العمارة الرومانية

The Colosseum in Rome, Italy.
The Pont du Gard, an aqueduct bridge in southern France

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

أصولها، موادها، أشكالها

لقد احتفظنا إلى آخر هذا الباب بأهم ما نستطيع أن نعرضه في رومة على زائرها الذي نسيناه في أثناء حديثنا الطويل عن فني النقش والتصوير. أما وقد وصلنا إلى هذا الفصل الأخير فلنعرض على هذا الزائر أهم الفنون الرومانية على الإطلاق وهو فن العمارة الذي استطاعت به أن تحمي نفسها من غزو اليونان، والذي أظهرت فيه قدرتها على الابتكار وجرأتها وقوتها. على أن الابتكار لا يكون بغير لقاح فهو كالنسب مزيج جديد من عناصر موجودة من قبل؛ والثقافات جميعها انتقائية في حداثة عهدها لأن التعليم يبدأ بالتقليد، فإذا ما بلغت الروح أو الأمة أشدها طبعت بطابعها-إن كان لها طابع-جميع أعمالها وألفاظها. لقد أخذت رومة، كما أخذ غيرها من مدائن البحر الأبيض المتوسط، نظم العمد الدورية والأيونية والكورنثية من مصر وبلاد اليونان، ولكنها أخذت نظام العقود والأقواس والقباب من آسية، ومن مزيجهما أقامت مدينة من القصور، والأروقة ذات العمد، والمدرجات، والحمامات لم ير العالم مثيلاً لها من قبل. ولقد أضحى فن العمارة الروماني هو التعبير الفني عن الروح الرومانية والدولة الرومانية: فهو يمثل الجرأة، والتنظيم، والفخامة، وقد رفعت القوة العضلية هذه الصروح المنقطعة النظير فوق التلال فكانت هي الروح الرومانية ممثلة في الجلاميد الصم.

وكان معظم كبار المهندسين المعماريين في رومة رومانيين لا يونان، وقد كتب أحد هؤلاء المهندسين واسمه ماركس فتروقيوس بليو Marcus Vitruvius Pallio كتاباً في العمارة يعد من مهمات الكتب العالمية القديمة في هذا الفن (حوالي 27 ق. م) . ذلك أنه بعد أن قضى فترة من الزمن مهندساً حربياً يعمل تحت إمرة قيصر في أفريقية، ومهندساً معمارياً في عهد أكتافيان، اعتزل العمل الرسمي في شيخوخته ليضع أصول أعظم الفنون الرومانية وأسماها منزلة. وهو يقول عن نفسه "إن الطبيعة لم تهبني طول القامة، ولم تبق السنون على شيء من جمال وجهي، وسلبني المرض قوة جسمي؛ ولهذا أرجو أن أكسب رضاء الناس بعلمي وبكتابي"(29). وكما أن شيشرون وكونتليان قد جعلا الفلسفة من مستلزمات الخطيب، كذلك رآها فتروفيوس من مستلزمات المهندس المعماري، فهي تحسن أغراضه كما يحسن العلم وسائله وأدواته، وهي "تسمو بمداركه وتجعله رقيق الحاشية، عادلاً، وفياً، غير شره، ولا يمكن أن يتم عمل صالح من غير إيمان قوي ويدين طاهرتين"(30). وقد وصف مواد البناء، والأعمدة، وأجزاءها، ومختلف أنماط المباني في رومة، وأضاف إلى الكتاب بحوثاً في الآلات، والساعات المائية، ومقاييس السرعة ، ومجاري مياه الشرب المسقوفة، وتخطيط المدن والصحة العامة. وقد أشار فتروفيوس باستعمال النظام الإشعاعي في تخطيط المدن (وهو النظام الذي خططت عليه المدينة الإسكندرية القديمة وواشنجتن الحديثة) بدل النظام المربع الذي ثبت قواعده هبودامس Hippodamus في كثير من المدن اليونانية، أشار فتروفيس باستعمال هذا النظام الإشعاعي ولكن الرومان ظلوا يخططون مدنهم على النظام المربع نظام معسكراتهم. ومما يؤثر عنه أنه حذّر إيطاليا من أن الماء الذي تشربه في كثير أجزائها يؤدي إلى تضخم الغدة الدرقية، وقال إن التسمم قد ينتج من الاشتغال بالرصاص، وفسر الصوت بأنه حركة اهتزازية في الهواء، وكتب أول بحث باق حتى الآن في علاقة هندسة البناء بالأصوات. وقد كان لكتابه الذي كشف من جديد في عصر النهضة أعمق الأثر في ليوناردودافنشي، وبلاديو Palladio وميكل أنجلو.

ويقول فترفيوس إن الرومان يبنون بالخشب والآجر، والجبس الناعم والمسلح والحجر والرخام. وكان الآجر المادة الشائعة الاستعمال في الجدران، والعقود والأقواس، وكثيراً ما كان يستعمل هو والجبس لتغطية الملاط. وكان الآجر يصنع من الرمل، والجير، وتراب الرخام، والماء، ويصقل صقلاً جيداً ويوضع طبقات بعضها فوق بعض، يصل سمكها في بعض الأحيان إلى ثلاث بوصات. ومن أجل هذا استطاع ذلك الآجر أن يحتفظ بشكله تسعة عشر قرناً كما نشاهد ذلك في الكلوسيوم أما المسلح فلم تبلغ أمة من الأمم إلى وقتنا هذا ما بلغه الرومان في صنعه واستخدامه، فقد كانوا يأخذون الرماد البركاني الكثير بقرب نابلي، ويخلطونه بالجير والماء، ويضعون فيه قطعاً من الآجر، والفخار، والرخام، والحجارة، ويخرجون منها منذ القرن الثاني قبل الميلاد ملاطاً في صلابة الصخور، يمكن أن يصعب في أي قالب، ولا يكاد يستعصي عليه أي شكل يراد أن يشكل به. وكانوا يصبونه كما نصبه الآن في أحواض مصنوعة من ألواح خشبية. وبفضله استطاعوا أن يغطوا مسافات كبيرة لا عمد فيها بقباب صلبة خالية من الأكتاف الجانبية التي تحمل السقف المقوس. وهذه هي الطريقة التي شادوا بها قمة البانثيون، وقمم الحمّامات الكبرى. واستخدمت الحجارة في تشييد معظم الهيكل وبيوت الكبراء، وكان من أنواعها نوع نصف شفاف يستخرج من كبدوكية ينفذ الضوء من خلاله، حتى أن هيكلاً بنى به كان ينال كفايته من ضوء النهار وجميع نوافذه مغلقة(32). وبدأت رغبة الرومان في استخدام الرخام على أثر فتح بلاد اليونان، وقد أشبعوا هذه الرغبة باستيراد العمد أولاً، ثم باستيراد الرخام، ثم باستخراجه من محاجر كرارا القريبة من لونا Luna. وكان استخدام الرخام قبل أيام أغسطس مقصوراً على الأعمدة والألواح المستوية، ثم استخدم في عهده لتغطية الآجر والمسلح؛ وإذا ما قال إنه ترك رومة مدينة من الرخام فيجب ألا يفهم من قوله هذا أكثر من المعنى السالف الذكر، وهو أن بعض ما فيها من آجر ومسلح في أجزاء متفرقة منها قد غطى بألواح من الرخام. أما الجدران المشيدة من الرخام المصمت فكانت نادرة، وكان الرمان يميلون إلى أن يجمعوا في البناء الواحد بين حجر مصل الأعبل الأحمر والرمادي، وحجر عوبية البصلي ذي اللون الأخضر، ورخام نوميديا الأسود والأصفر، وبين رخامهم الأبيض المستخرج من محاجر كرارا وأحجار البازلت، والمرمر، والحجر السماقي؛ ولم تبلغ مواد البناء في عصر من العصور ما بلغته في رومة من تعدد في الأنواع والألوان.

وقد أضافت رومة إلى الطرز الدورية، والأيونية، والكورنثية الأنماط التسكانية والأنماط المركبة من خليط من هذه كلها أو من بعضها بصورها الأصلية أو بتعديل فيها. وكثيراً ما كانت العمد تقام من حجر واحد بدل أن تكون من حجارة مثقوبة يرتكز بعضها فوق بعض. وكانت للعمد الدورية قواعد أيونية، واتخذت لها شكلاً جديداً رفيعاً خالياً من الثنايا، وقد تكون للتيجان الأيونية التي تعلو الأعمدة أربع تلافيف في بعض الأحيان حتى يكون منظرها واحداً من جميع الجوانب؛ أما العمد والتيجان الكورنثية فقد بلغت في تطورها حداً من الجمال والرقة لم تبلغه نظائرها اليونانية وإن كان الإفراط في التجميل والتنميق قد أفسد هذا الطراز من العمد في العصور المتأخرة. ومثل هذا يقال عن الإفراط في رسم الأزهار فوق التلافيف الأيونية لصنع التيجان المركبة من طرز مختلفة كما نشاهد ذلك في قوس تيتس. وكانت التلافيف تنتهي أحياناً بأشكال حيوانية أو آدمية توهم الرائي بأنها ميازيب على صورة حيوانات أو أناس على غرار ما صنع منها بعدئذ في العصور الوسطى. وكثيراً ما كان الرومان المسرفون يخلطون بين طرز مختلفة في البناء الواحد، كما نشاهد ذلك في ملهى مارسلس؛ يضاف إلى هذا أنه قد بلغ بهم الشح في بعض الأحيان حداً جعلهم يتركون العمد الجانبية ملتصقة بجسم الهيكل نفسه كما نشاهده في البيت المربع Maison Carr(e في نيمز Nimes. وظل الرومان يضيفون العمد إلى مبانيهم يزينوها بها ولو لم يعد لها عمل أصيل بعد أن سلبها تطور العقود ما كان لها من شأن قديم في استناد هذه المباني إليها-وبقيت هذه العادة قائمة إلى عصرنا الحاضر دون أن يعرف مصدرها الذي أخذت عنه.


هياكل رومة

لقد احتفظت رومة في جميع هياكلها إلا قلة ضئيلة منها بنظام الأروقة ذات العمد، المبسوطة عليها عوارض رئيسية تحمل السقف. وكان أغسطس متحفظاً في الفن شأنه في كل شيء سواه، ولذلك استمسكت جميع الأضرحة التي بنيت بأمر منه بالتقاليد الصحيحة القديمة. ثم أخذ الأباطرة من بعده يضاعفون عدد الهياكل التي يقيمونها لآلهتهم التي تنافسهم في السلطان والجاه، ويغشون فجورهم بستار من التقي المعماري، حتى ازدحمت التلال وسدت الشوارع بالمزارات المقرمدة المذهبة. وكان جوبتر بطبيعة الحال صاحب النصيب الأوفر منها، فكان من بين هياكله الكثيرة هيكل جوبتر المرعد، وهيكل جوبتر المثبت الذي ثبت أقدام الرومان وأوقف هربهم في القتال، واقتسم مع يونو ومنيرفا أقدس مزارات رومة فوق تل الكبتول. فقد أقيم في الحجرة الوسطى تمثال ضخم من الذهب والعاج لجوبتر الأفضل والأعظم Jupiter Optimus Maximus يحيط به من الجانبين رواق معمد ذو ثلاثة طبقات. وتعزو الرواية التاريخية أول صورة من صور هذا الصرح الأعظم من الصروح الرومانية المقدسة إلى تاركونيوس بسكس، وقد دمرته النار عدة مرار، وكان في كل مرة يعاد بناؤه بعد تدميره. واختلس استلكو في عام 404 م أبوابه البرونزية المذهبة ليؤدي بها رواتب جنده، ونهب الوندال قراميد السقف المصفحة بالذهب، ولا تزال بعض قطع من أرضيته باقية إلى اليوم.

وكان يقوم على القمة الشمالية من قمم هذا التل نفسه هيكل يونو المنذرة أو الحارسة Juno Moneto، وهناك كانت دار سك العملة. ولا حاجة إلى أن نذكر للقارئ أن اسم دار السك (Mint) والنقود (Money) مصدر كثير من المطامع، مشتق من لفظ منيتو الذي كانت تلقب به يونو. وعلى المنحدر الجنوبي من منحدرات هذا التل كان يقوم معبد ساترن (زحل) أقدم آلهة لكبتول. ويرجع الرومان تاريخ بناء هذا الهيكل لذلك الإله إلى عام 497 ق. م؛ وقد بقي منه حتى الآن ثمانية عمد أيونية وعارضة واحدة فوق بعض هذه العمد. وفي السوق الكبرى عند سفح التل كان المعبد الصغير المخصص ليانوسJanus إله البدايات كلها. وكانت أبوابه لا تفتح إلا في زمن الحرب ولم تغلق في أثنائها إلا ثلاث مرات في تاريخ رومة القديم. وفي الركن الجنوبي الشرقي من أركان السوق كان هيكل كاستر وبلكس Castor And Pollux الذي شيد في عام 495 ق. م؛ وقد وصلت إلينا من بقايا الهيكل الذي جدده تيبيريوس ثلاثة عمدة كورنثية رفيعة، وهي بإجماع الخبيرين أجمل العمد الرومانية على الإطلاق.

وأضاف أغسطس إلى هذه الهياكل في سوقه هو هيكلاً للمريخ المنتقم Mars Ultor وفاء بنذره قبل فلباي Philippi، وى تزال ثلاثة من عمده الفخمة قائمة في مكانها إلى اليوم. وكان أحد أطراف ساحته الوسطى عبارة عن نصف دائرة ذات سقف مقبب، وهي طراز معماري أصبح فيما بعد طراز محراب الكنائس المسيحية الأولى. وأقام أغسطس على تل البلاتين هيكلاً فخماً من الرخام الخالص للإله أبلون نظير معونته له في أكتيوم، وزينه بتماثيل من صنع ميرون Miron واسكوباس Scopas، وأضاف إليه مكتبة فخمة ومعرضاً فنياً، وبذل كل ما في وسعه ليشعر الناس أن الإله قد غادر بلاد اليونان وجاء إلى رومة يحمل معه إليها زعامة العالم الروحية والثقافية؛ بل إن أصدقاء أغسطس، بعد أن زالت أسباب التحرج من هذا النمس بوفاة والدة أغسطس، قالوا إن أبلو متخفياً في صورة ثعبان رشيق سريع الحركة هو الذي استولدها هذا الزعيم الداهية. وكان في الجزء الشمالي الغربي في المدينة هيكل عظيم لإيزيس Issis وعلى تل البلاتين مزار فسيح لسيبيل. وكانت فيه، ملاذات لبعض المعاني المجردة مجسدة-كالصحة، والشرف، والفضيلة، والوئام، والوفاء، والحظ، وكثير من أمثالها. وكانت كل هذه الهياكل تقريباً تحتوي ساحات ملأى بالتماثيل والرسوم الملونة. وقد جمع فسبازيان في معبد السلم العظيم الذي أقامه كثيراً ن الكنوز الفنية التي كانت في بيت نيرون الذهبي، وبعض المخلفات التي جاء بها من أورشليم وأباح للناس مشاهدتها. ويمتاز هيكل فرتونا فريلس Fortuna Virilis القائم في سوق بريوم Forum Boarium بأنه أكمل بناء في رومة من عهد ما قبل أغسطس احتفظ بأجزائه إلى اليوم. وكانت نساء العاصمة يترددون كثيراً على هذا الهيكل للعبادة فيه، فقد كن يعتقدن أن الآلهة تعلمهن كيف يخفين عيوبهن عن أعين الرجال.

وقد أضاف مهندسو رومة إلى هذه الهياكل وإلى العشرات العشرات من الهياكل الأخرى المشيدة على الطراز المربع القديم، أضافوا إليها عدة هياكل دائرية الشكل تكشف عن سيطرتهم الحديثة على مشكلة تشييد القباب. وتقول الرواية التاريخية إن هذا الطراز من البناء مأخوذ على كوخ رميولوس المستدير الذي احتفظ به كما يحتفظ بالآثار الدينية على تل البلاتين قروناً طوالاً.

ولا يكاد يقل عنه في القدم بيت فستا Aedes Vestae الجميل المجاور لهيكل كاستروبلكس؛ وكانت ساحته الوسطى المغطاة جدرانها بالرخام الأبيض تحيط بها عمد كورنثية جميلة، وكان سقفها قبة من الشبهان المذهب. وكان إلى جوارها قصر العذارى الفستية-ويتكون من أربع وثمانين حجرة مشيدة على نظام الأديرة حول بهو ذي عمد. ولم يكن البانثيون قد أصبح بعد هيكلاً مستدير الشكل؛ فقد كان في صورته التي أقامه عليها أجربا مستطيلا، ولكن كانت له ساحة مستديرة أمامه. وقد أقام مهندسو هدريان فوق هذه الساحة الهيكل المستدير والقبة الضخمة اللذين لا يزالان حتى الآن أعظم شاهدين على جرأة الإنسان وشجاعته.

التحول الفجائي إلى الطراز المقوس

قبة الپانثيون، منظر داخلي

لقد كانت رومة في عمارتها الدنيوية أعظم منها في عمارتها الدينية، ذلك بأنه كان في وسعها في أول العمارتين أن تتحرر من قيود التقاليد، وأن تجمع بين الهندسة والفن-بين المنفعة والقوة من جهة، والجمال والشكل من جهة أخرى-بطريقة اختصت بها هي لا يشاركها فيها غيرها من المدن. لقد كان الأساس الذي قامت عليه العمارة اليونانية هو الخط المستقيم (مهما أدخل عليه من التنظيم الدقيق كما يشاهد في البارثنون): كالعمود الرأسي، والعارضة الأفقية، والقوصرة المثلثة الشكل؛ أما أساس هندسة البناء الرومانية الخالصة فقد أصبحت الخط المنحني؛ ذلك أن الرومان كانوا ينشدون العظمة، والإقدام، والضخامة، ولكنهم لم يكن في وسعهم أن يسقفوا مبانيهم الواسعة على مبادئ الخطوط المستقيمة والأروقة ذات العمد إلا إذا أقاموا فيها مجموعة من العمد التي تعترض طرقاتها، وكانت سبيلهم للتغلب على هذه المشكلة هي الأقواس بشكلها المستدير في الغالب؛ وما العقود إلا أقواس استطالت، وما القباب إلا أقواس تحركت ودارت؛ ولعل القواد الرومان وأعوانهم قد ألفوا في مصر وآسية الأشكال المقوسة، وإزدادت ألفتهم لها على مر الأيام، فأيقظوا في مواطنيهم التقاليد الرومانية والتسكانية القديمة التي طال العهد بطغيان الأنماط اليونانية عليها، فأخذت رومة تستخدم العقود استخداماً بلغ من اتساعه أن اشتق منه فن البناء كله اسم جديد أصبح علماً عليه ولم يفارقه قط. وقد أنشأ الرومان القبوة المفصلية بوضع شبكة من الأضلاع المكونة من الآجر على طول خطوط الالتواء قبل أن يصب الملاط المسلح في الإطار الخشبي لعمل السقف؛ ثم أنشئوا، بوضع قبوتين اسطوانيتين متعامدين، شبكة من الأضلاع والحنيات تستطيع أن تتحمل فوقها بناء أثقل منها كما تستطيع أن تتحمل دفعاً قوياً من الجانبين. هذان هما المبدآن اللذان قام عليهما الانقلاب الفجائي في فن العمارة الرومانية وتحوله من طراز الخطوط إلى طراز الأقواس.

وبلغ الطراز الجديد كماله في الحمامات والمدرجات الكبرى، وكانت حمامات أجربا، ونيرون، وتيتس الحلقة الأولى من سلسلة طويلة انتهت بحمامات دقلديانوس، فقد كانت هذه صروحاً من الملاط المسلح مغطاة بالجبس أو الآجر تعلو علواً شاهقاً في الهواء. وكانت مزينة من داخلها بفساقي من الرخام والفسيفساء، وبأعمدة مختلفة الألوان، وسقف مزخرفة، وصور ملونة وتماثيل. وكان فيها حجرات لخلع الملابس، وحمامات ساخنة وباردة، وحجرة وسطى ذات هواء دفيء، وبرك للسباحة، ومواضع للتمرينات الرياضية، ومكتبات وحجر للمطالعة، وأخرى للبحث، وأرائك للراحة، وأكبر الظن أنها كانت تحتوي أيضاً على معارض فنية. وكانت أغلب الحجرات تسخن من مركز عام تمتد منه أنابيب كبيرة من الصلصال، وتسير تحت أرض الحجرات وفي داخل الجدران. وكانت هذه الحمامات الحارة أوسع وأفخم ما شيد من المباني العامة، ولم يوجد لها قط نظائر من نوعها في العالم كله. وكانت جزءاً من الاشتراكية في الترفيه عن الشعب حاولت به الزعامة أن تبرر سلطانها المطلق المتزايد.

وكانت هذه النزعة نفسها هي الحافز على بناء أعظم دور التمثيل في التاريخ كله. وكان عدد هذه الدور في رومة أقل منها في العواصم الحديثة، ولكنها كانت أوسع منها رقعة. وكان أصغرها هو الملهى الذي شاده كورنليوس بلبس Cornelius Balbus في ميدان المريخ (13 ق. م)، والذي كان يتسع لسبعة آلاف وسبعمائة من النظارة؛ وقد أعاد أغسطس بناء ملهى بمبي الذي كان يتسع لسبعة عشر ألفاً وخمسمائة، وأتم بناء ملهى آخر سماه باسم مرسلس Marcellus ويتسع لعشرين ألفاً وخمسمائة. وكانت هذه الدور تختلف عن مثيلاتها في بلاد اليونان في أنها كانت مسورة، وفي أن مقاعد النظارة كانت تستند في أبنية ذات أقواس وقباء بدل أن تستند إلى منحدرات التلال. وكان المسرح وحده هو المسقف، ولكن النظارة كانوا يتقون الشمس بمظلو من نسيج التيل (Velarium) كانت في ملهى بمبي تغطي مساحة عرضها 550 قدماً. وكانت فوق المداخل مقصورات للأعيان وذوي المناصب الكبرى في الدولة، وكان لبعض المسارح ستائر لم تكن ترفع إلى أعلى إذا بدأ التمثيل بل كانت تنزل في فتحات معدة لها. وكان المسرح يرتفع عن أرض الملهى بنحو خمس أقدام، وكان الجزء الخلفي منه يتخذ في العادة شكل بناء أنيق يمتد من أحد جانبيه إلى الجانب الآخر، فيمكن الممثلين بذلك من أن يسمعوا أصواتهم للعد الجم من النظارة الذين يضمهم الملهى. ويحدثنا سنكا عن "صنّاع المسارح الذين يخترعون حمالات ترتفع من نفسها أو أرضيات ترتفع في سكون من الهواء"(32أ). وكان تغيير المناظر يحدث بوساطة مناشير دوارة أو بتحريك مجموعة منها إلى طرفي المسرح أو إلى أعلاه فتنكشف بذلك المجموعة التي تليها. وكان يستعان على إسماع النظارة أصوات الممثلين بوضع جرار فارغة في أرض المسرح وجدرانه(32ب). وكانت أمكنة النظارة تبردها جداول مائية تجري في ممراتها، وكان مزيج من الماء والنبيذ وعصير الزعفران ينقل أحياناً إلى أعلى المقاعد في أنابيب ثم يرش على النظارة في هيئة رشاش عطر(32ج) وكان داخل الملهى يزداد بالتماثيل وكانت صور كبيرة ترسم على المسرح بدل المناظر المتغيرة في هذه الأيام. ولعلنا لا نجد الآن في العالم كله ملهى مهما عظم يبلغ في الاتساع والفخامة ما بلغه ملهى بمبي في رومة.

المباني العامة

وكانت حلبة الألعاب ومضمار الركض والمدرج أحب إلى الشعب من دار التمثيل. وكان في رومة عدة مضامير تستخدم أكثر ما تستخدم في المباريات الرياضية. وكان سباق الخيل والعربات وبعض الألعاب الأخرى تعرض في حلبة فلامنيوس في ميدان التاريخ أو في الحلبة الكبرى التي جدد قيصر بناءها بين تلي بلاتين وأفنتين. وكانت هذه الحلبة في شكل قطع ناقص طوله 2200 قدم وعرضه 705، وكان فيها مقاعد خشبية في ثلاث جهات منها تتسع لمائة وثمانين ألفاً من النظارة(33). وفي وسعنا أن نقدر ثروة رومة إذا عرفنا أن تراجان أعاد بناء هذه المقاعد من الرخام.

وكان بناء الكلوسيوم بناء متواضعاً إذا قيس إلى هذه الحلبة الكبرى، فقد كانت مقاعده لا تتسع لأكثر من خمسين ألفاً، ولم يكن تصميمه جديداً؛ لأن مدن إيطاليا اليونانية كانت من زمن بعيد تحتوي مدرجات مثله؛ فقد أنشأ كوريو Curio كما قلنا من قبل مدرجاً في عام 53 ق. م، وبنى قيصر مدرجاً آخر في عام 46، وبنى استاتليوس تورس Statilius Taurus مدرجاً ثالثاً في عام 29 ق. م. وكان فسبازيان هو الذي بدأ المدرج الفلافي- وهو الاسم الذي كان الرومان يطلقونه على الكلوسيوم- كما كان تيتس هو الذي أتمه في عام 80 م، ولا نعرف اسم المهندس الذي أشرف على بنائه. وقد اختار فسبازيان لبنائه البحيرة التي كانت في قصر نيرون بين التل الكئيلي Caelian والتل البلاتيني. وقد شيد من الحجر الترافتيني على شكل إهليلجي يبلغ طول محيطه 1700 قدم. وكان ارتفاع سوره الخارجي 157 قدماً، وكان مقسماً إلى ثلاثة أطباق يقوم بعض طابقه الأول على أعمدة تسكانية-دورية، ويقوم طابقه الثاني على عمد أيونية، والثالث على عمد كورنثية، وبين كل عمودين عقد. وكانت الدهاليز الرئيسية مسقوفة بأقبية اسطوانية تتقاطع في بعض المواضع على طراز أديرة العصور الوسطى. وكان داخله مقسماً أيضاً إلى ثلاث طبقات تستند كل منها إلى أعمدة، وتنقسم إلى الحلقات من المقصورات والمقاعد، متحدة في مركزها تقطعها طرقات ذات درج فتقسمها إلى "أوتاد" Cunei. ويبدو داخله للناظر إليه في هذه الأيام كأنه كتلة ضخمة من البناء قطع فيه صانع جبار عقوداً وطرقات ومقاعد. وكان داخله يزدان بالتماثيل وغيرهما من وسائل التجميل، وكانت كثير من صفوف المقاعد مصنوعة من الرخام، وكان للمدرج ثمانون مدخلاً خصص أثناء منها للإمبراطور وحاشيته. وكانت هذه المداخل والمخارج Vomitoia تكفي لإخراج الجماهير الغفيرة التي تملأ هذا المدرج الضخم في دقائق معدودات. وكان يحيط بالحلبة التي يبلغ اتساعها 287 قدماً في 180 سور يبلغ ارتفاعه خمس عشر قدماً يعلوه دبرزون يحمي وحوشه الآدميين من وحوش الغاب. وليس الكلوسيوم من المباني الجميلة المنظر، وإن ضخامته نفسها لتنم عما في الطبيعة الرومانية من خشونة، كما تكشف عما فيها من عظمة. وكل ما يمكن أن يقال في مديحه أنه أكثر الخرائب التي خلفها العالم الروماني القديم روعة. لقد كان الرومان يبنون كما يبني الجبابرة، ولو أننا طلبنا إليهم أن يصقلوا مبانيهم كما يصقل الصياغ الحلي لكلفناهم ضد طباعهم.

لقد أنشأ الفنانون الرومان فنهم من خليط مختار من الطرز الأتيكية، والآسيوية، والإسكندرية، فجمعوا فيه بين التحفظ والضخامة والرشاقة. غير أنهم لم يمزجوا في يوم من الأيام هذه الصفات لينشئوا منها تلك الوحدة الأساسية التي هي أساس من أسس الجمال. وإن فيما تتصف به المباني الرومانية الخالصة من قوة وفجاجة لمسحة شرقية، فهي تبعث في النفس الرهبة لا الجمال؛ وإن بنثيون هدريان نفسه ليعد ن عجائب الصروح أكثر مما يعد من روائع الفن؛ فليس لنا أن نتطلع في الفن الروماني إلى رقة الشعور ودقة التنفيذ اللهم إلا في حالات نادرة كالنقوش والتحف الزجاجية الباقية من عصر أغسطس. بل يجب أن نتوقع هنا وجود فن هندسي يهدف إلى الغاية في الصلابة والاقتصاد والمنفعة، إلى افتتان العصامي بالضخامة والزينة وإصرار الجندي على الواقعية، وإلى فن المحارب ذي القوة الباطشة. وإذا كان الرومان لم يصقلوا فنهم صقل الصياغ فما ذلك إلا لأن الفاتحين لا يصبحون قط صياغاً، ولذلك صقلوه صقل الفاتحين.

وما من شك في أنهم قد أنشأوا أكثر المدن فتنة وروعة في التاريخ، وأوجدوا فناً مرناً، تصويرياً ومعمارياً في مقدور كل إنسان أن يفهمه، وشادوا مدينة يستطيع كل مواطن أن يعيش فيها وينتفع بها. لقد كانت جماهير الأحرار في تلك المدينة فقيرة كثيرة الثراء، ولكنها كانت إلى حد ما تمتلك كثيراً من ثروتها: فقد كانت تأكل حب الدولة، وتجلس بغير أجر، أو بأجر هو والعدم سواء، في دور التمثيل، وفي حلبات الألعاب، وفي المدرجات وميادين السباق. وكانوا يمارسون ضروباً من الرياضة البدنية، ويتناولون المرطبات، ويستمتعون بضروب التسلية، ويتعلمون في الحمامات؛ ويتفيئون ظلال مئات من الأروقة ذات العمد، ويمشون تحت القباب والعقود المنقوشة المزينة التي كانت تغطي أميالاً كثيرة من شوارع رومة، وتغطي ثلاثة أميال في تاريخ المريخ وحده، ولم يشهد العالم قبل رومة عاصمة مثلها، فقد كان في وسطها سوق عجابة صخابة تدور فيها رحى العمل بلا انقطاع، وتتردد في جنباتها أصداء أصوات الخطباء، وتدور فيها المناقشات التي تزلزل قواعد الإمبراطورية، ومن حولها حلقة من الهياكل، والباسلقات، والقصور، ودور التمثيل، والحمامات، في كثرة منقطعة النظير؛ وتحيط بهذه الحلقة حلقة أخرى من الحوانيت مكتظة بالبائعين والمشترين، تدوي فيها أصواتهم، وتليها حلقة ثالثة من البيوت والحدائق، فخلقة رابعة من المعابد والحمامت مرة ثانية، وتنتهي بدائرة من القصور الريفية الصغيرة ذات الحدائق، ثم الضياع التي تدفع بأطراف المدينة إلى الريف وتربط الجبال بالبحر. هذه هي رومة القياصرة-مزهوة، قوية، براقة، مادية، قاسية، ظالمة، مشوشة غير منظمة، سامية رفيعة الذرى.

السكن

إنسيولا في اوستيا أنتيكا

العمارة العامة

المباني العامة

العمارة الخاصة

الهندسة المدنية

الهندسة العسكرية

العناصر المعمارية


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

انظر أيضاً

Further reading

  • Adam, Jean-Pierre, Roman Building: Materials and Techniques, Indiana University Press, 1994
  • Fletcher, Banister; Cruickshank, Dan, Sir Banister Fletcher's a History of Architecture, Architectural Press, 20th edition, 1996 (first published 1896). ISBN 0750622679. Cf. Part Two, Chapter 10.
  • Lancaster, Lynne C., Concrete Vaulted Construction in Imperial Rome, Cambridge University Press, 2005
  • MacDonald, William L., The Architecture of the Roman Empire I: An Introductory Study, Yale University Press, 1982
  • MacDonald, William L., The Architecture of the Roman Empire II: An Urban Appraisal, Yale University Press, 1986
  • Rowland, Ingrid D.; Howe, Thomas Noble, Vitruvius: Ten Books on Architecture, Cambridge University Press, 1999
  • Sear, Frank, Roman Architecture, Cornell University Press, 1989
  • Wilson-Jones, Mark, Principles of Roman Architecture, Yale University Press, 2000

وصلات خارجية