الألعاب الاوليمبية القديمة

Ruins of the training grounds at Olympia
The "Exedra" reserved for the judges at Olympia on the south embankment of the stadium
Athletes running the hoplitodromos
Bases of Zanes, paid for by fines from those who cheated at the Games

عند البحث في تاريخ الألعاب الأوليمبية القديمة يتضح أنه إذا كان الدين قد عجز عن توحيد بلاد اليونان ، فإن الألعاب الرياضية الموسمية قد أفلحت في توحيدها. ذلك أن الناس لم يكونوا يذهبون إلى أولمبيا ، و دلفي ، و كورنثة ، ونميا ليعظموا الآلهة - لأن الآلهة يمكن تعظيمها في أي مكان - بقدر ما كانوا يذهبون ليشاهدوا مباريات البطولة بين الرياضيين المختارين ، والاجتماع العام لطوائف اليونان المختلفين. ومن الشواهد الدالة على أثر هذه المراكز في تاريخ اليونان أن الإسكندر - وهو الذي كان في وسعه أن يشاهد بلاد اليونان من خارجها - كان يعد أولمبيا عاصمة العالم اليوناني. في هذه الأماكن نجد دين اليونان الحقيقي تسيطر عليه قواعد الألعاب الرياضية وتعاليمها ، وهذا الدين هو عبادة الصحة والجمال ، والقوة. وفي ذلك يقول سمنيدس: "إن أحسن ما يستطيع الإنسان أن يتمتع به هو الصحة الجيدة ، ويأتي بعد الصحة جمال الشكل وحسن الطبع ، ثم تلي ذلك الثروة ينالها الإنسان من غير غش أو خداع ، ويأتي في المرتبة الرابعة أن يكون الإنسان في نضرة الشباب بين الأصدقاء والخلان".

وتقول الأوديسة:"ليس ثمة مجد يستطيع الإنسان أن يناله طوال حياته أعظم مما يناله بيديه وقدميه". ولعله كان من أوجب الواجبات على شعب أرستقراطي يعيش بين جماعات من الرقيق أكثر منه عدداً ، ويطلب إليه المرة بعد المرة أن يرد عن حماه المغيرين من أمم أكثر منه ، نقول لعله كان من أوجب الواجبات على هذا الشعب أن يحافظ على قوته الجسمية ، ذلك أن الحرب في الزمن القديم كانت تعتمد على القوة والمهارة ، ولقد كانت القوة والمهارة الغرض الأول من المباريات التي طبقت شهرتها الآفاق في جميع هيلاس. وإن من الخطأ أن نفكر في الرجل اليوناني العادي على أنه طالب مولع بإسكلس أو أفلاطون ؛ ذلك أن هذا اليوناني العادي كان كالبريطاني أو الأمريكي العادي مولعاً بالألعاب ، وكان أبطالها المحبوبون هم آلهته على هذه الأرض. وكانت الألعاب اليونانية أنواعاً مختلفة - منها ألعاب خاصة ، وألعاب محلية ، وألعاب بلدية ، وألعاب يونانية جامعة.

وإن الآثار القديمة حتى المحطم منها لتكشف عن ثبت طويل ممتع من الألعاب الرياضية. ففي متحف أثينا حجر على أحد وجهيه نقش يصور مباراة في المصارعة ، وعلى الوجه الآخر مباراة لعبة الهوكي Hockey. أما السباحة ، وركوب الخيل العارية الظهر ، ورمى القذائف واتقاؤها أثناء الركوب ، فكانت كلها من مستلزمات اليوناني المهذب أكثر منها ألعاباً ومباريات. كذلك أصبح الصيد من ضروب الرياضة بعد أن لم يعد من وسائل العيش الضرورية. ولم تكن ألعاب الكرة أقل تنوعاً أو انتشاراً مما هي في هذه الأيام. وكانت كلمتا شاب ولاعب كرة مترادفتين في إسبارطة. وكانت تبنى في ساحات التمرين حجرات خاصة بألعاب الكرة يسمونها اسفيرستيريا sphairisteria ، وكان معلموها يسمون اسفيرستاي Sphairistai. ونشاهد على نقش آخر رجالاً ترتد إليهم الكرة من أرض الحجرة أو جدارها ، ثم يردونها هم براحة اليد ، ولسنا نعرف هل كان اللاعبون يفعلون ذلك بالتناوب كما نفعل نحن بكرة اليد في هذه الأيام. وكان من بين ألعاب الكرة لعبة تشبه لعبة اللاكرس Lacrosse الكندية وهي ضرب من لعبة الهوكي تلعب بالمضارب ويصفها بولكس Pollecx ، وهو كاتب من كتاب القرن الثاني بعد الميلاد ، بعبارات كأنها من عبارات هذه الأيام فيقول: "يجتمع بعض الشبان ويقسمون أنفسهم جماعتين متساويتين في العدد ويتركون في أرض منبسطة - أعدوها من قبل وقاسوها - كرة مصنوعة من الجلد ، تقرب من حجم التفاحة ؛ ثم يهجمون عليها ، كأنها جائزة وضعت بينهم ؛ من نقط الابتداء المحددة لهم ، وفي يمين كل منهم مضرب rhabdon... ينتهي بانحناء مستو وسطه نسيج من خيوط مأخوذة من أمعاء الحيوان. مجدولة كالشبكة. وتحاول كلتا الطائفتين أن تدفع الكرة من جزء الساحة المخصص لها إلى طرف الجزء المقابل لها". ويصف هذا المؤلف نفسه لعبة أخرى تحاول فيها فرقة من اللاعبين أن تقذف بالكرة من فوق رؤوس الفرقة المضادة لها أو من بين لاعبيها ، وتستمر في هذا "حتى يرد أحد الطرفين الطرف الآخر إلى ما وراء خط مرماه". ويصف أنتفانيز في جذاذة ناقصة من القرن الرابع قبل الميلاد أحد مهرة اللاعبين الممتازين فيقول: "ولما أخذ الكرة سره أن يعطيها إلى أحد اللاعبين ، ثم تفادى لاعباً آخر؛ ثم استولى عليها من لاعب وضربها واستحث لاعباً آخر بأصواته العالية. وهاهي ذي خارج الملعب ، ثم رمية طويلة ، ثم تمر به من فوق رأسه، ورمية قصيرة..".

ومن هذه الألعاب الخاصة نشأت ألعاب محلية ، وأخرى في مناسبات معينة كما يحدث عقب وفاة بطل من الأبطال مثل بتركلوس أو نجاح مشروع عظيم كزحف رجال زنوفون العشرة آلاف إلى البحر. ثم نشأت بعدئذ ألعاب البلديات التي يمثل فيها المتبارون أماكن أو طوائف مختلفة في داخل إحدى دول المدن. أما ألعاب الجامعة الأثينية التي كانت تقام كل أربع سنين فهي أقرب ما تكون إلى الألعاب الدولية وإن لم ينطبق عليها هذا الوصف كل الانطباق. وقد أنشأها بيسستراتس في عام 566 ؛ وكانت كثرة المشتركين فيها من أتكا ، ولكن غير الأتكيين كان يرحب باشتراكهم فيها. وكانت تشمل ، فضلاً عن الألعاب الرياضية المألوفة ، سباق العربات ، وسباق المشاعل ، وسباق التجديف ، ومباريات موسيقية في الغناء والعزف على القيثارة و المزمار و الناي ، والرقص ، وإلقاء أكثر ما يكون من شعر هومر. وكان يمثل كل قسم من أقسام أتكا العشرة أربعة وعشرون رجلاً يختارون من بين أصح السكان أجساماً وأقواهم بنية وأجملهم منظراً ، وكانوا يعطون جائزة للأربعة والعشرين الذي يكون لهم في النظارة أعظم الأثر ، وتسمى جائزة "الرجولة الباهرة".

إذ كانت الرياضة ضرورية للحرب ، ولكنها تنعدم إذا لم تعقد لها مباريات ، فقد أنشأت المدن اليونانية الألعاب اليونانية الجامعة لتكون أكبر حافز لليونان أجمعين على إتقان هذه الألعاب. وكانت أولى هذه المباريات الجامعة هي التي تقام بانتظام مرة كل أربع سنين في أولمبيا ؛ وقد أقيمت للمرة الأولى في عام 776 ق.م. وهو أول تاريخ محدد في حياة اليونان بأجمعها. وكانت هذه الألعاب في أول أمرها مقصورة على الإيليين Eleans ، وقبل أن يمضي قرن على بدايتها كان يشترك فيها لاعبون من جميع بلاد اليونان ؛ ولم يحل عام 476 حتى كان ثبت الظافرين فيها يشمل لاعبين من جميع البقاع الممتدة من سينوب إلى مرسيليا ؛ وأصبح عيد زيوس على مر الزمان يوماً مقدساً دولياً ، وكان الشهر الذي يقع فيه هذا العيد شهراً حراماً يتهادن فيه المحاربون في جميع بلاد اليونان ، ويفرض فيه الإيليون غرامات على كل دولة يونانية يلحق في أرضها أذى بأي قادم إلى هذه الألعاب.

وقد أدى فليب المقدوني هذه الغرامة عن يد وهو صاغر لأن بعض جنوده سرقوا مال أثيني وهو في طريقه إلى أولمبيا. وفي وسعنا أن نتصور الحجاج واللاعبين يبدءون رحلتهم من المدن النائية قبل بدء المباريات بشهر كامل ، فإذا ما حان الموعد المحدد اجتمعوا كلهم في صعيد واحد ؛ وكانت أيام المباريات سوقاً عامة وعيداً في وقت واحد ، وكانت الخيام تنصب في السهل لتقي الزائرين حر شمس يوليه اللافح ، وإلى جانبها المظلات يستظل بها البائعون ويعرضون تحتها بضاعتهم على اختلاف ألوانها ، من خمر وفاكهة وخيل وتماثيل ؛ وترى اللاعبين على الحبال والمشعوذين يعرضون ألاعيبهم على الجماهير. فمنهم من يقذف بالكرة في الهواء ومنهم من يلعب ألعاباً تشهد بالخفة والمهارة ، ومنهم من يأكل النار أو يبتلع السيوف. ذلك أن ضروب التسلية ، كأنواع الخرافات ، قديمة العهد يخلع عليها هذا القدم ثوباً من التقديس والإجلال.

وكان أشهر الخطباء أمثال جورجياس ، وأشهر الخطباء أمثال هبياس ، وربما كان أشهر الكتاب أمثال هيرودوت ، كان هؤلاء جميعاً يلقون خطبهم أو يتلون أقوالهم من أروقة هيكل زيوس. وكانت هذه الأيام أعياداً مقدسة للرجال خاصة لأن النساء المتزوجات لم يكن يسمح لهن بالحضور في هذه الساحة ، بل كانت لهن ألعاب خاصة تقوم في عيد هيرا. وقد لخص منندر منظر هذه الألعاب في خمس كلمات جامعة فقال: "زحام ، وسوق ، ولاعبون ، وتسلية ، ولصوص". ولم يكن يسمح لغير اليونان الأحرار بالاشتراك في مباريات الألعاب الأولمبية ؛ وكان المتبارون (Athletes المشتقة من Athlos بمعنى مباراة) يختارون بعد اختبارات محلية وبلدية يستبعد بها غير اللائقين ، ثم يدربون بعدئذ عشرة شهور كاملة تدريبا صارماً على أيدي مدربين محترفين يسمون بيدترباي paidotribai (ومعناها اللغوي مدلكو الشبان) ورياضيين يدعون gymnastai (أي العراة). فإذا جاءوا إلى أولمبيا اختبرهم موظفون مختصون وأقسموا أن يراعوا جميع قوانين الألعاب. ولم يكن يحدث في الألعاب غش أو خروج على السنن الصحيحة إلا القليل النادر ؛ منها ما قيل من أن يوبوليس Euopolis قد رشا الملاكمين حتى ينهزموا له ؛ ولكن ما كان يفرض على هؤلاء المخادعين من عقاب ، وما كان يلحقهم من مهانة، كان كبيراً إلى حد يحول بينهم وبين الإقدام على مثل هذا العمل ؛ فإذا ما تم استعداد اللاعبين أخذوا إلى ميدان الألعاب؛ فإذا دخلوه نادى منادٍ أسماءهم وأسماء المدن التي بعثت بهم. وكان المتبارون جميعاً ، أياً كانت سنهم ومنزلتهم ، يجردون من الثياب إلا من منطقة تحيط بالحقوين في بعض الأحيان.ولم يبق من هذا الملعب نفسه إلا الألواح الحجرية التي كانت توضع بين أصابع أرجل المتسابقين في بداية السباق.

وكان النظارة البالغ عددهم 45.000 يحتفظون بأماكنهم في الملعب طوال النهار يقاسون الأمرين من الحشرات والحر والظمأ ؛ ولم يكن يسمح لهم بلبس قبعاتهم ، وكان الماء الذي يسقون منه رديئاً غير صالح للشرب ، كما كان الذباب و البعوض يملأ جو المكان كما يملأ أمثاله في هذه الايام. وكانت القرابين تقرب مراراً وتكراراً إلى زيوس طارد الذباب. وكانت أهم المباريات في هذه الألعاب هي التي يطلقون عليها اسم المباريات الخمس (pentathlon). وأراد اليونان أن يكون اللاعبون متمكنين في هذه الألعاب جميعاً ، فكانوا يحكمون على من يتقدم للمباراة في واحدة منها أن ينازل غيره فيها جميعاً ، ولا يعد اللاعب منتصراً إلا إذا فاز في ثلاث لعبات من خمس. وكانت أولاها هي القفز الواسع ، فكان اللاعب يمسك بيديه ثقلين شبيهين بكتل الحديد المستديرة ويقفز بهما من موضع معين ، ويؤكد لنا الكتاب الأقدمون أن بعض القافزين كانوا يقفزون إلى مسافة خمسين قدما ، ولكنا غير ملزمين بأن نصدق كل ما نقرأ.

واللعبة الثانية هي قذف القرص وهو لوحة مستديرة من المعدن أو الحجر تزن نحو اثني عشر رطلاً ، ويقال إن أكبر القاذفات كانت تصل إلى مسافة مائة قدم. وكانت اللعبة الثالثة هي قذف الحربة أو الرمح بالاستعانة بِشَرعة من الجلد متصلة بوسط السهم. وكانت المباراة الرابعة هي الجري مسافة قصيرة بأقصى سرعة في الملعب نفسه ، وكانت هذه المسافة تبلغ نحو مائتي ميل في الغالب. وكانت المباراة الخامسة هي المصارعة ، وهي من المباريات المحببة كثيراً إلى اليونان ، ومنها اشتق لفظ Palaistra نفسه ، وما أكثر ما يروى من القصص عن الأبطال المصارعين.

وكانت الملاكمة من الألعاب القديمة ، ونكاد نوقن أنها مأخوذة عن كريت المينوية وبلاد اليونان الميسينية. وكان المتبارون ينازل بعضهم بعضاً بكرات للكم معلقة بمحاذاة الرأس ومحشوة ببذور التين أو الدقيق أو الرمل. وفي عصر اليونان الزاهر (أي في القرنين الخامس والرابع) كان الملاكمون يلبسون "قفازات لينة" من جلد الثيران ، معالجة بالدهن ، وتكاد تصل إلى المرافق ، وكانت الضربات مقصورة على الرأس ولكنهم لم تكن لديهم قواعد تحرم ضرب اللاعب إذا وقع على الأرض. ولم تكن هناك أشواط أو فترات للراحة، بل كان الملاكمان يواصلان اللعب حتى يستسلم أحدهما أو يعجز عن الملاكمة. ولم يكونوا يقسمون حسب أوزانهم ، بل كان في مقدور أي إنسان مهما يكن وزنه أن يشترك في المباريات. ومن ثم كان ثقل الجسم ذا نفع كبير لصاحبه ، وانحطت الملاكمة لهذا السبب في بلاد اليونان وتحولت من مباراة في المهارة إلى منازلة بالقوة العضلية. وازدادت وحشية اللاعبين على مر الزمن فجمعوا المصارعة والملاكمة في مباراة جديدة سموها لعبة القوى مجتمعة (pankration). وكان يسمح في هذه اللعبة بكل شيء عدا العض وفقأ العين ، وحتى الركل في البطن كان مسموحاً به أيضاً. وقد وصلت إلينا أسماء ثلاثة من أبطال هذه المباراة هزموا من نازلوهم لأنهم كسروا أصابعهم ، وكال أحدهم لغريمه ضربات وحشية بأصابعه الممدودة وأظافره الطويلة القوية التي اخترق بها جلده وانتزع بها أمعاءه من بطنه. لكن ميلو الكروتوني كان ملاكماً أظرف من هؤلاء وأحب إلى النفوس، ويروى عنه أنه نمى قوة جسمه بحمل عجل صغير في كل يوم من حياته حتى كبر هذا العجل وأصبح ثوراً كامل النمو. وكان الناس يحبونه لحيله ودهائه ، فقد كان يمسك في يده الرمانة ويقبض عليها بقوة لا يستطيع معها أي إنسان أن ينتزعها منه ، ومع ذلك كانت الرمانة تبقى سليمة لا ينالها أذى ؛ وكان يقف على قرص من الحديد مدهون بالزيت ويقاوم كل ما يبذل من الجهد لزحزحته عن مكانه ؛ ويربط حبلاً حول جبهته ثم يقطع الحبل بوقف نَفَسُه ودفع الدم إلى رأسه. وقضت عليه مواهبه هذه آخر الأمر "ذلك أنه التقى مصادفة بشجرة ذابلة كما يقول بوزنياس "دقت فيها أوتاد لتفصل خشبها بعضه عن بعض، فخيل إليه أن يفصل هذا الخشب بيديه ، ولكن الأوتاد انخلعت من الشجرة وانطبق خشبها عليه، وافترسته الذئاب".

وكانت الألعاب تشمل فضلاً عن السباق السريع القصير المدى مسابقات أخرى في العدو ، منها مسابقة طولها أربعون ياردة ، وأخرى طولها أربعة وعشرون شوطاً أو ميلان وثلثا ميل ، ومنها سباق مسلح يحمل كل عداء فيه ترساً ، وليس لدينا ما نستدل منه على الأرقام القياسية في هذه المسابقات. وكان الشوط يختلف باختلاف المدن ، ولم يكن لدى اليونان آلات يقيسون بها أجزاء الزمن الصغيرة. وتحدثنا الأقاصيص عن عداء يوناني كان يسبق الأرنب ، وعن آخر سابق جواداً من كرونيا إلى طيبة (حوالي عشرين ميلاً) وسبقه ، وعن فيدبديس Pheidippides الذي جرى من أثينا إلى إسبارطة - 150 ميلاً - في يومين ، ونقل إلى أثينا بشرى النصر في مرثون التي تبعد عنها أربعة وعشرين ميلاً ، ثم مات متأثراً بما عاناه من التعب. ولكن بلاد اليونان لم تكن فيها "مسابقات مرثونية".

وقد أنشأت أولمبيا في السهل الواقع في أسفل الملعب مضماراً لسباق الخيل خاصة. وكان للنساء والرجال على السواء أن يتقدموا بخيولهم إلى هذا السباق ، وكانت الجائزة في ذلك الوقت تعطى لصاحب الجواد - كما هي الحال في وقتنا هذا - لا لراكبه ، وإن كان الجواد في بعض الأحيان يجازى بأن يقام له تمثال ، وكانت آخر المباريات هي مباراة المركبات ، وكان يجر كل مركبة جوادان أو أربعة جياد تسير جنباً إلى جنب. وكثيراً ما كان يشترك في المباراة الواحدة عشر مركبات في كل منها أربعة جياد ، وكان على كل مركبة أن تدور حول الأنصاب المقامة في الحلبة ثلاثاً وعشرين دورة في آخر السباق ، ولذلك فإن حوادث خطيرة كانت تحدث وقتئذ ، وكانت هذه الحوادث أهم ما يثير المشاعر في الألعاب. وقد حدث في سباق منها بدأ بأربعين مركبة أن لم تتمه إلا مركبة واحدة. وفي وسعنا أن نتصور اهتياج النظارة وجدلهم حول من يناصرون ، وأسفهم وهم منفعلون حينما يطوف الظافرون آخر طواف لهم حول الأنصاب.

فإذا انتهت هذه المباريات المجهدة بعد خمسة أيام كاملة ، نالوا جوائزهم ، ولف كل منهم عصابة من الصوف حول رأسه ، ثم وضع المحكمون على هذه العصارة إكليلاً من أوراق الزيتون البري وأغصانه ، ونادى مناد أسماء الظافرين وأسماء مدنهم. وكان هذا الإكليل النباتي هو الجائزة الوحيدة التي تعطى في الألعاب الأولمبية ، ولكنه مع ذلك كان الشرف الذي يبذل المتبارون في بلاد اليونان أقصى جهودهم ليظفروا به.

وقد بلغ من أهمية هذه الألعاب وحرص اليونان عليها أن الغزو الفارسي نفسه لم يحل بينهم وبين إقامتها ، فبينما كانت حفنة من اليونان تقف في وجه خشيارشاي في ترموبيلي كانت آلاف مؤلفة منهم تشهد كعادتها ثيجنيس Theagenese الثاسوسي ، في اليوم الذي دارت فيه المعركة ، يظفر بإكليل ألعاب القوى المجتمعة. وصاح جندي فارسي في وجه قائده يقول: "رباه! أي صنف من البشر أولئك الأقوام الذي أتيت بنا لنقاتلهم؟ - إنهم رجال لا يقاتل بعضهم بعضاً من أجل المال بل من أجل الشرف!". وما من شك في أن هذا الجندي الفارسي ، أو اليوناني الذي اخترع القصة ، قد جاوز الحد في الثناء على اليونان بقوله هذا ، وليس ذلك لأنه كان من واجبهم أن يكونوا في ذلك اليوم في ترموبيلي بدل أن يكونوا في أولمبيا فحسب ، بل لهذا السبب ولغيره من الأسباب ؛ ذلك أن الظافرين كانوا يحصلون على جوائز أخرى كبيرة من طريق غير مباشر وإن كانت الجائزة المباشرة التي ينالونها في الألعاب نفسها كانت قليلة لا تسمن ولا تعني من جوع. لقد كانت مدن كثيرة تمنح الظافرين جوائز مالية كبيرة بعد أن يعودوا من الألعاب الأولمبية ، وكان بعضها يعينهم قواداً لجيوشه، وكانت الجماهير تقدسهم تقديساً يحسدهم عليه الفلاسفة ويشكون منه. وكان بعض الظافرين أو أنصارهم يستأجرون شعراء مثل سمنيدس أو بندار لينشئوا القصائد في مدحهم وتكريمهم، وكانت هذه الأشعار تغنيها جماعات من الغلمان في الموكب الذي يخرج لاستقبالهم، وكانت الأموال تدفع للمثالين ليخلدوا ذكراهم بالتماثيل البرونزية أو الحجرية، وكانوا في بعض الأحيان يطعمون بلا ثمن في ردهة المدينة. وفي وسعنا أن نقدر ما يتكلفه هذا الطعام إذا عرفنا - من مصدر مشكوك في دقته - أن ميلو أكل عجلة بنت أربع سنوات ، وأن ثيجنيس أكل ثوراً ، في يوم واحد.

وكان القرن السادس هو العهد الذي بلغت فيه الألعاب الرياضية أعظم روعتها وتغلغل حبها في قلوب الشعب إلى أبعد حد. ففي عام 582 أنشأ الحلف الاثنا عشري الألعاب الفيثية في دلفي تكريماً لأبلو. وفي تلك السنة نفسها أنشئت ألعاب البرزخ في كورنثة تكريماً لبوسيدن ، وبعد ست سنوات من ذلك الوقت أنشئت الألعاب النيمية تكريماً لزيوس النيمي ، وأضحت هذه المواسم كلها أعياداً يحتفل بها اليونان على بكرة أبيهم. وقد نشأت منها ومن الألعاب الأولمبية دورة (Periodos)، وكان أعظم ما يطمع فيه اليوناني الرياضي أن ينال أكاليل فيها جميعاً.

وقد أضيفت مباريات في الموسيقى والشعر إلى المباريات الجسمية في الألعاب الفيثية ، والحق أن هذه المباريات الموسيقية كانت تقام في دلفي قبل إنشاء الألعاب الرياضية فيها بزمن طويل. وكان موضوع المباريات في بادئ الأمر أنشودة يخلد بها انتصار أبلو على الأفعى الدلفية ؛ ثم أضيفت إليها في عام 582 مباريات في الغناء وفي العزف على القيثارة والنفخ في الناي. وكانت مباريات موسيقية مثلها تقام في كورنثة ، ونيميا ، وديلوس ، وغيرها من المدن ؛ وذلك لأن اليونان كانوا يعتقدون أنهم يستطيعون بهذه المباريات العامة أن ينموا مقدرة العازفين وذوق الجماهير في وقت واحد. وكانوا يسيرون على هذا المبدأ نفسه في كل فن من الفنون تقريباً - كصناعة الخزف ، والشعر ، والنحت ، والتصوير ، والغناء الجماعي ، والخطابة ، والتمثيل. وبهذه الطريقة وغيرها من الطرق أصبح للألعاب أكبر الأثر في الفنون ، والآداب ، بل كان لها أيضاً أعمق الأثر في كتابة التاريخ نفسه؛ وذلك لأن أهم طريقة لحساب السنين في كتب التاريخ المتأخرة كانت هي التاريخ بالفترات الأولمبية ، وكانت كل فترة تميز باسم الظافر في سباق الجري شوطاً واحداً. وكان الكمال الجسمي الذي بلغه الرياضيون البارعون في الألعاب جميعها في القرن السادس قبل الميلاد هو الذي أوحى إلى اليونان بالمثل الأعلى في نحت التماثيل، وهو المثل الذي بلغ غايته على يدي ميرون Meiron وبليكليتوس. وقد أتاحت ألعاب العراة في مضامير الألعاب وفي أثناء الأعياد للمثال فرصاً لدراسة جسم الإنسان في جميع أشكاله وأوضاعه ، فأضحت الأمة هي نفسها نماذج لفنانيها على غير علم منها ، وتعاونت الألعاب الرياضية اليونانية مع الدين اليوناني على إيجاد الفن اليوناني.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وصلات خارجية


المصادر

  • ديورانت, ول; ديورانت, أرييل. قصة الحضارة. ترجمة بقيادة زكي نجيب محمود..
  • [1]