نظام الحكم القديم

(تم التحويل من Ancien Régime)
Héraldique meuble Fleur de lys lissée.svg Héraldique meuble Fleur de lys lissée.svg Héraldique meuble Fleur de lys lissée.svg
مملكة فرنسا
الهيكل
طبقات المجتمع الاوروبي قبل القرن 19
الپرلمانات
النبلاء الفرنسيون
Taille
Gabelle
Seigneurial system
العلم الملكي لمملكة فرنسا

نظام الحكم القديم Ancien Régime (النطق الفرنسي: [ɑ̃.sjɛ̃ ʁe'ʒim]، النظام القديم)، كان نظام أرستوقراطي، اجتماعي وسياسي تأسس في فرنسا من حوالي القرن 15 حتى القرن 18 في أواخر عهد آل ڤالوا وبوربون. أتى التقسيم الاداري والبنى الاجتماعي في النظام القديم نتيجة لسنات من بناء الدولة، القوانين التشريعية (مثل مرسوم ڤيير-كوترت)، النزاعات الداعلية والحروب المدنية، لكنهم احتفظو بالامتيازات المحلية والمرجعيات التارخية حتى سقوط النظام بقيام الثورة الفرنسية.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

التقسيمات الادارية

توسعات الأراضي

توسع الأراضي الفرنسية من 1552-1798

الاستحواذات الفرنسية من 1461-1768:


التقسيمات الادارية

فرنسا عام 1477. الخط الأحمر: حدود مملكة فرنسا؛ الأزرق الفاتح: استحوذ عليها مباشرة بالنطاق الملكي.

كانت الطبقة الوسطى آنذاك أكثر فعالية وقوة في الدولة، لأنها شغلت كل المناصب، فيما عدا مناصب الوزارة التي كانت تتطلب عبير شجرة الأسرة أو عراقة الحسب والنسب، وكان أفرادها يشكلون البيروقراطية وصقلت مواهبهم بالانتقاء الطبيعي في ميدان الاقتصاد، وأثبتوا أنهم أمهر وأقدر من النبلاء سليلي الأسرات الواهنين الخاملين الذين ليس لهم ما يحفزهم على الجد والعمل. وفي الحق أن نبلاء الرداء في البرلمانات والحكام كانوا ينتسبون إلى البرجوازية من حيث الأصل والخلق. وتولت الطبقة الوسطى شئون الكوميونات والأربعين مقاطعة، وإدارات الحرب والتموين والمواصلات والمناجم والطرق والشوارع والجسور والأنهار والقنوات والثغور. وكان قواد الجيش من النبلاء، ولكنهم قاموا بحملات خططها لهم في باريس رجال من الطبقة الوسطى، بارعون في تخطيط الحرب. إن نمط البرجوازية الفرنسية في القرن التاسع عشر كان قد سبق تشكيله في القرن الثامن عشر.[1]

وكان المعترف به بصفة عامة أن الإدارة في فرنسا كانت أحسن إدارة في أوربا، ولكن كانت تشوبها عيوب قاتلة: كانت مركزية متغلغلة، مفصلة إلى حد إنها عوقت الابتكار والمبادرة والحيوية المحلية، وضيعت كثيراً من الوقت في نقل الأوامر والتقارير. وبالمقارنة بإنجلترا كانت فرنسا استبدادية مطلقة خانقة. فلم يكن مسموحاً بالاجتماعات العامة، ولم يؤخذ بالاقتراع الشعبي إلا في المسائل المحلية التافهة، ولم يقف أي برلمان في وجه الملك. وحسن لويس الخامس عشر الحكومة بإهمالها، ولكنه فوض إلى وزرائه سلطات ملكية مثل إصدار أوامر القبض أو الرسائل المختومة، وغالباً ما أسيء استخدام هذه السلطة. حقاً إن مثل هذه "الرسائل السرية"، أفلحت أحياناً في تسيير شئون الحكومة بسرعة عن طريق تجنب التفاصيل الفنية في الإجراءات الإدارية "الروتين الحكومي". وبإحدى هذه الرسائل أسس لويس الرابع عشر "الكوميدي فرانسيز" في عام 1680. وأنقذت بعض الرسائل سمعة إحدى الأسرات، بالزج بوغد لئيم في السجن دون بطاء ودون محاكمة علنية ربما كانت تكشف عن كوارث خاصة. كما أن بعض هذه الرسائل؛ كما حدث عند انتقال فولتير وسجنه للمرة الثانية، حال بين أحد الحمقى الذين يمكن الصفح عنهم، وبين إتمام حماقته. وفي حالات كثيرة صدرت الرسائل بناء على طلب والد يائس (مثل ميرابو الأكبر) من تقويم اعوجاج ابن جامح. وفي مثل هذه الحالات كان السجن خفيفاً قصير الأمد. ولكن كانت هناك حالات كثيرة من القسوة الصارخة، ومن أمثلتها احتجاز الشاعر ديفورج لمدة ست سنوات (1750-1756) في حجرة من الحديد لأنه استنكر تصرف الحكومة في نفي شارل إدوارد ستيوارت حفيد جيمس الثاني من فرنسا (وكانوا يسمونه المطالب الصغير بالعرش). وإذا كان لنا أن نصدق رواية الكاتب الألماني ولهلم جريم، وهو دقيق بصفة عامة، فإن الحكومة قدرت أعظم التقدير انتصارات موريس دي ساكس في المعارك إلى حد أنها أرسلت إلى الشاعر شارل فافار أمراً سرياً ليضم زوجته إلى قائمة خليلات دي ساكس. إن أية إساءة إلى أحد النبلاء من رجل عادي، أو أي نقد شديد يوجه إلى الحكومة، كان من شأنه أن يؤدي إلى صدور رسالة سرية مختومة تتضمن أمراً بالقبض والزج في السجن دون محاكمة أو قضية مبينة. ومثل هذه الأوامر التعسفية أثارت استياء متزايداً على مر السنين في هذا القرن الثامن عشر.

وعوق القانون الفرنسي مع تقدم الإدارة الفرنسية، وكان يختلف من مقاطعة إلى مقاطعة مما أعاد إلى الأذهان انفراد المقاطعات بعضها عن بعض باستقلالها الذاتي، في سالف الأيام. وكان في مختلف أقاليم فرنسا. 350 هيئة قانونية متباينة. وكان كولبير قد قام بمحاولة غير موفقة في تنظيم القانون الفرنسي وتحديده في "قانون العقوبات" الذي صدر في 1670 ولكن قانونه خلط بشكل مضطرب بين تشريع العصور الوسطى والحديثة، والتشريع الألماني والروماني، والتشريع الكنسي والمدني. وكان الملك يسن القوانين الجديدة وفقاً لمتطلبات الساعة، وعادة بناء على إلحاح وزرائه مع التسرع في التحقق من انسياقها مع القوانين القائمة. وكان من العسير على المواطن أن يتبين أي القوانين ساري المفعول في محل إقامته أو في قضيته.

وتولت "الشرطة الراكبة" تنفيذ قانون العقوبات في الأقاليم، أما في المدن الكبيرة فكان يتولاه "شرطة البلدية"، التي نظمها ودربها أحسن تدريب وتنظيم في باريس، مارك رينيه دي فواييه دي آرجنسون، الذي لم ينجب أبناء لامعين فحسب، بل أنه كذلك بوصفه قائد الشرطة من 1679 إلى 1718، اكتسب لقب "اللعين"، لأنه كان يبدو وكأنه شيطان، وأنه كان على أية حال مصدر رعب وفزع لمجرمي باريس، لأنه كان يعرف أوكارهم وأساليبهم، ومع ذلك كان (كما يؤكد لنا سان سيمون) "يتسم بالروح الإنسانية" -عطوفاً على البؤساء. وكان الشخص المقبوض عليه يسجن قبل المحاكمة، ويعامل معاملة لا تكاد تختلف عن معاملته وهو مذنب محكوم عليه بالعقوبة. وقد يقضي-مثل جين كالاس-شهوراً في السلاسل والأغلال والتعذيب العقلي، معرضاً للمرض في كل يوم بين الأقذار. وإذا حاول الهرب تصادر ممتلكاته، وإذا اتهم بجريمة كبرى لا يسمح له بالاتصال بمحام. ولم يكن هناك حق التحقيق في قانونية أمر الاعتقال (هابياس كوربس)، أو حق المحاكمة عن طريق المحلفين. وكان الشهود يسألون سراً، كل على حدة. وإذا أعتقد القاضي بأن المتهم مذنب، ولكن ليس هناك أدلة كافية لإدانته، كان له سلطة تعذيبه لينتزع منه اعترافاً. وقل حدوث مثل هذا التعذيب القضائي وخفت حدته على عهد لويس الخامس عشر، ولكنه ظل جزءاً من الإجراءات القانونية في فرنسا حتى 1780.

وتراوحت العقوبات من الغرامات إلى تمزيق الوصال. وكانت المشهرة مفضلة في عقاب عدم الأمانة في العمل. وكان اللصوص وصغار المجرمين يجلدون بالسياط، وهم يجرون مربوطين في ذيل عربة في الشوارع. وكان يمكن أن يكون الإعدام عقوبة الخدم إذا اقترفوا السرقة، ولكن مخدوميهم نادراً ما تمسكوا بتنفيذ هذا القانون. وفي 1748 أبطل بصفة رسمية الحكم بالتجديف في السفن الشراعية الكبيرة. وكان الإعدام هو العقوبة القانونية لمجموعة كبيرة متباينة من الجرائم منها السحر والشعوذة والتجديف على الله وسفاح ذوي القربى واللواط والعلاقة الجنسية بين إنسان وحيوان. ولم يعودوا يلجئون إلى قطع العنق أو شد المجرم إلى الخازوق لإحراقه. ولكن كان يمكن أن يزيدوا من روعة تنفيذ الحكم "بسحب المحكوم عليه وتمزيق أوصاله إلى أربعة أجزاء" أو تحطيم أطرافه بقضيب حديدي وهو مربوط إلى "دولاب" التعذيب. وروي "أن الناس، وبخاصة في باريس، كانوا دائماً يتطلعون في ابتهاج وسرور إلى تنفيذ حكم الإعدام".

وكان النظام القضائي معقداً مثل القانون تقريباً. وكان في الريف آلاف المحاكم الإقطاعية التي تطبق القانون المحلي، ويرأسها قضاة يعينهم السادة الملاك، وكان يمكن لهذه المحاكم أن تنظر في القضايا الصغيرة فقط، وليس لها أن تفرض من العقوبات إلا الغرامة البسيطة، وكانت أحكامها عرضة للاستئناف، ولكن الفلاح وجد أن من العسير عليه، ومما يكلفه نفقة باهظة أن يكسب قضية ضد السيد المالك. وعلاوة على محاكم السادة الملاك هذه كانت هناك محاكم محلية، وكان في كثير من المدن محاكم خاصة بالكوميونات وفوق كل هذه المحاكم الدنيا كانت هناك المحاكم الإقليمية التي تطبق القانون الملكي، وللملك أن يعين محاكم خاصة لأغراض خاصة. وكانت الكنيسة تحاكم رجالها بمقتضى قانونها الكنسي الخاص بها في محاكم كنسية. وكان المحامون يحتشدون في مختلف المحاكم وفيما حولها، مستفيدين من ولع الفرنسيين بالتقاضي. وكان في المدن الكبرى الثلاث عشرة برلمانات تتألف من قضاة يعملون على هيئة محاكم عليا لهذه المدن وما حولها، وعلى الأساس كان برلمان باريس يخدم ثلث فرنسا تقريباً. وطالب كل برلمان بأن أي مرسوم ملكي أو حكومي لا يصبح قانوناً إلا إذا عرض على البرلمان ووافق عليه وسجله. ولم يسلم المجلس الملكي للدولة بهذا الطلب قط، ولكنه في الغالب سمح للبرلمان بحق الاعتراض. ودارت أشد حقب التاريخ الفرنسي كآبة حول هذه المطالب المتعارضة والمتنازع عليها بين الملك والبرلمانات.

وبين برلمان باريس والملك قام الوزراء والبلاط. وشكل كل الوزراء معاً "مجلس الدولة" وكان البلاط يتألف من الوزراء علاوة على النبلاء أو رجال الدين أو أعيان العامة الذين كانوا قد قدموا إلى الملك، بالإضافة إلى معاوني رجال البلاط وخدمهم. وكانت هناك مراسم صارمة (بروتوكول) تحدد وضع كل رجل في البلاط ومسوغاته وأسبقيته وامتيازاته وواجباته، كما انه كانت هناك قواعد تشريفات معقدة مدروسة مفصلة تيسر الاحتكاك بين عدة مئات من الأفراد المزهوين الذين تملأ الغيرة والحقد قلوبهم، كما تثقل كواهلهم. كما أن المراسم والتشريفات الباذخة المسرفة لطفت من رتابة نظام الحاشية. وهيأت جو الغموض الذي لا غنى عنه للحكومة الملكية. وكانت ضروب التسلية الأثيرة لدى أفراد الحاشية هي الانهماك في القيل والقال والكل، والميسر والصيد والقنص والزنى. وقال سفير نابلي "إن تسعة أعشار الناس في فرنسا يموتون جوعاً، والعشر يموت من عسر الهضم وكانت مبالغ الخسارة والمكسب على موائد القمار جسيمة. ولكي يسدد رجال الحاشية ديونهم كانوا يبيعون نفوذهم لمن يدفع مبلغاً محترماً لأحد أفراد الحاشية، وكان لكل زوج في البلاط، تقريباً، عشيقة، ولكل زوجة تقريباً عشيق. ولم ينكر أحد على الملك خليلاته، وكل ما شكا منه النبلاء أن الملك صحب معه إلى فراشه مدام دي بمبادور وهي سيدة من عامة الشعب على حين انهم ربما أحسوا أنه قد يشرفهم أن يفترع جلالته بناتهم البكارى.

وعلى الرغم من أن لويس الخامس عشر كان قد بلغ سن الرشد رسمياً في 1723، فإنه كان آنذاك في سن الثالثة عشرة، وعهد بالإدارة إلى لويس هنري، الدوق دي بوربون. وكان التفكير قد اتجه لشغل هذا المنصب إلى كونت دي تولوز، وهو أحد أبناء لويس الرابع عشر الذين أضيفت عليهم صفة الشرعية، ولكنه استبعد "لأنه لفرط أمانته لا يصلح أن يكون وزيراً" وكان السيد الدوق دي تولوز "نفسه رجلاً طيب الشعور، بذل كل ما في وسعه للتخفيف من فقر الشعب، وفكر في تحقيق هذا الغرض عن طريق وضع نظام يحدد الأسعار والأجور بصفة رسمية، ولكن قانون العرض والطلب جيب آماله. وتجاسر على فرض ضريبة دخل قدرها 2% على كل الطبقات فاحتج رجال الدين وتآمروا على سقوطه وأباح لعشيقته المركيزة دي بري من النفوذ والسلطان أكثر مما ينبغي، وكانت ذكية، ولكن ذكاءها كان دون جمالها، فاحتالت على زواج لويس الخامس عشر من ماري لزكزنسكا، أملاً في أن تستبقي الملكة الشابة تحت تأثيرها. ومهما يكن من أمر فإن ماري سرعان ما فقدت نفوذها وعطفت مدام دي براي على فولتير، وأقصت رجال الدين ودفعت الدوق إلى مهاجمة الأسقف الذي يتولى تعليم الملك، والذي كان قد أوصى الملك باختيار الدوق ليكون وزيره الأول. ولكن الملك كان يعجب بمعلمه ويثق فيه أكثر من أي رجل آخر في الدولة.

وكان أندريه هركيل دي فليري قد عين أسقفاً في فريجيس 1698 ثم مؤدباً للملك 1715. وسرعان ما أصبح ذا تأثير شديد على عقل الصبي. وكان الأسقف فارع الطول وسيماً مرناً لبقاً، كسولاً بعض الشيء لا يتعجل الحظ والثراء أبداً، ولو أنه وصل إلى ما يصبوا إليه. واعتقد ميشيليه وسانت بيف أن فليري، باعتباره معلماً، كان قد أضعف شخصية الملك الصغير بإطلاق العنان لرغباته وشهواته في ابتهاج خال من الهموم والتفكير، ورباه على مساندة اليسوعيين والعطف عليهم. ولكن فولتير، الذي لم يكن صديقاً لرجال الدين، أعجب بفليري، وقدره أعظم تقدير، معلماً ووزيراً، على حد سواء وأخذ فليري على عاتقه أن يشكل ذهن تلميذه ويدربه على العمل والتكتم والاستقامة والأمانة، وعلى أن يصون نفسه وسط تعجل الحاشية وهياجها وصخبها، طيلة الفترة التي لم يبلغ فيها الملك سن الرشد، والتي نعم فيها بحسن تأثير الوصي وتقدير الشعب. ولم يمن فليري قط بقيمة خدماته، ولم يشكك قط من الآخرين، ولم يغمس يده في مكائد الحاشية ودسائسهم قط. وحاول سراً أن يتعرف على شئون المملكة في الداخل ومصالحها في الخارج. وصفوة القول إن سلوكه الواعي الحذر ومزاجه اللطيف جعلا كل فرنسا تود أن تراه على رأس الإدارة فيها.

ولما علم فليري بأن تأثيره المستمر في تقرير السياسة استفز الدوق دي بوربون ليوصي بطرده من البلاط، ولم يبذل أي محاولة للاحتفاظ بمركزه بل انسحب في هدوء إلى دير السلبيشيانر في Issy، إحدى ضواحي باريس (18 ديسمبر 1725). وأمر الملك الدوق أن يطلب إلى فليري أن يعود، وعاد بالفعل، وفي 11 يونية، استجابة لما وضح من رغبة الحاشية ورجال الدين والجمهور، أمر لويس الخامس عشر، بشكل مفاجئ، بوربون "أن يأوي إلى شانتيللي ويبقى هناك لحين صدور أوامر أخرى". وأبعدت مدام دي بري إلى قصرها في نورماندي، حيث تولاها الضجر والسأم إلى أبعد الحدود، فتناولت السم وفارقت الحياة (1727).

وظل فليري يخطو إلى الأمام بفضل تراجعه، ولم يحظ بأي منصب رسمي، بل إنه على العكس، حث الملك على ان يعلن أنه سيتولى الحكم بنفسه منذ الآن. ولكن لويس آثر الصيد أو لعب القمار، وأصبح فليري الوزير الأول في كل الشئون إلا اللقب (11 يونية 1726). وكان آنذاك في الثالثة والسبعين من العمر، وكم من نفس طموحة تطلعت إلى أن يعاجله الموت، ولكنه حكم فرنسا سبعة عشر عاماً.

ولم ينس فليري أنه قسيس، فألغى ضريبة ال2% فيما يتعلق برجال الكنيسة، فكان جوابهم على هذا أنهم قدموا للدولة منحة اختيارية قدرها خمسة ملايين جنيه، وطلب فليري أن يساندوه في تنصيبه كاردينالاً، وكان في حاجة إلى اللقب ليكون له حق الصدارة والأسبقية على الأدواق في مجلس الدولة، فكان له ما أراد (5 نوفمبر)، ولم يحاول منذ تلك اللحظة أن يخفي الحقيقة، تلك هي أنه كان يحكم فرنسا.

ولشد ما كانت دهشة الحاشية حين رأوه متواضعاً وهو في أوج السلطة مثلما كان متواضعاً وهو يمهد لها. وعاش في بساطة تكاد تتسم بالتقتير، قانعاً بالحقيقة الواقعة دون امتيازات السلطة ومقتضياتها. وكتب فولتير "إن ارتفاع مكانته لم يغير من عاداته وسلوكه، ودهش الجميع ليجدوا في شخص رئيس وزارة، أعظم رجال الحاشية جاذبية وفي نفس الوقت أعظمهم نزاهة وتجرداً" وقال هنري مارتن "كان أول وزير عاش بعيداً عن الترف والبذخ ومات فقيراً". وكان أميناً غاية الأمانة، ولم يسئ استغلال منصب قط. وكان إلى أبعد الحدود أكثر تسامحاً ممن يحيطون به" وعامل فولتير معاملة ودية لطيفة وتغاضى عن ممارسة الطقوس البروتستانتية سراً، ولكنه لم يتسامح قط مع الجانسنيين.

ولم يعكف، بطريقته المتروية المتأنية، على تقرير السياسة فحسب، بل على إدارة الحكومة كذلك. وأختار معاونيه بعد حكم فاصل مدقق، وساسهم في حزم وكياسة. وفي عهده تابع هنري فرانسوا دي أجوسو مهمته الطويلة المدى (1728-1751) في إصلاح القوانين وتنسيقها، وأعاد فيلبيرت أورى النظام والاستقرار إلى مالية الدولة. وتجنب فليري الحرب حتى أكره عليها بسبب الأطماع الأسرية في الأسرة الحاكمة، ومن ثم هيأ لفرنسا فترات سلام وهدوء طويلة، سمحت لها باستعادة الانتعاش الاقتصادي. وبدا أن نجاحه برر مقدماً الحجج التي رددها الفيزيوقراطيين "أن نحكم حكماً يسيراً معناه أن نحكم حكماً مطلقاً" (حرية التجارة والصناعة وعدم تدخل الحكومة فيهما). ووعد بوقف التضخم، وأوفى بوعده. واتسعت التجارة الداخلية والخارجية، وزاد الدخل. وحيث أنفق الإيرادات في قصد أكيد بعيد عن التبذير، وحد من نفقات مهرجانات الحاشية الملكية، فإنه استطاع أن يلغي ضريبة ال2% على الدخل بالنسبة لكل الطبقات، وأن يخفف ضريبة الأملاك التي أبهظت كاهل الفلاحين. وأعاد إلى المدن الكبيرة والصغيرة الحق في انتخاب موظفيها الرسميين. وإقتداء بالمثل الذي ضربه فليري في الاستقامة تحسنت أخلاق رجال البلاط على كره منهم.

وفي مقابل هذه المفاخر والمزايا تطل بعض المآخذ الجسيمة برؤوسها. إنه أرخص للملتزمين العامين في الاستمرار في جمع الضرائب دون تدخل من جانب الوزارة. وتعزيزاً من للمشروع الضخم الذي وضعه المحافظون، أقر نظام السخرة الذي فرض على الفلاحين والعمل دون مقابل اللهم إلا الطعام. وأسس مدارس عسكرية لأبناء الأرستقراطية، ولكنه قبض يده بشكل مخل غير حكيم بإهماله إصلاح البحرية والتوسع فيها، وسرعان ما باتت تجارة فرنسا ومستعمراتها تحت رحمة الأساطيل الإنجليزية. إنه وثق ثقة عمياء في قدرته على المحافظة على السلام بينه وبين إنجلترا.

وطيلة حكم روبرت وولبول في إنجلترا نجحت سياسة السلام التي انتهجها الكاردينال.فإن الرجلين، ولو أنهما كانا على طرفي نقيض في الخلق والطباع، اتفقا على أن السلام أمر مرغوب فيه. على أنه في 1733، حضه مستشاروه في الشئون الخارجية على القيام بمحاولة فاترة لاجلاس ستانسلاس لزكزنسكي، وهو حمو الملك، على عرش بولندة، ولكن ستانسلاس اقترح إصلاح دستور بولندة وتشكيل حكومة قوية، وآثرت كل من روسيا والنمسا أن تكون بولندة عاجزة مهيضة الجناح، فرفضتا هذا الاقتراح. وفي حرب الوراثة البولندية (1733-1738) طردتا لزكزنسكي من وارسو ثم من دانزج. ولما كان فليري يعارض أي صراع خطير، فإنه نصح ستلانسلاس بأن يلجأ إلى نانسي ولونفيل حاملاً لقب "ملك اللورين". ولم تقع الكارثة، فإن لزكزنسكي والدول اتفقوا على أنه عند وفاته تعود إلى فرنسا اللورين التي كانت فرنسية إلى أبعد حد، وهذا ما حدث في 1766.

وجاهد فليري الذي كان في الثامنة والثمانين قدر طاقته المتضائلة، أن ينأى بفرنسا عن حرب الوراثة النمساوية (1740)، ولكن امرأة فرضت سلطانها عليه. ذلك أن فليسيتيه دي نسل مركيزة فنتيميل، التي كانت آنذاك تشارك الملك فراشه أصغت في بهجة وفرح إلى شارل أوجست فوكيه، كونت دي بل أيل، حفيد المختلس البارع نيقولا فوكيه الذي كان لويس الرابع عشر قد أحسن صنعاً بعزله. إن بل أيل هذا أبلغ المركيزة أن فليري رجل هرم أحمق، وأنه في مهاجمة فردريك الثاني ملك بروسيا للملكة الشابة ماريا تريزا ملكة النمسا، فرصة ذهبية لتمزيق إمبراطوريتها، وأن فرنسا ينبغي أن تنضم إلى فردريك، وتقتسم الغنائم. وصبت العشيقة الفاتنة هذه الكلمات في آذان الملك الولهان. وأقنعته بأن ينتزع زمام الأمور من بين يدي الكاردينال اللتين ترتعدان خوفاً وجبناً، ويستعيد مجد فرنسا.

وناشد فليري بأن الشرف والمصلحة تحولان دون المضي في مشروع بل آيل. فإن إنجلترا لن تسمح بتدمير النمسا لتصبح فرنسا عظيمة إلى حد ينذر بالخطر. وأن على فرنسا أن تدخل في حرب مع إنجلترا أيضاً، وأن فرنسا في خير حال في السلم! وفي 7 يونية 1741 أعلن لويس الحرب على النمسا. وفي 25 نوفمبر استولى بل آيل على براج، واتفقت معه كل فرنسا تقريباً على أن فليري عجوز أحمق.

وبعد عام في الحرب تخلى فردريك المراوغ عن فرنسا وعقد سراً هدنة مع النمسا، وإذ تحررت الجيوش النمساوية على هذا النحو، تقدمت إلى بوهيميا، وشرعت في تطويق براج. ولم تكن إلا مسألة وقت، ليضطر إلى التسليم بل آيل وجيشه المؤلف من عشرين ألف رجل، أقضى مضاجعهم وأزعجهم الأهالي الذين أضمروا لهم العداء. وفي 11 يونية 1742 أرسل فليري إلى القائد النمساوي كونت فون كونجزج نداء مذلاً يناشده فيه شروطاً معتدلة للحامية الفرنسية، وقال فيه "يعلم كثير من الناس كم كنت أرض القرارات التي اتخذناها، وإني أرغمت بطريقة ما على الموافقة عليهما" فأرسل كونجزج الخطاب إلى ماريا تريزا التي نشرته على العالم. وأرسل جيش فرنسي لإنقاذ بل آيل، ولكنه لم يصل إليه قط. وفي ديسمبر ترك بل آيل وراءه ستة آلاف من المرضى والجرحى، وغادر بقواته الأصلية براج إلى الحدود عند إيجو، ولكن عملية الفرار هذه حدثت في قلب الشتاء عبر مائة ميل جبال ومستنقعات مغطاة بالجليد أو الثلوج، ولم تنقطع غارات العدو عليهم طيلة انسحابهم، وهلك من الأربعة عشر ألف رجل الذين بدءوا هذه المسيرة اثني عشر ألفاً في الطريق، وامتدحت فرنسا هذا الإنقاذ الرائع بالارتداد المذهل. وتخلى فليري عن الوزارة، وآوى إلى الدير في أسى حيث فارق الحياة (29 يناير 1743) وهو في سن التسعين.

وأعلن الملك أنه سيتولى رئاسة الوزارة بنفسه منذ الآن.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

مالية الدولة

المصادر

  1. ^ ديورانت, ول; ديورانت, أرييل. قصة الحضارة. ترجمة بقيادة زكي نجيب محمود.
سبقه
حرب المئة عام
تاريخ فرنسا
1453-1789
تبعه
الفترة الثورية