الغزو الفرنسي لروسيا

الغزو الفرنسي لروسيا
(الحرب الوطنية 1812)
جزء من الحروب الناپليونية
French invasion of Russia collage.jpg
مع عقارب الساعة من أعلى اليسار:
التاريخ24 يونيو  – 14 ديسمبر 1812
الموقع
النتيجة النصر الحاسم لروسيا[1]
تدمير الجيش المتحالف الفرنسي
بدء حرب التحالف السادس
المتحاربون

فرنسا الامبراطورية الفرنسية

الحلفاء:
الإمبراطورية النمساوية النمسا
بروسيا پروسيا
 الإمبراطورية الروسية
 السويد
القادة والزعماء
فرنسا ناپوليون
فرنسا Louis Alexandre Berthier
فرنسا لويس-نيكولا داڤو
فرنسا ميشل ني
فرنسا Jacques MacDonald
فرنسا Nicolas Oudinot
مملكة وستفاليا جيروم بواناپرت
Józef Poniatowski
جواكيم مورا
مملكة إيطاليا (الناپليونية) Eugène de Beauharnais
الإمبراطورية النمساوية كارل فليپ
بروسيا يوهان يورك

الإمبراطورية الروسية ألكسندر الأول
الإمبراطورية الروسية ميخائيل كوتوزوڤ
الإمبراطورية الروسية Michael Andreas Barclay de Tolly
الإمبراطورية الروسية Pyotr Bagration 
الإمبراطورية الروسية Peter Wittgenstein الإمبراطورية الروسية ألكسندر تورماسوڤ

الإمبراطورية الروسية پاڤل تشيتشاگوڤ
القوى
الجيش الكبير:
~685,000[2]
الجيش الروسي الامبراطوري:
نظاميون: 198,250 فرد في 20 يونيو[2]
الضحايا والخسائر
وفيات: 380,000

ناجون: 120,000 رجل (عدا الهاربون الأوائل).

منهم، 50,000 من النمسا وپروسيا، 20.000 من پولندا، و35.000 من فرنسا.[3]
وفيات: 210,000[4]

الغزو الفرنسي لروسيا في 1812، ويُعرف أيضاً بإسم الحملة الروسية في فرنسا[5] (فرنسية: Campagne de Russie) والحرب الوطنية 1812 في روسيا (روسية: Отечественная война 1812 года)، كانت نقطة تحول في الحروب الناپليونية. التهمت القوات الغازية الفرنسية والحليفة (الجيش الكبير Grande Armée) إلى جزء صغير من قوتها الأصلية وأشعلت نقلة هائلة في السياسة الاوروپية، إذ أضعفت بشكل درامي الهيمنة الفرنسية في اوروپا. شهرة ناپوليون كعقبري عسكري لا يقهر قد اهتزت بشدة، بينما الحلفاء السابقون للامبراطورية الفرنسية، أولاً پروسيا، ثم الامبراطورية النمساوية، بد أنهوا تحالفهم مع فرنسا وتحولواً إلى الجانب الآخر، مما أدى لإندلاع حرب التحالف السادس.[6]

بدأت الحملة في 24 يونيو 1812، عندما عبرت قوات ناپليون نهر نمان. كان ناپوليون يهدف إلى إجبار امبراطور روسيا ألكسندر الأول للبقاء في الحصار القاري للمملكة المتحدة؛ هدفه الرسمي كان القضاء على تهديد الپولندي. أطلق ناپوليون على الحملة الحرب الپولندية الثانية (في إشارة إلى "الحرب الپولندية الأولى")؛ بينما أطلقت عليها الحكومة الروسية اسم الحرب الوطنية.

برفقة حوالي نصف مليون رجل، تحرك الجيش الكبير''الجيش الكبير'' عبر غرب روسيا، منتصراً في عدة إشتباكات صغيرة نسبية ومعركة كبرى عند سمولنسك في 16-18 أغسطس. ومع ذلك، ففي اليوم نفسه، الجناح الأيمن للجيش الروسي، بقيادة الجنرال پيتر ويتگنشتاين، أوقف جزء من الجيش الفرنسي، بقيادة المارشال نيكولا اودينو، في معركة پولوتسك. منع هذا الجيش الفرنسي من التوجه للعاصمة الروسية سانت پطرسبورگ؛ تحدد مصير الحرب على جبهة موسكو، حيث تولى ناپوليون قيادة قواته بنفسه.

في الوقت الذي كان فيه الروس يستخدمون تكتيكات الأرض المحروقة، عادة ما كانوا يغيرون على العدو بسلاح الفرسان القوازق الخفيف، وكان جيشهم الرئيسي قد تراجع لما يقارب ثلاثة أشهر. هذا التراجع المستمر قوض ثقة الفيلد مارشال ميشيل أندري باركلاي ده تولي، مما دفع ألكسندر الأول لتعيين المخضرم الأمير ميخائيل كوتوزوڤ، القائد الأعلى الجديد للقوات. في النهاية، 7 سبتمبر، إلتقى الجيشان بالقرب من موسكو في معركة بورودينو. كانت المعركة هي أكبر تحرك دموي يحدث في يوم واحد أثناء الحروب الناپوليونية؛ شارك فيه أكثر من 250.000 جندي وأسفر عن سقوط 70.000 على الأقل. إستولى الفرنسيون على ميدان المعركة، لكنهم فشلوا في تدمير الجيش الروسي. بالإضافة إلى ذلك، فلم يتمكن الفرنسيون من من تعويض خسائرهم بينما تمكن الروس من ذلك.

دخل ناپوليون موسكو في 14 سبتمبر، بعدما تراجع الجيش الروسي ثانيةً. لكن بعدها قام الروس بإخلاء المدينة وأطلقوا سراح الجنائيين من السجون لإزعاج الفرنسييين؛ علاوة على ذلك، الحاكم، الكونت فيودور روستوپتشين، أمر بإحراق المدينة.[7] رفض ألكسندر الأول الاستسلام وفشلت محادثات السلام التي بدأها ناپوليون. في أكتوبر، لم تبدو بعد علامات النصر، بدأ ناپوليون بتراجع كارثي كبير لقواته من موسكو، أثناء موسوم الخريف الطميي الروسي الغير معتاد.

في معركة مالويارسلاڤتس حاول الفرنسيون الوصول إلى كالوگا، حيث لم يتمكنوا من العثور على طعام وأعلاف للماشية. لكن الجيش الروسي نظم قواته مرة أخرى وقام بإغلاق الطريق، مما أجبر ناپوليون على الرجوع من نفس الطريق، الجيش الكبير واجه ضربات قاسية منذ بداية الشتاء الروسي، نقص الإمدادات وحرب العصابات التي شنها المزارعون الروس والقوات غير النظامية. عندما عبرت بقية قوات ناپوليون نهر برزينا في نوفمبر، كان قد تبقى منها فقط 27.000 فرد؛ فقد الجيش الكبير حوالي 380.000 قتيل و100.000 أسير.[8] تخلى ناپوليون عن رجاله وعاد إلى باريس لحماية منصبه كامبراطور وللإستعداد لمقاومة تقدم الروس. انتهت الحملة في 14 ديسمبر 1812، عندما غادرت آخر القوات الفرنسية روسيا.


للحدث أبعاد ملحمية وأهمية تاريخية بالغة وكان محور نقاش كبير من التاريخيين. كان للحملة دوراً مستمراً في الثقافة الروسية ربما قد ظهر في الحرب والسلام لتولستوي والمقدمة الموسيقيى 1812 لتشايكوڤسكي، وتطابق هذا مع الغزو الألماني 1941-45، والذي أصبح يعرف بالحرب الوطنية الكبرى، في الاتحاد السوڤيتي.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

مقدّمات الحرب 1181 - 2181

استعدَّ الإمبراطوران المتخاصمان للمعركة بتحركات دبلوماسية، وتجمعات عسكرية، وتهيئة جماهيرية، وحاول كل منهما إقناع الآخر بأنه مُخلص للسلام. اختار نابليون كسفير له في روسيا أرمان دي كولينكور وهو رجل تفوق قيمته مجرد أصله النبيل. وعندما وصل هذا السفير إلى سان بطرسبرج (نوفمبر 1807) تأثر بما لحق بإسكندر من تطور من حاكم شاب حَيِى - ذلك الحاكم الذي كان قد رآه في سنة 1810 إلى قيصر كان قد أصبح مثالاً للمظهر الطيب والعادات الرشيقة والأسلوب الودود في الحديث. واعترف إسكندر أنه مُحب لنابليون وأنه لايزال متمسكاً بالاتفاقات التي عُقِدَت في تيلسيت - وأبدى بعض التوافقات الخفيفة اعتبرها الإمبراطور الفرنسي الأريب معقولة. [9]

لكن پولندا فرَّقت بينهما. لقد كان نابليون قد أسس دوقية وارسو (فرسافا) الكبيرة (1807) تحت الحماية الفرنسية لكن إسكندر واجه هذا بأن راح يتودَّد للنبلاء البولنديين بعرضه عليهم إعادة بولندا مملكة موحّدة كما كانت قبل التقسيم تحكم نفسها حكماً ذاتياً مع الاعتراف بقيصر روسيا كمليك لها مهيمن على علاقاتها الخارجية. ووقعت خطابات تحوي هذا العرض في يد نابليون فاستشاط غضباً، واستدعى كولينكور (فبراير 1811) وعيّن بدلاً منه جاك لو (ماركيز لوريستور مستقبلاً) سفيراً لفرنسا في روسيا.

وفي هذا الشهر حثَّ إسكندر النمسا على الانضمام إليه في شن هجوم على قوات نابليون في بولندا مغرياً إيّاها بمكسب عرضي - نصف مولدافيا وكل فاليشيا، ورفضت النمسا. وقد ألقى نابليون - بعد ذلك - وهو في سانت هيلانا بعض الضوء على سياسته في بولندا لم أكن أبداً لأشن الحرب على روسيا لأخدم - ببساطة - مصالح طبقة النبلاء البولنديين، أما بالنسبة إلى مسألة تحرير أقنان الأرض فإنني لا أستطيع أبداً أن أنسى أنني عندما تحدثت إلى أقنان الأرض في بولندا عن الحرية، أجابوني: بالتأكيد نحن نحب الحرية كثيراً جداً، لكن من سيُطعمنا ويكسونا ويدبّر لنا سكناً؟ وهذا يعني أنهم كانوا سيتعثرون في حالة حدوث أي تغيير مفاجئ.

ووصل كولينكور إلى باريس في 5 يونيو 1811 محملاً بالهدايا من القيصر، وحاول بكل جهده إقناع نابليون بنوايا إسكندر السلمية وحذّره من أن غزو فرنسا لروسيا قد ينتهي إلى هزيمة بسبب مناخها ومساحتها الشاسعة، وانتهى نابليون إلى أنّ كولينكور قد وقع في حب القيصر، فانتهك بذلك واجبات منصبه الدبلوماسي، وعبّأ نابليون جيشه في بروسيا أو بالقرب منها بعد أن استبعد الأمل في حل سلمي وبعد أن ساوره الشك أن روسيا تحاول كسب بروسيا والنمسا إلى جانبها، فأرهب - أي نابليون - فريدريك وليم الثالث لتوقيع تحالف مع فرنسا (5 مارس 1812) ألزم بروسيا بتقديم عشرين ألف جندي ينضمون إلى الجيش الفرنسي لغزو روسيا، كما ألزمها بإطعام الجيش الفرنسي عند مروره بالأراضي البروسية على أن تُخصم تكاليف الطعام من تعويض الحرب الذي كانت بروسيا لاتزال ملتزمة بدفعه لفرنسا. وفي 14 مارس دخلت النمسا في تحالف قَسْري مماثل مع فرنسا. وفي أبريل اقترح نابليون على السلطان (العثماني) تحالفاً يُتيح لتركيا تطوير صراعها مع روسيا في حرب مقدسة (جهاد) وأن نتعاون مع فرنسا في مسيرة متزامنة إلى موسكو، ويستعيد الباب العالي - في حالة نجاح الحملة - ولاياته الدانوبية مع ضمان سيطرته على القرم والبحر الأسود. لكن الباب العالي وقد تذكر أن نابليون قد حارب الترك (العثمانيين) في مصر والشام، وأنه عرض في تيلسيت على إسكندر أن يتصرف كما يحلو له ضد تركيا (الدولة العثمانية) - رفض عروض نابليون، ووقع - أي السلطان العثماني - اتفاق سلام مع روسيا (82 مايو 1812)، وفي 5 أبريل وقع إسكندر اتفاقية تعاون مشترك مع السويد، وفي 18 أبريل عرض على بريطانيا العظمى التحالف. وفي 29 مايو أعلن أن كل الموانئ الروسية مفتوحة لسفن كل الأمم. والحقيقة أن هذا الإعلان كان يعني الانسحاب من الحصار القاري (الذي فرضه نابليون) وإعلان الحرب على فرنسا.

ومع هذه المبارزة الدبلوماسية كانت تجري واحدة من أكثر الاستعدادات العسكرية في التاريخ ضخامة. وفي هذا المجال كانت مهمة إسكندر أبسط وأضيق من مهمة نابليون. لقد كان أمام إسكندر دولة واحدة كان عليه تعبئة قواتها ومشاعرها. أما تعبئة المشاعر فكادت تتم بدون مجهود منه: فروسيا الأم هبت بشكل تلقائي ضد جحافل البرابرة الذين نظموا أنفسهم وعلى رأسهم كافر وتوجهوا لغزو روسيا. وتحولت العاطفة الوطنية التي أدت فيما سبق إلى إدانة سلام تيلسيت إلى دعم ذي طابع ديني للقيصر، فحيثما ذهب تحلق حوله البسطاء رجالا ونساء يُقبّلون حصانه أو حذاءه. أما وقد وجد نفسه بهذه القوة فقد زاد من عدد جيوشه وأمرها بالاستعداد للحرب، ومرْكز 200.000 جندي على طوال الدفينا والدنيبر وهما أطول نهرين يفصلان روسيا الروسية عن ليتوانيا والولايات البولندية التي حصلت عليها روسيا في أثناء تقسيم بولندا.

أما تعبئة نابليون فكانت أكثر تعقيداً. لقد واجه الصعوبة المبدئية المتمثلة في أن 30.000 جندي فرنسي واثنى عشر جنرالاً فرنسيا كانوا متورطين في إسبانيا والحاجة إليهم أكثر لمنع ويلنجتون من اجتياح شبه جزيرة أيبيريا واجتياز جبال البرانس إلى فرنسا. لقد كان نابليون يأمل العودة إلى إسبانيا ليكرر نصراً آخر كالذي كان قد أحرزه في سنة 1809، والآن كان على نابليون أن يختار بين فقد إسبانيا والبرتغال والحصار القاري من ناحية، وفقد التحالف الروسي والحصار إنني أعلم أكثر من أي شخص آخر أن إسبانيا كانت سرطاناً مزعجاً كان لابد من علاجه قبل أن نستطيع الدخول في مثل هذه الحرب المرعبة التي لابد أن تكون معركتها الأولى على بعد ألف وخمسمائة ميل من حدودي.

وكان نابليون قد بدأ استعداداته العسكرية في سنة 1810 بتقوية الحاميات الفرنسية في دانتسج (دانزج) وأوعز - بالإضافة لذلك - بحذر شديد، إلى تنظيم أمور العسكر الفرنسيين في بروسيا. وفي يناير 1811 استدعى للخدمة العسكرية الذين أتى عليهم الدور في هذا العام ووزَّعهم على طول الساحل الألماني من نهر إلبا إلى نهر أودر Oder تحسباً لهجوم بحري روسي. وفي الربيع أمر أمراء كونفدرالية الراين أن يجهزوا حصتهم من الجنود المفروض تقديمها لجيوش نابليون، للقيام بعمل عسكري فعلي. وفي أغسطس بدأ في دراسة الأراضي الروسية دراسة جادة متأنية، ووقع اختياره على شهر يونيو كأفضل شهر لغزوها. وفي ديسمبر نشر شبكة جواسيس للعمل في روسيا وما حولها.

وبحلول شهر فبراير سنة 1812 كان الطرفان قد أتما التعبئة العامة اللازمة للحرب. كانت عملية التجنيد في فرنسا تُوحي بهبوط حاد في شعبية الجيش: من بين 300.000 تم استدعاؤهم للخدمة اختفى 80.000 وتم البحث عن آلاف منهم باعتبارهم مجرمين (هاربين من الخدمة العسكرية). وكثيرون من المجندين الجدد تركوا الخدمة العسكرية أو كانوا كارهين للجندية وأثبتوا - بشكل خطير - أنه لا يمكن الاعتماد عليهم في الأزمات. أما في المعارك السابقة فقد كان المجندون الجدد يجدون أمامهم القدوة والمثال الطيب الذي يدعو للفخر في التشجيع الأبوي من المحاربين المخضرمين القدماء في الحرس الإمبراطوري، أما الآن فقد كان معظم رفاق المعارك هؤلاء قد ماتوا أو كانوا في إسبانيا أو بلغ بهم العمر عتيا. فلم يعودوا قادرين على القيام بأدوار بطولية فعلية وكل ما كانوا يستطيعونه هو اجترار ذكريات بطولاتهم الماضية. بل إنه لم يكن للمجنَّدين الجُدد إلهام من أمة موحدة ومتحمسة تقف وراءهم. وقد ناشدهم نابليون كما ناشد رعاياه أن ينظروا إلى هذا المشروع كحرب مقدسة تشنها الحضارة الغربية ضد موجة غرور البربرية السلافية لكن الفرنسيين المتشككين كانوا قد سمعوا مثل هذه الحكايات من قبل، وعلى أية حال فقد كانت روسيا بعيدة بعداً يكفي لعدم إرهابهم. وحاول نابليون إلهاب مشاعر جنرالاته إلا أنهم لم يكادوا يُصيخون إليه سمعاً لأنهم كانوا ضد الحرب الجديدة لأنها - في رأيهم - دعوة إلى مأساة. وكان كثيرون منهم قد غدوا أثرياء بفضل هباته وكانوا راغبين أن يتركهم لينعموا بها في سلام.

وكان بعض مساعديه من الشجاعة بمكان بحيث صارحوه بشكوكهم. بل إن كولينكور رغم ولائه له وبرغم أنه خدمه حتى سنة 1814 كقيِّم على إصطبله الإمبراطوري ومشرف على خيوله - حذّره من أن الحرب مع روسيا مدمرة، بل وجرؤ على أن يقول له إنه قد سبّب كل هذه المتاعب لإرضاء ولعه الشديد بالحرب. أما فوشيه الذي كان قد أُبعد عن الحضرة الإمبراطورية بسبب تآمره الشديد، كما هو مفترض فقد استدعاه نابليون مرة أخرى ليضعه تحت ناظريه أو ليتمكن من توجيهه. فوشيه هذا قال لنابليون إنه من الصعب هزيمة روسيا بسبب المناخ وإنه - أي نابليون - يفعل كل هذا بسبب حلمه المضلل بأن يحكم العالم كله - هذا إن جاز لنا أن نصدّق فوشيه هذا. وقد شرح نابليون أنه لا يحلم إلا بإيجاد ولايات متحدة أوربية وأن يقدم للقارة تشريعات قانونية واحدة وعُملة واحدة، ونظام مقاييس وموازين واحد ومحكمة استئناف واحدة - كل هذا تحت قبعة واحدة ذات زوايا ثلاث. وهذا الجيش الهائل الذي لم يسبق له مثيل الذي بذل جهودا كبيرة لجمعه وإعداده - كيف يُعيده إلى دياره الآن ليسير خلال ما بقي له من حياة وذيله بين سيقانه؟!

لقد كان فعلاً جيشاً هائلاً: 860.000 مقاتل من بينهم 100.000 فارس وما لا يُحصى من المسؤولين السياسيين والخدم والنسوة المرافقات. وكان أقل من نصف هذا العدد من الفرنسيين، أما الباقون فكانوا كتائب عسكرية مطلوبة من كل من إيطاليا، وإيليريا والنمسا وألمانيا وبولاندا. وكان هناك خمسون جنرالاً: ليڤبفر، داڤو، أودينو، ني، مورا، ڤيكتور، أوجيرو، يوجين دي بوهارنيه، الأمير جوزيف أنتوني بونياتوفسكي ابن أخي آخر ملوك بولندا الفرسنان، وغيرهم. لقد تجمعت كل هذه القوى في جيوش منفصلة في نقاط مختلفة في الطريق إلى روسيا وتم تزويد كل جنرال بتعليمات محددة عن متى وأين يقود جيشه؟

الحرب الوطنية 1812. تقدم جيش ناپوليون (24 يونيو 20 أكتوبر 1812).

لقد كانت مهمة إعداد وتمويل هذا العدد الكبير تحتاج إلى عبقرية وصبر ومال، ربما أكثر من مهمة جمعها (حشدها). حقيقة لقد كانت المرحلة الأولى من هذا المشروع وكذلك الأخيرة قد تأثرت بشكل حيوي بظروف نقل الجنود وتمويلهم، ولم يكن من الممكن بدء المعركة إلا بعد أن تكون التربة قد سمحت بنمو الحشائش بقدر كاف لإطعام الخيول. وكان دمار الحملة يكاد يكون تاماً باستيلاء الروس على المؤن التي كان الفرنسيون الجوعى العائدون يتوقعون وجودها في سمولنسك. لقد حاول نابليون أن يحسب حساب كل شيء سوى الكارثة. لقد كان قد رتَّب أموره ليكون لديه مخازن للمواد وقطع الغيار الميكانيكية والطعام والملابس والأدوية في كل من وزل وكولوني وبون وكوبلنز (كوبلنتس) ومينز (مينتس) وغيرها من النقاط في طرق جيوشه المتجمعة، وكان لابد من إمدادات شبيهة ممثلة في مئات من عربات النقل تتبعُ الغزاة إلى روسيا. وكان نابليون يعرف أين يشتري وماذا يدفع. لقد كان يعرف خداع المورِّدين، وكان مستعداً لإحراق أي تاجر يُحمِّل جيشه أكثر مما يطيق أو يبيعه بضائع رديئة أو مغشوشة.

كيف دفع تكاليف كل هذه المؤن ونقلها وخزنها وكيف دفع لجنده ومستخدميه؟ لقد فرض الضرائب وفرض على المقرضين إقراضه وأخذ القروض من بنك فرنسا ومن البنوك الخاصة، وأخذ الملايين من المبالغ الخاصة به والبالغة 083 مليون فرنك ذهباً والتي أودعها في أقبية التوليري، وراح يقاوم الإسراف أينما كان ووبَّخ مطلّقته الحبيبة جوزفين لأنها تنفق كإمبراطورة وامتدح الإمبراطورة ماري لويز لاقتصادها في النفقات. وباختصار فإنه قال في وقت لاحق: إن معركة روسيا... كانت هي الأفضل، والأكثر إتقاناً، والأكثر براعة في قيادتها، بل والأكثر منهجية (نظاماً) من بين كل المعارك التي قُدْتها.

أكان كفؤاً لقيادتها؟ ربما كان أكثر معاصريه كفاءة لكنه كان أقل ملاءمة مما تحتاجه مثل هذه المعركة. لقد كان في الثالثة والأربعين، وكان في هذه السن قد أَلِفَ بالفعل حياة المعسكرات وواجبات المعارك، ويمكننا أن نفترض أنه ربما كان يعاني من آلام عوَّقته في بورودينو وواترلو (بعد ذلك): آلام في المعدة، صعوبات متوالية في التبوّل، آلام البواسير. ومع هذا فقد كان لايزال رفيقاً عادلاً وزوجاً طيباً لماري لويز وأباً مولعاً بابنه منها. ولكنه كان قد أصبح بعد ثمانية أعوام من الحكم الإمبراطوري نافد الصبر دكتاتوراً سهل الاستثارة سريع الغضب مُغالياً في تقدير قدراته العقلية وإمكاناته السياسية. مع استثناءات كثيرة: لقد تحمل انتقادات كولينكور بفكاهة وصدر رحب. وغفر كثيراً من الأخطاء المكلّفة لإخوته وجنرالاته. وكانت تمر به لحظات ينظر فيها لنفسه نظرة واقعية: يخبرنا سكرتيره أنه في الحالات التي كان يستغرق فيها في التفكير والتأمل كنت أسمعه يشخّص وضعه وموقفه بعبارة يقول فيها لقد شددنا القوسَ إلى منتهاه لكنه قلما كان يفقد الرؤية والإحساس بالقصور. لقد قال لناربون وبعد كل هذا، فإن، فإن هذا الطريق الطويل [إلى موسكو] هو الطريق إلى الهند.

وعلى هذا ففي 9 مايو 1812 غادر سان كلود قاصداً موسكو على الأقل، لقد كان كل شيء في حياته مقامرة، وكانت هذه (ذهابه بجيشه إلى موسكو) هي أكبرها.


الطريق إلى موسكو 26 يونيو - 14 سبتمبر 1812

ألحت عليه ماري لويز أن تصحبه حتى درسدن وأن يدعو والديها للقائهما هناك لتكون مرة أخرى مع أسرتها لفترة، وستكون هذه الفترة وجيزة على أية حال. ووافق نابليون، ووجد من الحكمة أن يدعو أيضاً فريدريك الثالث البروسي وعدداً كبيراً من الشخصيات الملكية وذوي الحيثية. لقد أصبحت مسيرته من مينز (مينتس) مُشرِّقا عبر بلاد الراين موكب نصر، إذ كان الحكام المحليون يخرجون لاستقبال سيّدهم الأعلى، وكانوا ينضمون إلى موكبه طوال تقدمه في سكسونيا. وإلى الغرب من دريسدن بأميال قليلة التقى بالملك فريدريك أغسطس الذي صحبه ومن معه إلى العاصمة، فوصلوا المدينة قبل منتصف الليل بساعة في 16 مايو وازدحمت الشوارع التي مرّوا بها بالناس حاملين المشاعل وهاتفين مرحبين ودقت أجراس الكنائس ودوَّت المدافع بطلقات التحية.

وفي 18 مايو وصل ميترنيخ مع إمبراطور النمسا وإمبراطورتها، وعانقت ماري لويز أباها بعاطفة جياشة وكانت سعادتها قد قلّت بسبب هواجس اعترتها بأن هذا العام مليء بالنحس. وسرعان ما أتى ملك بروسيا وولي عهدها وربما لم يكونا سعيدين وسط هذا الجو من التوافق والود بين أعداء وطنهم التاريخيين، وعلى أية حال فقد كان القيصر إسكندر قد تلقّى تأكيدات سرية بأن بروسيا والنمسا تتمنيان هزيمة نابليون. وقام الملك فريدريك أغسطس كمضيف بتخفيف أمور السياسة بالأوبرا والدراما والصيد والألعاب النارية والرقص والاستقبالات التي كان حكام ألمانيا يقدمون فيها لنابليون فروض الولاء والطاعة (البيعة) وكان هذا مبهجاً له - رغم تواضعه - وبلغ ابتهاجه الذروة.

وفي 28 مايو انطلق نابليون لينضم إلى أحد جيوشه في ثورن على الفيستولا، وكانت الأوامر قد صدرت لجنرالاته للقائه عند شاطئ نهر نيمن الذي يفصل دوقية وارسو (فرسافا) الكبيرة عن روسيا. وركب هو نفسه في عربة مزوّدة بمصباح ومنضدة وأدوات كتابة وخرائط وكتب. وكانت هذه الأدوات تُنقل كل يوم في أثناء المسيرة إلى خيمته حيث كان يكتب الأوامر ويطلب من سكرتيريه نقلها لجنرالاته، وكانت هذه الأوامر تتعلق بالعمليات في صباح اليوم التالي. وقد صحبه سكرتيره العجوز مينيفال وسكرتيره الجديد نسبياً فرانسوا فا وخادمه الخصوصي كونستانت طوال الطريق إلى موسكو وطوال رحلة العودة. ووصل نابليون إلى شاطئ نهر نيمن في 23 يوليو فاستطلع الأحوال ولم يجد أثراً لوجود العدو على الضفة الأخرى من النهر، فأقيمت ثلاثة جسور عائمة بسرعة، وفي 42 - 62 يونيو عبر 200.000 من جنوده إلى مدينة كوفنو (الآن كاوناس) وفي الوقت نفسه تقريباً عبر جيش فرنسي آخر مكوّن من نحو 200.000 مقاتل النهر نفسه في أدنى المجرى عند تيلسيت (الآن سوڤيتسيك) حيث التقى نابليون وإسكندر منذ خمس سنوات خلت وأقسما على أن يظلاَّ صديقين حتى الممات.

لقد كان إسكندر الآن في فيلنا إلى الجنوب الشرقي من كوفنو بسبعة وخمسين ميلاً. وكانت هناك عدة جيوش في انتظار أوامره: في الشمال 150.000 مقاتل بقيادة الأمير ميخائيل بارسلي دي توللي (من أصول إسكتلندية) وفي الجنوب 60.000 بقيادة الأمير بيوتر باجراتيون (من جورجيا)، وفي الشرق 40.000 بقيادة الجنرال إسكندر تورماسوف. ولم تكن هذه الجيوش نداً قوياً لجيوش نابليون البالغ عددها 40.000، لكن بالانسحاب المنظّم يمكنها أن تستهلك أو تدمّر كل المؤن وموارد الطعام أو تبعدها، ولا تترك إلاّ القليل لينهبه الغزاة. وكان هناك جيش روسي آخر مكون من 60.000 مقاتل شديد البأس أصبح متاحاً الآن بعد الاتفاق مع تركيا وتوقيع معاهدة سلام معها، وكان هذا الجيش في طريقه للشمال بقيادة الجنرال بول شيخاجوف لكن هذا الجيش كان يبعد مسيرة سبعة أيام.

وفي 24 يونيو كان إسكندر هو ضيف الشرف في حفل راقص في مزارع الكونت ليفين بنيجسن الذي سبق له أن حارب نابليون في إيلاو سنة 1807. وفي أثناء الحفل أفضى حامل الرسائل لقيصر بأن الفرنسيين عبروا النيمن إلى روسيا، فأخفى قيصر الخبر حتى انتهى الاحتفال. ولما عاد لمقره أصدر الأوامر لجيوشه المحلية بالانضمام معاً إن أمكن، وعليها في كل الأحوال أن تنسحب إلى المناطق الداخلية. لقد وصل الفرنسيون أسرع مما كان متوقعاً ولم تستطع القوات الروسية أن ينضم بعضها إلى بعضها الآخر لكنها راحت تتراجع (تنسحب) بنظام جيد.

وفي 26 يونيو أرسل قيصر إلى نابليون طالباً فتح باب المفاوضات شريطة مغادرة القوات الفرنسية للأراضي الروسية فوراً. ولم يكن هو نفسه مؤمناً بجدوى اقتراحه، فغادر فيلنا مع جيش باسلي دي تولي قاصداً فيتبسك، وهنالك، ألح عليه ضباطه بأنه غير مؤهّل لوضع استراتيجية عسكرية، فغادر قاصداً موسكو وناشد المواطنين التضحية بالمال والدم للدفاع عن بلاد آبائهم وأجدادهم فتفاعلوا بحماس مع مناشداته فعاد إلى سان بطرسبرج وقد امتلأ شجاعة.

وفي 27 يونيو بدأ نابليون وجيشه الرئيس مسيرة طويلة - 500 ميل - من كوفنو إلى موسكو. وحتى هذه الأيام الأولى في روسيا كانت محنة؛ إذ بلّل المطر الثقيل كل شيء ونقعه في الماء. وكان كل جندي يحمل معه طعاماً يكفيه لخمسة أيام لكنهم راحوا ينهبون الحقول وأكواخ القرى دون مراعاة لأوامر الإمبراطور بالكف عن السلب والنهب، وكان هذا رغبة منهم في زيادة كميات الطعام لديهم أو تعزيزها بأنواع أخرى. ووصل الجيش إلى فيلنا في 27 يونيو ونهبها بقدر ما يستطيع قبل وصول نابليون، وأتى (أي نابليون) وهو يتوقع أن يستقبله أهلها كمحرر، وحياه بعض اللتوانيين والبولنديين لكن آخرين قابلوه بصمت مُتجهِّم مُمتعضين مما قام به جيشه من سلب ونهب وأتته وفود طالبة منه أن يضمن عودة العرش البولندي، ولم يستطع أن يُلزم نفسه خوفاً من تحوّل البروس والنمساويين في حكومته عنه أو تمرد الجنود البروس والنمساويين في جيشه عليه، وطلب من الوفود تأجيل هذا الطلب إلى حين عودته منتصراً من موسكو.

وكان نابليون يأمل أن يُفاجئ في فيلنا أحد جيوش القيصر ويدمّره، لكن بارسلي وجنوده كانوا قد هربوا (انسحبوا) إلى فيتبسك وكانت قوات نابليون تخشى ملاحقته خشية شديدة، واستمر نابليون طوال أسبوعين يستعيد النظام ويرفع الروح المعنوية للجنود، وتعكّر مزاج الإمبراطور لأحداث متوالية غير مواتية، فقد كان قد أرسل أخاه جيروم بجيش مهم لملاحقة باجراتيون في الجنوب، وفشل جيروم في الإيقاع بفريسته فعاد إلى الجيش الفرنسي الرئيسي فوبَّخه نابليون لإجراءاته البطيئة وقيادته المتراخية فسلَّم القيادة وانسحب إلى بلاطه في وستفاليا.

وفي 16 يوليو قاد نابليون جيشه الذي أُعيد إنعاشه وتمويله خارج فيلنا في مسيرة بلغ طولها 250 ميلاً إلى فيتبسك. وكان يخطط أن يلحق هناك بجيش بارسلي دي تولي لكن الإسكتلندي (المقصود: ذو الأصول الإسكتلندية) البارع كان بالفعل قد تقدم في الطريق إلى سمولينسك ولم يستطع نابليون ملاحقته إلى أبعد من فيتبسك لأنه (أي نابليون) كان قد أمر بإرسال دعم ومؤن لجيشه في فيتبسك، فلا شيء يمكن به إجبار إسكندر على الإذعان لشروطه (شروط نابليون) سوى الاستيلاء على عاصمة روسيا المقدسة والعريقة.

وبعد أن قضى نابليون خمسة عشر يوماً في فيتبسك قاد جيشه في 31 أغسطس آملاً أن يلحق بجيش بارسلي في سمولنسك التي كانت مركزاً مزدحماً بالسكان وكانت المناطق المحيطة بها ذوات تربة خصبة وتقع على نهر الدنيبر فازدهرت تجارتها وصناعتها وكانت محصنة بشكل جيد حتى إن بارسلي وباجراتيون بعد أن وحّدا جيشيهما قررا مواجهة نابليون فيها أو على الأقل إيقاف تقدمه.

ووصل الفرنسيون في 16 أغسطس مُنهكين بسبب مسيرتهم الطويلة وقل عددهم بسبب من مات منهم وبسبب فرار الجنود إذ بلغ عدد من مات أو فرّ 160.000 رجل. ومع هذا كان الهجوم الفرنسي عنيفاً وفعّالاً، وفي ليل 17 أغسطس اشتعلت المدينة بالنار سواء بسبب المدفعية الفرنسية، أو بفعل الروس أنفسهم يأساً منهم، وكان هذا مبعث بهجة لنابليون ولذوقه الجمالي إذ قال متسائلاً لمسؤول خيوله (كولينكور): ألا ترى هذا المشهد بهيجاً؟ فأجابه: هذا مرعب يا سيدي فقال له نابليون: ياه!! تذَّكر ما قاله إمبراطور روماني: رائحة جثة العدو رائحة زكية دائماً. وفي 18 أغسطس أرسل الإمبراطور إلى مار وزير الشؤون الخارجية تقريرا لرفع الروح المعنوية في باريس: لقد استولينا على سمولنسك ودون أن نخسر رجلاً واحداً لكن تقريراً آخر لمؤرخ إنجليزي ذكر أن الفرنسيين خسروا في هذه المعركة ما بين 8000 و9000 رجل أما الروس فخسروا 6000. وكان من المحال تعويض الخسارة الفرنسية (بقوات أخرى)، وتراجعت الجيوش الروسية إلى المدن. ومناطق تجمع المياه Pools الموالية للجيش الروسي حيث يمكن تجنيد مزيد من الرجال.

وفي 20 يوليو - بعد أن استاء القيصر من خلافات جنرالاته وتكتيكاتهم - قرر أن قواته المسلحة في حاجة إلى قيادة واحدة، فعين في منصب القائد العام ميخائيل إلارينوفيتش كوتوزوف (5471 - 3181) الذي كان قد حقَّق شهرة بسبب قيادته الناجحة في كثير من المعارك. لقد كان قد بلغ الثالثة والستين من عمره كسولاً قعيداً سميناً لدرجة أنه كان يتعين نقله إلى المعسكر أو ميدان المعركة في عربة، وكان قد فقد إحدى عينيه وكانت الأخرى معتلَّة وكان - شيئاً ما - داعراً، دُبّاً مع النساء، لكنه كان قد تعلّم فن الحرب خلال خمسين عاما من الممارسة الفعلية، واستاءت كل روسيا لهذا التعيين. لقد استاء كل الناس تقريباً بمن فيهم نابليون بسبب تجنبه المواجهة العسكرية وأمره بمزيد من الانسحاب (أمره بالانسحاب إلى مناطق داخلية أبعد)

وعالج نابليون التوقَّف عن المطاردة بأن جعل من سمولنسك مركزاً حصيناً في وسط روسيا وقضى الشتاء هناك وحافظ على خطوط مواصلات - تحميها قواته - مع غرب أوربا، لكنه الآن قد وجد نفسه في موقف غير متوقع بالمرّة: جيشه عير منضبط بسبب الانقسامات العرقية (لم يكن جميع أفراده من الفرنسيين) وانهيار النظام فيه حتى أنه - أي نابليون - وجد أكثر أماناً أن يواصل المسيرة حيث يؤدي الخوف من هجوم العدو إلى تماسك جيشه. لقد قال للجنرال سيباستياني: هذا الجيش لا يمكن أن يتوقف الآن.. فالحركة وحدها هي التي تجعله على قلب رجل واحد. إن المرء يمكنه أن يتقدم على رأسه، لكن دون توقف أو تراجع وعلى هذا فبعد منتصف ليلة 25 أغسطس بقليل - أي بعد أسبوع واحد من الاستيلاء على المدينة - غادرها بجنوده في طريق حار ومترب إلى فيازما وجازهاتسك ... وموسكو - التي تبعد مسيرة ثلاثة أسابيع. وكان مورا على رأس قوات الخيّالة (الفرسان) قد راح يرفع الروح المعنوية لقواته بطيش مرح بأن راح - وقواته - يحاربون للخلف (يتراجعون) لمواجهة أي هجوم من مؤخرة الجيش الروسي المنسحب. وقد وصفه نابليون في وقت لاحق:

إنه لا يكون شجاعاً إلاّ في حضور العدو، وفي هذه الحال تجده أشجع رجل في العالم. لقد أدت به شجاعته الطائشة (المتهوّرة) إلى وضع نفسه وسط الأخطار. لقد كان وقتها مُثقلاً بالذهب والريش فوق رأسه فبدا كبرج الكنيسة. لقد نجا باستمرار - كما لو كان ذلك بفعل معجزة - لأنه كان معروفاً بلباسه. لقد كان هدفا دائماً للعدو، واعتاد القوزاق الإعجاب به بسبب شجاعته المدهشة.

وفي الخامس من سبتمبر، وبينما كان الجيش الفرنسي يقترب من بورودينو (لازال هناك خمسة وسبعون ميلاً للوصول إلى موسكو) وصلت طليعة الجيش إلى قمة تل فرأوا في السهل أمامهم منظراً أبهجهم وأحزنهم: مئات من المتاريس والحواجز الدفاعية المكتملة يمكن أن تختفي وراءها المدافع، وإلى الأبعد من السهل حيث يلتقي نهرا كالاشا وموسكفا آلاف الجند. من الظاهر أن كوتوزوف قرر المواجهة.

وطوال السادس من سبتمبر ظل الجيشان يستعدان للمعركة. وفي هذا الليل البارد الرطب كان من الصعب أن ينام أحد. وفي الثانية صباحاً أرسل نابليون بياناً ليُقرأ على جنوده، مصحوباً بترجمة إلى اللغات التي يتحدث بها جنوده غير الفرنسيين: أيها الجنود! ها هي المعركة التي طال انتظاركم لها. الآن، النصر يعتمد عليكم إنه آتٍ لا ريب. إنه سيتيح لنا رخاء ومنتجعا شتوياً طيباً وعودة باكرة إلى بلاد آبائنا وأجدادنا وفي هذه الليلة - وبناء على أوامر كوتوزوف - حمل القسسُ المصاحبون للجيش الروسي أيقونة العذراء السوداء وطافوا بها في المعسكرات وكانت هذه الأيقونة قد تم إنقاذها من حريق سمولنسك (الآنف ذكره) وركع الجنود ورسموا شارة الصليب وتجاوبوا مع القسس وراحوا يدعون الله رحيم وانحنى كوتوزوف ليقبِّل الأيقونة.

وفي نحو هذا الوقت أتى حامل الرسائل لنابليون بخطاب من ماري لويز مع صورة جانبية حديثة لابنهما البالغ من العمر عاما واحدا، كما وصلت إليه أخبار مفادها أن جيشه عانى هزيمة عصيبة على يد ويلنجتون في سالامانكا، وقضى نابليون جانباً كبيراً من الليل يصدر التوجيهات لضباطه فيما يتعلق بتكتيكات الصباح. ولابد أنه كان من الصعب عليه أن ينام لأن عُسر البول كان يسبب له آلاماً، وكان لون بوله متغيراً بشكل ينذر بالخطر وكانت ساقاه متورمتين مع استسقاء وكان نبضه ضعيفا غير محسوس بشكل متتابع.

ورغم هذا فقد أرهق ثلاثة خيول في اليوم الأول من المعركة إذ راح يتنقل من جانب إلى آخر في جيشه. لقد كان نابليون يقود 130.000 رجل مرهق، أما كوتوزوف فكان على رأس 120.000، وكان مع الجيش الفرنسي 587 مدفعاً بينما كان مع الروس 640. وطوال السابع من سبتمبر راحت هذه الألوف المؤلفّة من الجيش تحارب بعناد وبطولة، يقتلون ويُقتلون وقد شملهم الخوف والكراهية، وكان كلا الطرفين يحاربان ببطولة وكأنما كانا يشعران أن مصير أوروبا سيتحدد بنتيجة المعركة. وضحّى باجراتيون بحياته، وفقد كولينكور في هذه الحرب التي سبق له أن عمل لمنعها أخاه الحبيب، وواجه يوجين ودافو ومورا الموت مئات المرّات، وفاز نَي في ميدان المعركة من نابليون بلقب أمير موسكو هذا اللقب الأثير المغري، لقد كان النصر عواناً بين الجانبين المتقاتلين وعندما حلّ الليل انسحب الروس بهدوء وظل الفرنسيون سادة الميدان لكن نابليون اعتبر النصر أبعد ما يكون عن أن يكون أكيداً. وأرسل كوتوزوف إلى إسكندر تقريراً فخوراً حتى إن كاتدرائيات سان بطرسبرج وموسكو قدّمت ابتهالات الشكر للرب. لقد فقد الفرنسيون 30.000 ما بين قتيل وجريح أما الروس ففقدوا 50.000.

وفي البداية، في 8 سبتمبر فكر كوتوزوف في تجديد المعركة لكن عندما علم بعدد قتلاه وجرحاه شعر أنه لا يستطيع تعريض جنوده الباقين لمذبحة مماثلة ليوم آخر، فواصل سياسة التراجع ومن الآن فصاعدا سيواصل هذه السياسة حتى النهاية. وفي 31 سبتمبر أمر بإخلاء موسكو، وفي 41 من الشهر نفسه انطلق محزوناً إلى حيث لا يدري الخطوة التالية.

وفي هذا اليوم وصل نابليون ومن تبقى معه (59.000 مقاتل) إلى بوابات موسكو بعد مسيرة ثلاثة وثمانين يوماً من كوفنو ووصلته رسالة من الجنرال ميلورادوفتش قائد حامية موسكو بوقف إطلاق النار في أثناء خروجه ورجاله من المدينة فوافق نابليون، وانتظر نابليون قدوم ذوي الحيثيَّة في المدينة ليقدموا أنفسهم له ويطلبوا منه الحماية لكن أحداً منهم لم يأتِ. وعندما دخل المدينة (موسكو) لاحظ أن أحداً من ساكنيها لم يبق فيها خلا آلاف قليلة من الطبقات الدنيا. لقد بقي بعض البغايا طمعاً في الفرنكات وكن مستعدات لتقديم المطلوب مقابل المأوي والغذاء. وكان نابليون قد أحضر معه حملاً من أوراق البنكونت الروسية المزيَّفة ورفضها الروس فأحرقها نابليون. وجال المنتصرون في المدينة ونهبوا القصور ومزارع الريف المحيطة بالمدينة وحملوا النبيذ والأمتعة (خاصة الأعمال الفنية).

وكان مقدراً لهذه الأعمال الفنية أن تُفقد (بالبيع أو خلافه) عملاً إثر عمل، في أثناء طريق العودة.

وفي 15 سبتمبر تحرك نابليون إلى الكرملين وراح ينتظر أن يطلب إسكندر السلام. وفي المساء بدأت موسكو تحترق.

حرق موسكو

حرق موسكو وقع في 14 سبتمبر 1812، في موسكو في اليوم الذي استسلمت فيه القوات الروسية ومعظم المقيمين في المدينة بعد تقدم قوات ناپليون ودخولها المدينة في أعقاب معركة بورودينو. ظل الحريق مشتعلاً حتى 18 سبتمبر، مدمراً حوالي ثلاثة أرباع موسكو.

طريق العودة 19 أكتوبر - 28 نوفمبر 1812

لم يبق إلاّ أمل واحد. لقد كان كوتزوف قد جمّع مؤناً في كالوجا إلى الجنوب الغربي من موسكو بتسعين ميلاً. وفكر نابليون في التوجه إلى هناك وأن يجبر الجنرال الماكر للدفاع عن هذه المخازن، فإن انتصر الفرنسيون نصراً حاسماً فقد يُجبر النبلاء الروس القيصر إسكندر على التوسّل لاتفاق سلام. وأكثر من هذا فإن كالوجا كانت على طريق آخر مؤد إلى سمولنسك غير الطريق الذي كان الغزاة قد أتوا منه، وفي اتخاذ هذا الطريق تجنب للذكريات الأليمة عند المرور ببورودينو حيث كان قد مات كثير من رفاق الحرب. وصدرت الأوامر بالاستعداد لإخلاء موسكو.

وعلى هذا ففي 19 أكتوبر بدأ جيش نابليون (50.000 جندي و50.000 من غير المقاتلين) في الخروج من موسكو. وكانت عربات التحميل تحوي مؤناً لعشرين يوماً، وهو وقت يكفي للوصول إلى سمولنسك حيث صدرت الأوامر بتجهيز مؤن طازجة لهم فيها. وكانت هناك عربات أخرى تضم المرضى أو الجرحى وبعض الأشياء التذكارية الثقيلة وذهب نابليون المتناقص.

معركة مالوياروسلاڤتس

وفي مالوياروسلاڤتس - على بعد خمسة وعشرين ميلاً من كالوجا اتصل الفرنسيون اتصالاً مباشراً بجيش كوتوزوف، وأعقب ذلك حركة (عملية) حادة (24 أكتوبر) مما أجبر الروس على الانسحاب خلف دفاعاتهم في كالوجا. وقرر نابليون أن جيشه ليس مجهزاً لحصار طويل، فأمر رجاله - وهو كاره - باتخاذ طريقهم عبر بوروفسك وموزهايسك إلى بورودينو ، وليتخذوا بعد ذلك الطريق الذي كانوا قد اتبعوه في فصل الصيف حيث كانوا مفعمين بالأمل. وعلى أية حال فإن شيطان كوتوزوف قد جعله الآن يحث جيشه على المسير في طريق مواز لطريق عدوّه مراعيا - بشكل مراوغ - أن يكون بعيداً عن نظره عدوّه، لكنه راح بين الحين والآخر يرسل فصائل من الفرسان القوزاق الأشداء لإزعاج جناحي الجيش الفرنسي وراح الفلاحون السعداء يطلقون النار على الفرنسيين المنتشرين في غير نظام والذين غامروا بالابتعاد عن خط سير الجيش البالغ ستين ميلاً.

وكان نابليون محميّاً بشكل جيد اللهم إلاّ من خطر طارئ.. وكان حاملو الرسائل يجلبون إليه في أثناء مسيرته أخباراً عن نزاعات شديدة تهدّد حكومته في باريس وثورات في الأراضي (البلاد) التابعة له. وفي 26 أكتوبر بعد خروجه من موسكو بأسبوع سأل كولينكور عما إذا كان يجب عليه (أي يجب على نابليون) أن يتجه مباشرة إلى باريس ليواجه السخط الناجم عن هزيمته ويسيطر عليه، وليقيم جيشاً جديداً للدفاع عن القوات الفرنسية التي تركها في بروسيا والنمسا، فنصحه كولينكور بالذهاب. وفي 6 نوفمبر وصلت أخبار مُفادها أن كلود - فرانسوا دي مال - وهو جنرال في الجيش الفرنسي - قد أطاح بالحكومة الفرنسية في 22 أكتوبر وأنه لقي دعما من أشخاص بارزين لكنه خُلِع وتمّ إطلاق النار عليه (29 أكتوبر) فتأكد العزم لدى نابليون بضرورة التوجه إلى باريس.

وكلما أوغل الفرنسيون في طريق العودة كان الطقس يزداد سوءاً. لقد تساقط الثلج في 29 أكتوبر وسرعان ما كوَّن غطاء دائماً - جميلاً وممتعاً، وتحول في الليل البارد إلى جليد انزلقت فوقه الخيول التي تجر العربات وسقطت، وكان بعض هذه الخيول منهكا بدرجة استحال معها قيامها من جديد وكان لابد من تركها، ومع طول مسافة المسيرة راح الجنود يأكلون مثل هذه الضحايا (الخيول الساقطة أو النافقة) لكن معظم الضباط حافظوا على حياة خيولهم برعايتها وتغطيتها. وكان الإمبراطور (نابليون) يركب بعض الوقت في عربته مع المارشال بيرثييه لكنه كان يسير مع الباقين مرتين أو ثلاثاً في اليوم أو أكثر من هذا على وفق رواية مينيفال.

وفي 13 نوفمبر بدأ الجيش الذي تقلّص عدده الآن إلى رقم إجمالي هو 50.000 - في دخول سمولنسك، وانتابهم الرعب عندما وجدوا أن معظم الطعام والكساء الذي كان نابليون قد أمر بتجهيزهما قد فقدا نتيجة غارات القوزاق والاختلاس، ومن ثمَّ تم عرض ألف ثور مخصصة للجيش لبيعها للتجار الذين قاموا بدورهم بعرضها على أي مشتر(06)، وحارب الجنود للحصول على ما تبقى من التموينات واستولوا بالقوة على كل ما وجدوه في الأسواق.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

معركة سمولنسك

وكان نابليون راغباً في إتاحة فترة راحة طويلة لجنوده في سمولنسك لكن أخباراً وصلته باقتراب كوتوزوف على رأس 80.000 روسي لم يعودوا راغبين - بعد - في الانسحاب، ولم يكن مع نابليون من الصالحين للقتال سوى 25.000. وفي 14 نوفمبر قاد جزءا من قواته في الطريق إلى كراسنو مستخدماً طريقاً إلى فيلنا غير الطريق الذي سبق له استخدامه في الصيف. وكان على دافو أن يتبعه في 15 نوفمبر، وني في 16 من الشهر نفسه. وكان الطريق جبلياً ومغطى بالجليد، ولم تكن الخيول ذوات حدوات (جمع حدوة) تمكنها من التقدم في هذا الشتاء الروسي فانزلجت فوق التلال وفشلت كل الجهود لإقامة مئات منها، وفضلت الموت باعتباره رحمة في ظل هذه الظروف بل إن رجالاً كثيرين فضلوا هذا الحل تخلصاً من المتاعب. وذكر جندي بعد ذلك أنه طوال الطريق كنا مضطرين للخطو فوق ميّت أو محتضر فعند المنحدرات الجليدية لهذه التلال لم يكن أحد يجرؤ على الركوب أو السير على قدميه، فالجميع بمن فيهم الإمبراطور (نابليون) كان يتزلج وهو جالس، كما سبق لقلّة منهم أن فعلت عند عبور جبال الألب إلى مارنجو منذ اثنتي عشرة سنة خلت. لقد كانت أياماً تعادل سنوات من عمر القائد ورجاله. ويبدو أنه عند هذه النقطة حثّ نابليون الدكتور يفان على أن يعطيه قِنّينة سم يحتفظ بها معه ليستخدم سمّها إذا أسره العدو أو لأي سبب آخر يجعله يود إنهاء حياته.

معركة كراسنوي

ووصل الفرنسيون كراسنوي في 15 نوفمبر لكنهم لم يستطيعو أن ينالوا قسطاً من الراحة، فقد كان كوتوزوف يقترب بقوات يفوق عددها قوات نابليون بشكل كبير، فأمر نابليون رجاله بمواصلة الطريق إلى أورشا، وقاد يوجين المسيرة ليحارب بين الحين والحين العصابات المسلحة التي تعترض الطريق، وتبعه الإمبراطور (نابليون) ودافو. ووصلوا أورشا بعد ثلاثة أيام أخرى من المشي على الجليد، وانتظروا هناك بقلق وصول ني بالجزء الثالث من القوات الفرنسية.

معركة بورودينو

وكان ني هو نجم الجيش المتألق في هذا الوقت، كما كان في بورودينو. لقد قاد رجاله البالغ عددهم 7000 رجل باعتباره حارساً لمؤخرة الجيش الفرنسي، وخاض اثنتي عشرة معركة لحماية الجيش الفرنسي في أثناء انسحابه من هجوم المغيرين من رجال كوتوزوف، ودخل هو ورجاله سمولنسك أخيراً في 51 نوفمبر وصُدِموا لاكتشافهم قلة الطعام الذي تركه نابليون وديفو عند مغادرة المدينة، فأسرع برجاله رغبة في البقاء على قيد الحياة إلى كراسنو، فلم يجدوا نابليون كما سبق أن وعدهم وإنما وجدوا كوتوزوف الذي سد طريقهم بنيران مدفعيته المهلكة، وفي جُنح الليل (18 - 10 نوفمبر) قاد ني جنوده على طول مجرى متجمد إلى نهر دنيبر وعبره وتكبد في أثناء عبوره خسارة في بعض رجاله وخيوله وراح يحارب في أثناء مسيرته القوزاق كما حاربهم فوق المستنقعات المتجمدة ليصل إلى أورشا في 20 نوفمبر، وهنالك رحَّب نابليون والجيشان المنتظران بالأبطال الجائعين بالمديح وبالطعام. وعانق نابليون جنراله ني وأطلق عليه (أشجع الشجعان) وفي وقت لاحق قال نابليون: إن لدي أربعمائة مليون قطعة ذهبية في أقبية التوليري، ويسعدني أن أعطيها جميعاً لمن يمكنني من رؤية المارشال ني مرة أخرى.

وليُبعد الفرنسيون عنهم جموع كوتوزوف الأبطأ، أسرعوا طوال أربعة أيام ليواجهوا العقبة التالية - نهر بيريزينا. وعندما وصلوه (52 نوفمبر) وجدوا أن الجنرال الروسي شيخاجوف كان قد وصل من الجنوب على رأس 000،42 مقاتل كما علموا أن قوة روسية أخرى مؤلفة من 000،43 من الجنود الأشداء بقيادة المارشال لودفيج وتجنشتين كانت تسرع قادمة من الشمال لحصر الفرنسيين بين نارين عندما يكونون - أي الفرنسيون - في حالة فوضى فييأس قائدهم من إنقاذهم من الدمار.

لكن الأخبار لم تكن كلها سيئة إذ سرعان ما علم نابليون أن قوتين مواليتين له قد هبتا لنجدته. فرقة عسكرية بولندية بقيادة الجنرال جان هنريك دومبروفسكو استطاعت - رغم أن عدد جنودها ثلث قوات شيخاجوف- مواجهة هذه القوات وتأخير التقدم الروسي، وفي 32 نوفمبر فاجأت قوات فرنسية من 0008 رجل بقيادة المارشال أودينو - الجنرال الروسي شيخاجوف واستولت على إحدى كتائبه وأجبروا الباقين على الفرار عبر جسر على بوريسوف ناحية الشاطئ الأيمن (الغربي) لنهر بيريزينا. وعلى أية حال فقد حطّم الروس الجسر وهو الجسر الوحيد الذي يمكن بواسطته اجتياز النهر في هذا الموقع.

ووصلت أخبار هذه العمليات إلى نابليون بينما جيشه الخائف يقترب من المجرى الذي يأملون أن يؤخّر ملاحقة كوتوزوف لهم (كانت قوات نابليون الآن 25.000 جندي و42.000 من غير المقاتلين) كما كان نابليون قد فقد أيضاً عدداً من رجاله هربوا أو مرضوا أو ماتوا. لم يبق معه سوى 27.000 من 97.000 كانوا معه عند خروجه من كالوجا، والآن بقي أربعون ميلا خلف مؤخرة جيش نابليون. لازال هناك وقت لعبور النهر إذا كان من الممكن عبوره.

واستعاد نابليون الأمل فأرسل فصيلا بقيادة المارشال فيكتور للاتجاه شمالاً وإيقاف ويتجنشتين وفصيلاً آخر بقيادة ني للانضمام إلى أودينو في منع شيخاروف من معاودة عبور النهر. وكان نابليون منذ عبور النيمن قد احتفظ معه بالمهندسين الذين كانوا قد أقاموا الجسور هناك في شهر يونيو، والآن طلب منهم أن يجدوا بقعة على نهر بيريزينا يمكن أن يقيموا عليها جسرين طوّافين، فأخبروه بوجود هذه البعقة المناسبة في ستدنكي إلى الشمال من بوريسوف بتسعة أميال. وراح المهندسون ومساعدوهم يعملون طوال يومين في مياه متجمّدة، وغرق عدد منهم بسب انخداعهم بالجليد الطافي فوق مياه غير متجمدة، لكن في الساعة الواحدة بعد الظهر في 26 نوفمبر اكتمل إنشاء أحد الجسرين وبدأ الجيش في العبور فوقه، وبحلول الساعة الرابعة كان الجسر الثاني يحمل فوقه المدفعية والأحمال الثقيلة، وانتظر نابليون وجنرالاته حتى وصل معظم الجنود للشاطئ الغربي ومن ثم عبروا تاركين قوة بقيادة فيكتور لحماية نحو 8000 من غير المقاتلين سيعبرون بعد ذلك. وقبل تمام نجاح هذه العملية الأخيرة خطط الروس لهجوم على طول جانبي النهر لكن قوات فيكتور وأودينو وني تصدّت لهم. لقد راح نابليون ينظم العبور والمقاومة في آن واحد وسط آلاف الرجال الذين يناضلون ليبقوا على قيد الحياة. وانكسر الجسر مرتين، وغرق مئات وفي هذه الأثناء كانت مدفعية ويتجنشتاين تمطر قذائف على الآلاف الأخيرة التي تزاحمت للعبور، وفي 92 نوفمبر أمر نابليون المهندسين العسكريين بتدمير الجسرين، تاركاً مئات من غير المقاتلين يبحثون عن فرصة للعبور. وكان هدف نابليون من تدمير الجسرين تعويق قوات وينتجنشتاين عن ملاحقته ومنع وصول قوات كوتوزوف. وباختصار كان عبور بيريزينا هو أكثر ذرى البطولة طوال ستة أشهر أساء فيها أحد أعظم الجنرالات في التاريخ - تقدير الأمور على حقيقتها.

واستمرت المأساة طوال مسيرة من بقي على قيد الحياة من الجنود الفرنسيين نحو الغرب، لقد هبطت درجة الحرارة ثانية إلى ما دون درجة التجمّد، لكن كان لهذا ميزة واحدة إذ سمح بالانتقال فوق المستنقعات المتجمدة فقصّر المسافة إلى فيلنا. ولأن الخوف من القوزاق والفلاحين المعادين قلّ، فقد تضاعف عدد الهاربين واختفى النظام.

ورأى نابليون أن من تبقى معه لم يعودوا في حاجة ماسة له، فوافق على نصيحة مورا بالعودة إلى باريس مخافة أن تستسلم فرنسا لثورة أخرى، وعند توقفه في مولودشنو وهي محطة التوقف الرئيسية التالية تلقّى مزيداً من التفاصيل عن أمور مال. لقد انتهى هذا المغتصب لكن السهولة التي خدع بها المسؤولين دلّت على استرخاء الحكومة التي لم تعد مؤمنة بنابليون الذي غاب غياباً طويلا وربما انتهت حياته السياسية بل وربما مات. لقد راح اليعاقبة والملكيون، فوشيه وتاليران يتآمرون لخلعه.

وكي يعيد ترسيخ نفسه ويبعث اليقين في الشعب الفرنسي من جديد أرسل من سمورجوني في 5 ديسمبر النشرة رقم 92 التي كانت تختلف عن سابقاتها إذ كان غالبها يحوي حقائق صادقة. تقول النشرة إن الفرنسيين قد انتصروا في كل معركة واستولوا على كل مدينة مروا بها وحكموا موسكو إلاّ أن قسوة الشتاء الروسي التي لا ترحم قد دمّرت هذا المشروع العظيم وألحقت الألم والموت بالفرنسيين المتحضرين الذين اعتادوا العيش في مناخ متحضر. وأشارت النشرة إلى خسارة في الرجال بلغت 50.000 لكنها أشارت بفخر لقصَّة تخلص ني من ملاحقة كوتوزوف وقدَّمت عبور نهر بيريزينا من جانبها البطولي لا المأسوي وانتهت النشرة بعبارة ذات مغزى وكأنها تحذير لأعداء نابليون: إن صحّة عظمته لم تكن في يوم من الأيام أفضل مما هي عليه الآن. ومع هذا فقد كان هو منزعجاً. لقد قال لكولينكور إنني استطيع أن أحكم قبضتي على أوربا من التوليري وحده واتفق معه يوجين ومورا ودافو. ونقل قيادة الجيش المتحرك إلى الملك مورا وأخبره أن يتوقع مؤناً وتعزيزات من فيلنا. وفي وقت متأخر من مساء الخامس من ديسمبر غادر (أي نابليون) سمورجوني قاصداً باريس.

لقد تقلّصت القافلة إلى 35.000 وغادرت في اليوم التالي قاصدة فيلنا التي تبعد ستة وأربعين ميلاً. الآن انخفضت الحرارة إلى 30 درجة فهرنهيت تحت الصفر وكانت الرياح على حد تعبير جندي بقي على قيد الحياة تمزق اللحم والعظم. وعندما وصلوا إلى فيلنا (8 ديسمبر) اندفع الجنود الجياع في فوضى لا حدَّ لها نحو المؤن التي تنتظرهم وضاع طعام كثير وسط الفوضى. وواصلوا مسيرتهم وفي 31 ديسمبر وعند كوفنو عبروا نهر النيمن نفسه وكان عددهم 000،03، بينما شهدهم النهر وقد بلغ عددهم 400.000 يعبرون في شهر يونيو، هنا وعند تيلسيت وعند بوزن سلّم مورا القيادة ليوجين (16 يناير 1813) خائفاً - هو بدوره - على عرشه وأسرع عبر أوربا إلى نابلي. أما يوجين البالغ من العمر ثلاثين عاماً فكان ذا خبرة رغم شبابه، فتولى مسؤولية ما تبقى من الجنود وقادهم بصبر يوماً بعد يوم إلى ضفاف نهر الألب وراح ينتظر أوامر متبنيه (نابليون).

ركب نابليون من سمورجوني في أوّل عربة من عربات ثلاث، وكانت كل عربة منها موضوعة على مركبة جليد يجرها حصانان، وكانت إحدى العربات تحمل أصدقاء الإمبراطور ومساعديه وأخرى تحمل حرسا بولنديا من حملة الرماح. لقد ركب نابليون مع كولينكور الذي كان ينظم مسألة تبديل الخيل، ومع الجنرال فونسوفيتش المترجم الذي عَهِد إليه نابليون بمسدَّسيه قائلاً: إن حدث خطر حقيقي اقتلني ولا تجعل العدو يأسرني ومخافة أن يتعرّض للاغتيال أو الأسر، تنكرَّ في لباس كولينكور، بينما ارتدى كولينكور ملابس نابليون. وقد تذكر كولينكور في وقت لاحق ما حدث، إذ قال: في أثناء مرورنا ببولندا، كنت أنا دائماً المسافر المميّز، وكان الإمبراطور - ببساطة - هو سكرتيري.

لقد واصل الركب طريقه إلى باريس دون توقف ليلاً أو نهاراً، وكانت أطول فترة توقَّف فيها نابليون ومن معه هي فترة التوقف في وارسو (فرسافا) حيث أدهش نابليون الممثل الفرنسي في بولندا بقوله الذي صار مثلاً: بين الذروة والقاع خطوة واحدة. وأراد أن يقوم بزيارة أخرى للكونتيسة فالفسكا لكن كولينكور نصحه بالعدول عن هذه الزيارة، ربما بتذكيره أن حماه هو أيضاً إمبراطور. وفي أثناء الركوب من وراسو إلى دريسدن راح الإمبراطور (نابليون) فيما يقول كولينكور يمتدح الإمبراطورة ماري لويز باستمرار متحدثاً عن حياته الأسرية بمشاعر طيبة وبساطة يسعدُ المرءُ بسماعها.

وفي دريسدن أراح نابليون وكولينكور مركبة الجليد والحرس البولندي، وانتقلا إلى عربة السفير الفرنسي المغلقة. ووصلوا إلى باريس في وقت متأخر من يوم 81 ديسمبر بعد ثلاثة عشر يوماً من سفر كاد يكون بلا توقف. وذهب نابليون مباشرة إلى قصر التوليري وعرَّف حرس القصر بنفسه وأرسل يُعلم زوجته بوصوله وقبل منتصف الليل تماما اندفع إلى غرفة نوم الإمبراطورة وضمها بين ذراعيه. وأرسل حامل الرسائل إلى جوزفين يطمئنها أن ابنها بخير وأدفأ قلبه بنظرة إلى ابنه ذي الشعر الجَعْد الذي كان قد أسماه ملك روما.

طالع أيضاً

الهامش

  1. ^ خطأ استشهاد: وسم <ref> غير صحيح؛ لا نص تم توفيره للمراجع المسماة klaus
  2. ^ أ ب Riehn, p.50
  3. ^ Zamoyski, page 536
  4. ^ Bogdanovich, "History of Patriotic War 1812", Spt., 1859–1860, Appendix, pp. 492–503.
  5. ^ Boudon Jacques-Olivier, Napoléon et la campagne de Russie: 1812, Armand Colin, 2012.
  6. ^ Fierro; Palluel-Guillard; Tulard, p. 159-161
  7. ^ With Napoleon in Russia, The Memoirs of General Coulaincourt, Chapter VI 'The Fire' pp. 109–107 Pub. William Morrow and Co 1945
  8. ^ The Wordsworth Pocket Encyclopedia, page 17, Hertfordshire 1993
  9. ^ ديورانت, ول; ديورانت, أرييل. قصة الحضارة. ترجمة بقيادة زكي نجيب محمود.

المراجع

الكتب
  • Britten Austin, Paul (2000). 1812: Napoleon's Invasion of Russia. Greenhill Books. ISBN 1-85367-415-X. {{cite book}}: Cite has empty unknown parameters: |coauthors= and |Location= (help) (Originally published in three volumes: The March on Moscow, Napoleon in Moscow, The Great Retreat.)
  • Bogdanovich, Michael (1863). History of Patriotic War 1812. St. Petersburg. pp. 1859–1860. OCLC 25319830. {{cite book}}: Cite has empty unknown parameter: |coauthors= (help)CS1 maint: location missing publisher (link)
  • Connelly, Owen (1999). Blundering to Glory: Napoleon's Military Campaigns (2nd ed.). Wilmington, Delaware: SR Books. ISBN 0-8420-2780-7. {{cite book}}: Cite has empty unknown parameter: |coauthors= (help)
  • Marshall-Cornwall, James (1967). Napoleon as Military Commander. London: Batsford. {{cite book}}: Cite has empty unknown parameter: |coauthors= (help)
  • Mikaberidze, Alexander (2010). The Battle of Berezina: Napoleon's Great Escape. London: Pen&Sword. {{cite book}}: Cite has empty unknown parameter: |coauthors= (help)
  • Mikaberidze, Alexander (2007). The Battle of Borodino: Napoleon versus Kutuzov. London: Pen&Sword. {{cite book}}: Cite has empty unknown parameter: |coauthors= (help)
  • Nafziger, George (1984). Napoleon's Invasion of Russia. New York, N.Y.: Hippocrene Books. ISBN 0-88254-681-3. {{cite book}}: Cite has empty unknown parameter: |coauthors= (help)
  • Riehn, Richard K. (1991). 1812 Napoleon's Russian Campaign. New York: Wiley. ISBN 0-471-54302-0. {{cite book}}: Cite has empty unknown parameter: |coauthors= (help)
  • Zamoyski, Adam (2004). Moscow 1812: Napoleon's Fatal March. London: HarperCollins. ISBN 0-00-712375-2. {{cite book}}: Cite has empty unknown parameter: |coauthors= (help)
  • Lieven, Dominic (2009). Russia Against Napoleon: The Battle for Europe, 1807 to 1814. Allen Lane/The Penguin Press. p. 617.[1]
  • Fierro, Alfred (1995). Histoire et Dictionnaire du Consulat et de l'Empire. Paris: Éditions Robert Laffont. p. 1350. ISBN 2-221-05858-5. {{cite book}}: Unknown parameter |coauthors= ignored (|author= suggested) (help)
الدوريات


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

للاستزادة

غير أدبية

روايات

وصلات خارجية