربيرت صاموئيل ايسبلانيد الشهير بوابل من النيران قبل ان يقتحموا “فندق سافوي” ويسيطروا عليه، وهو الواقع داخل سوق المدينة على بعد حي واحد من الشاطىء. ويشرح الكاتب الاسباب التي جعلت الفدائيين يموهون مركبهم بالهوية المصرية بالقول انهم كانوا يريدون تخريب الزيارة المرتقبة لوزير الخارجية الاميركي هنري كيسنجر الذي لم ييأس من الاستمرار في محاولته للتوصل الى سلام بين مصر و”اسرائيل”. ويعود الكاتب ليتابع نقلاً عن تقرير عسكري سري عن العملية بعد انتهائها “انها كانت المرة الاولى التي ينجح فيها الارهابيون في ايصال مجموعة مقاتلة الى داخل البلاد”. ويضيف ان “الارهابيين” كانوا على مسافة قريبة جداً من مجمع “كيريا” وهو مقر القيادات العسكرية والاستخبارية، ويضيف ان صلية من رشاش كلاشنكوف في حوزة الفدائيين اخترقت نافذة احدى الغرف حيث كان عدد من كبار القادة العسكريين مجتمعين.

يقول برگمن ان الفدائيين كانوا يحملون رشاشات كلاشنكوف وقاذفات قنابل وقد زرعوا المتفجرات حول غرفة كانوا يجمعون فيها إحدى عشرة رهينة هددوا بقتلهم ما لم تطلق “اسرائيل” خلال اربع ساعات سراح عشرين سجيناً فلسطينياً في سجونها. تواصلت المفاوضات خلال ساعات الليل وكانت تتولاها رهينة امرأة ناطقة باللغة العربية تدعى كوتشافا ليفي وهي زودت السلطات بمعلومات قيمة جداً عن المهاجمين وعما يحصل داخل الفندق. وبطبيعة الحال لم يكن لدى المسؤولين اية نية لتنفيذ مطالب المهاجمين بل كانوا يستفيدون من وقت المفاوضات لاعطاء الفرصة لوحدة “سييرت متكال” لاعداد خطتها للهجوم على الفندق وقتل الفدائيين. وفي الساعة 5:16 دقيقة فجراً اقتحم الفندق اربعون من رجال الكوماندوس التابعين لهذه الوحدة فقتلوا سبعة من الفدائيين واعتقلوا في وقت لاحق الفدائي الثامن. وقتل في اقتحامهم هذا ثمانية مدنيين وثلاثة جنود من ضمنهم ضابط رفيع كان في وقت سابق قائداً للوحدة. لقد اعتبرت هذه النتيجة فشلاً كبيراً، وينقل برگمن عن احد الضباط المشاركين في العملية اومير بارليف الذي اصبح لاحقاً قائداً لوحدة “سييرت متكال” قوله “لقد كان وقتاً عصيباً، فكل عدة اسابيع كنا نجمع في منتصف الليل ونحمل على طائرات هليكوبتر لنؤخذ الى موقع هجوم ارهابي، وعليك خلال الساعات القليلة الفاصلة عن بزوغ الفجر ان تعالج المشكلة. وعلى الرغم من ان كل العمليات كانت تحصل داخل إسرائيل لكنها كانت تختلف بطبيعتها عما كانت الوحدة معتادة على التعامل معه. فكل المبادرة وكل عنصر المفاجأة وكل التخطيط كان من الجانب الآخر، إنه أمر مخيف”.

رواية الموساد لعمليتي المدينة الرياضية ونيروبي.. أبو جهاد ووديع حداد

للتعويض عن ذلك، لجأت القيادة “الإسرائيلية” الى سلاح الجو. ففي منتصف شهر أغسطس عام 1975 سرّب احد عملاء “الموساد” في حركة فتح معلومة تفيد ان منظمة التحرير كانت تخطط لاقامة مهرجان جماهيري كبير في المدينة الرياضية في بيروت في الاول من أكتوبر، على أن يسبقه اجتماع موسع لقيادة حركة فتح في احد المكاتب المجاورة لملعب المدينة الرياضية. رأت قيادة “الموساد” ان هذه فرصة نموذجية للتخلص من ياسر عرفات وخليل الوزير (ابو جهاد) وفاروق القدومي وهاني الحسن ووديع حداد وقادة اخرين. على الفور، دعا رئيس الوزراء اسحق رابين الى وضع خطة سريعة لتنفيذ عملية لاغتيال هؤلاء مجتمعين. وفيما كان رئيس اركان الجيش وقائد سلاح الجو يؤيدان بشدة الهجوم الجوي، فان رئيس جهاز “امان” شلومو غازيت اعرب عن رفضه بشدة لذلك، قائلاً “لقد اخبرت وزير الدفاع شيمون بيريز بوجوب عدم التورط في عملية مكشوفة “مثل هذه”. لم يؤخذ اعتراضه بالاعتبار، وتم تعيين الرائد افييم سيلا، النجم الصاعد في سلاح الجو، منسقا عاما للعملية التي خصصت لها ثماني طائرات سكاي هوك هجومية وقاذفة قنابل من طراز فانتوم اف 4 كما وضعت عدة طائرات هليكوبتر في جهوزية تامة للتدخل في حال اسقاط اية طائرة وكانت هناك حاجة لانقاذ الطيار. مضى كل شيء حسب الخطة الى أن حان وقت التنفيذ.غيوم ملبدة تغطي سماء العاصمة بيروت، ولم تكن القنابل الإسرائيلية في ذلك الوقت تتمتع بالدقة المطلوبة في ظروف مناخية مشابهة وبالتالي لم يكن هناك تأكيدات بان الهدف سيتحقق بدقة. وبرغم المخاطرة، يقول الرائد سيلا “كان الامر مغريا خاصة مع كل التحضيرات الواسعة ومع استنفار سلاح الجو. لذلك قررنا المضي بالتنفيذ وقلت لقائد سلاح الجو بني بيليد إنه علينا الإستفادة من الفرصة، ارسل الطائرات وعسى ان تحصل معجزة مناخية”. وبالفعل، أقلع الطيارون بطائراتهم على هذا الامل، وعندما بلغوا اجواء بيروت وجدوا ان الغيوم ما تزال ملبدة. هنا لم يأخذ الرائد سيلا بالاعتبار الحافز المتوفر لدى الطيارين الذين كانوا على بينة من طبيعة الهدف واهمية التخلص من قيادة منظمة التحرير. كان الامر المعطى للطيارين يقضي بأن لا يرموا قنابلهم في حال عدم رؤيتهم هدفهم، فاستفاد الطيارون من الهامش الواضح لديهم في هذا الامر. غطسوا بطائراتهم تحت الغيوم وحتى إرتفاع ادنى من المسموح لهم به، وعندما رأوا انفسهم فوق الهدف رموا القنابل التي كانت مجهزة بآلة تفجير صغيرة موصولة الى الطائرة بسلك (فتيل)، ولانهم كانوا على ارتفاع منخفض بقيت فتائل القنابل غير مجهزة فسقطت القنابل على الارض وعلى اسطح الابنية من دون ان تنفجر “مثل كومة من البيض المهجور”، بحسب وصف سيلا نفسه. اسفرت الغارة عن مقتل سائق ابو جهاد الذي سقطت احدى القنابل غير المنفجرة عليه مباشرة. في اليوم التالي نشرت احدى الصحف اللبنانية رسما كاريكاتوريا يظهر طفلا فلسطينيا يبول على قنبلة إسرائيلية، اما ابو جهاد، فقد امر باجراء تحقيق داخلي لمعرفة من سرب المعلومات عن الاجتماع وبعد ثلاثة اشهر تبين لـ”الموساد” أنه خسر مصدرا مهما للمعلومات بعد ان تم كشفه واعدامه.[17]

ينتقل رونن برگمن بعد ذلك للحديث عن عملية اخرى كان مقررا ان يكون مسرحها العاصمة الكينية نيروبي فيقول انه في الوقت الذي بات توجه حركة فتح هو لتنفيذ عمليات داخل فلسطين المحتلة فقط، فان الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ابقت على توجهها في استهداف “الإسرائيليين” في العالم وبالاخص في اوروبا. وكان جورج حبش لا يزال قائدا للجبهة الشعبية ولكن العقل العملياتي اللامع في الجبهة كان وديع حداد، نائب حبش. وينقل برگمن عن ايلان مزراحي الذي كان يتولى مسؤولية العملاء “الإسرائيليين” العاملين داخل تنظيم حداد قوله “كان حداد يتمتع بموهبة خارقة في العمليات السرية لنقل المتفجرات الى مواقع الهجمات واخفائها هناك”. وينقل برگمن عن رئيس جهاز مكافحة الارهاب في “الموساد” شيمون ايزحاكي قوله “كان حداد يفضل العمليات النوعية المستندة الى التخطيط الدقيق وان كان الامر يتطلب وقتا اطول، والتدريب الذي كان يقدمه لرجاله في اليمن الجنوبي كان من النوع الذي لم نكن معتادين عليه”. هذا الاعجاب “الإسرائيلي” بحرفية حداد جعل جهاز الاستخبارات السوفياتية (كي جي بي) يعطيه اسما سريا هو “الوطني” وقدم له مساعدات سخية من اجل “الوصول الى اهدافنا الخاصة من خلال نشاطات الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين مع الاحتفاظ بالسرية الضرورية لهذا الدعم”، بحسب ما قال رئيس الـ”كي جي بي” يوري اندروبوف في رسالة بعث بها الى الزعيم السوفياتي ليونيد بريجينيف عام 1969. ويروي برگمن ان حداد تبادل والجهاز السري السوفياتي الخدمات عندما قام حداد باغتيال منشقين سوفيات وهاجم اهدافا تابعة لجهاز الاستخبارات الامريكية (سي اي ايه) مقابل حصوله على التمويل والتدريب والاسلحة المتطورة وعلى المعلومات الاستخبارية من الـ”كي جي بي” ومن جهاز الاستخبارات في المانيا الشرقية (“شتاسي”).

يصف برگمن حداد بانه شخص يملك استقلالية في قراره بالرغم من موقعه المسؤول في الجبهة الشعبية، ويقول انه في الوقت الذي اعرب فيه زعيم الجبهة جورج حبش عن ضرورة الالتزام ولو المؤقت بتوجه ياسر عرفات بعدم تنفيذ عمليات خارج منطقة الشرق الاوسط، فان حداد كان يقول لحبش إفعل أنت ما تشاء ولكن أنا ورجالي سنواصل عملنا بطريقتنا الخاصة. ينتقل برگمن للحديث عن عملية كبيرة كان حداد يفكر بها لسنوات طويلة، وقد سخّر في التخطيط لها الكثير من الوقت وجمع المعلومات، ولكنه ظل يؤجلها لاسباب تتعلق بالعقبات العملياتية المرتبطة بها، واهمها انه كان يحتاج لعملاء ذوي سحنات اوروبية الى ان لاحت في منتصف العام 1975 فرصة لتجاوز هذه العقبة. كانت لمنظمة التحرير الفلسطينية علاقة ممتازة مع منظمات يسارية متطرفة في اوروبا وقد انشأت لهذه المنظمات معسكرات تدريب في كل من لبنان واليمن الجنوبي الذي كان له علاقات جيدة جدا مع الاتحاد السوفياتي ولديه موقف متطرف في معاداة “إسرائيل”.

ويتابع برگمن ان حداد كانت علاقاته جيدة مع منظمة “الجيش الاحمر” في المانيا الغربية (منظمة بادر ماينهوف) التي كانت تتبنى الايديولوجيا الماركسية الفوضوية وتنفذ عمليات تعتمد نهج حرب العصابات ضد قوى الشرطة وحفظ القانون في المانيا الغربية. وكانت هذه المنظمة ترى “إسرائيل”، باضطهادها للفلسطينيين، احدى جبهات الحرب مع شياطين الامبريالية. وفي احد الايام، وبعد ان خرج اثنان من اعضاء هذه المنظمة من سجنهم في المانيا، هما توماس رويتر وبريجيت شولتز، تسللا خارج البلاد وتوجها الى معسكر تدريب تابع للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين قرب العاصمة اليمنية الجنوبية عدن حيث انضما الى رفاق لهما في منظمتهما. وقد وجد وديع حداد في هذين المواطنين الغربيين ضالته في العملية التي كان يخطط لها.

ينتقل الكاتب ليسرد تفاصيل تلك العملية قائلا ان ثلاثة من عناصر الجبهة الشعبية كلفوا بان ينتظروا خارج مطار العاصمة الكينية نيروبي لرصد وصول طائرة العال “الإسرائيلية” فيما كانت مهمة الالمانيين مراقبة بوابة الخروج من الطائرة لتاكيد موعد وصولها وابلاغ المجموعة بالخارج. وفور طيران الطائرة فوق المجموعة بالخارج كان عليهم ان يطلقوا عليها صواريخ ستريلا سام 7. وقد تدرب عناصر المجموعة لشهرين متواصلين قبل العملية على اطلاق صواريخ الستريلا ودرسوا مجسمات لمطار نيروبي صنعها لهم خبراء في الجبهة الشعبية كانوا اجروا استطلاعات وافية للمطار وحددوا منطقة على مسافة قصيرة غربي المطار مكتظة باشجار عالية الارتفاع ومحاطة بشجيرات الصبار تقع بين طريق مومباسا وسور منتزه نيروبي الوطني. من هذه النقطة، كان يمكنهم رصد ورؤية مدرج المطار بوضوح. وقبل اسبوعين من تنفيذ العملية، هرّب عملاء الـ”كي جي بي” صاروخي ستريلا الى كينيا، وقبلها بتسعة ايام دخل منفذو العملية الثمانية (علما انه قال سابقا خمسة وليس ثمانية) الى كينيا بصورة متفرقة وبجوازات سفر مزورة ونزلوا في احد الفنادق في وسط العاصمة.

يضيف الكاتب كان كل شيء جاهزا لتنفيذ الهجوم ولكن جهاز “الموساد” وعبر عميل تابع لوحدة “المفصل” الاستخبارية داخل منظمة حداد اسمه الحركي “تعاسة” (تردد إسمه في عمليات عديدة ضمن الكتاب) سرب معلومات عن العملية ليفجر نقاشا واسعا داخل الجهاز بسبب اصرار قائد وحدة “المفصل” شاموئيل غورين على حماية سرية العميل “تعاسة” اكثر من اي شيء اخر، واعرب عن خشيته من انه اذا تم كشف الخطة لاجهزة الامن الكينية ومساعدة هذه الاجهزة على احباط الهجوم، فان عميله “تعاسة” قد ينكشف وينتهي امره. لذلك، اقترح افشال الخطة عبر ما يسمى بـ”العمل العبري” والذي كان يعني قيام عملاء وحدة “الحربة” بتنفيذ القتل المتعمد بحق العاملين على تنفيذ العملية، وذلك من دون اشراك الاجهزة المحلية بالمعلومات. في مقابل ذلك، كان هناك راي اخر لرئيس قسم العلاقات الخارجية في “الموساد” ناؤوم ادموني الذي كان سابقا رئيس عمليات الجهاز في افريقيا لوقت طويل وكان على معرفة وثيقة بالرئيس الكيني جومو كينياتا ومسؤولي استخباراته، فقد اعترض ادموني بقوة على تنفيذ هكذا عملية تحت انف السلطات المحلية. بالاضافة الى هذا الموقف كانت هناك اعتبارات عملياتية يجب النظر اليها وابرزها ان وحدة “الحربة” كانت في مرحلة اعادة التنظيم بعد عملية ليلهامر الكارثية (عندما قتل عملاؤها بعملية معقدة جدا شخصا مغربيا للظن بانه مسؤول الامن في حركة فتح ابو حسن سلامة)، وينقل برگمن عن احد مسؤولي “الموساد” السابقين اليعازر تسافرير قوله “لقد شعرنا ان التعاطي في الوقت نفسه مع عدة اشخاص يحملون بين ايديهم صواريخ سيكون امرا معقدا للغاية”.

يحاول الكاتب اخفاء التنسيق بين “الموساد” والاستخبارات الامريكية في هذه العملية ولكن محاولته تتهاوى عندما يقول ان رئيس “الموساد” ايسحاق هوفي كان في زيارة لنظرائه في الـ”سي اي ايه” في لنغلي (مقر قيادة السي اي ايه قرب واشنطن) عندما ارسل الى رئيس الوزراء اسحق رابين توصية واضحة تقول لا تستخدموا وحدة “الحربة” ونسقوا مع السلطات الكينية. وهكذا حسم الامر وتخلى “الإسرائيليون” عن فكرة قتل المجموعة التي تعتزم تنفيذ الهجوم على الطائرة “الإسرائيلية” وبدأوا العمل مع اجهزة الامن الكينية. وفي وقت متأخر من ليل الجمعة في 23 يناير عام 1976 طار 17 عميلا “إسرائيليا” من القاعدة الجوية “الإسرائيلية” رقم 27 متجهين الى نيروبي في عملية اسميت “حرقة القلب”. وما ان حطت طائرتهم في نيروبي حتى اجتمع ادموني مع مسؤولي الاستخبارات الكينية واعلمهم بالهجوم. صُدِمَ الكينيون بالامر وغضب الرئيس كينياتا بالاخص عندما علم بتورط الصومال في العملية ايضا. واعرب الكينيون عن رغبتهم في التعاون وعن سعادتهم لعدم قيام “الموساد” بالتصرف من دون علمهم ولكنهم اصروا على معرفة مصدر معلومات “الموساد” عن العملية للتأكد من انهم سيتصرفون وفقا لمعلومات موثوقة جدا، ولكن ادموني رفض بتهذيب كشف المصدر.

بعد ان يروي الكاتب تفاصيل التنسيق بين الاجهزة الامنية الكينية ومجموعة “الموساد” المكلفة بعملية “حرقة القلب” وتفاصيل تنفيذ عملية اعتقال كل اعضاء المجموعة المكلفة بالهجوم على الطائرة “الإسرائيلية” قبل ان يتمكنوا من تنفيذ عمليتهم، يقول ان الكينيين كانوا مصرين على عدم خروج اية معلومات عن العملية الى العلن لخوفهم من الوقوع تحت وطأة الضغوط العربية في المحافل الدولية والاقليمية والافريقية. لذلك، اقترحوا احد امرين “اما ان يؤخذ المعتقلون الى الصحراء ويقدموا غداء دسما للذئاب”، او ان يأخذهم “الإسرائيليون” من دون ان يتم الكشف ان السجناء كانوا لديهم قبل ذلك. ولان “الإسرائيليين” كانوا يأملون ان يحصلوا من المعتقلين على معلومات عن وديع حداد ونشاطاته، فقد فضّلوا الخيار الثاني لاخفاء المعتقلين في إسرائيل ووضعهم في عزلة تامة قبل محاكمتهم سرا. يقول الكاتب ان هذه ربما تكون المرة الاولى قبل احداث 9/11 التي يتم فيها ترحيل معتقلين مشتبه بهم من بلد الى آخر بصورة سرية ومن دون اية محاكمة ومن دون اوراق قانونية. وهكذا فقد طار الى نيروبي محققون من الوحدة 504 في جهاز “امان” الاستخباري برفقة طاقم طبي حيث تم تخدير خمسة سجناء ووضعوا على متن طائرة “إسرائيلية” خاصة في رحلة دامت ست ساعات الى “إسرائيل”.

يقول الكاتب ان المعتقلين الخمسة (المانيان وثلاثة فلسطينيين) اعتقلوا في زنازين منفردة ومظلمة وعارية الجدران في مركز اعتقال داخل قاعدة جنوب شرق تل ابيب تحمل اسما سريا “الحشوري”، وكان يجري تخديرهم بصورة متواصلة حيث يصار الى تنفيذ “لعبة الاشباح” معهم، بحسب قول رئيس قسم التحقيقات في جهاز “الشين بيت” اريه هدار. ويضيف “كنا نرتدي اقنعة وحجابات بعد ان نكون قد اوصلناهم الى قناعة انهم ماتوا وباتوا في العالم الاخر”. ويصف الكاتب المحقق “واي” (يذكر فقط حرفا واحدا من اسمه) بانه كان يتولى عمليات تدريب الوحدات الخاصة للجيش “الإسرائيلي” على التحقيق مع سجناء الحرب، وخلال احدى جلسات التدريب هذه وقبل ان يتولى هو شخصيا التحقيق مع المعتقلين الفلسطينيين القادمين من نيروبي تسبب بعطل دائم لاحد جنود وحدة “سيريات ميتكال” عندما ضربه بالعصا على عاموده الفقري. وبعد شهر من هذه الواقعة، اصيب احد المعتقلين الفلسطينيين الثلاثة القادمين من نيروبي باصابات بالغة تحت التحقيق استدعت نقله الى المستشفى حيث توفي، وقد اكد تقرير عن تشريح جثته انه تعرض لضرب شديد ادى الى الوفاة. كما نقل معتقل ثان منهم الى المستشفى لكنه تعافى بعد علاج لفترة طويلة.

يضيف برگمن ان المعتقلين الالمانيين نالا معاملة مختلفة في الاعتقال حيث استجوبهما محققون من جهاز “الشين بيت” وقام رئيس جهاز “امان” الجنرال شلومو غازيت شخصيا بزيارتهما، وينقل الكاتب عنه قوله بعد زيارته السيدة الالمانية المعتقلة شولتز “انها امرأة قوية جدا وتسيطر على نفسها وعلى المحيطين بها بارادة حديدية”. ولكن هدار تمكن في النهاية باسلوبه الهادىء والثعلبي وكلامه الناعم ومظهره البريء من السيطرة على المرأة. وفي نهاية المطاف، اعترف الالمانيان بانهما مذنبان وقدما معلومات قيمة عن وديع حداد وعن خططه المستقبلية. وينقل الكاتب عن هدار الذي كان يقدم نفسه للمعتقلين باسم هاري قوله “قبل ان نفترق اخذت بيد شولتز وسألتها يا بريجيت لنفترض انك يوما ما عدت الى المانيا، وقال لك اصدقاؤك انه عليك ان تقتلي هاري، ماذا انت فاعلة”، فاجابت من دون ان يرف لها جفن “بعد كل ما فعلته معي لا استطيع ان اقتلك يا هاري”، فشعرت بسعادة بالغة لاعتقادي ان شيئا ما تغير نحو الافضل في هذه المرأة ولكنها اضافت “سوف اطلب من احد ما ان يقتلك”.

جوائز

البحث

حسب برگمن، فقد حاولت وكالات المخابرات الخاصة التدخل في عمله، وعُقد اجتماعاً في عام 2010 لتعطيل أبحاثه وحذروا موظفي الموساد السابقين من إجراء مقابلات معه.[2]

المصادر

  1. ^ أ ب Szalai, Jennifer (2018). "'Rise and Kill First' Shines Light on Israel's Hidden Assassinations". The New York Times. Archived from the original on 8 March 2018. Retrieved 9 March 2018.
  2. ^ أ ب ت خطأ استشهاد: وسم <ref> غير صحيح؛ لا نص تم توفيره للمراجع المسماة Indep
  3. ^ ماهر أبي نادر (2020-11-27). "كتاب برگمن: أدرك الموساد خطورة عرفات.. متأخراً (19)". 180 پوست. Retrieved 2021-01-06.
  4. ^ ماهر أبي نادر (2020-11-07). "معركة الكرامة تكرّس زعامة عرفات.. و الموساد يريد رأسه؟ (20)". 180 پوست. Retrieved 2021-01-06.
  5. ^ ماهر أبي نادر (2020-12-29). "إسرائيل يوم قرّرت إغتيال أبو عمار بالتنويم المغناطيسي (21)". 180 پوست. Retrieved 2021-01-06.
  6. ^ ماهر أبي نادر (2021-01-06). "داغان قائد الموساد السابق.. جثة تقتل بلا رحمة! (22)". 180 پوست. Retrieved 2021-01-06.
  7. ^ "الفلسطينية ليلى خالد "أفضل إرهابية جذّابة في العالم" (23)". 180 پوست. 2021-01-15. Retrieved 2021-01-19.
  8. ^ ""أيلول الأسود" يرتد في اللد.. تل أبيب تدمّر مطار بيروت (24)". 180 پوست. 2021-01-24. Retrieved 2021-01-25.
  9. ^ "جولدا مائير تأمر بتصفية منفذي عملية ميونخ .. في أي مكان". 180 پوست. 2021-02-05. Retrieved 2021-02-18.
  10. ^ ماهر أبي نادر (2021-02-11). "عملية فردان: الجاسوسة "يائيل" ترصد أنفاس القادة الفلسطينيين الثلاثة (27)". 180 پوست. Retrieved 2021-04-05.
  11. ^ ماهر أبي نادر (2021-02-17). "باراك على رأس أكبر "فرقة إعدام" في بيروت..ماذا حصل في فردان؟ (28)". 180 پوست. Retrieved 2021-04-05.
  12. ^ ماهر أبي نادر (2021-02-25). "عملية فردان بلسان جاسوسة "الموساد": "كان عرضاً تُرفع له القبعات" (29)". 180 پوست. Retrieved 2021-04-05.
  13. ^ ماهر أبي نادر (2021-03-07). ""الموساد" يلاحق أبو حسن سلامة.. فيصطاد عاملاً في بركة سباحة". 180 پوست. Retrieved 2021-04-05.
  14. ^ ماهر أبي نادر (2021-03-14). "جولدا مائير تُغطي فشل إغتيال سلامة.. و"الحربة" تضرب في روما (31)". 180 پوست. Retrieved 2021-04-05.
  15. ^ ماهر أبي نادر (2021-03-21). "حرب أكتوبر، كما يرويها بيرغمان: فائض القوة يهزم "إسرائيل" (32)". 180 پوست. Retrieved 2021-04-05.
  16. ^ ماهر أبي نادر (2021-03-28). ""أبو جهاد" يطوي صفحة "أيلول الأسود".. عمليتان موجعتان في فلسطين (33)". 180 پوست. Retrieved 2021-04-05.
  17. ^ ماهر أبي نادر (2021-04-02). "رواية "الموساد" لعمليتي المدينة الرياضية ونيروبي.. أبو جهاد ووديع حداد (34)". 180 پوست. Retrieved 2021-04-05.
  18. ^ "Past Winners". Jewish Book Council (in الإنجليزية). Retrieved 2020-01-21.{{cite web}}: CS1 maint: url-status (link)