البيرة (مدينة فلسطينية)

هل تريد مشروب البيرة أو الجعّة؟

البيرة
الترجمة اللفظية بالـ Other
 • Arabicالبيرة
 • Also spelledal-Bira (unofficial)
شعار بلدية البيرة
شعار بلدية البيرة
محافظةرام الله والبيرة
الحكومة
 • النوعمدينة
 • Head of Municipalityعمر حميل
المساحة
 • الزمام22٬406 dunams (22٫4 كم² or 8٫6 ميل²)
التعداد
 (2006)
 • الزمام38٬802
معنى الاسم"البئر"
الموقع الإلكترونيwww.al-bireh.org

البيرة هي مدينة فلسطينية ملاصقة لمدينة رام الله وتتداخل مباني المدينتين مع بعض بحيث تظهران كمدينة واحدة. يسكن المدينة 44,000 نسمة وترتفع عن سطح البحر 884 مترا. تبلغ مساحتها 22045 دونم (22.045 كم). تقع مستعمرة پسگوت على جبل الطويل إلى الجانب الشرقي من المدينة. يوجد في المدينة مكتبة عامة تحوي فيما يقارب العشرين ألف كتاب.

مستوطنة پسگوت الإسرائيلية على جبل الطويل في البيرة (2004)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

مدينة البيرة

تقع مدينة البيرة وشقيقتها التوأم رام الله في سلسلة جبال فلسطين الوسطى وتبعدان 16 كلم عن القدس باتجاه الشمال، تتمتع المدينتان بمناخ معتدل جعلهما مركزاً لجذب المصطافين، تتمتع مدينة البيرة، وهي الأقدم والأكبر بين المدينتين، بموقع استراتيجي هام على تقاطع الطرق، التجارية الرئيسية تقع مدينة البيـرة على الشريان الرئيسي الذي يربط شمال فلسطين بجنوبها فهي على الطريق الرئيسي الموصل بين مدينة نابلس و القدس على بعد تسعة أميال فقط من مدينة القدس الخالدة وهي الطريق الواصل بين الغور والسهل الساحلي الفلسطيني والطريق الجبلي الواصل بين الشمال فلسطين وجنوبها هذا بالإضافة إلى موقع المدينة الهام، يعود الفضل في استيطان البيرة إلى توفر المياه فيها من عيونها المختلفة، وخاصة عين البيرة المعروفة "بالعين"، الواقعة على طريق القدس- نابلس الرئيسي، لأهمية هذه العين بني أهل البيرة قربها خاناً مازالت آثاره ماثلة للعيان حتى اليوم في البلدة القديمة وهو يعود للفترة الصليبية، وبنوا في الفترة الإسلامية المبكرة مسجدين بالقرب من الخان مازالا مستخدمين حتى اليوم، يعرف الأول منهما باسم الجامع العمري، وهو الجامع الملاصق لكنيسة العائلة المقدسة وسط البلدة القديمة، وجامع العين الواقع على عين شارع القدس- نابلس بالقرب من مبنى البلدية الحالي لقد تغير مركز مدينة البيرة من عصر إلى آخر، ويبدو أن أقدم موقع استوطنة أهل البيرة هو منطقة الإرسال، ثم انتقل مركز المدينة بعد ذلك إلى تل النصبة، ثم إلى عين أم الشرايط، ثم إلى موقع البلدة القديمة الحالي، والآن توسعت حدود المدينة فشملت كل هذه المناطق هناك عدة بلدات تحمل اسم البيرة في فلسطين احداهما تقع شمالي بيسان، وأخرى في منطقة الخليل وثالثة قرب صفد، ورابعة في منطقة بئر السبع، ولكن بيرة القدس تبقى أهمها وأكبرها وأشهرها جميعا.ً

يعتقد أن الأسم البيرة مشتق من الأصل الكنعاني (بيئرون) ويعني (الآبار) نسبة إلى العيون الكثيرة المنتشرة في المدينة وأهمها عين البيرة، والعيون الأخرى الكثيرة مثل عين القصعة وعين أم الشرايط، و عين جنان، و عين الملك وغيرها وربما كان الأسم من الأصل الآرامي (بيرتا) ويعني القلعة أو الحصن نسبة إلى تل النصبة الأثري.


تاريخ مدينة البيرة

يعود تاريخ مدينة البيرة الكنعانية إلى القرن الخامس والثلاثين قبل الميلاد (حوالي سنة 3500 ق.م) ومنذ ذلك الحين وعلى مدى أكثر من خمسة آلاف سنة بقيت البيرة مأهولة بالسكان، ورد ذكر البيرة في العهد القديم أكثر من مرة باسم بيئروت، وذلك في قصة كل من النبي هارون أخي النبي موسى عليهما السلام، وقصة احتلال بني إسرائيل لفلسطين زمن يوشع بن نون، ولكن المدينة لم تعتبر مقدسة لدى اليهود ولذلك لم تنضم إلى الممالك اليهودية التي نشأت في فلسطين في العهد الحديدي المتأخر عرفت البيرة في العهد الروماني باسم بيرية، وأصبحت مدينة مهمة في هذه الفترة وخاصة في بداية العهد المسيحي، ويقال أن السيدة مريم العذراء وخطيبها يوسف النجار فقدوا المسيح بها وهو طفل في الثانية عشرة من عمره في طريق عودتهم من القدس إلى الناصرة، حيث شيد في المكان كنيسة بيزنطية مازالت أثارها ماثلة حتى اليوم وسط البلدة القديمة، عرفت هذه الكنيسة باسم كنيسة العائلة المقدسة بعد الفتح الإسلامي لعبت البيرة دوراً مميزاً على مسرح الأحداث في فلسطين ويعتقد أن عمر بن الخطاب قد حل بها في طريقة من المدينة المنورة إلى القدس لاستلام مفاتيح القدس من البيزنطيين، وقد أقيم سنة 1195م في المكان الذي يقال أن عمر صلي فيه مسجداً يعرف بالمسجد العمري، وهو مازال قائماً ومستخدماً حتى اليوم وهو ملاصق للكنيسة البيزنطية، وقد أعيد تجديده عام 1995م في الفترة الصليبية كانت البيرة قرية مهمة لقربها من القدس خاصة بعد استيلاء الصليبين على القدس سنة 1099م حيث أصبحت مركزاً للمقاومة الإسلامية ضد الصليبين، وبعد احتلال الصليبين لها أوقفها الصليبيون هي و 21 قرية فلسطينية أخرى من منطقة القدس على كنيسة القيامة، وكانت المدينة وكنيستها البيزنطية التي تم تجديدها وتنظيفها في الفترة الأخيرة مركزاً لفرسان القديس يوحنا القادمين من إنجلتراعندما حرر صلاح الدين الأيوبي فلسطين استولي على البيرة ودمر المستوطنة الصليبية فيها سنة 1187م ويقال أن عدد الصليبين الذين استسلموا له في البيرة بلغ 50000 أسير، وهكذا تعربت المدينة من جديدفي العهد العثماني 1517-1918م كانت البيرة مركزاً سياسياً وإدارياً مهماً ومركز قضاء، سكنها المتصرف العثماني وكان فيها طابور عسكري عرف بطابور البيرة تشكل من أبنائها، وكان له دور في الدفاع عن عكا أثناء حملة الصليبين في أواخر القرن 18م في عهد الانتداب البريطاني ألحقت البيرة بقضاء رام الله، واستمر الحال كذلك خلال الفترة من 1919-1994، بعد دخول السلطة الوطنية الفلسطينية إليها عام 1994 أصبحت البيرة مع توأمتها رام الله مركزاً لمحافظة رام الله والبيرة.

الآثار العربيـة

تعود هذه الآثار إلى ما قبل الغزو اليهودي بقيادة يشوع بن نون و هي الكهوف التي كان ينزل اليها من عل بدرج وفيها شبه محاريب و كلها منحوت بدقة و قد وجدت بها عظام بشرية كما وجدت بها اسرجة و أدوات أخرى, يوجد ثلاثة أو أربع آثار لا تزال بارزة للعيان على جانب الطريق الممتدة من الشرق إلى الغرب أمام بيت السيد "مطـر فرهود" مختار المدينة سابقا, و آخر بالقرب من الطرق شمالي دار "عوض حسين أبو عليص" و هناك آبار كثيرة و كبيرة تعود إلى اليبوسيين و هي تنتشر في جميع أنحاء المدينة و توجد من هذه الآبار زهاء عشرة في راس الطاحونة و في حديقة البلدية. و أكثر من عشرة أبار في النتاريش. كما توجد آبار أخرى منتشرة في المدينة.

الآثار اليهوديـة

لا توجد لليهود آثار تذكر سوى المعاصر التي كانوا يعصرون فيها العنب لصنع الخمر, فقد وجدت لهم آثار في تل النصبة على طريق القدس فوق المكان المعروف " مصنع الخمارات".

الآثار الرومـانية

ثلاث برك تقع كلها جنوبي نبع الماء " قرب الجامع القديم " .


الآثار الإسلامية

الجامع القديم الذي يقوم على نبع الماء " الطريق العام " و أبنية قديمة كثيرة عفت معالمها العليا. ولم يبق سوى إلا أسسها و أضرحة المجاهدين و الأتقياء التي تنتشر في جميع أنحاء البيرة و منها: الشيخ نجم, الشيخ عبد الله, الشيخ مجاهد, الشيخ شيبان، أم خليـل، البطمـة، والشيخ يوسف.

الآثار الصليبيـة

الكنيسة التي لا تزال أسسها قائمة في وسط المدينة ثم الخـان و هو طراز البناء الروماني, و هناك اختلاف في الرأي فمنهم من يقول انه اثر روماني و منهم من يقول انه اثر صليبي و قد كان مربطا لخيول فرسان القديس يوحنا. وقد وجدت في مدينة البيرة أبنية قديمة عريقة في القدم و لم يهتم أحد بنسبتها أو إلى من قام بإشادتها. كذلك وجدت في البيرة قطع نقدية كثيرة تعود إلى اليونان و العرب واليهود.

عائلات المدينـة

تقسم العائلات إلى قسمين: قسم سابق، وقسم وفد على الآخر, أما العائلات العربية السابقة لسكنى المدينة فهي الزعاربة, الجبرة, الغزاونة واليعاقبة. وقد وفد حسـين وأبناؤه على هذه العائلات في القرن السابع عشر الميلادي سنة ١٠٠٧ هجري. وحسـين هذا كان من سكان الحجاز الذين استوطنوا الشوبك أثناء الزحوف الإسلامية الأولى. ولما تعاظم أمر حسين وأبناؤه في البيرة اشتد خطره على العشائر التي استضافته ووقعت بين الطرفين عدة معارك أدت إلى رحيل بعض العائلات الأصلية. كما أدت إلى تكتل من تبقى من العائلات إلى أن أصبحت حمائل البيرة على الشكل التالي:

  1. العـابد ومنها عوائل حماد ، عطـا ، أبو حسـان ، عطـا الله ، احسينه وعائلة أبو سلامة من الغزاونة السكان الأصليين.
  2. الطويـل ومنها عوائل أبو نايفة ، بحـور ، ناصر ، جادالله ، دعاس ، عميرة ، اتيم ، ابو خلف ، عامر ، مزيد ، زايد ، خلف ، عوض الله ، ابزيع ، عبد الرسول ، ابو تينة ، وعائلات أبو عباس و النسـر من الزعارنة واتيم زاغنيم من الغزاونة.
  3. القرعـان ومنها عوائل أبو عيد ، جبر ، شبلي ، عيسى ، اسعد ، عبد الفتاح ، أبو شحاده ، صرصور ، أبو موسى غنيم ، و تنضم إليها عائلة جاد الله.
  4. القـراقرة ومنها عوائل عويس ، حميده ، أبو عاصي ، الشلاوه ، المالكية ، و عائلة أبو عبيــد من الغزاونة السكان الأصليين.
  5. الحمـايل وتتألف من الجبرة واليعاقبة ولهذه الحمولة تنتسب عائلات عبد الوهاب ، صمرين ، قاهوق ، أبو حموده ، درويش ، واطريش.
  6. الرفيـدي وهي تنتسب إلى نصـارى نجـران. نزحت إلى البيرة من رفيديا بالقرب من مدينة نابلس, قدم جد عائلة الرفيدي إلى البيرة حائكا, ثم نال خطوة عند أهل البيرة نظرا للخدمات التي كان يقدمها لمشايخ البيرة خصوصا ما كان متصلا منها بالكتابة و قد كانت هذه العائلة تتقرب لحامولة الطويل.

الاغتراب في البيرة

تأثرت مدينة البيرة بهجرة أبنائها والاغتراب عنها, فمنهم من تركوا زوجاتهم وأولادهم بدون رعاية و تركوا أراضيهم و مزارعهم بدون عناية وأخذ ابن البيرة الذي يهاجر يسحب أقاربه و أصدقائه و هكذا. إلا أن أهل البيرة ظلوا مرتبطين بمسقط رأسهم, فهم يقيمون المشاريع العديدة في كل المجالات لتطويره وتقدمه و على الأخص الناحية العلمية فشيدوا المدارس العديدة فالمدرسة الهاشمية صرح هائل يكاد يكون جامعة والبيرة الجديدة ومدرسة المغتربين وبنات البيرة الثانوية و مدرسة بنت الازور للإناث و مدرسة بنات البيرة الابتدائية للبنات والمدرسة الأردنية و غيرها من المدارس الخاصة. كما شيدوا المباني للمشاريع الاقتصادية التجارية و الزراعية و الصناعية التي يشهد لها, والتي تعود بالخير و النفع العميم على مدينتهم الخالدة. و هم لا يغيبون عنها طويلا فزيارتهم لبلدتهم مستمرة كما أن النادر منهم من يبيع أرضه. والمغتربون منهم نجحوا واثروا و تعلموا تعليما عاليا كما انهم قلما يبيعون أراضيهم فهم يتمسكون بها كثيرا و يقدسونها و يبادرون إلى المشاركة في كل مشروع تحتاجه مدينتهم و يعقدون كل سنة مؤتمرا يتدبرون أمورهم وأمور وطنهم و يتخذون القرارات اللازمة و هم مخلصون كل الإخلاص لعروبتهم و يتمسكون بها و يعتزون رغم انهم في الاغتراب.

في المائة عام الأخيرة صدر العديد من الكتب ومئات المقالات في الولايات المتحدة عن موضوع الهجرة السورية وخصوصا اللبنانية إلى الولايات المتحدة. الغالبية الساحقة من هذه الأعمال صدرت باللغة الإنجليزية، وركزت، بالأساس، على دوافع الهجرة وظروفها، وعملية تكيف واندماج المهاجرين في مجتمعاتهم الجديدة، وموضوع الهوية، متجاهلة أثار الهجرة والشتات على المجتمع الأم.

ونعالج هنا أثرين مهمين للهجرة من بلدة البيرة الفلسطينية للولايات المتحدة على المجتمع المحلي : الأول، التغير الذي طرأ على ملكية الأراضي خلال عهد الانتداب. تَمَـثل هذا التغيير، الجذري بمختلف المقاييس، في انتقال جزء مهم من الأرض، من خلال عمليات الشراء والبيع، من أيدي الفلاحين المقيمين من سكان البلدة، فقراء كانوا أم ميسوري الحال، إلى أيدي الذين هاجروا للولايات المتحدة وحققوا فيها نجاحاً ملحوظاً، سمح لهم بادخار فائض مالي استثمروه في الوطن الأم في مجال الأرض والعقارات. أما الثاني، فمرتبط بالآثار العميقة والمباشرة والسريعة لهذا التغيير على الحراك الاجتماعي وبروز زعامة محلية جديدة.

الإطار الزمني لهذه الدراسة محدد بحوالي نصف قرن من الزمان، من عام 1909، عندما غادر أول مهاجر من البيرة للولايات المتحدة، حتى نكبة فلسطين عام 1948. وتغطي هذه الفترة موجتين من موجات الهجرة تفصل بينهما الحرب العالمية الأولى (1914-1918) التي شلت، مؤقتا، حركة الهجرة والسفر من فلسطين للولايات المتحدة وبالعكس.

إلى أي حد يمكن تعميم استنتاجات هذه الدراسة على بقاع أخرى من فلسطين ؟

لا شك بأن التنوع في القرى والبلدات الفلسطينية يمنع التعميم بشكل آلي على كل قرى وبلدات فلسطين التي مرت بتجربة الهجرة المبكرة للأمريكيتين، بدءا من بلدة بيت لحم ومحيطها، منذ سبعينيات القرن التاسع عشر. فلكل بلدة أو قرية ظروفها وخصائصها المتميزة (عدد السكان، الاقتصاد، مستوى ونوعية التعليم، بداية الهجرة ووجهتها، التركيبة الطائفية، طبيعة العلاقة مع مركز إقليمي) وهي عناصر متفاعلة تؤثر في تجربه الهجرة، وتفرز في كل مكان ديناميات خاصة به. وفي الوقت نفسه لا يمكن أن نغفل حقيقة وجود عناصر مشتركة وأثار متشابهة، خصوصا في مناطق أتيحت لنا دراستها كرام الله .

وسنرى خلال الدراسة، وإن كان عرضاً، كيف تأثرت رام الله، خلال نفس الفترة الزمنية المبحوثة، ببعض الآثار والاتجاهات التي ظهرت في البيرة. وكلي أملُ أن تكون هذه الدراسة، وهي مجرد جزء بسيط من عمل مستمر منذ عام 1995عن تاريخ البيرة وتاريخ أهلها، لبنة في مدماك المحاولات الحديثة التي تبذل لكتابة التاريخ الاجتماعي الحديث لفلسطين، ولإدخال الفلسطينيين العاديين في هذا التاريخ، والتي أخذها على عواتقهم كل من الراحل الكسندر شولش، روز ماري صايغ، تيد سويدنبرغ، وبشارة دوماني.


تعتمد هذه الدراسة بالأساس على الأوراق الشخصية لعدة عائلات بيراوية، وأهمها المجموعة الخاصة بالشقيقين علي وعبد الله جودة خلف من حمولة الطويل، ومجموعة الشقيقين عثمان وصالح العطا من حمولة الحمايل.

وهما مجموعتان غنيتان تضمان ما لا يقل على 100 وثيقة ومعاملة وحجة أرض وفواتير ومعاملات مالية متنوعة، تبدأ من عام 1880 وحتى عام 1946. كما اعتمدت على عشرات من المقابلات الشفوية التي سجلناها بين 1989-2008 مع عدد من أبناء المدينة المعمرين، بما فيها مقابلات أجريناها في نيويورك وفرجينيا وواشنطن وفلوريدا ونورث كارولينا وكاليفورنيا. كما استندت الدراسة إلى مجموعة متنوعة من المصادر؛ أولية كالصحف، وثانوية منها الكتب والدراسات التي طرقت موضوع ملكية الأراضي والهجرة السورية للأمريكيتين، أي الهجرة من البلاد التي كانت تشكل الفضاء الجغرافي والثقافي لما كان يطلق عليه مصطلح " بلاد الشام".

ورغم أن هذه الدراسة ما كان لها أن تستكمل بدون هذه الأوراق العائلية، فإن استخدامها لمصادر متنوعة يُظهر مرة أخرى أفضليته في كتابة تاريخ أكثر صدقاً وواقعية.

مقارنة بالعديد من المصادر لدراسة التاريخ الاجتماعي (شفهية كانت أو مكتوبة، رسمية أو خاصة)، فإنني أعتقد أن الأوراق العائلية المختلفة (عقود وحجج بيع وشراء الأرض، وصولات الضرائب، عقود الزواج، أوراق المعاملات التجارية..الخ) أقل عرضة للانحياز أو التزوير، أو إسقاط الحاضر على الماضي، كما هو حال الكثير من المصادر الثانوية المكتوبة أو المقابلات الشفوية أو أوراق السير الذاتية إذ ظلت هذه الأوراق عبر السنين، على ما هي عليه دون تحريف أو تعديل.

ولعل هذا يشرح تعاظم أهمية هذه الأوراق كمصدر في أبحاث التاريخ الاجتماعي، خصوصا في حالة فلسطين، التي تميزت وما تزال بعدم الاستقرار السياسي، وبمصادرة وتدمير المصادر المكتوبة، بما في ذلك الأوراق العائلية، وقلة الوعي بأهمية الوثائق والتوثيق، وغياب مؤسسات دولة تأخذ تحت جناحها عملية الحفاظ على الإرث الشفهي والمكتوب.

وقد وثقت في مقال سابق كيف دمر ونهب وضاع كثير من الأوراق العائلية والشخصية (كجزء من المصادر المكتوبة) نتيجة الأوضاع السياسية المتقلبة في فلسطين.

وإذا كان هناك من تساؤلات توجه لهذا النوع من الوثائق فهي لا تتعلق بصدق وأهمية مثل هذه الأوراق التي تقع بين يدي الباحث، فهذه – كما قلنا - ليست موضع خلاف أو جدال، وإنما بحجم ونوعية المواد الذي تمثلها الأوراق المتاحة بين أيدينا، والتي تخص عائلة ما، من إجمالي الأوراق التي تخص نفس العائلة ؟ فهناك أوراق ضاعت، وهناك أوراق تُحجب عن الباحثين نتيجة لتحفظ مالكي هذه الأوراق على عرض أوراق لعائلاتهم قد تحكي قصص غير مرغوب فيها. وكلا العاملين يحددان مساحة ومجال المعرفة، ويضعان الباحث في دائرة "الانتقائية" المفروضة عليه فرضا، ونحن نعلم أن الانتقائية هي إحدى السلبيات الرئيسية لأي بحث علمي.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

هيكل الدراسة

هذه الدراسة مقسمة لعدة أبواب : مدخل سريع حول العقبات المنهجية المتعلقة بدراسة الأرض وملكيتها في منطقة رام الله، وهي صالحة للتعميم على مجمل الحالة الفلسطينية؛ تعريف بالسيرة الشخصية لأصحاب هذه الأوراق العائلية : الشقيقين عبد الله وعلي جودة خلف الطويل والشقيقين عثمان وصالح العطا؛ الهجرة للولايات المتحدة والتغيرات التي طرأت على ملكية الأرض نتيجة لها؛ أثر هذا التغير على الاقتصاد السياسي للمدينة وانعكاساته على بروز زعامة جديدة أطاحت بالزعامة التقليدية القديمة.

عقبات وملاحظات منهجية على موضوع الأرض:

يعالج الباحث التحولات في ملكية الأرض في عهد الانتداب، وهو عهد قصير نسبياً رغم التحولات الجذرية التي نجمت عنه، فهو مضطر إلى إجراء مقارنة مع ما كان عليه وضع الأرض في الأيام الأخيرة للعهد الذي سبقه (العهد العثماني)، الأمر الذي يضعه في مواجهة الكثير من العقبات المنهجية والفنية.

وأهم هذه العقبات والمشاكل:

- طبيعة حجج البيع والمشاكل المتعلقة بتسجيل الأراضي ومعاملاتها : فتنظيم أمور بيع وانتقال الأرض، بما في ذلك وثائق البيع، لم تستقر إلا في فترة متقدمة من عهد الانتداب. فكثير من معاملات حجج البيع التي فحصناها في السنوات التي تلت احتلال فلسطين (1917-1918) حافظت على نفس مثالب حجج البيع في العهد العثماني، مثل غياب تحديد موقع ومساحة القطعة بدقة.

كما أن كثيرا من الأراضي لم تكن مسجلة بالطابو. على أي حال، تخلوا حجج البيع الخاصة بعلي وعبد الله جودة خلف، وصالح وعثمان العطا، والتي كتبت في السنوات الأخيرة من العهد العثماني وبداية عهد الانتداب، من تحديد مساحة قطعة الأرض على الإطلاق.

كما أن تحديد الموقع في هذه الحجج كان يتم من خلال حدود أرض الجيران التي قد تكون هي نفسها موضع نزاع أو غموض وهناك كثير من الحجج التي تتضمن عبارة "وشهرتها تغني عن ذكر حدودها". وفقط في المراحل اللاحقة من عهد الانتداب أصبحت مساحة الأرض تُحدد بدقة في معاملات البيع، عندما أنجزت سلطات الانتداب عملية مسح معظم أراضي فلسطين، وحددت نقاط التثليث، التي سمحت برسم خرائط دقيقة، ووحدت عمليات وإجراءات التسجيل، وحطمت بلا رجعة وجذرياً نظام المشاع .

وهي إجراءات كان هدفها الحقيقي، وإن غير المعلن، تسهيل عملية انتقال الأرض لليهود وتحسين جباية الضرائب.

- الكتابة بالعامية واختلاف دلالات المقاييس : معظم الحجج في نهاية العهد العثماني وبداية عهد الإنتداب كتبت بالعامية وهذا يضيف عبئاً على الباحث الذي يجد صعوبة في ضبط دلالات بعض الألفاظ، خصوصاً في ظل غياب قاموس مقارنة للعامية.

وفي هذا السياق هناك تباين واختلاف في دلالات المصطلحات المحلية الدارجة على السنة السكان والخاصة بمساحة قطع الأرض مثل: الحاكورة، الفدان، الحبلة، المارس، الحريقة، الخلة (خلت)، المعاديد...الخ

- مشكلة العملات المستخدمة في عمليات الشراء والبيع : تعدد العملات السائدة في فلسطين وعدم اسقرار سعر صرفها، يصعب على الباحث إجراء المقارنة والتقييم لأسعار الأراضي ومعدل ارتفاعها.

فالاختراق الغربي السياسي والاقتصادي والثقافي للدولة العثمانية، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وتراجع الثقة في العملة العثمانية بسبب غش نسب الذهب او الفضة المستخدمة في النقود المعدنية، سمح بتدوال عملات اجنبية مختلفة فإضافة إلى الليرة العثمانية الذهب، أو العصملية، والتي عرفت أيضاً بالمجيدية نسبة للسلطان عبد المجيد، شاع تداول الليرة الانجليزية الذهب، والليرة الفرنسية الذهب.

وبعد سقوط فلسطين 1917-1918 ظل التعامل بالليرة الذهبية الإنجليزية ساريا في بعض صفقات الأرض. لكن العملة المصرية بمختلف أنواعها، الذهبية والفضية والنكلية والورق، أصبحت العملة الرسمية في فلسطين ابتداء من 1 شباط 1921 حتى صدرت العملة الفلسطينية عام 1927، والتي كانت العملة الرسمية في شرق الأردن أيضاً حتى عام 1949.

وهكذا خَفَ التعامل بالعملة المصرية إلى أن حُرِم التعامل بها كعملة قانونية في فلسطين بعد يوم الحادي والثلاثين من شهر آذار 1929.

- المشاكل الخاصة بأسماء المواقع : فهناك تغير ملحوظ في أسماء المواقع مع تقلب الزمان، الأمر الذي يُصعب متابعة وتحديد مواقع قطع الأرض.

وعلى سبيل المثال لا الحصر، فما يعرف اليوم في البيرة بمنطقة "البالوع" كان اسمها الشائع حتى الأربعينيات "مكب المية".

وما كان يطلق عليه اسم أرض "البقيع" يعرف حالياً باسم "الميدان" (لأنه في فترة الانتداب استخدم ميداناً لسباق الخيل).

ومشكلة الأسماء ليست خاصة بالفترة العثمانية فحسب، بل هي ظاهرة مستمرة حتى اليوم، ولا هي مقتصرة على أسماء المواقع والمناطق، بل هي ظاهرة عامة تشمل أسماء المعالم والميادين والحارات...الخ.

وليس هناك اليوم إلا بضعة معمرين من ابناء البيرة ممن يعرفون أسماء أو مواقع الحارات القديمة كحارة الزيد أو حارة الهِري أو حارة الشراقة، التي استبدلت بأسماء جديدة، ودرست معالمها القديمة بشكل شبه تام حيث قامت مكانها أحياء وشوارع جديدة.

وظاهرة عدم احترام المسميات القديمة ناجمة عن ضعف الوعي بأهمية الحفاظ على الأسماء التاريخية خصوصاً في المجتمعات المحلية؛ أو انعكاس لدور وظيفي أو حدث جديد؛ أو بروز شخصية ما طغى اسمها على اسم المكان القديم.

وعلى سبيل المثال، فإن عين زليخة (على جبل قرطيس) سميت باسم امرأة اسمها زليخة تفانت في العناية بالأرض التي من حولها فاختفى الأسم القديم للعين؛ أو لأسباب أيدولوجية أو وطنية، وعلى سبيل المثال فقد دُشن المسجد الرئيسي في البيرة في مطلع الستينيات باسم جامع البيرة الكبير، وبعد وفاة عبد الناصر عام 1970 قرر رئيس المجلس البلدي في حينه إطلاق اسم مسجد جمال عبد الناصر عليه.

وفي السنوات الأخيرة وبعد بروز حركة حماس أطلق عليه الإسلاميون مسجد سيد قطب

(نلاحظ الارتباك الناتج اليوم من تداول الناس للتسميات الثلاث لنفس المسجد، وإن ظل اسم مسجد عبد الناصر هو الطاغي).

- تذبذب أسماء الأفراد، وانقطاع وتغير أسماء العائلات : وهو أمر يُصعب على الباحث تتبع ملكية الأرض وترسُّم تاريخ عائلاتها. تظهر مشكلة أسماء العائلات حتى في المدن , وقد ساهم وقوع فلسطين تحت أنظمة سياسية مختلفة في زيادة حدة هذه الأزمة.

وعلى سبيل المثال، فإن إسرائيل فرضت منذ احتلال عام 1967 تسجيل اسم الحمولة كأسم عائلي أخير، من أجل تحديد وتصنيف السكان كي تسهّل عملية الرقابة والسيطرة، وفي محاولة منها لإحياء النعرات والعصبيات بين الناس (فرق تسد).

والغريب أننا لا نجد في وثائق المحكمة الشرعية في القدس في القرن التاسع عشر، والخاصة بمعاملات البيرة، أي استخدام لاسم الحمولة كاسم أخير للشخص أو لتحديد عائلته. ولا تقتصر مشكلة الأسماء في البيرة على أسماء العائلات، بل وتمتد إلى أسماء الأفراد أنفسهم التي خالطتها الألقاب، أو إلى اختلاف اسم العائلة لأشقاء من نفس الأسرة، وهو ما يضفي الكثير من الصعوبات.

بيد أنه لا مكان في هذه الدراسة القصيرة للخوض في هذا الموضوع الذي تخالطه الطرافة، والذي يلقي الضوء على جانب مهم من العلاقات الاجتماعية والبيئة الثقافية المحلية.

- مشكلة الوصول للوثائق في مراكز الأبحاث والدوائر الحكومية أو المجالس البلدية الخاصة بالأرض ومعاملاتها : فمعظم هذه المؤسسات تمنع فحص أرشيفها، أو تقيد، أو تحدد، أو تعقد عملية الاستفادة من هذه الوثائق، أو تفرض قيود صارمة على التصوير.


المهاجرون الجدد والزعامة في البيرة

عندما احتل البريطانيون البيرة كان هناك بالأساس زعيمان للبيرة : رشيد العلي (ويطلق عليه أيضاً اسم رشيد الإبراهيم أو رشيد الفوز) مختار البيرة وزعيم حمولة أو عائلة القرعان، وهي الحمولة الأكبر عددأ في البيرة، وعامر محمد العامر، مختار البيرة الثاني وزعيم عائلة الطويل المهمة.

وبالاضافة إليهم كان هناك زعماء العائلات الأصغر، مثل المختار حسن الحسين زعيم عائلة الحمايل، والحاج أمين غنيم وجيه عائلة الغزاونة الصغيرة والتي انضوت تحت جناح عائلة الطويل.

كانت الزعامة في البيرة ترتكز على مكانة اجتماعية موروثة أبا عن جد، وعزوة قوية "مسنود الظهر" عبر عائلة كبيرة وتحالف مع عائلات صف اليمن والقيس الرئيسية، وعلاقة الجيدة مع الإدارة والسلطة العثمانية وممثليها، والتي تتجسد غالباً في حصوله على المخترة.

أما القاعدة الاقتصادية لهذه الزعامة فكان من أبرز عناصرها ملكية الأرض ورعوات الغنم الكبيرة، التي كانت تسمح بممارسة مظاهر الزعامة (اللباس والهندام الجيد والنظيف، الكرم والانفاق على المضافات والولائم).

حدد ألبرت حوراني في مقالته الرائعة " سياسة الأعيان" مقومات زعامة المدن :

- مكانة اجتماعية مرموقة في الغالب موروثة.

- وضع اقتصادي جيد يسمح بالعناية بمظاهر هذه المكانة، وبتقاليد وعادات المجتمع الفلسطيني الذي يعطي للضيافة والكرم للغريب والأعوان منزلة خاصة.

- القدرة على التوسط بين عامة الناس و بين السلطة السائدة.

من الضروري هنا التنويه إلى أن المكانة الاجتماعية كعنصر حراك اجتماعي وزعامة ليست مقصورة على المجتمعات العربية، ولا هي بالضرورة قائمة فقط على التفوق المالي.

وقد أثبت عالما الاجتماع الفرنسي بيير بوررديو وجان كلود مؤلفا كتاب "الورثة les Héritiers " (1964)، ومن خلال بحث عميق استمر سنين طويلة، أن النظام التعليمي في المدارس والجامعات الفرنسية يعمل كجهاز انتقاء وتفرقة اجتماعية لصالح الطبقات العليا على حساب الفئات المتوسطة، وبشكل اكبر على حساب الفئات الشعبية.

حيث لاحظا أن الطلاب "اللامعين" الحاصلين على أعلى الشهادات المطلوبة، والذين يتعلمون في المؤسسات التعليمية الأرفع مكانة، وأخيراً الذين يستطيعون الوصول إلى مواقع السلطة، وبنسبة عالية وساحقة - وهذا ليس بالصدفة - تنتمي إلى فئات تتمتع بمكانة وامتيازات اجتماعية، مرتبطة بولادتهم ونشأتهم في أوساط ميسورة.... وباختصار فان هؤلاء الورثة لا يعتمدون على القوة الاقتصادية فقط - ولكن أيضا، وربما أكثر، على الجانب الثقافي والمكانة.

عموماً يبدو لنا أن المقومات الخاصة بمكانة الزعامة الحضرية التي أشار إليها حوراني في مقالته عن أعيان بلاد الشام وبورديو عن الطبقات الاجتماعية في فرنسا، كانت تنطبق أيضا آنذاك على الزعامة المحلية في فلسطين.

فبعد فترة قصيرة من الاحتلال البريطاني تعرض أهم زعيمين للبلدة رشيد العلي (القرعان) وعامر محمد العامر (الطويل) إلى عملية ابعاد إلى مصر , فقد أبدى عامر ورشيد العلي، وبشكل علني وشجاع، ولاءهما للسلطة العثمانية القديمة ورفضهما لسلطة الاحتلال أمام رونالد ستورس حاكم القدس البريطاني الذي كان في زيارة للبيرة , وتحول موقف الاثنين أمام ستورس إلى أسطورة :

" لما دخل الانجليز البيرة استدعوا المخاتير رشيد العلي وعامر وسئلوهم: كيف شايفين العيشة؟ [مقارنة مع العثمانيين] قالوا له : الحذوة الي في بسطار الجندي العثماني، بتشرف الملك جورج.... فنفاهم الى كامب فايد في مصر"

لكن احمد الشمسة الذي كان عمره 14 عاماً عندما حضر الواقعة يعطي صورة أكثر واقعية لما حدث، رغم تأكيده وغيره على عملية الإبعاد :

" كل البلد مع الأتراك، ما عدا الأردن هذول الشرفا [ الهاشميون] ويلا إحنا هان كلنا غايتنا تركيا. يعني لحد لما دخلوا الإنجليز، أجا حاكم لوا اسمه ستورس تحت ايد المندوب[ المندوب السامي]. مخاتير بقاش بلدية إسعا، ودى [أرسل في طلب] ورا كل المنطقة تيجي تعمل له عرابة باب الشركة [شركة النجاح]، يم صاحيها تماما. لما أجا صافين عرابا، قلهم بدكم اتقولوا لي انوه [من هو] اللي ببغض الأتراك وبحب الإنجليز، كلهم رموا روسهم[اطرقوا رؤوسهم وصمتوا] يعني اختيارية بلدنا والقضاء كله. رشيد العلي أبو سعيد الرشيد هذا رفع إصبعه، قال له: تعال شو بتقول؟ قال له: بقول أنا بكرهكم وبحب الأتراك. قال له: ليش؟ قال له ديني، مذهبي، مبدأي، انتم عدوين عليّ، كيف بدي احبكم. طبل على ظهره ستورس، طبل على ظهر رشيد العلي، شكره يعني. "

يتعارض موقف رشيد العلي وعامر مع الروايتين البريطانية والرواية العربية القومية اللتين تبنيتا فكرة كره "العرب" للاتراك العثمانيين والثورة ضدهم إلى جانب الحلفاء. وبالتأكيد فإن موقف الاثنين يعبر بشكل أصدق عن مشاعر الأغلبية الصامتة في فلسطين آنذاك (الأغلبية الفلاحية المسلمة) وهو موقف سيحن إليه بدرجات مختلفة من التمايز، الشرفاء الذين انخدعوا بطلاوة لسان البريطانين وصدقوا وعودهم، ليكتشفوا أنهم استبدلوا الرمضاء بالنار.

من ناحية أخرى تلقى ظاهرة ابعاد الاثنين – وهي ظاهرة تكررت على نطاق واسع، وإن لا كنا نجدها إلا بعد استحضار ونبش الذاكرة الشفوية - الأضواء على حقيقة مجهولة، وهي عملية إبعاد زعامات وطنية محلية في فلسطين في اعقاب الاحتلال البريطاني لفلسطين نتيجة استمرار ولائها للنظام القديم. كما توضح عملية التدخل البريطاني المباشر للتحكم في بروز ونشوء وتثبيت الزعامات ليس على المستوى الوطني فحسب بل وحتى على المستوى المحلي. وهي عملية ستستمر في العهد الأردني، وستأخذ أبعادا غير مسبوقة تحت الاحتلال الاسرائيلي.

عندما أبعد الزعيمين شهدت البيرة، ولمدة قصيرة، "زعامة" انتقالية يمكن أن نستعير بنوع من التجاوز والتبسيط مصطلح تكنوقراطية لوصفها، حيث استلم إدارة شؤون البلد إبراهيم حنا الرفيدي، وهو وجيه من عائلة مسيحية صغيرة وفدت إلى البيرة على الأغلب في القرن التاسع عشر قادمة من رفيديا (نابلس) بعد قصة "دم"، واستجارت وأطنبت على أهل البيرة الذين كانوا أبدوا استعداداً لقبولها بعد رفض رام الله لذلك، فأصبحت تحت جناح حمولة الطويل، وجزءاً لا يتجزأ منها. (تعتبر قصة آل الرفيدي ولجوئها للبيرة، وصعود نجم إبراهيم حنا الرفيدي أحد الفصول المهمة لفهم العلاقات المسيحية/الاسلامية في جبل القدس).

كان إبراهيم الذي توفي دون انجاب أولاد قد نال احترام أغلبية سكان القرية المسلمين، فقد كان دمثاً ومتعلما مقارنة بالأغلبية الساحقة من أقرانه الأميين. كما تميز بخطه الجميل الذي سَطَرَ به جزءا كبير من الوثائق والمعاملات العقارية في حينه (معاملات شراء وبيع ورهن الأرض، ومعاملات الإرث والزواج، الخ..) والتي كانت تعقد بين السكان. وبغض النظر عن التناقضات بين الروايات الشفهية التي تقول أن ابراهيم عُين بعد اختياره من قبل وشيوخ البلدة، أو أن تعيينه جاء بمبادرة السلطات البريطانية، فإن هذا التعيين استند إلى الاحترام الذي كان يحظى به لدى الطرفين (السكان والادارة البريطانية) وكمرحلة انتقالية وكحل وسط بين المصالح والقوى العائلية والشخصية المتنافسة.

بعد عدة سنوات من النفي في مصر عاد رشيد العلي وعامر.... ورغم استقبالهما استقبال الأبطال فإن عملية الإبعاد أدت إلى التأثير على مكانتهما. فقد فقدا المخترة فأصبحا عاجزين عن القيام بدور الوسيط بين السكان والسلطة، وهو أحد مقومات الزعامة كما قلنا. كما أن عملية الإبعاد عمقت من تردي وضعهما الاقتصادي الذي كان قد تراجع أصلاً نتيجة صعود القوة الاقتصادية الجديدة القادمة من أمريكا.

فما هي قيمة عشرات الدونمات التي كانوا يمتلكوها عندما أصبح أغنياء المهاجرين قادرين على شراء المئات في صفقة واحدة؟ وما هي قيمة رعوات الغنم الكبيرة أمام سيولة الدولارات الخضراء التي كانت تؤهل لأغنياء المهاجرين شراء عشرة أمثالها إن أرادوا ؟ وكم هي حقيرة فرس رشيد العلي الأصيلة التي كان في ما مضى يتباهى بها في البيرة والقضاء أمام السيارات الفارهة للأغنياء من المهاجرين ؟

سيموت عامر مقهوراً بعد وقت قصير من عودته من المنفى إثر مقتل أحد اتباعه بضربة حجر في شجار على يد احد أنصار عبد الله جودة خلف، ممثل القوة الصاعدة الجديدة ورمزها. لقد وجد نفسه، للمرة الأولى، عاجزاً بلا حول أو قوة أمام انحياز السلطة البريطانية لصالح الزعامة الجديدة الممثلة بعبد الله جودة خلف الذي أجاد فن نسج العلاقات العامة وسياسة "إطعام الفم لتستحي العين". وما هي أيام على هذه الحادثة إلا ومات عامر مجلوطاً.... أما رشيد العلي فسينتهي به الأمر في نهاية حياته كعزيز قوم ذُل : مجرد حراث فقير.

من الآن فصاعدا (مطلع العشرينيات) وحتى نهاية الفترة المدروسة (نهاية الأربعينيات) أديرت شؤون البلد من قبل المهاجرين، وخصوصا من قبل عبد الله جودة خلف، الذي أصبح بمساعدة ودعم أخيه علي - وبغض النظر عن موقعه الرسمي الذي تأرجح هبوطا و صعودا - الزعيم الرئيسي للبلدة خلال 35 عاما. وهو أول رئيس مجلس محلي في البيرة في العشرينيات، وأول رئيس مجلس بلدي (كانون ثاني 1952).

وبين هاتين الفترتين سيشغل عدة مرات منصب رئيس المجلس المحلي.

وهذه الظاهرة لن تقتصر على عبد الله جودة خلف.... فكل رئيس مجلس محلي أو قروي (ولاحقاً بلدي) يظهر على الساحة منذ 1920 وحتى عام 2005 سيكون مهاجرأ سابقاً للولايات المتحدة (عبد الله جودة خلف ، عيد الموسى، عيسى لصرصور، عقل محمود) أو ابن لمهاجر سابق (وديع محيسن، عبد الجواد صالح ، وليد مصطفى). أما في رام الله فقد كان الياس عودة الدبيني أول رئيس بلدية لها (نيسان 1910) بفضل مال ونفوذ شقيقه يوسف عودة، أول مهاجر من رام الله وعراب الهجرة الذي نظم أول شبكة تهريب لتهجير الرجال من رام الله والبيرة، والذي طالما دعت عليه نساء البيرة في أغانيهن الحزينة عن أزواجهن وأبنائهن الرجال الذين لم يعودوا.


خلاصة

عهد جديد يطوي عهد قديم

أدت الهجرة إلى الولايات المتحدة من البيرة وقراها إلى تغيير جذري غير مسبوق في ملكية الأرض، وإلى ارتفاعٍ في معدل الحراك الاجتماعي لم يشهد له المجتمع المحلي مثيلاً من قبل. وكان من مظاهر هذا الحراك ظهور نوع جديد من الزعامة المحلية مختلفة تماماً في طبيعتها عن الزعامة المحلية التقليدية السابقة، وإحداث تفاوت طبقي كبير في مجتمعٍ كانت التفاوتات فيه قبل الهجرة محدودة. كما أن الحراك الاجتماعي السريع الذي أحدثته الهجرة كسر الحواجز، إذ أصبحت الثروة عاملاً كافياً لاكتساب مكانة تؤهل صاحبها للصعود إلى قمة الهرم الاجتماعي.

ورغم تغير الزعامة فإن ذلك لم يعن فقدان الزعامات القديمة فقدت لاحترامها بين الناس، فكما وصفت جريدة "الدفاع" ستتحول جنازة رشيد العلي ومأتمه في كانون ثاني 1937 إلى مناسبة حزن كبير على مستوى القضاء , فقد لف جثمانه المحمول على الاكتاف بالعلم العربي وسيشارك في جنازته قائمقام رام الله و الشخصيات من المجلس الإسلامي الأعلى و مندوب عن سماحة الحاج آمين الحسيني وستقوم نساء البيرة، ومنهن من مزق ثيابه في إشارة للحزن العميق، بعقد سبعة حلقات ندب ، غير أن هذا الحماس والحزن كان مجرد ترنيمة وداع لمرحلة انطوت بلا رجعة ولا يريد أن يتذكرها أحد بعد الآن.

فبعد أن ووري التراب كان قبره البسيط المبني من الطوب الذي أقيم على ما يبدو بعد سنين يحمل تاريخاً يشير خطأً إلى وفاته قبل عشر سنين، وعلى مقربة من قبره المغمور انتصبت قبور حجرية شديدة الفخامة بنيت على النمط الأمريكي لمغتربين ناجحين.

ورغم صمت القبور الموحش فإنها كانت تحكي بصراحة وآسى قصة التحولات الجديدة.

  • المادة مأخوذة من كتاب : أوراق عائلية؛ دراسات في التاريخ المعاصر لفلسطين، الصادر حديثا جدا عن مؤسسة الدراسات المقدسية.

والكتاب حصيلة أعمال مؤتمر (المصادر الأرشيفية والتاريخ الاجتماعي في فلسطين)، الذي عقد في جامعة بيرزيت، تموز 2008.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

مدن شقيقة

انظر أيضا

المصادر

وصلات خارجية