فرنسا القنصلية

(تم التحويل من French Consulate)
فرنسا القنصلية
3consuls.jpg
A portrait of the three Consuls, جان جاك ريجي ده كامباسير, ناپليون بوناپرت and شارل-فرانسوا لبرون (left to right).
الحكومة التنفيذية للجمهورية الفرنسية الأولى
في المنصب
10 نوفمبر 1799 – 18 مايو 1804
سبقه الديركتوار
خلفه الامبراطورية الفرنسية الأولى
مع ناپليون بوناپرت كحاكم
سلسلة
حكومات فرنسا
الگال
الفرنجة
أسرة ڤالوا
أسرة البوربون
الجمهورية الأولى
الامبراطورية الأولى
استعادة البوربون
ملكية يوليو
الجمهورية الثانية
الامبراطورية الثانية
الجمهورية الثالثة
فرنسا ڤيشي
الجمهورية الرابعة
الجمهورية الخامسة

القنصلية كانت حكومة فرنسا بين سقوط الديركتوار في انقلاب 18 برومير في 1799 وحتى بداية الامبراطورية الناپليونية في 1804. وامتداداً من ذلك، فإن المصطلح القنصلية يشير أيضاً إلى هذه الفترة من التاريخ الفرنسي.

إثناء هذه الفترة، نصـَّب ناپليون بوناپرت، بصفته القنصل الأول، نفسه كرأس لحكومة جمهورية مركزية أوتوقراطية سلطوية، أكثر محافظةً في فرنسا بينما لم يعلن نفسه رأس الدولة. إلا أنه، بسبب المؤسسات العتيدة التي تأسست عبر تلك السنوات، فقد وصف روبرت ب. هولتمان نظام القنصلية بأنه "أحد أهم الفترات في التاريخ الفرنسي."[1]

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

سقوط حكومة الديركتوار


القناصل (الحكّام القناصل)

في 21 نوفمبر سنة 9971 اجتمع القناصل المؤقتون في قصر لوكسمبورگ لإعادة بناء فرنسا من جديد. وكان هؤلاء القناصل المؤقتون هم نابليون وسييز Sieyès وروجيه دوكو Roger Ducos، وساعدهم في مهمتهم لجنتان تضمان أفراداً من المجالس والجمعيات القديمة، وكان كل من سييز ودوكو لديهما بالفعل مقر إقامة في لكسمبورج باعتبارهما كانا عضوين في حكومة الإدارة السابقة، وقد انتقل نابليون وجوزفين واوجين Eugene وهورتنس Hortense والعاملون معهم إلى لوكسمبورگ في 11 نوفمبر 9971.

وقد واجه المنتصرون في هذا الانقلاب أمّة نهشت الفوضى في بِنْيتها الاقتصادية والسياسية والدينية والأخلاقية. وكان الفلاحون يخشون إذا ما عادت أسرة البوربون المالكة أن تُلْغَى سندات الملكية التي بحوزتهم. وكان التجار والحرفيون يرون أن رفاهيتهم مهدَّدة بسبب الموانئ المحاصرة، والطرق التي اعتراها الإهمال وأعمال اللّصوصية وتردّد أصحاب الأموال في استثمار أموالهم بضمان الحكومة التي سبق أن اجتاحتها الإنقلابات عدَّة مرَّات. والآن وقد أصبحت الحاجة ملحّة لقوّة القانون وتنفيذ المشروعات العامة، وتقديم الغوْث للفقراء، لم يكن تحت تصرف الخزانة إلاَّ 0021 فرنك. وكان رجال الدين في حالة معارضة دائمة: فمن بين ثمانية آلاف قس كاثوليكي في فرنسا، رفض ستة آلاف منهم التوقيع على الدستور المدني لرجال الدين (الإكليروس) وراحوا يعملون ضد الدولة في عداء سافر أو مقنَّع، أما التعليم العام فقد تدهور حاله - بعد إبعاد الكنيسة عن تولِّي أمره - رغم البيانات الرسميّة الفخمة ورغم الخطط الحكومية الطموحة. أما الأسرة الدعامة الأساسية للنظام الاجتماعي فكانت قد اهتزّت بسبب حرية الطلاق مما أدّى لانتشاره، وبسبب كثرة الزواج الاعتباطي (غير المدروس) وبسبب تمرّد الأبناء. أما الروح العامة للشعب فقد كانت تحتضر خوفاً من الثورة والحرب وبسبب الشك في كل زعيم وبسبب التشاؤم لعدم تحقّق الآمال، بينما كانت هذه الروح في سنة 9871 قد بلغت ذُرى الوطنية والشجاعة. لقد كان مثل هذا الموقف يتطلب فنّ إدارة شؤون الدولة، لا دهاءً سياسياً، ويتطلب حسماً دكتاتورياً (كما تنبّأ مارا Marat وحثّ من قبل) لا مناقشات ديمقراطية تَتَّسم بالترف في جمعيات فارغة - لقد كان المطلوب مزاوجة بين الرؤية الرحّبة والفكر الهادف والعمل المضني والبراعة مع البصيرة وإرادة آمرة. وقد انطبق كل هذا على نابليون.

وفي أوّل اجتماع لهؤلاء القناصل المؤقتين اقترح سييز أن يكون نابليون - ذلك الجنرال ذو الثلاثين عاماً - هو الرئيس (القنصل الأوّل) لكن نابليون استرضى سييز Sieyès بترتيب الأمر بحيث يتولّى الرياسة كل واحد منهم على التعاقب، واقترح - أي نابليون - أن يكون سييز هو المسؤول الأوّل عن صياغة الدستور الجديد. وعكف هذا المنظِّر القديم على دراسته وترك نابليون (مع دوكو Ducos اللطيف المسالم) لإصدار المراسيم لضمان حُسن سيرْ الإدارة، وتحسين أداء الخزانة بتطوير قدرتها على الوفاء بديونها، وتهدئة النزاعات واكتساب ثقة الشعب الذي أزعجه اغتصاب السلطة بالقوة.

وكان أوّل ما قام به القنصل الأول The ruling Consul أنه إرتدى زيَّاً مدنياً مُتواضعاً مُحتشماً وطرح لباسه العسكري. لقد كان عليه أن يكون هو الفتى الأول فوق خشبة مسرح الأحداث. لقد أعلن عن نواياه بمجرد تأسيس الحكومة الجديدة مقترحاً شروط السلام مع إنجلترا والنمسا. وكان طموحه في بواكير فترة حكمه هذه هو طمأنة فرنسا وتقويتها لا إجبار إنجلترا على التسليم. لقد كان نابليون في هذا الوقت هو من أسماه بِت Pitt ابن الثورة ومضمّد جراح فرنسا الناتجة عن النزاعات الداخلية، ومخطط رخائها الساعي لاستتباب السلام. ابن الثورة الذي هو إفراز من إفرازاتها، وحاميها، والعامل على الاحتفاظ بما حققته من مكاسب اقتصادية، لكنه أىضاً كان واضحاً في إبداء رغبته في إنهاء الثورة. لقد أسعد البورجوازية عندما أصدر في 71 نوفمبر سنة 9971 قراراً بنفي ثمانية وثلاثين شخصاً كانوا مصدر خطر على الأمن العام (وكان نابليون لا يستغني عن الدعم الاقتصادي الذي تقدّمه البورجوازية له، فقد كان هذا أمراً ضرورياً لسلطته) وقد كان قراره هذا يمثل الدكتاتورية المفرطة إذ جلب من السّخط أكثر مما جلب من الاستحسان، لذا فإنه سرعان ما عدّل القرار ليجعله نفياً إلى المحفاظات (المديريات الفرنسية) بدلاً من النفي خارج فرنسا.وألغى ضريبة المصادرة التي تتراوح قيمتها من 02% إلى 03% والتي كانت حكومة الإدارة قد فرضتها على كل الدخول(1) التي تزيد على المستوى العادي. والغى القانون الذي كانت الحكومة تعمل بمقتضاه على احتجاز المواطنين البارزين كرهائن يتم تغريمهم أو نفيهم إذا ارتكب مواطنوهم أية جرائم ضد الحكومة. وهدّأ الكاثوليك في إقليم الفندي Vendée بدعوة زعمائهم إلى مؤتمر وأكّد لهم نواياه الحسنة ووقّع معهم في 42 ديسمبر هدنة أنهت الحروب الدينية في فرنسا لفترة. وأمر أن تعاود كل الكنائس الكاثوليكية - التي سبق أن كُرّست قبل سنة 3971 - ممارسة العبادات الكاثوليكية في كل الأيام ما عدا يوم الديكادي(2) décadi (اليوم العاشر) وفي 62 ديسمبر أو بعد ذلك بقليل أعاد من المنفى ضحايا أجنحة الثورة التي حققت انتصارات على الأجنحة الثورية الأخرى في وقت من الأوقات: الليبراليون السابقون في الجمعية الوطنية National Assembly بمن فيهم لافاييت Lafayette، ولطَّف من حدَّة أعضاء لجنة الأمن العام Committee of Public Safety، مثل بارير Bayère ولازار كارنو Lazare Carnot الذي عاد إلى ممارسة مهامه في وزارة الحرب. وأعاد بونابرت الحقوق المدنية للنبلاء غير المشاغبين، وللمسالمين من أقارب الذين تركوا فرنسا بسبب أحداث الثورة emigrès. وأبطل المهرجانات التي كان وقودها الحقد والكراهية، كمهرجان الاحتفال بذكرى مقتل الملك لويس السادس عشر، ونفى الجيرونديين Girondins وذكرى سقوط روبيسبير. وأعلن نابليون أنه لن يحكم فرنسا لصالح أية فئة من الفئات المتصارعة - اليعاقبة أو البورجوازية أو الملكيين - وإنما سيحكمها كممثّل للأمّة كلها. لقد أعلن أنه إن حكم لصالح أي فريق فمعنى هذا أنه سيعتمد عليه (دون سواه) عاجلاً أم آجلاً. ولن يسمح لي الفرقاء الآخرون بذلك أبدا. إنني وطني فرنسي(3).

وعلى النحو نفسه نظر الشعب الفرنسي له - حقاً لقد نظر إليه الفرنسيون جميعاً باعتباره وطنياً فرنسيا فيما عدا بعض الجنرالات الحاقدين، واليعاقبة الجامدين. لقد تحوّل الرأي العام الفرنسي منذ 31 نوفمبر بشكل حاسم لصالحه. لقد كتب السفير البروسي لحكومته في ذلك اليوم قائلاً: كل ثورة سابقة اعتراها كثير من الخوف والريبة، أما هذه الثورة الفرنسية، فعلى العكس، فقد أبهجت أرواح الجميع وأيقظت أكثر الآمال حيوية، كما شهدتُ ذلك بنفسي(4). وفي 71 نوفمبر بلغ الهبوط في البورصة أحد عشر فرنك، وفي 02 من الشهر نفسه ارتفع إلى 41، وفي 12 من الشهر نفسه، ارتفع إلى 02(5).

وعندما قدَّم سييز Sieyès للقنصليْن الآخرين خطته فيما يتعلق بدستور السنة الثامنة (1799) فإنهما سرعان ما أدركا أنَّ المولِّد السابق الذي وُلدت الثورة على يديه قد فقد كثيراً من ذلك الإعجاب الذي كان يُكنه للطبقة الثالثة أي طبقة العوام، ذلك الإعجاب الذي كان يُزكى أوار لهيب نشراته أو دفاتره الدعائية المتَّسمة بروح التحدي خلال العقد الماضي. لقد أصبح الآن متأكداً تماماً أنه ليس في مقدور أي دستور أن يحفظ الدولة لفترة طويلة إذا امتدت جذوره - وجذور الدولة معه - في إرادة غير ثابتة الاتجاه تحركها عواطف الجماهير غير المُدركة لأبعاد الأمور.

لقد كادت فرنسا في هذه الفترة تكون خالية من المدارس الثانوية، وكانت صحافتها مُمثِّلة للتحزّب والتشيّع لفئة أو أخرى مما جعلها مصدر تَعْمِية على العقل العام أكثر منها مصدر إِخْبار صحيح.

وقد قصد الدستور الجديد لحماية الدولة من الجهل المنتشر من ناحية ومن الحكم الاستبدادي من ناحية أخرى. وقد تحقَّق نصف نجاح في هذا السبيل.

وقام نابليون بمراجعة سييز Sieyès في بعض أفكاره التي أوردها في الدستور الجديد، لكنه بشكل عام قبل معظمها لأنه - أي نابليون - كان بدوره غير ميّال للديمقراطية. ولم يغير رأيه الذي مؤدّاه أنّ الشعب (الفرنسي) غير مؤهَّل لاتخاذ قرارات حكيمة بشأن انتخاب ممثليهم أو بشأن الأمور السياسية؛ فهم أناس تأسرهم الجاذبية الشخصية، وتخدعهم البلاغة الخطابية والكتابات الصحفية، ويُؤثِّر فيهم القُسس الذين ترفرف قلوبهم حول روما. واعتقد نابليون أن الشعب الفرنسي نفسه لابد أنه معترف بعدم مقدرته (أي مقدرة الشعب) على مواجهة مشاكل الحكومة. وسيكون الشعب راضياً إذا خوّل لهم الدستور الجديد حق الموافقة أو الاعتراض على قضايا تطرح عليهم في استفتاء عام. لقد أعاد سييز Sieyès الآن تشكيل فلسفته السياسية وفقاً للمبدأ الأساسي التالي: لابد أن تأتي السلطة من أعلى، وأن تأتي الثقة من أدنى(6) وبتعبير آخر فلتحكم الحكومة وليثق الشعب.

لقد بدأ بانحناءه احترام موجزة للديمقراطية. فقد كان على كل فرنسي بلغ العشرين أو أكثر أَنْ يصوّت لاختيار عُشر هذه الفئة العمرية ليُصبح المنتخبون (بفتح الخاء) وجهاء محليون (في الكوميونات) Communal notables ويقوم هؤلاء المنتخبون (بضم الميم وفتح الخاء) بدورهم بانتخاب عُشر عددهم ليكونوا وجهاء على مستوى المحافظات (الأقسام أو الدوائر) departmental notables وهؤلاء بدورهم ينتخبون عُشر عددهم ليكونوا وجهاء على مستوى فرنسا National notables. وهنا تمخضّت العملية الديمقراطية عن: موظفين محلِّيين كان لا بد أن يعينهم (لا ينتخبهم) الوجهاء الكوميونيون (المنتخبون على مستوى الكوميونات)، وموظفين محليين على مستوى الدوائر أو المحافظات يتم تعيينهم من قِبَل المنتخبين على المستوى نفسه، وموظفين كبار على مستوى الدولة الفرنسية يتم تعيينهم من قِبَل المنتخبين (بضم الميم وفتح التاء) على هذا المستوى الثالث (الوطني). وكان لا بد أن تتم كل التعيينات من قِبل الحكومة المركزية. وأسفرت هذه الانتخابات عن تأسيس:

  1. مجلس الدولة الذي كان عادة ما يضم خمسة وعشرين عضواً يعينهم رأس الدولة The chief of state مخوَّلين باقتراح القوانين الجديدة.
  2. مجلس التريبيون Tribunat أو مجلس المدافعين عن حقوق الشعب (وهو ما تعنيه الكلمة) ويتكون من مائة عضو Tribunes (والمعنى المباشر للكلمة هو: حامي حمى الشعب) مخوَّلين بمناقشة الإجراءات المقترحة ولهم الحق في تقديم توصياتهم إلى الهيئة التشريعية.
  3. الهيئة التشريعية A corps Législatif وهي مكونة من ثلاثمائة عضو من حقهم رفض الإجراءات المقدَّمة أو تكييفها مع القانون (وليس مناقشتها).
  4. السينات Sénat أو مجلس الشيوخ وعادة ما يضم ثمانين عضواً من ذوي العقول الناضجة مخوَّلين بإلغاء القوانين التي يحكمون بأنها غير دستورية، وهم مخوّلون أيضاً بتعيين أعضاء مجلس التريبيون (مجلس المدافعين عن حقوق الشعب) وأعضاء الهيئة التشريعية، كما أنهم مخوّلون بإضافة أعضاء جدد إلى مجلسهم (مجلس الشيوخ أو السينات) من بين وجهاء الأمة National notables كما أن عليهم قبول الأعضاء الجدد الذين يعينهم الناخب العظيم grand elector.
  5. الناخب العظيم: ومصطلح الناخب العظيم هو المصطلح الذي أطلقه سييز Sieyès على رأس الدولة لكن نابليون رفض المصطلح وتوصيفه، لأنه رأى في هذا المنصب (كما يدل عليه المصطلح الذي وصَّفه سييز sieyès) مجرد وكيل تنفيذي لقوانين تمت إجازتها دون مشاركته أو موافقته، وتجعله مجرَّد رئيس شكلي (صُوري) ليس له من الأمر شيء سوى استقبال الوفود والدبلوماسيين، وتصدّر الحفلات الرسمية. وشعر نابليون أنّ هذه الأمور لا تحتاج إلى موهبة، وكان على عكس ذلك يتطلع إلى أن يصل بأقصى سرعة ممكنة - عن طريق القوانين - إلى تحقيق أمل أمة تصرخ مطالبة بالنظام والتوجيه، ومصرّة على البقاء (الاستمرار)، لذا فقد قال لسييز Sieyès إن ناخبكم العظيم هذا Grand Elector مجرّد ملك عاطل وقد ولّى الآن زمن هؤلاء الملوك الكسالى. إنَّ أيّ رجل ذي قلب وعقل لا يمكنه أن يقبل هذه الحياة البليدة مقابل ستة ملايين فرنك ومسكن في التويلري؟ ما هذا؟ أيكمن جالساً يُعيِّن من يعملون بينما يظل هو بلا عمل! هذا غير مقبول(7). لقد طلب الحق في أن يبادر بالتشريع، وإصدار المراسيم وأن يعين في مناصب الحكومة المركزية من يراه كُفؤاً حتى ولو لم يكن من بين الوجهاء المنتَخبين (بفتح الخاء). لقد كان برنامجه لإعادة البناء في المجالات السياسية والاقصتادية والاجتماعية يتطلب استحواذاً مضموناً على السلطة طوال سنوات عشر. لذا فإن نابليون لم يرغب في أن يكون الناخب العظيم - ذلك اللقب ذو المذاق البروسي - وإنما أراد أن يكون القنصل الأول ذلك اللقب الذي يحمل عبق روما القديمة. وهكذا رأى سييز Sieyés دستوره يسقط ليصبح ملكيا إلاّ أنه ملكي معدَّل نظراً للمهمة الإشرافية لمجلس الشيوخ (السينات) وتم تعيين سييز Sieyès ودوكو Ducos قنصلين وفي 21 ديسمبر 1799 أحلّ نابليون محلّهما كلاً من: جان جاك كامباسير Jean Jacques Cambacérés كقنصل ثان، وشارل-فرانسوا لبرون Charles-Francois Lebrun كقنصل ثالث.

ومن الخطأ تصنيف هذين القنصلينْ باعتبارهما مجرد موظَّفيْن مُطيعيْن. فقد كان لكل منهما خبراته وتجاربه. لقد أصبح كامباسير Cambacèrés الآن هو المستشار القانوني لنابليون، وكان كامباسير قد شغل سابقاً في حكومة الإدارة منصب وزير العدل. وكان يترأس مجلس الشيوخ، كما كان في حالة غياب القنصل الأول - يترأس مجلس الدولة (Conseil dصEtat) Council of State وقام بدور قيادي في تشكيل مدونة نابليون القانونية Code Napoléon. وقد كان شخصاً هادئاً وكان معتزاً بالولائم الفخمة التي يُقيمها، لكن هدوءه هذا وكذلك ميله للتأمل مكَّناه - غالباً - من إنقاذ القنصل الأول (نابليون) من أخطاء طائشة. لقد قام بتحذير نابليون من معاداة أسبانيا وحذَّره من التورّط مع روسيا، أما شارل-فرانسوا لبرون Lebrun فقد كان فيما مضى أمين سر لريني دي موبو Rene de Maupeou في مهمته الساعية لإنقاذ فرنسا البوربوتيّة من الإفلاس (أي أنه قام بهذه المهمة يوم كانت فرنسا تحت حكم أسرة البوربون الحاكمة) وسبق له أن شارك في إعداد التشريعات المالية التي أصْدرتها الجمعية الوطنية National Assembly وحكومة الإدارة، والآن فقد بدأ مهمته في حكومة القناصل مع نابليون بخزانة خاوية فعمل على تنظيم مالية الحكومة الجديدة. لقد قرَّر نابليون كفاءة هذين الرجلين فعندما أصبح إمبراطوراً جعل من ليبرو Lebrun مسؤولاً أول عن الخزانة، كما جعل من كامباسير Cambacérés مستشاره الأول، وقد ظلا وفيَّيْن له حتى النهاية.

ورغم إيمان نابليون الراسخ بأنّ ظروف فرنسا تتطلَّب قرارات عاجلة وتنفيذ سياسات سريعة إلاَّ أنَّه قدَّم مقترحاته. في عامه الأوَّل في الحاكم - إلى مجلس الدولة وسمع أعضاءه وهم يُهاجمون ويدافعون واشترك هو نفسه في المناقشات الدائرة بشكل إيجابي. وكان هذا دوراً جديدا له، فقد اعتاد أن يقود أكثر من اعتياده الاشتراك في المناقشات، وقد أصبحت أفكاره الآن تتجاوز كلماته (تسبق كلماته): لكنه تعلَّم بسرعة وعمل بكل جهده داخل مجلس الدولة وخارجه وبذل كل ما يستطيع لتحليل المشكلات وإيجاد الحلول. لقد كان حتّى الآن مجرَّد مواطن قنصل Citoyen-Consul وسمح لآخرين بفرض آرائهم عليه(8) وكان أعضاء مجلس الدولة من أمثال پورتالي Portalis وروديريه Roederer وثيبودو Thibaudeau من ذوي الكفاءة العالية، ولم يكونوا من النوع المنساق، ومع هذا فإنَّ مذكراتهم تَغُصّ بالثناء على رغبة نابليون الشديدة في الإصلاح وبذله قُصارى جهده في العمل. لنستمع إلى روديريه Roederer وهو يقول: أنه دقيق في كلِّ موقف، يُطيل الجلسة لخمس ساعات أو ست... ودائماً يعودُ إلى هذا السؤال: أهذا عدل؟ أهذا مفيد؟... وهو دائماً يربط كل مشكلة بظروفها التي يعمد إلى تحليلها تحليلاً دقيقاً والحصول على معلومات بشأن فلسفة التشريعات السابقة الصادرة في أيام الملك لويس الرابع عشر وفردريك العظيم Frederick the Great... ولم يحدث أبداً أن تم تأجيل المجلس دون أن يكون أعضاؤه أكثر علماً بالأمور من ذي قبل - إذا لم يكن ذلك من خلال المعلومات التي يحصلون عليها منه، فمن خلال البحوث التي يُجبرهم على القيام بها.. وما كان يُميزه عنهم جميعاً هو قوة ملاحظته ومرونته ودأبه إنني لم أره أبداً وقد اعتراه التعب. ولم أجده أبداً وقد فقد عقله تألّقه حتّى ولو كان بدنه متعباً... أنه لا يوجد أبداً من يُكرّس نفسه كُلِّية للعمل الذي هو عاكف عليه مثله، ولم أَرَ أفضل منه في استثمار وقته وتخصيصه لإنجازِ ما يتحتَّم عليه عمله(9).

في تلك الأيام كان في مقدور المرء أَنْ يُحب نابليون.

الوزراء

وبالإضافة إلى تنظيم أمور التشريعات اللازمة لحكم فرنسا، فقد انخرط في العمل الأصعب ونعني به إدارة البلاد، لقد قسّم هذه المهام الإدارية بين ثماني وزارات جعل على رأس كل منها أكفأ من وجد من الرجال بصرف النظر عن انتماءاتهم الحزبية وماضيهم. لقد كان بعضهم يعاقبه وبعضهم من الجيرونديين وبعضهم الآخر من الملكيين وفي حالة أو حالتين سمح نابليون لميوله الشخصية بتجاوز الحد فتطغى على الاعتبارات العملية، ومن ذلك أنه عيَّن لاپلاس Laplace وزيراً للداخلية، لكنه سرعان ما وجد الفلكي والرياضي الكبير وقد نقل روح التفاصيل الرياضية الدقيقة إلى الإدارة(01) فنقله إلى السينات (مجلس الشيوخ) وأوكل وزارة الداخلية لأخيه لوسيان بوناپرت Lucien.

لقد كان العمل الأساسي، والذي يكاد يكون متعذراً، لوزارة الداخلية هو إعادة الحيوية للكميونات أو المجالس البلدية، وتطويرها لإعادة قدرتها على الوفاء بديونها، باعتبارها - أي هذه الكيمونات أو المجالس البلدية - هي الخلايا المكونة للجهاز السياسي. وقد عبر نابليون بنفسه عن هذه الحال في خطاب وجهه إلى لوسين (لوسيان) في 25 ديسمبر سنة 9971.

منذ سنة 1790 وهذه الكيانات المحلية (الكميونات أو المجالس البلدية) البالغ عددها 000،63 تشبه البنات اليتيمات. لقد كانت هذه الكيانات هي وارثة الحقوق الاقطاعية القديمة، وقد أهملها وسلبها إرادتها الأمناء المفوضون الذين كانت حكومة المؤتمر الوطني وحكومة الإدارة ترسلهم. إن مناصب: رئيس البلدية والخبير التابع له. والمستشار البلدي، أصبحت بالتدريج لا تعني بشكل عام سوى أنها نوع جديد من اللصوصية. فشاغلو هذه المناصب يقطعون الطريق ويسرقون المشاة ويستولون على الأخشاب وينهبون الكنائس ويختلسون ممتلكات الكيمونات.. وإذا كان لابد أن يستمر هذا النظام عشر سنوات أخرى فماذا سيحدث لمؤسسات الإدارة المحلية هذه؟ إن هذه المؤسسات لم ترث شيئاً سوى الانخراط في المناقشات، وسوى الإفلاس حتى أنها ستطلب الإحسان من السكان(11).

هكذا كان نابليون في نوبات غضبه، لقد كان مبالغاً بمرارة. وإن كان ما قاله صحيحا لجاز الاقتراح بأن يُسمح (بضم الياء) للكوميونات باختيار موظفيها، كما هو الحال في كوميون باريس. لكن نابليون لم يكن راغباً لوصول الأمور فيها إلى ما وصلت إليه في باريس. فالثورة الفرنسية - فيما يرى مؤرخ أتى بعد انقضاء أحداثها، لم تكتشف في الكوميونات الأصغر (من كموميون باريس) سوى عدد قليل من الفلاحين كانوا متعلمين بدرجة كافية وكانوا مثقفين لدرجة تمكنهم من الإحساس بمعنى التكامل والصالح العام(21). وغالباً ما كان هؤلاء الحكام الذين تم اختيارهم محلياً - مثلهم مثل الحكام الذين بعثت بهم باريس - إما أنهم غير أكفاء، وإما فاسدون، وإما غير أكفاء وفاسدون معاً. لذا فقد أصم نابليون أذنيه عن المطالبات بالحكم الذاتي المحلي Communel self-rule. لقد فضّل - بعد أن رجع للنظام الروماني القنصلي أو لنظام المحافظين intendants في أواخر حكم أسرة البوربون - أن يُعيِّن (أو يجعل وزارة الداخلية تعين) لكل دائرة أو محافظة أو مديرية أو قسم مأموراً prefect (منوطاً به تنفيذ القوانين)، ونائب مأمور (أو مأموراً مساعداً) في الوحدات الإدارية الفرعية، وأن يعين لكل كميون مديراً أو محافظاً أو رئيساً mayor ويكون كل معيَّن (بتشديد الياء وفتحها) مسؤولاً أمام من هو أعلى منه وأخيراً أمام الحكومة المركزية. وعلى هذا فقد كان كل المأمورين المعيَّنين من الرجال ذوي الخبرة الواسعة، وكان معظمهم من الأكفاء جداً(31). وفي كل الأحوال وجدناهم يمكنون نابليون من القبض على زمام السلطة إلى حد كبير.

وكانت الخدمة المدنية (الجهاز الإداري كَكُل) في فرنسا في عهد نابليون هي الأكثر كفاءة والأقل ديموقراطية من بين كل ما عرفه التاريخ، ربما فيما عدا روما القديمة. وقاوم الشعب هذا النظام، الذي أثبت مع ذلك أنه ترياق يمكن تبرير استخدامه لعلاج نزعتهم الفردية المنطوية على تحقيق مكاسب، وقد احتفظ البوربون عندما عادوا للسلطة بهذا النظام كما احتفظت به الجمهوريات الفرنسية المتعاقبة. لقد أعطى هذا النظام لفرنسا استقراراً واستمرارية طوال قرن اجتاحته الاضطرابات السياسية والثقافية فقد كتب فاندال Vandal سنة 3091 إن فرنسا تعيش اليوم في ظل التشكيل الإداري والقوانين المدنية التي أورثها لها نابليون.

وكانت المشكلة الأكثر إلحاحاً هي إعادة ملء الخزانة. لقد عرض نابليون وزارة المالية على مارتن - ميشيل جودين Martin - Michel Gaudin بناء على توصية من القنصل ليبرو Lebrun وكان جودين قد رفض في وقت سابق هذا المنصب في ظل حكومة الإدارة، وكان مشهوراً بالكفاءة والأمانة. وكان توليه لهذا المنصب في ظل حكومة القناصل ضماناَ لتأييد الماليين وثقتهم في هذه الحكومة الجديدة. فوصلت للخزانة قروض لإنقاذ الدولة وقدم أحد الماليين (البنكيين) للخزانة قرضا مقداره 500,000 فرنك ذهبا ولم يطلب فوائد. وسرعان ما أصبح في الخزانة 21 مليون فرنك تُغطى بها نفقاتها الجارية وتقدم منها للجيش طعامه كساءه، فقد عانى أفراد الجيش طويلا من الملابس الرثة كما أنَّ رواتبهم لم تكن قد دفعت منذ فترة طويلة. (وكان نابليون يضع دائما الجيش في المحل الأول من اعتباره) وسرعان ما نقل گودان Gaudin سلطة تقدير الضرائب وجمعها من المسؤولين المحليين إلى الحكومة المركزية، نظرا للسمعة السيئة للسلطات المحلية في هذا الشأن. وفي 31 فبراير سنة 1800 وحد جودين الوكلات المالية المختلفة في بنك واحد هو بنك فرنسا Bank of France وطُرحت أسهمه للبيع وأصبح له حق إصدار العملة الورقية. وسرعان ما استطاعت الإدارة الدقيقة للبنك أن تُصدر أوراقاً نقدية محل ثقة انتشر استخدامها بين الناس. وكان هذا في حد ذاته ثورة. ولم يكن البنك مؤسسة حكومية وإنما بقي قطاعاً خاصا (in private hands) لكن الحكومة دعمته، وأشرفت عليه جزئياً عن طريق العوائد الحكومية المودعة به، وأصبح على وزير الخزانة بارب ماربوا Barbe - Marbois بالإضافة إلى وزير المالية إدارة ميزانية الدولة والحفاظ عليها في البنك.

وكانت أكثر الأمور في هذا النظام الإداري مدعاة للسخط هي: الحظر، وأعمال البوليس السري والعقاب على الجرائم، وإجراءات حماية المسؤولين الحكوميين من الاغتيال. وكان جوزيف فوشيه Fuaché هو رجل هذه المهام. لقد سبق أن تمرس بكثير من أشكال الخداع والتنكر، وباعتباره كان من المشتركين في قتل الملك، فقد كان الملكيون يضعونه نصب أعينهم كهدف للانتقام، لذا فقد كان يمكن لنابليون أن يعتمد عليه كحاجز منيع يحول بين البوربون Bourbon والاستيلاء على العرش. فبينما دلل گودان Gaudin الماليين ورجال البنوك وروّضهم، وجدنا فوشيه Fouché يُشرك اليعاقبة في آمال القنصل الأول باعتباره ابناً مخلصا للثورة - يحمي العامة من الارستقراطية والإكليروس (رجال الدين) ويحمي فرنسا من القوى الرجعية. وكان نابليون يخشى فوشيه ولا يثق به، وظل محتفظا بطاقم منفصل من المخبرين السريين من بين مهامهم مراقبة وزير البوليس، ولكنه لم يبعده عن منصبة إلا في سنة 2081 وكان هذا بحذر شديد، وأعاده سنة 4081 وظل محتفظاً به إلى سنة 0181. لقد كان نابليون يقدر في فوشيه اعتداله في طلب الدعم المالي، وأوحى لهذا الوزير اللمَّاح بأن يموِّل قواته - جزئياً - بمصادرة أموال نوادي القمار بالإضافة إلى الحصول على أموال من المباغي والمواخير(41).

وكُلِّفت قوات درك خاصة (جندرمة) لمراقبة الشوارع والمخازن والمكاتب والمنازل التي من المفترض أنها تشارك في دخل الأحياء أو الدوائر (داخل المدن).

أما دفاع الفرد حتى لو كان مجرماً عن نفسه أمام البوليس والقانون والدولة فلم يحظ بالعناية الكافية في فرنسا على النحو الذي حظي به في انجلترا في تلك الأيام، لكن شيئا من ذلك قد كفله قضاة أكفاء. وعند اسناد هذا الفرع من فروع الادارة للفقيه القانوني أندريه-جوزيف أبريمال André-Joseph Abrimal قال له نابليون: أيها المواطن. إنني لا أعرفك، لكن هناك من أخبرني أنك أكثر الرجال أمانة عندما تتولى أمراً من أمور الحكم، وهذا هو السبب الذي جعلني أعينك وزيراً للعدالة(51) وسرعان ما امتلأت فرنسا بالمحاكم المختلفة التي غصت بهيئات المحلفين Juries التي تضم الكبار والشباب وقضاة الصلح Justices of Peace والمحضرين bailiffs والمدعين العموم (المفرد: مدّعي عام Prosecutor) والمدعين (مقدمي الدعاوى Plaintiffs) وكتاب العدل (محرري العقود notaries) والمحامين...

أما حماية الدولة الفرنسية من الدول الأخرى فتلك هي مهمة وزارة الحرب التي تولاها الجنرال لويس - اسكندر بيرثييه Louis - Alexander Berthier ووزارة البحرية التي تولاها دني دكري Denis Decres ووزارة الخارجية Ministere des Relations Exterieures التي تولاها تاليران Talleyrand المستعصي على الفساد. وكان قد بلغ من العمر عند توليه هذا المنصب خمسة وأربعين عاماً، وقد حقق شهرة عريضة كشخص مهذب رقيق الحاشية عميق الفكر فاسد الأخلاق (عاهر) with moral depravtiy لقد رأيناه أخيراً (في 41 يوليو سنة 0971) يقيم قداساً مقدساً في مهرجان معسكر دي مار de - Mars Champ، وبعد ذلك بفترة قصيرة كتب لآخر محظية من محظياته آديليد دي فيلول، كونتيسة فلاهوت Adelaide de Filleul, Comtesse de Flahaut : إنني آمل أن تكوني قد أحسست لأي إلهٍ وجهت صلواتي بالأمس، ولمن أقسمت قسم الولاء والاخلاص في هذه الصلوات. لقد كان ذلك موجهاً لك. فأنتِ الموجود الأسمى Supreme being الذي أعبده وسأظل أعبده دوماً(61) وقد أنجب من الكونتيسه ابناً لكنه حضر عرسها بهدوء كواهب خفي للعروس(71) وكان ضعفه أمام جمال النساء مصحوباً بطبيعة الحال بشغفه بالفرنكات فبها يعيش الجمال (المقصود أن النساء الجميلات في حاجة إلى المال الوفير). ومنذ رفض الأخلاق المسيحية واللاهوت الكاثوليكي وجدناه يوظف بلاغته وفصاحه لسانه لتحقيق المكاسب، وتلقى باقة ورد - لهذا - من كارنو Carnot الذي قال عنه:

لقد حمل تاليران معه كل رذائل الحكم القديم دون أن يكون قادراً على اكتساب فضائل الحكم الجديد. إنه شخص بلا مبادئ ثابتة. إنه يغير مبادئه كما يغير ملابسه، ويغير اتجاهه وفقا للريح، فهو فيلسوف إن كانت الفلسفة هي الصرعة السائدة، وهو جمهوري الآن لأن ذلك ضروري ليكون أي شيء، وسيعلن غداً أنه ملكي تماماً إن كان سيحصل من جراء هذا الاعلان على أي شيء. إنني لا أشتريه بشروى نقير أو بتعبير آخر أنا لا أريده بأي ثمن مهما كان بخساً. ووافق ميرابو Mirabeau على أن تاليران سيبيع روحه من أجل المال، وسيكون على حق لأنه في هذه الحال إنما يبيع القذارة بالذهب(81).

وعلى أية حال فقد كانت هناك حدود لدوران تاليران وعبثه، فعندما طردت الجماهير الملك والملكة من قصر التوليري وأقامت دكتاتورية البروليتاريا، فإنّه لم يَنْحَنِ للسادة الجدد وإنما استقل قارباً واتجه إلى إنجلترا في 71 سبتمسر نسة 2971، وهناك قُوبل بمشاعر مختلفة ومتباينة، فقد استقبله بحرارة كل من جوسف پرستلي Joseph Priestley وجرمي بنثام Jeremy Bentham وجورج كاننگ Geroge Canning وتشارلز جيمس فوكس Fox، أما من استقبلوه ببرود فهم الارستقراطية الإنجليزية الذين لم ينسوا دوره في الثورة الفرنسية. وفي مارس سنة 4971 انتهى التسامح الانجليزي معه وصدرت الأوامر له بمغادرة انجلترا في غضون أربع وعشرين ساعة، فأبحر إلى الولايات المتحدة وعاش هناك بارتياح من عوائد ممتلكاته واستثماراته، وعاد إلى فرنسا (أغسطس 6971). وأصبح وزيراً للخارجية (يوليو 7971) في ظل حكومة الإدارة. وبمثل هذه الطاقة والقدرة استطاع أن يضيف لثروته الكثير بأساليب شتى حتى أنه كان قادراً على إيداع مبلغ ثلاثة ملايين فرنك في البنوك الإنجليزية والألمانية. وعندما علم أن حكومة الإدارة ستسقط استقال منها في 02 يوليو سنة 9971 وراح ينتظر مطمئناً مترقباً وصول نابليون للحكم ليستدعيه لشغل منصبه من جديد، ولم يطل انتظاره فقد استدعاه القنصل (نابليون) في 22 نوفمبر سنة 9971 ليصبح - من جديد - وزيراً للخارجية.

لقد اعتبره نابليون شخصاً ذا قيمة باعتباره حلقة وسطى بين الحاكم (المقصود متولي المنصب) المُحْدَث (أي الذي لم يتول شؤون الحكم من قبل) والملوك المنحلين. لقد ظل تاليران - خلال كل ثوراته وتقلباته - محافظاً على ملابس الارستقراطية القديمة وعاداتها وطريقتها في التفكير وأسلوبها في الحديث: فقد كان حسن المنظر مقبولاً (رغم قدمه المعوجة) كما كان هادئاً رابط الجأش حاد الذهن لماحاً حتى أنه إذا لزم الأمر استطاع أن يقتل بعبارة ساخرة. وكان دائب العمل ودبلوماسياً داهية قادراً على إعادة صياغة تصريحات سيده (نابليون) الطائشة الفظة ليغلفها بغلاف ودي أنيق. وكان مبدأه لا تتعجل في اتخاد القرار(02) - وهو شعار طيب يتناسب مع رجل أعرج، وفي حالات مختلفة أدى تأخره في إرسال بريد الدولة إلى تراجع نابليون عن قرارات غير صائبة.

لقد أراد - مهما كان العلم الذي يرفرف فوقه - أن يعيش مبذراً في بحبوحة دائمة، مهتبلاً فرص المسرات بتروٍ، جامعاً ثمار أي شجرة يلقاها. وعندما سأله القنصل (نابليون) كيف تمكن من جمع هذه الثروة الضخمة؟ أجابه مبتسماً ودون مواربة لقد اشتريت بضائع في السّابع عشر من شهر برومير Brumaire (الجمهوري) وبعتها بعد ذلك بثلاثة أيام(12). ولم يكن ما قاله لنابليون سوى البداية، ففي غضون أربعة عشر شهراً من استعادته لمنصبه كوزير للخارجية أضاف لحساباته البنكية خمسة عشر مليون فرنك أخرى. لقد كان يلعب في السوق بناء على معلومات يحصل عليها من داخل الحكومة، كما أنه تلقى عمولات tidbits من القوى الأجنبية التي بالغت في تقدير تأثيره على سياسات نابليون. وفي نهاية فترة القنصلية قُدرت ثروته بأربعين مليون فرنك(22). وكان رأي نابليون فيه أنه شخص مقرف وليس هناك من يحل محله (لا يمكن الاستغناء عنه). لقد وصفه مستوحياً ذكرى ميرابو Mirabeau بأنه الأعرج أنه بُراز (غائط) في جورب حريري(32) مستخدماً عبارات أقل إيحاء في الفرنسية من نظيراتها لدى الإنجلوسكسون. وكان نابليون نفسه الذي استحوذ على الخزانة الفرنسية وفرنسا كلها - فوق مستوى الرشوة.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

معارك الحكومة القنصلية

لقد أسس نابليون نظاماً داخليا وهيأ ظروفا تؤدي إلى ازدهار اقتصادي لكن بقي أن فرنسا كانت محاطة بالأعداء بسبب الحروب التي بدأتها (أي فرنسا) في 20 أبريل سنة 1792. لقد كان الشعب الفرنسي يتطلع للسلام لكنه كان يرفض التخلي عن المناطق التي سبق أن ألحقتها الثورة بفرنسا: أفينون Avignon وبلجيكا والشاطئ الشمالي للراين Rhine وبازل، وجنيف Geneva وسافوي Savoy والنيس Nice. وكانت كل هذه المناطق تقريباً داخلة فيما أطلقت فرنسا عليه اسم سحدودها الطبيعية وقد تعهد نابليون في قَسَمِه عند تولي السلطة بحماية هذه الحدود - الراين والألب والبيرينيز Pyrenees والحدود البحرية - باعتبارها مناطق كانت تابعة لبلاد الغال Gaul القديمة وبالتالي فهي فرنسية. وأكثر من هذا فقد كانت فرنسا قد استولت على هولنذا وإيطاليا ومالطا ومصر. أكانت فرنسا راغبة في التنازل عن هذه البلاد التي فتحتها مقابل السلام أم أنها سرعان ما سترفض أي زعيم يتفاوض للتخلي عن هذه المكاسب المربحة؟ إن شخصية فرنسا قد التحمت مع شخصية نابليون في سياسة فخورة ملؤها الوطنية والرغبة في الحرب.

وقد تلقى نابليون في 20 فبراير سنة 1800 خطابا يضم اقتراحا هو بمثابة مَخْرج من هذا القدر المحتوم. إنه خطاب من لويس الثامن عشر الذي يعترف به - تقريباً - كل الذين تركوا فرنسا مهاجرين بسبب أحداث الثورة، وكل أنصار النظام الملكي. يقول فيه:

سيدي

إن الرجال من أمثالك، مهما كان مسلكهم الظاهر لابد أنهم لا يرومون الأذى. لقد حققت مكانة عظيمة، وإنني أشكرك لهذا. إنك تعلم أكثر من أي شخص آخر مدى القوة والسلطة المطلوبتين لضمان السعادة لأمة عظيمة. انقذ فرنسا من العنف فإن فعلت حققت أهم مايصبو إليه قلبي. أعد لفرنسا ملكها، وستحيي الأجيال القادمة ذكراك وتباركها. وستكون دائما ضرورياً جداً للدولة فبشغلك للمناصب المهمة سأكون قادراً على رد أفضالك على أسرتي وعليَّ شخصيا.

— لويس

وترك نابليون هذا الطلب بلا إجابة. فكيف يستطيع أن يعيد إلى العرش رجلاً وعد رجاله المخلصين أن يعيد الحال في فرنسا إلى ما كان عليه قبل الثورة بمجرد عودته للعرش؟ وماذا يمكن أن يحدث للفلاحين المحررين الذين أصبح لهم حق الاقتراع؟ وماذا سيحدث لمن اشتروا ممتلكات الكنيسة؟ بل وماذا سيحدث لنابليون؟ فالملكيون الذين كانوا يتآمرون عليه يوميا، كانوا يعلنون ما يجب أن يفعلوه مع هذا الدَّعِيْ (نابليون) الذي تجرأ على تسنم منصب الملك دون أن يكون له مسوّغ أو أصل نبيل(43).

وفي يوم عيد الميلاد (الكريسماس) في سنة 9971 (وهو اليوم التالي لاعتماد نتيجة الاستفتاء الذي أقر حكمه لفرنسا) كتب نابليون إلى ملك إنجلترا جورج الثالث:

... أظن أنه من الملائم أن أخبر جلالتكم بالحقيقة وأكتبها لكم بخط يدي، وفقاً لما تمليه عليَّ مسؤولياتي، بعد أن دعيت وفقاً لإرادة الشعب الفرنسي لشغل أعلى منصب في الجمهورية.

أليست هناك نهاية للحرب التي أشاعت الاضطراب في مختلف انحاء المعمورة طوال السنوات الثماني الماضية؟ أليست هناك وسائل نصل بها إلى تفاهم؟ كيف لأمتين هما الأكثر تنوراً في أوروبا، وهما الأكثر قوة حتى أن قوة أي منهما تفوق ما يتطلبه أمنها واستقلالهما - كيف لهما أن يقنعا بالتضحية بنجاحاتهما التجارية ورخائهما الداخليين وسعادة شعبيهما من أجل أحلام العظمة الخيالية؟ كيف لا تدرك أمتانا أن السلام محقق لعظمة كل منهما بالإضافة لكونهما في أمسّ الحاجة إليه؟

إن مثل هذه المشاعر لا يمكن أن تكون بعيدة عن قلب جلالكتم لأنكم تحكمون أمة حرة ولا هدف لكم إلا أن تكون أمة سعيدة.

إنني أتوسل من جلالكتم أن تصدقوا أنه عند تناولكم هذا الموضوع، فإنني سأكون مخلصا وراغبا في المشاركة العملية لتحقيق هذا الأمر... أي العمل من أجل تحقيق سلام كريم.. إن قدر كل أمة متحضرة يقوم على إنهاء الحرب التي أزعجت العالم كله(53).

ووجد جورج الثالث أنه لا يليق بملك أن يجيب فردا من العامة (يقصد نابليون) فعهد إلى اللورد جرنفيل Grenville بهذه المهمة، فأرسل جرنفيل إلى تاليران (في 1 يناير سنة 0081) ملاحظات حادة تشير إلى اعتداءات فرنسا وأن إنجلترا لا تستطيع التفاوض مع فرنسا إلا إذا عادت أسرة البوربون إلى المُلك فعودتها شرط لإحلال السلام. وتلقى نابليون الرد نفسه من المستشار النمساوي بارون فرانتس فون توجوت Baron Franz von Thugut على خطاب أرسله إلى الإمبراطور فرانسيس الثاني. وربما لم يضع نابليون في اعتباره أن تكون الردود على هذا النحو. إنها على عكس ما كان يتوقع. فلم يُخبر أحد نابليون أن رجال الدولة يزنون كلماتهم وفقاً لعدد ما لديهم من بنادق ومدافع فقد ظلت الحقيقة الواقعة تتمثل في أن الجيش النمساوي قد استعاد شمال إيطاليا ووصل إلى نيس Nice وأن الجيش الفرنسي حبيس في مصر يحاصره البريطانيون والأتراك (العثمانيون) وقد اقترب وقت استسلامه أو تدميره.

لقد كان الجنرال كليبه (كليبر) قائداً شجاعاً وذكياً، لكنه كان دبلوماسياً غير ناجح، ذلك أنه عندما لم يتوقع وصول نجدة شارك رجاله القنوط والجزع، إذ أصدر أوامره للجنرال ديزيه Desix بتوقيع اتفاق في العريش (42 يناير سنة 0081) مع الترك (العثمانيين) والقائد الإنجليزي المحلي يقضي بمغادرة القوات الفرنسية أراضي مصر بسلام بأسلحتهم وأمتعتهم محتفظين بشرفهم العسكري على سفن تركية تنقلهم لفرنسا، في هذه الأثناء كان الفرنسيون (في مصر) يسلمون للترك (العثمانيين) الحصون التي كان يحتمي بها الأوروبيون (المقصود هنا: الفرنسيون) من هجمات المصريين، وعندما تم التسليم وصلت تعليمات من الحكومة البريطانية برفض شروط الإخلاء (وفقاً لاتفاق العريش الآنف ذكره) مصرَّة على أن يُلقي الفرنسيون (في مصر) أسلحتهم ويسلموا أنفسهم كأسرى حرب. ورفض كليبر ذلك وطالب بإعادة الحصون التي كان قد سلمها، وما كان الترك (العثمانيون) ليقبلوا ذلك وتقدموا نحو القاهرة، فقاد كليبر رجاله البالغ عددهم عشرة آلاف ليواجه القوات التركية البالغ عددها عشرين ألف مقاتل قوي في سهول هليوبولس (عين شمس) ورفع من الروح المعنوية لرجاله بخطاب بسيط إنكم لا تملكون من مصر سوى الأرض التي تحت أقدامكم، فإن لم تتراجعوا سوى خطوة واحدة لضاع كل شيء(63) وبعد معركة استمرت يومين (02slash12 مارس 0081) استسلمت الشجاعة التركية (العثمانية) أمام التكتيكات الفرنسية المنظمة وعاد من بقي من المنتصرين إلى القاهرة لينتظروا مرة أخرى المدد من فرنسا.

ولم يستطع نابليون أن يُرسل لهم غوثاً لأن بريطانيا كانت تتحكم في البحر المتوسط. لكنه كان يستطيع أن يفعل شيئاً ما إزاء التقدم الناجح الذي أحرزه الجنرال النمساوي الذي نيَّف على السبعين بعام (بارون فون ميلاس) على رأس مائة ألف من خيرة الجنود النمساويين عبر شمال إيطاليا إلى ميلان. لقد أرسل نابليون القائد ميسينا Messena لوقف تقدمه لكنه هُزم ولجأ بقواته إلى حصن جنوة فترك ميلاس Melas قوة لمحاصرته وعيَّن فصائل إضافية لحراسة ممرات الألب تحسبا لهجوم قادم من فرنسا وتقدم على طول الريفيرا الإيطالية حتى وصلت طلائع قواته إلى نيس Nice في أبريل سنة 0081. لقد قُلِبت (بضم القاف) الموائد على رأس نابليون أو بتعبير آخر صار موقفه حرجاً: فالمدينة التي كان قد بدأ منها هجومه لفتح سهل لوميارديا في سنة 6971 أصبحت الآن في أيدي أمة كانت قد ذاقت الهزيمة على يديه - في الوقت الذي كان فيه أفضل جزء من جيشه المشهور الذي عُرف بالجيش الفرنسي فاتح إيطاليا Army of Italy مقسَّماً ضائعاً في مكان ناء بلا أمل هناك في مصر. لقد كان هذا أكبر تحد واجهه نابليون حتى الآن.

لقد ترك نابليون أمور إدارة فرنسا وطرحها جانباً، وعاد مرة أخرى قائداً عاماً يجمع المال ويحشد الجنود والعتاد ويرفع المعنويات وينظم الإمدادات ويدرس الخرائط ويرسل التوجيهات لجنرالاته. وعَهِد إلى مورو Moreau وهو الأكثر صراحة في إظهار عدائه لأعداء نابليون بجيش الراين Army of Rhine وزوده بتعليمات حاسمة لا رحمة فيها: اعبر الراين وشق طريقك عبر الأقسام النمساوية تحت قيادة المارشال كروج Krug ثم أرسل 000،52 من رجالك عبر ممر القديس گوتهارد St. Gotthard في إيطاليا لدعم جيش الصمود Army of Reserve الذي وعده نابليون بانتظاره قرب ميلان. وقد نفذ مورو Moreau معظم هذه الأعمال البطولية، ولكنه شعر - وربما كان على حق - أنه في موقفه هذا المنطوي على المخاطرة لن يعود لقائده (نابليون) إلاّ بخمسة عشر ألف رجل.

ومن بين كل معارك التاريخ العظمى، كانت معركة سنة 0081 هذه أحكمها تخطيطاً وأكثرها دهاءً وفي الوقت نفسه أسوأها تنفيذاً. لقد كان تحت قيادته المباشرة أربعة آلاف مقاتل فقط معظمهم من المجندين إلزامياً الذين لم يألفوا مشاق الحرب. تمركزت القوات بالقرب من ديجون Dijon وكان من الممكن ان تتحرك فوق الألب بالقرب من البحر إلى نيس لتنقض في هجوم مواجه (أمامي) على قوات ميلاس Melas، لكن عدد القوات كان قليلاً جداً، بالإضافة إلى أن الجنود لم يكونوا متمرسين بالحرب جيداً، وحتى لو أنهم انقضوا عليه (ميلاس) وهزموه في مثل هذه المواجهة فقد كان يمكنه الانسحاب بأمان عبر شمال إيطاليا إلى مانتوا Mantua الحصينة. وبدلاً من ذلك اقترح نابليون أن يقود قواته عبر ممر القديس برنار St. Pernard في لومبارديا ليتَّحِد مع الرجال المتوقع وصولهم مع مورو Moreau ويقطع خطوط مواصلات ميلاس Melas ويجتاح الفصائل العسكرية النمساوية التي تحرس هذه الخطوط لينقض على جيش هذا البطل الهرم (العجوز) أثناء تراجعه السريع من الريفيرا Rivera الإيطالية وجنوة في اتجاه ميلان. ومن ثم يواجهه فإما هزمه وإم انهزم أمامه، وفي أفضل الحالات فإنه (أي نابليون) سيحاصره ويمنعه من التراجع ويجبر جنراله على تسليم كل الشمال الإيطالي.

وذات يوم (71 مارس سنة 0081) أمر نابليون سكرتيره بورين Bourrienne أن يبسط خريطة كبيرة لإيطاليا فوق الأرض. يقول بورين ثم انبطح أرضاً ليطالعها، ورغب إليَّ أن أفعل الشيء نفسه وفوق نقاط معينة على الخريطة ثبَّت دبابيس ذوات رؤوس حُمر، وفوق نقاط أخرى ثبّت دبابيس لونها أسود. وبعد تحريك الدبابيس حول مواقع مختلفة على الخريطة سأل سكرتيره: أين سأضرب ميلاس Melas فيما تظن؟... هنا في سهول نهر سكريفا the River Scrivia وأشار إلى سان جيليانو(73) San Giuliano. لقد كان يعلم أنه يخاطر بكل شيء من أجل معركة واحدة. يخاطر بكل انتصاراته العسكرية والسياسية التي سبق أن أحرزها، لكن كبرياءه كان معه يسانده ويشد أزره. لقد ذكّر سكرتيره بورين قائلاً: منذ أربع سنوات مضت ألم أَسُق أمامي بجيشي الضعيف قطعان السردينيين (جيوش سردينيا) والنمساويين وطفت بجيشي على وجه إيطاليا؟ إننا سنفعل الشيء نفسه مرة أخرى، فالشمس التي تشرق فوقنا الآن هي الشمس ذاتها التي كانت تشرق في أركول Arcole ولودي Lodi. إنني أعوّل على القائد ماسينا Massena. إنني آمل أن يصمد في جنوا، لكن إن أجبرته المجاعة على الاستسلام فأستيعد جنوا مرة أخرى وكذلك سهول السكريفيا the Scrivia. ساعتها سأعود مسروراً إلى عزيزتي فرنسا، ويا له من سرور!(83).

لقد أضاف استعدادات لكل ما هو متوقع ببصيرة نافذة ولم يهمل التفاصيل البسيطة. لقد خطط للطريق الذي ستسلكه القوات ولوسائل النقل: من ديجون Dijon إلى جنيف، وبالقوارب عبر البحيرة إلي فيلينيف Villeneuve وبالخيول والبغال والمركبات أو سيراً على الأقدام إلى مارتيني Martigny، ومن هناك إلى سان بيير St. - Pierre عند قاعدة الممر ومن ثم فوق الجبال مسافة ثلاثين ميلاً في طريق لا يتجاوز عرضه في بعض الأحيان ثلاثة أقدام عرضاً، غالباً ما يكون على طول جروف (جمع جرف - بضم الجيم) عادة ما تغطيها الثلوج ومعرضة في أي لحظة لانهيار جليدي أو صخري أو أرضي، ومن ثم إلى التوغل في وادي دوستا (فال دوستا Valle d'Aosta). ورتَّب نابليون في كل مرحلة من مراحل هذا الطريق أمر الطعام واللباس والنقل ليكون في انتظار الرجال، وفي مراكز عديدة دبر أمر النجارين وصانعي السروج وغيرهم من العمال لإصلاح ما أفسدته المسيرة، كما دبَّر أن يجري التفتيش على كل جندي مرتين أثناء الطريق للتأكد من سلامة معداته. وأرسل للرهبان الذين يعيشون في صوامع على قمم الجبال أموالاً لشراء الخبز والجبن والنبيذ لإنعاش الجنود المارين بهم. ورغم كل هذه الاستعدادات فقد ظهر كثير من أوجه القصور، لكن هؤلاء الجنود الشبان المجندين إلزامياً بدوا وكأنهم على استعداد لتحمل هذه المشاق بصبر بسبب التشجيع الصامت الذي أبداه لهم المحاربون المخضرمون.

وغادر نابليون مدينة باريس في السادس من مايو سنة 0081. وما كان يغادر حتى شرع الملكيون واليعاقبة وآل بونابرت في التدبير لشغل مكانه إذا لم يعد منتصراً وناقش سييز Siegés وآخرون مدى أحقية أي من كارنو Carnot ولافاييت Lafayette ومورو Moreau لشغل منصب القنصل الأول الجديد (الذي سيحل محل نابليون) وعرض أخوا نابليون: جوزيف ولوسيان Lucien كورثة للعرش. وعاد جورج كادودال Cadoudal من انجلترا في الثالث من يوليو ليحرض الثوار الملكيين Chouans. لقد بدأت المواجهة الفعلية مع ممر سان بيرنار St. Bernard في 41 مايو. لقد تذكر السكرتير بورين قائلاً: لقد تقدمنا جميعاً على طول ممرات الماعز رجلاً في إثر رجل وحصانا في إثر حصان. وتم انزال المدفعية والبنادق وتم وضعفها في جذوع أشجار جرى حفرها، وتم سحبها بالحبال.. وعندما وصلنا للقمة.. مركزنا أنفسنا في الجليد وأنزلقنا فوق السفوح(93). وترجّل الخيالة حتى لا يؤدي انزلاق الخيول غير المدربة إلى هلاكها وهلاك راكبيها. وفي كل يوم كان قسم آخر من القوات يُكمل العبور، وبحلول اليوم العشرين من شهر مايو اكتمل العبور وأصبح جيش الاحتياط (الانقاذ) آمناً في إيطاليا.

وبقي نابليون في مارتيني Martigny، وهو موقع جميل في منتصف الطريق بين بحيرة جنيف والممر - حتى رأى بنفسه آخر شحنة امدادات. وبعدها ركب إلى القمة وهناك توقف ليشكر الرهبان لتقديمهم ما أنعش جنوده، ثم انزلق فوق المنحدر في معطفه وانضم لجيش في أوستا Aosta في 12 مايو. وكان لانز Lannes قد اجتاح بالفعل الفصائل النمساوية التي واجهته في الطريق. وفي اليوم الثاني من شهر مايو دخل نابليون مدينة ميلان Milan منتصراً - للمرة الثانية - على الحامية النمساوية. ورحب به السكان الإيطاليون كما فعلوا في المرة السابقة. لقد استعاد نابليون الجمهورية السيزالبية (جمهورية الألف الشمالية Cisalpine) وسط مظاهر الفرحة الغامرة. وكان نابليون قد ارتد عن دين محمد (الذي سبق أن اعتنقه في مصر) فدعا إلى اجتماع عقده هيئة أساقفة ميلان وأكد لهم إخلاصة للكنيسة وأخبرهم أنه عند عودته لباريس سيجري صلحاً بين فرنسا والكنيسة. أما وقد أمّن ظهره على هذا النحو فقد أصبح حراً في رسم استراتيجية معركته بالتفصيل.

لقد انتهك القائدان مبدءاً استراتيجياً أساسياً - لا تقسِّم القوات المتاحة تقسيما لا يُمكِّنها من إعادة لمّ شملها بسرعة. فالبارون فون ميلاس Melas تمركز بالجزء الأساسي من جيشه في اليساندريا Alessandria (بين ميلان وجنوة) وترك حاميات في كل من جنوة وسافونا Savona وجافي Gavi وأكوي Acqui وتورين Turin وتورتونا Tortona وغيرها من النقاط التي قد تكون عُرضة لهجوم فرنسي. وتعرضت مؤخرة قواته التي كانت تزحف عائدة من نيس Nice لتنضم إليه لهجوم 000، 02 جندي فرنسي بقيادة شوش Suchet وماسينا Masséna - الذي قد تمكن من الهرب من جنوة. ولم يعد متبقياً من 000،07 نمساوي كانوا قد عبرو الأبينين Apennines من لومبارديا إلى ليجوريا Liguria (جنوة) سوى 000،04، كان على ميلاس أن يواجه بهم نابليون وقواته. لقد أرسل جزءاً من هذه القوات المتبقية (الأربعين ألف مقاتل) لإعادة الاستيلاء على الياسنزا Piacenza باعتبارها طريقاً لا بديل له للهروب إلى مانتوا Mantua إذا حاقت بقوات جيشه الرئيسي الهزيمة. أما نابليون فقسَّم جيشه بطريقة محفوفة بالمخاطر: لقد ترك 000،23 مقاتل في ستراديلا Stradella لحراسة بياسنزا Piacenza و 000،9 في تيسينو Tessino و 0003 في ميلان، و 000،01 على طول مجرى البو Po والأدّا Adda. لقد ضحّى ببقاء جيشه موحدا رغبة منه في سد كل طرق الهرب في وجه رجال ميلاس Melas.

وتعاون جنرالاته في انقاذ سياسة الطريق المسدود هذه بعدم ترك نابليون يدخل المعركة الرئيسة بلا استعداد. ففي 9 يوليو قاد لانز Lannes ثمانمائة مقاتل من ستراديلا Stradella ليواجه بهم 000،81 مقاتل نمساوي كانوا في طريقهم الى بيسانزا Piacenza، وتراجع الفرنسيون في مواجهة كلفتهم الكثير عند كاستيجيو Casteggio رغم صمود لانز Lannes الذي ظل يقاتل وهو متسربل بالدماء في طليعة قواته، لكن مدداً من ستة آلاف مقاتل فرنسي وصل في الوقت المناسب ليحوِّل الهزيمة إلى نصر بالقرب من مونتبلو Montebello. وبعد ذلك بيومين سعد نابليون بوصول واحد من أقرب جنرالاته إلى نفسه قادماً من مصر. إنه لويس ديزيه Louis Desix الذي ربما كان يعادل مورو Moreau وماسينا Masséna وكليبر (كليبه) ولانز في مواهبه العسكرية، وإن كان يفوقهم جميعاً في رزانته الشخصية رزانة تصل إلى حد الكمال(04)، وفي 31 يونيو أرسله نابليون إلى جنوب نوفي Novi على رأس 0005 رجل ليتأكد من الإشاعة التي مؤدّاها أن ميلاس Melas ورجاله يهربون إلى جنوا حيث يمكن للأسطول البريطاني مساعتدهم على إتمام الهروب أو يقدم لهم دعماً من الغذاء والسلاح. وعلى هذا فقد ظل التشكيل الرئيسي لجيش نابليون يتناقص حتى حلول المعركة الفاصلة في 41 يونيو.

لقد كان ميلاس Melas هو الذي اختار موقع المعركة الفاصلة، بالقرب من مارينجو Marengo وهي قرية على طريق أليساندريا - بياسنزا حيث لاحظ سهلاً فسيحاً يمكنه فيه حشد قواته البالغ عددها 000،53 مقاتل الذين لايزالون متاحين له مع مائتي قطعة مدفعية. وعلى أية حال، فعندما وصل نابليون إلى هذا السهل في 31 يونيو لم يجد دليلاً يشير إلى أن ميلاس كان يخطط للمغامرة بالخروج من أليساندريا Alessandria فترك عند مارينجو Marengo فصيلين عسكريين بقيادة الجنرال فكتور، وفصيلاً آخر بقيادة لانز Lannes مع خيالة بقيادة مورا Mural وأربعة وعشرين مدفعا فقط. وعاد هو نفسه (نابليون) بحارسة القنصلي في اتجاه فوجيرا Voghera حيث رتب للقاء مع ضباط من جيوشه المتناثرة. وعندما وصل لنهر السكريفيا Scirivia وجد مياهه وقد فاضت بدرجة كبيرة بسبب مياه الربيع، حتى أنه أجّل عبور النهر وبات ليلته في تور دي جارو فولو Torre di Garofolo. وكان هذا التأخير من حُسن حظه فلو أنه واصل طريقه الى فوجيرا Voghera لكان من المحتمل ألا يصل إلى مارينجو في الوقت المناسب لإصدار الأمر الذي يوفِّر يوما.

وفي وقت باكر من يوم 41 يونيو أمر ميلاس جيشه بالتقدم في سهل مارينجو وأن يشق طريقه إلى بياسنزا Piacenza ففاجأت قوات نمساوية قوامها 000،03 مقاتل القوات الفرنسية بقيادة فكتور ولانز ومورو البالغ عددها 000،02 مقاتل، وتراجع الفرنسيون رغم بطولتهم المعتادة أمام وابل قذائف المدفعية التي أهلكت منهم عدداً كبيراً، واستيقظ نابليون في جاروفولو Garofolo على صوت المدافع التي وصلت إلى أسماعه من مكانها البعيد فأرسل مبعوثاً لاستدعاء ديزييه Desaix من نوفي Novi واندفع هو نفسه إلى مارينجو وهناك خاضت قواته المكونة من 008 مقاتل من حرسه معركة شرسة لكنها لم تستطع وقف النمساويين، وواصل الفرنسيون تراجعهم إلى سان جوليانو Guliano. وكان ميلاس متعجلاً لطمأنة الإمبراطور فأرسل رسالة إلى فيينا يعلن فيها أنه حقق النصر، وانتشر التقرير نفسه في باريس مما سبب ذعراً للعامة وفرحاً لأنصار الملكية.

لقد جرى ما جرى بدون ديزيه Desaix الذي لم يعمل النمساويون له حساباً، وسمع ديزيه أيضاً وهو في الطرق إلى نوفي Novi دمدمة المدافع فعاد فجأة على رأس قواته البالغ عددها 0005 مقاتل في اتجاه أصوات الدمدمة ووصل إلى سان جوليانو Giuliano في الثالثة بعد الظهر فوجد اخوانه الجنرالات ينصحون نابليون بالتراجع أكثر فأكثر فاحتج فقالوا له لقد خسرنا المعركة فقال هذا صحيح، لكن الساعة الآن الثالثة بعد الظهر فقط وهناك وقت لكسب معركة أخرى(14) فوافقوه ونظم نابليون خط هجوم جديد وركب حصانه بين الجنود لرفع روحهم المعنوية وقاد ديزيه Desaix العملية فتعرض لطلقة من نيران العدو وخرّ من فوق حصانه وأوصى وهو يموت من يليه في القيادة اخف خبر مماتي، حتى لا يؤثر في معنويات الجنود(24) ومع أن الجنود قد علموا بموته إلاّ أن ذلك لم يؤثر فيهم سلباً بل جعلهم يندفعون صائحين أنهم سيثأرون لمقتل قائدهم. ومع هذا فقد واجهوا مقاومة لاتكاد تلين. فلما رأى نابليون ذلك أرسل إلى كيلرمان Kellermann تعليمات بالتوجه بكل قوة الخيالة التي معه لإنقاذ الرجال، فانقض بقواته بشراسة على جناح الجيش النمساوي فشقه قسمين واستسلم 0002 منهم وتم أسر الجنرال فون تساخ Von Zach الذي كان يقود الجيش بدلاً من ميلاس الغائب، وسلّم تساخ سيفه إلى نابليون، واستُدعي ميلاس من أليساندريا ليأتي متأخراً بحيث لا يستطيع تغيير نتيجة المعركة فعاد منكسر القلب حزيناً إلى مقره.

ولم يكن نابليون ليستطيع أن يسعد تماماً بهذا النصر لقد خسر خسارة شخصية أثّرت فيه تأثيراً عميقاً بموت ديزيه Desaix المخلص بالاضافة إلى كثيرين من الضباط الآخرين الذين لاقوا حتوفهم مع ستة آلاف فرنسي في سهل مارينجو Maringo Plain ولم يشف غليله موت ثمانية آلاف نمساوي هناك في اليوم نفسه، فنسبة القتلى النمساويين إلى إجمالي عدد القوات النمساوية كانت أقل من نسبة القتلى الفرنسيين إلى إجمالي عدد القوات الفرنسية.

وفي 51 يونيو طلب البارون فون ميلاس من نابليون عقد هدنة بعد أن أدرك أن ما تبقى من قواته في حالة لا تسمح له بخوض معركة جديدة. وكانت شروط الهدنة قاسية إذ كان على النمساويين اخلاء كل ليجوريا Liguria وبيدمونت Piedmont، وكل لمبارديا إلى الغرب من منشيو Mincio ومانتوا Mantua وأن يعيدوا للفرنسيين كل الحصون في المناطق المسلحة. ويُسمح في مقابل ذلك بمغادرة القوات النمساوية محتفظة بشرفها العسكري كله، ووافق ميلاس على هذه الشروط التي ألغت حصاد كل فتوحاته في يوم واحد وأرسل إلى إمبراطور النمسا ملتمساً منه إبرام هذا الاتفاق. وفي 61 يونيو أرسل نابليون رسالة إلى فرانسيس الثاني يطلب منه السلام على كل الجبهات. وبعض فقرات ذلك الخطاب لا يمكن أن تأتي إلاَّ من داعية للسلام:

.. لقد كانت هناك حرب بيننا. آلاف من النمساويين والفرنسيين قضوا نحبهم.. آلاف من الأسر المحرومة تدعو أن يعود الآباء والأزواج والأبناء!.. الشر لا علاج له، لكن عساه - على الأقل - يُعلمنا أن نتجنب كل ما قد يُطيل فترة العداء. لقد أثرت هذه المشاهد في قلبي لدرجة جعلتني أرفض قبول ما أحرزته من تقدم في السابق لآخذ على عاتقي الكتابة إلى جلالكتم مرة أخرى متوسلاً إليك أن تضع نهاية لمآسي أوروبا. في ميدان معركة مارينجو Marengo حيث يحيط بي الذين عانوا ويلات المعركة، وأنا في وسط 000،51 جثة، أتوسل إلى جلالكتم أن تسمع نداء الإنسانية وألا تسمح لأبناء أمتين قويتين يتسمون بالشجاعة، أن يذبح بعضهم بعضهم الآخر من أجل مكاسب أنتم تعلمون أنها لا تعني شيئا... إن المعركة الحالية هي خير برهان على أن فرنسا ليست هي التي تهدد ميزان القوى. فكل يوم يؤكد أن إنجلترا هي التي تهدد ميزان القوى. إنجلترا التي احتكرت تجارة العالم وإمبراطورية البحار التي تستطيع منفردة التصدي لأساطيل روسيا والسويد والدنمرك وفرنسا وأسبانيا وهولندا متحدة.

إن اقترحاتي التي أظن من الصواب توجييها لجلالتكم هي:

  1. - أن تمتد الهدنة لتشمل كل الجيوش.
  2. - أن يتم إرسال مفاوضين من الطرفين إما للتفاوض سراء أم علناً، وفقاً لما تفضلونه، وأن تكون المفاوضات في مكان ما بين منيشو Mincio والشيز Chiese للموافقة على وسائل ضمان الاحتفاظ بأقل عدد من القوات ولتوضيح مواد معاهدة كامبو فورميو Campoformio التي أظهرت التجربة أنها مواد غامضة...(34).

ولم يبد أن الإمبراطور قد تأثر، فمن الواضح أن الفاتح الشاب كان راغباً في ضمان مكاسبه التي حققها ولم يكن هناك ما يشير إلى أنه راعي الحياة الإنسانية عند خوضه معاركه. وربما لم يتوقف كل من الإمبراطور والقنصل الأول (نابليون) عن التساؤل عن كيفية تصرف النمساويين والفرنسيين في إيطاليا. ووضع البارون فون توجوت Von Thugut حداً واضحا لهذا الأمر بتوقيعه في 02 يونيو سنة 0081 معاهدة مع إنجلترا تضمن هذه الأخيرة تقديم عون مالي جديد للنمسا مقابل تعهدها بعدم التوقيع على معاهدة صلح منفرد مع فرنسا(44).

وفي هذه الأثناء كان نابليون يلعب بكل أوراقه فحضر قداساً مهيباً (قداس تسبيحة الشكر) عبَّر فيه رجال الدين في ميلان عن شكرهم الله لخروج النمساويين من بلادهم. واحتفلت الجماهير بإقامة الاستعراضات على شرف محقق النصر (نابليون) وسأل نابليون سكرتيره بورين: هل سمعت يا بورين التهليل والبهجة؟ إن أصداءها لا تزال تدوي. إن هذه الأصوات عندي في مثل حلاوة صوت جوزفين. كم أنا سعيد وفخور أن يحبني مثل هؤلاء الناس!(54). لقد كان لا يزال في إيطاليا عاشقاً للغتها مفتوناً بالجمال والعاطفة والبساتين المزدانة والدين المرن المتساهل والطقوس الشجية والألحان الغامضة. لكن ما حرّك مشاعره أيضاً هو تصفيق الجماهير التي تجمعت أمام قصر التوليري في 3 يوليو في الصباح الذي أعقب عودته ليلاً إلى باريس، فقد بدأ الشعب الفرنسي يعتقد أن الله يختصه، فشربوا بشغف حتى الثمالة من كأس العظمة.

أما لويس الثامن عشر الذي ورث قروناً من العداء بين بوربون فرنسا، وهابسبرج النمسا، فلم يستطع أن يكون محايداً - إلاّ بالكاد - إزاء هذا النصر الجديد الذي حققه نابليون على أعداء البوربون القدماء، وربما أيضاً رغبة منه في أن يكون نابليون هو صانع الملك، لا الملك نفسه، لذا فقد كتب (لويس الثامن عشر) مرة أخرى إلى نابليون في يوم غير معروف من صيف سنة 0081:

لابد أنّك مقتنع أيها الجنرال منذ فترة طويلة أنني أكن لك تقديراً كبيراً. وإن شككت في تقديري لفضلك وعرفاني بجميلك، فحدد جائزتك التي تريدها وحدّد نصيب أصدقائك. فأنا فرنسي بمبادئي، رحيم بحكم شخصيتي، وبحكم ما يمليله العقل أيضاً.

لا، فمحقق النصر في لودي Lodie وكاستليون Castiylione وأركول Arcole وفاتح إيطاليا ومصر، لا يمكن أن يفضل الشهرة الزائفة على المجد الحقيقي. لكنك تضيّع وقتاً ثميناً. إنه يمكننا أن نؤكد عظمة فرنسا، وأنا أتحدث بضمير جمع المتكلِّمين وأقول يمكننا لأنني في حاجة إلى عون بونابرت، وبونابرت لا يستطيع أن يفعل شيئاً بدوني.

أيها الجنرال إن أوروبا تنظر إليك والعظمة في انتظارك وإنني في شوق شديد لإعادة السلام لشعبي

لويس(64)

وقد أجاب نابليون على هذا الخطاب بعد فترة طويلة في 7 سبتبمر:

سيدي

لقد تلقيتُ خطابك. وأشكرك على ملاحظاتك الرقيقة فيما يختص بشخصي. يجب أن تتخلى عن أي أمل في عودتك لفرنسا. فأنت إن عدت فسيكون ذلك على جثث مئات الألوف. ضَحِّ إذن بمصالحك الشخصية من أجل سعادة فرنسا وتحقيق السلام لها.. إن التاريخ لن ينسى. ولا أقول أنني لم أتأثر بمحنة أسرتك.. وسيسعدني أن أفعل ما أستطيع لأجعل حياتك في معتزلك (مكان تقاعدك) سعيدة ليس بها ما ينغِّص(74).

وكان لويس الثامن عشر قد أرسل خطابه من ملجئه المؤقت في روسيا، وربما كان هناك عندما تلقى القيصر بولس الأول في يوليو سنة 0081 من نابليون هدية تكاد تكون قد غيّرت مسيرة التاريخ. ففي خلال حرب سنة 9971 وقع حوالي ستة آلاف عسكري روسي في قبضة الفرنسيين فعرض نابليون على إنجلترا والنمسا (حلفاء روسيا) أن يُبادل بهم الأسرى الفرنسيين، فرفضتا(84). ولم تكن فرنسا بقادرة على الاستفادة منهم بطريقة شرعية، كما أن احتفاظها بهم سيكلفها الكثير من النفقات، فأمر نابليون بإلباسهم ملابس جديدة وتسليحهم وإرسالهم إلى القيصر دون أن يطلب أي مقابل لفعله هذا(94). فأجاب القيصر بول بعقد أواصر الصداقة مع فرنسا، وشكّل في 81 مارس سنة 0081 ضد إنجلترا العصبة الثانية للحياد المسلَّح the Second League of Armed neutrality. وفي 32 مارس سنة 1081 تم اغتيال القيصر بول فعادت الأمور سيرتها الأولى أي كما كانت قبل الهدية.

وفي هذه الأثناء رفض الإمبراطور النمساوي هدنة أليساندريا Alessandria وأرسل ثمانية آلاف مسلح بقيادة الجنرال فون بيليجارد Bellegarde ليُحكم قبضته على طول مينشيو Mincio، فأجاب الفرنسيون بطرد النمساويين من توسكانيا Tuscany ومهاجمتهم في بافاريا Bavaria. في 3 ديسمبر سنة 0081 هزمت القوات الفرنسية بقيادة مورو Moreau والبالغ عددها 0006 مقاتل القوات النمساوية البالغ عددها 000،56 في هوهنليندن Hohenlinden بالقرب من ميونخ Munich، هزيمة منكرة وأسرت 000،52 نمساوي حتى أن الحكومة النمساوية وقد أدركت أن عاصمتها فيينا باتت تحت رحمة مورو، اضطرت لتوقيع هدنة شاملة في 52 ديسمبر سنة 0081 ووافقت على الدخول في مفاوضات مع الحكومة الفرنسية للوصول إلى سلام مُنفصل (منفرد) بعيداً عن القوى الأوروبية الأخرى المناوئة لفرنسا. وعند عودة مورو إلى باريس لاقى استقبالا حافلاً وهتافات مدوية بدرجة ربما أثارت بعض المشاعر المضادة لدى نابليون، لأن مورو Moreau كان أثيراً لدى الملكيين واليعاقبة على سواء وكانوا يفضلون أن يكون رأساً للدولة.

واستمرت المؤامرات ضد حياة نابليون لا ترعوى، ففي بواكير سنة 0081، تم العثور على صندوق نشوق يُشبه صندوق النشوق الذي اعتاد القنصل الأول على استخدامه، في درج مكتبه في مالميزون Malmaison، وكان هذا الصندوق يحوي سماً مخلوطاً بالنشوق(05). وفي 41 سبتمبر و 01 أكتوبر تم القبض على عدد من اليعاقبة المشتركين في مؤامرة لقتل نابليون. وفي 42 ديسمبر قاد ثلاثة من الثوار الملكيين - أرسلهم جورج كادودال Cadoudal من بريطانيا - آلة مفخخة محملة بالمتفجرات واقتحموا بها الجموع التي كانت تحمل نابليون وأسرته إلى دار الأوبرا، فقتلوا اثنين وعشرين شخصا وجرحوا ستة وخمسين ولم يُصب نابليون ولا أحد من حاشيته، وواصل نابليون طريقه إلى الأوبرا بهدوء ظاهر لكنه أمر عند عودته لقصر التوليري بإجراء تحريات دقيقة وبإعدام اليعاقبة المسجونين بالإضافة إلى نفي أو اعتقال 031 آخرين، كانوا موضع شك، أما فوشيه Fouché الذي كان يعتقد أن الملكيين - وليس اليعاقبة - هم المجرمون فقد اعتقال مائة منهم وأرسل للمقصلة اثنين في أول أبريل سنة 1081. لقد تجاوز نابليون القانون وتخطاه، لكنه كان يشعر أنه يخوض حربا وأن عليه أن يبث شيئا من الرعب في قلوب رجال كانوا هم أنفسهم يحتقرون القانون. لقد زاد عداؤه تدريجياً لليعاقبة وأصبح شيئاً فشيئاً متساهلاً مع الملكيين.

وفي 02 أكتوبر سنة 0081 أوعز إلى مساعديه بأن يشطبوا من قائمة المهاجرين إثر أحداث الثورة الفرنسية أسماء المسموح لهم بالعودة إلى فرنسا وأن يستردوا ما صادرته الدولة منهم إذا لم تكن الحكومة قد باعته أو خصصته للاستعمال الحكومي. لقد كان هناك الآن حوالي 000،001 مهاجر كان كثيرون منهم قد طلبوا الإذن بالعودة إلى فرنسا. ورغم احتجاج المعارضين الذين سبق لهم أن اشتروا الممتلكات المصادرة سمح نابليون لعدد بلغ 000،94 من هؤلاء المهاجرين بالعودة. وأكثر من هذا فقد كان يجري شطب أسماء أخرى من قائمة الممنوعين من العودة بين الحين والآخر أملاً في تقليص العداء الخارجي ضد فرنسا، وأملاً في إحلال السلام العام في أوروبا. وابتهج الملكيون لذلك، أما اليعاقبة فازدادوا كمداً.

وكانت الخطوة الأولى في برنامج السلام هذا هو اجتماع المفاوضين الفرنسيين والنمساويين في لونفيل Luneville (بالقرب من نانسي Nancy). وأرسل نابليون أخاه جوزيف لعرض حُجج فرنسا هناك، ولم يُرسل تاليران، وقد قام جوزيف بمهمته خير قيام. وكان نابليون يؤيده في كل خطوة تأييداً راسخاً ينطوي على التصميم، فكانت طلباته من الجانب النمساوي تزداد إذا لمس منه أي تأخير. وأخيراً استسلم النمساويون ووقعوا على ما أسموه - بسوء فهم - سلام لونيفيل المرعب في 9 فبراير سنة 1081 بعد أن رأوا جيوش فرنسا تبتلع كل إيطاليا تقريباً ورأوها تدق أبواب فينا. واعترفت النمسا بتبعية بلجيكا ولوكسمبورج والأراضي الواقعة على طول الضفة الغربية للراين من بحر الشمال إلى بازل لفرنسا. وأقرت ما سبق أن ورد في معاهدة كامبوفورميو Campoformio واعترفت بسيادة فرنسا على إيطاليا فيما بين جبال الألب ونابلي وما بين الأديج Adige ونيس Nice كما اعترفت بالحماية الفرنسية على جمهورية باتافيا (هولندا) وجمهورية هيلفيتيا (سويسرا). لقد كتب الوزير البروسي هوجفثز Haugwitz: لقد اتفقت النمسا الآن اتفاقاً منفرداً مع فرنسا لإقرار السلام في أوروبا(15) وارتفعت بورصة باريس عشرين نقطة في يوم واحد وراح عمال باريس يفضلون الانتصارات أكثر من تفضيلهم للتصويت في الانتخابات، يهتفون لإنجازات نابليون على الصعيدين السياسي والحربي، عاش نابليون. وعلى أية حال فربما كانت لونيفيل معركة حربية أكثر منها انتصارات دبلوماسية. لقد كانت لونيفيل انتصارا للكبرياء على التدبر والتعقل ففيها كمنت بذور حروب كثيرة انتهت بواترلو Waterloo.

وثمَّة مفاوضات أخرى جلبت لفرنسا مزيداً من القوة فبناء على الاتفاق مع أسبانيا في أول أكتوبر سنة 0081 أصبحت لويزيانا Louisiana تابعة لفرنسا. وأدت معاهدة فلورنسا (81 مارس سنة 0081) مع ملك نابلي إلى أن أصبحت جزيرة إلبا Elba وممتلكات نابلي في وسط إيطاليا تابعة لفرنسا، وأدَّت المعاهدة نفسها إلى اغلاق موانئ نابلي في وجه التجارة البريطانية والتركية. وأدّى الإدعاء الفرنسي القديم في سان دومينجو St. Domingue - القسم الغربي من هسبانيولا Hispanida - إلى دخول نابليون في صراع مع رجل يكاد لا يقل عنه في قوة الشخصية. إنه فرانسو - دومينيك توسين Francois Dominique Toussaint الذي وُلد كعبد زنجي في سنة 3471 وقاد عبيد سان دومنيجو وهو في سن الثامنة والأربعين - وهي سن يفترض أن بالغها يتسم بالحذر - في ثورة ناجحة، واستولى على الجانب الفرنسي من الجزيرة ثم على الجانب الاسباني منها. وحكم الجزيرة باقتدار لكنه وجد صعوبة في ضبط النظام المؤدي لكثرة الانتاج بين العبيد المحررين الذين كانوا يفضلون حياة البطالة ويبدو أن ذلك بسبب الحرارة. وسمح توسين Toussaint لكثير من الملاك السابقين بالعودة إلى مزارعهم وأسس نظام عمل يكاد يكون قائما على العبودية. وقد اعترف من الناحية النظرية بالسيادة الفرنسية على سان دومنجو St. Domingue اما من الناحية العملية فإنه - على أية حال - احتفظ بلقب الحاكم العام طوال حياته كما احتفظ بحقه في توليه من يخلفه، تماما - إلى حد كبير - كما سيفعل نابليون بعد فترة وجيزة في فرنسا. وفي سنة 1081 أرسل القنصل الأول (نابليون) عشرين ألف عسكري بقيادة الجنرال شارل لكلير Leclere لإعادة بسط السيادة الفرنسية في سان دومنجو St. Domingue، لكن توسين واجه هذه القوات بشراسة ومع هذا فقد لاقى الهزيمة ومات في جيل Jail في فرنسا (سنة 3081). وفي سنة 3081 وقعت الجزيرة كلها في يد بريطانيا.

وقد ظل الأسطول البريطاني - يدعمه التفوق البريطاني في مجالي التجارة والصناعة - هو العقبة الكأداء التي تعوق نجاح نابليون طوال فترة حكمه فيما خلال عامين اثنين. لقد كانت بريطانيا تستطيع أن تزوّد بالأموال جيوش حلفائها في أوروبا في محاولاتهم المتكررة للإطاحة بنابليون، فقد كانت إنجلترا قابعة وراء القنال الإنجليزي غير معرضة للدمار الذي تسببه الحرب، ثرية بفضل تجارتها البحرية التي لا ينافسها فيها أحد وعوائد مستعمراتها وسبقها في الثورة الصناعية. لقد اتفق التجار والصناع مع الملك جورج الثالث والتوريين Tories (حزب المحافظين البريطاني) والمهاجرين الفرنسيين الذين اضطروا لترك فرنسا إثر أحداث الثورة الفرنسية وإدموند بورك Burke - على أن عودة أسرة البوربون إلى عرش فرنسا هي الطريقة المثلى لإعادة الاستقرار إلى نظم الحكم القديمة (غير الثورية) ومع هذا فإن الجناح المعارض للتوريين (المحافظين) وكان يشكل في إنجلترا أقلية قوية بقيادة شارلز جيمس فوكس Charles James Fox وكان يمثل الاتجاه الليبرالي الراديكالي ويضم رجالا يتسمون بالبلاغة وحُسن البيان - اعترض على أساس أن الحرب المستمرة ستنشر الفقر وتحرض على الثورة، وعلى أساس أن نابليون أصبح الآن أمراً واقعاً، وعلى أساس أن الوقت قد حان لإيجاد تسوية مؤقتة مع قائد المرتزقة الذي لا يقهر (المقصود نابليون).

وأكثر من هذا فقد راحوا يسوقون الأدلة على أن مسلك بريطانيا كسيدة للبحار قد خلق لها أعداء أصبحوا أصدقاء لفرنسا. وادعى الأدميرالات البريطانيون أن حصارهم لفرنسا يعطيهم - ومن معهم من بحارة - الحق في تفتيش السفن المحايدة ومصادرة البضائع المتجهة إلى فرنسا، وقد امتعضت كل من روسيا والسويد والدنمرك وبروسيا من هذا التصرف واعتبرته انتهاكا لسيادتها وكوَّنت في ديسمبر سنة 0081 عصبة الحيادة العسكري الثانية Secand Laege of Armed Neutrality واقترحت مقاومة أي تعرض بريطاني لسفنها من الآن فصاعداً. أما وقد ازدادت حدة الخلاف، فقد استولى الدنمركيون على هامبورج Hamburg (التي كانت قد أصبحت الباب الرئيسي لبريطانيا المفضي إلى وسط أوروبا)، واستولى البروسيّون على هانوفر Hanover التابعة لجورج الثالث. وأخيراً أصبح نصف أوروبا الذي كان معادياً لفرنسا، معادياً لانجلترا الآن. ولأن فرنسا كانت بالفعل تسيطر على مصبات الراين وشاطئه الشمالي، فقد أصبحت البضائع البريطانية لا تجد سبيلها - إلى حد كبير جدا - لأسواق فرنسا وبلجيكا وهولندا وألمانيا والدنمرك ودول البلطيق وروسيا. وأغلقت إيطاليا موانئها في وجه التجارة البريطانية. وكانت اسبانيا متذمرة بسبب جبل طارق، وكان نابليون يكوّن جيشاً ويبني أسطولاً لغزو إنجلترا.

وحاربت إنجلترا عن مؤخرتها، وربحت من تغيّر اتجاه الاحداث، لقد دمر أسطول بريطانيا أسطولاً دنماركياً في ميناء كوبنهاجن (في 2 أبريل سنة 1081). وَخَلَف القيصر بول الأول، القيصر اسكندر الأول Alexander I الذي غيَّر سياسة سلفه نحو فرنسا، وأدان غزو نابليون لمصر واعترف بالسيادة الإنجليزية على مالطة بعد أن كانت في يد الفرنسيين. ووقع مع إنجلترا معاهدة في 71 يونيو سنة 1081، وهكذا انهارت العصبة الثانية للحياد العسكري، ومع هذا فإن توقف الازدهار الاقتصادي في بريطانيا وتضخم الجيش الفرنسي في بولونيا وانهيار النمسا رغم المعونات المالية الباهظة التي قُدمت لها - كل ذلك جعل إنجلترا تجنح للسلم. ففي أول أكتوبر سنة 1081 وقَّع مفاوضوها اتفاقاً مبدئياً تتعهد فيه فرنسا بتسليم مصر إلى تركيا (الدولة العثمانية)، وأن تُسلم بريطانيا جزيرة مالطة في ظرف ثلاثة أشهر لفرسان القديس يوحنا Kinghts of St. John وكان لابد أن تستعيد كل من فرنسا وهولندا وأسبانيا معظم مستعمراتها التي سُلبت منها، وكان على فرنسا أن تسحب كل قواتها من وسط إيطاليا وجنوبها. وبعد سبعة أسابيع من المناقشات وقعت بريطانيا العظمى وفرنسا معاهدة السلام في إميان - تلك المعاهدة التي طال انتظارها - في 72 مارس سنة 2081. وعندما وصل ممثل نابليون إلى لندن بالوثائق مصدقة أخذت الجماهير السعيدة بألجمة خيوله وسحبت العربة إلى وزارة الخارجية وسط هتافات عاشت الجمهورية الفرنسية! عاش نابليون(25).

وكانت الجماهير الفرنسية مفعمة حماساً شاكرة وممتنة للرجل الشاب (نابليون) الذي لم يتجاوز الثانية والثلاثين من عمره، والذي وضع - بألمعيّة - نهاية لحرب استمرت عشر سنين. لقد سبق أن اعترفت أوروبا كلها بمقدرته كجنرال، وهاهي ترى الآن أن هذا العقل الصافي نفسه، وهذه الإرادة الراسخة، تتألقان في مضمار الدبلوماسية أيضاً. ولم تكن إميان Amieus سوى البداية، ففي 32 مايو سنة 2081 وقَّع نابليون معاهدة مع بروسيا وفي اليوم التالي مع بافاريا وفي 9 أكتوبر مع تركيا (الدولة العثمانية) وفي 11 أكتوبر مع روسيا، وعندما اقترب التاسع من نوفمبر - الذكرى السنوية للثامن عشر من الشهر الجمهوري برومير Brumaire - رتِّب الأمور للاحتفال به كمهرجان للسلام. وفي هذا اليوم أعلن بسعادة هدف جهوده: إن الحكومة إيماناً منها بطموحاتها وتنفيذاً لوعودها لن تستسلم للمشروعات المنطوية على المخاطرة. إن واجبها كان هو استعادة الهدوء، لتعمل على ترسيخ العلاقات القوية والأبدية بين الأسرة الأوروبية الكبيرة لتشكيل أقدار العالم(35) وربما كانت هذه اللحظة هي أرقَّ لحظة في تاريخه.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الانتقال من الجمهورية إلى الامبراطورية 1804

وبينما نابليون يتأمل في أمر المؤامرة اعترته الدهشة لم يتحتم عليه أن يمارس عمله في ظل تهديــد دائم باغتيالــه، بينماــ الحكــام الذيــن تحالفــوا ضــده مــراراً - جورج الثالث في إنجلتـرا وفرنســوا الثانــي فـي النمسا والإمبراطوريـة الرمانيـة المقدسـة وفريدريـك وليــم الثالث فـي بروســيا واســكندر الأول في روســيا - يمكن للواحــد منهم أن يُواصل حكمه حتى يوافيه الموت بشكل طبيعي، كما يمكن للواحد منهم أن يُعَوِّل على نقل سلطته إلى وريثه الطبيعي أو المُعيَّن. ووجد أن هذا لا يمكن أن يكون بسبب أخذهم بأساليب الحكم الديمقراطي سياسة وتعييناً. لقد ظهر له أن السر الكامن في استقرار أوضاعهم يكمن في شرعيتهم - أي رسوخ مبدأ الوراثة في الحكم في الرأي العام بسبب اعتيادهم عليه طوال أجيال وقرون.

لقد كان نابليون يحلم بينه وبين نفسه بالحكم المطلق الخالص بل وأن يكون مؤسس أسرة حاكمة تكتسب شرعيتها بمرور الزمن وتكتسب عبير العراقة. لقد شعر أن الأعمال التي يتطلع لإنجازها تتطلب استقراراً واستمرارية كالتي يتسم بهما الحكم المطلق. لقد وضع في اعتباره كيف أن قيصر أدخل القوانين الرومانية والحضارة الرومانية إلى بلاد الغال Gaul وأبعد الجرمان إلى ما وراء الراين واكتسب لقب إمبراطور والقائد العام - حسناً، ألم يفعل نابليون هذا؟ وفكر نابليون كيف أن أغسطس Augustus أنجز الكثير خلال فترة حكمه الإمبراطوري الذي دام واحداً وأربعين عاماً بعد أن أنهى الفوضى التي سببها العامة مُتلقياً دعم أعضاء السينات (مجلس الشيوخ) الذين كانوا على درجة كافية من الحكمة تجعلهم يتخلون عن المناقشات الطويلة واللَّغْو مُخْلين الطريق أمام العبقرية. وان نابليون ابن إيطاليا والذي يُكنُّ إعجاباً بالرومان القدماء يتطلع إلى مثل هذا الاستمرار في الحكم الذي لا يُعكِّر صفوه شيء وإلى الحق في تعيين من يَخْلُفه على نحو ما كان يفعل أباطرة القرن الثاني.

وكان يفكر أيضاً في شرلمان وغالباً ما كان يتحدث عنه. شرلمان الذي استمر حكمه ستة وأربعين عاما (867 - 418) ففزض النظام على بلاد الغال وجلب لها الرخاء ونشر قوانين الفرانكيين (الفرنج Franks) - كقوة متحضرة - في ألمانيا وإيطاليا، ونال مباركة البابا، ألم يفعل نابليون كل ذلك؟ ألم يُعِد لفرنسا دينها الذي قمع الشغب الوثني الذي أطلقته الثورة من عقاله؟ ألا يستحق - مثل شارلمان - التاج مدى الحياة؟

لم يكن أغسطس ولا شرلمان يؤمنان بالديمقراطية ولم يكونا لِيُخْضِعا أحكامهما المصقولة الحكيمة وسياساتهما بعيدة النظر وخططهما المستقبلية لنقد ممثلي الجماهير الساذجة المتسم بالميل للأسفاف ومناقشاتهم غير المجدية لكونهم عُرضة لقبول الرشاوى. لقد عرف قيصر وأغسطس الديمقراطية الرومانية في أيام شراء أصوات الناخبين مع أيام ميلو Milo وكلوديوس Clodius، وما كان لهما أن يحكما توصية من جماهير لا عقل لها. لقد شهد نابليون الديمقراطية الباريسية في سنة 2971 وشعر أنه لا يستطيع أن يقرر (ويعمل) باسم الجماهير الملتهبة عواطفها. لقد آن الأوان لطي صفحة الثورة وتعزيز مكاسبها الأساسية وإنهاء الفوضى والقلق والحرب بين الطبقات.

والآن بعد أن طارد أنصار الملكية بأحكام الإعدام، أصبح مُستعداً لقبول دعواهم الرئيسية التي مؤدّاها أنّ فرنسا ليست مستعدّة - عاطفياً أو عقلياً - لحكم نفسها بنفسها (المقصود ليست مستعدة للحكم الديمقراطي) وأن شكلاً من أشكال الحكم الفاشستي أمرٌ لا مفر منه. وفي سنة 4081 - وفقاً لما ذكرته مدام دي ريموزا Remusat بدأ أشخاص مُعيَّنون مُرْتبطون على نحو ما بالأمور السياسية يؤكدون أن فرنسا تشعر بضرورة حق السلطة في الحكم المطلق. ورأى السياسيون من الحاشية والمؤيدون للثورة أن استتباب الهدوء في البلاد يعتمد على حياة فرد واحد وراحوا يناقشون عدم استقرار نظام القنصلية. لقد مالت آراء الجميع شيئاً فشياً إلى الملكية(001). واتفق نابليون معهم، فقد ذكر لمدام ريموزا Remusat أن الفرنسيين يحبون الملكية وكل زخارفها(101).

وعلى هذا، فإنه ليبدأ الطريق إليها، قدَّم للفرنسيين كل زخارف الملكية (بهارجها الخارجية) فأمر القناصل بارتداء زي رسمي وكذلك الوزراء وأفراد الحكومة الآخرون. وشاع استخدام المخمل في صنع هذه الملابس، وكان هذا في جانب منه لتشجيع صُنّاع المخمل في ليون. وجعل نابليون في خدمته الشخصية أربعة جنرالات وثمانية معاونين وأربعة مديرين للشرطة واثنين من السكرتيرين. وشهدت المحكمة القنصلية بروتوكولات معقدة، وفُرِض فيها نمطُ سلوك خاص (اتيكيت) يضارع ما كان في العهد الملكي. وعُيّن الكونت أوغسط دي ريموزا Auguste de Remusat قيِّما على المراسم، بينما أصبحت زوجته كلير Claire على رأس أربع سيّدات لمرافقة جوزفين. وأضاف الخدم ذوو الملابس المزركشة والمركبات المزدانة مزيداً من التعقيد للحياة الرسمية. وقد راعى نابليون كل هذه المراسم أمام الجماهير أما عندما يكن بعيداً عن عيون العامة فإنَّه يجنح إلى بساطته التي اعتاد عليها. وعلى أية حال، فإنّه كان يبتسم ابتسامة الرضا والموافقة في مهرجانات البلاط وعندما يرى الملابس التنكرية في الكرنفالات وعند قيامه بزيارات رسمية للأوبرا حيث تعرض زوجته عباءاتها (الغالية) مذكِّرة بأميرة أخرى مُسْرفة ماتت مؤخراً ميتة تثير الشفقة. لقد دلَّلته باريس كما دلّل هو جوزفين، ومع ذلك فلم يكن نابليون هذا الحاكم الشاب لينخرط في الأناقة المتكلَّفة والمظاهر الكاذية فما كان لمن جمع بين إهابة روح أغسطس الإدارية وانتصارات قيصر ليفعل ذلك. لقد بدا من الطبيعي أن يصبح نابليون إمبراطوراً.

ومن الغريب أن نقول أن كثيراً من الجماعات سمعت - بلا امتعاض - الإشاعات التي مؤدّاها أنه على وشك أن يتوَّج. لقد كان هناك حوالي 000،002،1 فرنسي قد اشتروا من الدولة ممتلكات صادرتها من الكنيسة أو من المهاجرين الذين تركوا فرنسا إثر أحداث الثورة. وهؤلاء كانوا يرون أنه لا ضمان لسندات ملكيتهم خير من منع عودة البوربون ورأوا في استمرار سلطة نابليون خير ضمان لمنع وقوع كارثة بسلبهم ما اشتروه. وكان الفلاحون يفكرون على النحو نفسه، أما البروليتاريا فكانت منقسمة إذ كانت لا تزال مغرمة بالثورة باعتبارها - إلى حد كبير - من عملها لكنها أيضاً كانت مرتاحة للتوظيف الثابت والأجور الطيبة الذين أتاحهما الحكم القنصلي. بالاضافة الى أن أفرادها لم يكونوا بعيدين عن الإحساس بالعظمة أو مستثنين من الإحساس بفتنة الإمبراطورية وسحرها، وربما كانوا في هذا يفوقون كل أولئك الذين ناضلوا من أجل فرنسا. أما البورجوازية فكانت متشككة في الأباطرة إلاّ أن هذا الإمبراطور المرتقب (نابليون) كان هو رجلهم المخلص والنشط. وكان المحامون الذين نشأوا في أحضان القانون الروماني في غالبهم ميّالين إلى تحويل فرنسا إمبراطورية لتواصل عمل أغسطس والأباطرة الفلاسفة من نيرفا Nera إلى ماركوس أوريليوس Aurelius، بل أن الملكيّين كانوا يرون أنه حتى لو لم يستطيعوا إعادة سلالة البوربون فإنها خطوة للأمام إن عادت الملكية لفرنسا. أما الإكليروس فإنهم رغم معرفتهم أن تقوى نابليون ما هي إلاّ غطاء سياسي فقد كانوا ممتنين لإعادة الكنيسة. وكادت كل الطبقات خارج باريس تؤمن بأن الحكومة الملكية المستقرة هي وحدها التي تستطيع ضبط النَّزَق الفردي والانقسام الطبقي الذي يُدَمْدم تحت قشرة الحضارة أو بتعبير آخر الكامن في الحضارة التي لا تشكل سوى قرشة خارجية.

ومع هذا فقد كانت هناك أصواتٌ معارضة فباريس التي سبق أن قامت بالثورة وعانت من أجلها ما كان لها أن تتخلى عنها بكل دساتيرها التي تُتيح قدراً من الديمقراطية كَثُر هذا القدر أم قل - دون أسف عليها جهراً أم سراً. والزعماء اليعاقبة الذين كانوا لايزالون على قيد الحياة رأوا في التغيير المتوقَّع نهاية لدورهم في توجيه فرنسا، وربما نهاية لحياتهم. والذين كانوا قد صوَّتوا لإعدام لويس السادس عشر قد علموا الآن أن نابليون قد استثمر اشتراكهم في قتل الملك، وكان عليهم أن يعتمدوا على فوشيه Fouche لحيميهم لكن فوشيه كان يمكن أن يُطرد مرة أخرى. والجنرالات الذين كانوا يأملون في اقتسام فرنسا معه ومشاركته السلطة لعنوا الحركة التي كانت تُعد لإلباس الثياب الملكية الأورجوانية لهذا التافه القادم من كورسيكا(201). أما الفلاسفة والعلماء في المعهد الفرنسي فحزنوا لأن واحداً من أعضاء معهدهم (نابليون) كان يخطط لإسقاط الديمقراطية في استفتاء إمبراطوري.

حتى بين أفراد الأسرة المالكة كانت هناك مشاعر متضاربة. فقد كانت جوزفين تُعارض بخوفٍ أيَّ اتجاه نحو الإمبراطورية فإذا أصبح نابليون إمبراطوراً صار أكثر توقاً لوريث، وبالتالي مال لتطليقها فهو لا يتوقع أن تنجب له ولياً للعهد، وإذا ما تم طلاقها فقدت في لحظات عالمها المتألق العامر بالملابس الغالية والمجوهرات. وكان اخوة نابليون وأخواته يحثونه منذ زمن طويل على طلاقها. لقد كانوا يكرهون هذه الكرول Creole العاهرة اللعوب كعقبة في سبيل أحلامهم لتحقيق السلطة. والآن فإنهم يؤيدون الاتجاه للإمبراطورية كخطوة لإزاحة جوزفين، وقد صاغ جوزيف أخو نابليون القضية كالتالي: مؤامرة كادودال ومورو حتمت إعلان مبدأ الوراثة كأساس للحكم. فقد تؤدي حركة مفاجئة إلى الإطاحة بنابليون كقنصل (أول) ومن ثم فإن مبدأ الوراثة يُعد بمثابة ترس حماية فإن قَتْله في هذه الحال لا يُحقِّق الغرض المطلوب وهو الإطاحة بنظام الحكم كله. والحقيقة أنَّ طبيعة الأشياء تجعلنا نميل إلى تحقيق مبدأ الوراثة في الحكم. إنها مسألة ضرورة(301).

وتحرك أعضاءُ مجلس الدولة ومجلس الشيوخ (السينات) والتريبيون (مجلس الدفاع عن حقوق الشعب) وغيرهم في الحكومة بكياسة لتحقيق رغبات نابليون لأسباب بسيطة فموافقتهم لن تؤدي إلاّ إلى التقليل من حريتهم في المناقشة، تلك الحرية التي كانت قد قُيِّدت بالفعل بالإضافة الى أن معارضتهم قد تُنهي أدوارهم السياسية، كما أن الموافقة في وقت باكر قد تُحقِّق لهم مكافآت سخية. وفي الثاني من شهر مايو سنة 4081 أقرَّت الهيئات التشريعية ثلاثة اقتراحات. 1- سيتم تعيين نابليون بونابرت إمبراطوراً للجمهورية الفرنسية، 2- لقب إمبراطور والسلطات الإمبراطورية ستكون وراثية في أسرته.. 3- الحرص على حماية مبادئ المساواة والحرية وحقوق الشعب ككل وفي 81 مايو أعلن مجلس الشيوخ (السينات) نابليون إمبراطوراً. وفي 22 مايو أقرت نتيجة الاستفتاء (من خلال الأصوات المسجلة والتي وقّع فيها كل منتخب على قراره) هذا الأمر الواقع بواقع 923،275،3 موافقون و 965،2 معارضون، فقال جورج كادودال في سجنه بعد أن وصلته هذه الأخبار: لقد أتينا هنا - أي إلى السجن - لنجعل لفرنسا ملكاً، أمّا الآن فقد جعلنا لها إمبراطوراً(401).

قائمة القناصل

القنصلية المؤقتة
10 نوفمبر – 12 ديسمبر 1799
القناصل المؤقتون
ن. بوناپرت E. J. Sieyès P. R. Ducos
القنصلية
12 ديسمبر 1799 – 18 مايو 1804
القنصل الأول القنصل الثاني القنصل الثالث
ن. بوناپرت J. J. Régis de Cambacérès C. F. Lebrun

الهامش

  • ديورانت, ول; ديورانت, أرييل. قصة الحضارة. ترجمة بقيادة زكي نجيب محمود.
  1. ^ Robert B. Holtman, The Napoleonic Revolution (Baton Rouge: Louisiana State University Press, 1981), 31.