نظام الحكم في عصر محمد علي

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

النظام السياسي

كانت الحكومة المصرية على عهد محمد علي حكومة مطلقة تسود فيها قاعدة حكم الفرد، ولكن الفارق بينها وبين ما كانت عليه في عصر المماليك انمحمد علي باشا وضع نظاما لادارتها ، فحل هذا النظام محل الفوضى والارتباك، فهو وان كان يعد من دعاة الحكم المطلق (وهذه نقطة ضعف في تاريخه) الا ان ميزته انه كانت لديه فكرة النظام والاصلاح كما انه كان يميل الى مشاورة مستشاريه في الامور قبل ابرامها.[1]

ان انشاء حكومة قوية من اجل الاعمال التي قام بها محمد علي، لانها قضت على الفوضى التي كانت ضاربة اطنابها في البلاد، وبهذه الحكومة امكنه ان يتم الاصلاحات التي فكر فيها، وكان له الفضل الكبير في نشر لواء الامن في البلاد، وهذا الامن الذي بسطه محمد علي باشا كان من اهم دعائم العمران في وادي النيل، ومن الحق ان نقول ان استتبات الامن والنظام من مميزات هذا العصر، لان عصر المماليك اشتهر بفقدان الضبط والربط فلم يكن المزارعون والتجار والملاك يامنون على اموالهم واملاكهم بل كانت تتخطفها المناسر وقطاع الطرق، ومعلوم انه اذا لم يستتب الامن في بلد فلا يرجى له تقدم او حضارة، فمحمد علي قد وضع اول دعامة لعمران مصر بضبط الامن والضرب على ايدي الاشقياء وقطاع الطرق وقرصان النيل، وهذا من اجل اعماله مدة حكمه، قال المسيو جومار في هذا الصدد "ان من اهم نتائج حكم محمد علي وادعاها للاعجاب بسط رواق الامن بحيث يستطيع الانسان ان يجتاز الجهات البعيدة عن النيل امنا مطمئنا بعد ان كان يستهدف لاختطاف العربان اياه اذا تخطى عتبة الصحراء بل في وسط الجهات الزرعاية، وقد اخضعت الحكومة سطوة العربان ومنعت غزواتهم، ويمكن الانسان ان يسير وسط مضاربهم امنا على نفسه، وهم يشتغلون بتربية المواشي والغنم والاتجار بها في الاسواق".

فميزة حكومة محمد علي على انها وطدت دعائم الامن في البلاد، وبذلك امكنها ان تقوم بالاصلاحات التي مر بك ذكرها، ولكن بجاجنب ذلك لا مندوحة عن القول بان محمد علي لم يتجه ذنه قط الى انشاء نظام دستوري او شبه دستوري بالمعنى المفهوم، وهذه نقطة ضعف وموضع نقد شديد في تاريخه، وما الهيئات التي اسسها الى مجالس تنفيذية كانت الكلمة العليا فيها له او لكتخدائه، ومجلس المشورة لم يعمر طويلا، والظاهر ان ميوله النفسية لم تتجه الى ناحية النظام الدستروي، ولو انه عنى بهذه الناحية لامكنه ان يعد الامة للاضطلاع بمسئوليات الحكم في عهده، ولكنه لم يفعل، وترك المسالة فوضى بين خلفائه والشعب، فوقع الصدام بينهما في اواخر عهد اسماعيل واوائل عهد توفيق حتى افضى الى الثورة العرابية ثم الى الاحتلال الانجليزي.


الدواوين

ومن هنا جاءت فكرة تاسيس بعض المجالس او الدواوين التي كان يرجع اليها في مختلف الشئون.

فقد الف مجلسا للحكومة يسمى الديوان العالي ومقره القلعة، وكان يتداول مع اعضائه في الشؤون المتعلقة بالحكومة قبل الشروع في تنفيذها، ورئيس هذا الديوان يلقب بكتخدا بك أو كتخدا باشا وهو بمثابة وكيل الباشا او نائبه، وله سلطة واسعة المدى في كافة شؤون الحكومة، وكان بمثابة رئيس الوزراء ووزير الداخلية، وصار هذا الديوان يعرف على مدى السنين بالديوان الخديوي وسمى ايضا وقتا ما ديوان المعاونة.

والف على التعاقب لكل فرع من فروع الحكومة مجلسا او ديوانا يختص به، فكان هناك ديوان للحربية (الجهادية)، وديوان للبحرية، وديوان للتجارة والشؤون الخارجية، وديوان للمدارس (المعارف العمومية) وديوان للابنية واخر للأشغال، وكانت هذه الدواوين بمثابة فروع واقسام للديوان العالي.

ولما تقدمت شؤون الحكومة الف سنة 1834 مجلس دعاه المجلس العالي، يتالف من نظار الدواوين ورؤساء المصالح واثنين من العلماء يختارهما شيخ الجامعة الازهر، واثنين من التجار يختارهما كبير تجار العاصمة، واثنين من ذوي المعرفة بالحسابات واثنين من الاعيان من كل ميدرية من مديريات القطر المصري ينتخبهما الاهالي.

وعين لرئاسة هذا المجلس عبدي شكري بك (باشا) احد خريجي المجلس النائبين عن التجار والعلماء والمديريات سنة واحدة.

وغني عن البيان ان هذه المجالس او الدواوين لم تكن على درجة كبيرةم ن الرقي وحسن النظام، لكنها كانت الخطوة الاولى لنظام حكومي لم تعرف البلاد مثله من قبل حيث كانت الفوضى ضاربة اطنابها في مختلف نواحي الحكم.

قال الدكتور كلوت بك في هذا الصدد: "من المحقق ان هذه الهيئات الحكومية لم تبلغ درجة الاتقان لكن ينبغي ملاحظة ما بذله محمد علي من الجهود في هذا السبيل وما بثه من روح النظام وتقرير اوضاعه وما اظهره من سداد النظر وصدق العزيمة في وضع النظام الاداري الحكومي ولا ريب انه اذا توافر عنده الوقت الكافي وتخلص من مشاغله الحالية واخرجت المدارس عددا كافيا من الاكفاء سيضع لمصر نظاما دستوريا ثابتا يكون قد بحثه ونفذه بما عهد فيه من الحكمة".

مجلس المشورة

(سنة 1829)

كانت المجالس المتقدمة مجالس حكومية تنفيذية تتالف في الجملة من كبار الموظفين ، ولم تكن هيئات شعبية تمثل طبقات الامة او يصح اعتبارها نواة لنظام نيابي او شبه نيابي، ولكن هيئة واحدة الفها محمد علي سنة 1829 يصح ان تعد نواة لنظام شورى وهي (مجلس المشورة) ويتالف من كبار موظفي الحكومة والعلماء واعيان القطر المصري برئاسة ابراهيم باشا، وهذا المجلس يشبه في عدد اعضائه وتمثيلهم لمختلف الطبقات ان يكون جمعية مؤلفة من 156 عضوا منهم 33 من كبار الموظفين والعلماء و24 من ماموري الاقاليم و99 من كبار اعيان القطر المصري.

وهو من جهة التمثيل افضل من الديوان العمومي الذي انشاه نابليون في عصر الحملة الفرنسية، فان هذا الديوان كان مؤلفا من اعيان وتجار القاهرة فقط، وهو اقرب في تشكيله الى الديوان العام الذي اسسه نابليون ايضا اذ كان مؤلفا من العلماء والاعيان النائبين عن مختلف مديريات القطر المصري.

اما من جهة السلطة فلم يكن لمجلس المشورة سوى سلطة استشارية، وكذلك الديوان العمومي والديوان العام في عهد الحملة الفرنسية، وكانت مشورته مقصورة على مسائل الادارة والتعليم والاشغال العمومية، وما يقترحه الاعضاء في هذا الصدد مما ترشدهم اليه اختباراتهم، وينظر في الشكايات التي تقدم اليه، وينعقد مرة واحدة في السنة ويجوز ان يستمر الانعقاد عدة جلسات.

أعضاء مجلس المشورة

يهمنا كثيرا ان نذكر هنا اسماء اعضاء مجلس المشورة، فمنهم تالفت اول هيئة نيابية شورية في عصر محمد علي، وجدير بنا ان نعرف اسماءهم بعد ان اثبتنا في الجزءين الاول والثاني من تاريخ الحركة القومية اسماء اعضاء الهيئات التمثيلية التي تالفت على التعاقب في عهد الحملة الفرنسية لكي يكون لدينا صورة جلية لمن يصح التعبير عنهم بانهم نواب الشعب في مختلف ادوار الحركة القومية ولنقف من هذا البيان على اسماء كبار اعيان مصر في ذلك العصر، لان الذين انتخبوا لعضوية مجلس المشورة كانوا بالبداهة رؤساء العشائر والعائلات وكبار الاعيان البارزين في القاهرة والاقاليم.

ذكرت جريدة الوقائع نبأ انعقاد مجلس المشورة لاول مرة، فقالت انه اجتمع عصر يوم 3 ربيع الاول سنة 1245 (2 سبتمبر سنة 1829) في قصر ابراهيم باشا (القصر العالي) وتحت رئاسته، وحضر الاجتماع جميع الاعضاء، وعرض عليه كل الشؤون الخاصة بالاقاليم خصوصا ما كان موجودا منها بالديوان العالي وذكرت اسماء الاعضاء ننقلها بترتيب نشرها في الوقائع مع بيان وظائفهم والقابهم، بعد حذف عبارات التفخيم التي كانت مالوفة في لغة ذلك العصر.

ابراهيم باشا (رئيس المجلس)

أعضاء من رؤساء المصالح الحكومية والعلماء:

عباس باشا (حفيد محمد علي)، أحمد باشا مامور الاقاليم الوسطى، محمد خسرو باشا مامور الجيزة والمنوفية والبحيرة، شريف بك (الكتخدا بك) مامور الاقاليم الصعيدية، محمود بك ناظر الجهادية، السيد البكري نقيب الاشراف، السيد السادات، الشيخ الامير مفتي المالكية، الشيخ محمد المهدي مفتي الحنفية، الشيخ علي، الحاج ابراهيم افندي ناظر مجلس المشورة، كتخدا اغا والي جدة، امير اللواء محمد بكناظر عموم المهمات الحربية ومعمل البارود والطبخانة وعموم الفابريقات، حسن اغا رئيس بوابي الركاب العالي وناظر المواشي الاميرية، خليل افندي ناظر الترسانات، عبد الباقي افندي مدير خزينة الجهادية وباشمحاسبجي، محمد افندي الداوندار سابقا، محمد امين افندي ناظر الابنية الميرية، حسين بك ناظر الارز والغلال، الحاج عبد الله اغا سر كردكان ، حسين اغا ناظر الجوقة، عمر افندي ناظر الجلود، محمد افندي ناظر المنسوجات، امين افندي ناظر البيع، حافظ افندي معاون الفابريقات، عرفي افندي معاون جرنال المحروسة، احمد مميش افندي المعاون، محمد عارف افندي المعاون، علي راغب افندي المعاون، خالد افندي المعاون،سامي افندي محرر الوقائع المصرية، كاشف افندي باشكاتب الوقائع المصرية.

أعضاء من ماموري الاقاليم:

خليل بك محافظ دمياط،سليمان اغا مامور الجعفرية، حسين بك مامور زفتى، حسين اغا مامور الفيوم، اسماعيل اغا مامور نصف البهنسا، حسن بك مامور الجيزة، رستم افندي مامور نصف المنوفية، محمد افندي مامور نصف المنوفية، رستم افندي مامور نصف البحيرة، حسن افندي مامور نصف الشرقية، ابراهيم اغا مامور طنطا، ابراهيم بك مامور نبروه، محرم اغا مامور نصف البهنسا، تيمور اغا مامور نصف الشرقية،يوسف افندي مامور فوه، صالح افندي مامور ميت غمر والسنبلاوين، محمد اغا مامور القليوبية، ابراهيم اغا مامور شرق اطفيح، الحاج عبد الرازق اغا مامور محلة دمنه، محمود اغا مامور المنيا، محمد افندي مامور اسيوط، حسين اغا مامور منفلوط، الشيخ المصري بجرنال المحروسة، الشيخ عبد الله فواز بجرنال اسيوط.

مشايخ واعيان الاقاليم:

الجيزة: الشيخ حسن، الشيخ عبد الواحد.

السنبلاوين: الشيخ موسى خليفة، الشيخ حفناوي، الشيخ علي الغول، الشيخ اسماعيل ابو جاد، الشيخ خضر، الشيخ عبد الرحيم سلامي، الشيخ حسين سالم، الشيخ احمد سعدي.

ميت غمر: الشيخ رزق الله، الشيخ الحاج شريف، الشيخ محمد خليل، الشيخ عبد الله هلال، الشيخ حنفي شرف الدين، الشيخ علي غندور، الشيخ الحاج منصور، الشيخ همام حبيب، الشيخ عيسى سالم، الشيخ قاسم طه، الشيخ محمد المغربي، الشيخ سليمان حجاب، الشيخ سليمان منصور.

الفيوم: الشيخ نصر عثمان ، الشيخ محمد الشبكي.

زفتى: الشيخ محمد فتوح، الشيخ علي سالم.

اشمون جريس: الشيخ محمد عبيد.

منوف: الشيخ ابراهيم شحاتة.

ابو كبير: الشيخ ايوب عيسوي، الشيخ عبد الغالب سالم، الشيخ صالح، الشيخ منصور، الشيخ علي المكاوي، الشيخ مصطفى علي.

شيبة (شرقية):الشيخ حسن اباظة، الشيخ غيث، الشيخ بغدادي اباظة.

مليج: الشيخ محمد ابو عامر، الشيخ ابو عمارة.

ابيار: الشيخ حاجي سليما، الشيخ حاجي احمد غربية: الشيخ ابراهيم ابو دربالة،الشيخ علي ابو احمد ههيا: الشيخ احمد دريبة.

قسم اول شرقية: الشيخ ابراهيم سالم، الشيخ محمد خضر، الشيخ محم عليوه.

المنيا: الشيخ علي شريعي، الشيخ حبيب.

شرق اطفيح: الشيخ حسين ابو علي، الشيخ حماد.

بني سويف: الشيخ بكر بدر، الشيخ محمد الخولي، الشيخ عبد الرحمن ابو زيت.

سمنود: الخواجة علي.

بشبيش: الشيخ ابو يوسف، الشيخ احمد سرجاني، الشيخ حسن أبو زيت.

نبروه: الشيخ علي كرفوز، الشيخ فوده، الشيخ احمد أبو اسماعيل، الشيخ غانم محمد ، الشيخ محمد أبو علي.

المحلة الكبرى: الشيخ حبيب جاويش، الشيخ مطاوغع دهلان، الشيخ مصطفى،الشيخ عيسوي خضر، الشيخ ابو عامر.

الشباسات: الشيخ يونس، الشيخ عبد الرحمن، الشيخ شمس الدين، الشيخ اسماعيل . كفر الشيخ: الشيخ محمد أبو صادر، الشيخ عمر، الشيخ ابراهيم سليمان.

فوه: الشيخ يوسف رجب.

طنطا: الشيخ احمد المنشاوي، الشيخ احمد ربع، الشيخ علي ابو عائد.

العزيزية: الشيخ موسى، الشيخ محمد عبد الله، الشيخ ابراهيم، الشيخ ابو نصير.

المحلة: الشيخ يوسف سماح، الشيخ محمد عبد الله، الشيخ الخولي عبيد.

دمنهور: الشيخ دسوق خير الله.

الرحمانية: الشيخ محمد.

النجيلة: الشيخ مصطفى.

كفر الزيات: الشيخ حسن سليمان.

القليوبية: الشيخ محمد القاضي، الشيخ خضر، الشيخ محمد الشواربي، الشيخ جمعة منصور، شيخ العرب احمد حبيب.

بعض أعمال مجلس المشورة

يتبين من الاطلاع على ما نشرته الوقائع المصرية من قرارات مجلس المشورة نوع الاعمال التي كان يتداول فيها، فغالبها كان خاصا بالادارة والتعليم والاشغال والقضاء، ومعظم قراراته كان بناء على اقتراحات الاعضاء الموظفين فيه.

ومما يلفت النظر ان اول قرار له في اولى جلساته كان خاصا بالتعليم، اذ قرر اعداد مكتب لتعليم كتبة الديوان اللغتني العربية والتركية، واحوال الفلاحة وتعيين محمد افندي دويدار ناظرا لهذا المكتب، والشيخ مصطفى مدرسا للغة العربية، وقرر انه كلما يتم تعليم عدد من كتبة الديوان يرسلون الى الاقاليم ويجئ خلافهم لتعليمهم ثم ارسالهم "ويستمر العمل حتى يصير القائمون بالعمل فيهم الكفاءة لادارة مصالح الحكومة".

فالقرار كما ترى مفيد وحكيم، اذ هو يرمي الى ترقية المستوى التعليمي لكتبة الدواوين وارسال من يتم تعليمهم الى الاقاليم حتى يشغلوا الوظائف عن جدارة واستحقاق، وذلك هو عين الصواب.

وقرر في جلس 2 ربيع الاول ارتداء جميع الموظفين كساوي الجهادية، وقرر في جلسة 3 ربيع الاول بناء على طلب الدفتردار (مدير الشئون المالية) جعل اعمال السخرة بالمناوبة بحيث يتناول اهل كل بلد العمل اسبوعا بعد اسبوع، الا اذا كان كثيرا فيستخدمون باجمعهم حتى يتم، ولا يعفى من العمل الا عمال الفابريقات.

وقرر في هذه الجلسة ذاتها بناء على طلب مامور السنبلاوين ان يكون عمل الفلاحين في التطهيرات وبناء القناطر واصلاح الجسور في اشهر توت وبابه وكيهك وطوبه وامشير وبرمهات وبؤونه، وبنى اقتراحه على ان الفلاحين في باقي اشهر السنة يكونون مشغولين بالزراعة والحصاد وجني القطن، فوافق المجلس على الاقتراح ، وكلف مامور الديوان الخديوي بان يامر بذلك نظار الاقسام وماموري الاقاليم.

ومن قراراته انه قرر اخذ 100 غلام من كل ثمن من اثمان القاهرة وبولاق ومصر القديمة وجملتهم 1000 غلام لتشغيلهم بالاجرة في فابريقات الحكومة، وكذلك قرر اخذ الصالحين للعمل من المتسولين (الشحاذين) للالتحاق بهذه الفابريقات وان ترتب لهم ارزاق يومية، وبعد تعلمهم الصناعة ترتب لهم اجور يومية، ولهذا القرار قيمته في تعليم الصناعة ومحاربة البطالة.

وبحث في عقاب الموظفين ومشايخ البلاد (العمد) الذين تمتد يدهم الى الرشوة (البرطيل) او سلب اموال الاهالي، فقرر الزامهم برد ما اخذوه ومجازاتهم بالعقوبات الشديدة.

ويقول المسيو لينان باشا في كتابه (مذكرات عن اهم اعمال المنفعة العامة بمصر ص 334) انه عرض مشروعه في بناء القناطر الخيرية على مجلس المشورة، فطلب منه المجلس بيان ما يقتضيه المشروع من نفقات، فابدى له رقما تقديريا، ويطالعنا المسيو لينان بحقيقة هذا المجلس فقد قال عنه أنه "مؤلف من مشايخ الاقاليم الذين كان المراد ان يحلوا محل الترك في الحكم، ولكنه لم يدم طويلا"، فيتبين من ذلك ان هذا المجلس الذي كان يمكن ان يكون نواة لنظام نيابي لم يكن طويل العمل ، ولذلك لم يظهر له اثر في معظم عهد محمد علي.

القانون الأساسي سنة 1837

وفي سنة 1837 وضع محمد علي باشا قانونا اساسيا يعرف بقانون (السياستنامة) احاط فيه بنظام الحكومة واختصاص كل مصلحة من مصالحها العامة، وقد حصر السلطة في سبعة دواوين وهي:

أولا: الديوان الخديوي، وينظر في شؤون الحكومة الداخلية العامة وله سلطة قضائية اذ كان يفصل في بعض الدعاوى الجنائية، فقد ورد في لائحة تأسيسية انه يختص بالضبط والربط في مدينة القاهرة والفصل في الخصومات والشكايات التي ترفع اليه، اما الدعاوى الشرعية فكان يحيلها الى المحاكم الشرعية، وكان يختص بالحكم في جرائم القتل والسرقات الى ان انشئت سنة 1842 (جمعية الحقانية) التي سيرد الكلام عنها، وكان له الاشراف والرئاسة على عدة مصالح، منها مصلحة الابنية (المباني) وفروعها، والمخبز الملكي، والكيلار العامر (ادارة المخصصات العذائية للباشا) ، والسلخانة، والقوافل، وديوان المواشي، وترسانة بولاق، والمستشفيات الملكية، والروزنامة (ادارة اموال الميري) وبيت المال، والاوقاف المصرية، والتمرخانة، وجبال المرمر، ومحاجر طره، واثر النبي، ومهماتترعة المحمودية، وخزينة الامتعة، والبوستة، وامور الاحكام بالاسكندرية.

ثانيا: ديوان الايرادات، وهو قسمان، احدهما يختص بحسابات كافة المديريات وجزيرة كريد، والحجاز والسودان، والثاني يختص بايراد مدينتي مصر والاسكندرية، والكمارك والمقاطعات والزمامات، وكان لهذين القسمين مفتشون يعرفون بمفتشي الاقاليم للتنقيب على المصالح.

ثالثا: ديوان الجهادية، واليه يرجع النظر في نظام الجنود البرية وضبط وربط حراكاتها وتعليماتها، ومهمات الفيالق والثكنات ومواضع الخيام والقلاع، والمستشفيات العسكرية، والشؤون الصحية للجنود وورش ومخازن المهمات الحربية، ومعامل البارود وتعلقاتها واشوان المؤن العسكرية والمخابز، وعلى العموم كافة المصالح العسكرية.

رابعا: ديوان البحر، واليه يرجع النظر في ادارة وتنظيم الدونانمة (الاسطول) وضبط وربط حركاتها، والترسانة والمخازن والخزينة البحرية، وتجهيز المهمات والمؤونة وسائر حاجات الدوتانمة والمستشفيات البحرية.

خامسا: ديوان المدارس واليه يرجع النظر في امور المدارس الابتدائية والتجهيزية والخصوصية (العالية) والكتبخانة ومخازن الالات والادوات، والقناطر الخيرية، ومطبعة بولاق وادارة الوقائع المصرية ومصلحة الامور الهندسية وادارة زرائب المارينوس والاصطبلات الكبرى فيشبرا.

سادسا: ديوان الامور الافرنكية والتجارة المصرية واليه يرجع النظر في العلاقات الخارجية ومعاملة الاجانب وبيع متجر الحكومة ومشترياتها.

سابعا: ديوان الفابريقات واليه يرجع النظر في ادارة فابريقة الطرابيش في فوه وكافة الفابريقات التي كانت توجد في مدينة مصر ومدن الاقاليم.

وكان مفروضا على رئيس كل من هذه الدواوين ان يقدم للباشا تقريرا في كل اسبوع عن احوال ديوانه ، وكشفا شهريا بحساباته الى تفتيش الحسابات، وميزانية سنوية عن الايراد والمصرف.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

المجلس الخصوصي والمجلس العمومي

وفي يناير سنة 1847 الف محمد علي ثلاثة مجالس جديدة عدا الهيئات المتقدمة اهمها (المجلس الخصوصي) واختصاصاته النظر في شؤون الحكومة الكبرى وسن اللوائح والقوانين واصدار التعليمات لجميع مصالح الحكومة، وكان يراسه ابراهيم باشا، واعضاؤه كتخدا باشا (عباس باشا حفيد محمد علي) واحمد باشا يكن وحسن بك رئيس جمعية الحقانية، وبرهان بك.

والمجلس العمومي او الجمعية العمومية بديوان المالية وهي هيئة مؤلفة من مدير المالية ووكيل الديوان الخديوي ومدير المدارس (أدهم بك) ومدير الحسابات (باسليوس بك) ومفتش الفابريقات (لطيف بك) ومفتش الشفالك (حافظ بك) ورؤساء اقلام دواوين الحكومة، وينعقد هذا المجلس مرتين في الاسبوع على الاقل وينظر في شؤون الحكومة العمومية التي تحال عليه، ويرسل قراره الى المجلس الخصوصي فاذا وافق عليه احاله على الباشا ليامر بتنفيذه اذا اقره.

مجلس عمومي آخر بالاسكندرية يختص بالنظر في شؤونها يراسه ناظر ديوان الاسكندرية، واعضاؤه ناظر ديوان البحرية وناظر ديوان التجارة ومامور الضبطية وامين الجمرك وناظر الترسانة ووكيل الدونانمة.

التقسيم الاداري

كانت مصر مقسمة الى 16 اقليما طبقا للتقسيم الذي كان معمولا به في عهد الحكم التركي، فادخل محمدعلي تعديلا في هذا التقسيم بان جعل من مصر سبع مديريات جعل عليها حكاما سماهم المديرين، وهي التسمية الباقية الى اليوم.

وجعل في الوجه البحري اربع مديريات، فالمديرية الاولى تشمل البحيرة والقليوبية والجيزة، ثم صارت البحيرة مديرية قائمة بذاتها وكذلك الجيزة.

والمديرية الثانية تشمل المنوفية والغربية، ثم انفصلت كل منهما وصارت مديرية قائمة بذاتها، والمديرية الثالثة تشمل المنصورة (الدقهلية)، والمديرية الرابعة تشمل الشرقية.

وواحدة تتالف منها مصر الوسطى من جنوبي المنيا الى جنوبي الجيزة، ثم سميت مديرية الاقاليم الوسطى، وشملت بني سويف والفيوم والمنيا.

واثتنان تتالف منها مصر العليا، الاولى من شمالي قنا الى جنوبي المنيا، والثانية من وادي حلفا الى قنا، ثم سميت اسيوط وجرجا مديرية (نصف أول وجه قبلي)، وسميت قنا واسنا مديرية (نصف ثاني وجه قبلي).

اما القاهرة والاسكندرية ورشيد ودمياط والسويس فكل منها محافظة.

وقسمت كل مديرية الى مراكز، والمراكز الى اقسام (أخطاط)، أما المراكز فقد سمي رؤساؤها المأمورين، وهي التسمية الباقية الى اليوم، ورؤساء الاقسام بالنظار، وهذه التسمية لم يعد لها وجود الان، والقسم يشمل في دائرته جملة نواح (قرى) لكل ناحية رئيس يدعى شيخ البلد الموجود منذ القدم (والمعروف الان بالعمدة)، وبقى بجانبه الخولي ووظيفته مسح الاطيان، والصراف لجمع اموال الميري، والشاهد وهو المعروف بالماذون.

فمحمد علي هو اول من سمى اقسام مصر الادارية مديريات واول من سمى رؤساؤها المديرين، وسمى رئيس المركز مامورا، ورئيس القسم ناظرا، فهذه الاسماء من مبتكراته.

الشرطة

وكان يتولى ادارة الامن وحفظ النظام في القاهرة موظفان كبيران، يسمى احدهما الوالي، وكان موجودا قبل عصر محمد علي، والاخر الضابط (ويسمى ضابط مصر) وهو بمثابة حكمدار البوليس الان، ثم ال الامر الى الاقتصار على الثاني، وتحت امراته ضباط موزعون في انحاء المدينة تميزهم من غيرهم علامة خاصة وعليهم ضبط الامن، والمحافظة على سلامة الافراد، ويقومون اثناء الليل بالنوبة، فاذا مضت عليهم ساعة من غروب الشمس القوا القبض في الطريق على كل شخص لا يحمل بيده مصباحا، وبهذا تقفر الشوارع وتكاد تخلو من السابلة اثناء الليل، ويتولى رقابة الاسواق موظف يعرف بالمحتسب.

النظام القضائي

لم يتغير النظام القضائي كثيرا عما كان عليه في عهد المماليك.

ولم يدخل محمد علي في هذا النظام تعديلا او اصلاحا، غير انه جعل للديوان الخديوي اختصاصا قضائيا كما مر بك بيانه، وانشا سنة ا1842 هيئة قضائية جديدة تمسى جمعية الحقانية جعل من اختصاصها محاكما كبار الموظفين على ما يتهمون به في عملهم، وتحكم ايضا في الجرائم التي تحيلها عليها الدواوين، وكانت بمثابة محكمة جنايات وجنح، وهي مؤلفة من رئيس وستة اعضاء منهم اثنان من امراء الجهادية واثنان من البحرية واثنان من ضباط البوليس.

وانشا محكمة تجارية تسمى مجلس التجارة للفصل في المنازعات التجارية بين الاهلين، او بينهم وبين الافرنج، وتتالف هذه المحكمة من رئيس ونائب رئيس وباشكاتب، وكاتب ، وثمانية اعضاء من التجار، خمسة منهم من الوطنيين وثلاثة من الاجانب، وكان بكل من الاسكندرية والقاهرة محكمة من هذا النوع.

وكان المديرون يجمعون بين السلطتين القضائية والادارية ولهم اختصاص جنائي واسع المدى يصل الى الحكم بالاعدام، ومن هنا جاء اسرافهم في الظلم والارهاق.

النظام المالي والاقتصادي

الملكية

تكلمنا في الجزء الاول من تاريخ الحركة القومية (ص 28 وما بعدها) عن نظام ملكية الاراضي في عهد المماليك. وخلاصة ما ذكرنا ان السلطان سليم اعتبر نفسه مالكا لاراضي مصر، وبذلك كان صاحب الارض لا يملك رقبتها بل حتى الانتفاع بها، وان المماليك بسطوا ايديهم على الكثير من اراضي مصر فصارت ملكا لهم، وباقي الاراضي موزع بين الفلاحين والملتزمين والاوقاف، وان الفلاحين كانوا يملكون النزر اليسير من الاراضي ينتفعون بها ويتوارثونها، لكن ملكيتهم لها معلقة على دفع الضرائب والاتاوات، وهذه الضرائب والاتاوات تدفع للمتلزمين، والمتلزمون هم الملاك الذين ياخذون القرى "التزاما" اي يتصرفون فيها تصرف المالك في ملكه على ان يلتزموا للحكومة بدفع نصيبها من الضرائب.

الغاء نظام الالتزام

تغير هذا النظام في عهد محمد علي باشا تغيرا عظيما، فانه بعد ان غلب المماليك وخاصة بعد ان قضى عليهم في مذبحة القلعة عمد الى املاكهم التي كانت تحت ايديهم واستخلصها لنفسه، ثم الغى نظام الالتزام ونزع الاراضي التي كانت تحت ايدي المتلزمين والتي كان الفلاحون يزرعونها ويدفعون ضربيتها هم، واعتبرها ملكا للحكومة، ووزع منفعتها على الفلاحين كاطيان مؤجرة، وخول كل قادر على العمل زراعة ثلاثة افدنة او اربعة او خمسة، وبذلك الت له حقوق المتلزمين وسلطتهم، وصارت علاقة الفلاحين بالحكومة مباشرة بعد ان كانت علاقتهم بالملتزمين.

وقد توصل محمد علي الى الغاء نظام الالتزام بان طلب من الملتزمين ان يطلعوه على سندات ملكيتهم، فلما قدموها له قرر بطلانها جميعا، واعتبر الحكومة او بعبارة اوضح اعتبر ذاته مالكا لجميع اراضي مصر.

احدث الغاء نظام الالتزام استياء شديد بين الملتزمين، وكانوا يؤلفون طبقة كبيرة من الملاك والاعيان والمشايخ في مختلف البلدان يتعيشون منه، فاراد محمد علي ان يعوضهم شيئا مما فقدوه من مزايا التزامهم، فابقى تحت ايديهم (الاطيان الوسية) اي التي اقطعها اياهم ولاة الامور من قبل للقيام باعباء الالتزام، فخولهم حق الانتفاع بها مدى الحياة مع اعفائهم من دفع ضريبتها، وقرر لهم عدا ذلك معاشات سنوية تدفع لهم من ادارة الروزنامة تعادل ما كانوا يربحونه من الاطيان الداخلة في التزامهم، وكان حقهم في هذا الربح مستمدا من اساس الالتزام نفسه. فاساسه ان يعجل الملتزم للحكومة ضريبة سنة يدفعها مقدما على ان يجبيها بعد ذلك من الفلاحين، فجعل محمد علي هذه الرواتب السنوية في مقابل ما كان يصل الى ايديهم من ارباح الالتزام وسميت الفائض وقيدت في الروزنامة لاسم كل ملتزم، تدفع له ما دام حيا، على انه مما يجدر ملاحظته ان هذا الفائض اقل بكثير مما كانوا ينالونه من مزايا الالتزام، لان محمد علي لجا الى طريقة تدل على ذكائه ودهائه في حساب هذا الفائض، ذلك انه قبل ان يعلن عن نيته في الغاء الالتزام طلب من الملتزمين ان يقدموا له كشوفا بارباحهم من التزاماتهم، وهي التي تسمى بالفائض او فائض الالتزام، فظنوا ان الغرض من هذا الطلب عزم الحكومة على زيادة الضريبة التي يلتزمون بدفعها للحكومة، فانقصوا قيمة هذه الارباح جهد ما استطاعوا، فاعتمد محمد علي باشا هذا الحساب وحدد لهم رواتب مساوية لها، واسترد في مقابل ذلك الاملاك التي كانت تحت يدهم التزاما.

وضع محمد علي اذن يده على اطيان الملتزمين، اما الاراضي الموقوفة على المساجد ومعاهد البر والخيرات فقد تركها بداءة ذي بدء حتى لا يثير عليه هياج المستحقين والنظار، لكنه ما لبث ان الغاها وضمها الى املاك الحكومة، اخذا على عهدته الانفاق على المساجد، ورتب للشيوخ الذين كانوا يتولون ادارة الاطيان الموقوفة معاشات سنوية ضئية، ولم يبق من الاوقاف على الخيرات سوى النزر اليسير وبذلك توصل محمد علي الى وضع يده على اطيان الملتزمين ثم على الاطيان الموقوفة.

ومما يجب الالماع اليه انه لم يكن في مصر ملاك بالمعنى الصحيح حينما الغى محمد علي نظام الالتزام، ولم يكن سوى المتلزمين. ولذلك يسميهم كثير من المؤلفين الافرنج (ملاكا)، فالغاء الالتزام كان بمثابة الغاء الملكية المعروفة في ذلك العصر، وهي ملكية الانتفاع، ولو ان محمد علي بعد الغاء الالتزام ملك الفلاحين الاراضي لكان ذلك انشاء لنظام الملكية، ولكنه اعتبر الحكومة مالكة لجميع الاراضي، ولم يرتب الفلاحين حقوق الملكية عليها، بل كانت الحكومة تعد الفلاحين اجراء عندها او منتفين باطيانها، فتساجرهم للعمل في الارض بالمياومة وتعين للواحد منهم قرشا واحدا في اليوم، اما نقدا واما اصنافا، ويبقى لهم حق الانتفاع بالارض ماداموا يدفعون ضريبتها، فاذا تاخروا عن اداء الضريبة نزعت الارض من تحت يدهم واعطيت لفلاحين اخرين ينتفعون بها، وكان للحكومة ان تنزع الارض من تحت يد من تشاء اذا اقتضت المصلحة العامة ذلك دون ان تدفع له تعويضا، وكانت تعطي الفلاحين ما يلزم الزراعة من الات الري والحرث والمواشي، ومامور المركز هو الذي يحدد لكل فلاح مساحة الارض التي تعطي حاصلاته بالثمن الذي تحدده طبقا لنظام الاحتكار، ولا تترك الا الحبوب ثم شمل الاحتكار الحبوب ايضا.

وكان الانتفاع قاصرا على المنتفع مدى الحياة، فلا يتوارثه اعقابه، على ان العمل جرى على انه بعد وفاة المنتفع يتولى مشايخ البلاد ثم المديرون اعطاء حق الانتفاع لورثة المتوفى على سبيل المنحة، كما منح من قبل الى المورث لا على انه حق موروث، ولذلك كان الفلاحون عرضة لاهواء المشايخ وتحكمهم كلما ارادوا ان يمنح لهم هذا الحق.

ومما تقدم يتبين ان حق ملكية الفلاحين للاراضي الزراعية لم يتقرر في عصر محمد علي وانما جاء تقريره بمقتضى قانون سنة 1858 في عهد سعيد باشا.

ولا نزاع في ان الغاء الالتزام مع عدم تقرير حق الملكية لا يمكن ان يعد اصلاحا، بل هو ابعد ما يكون عن الاصلاح، قال المسيو مانجان، وهو صديق لمحمد علي: ان التعديلات التي ادخلها الباشا في نظام الملكية، لم تكن متفقة مع الصالح العام، فلا هو احترم الملكية الفردية، ولا هو اعترف بها، كما ان الذين عجزوا عن دفع الاتاوات والضرائب المختلفة التي فرضت على املاكهم اضطروا ان يتنازلوا عنها، وقال انه لما امر محمد علي بمسح الاراضي في القطر المصري زاد عدد الافدنة بسبب تغيير مقياس المساحة وانقاص طول القصبة، وزاد بالتالي ما يطلب على الارض من الضرائب، وبالغاء الالتزام حرم المتلزمون من الاملاك التي كانوا يستثمرونها، فالغاء الالتزام مع عدم انشاء الملكية معناه الغاء الملكية وامتلاك الحكومة لجميع الاراضي الزراعية، ولئن كان محمد علي قد امر بترتيب ايراد سنوي للملتزمين الذين نزعت الارض من تحت ايديهم الا ان هذه الرواتب لا تتوارث فكانت تسقط بوفاة المتلزم، ويقول المسيو مانجان ايضا ان هذا النظام القاسي قد نشر الاحزان في العائلات، وقد اسهب الجبرتي في وصف تذمر الناس من هذا النظام في حوادث ربيع الاول سنة 1329 هـ (سنة 1814م).

ولقد دافع بعض الكتاب الافرنج عن هذا النظام، ولكنه دفاع ضعيف لا يرتكز على اساس صحيح، ولم يجدوا ما يبررونه به سوى قولهم ان هذالطريقة مكنت الحكومة من ان تنظم زراعة الاراضي على الاساليب الجديدة، وتدخل الزراعات التي لم تكن معروفة عند الفلاحين من قبل، وان هذه الطريقة هي التي نهضت بحاصلات مصر الزراعية في عصر محمد علي. وغني عن البيان ان هذا الدفاع لا يثبت امام البحث والتمحيص، فان تحسين الزراعة وادخال الزراعات الجديدة لا يستلزم جعل جميع الاراضي الزراعية ملكا للحكومة، ولا يتعارض مع تخويل الفلاحين حق الملكية، ولقد خول لهم هذا الحق في عهد سعيد باشا فلم تقف معه حركة النهوض الزراعي، بل كانت الملكية الفردية – ولم تزل – من دواعي نشاط الفلاحين وجهدهم في العمل، وهذا الجهد والنشاط هما قوام العمران.


على ان الذين دافعوا عن هذا النظام مثل الدكتور كلوت بك اعترفوا بانه نظام مؤقت، وانه يمهد السبيل لتقرير حق الملكية الزراعية، ومعنى ذلك ان حق الملكية هو النظام الطبيعي الذي لا ندحة عن تقريرا في كل بلد من البلاد المتحضرة.

احدث الغاء الالتزام كما قلنا تذمرا بين الملتزمين، على ان ملتزمي الوجه البحري والجيزة قد اذعنوا لامر الحكومة ورضوا بما رتبته لهم من الفائض السنوي مهما كان ضئيلا، اما ملتزموا الوجه القبلي، ومعظمهم من سلالة المماليك ورؤساء العشائر ذوي النفوذ والعصبية فانهم لم يذعنوا، واضطر محمد علي ان يجرد عليهم قوة حربية لاخضاعهم فغلبتهم وحرمتهم ميزة الفائض واضطر بعضهم الى الهجرة، ونزع محمد علي املاكهم، واضافها الى مجموع الاراضي الزراعية التي اعتبرها ملكا له.

ولما كانت اراضي الوسية حقا للمتلزمين مدى الحياة فقط فقد شرع كثير من المتلزمين في وقفها حتى لا يحرم ورثتهم من ريعها، وزادت الوقفيات زيادة كبيرة حتى اضطرت الحكومة في عهد سعيد باشا سنة 1855 الى تخويل اصحاب الاواسي حتى توريثها لاعقابهم الى ان تنقرض ذريتهم فتعود ملكيتها الى الحكومة.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الابعاديات والشفالك

ويظهر ان محمد علي بعد احتكاره ملكية اطيان القطر المصري راى ان يخفف غلواء هذا الاحتكار ويقرر نوعا من الملكية الفردية، بان اقطع كثيرا من اعيان الدولة ورجال الجهادية والموظفين وبعض كبار الاعيان مساحات شاسعة من الاراضي البور قدرها كلوت بك ب200 الف فدان ليستحثهم على اصلاحها واحياء مواتها ، وبذلك يزداد العمران في البلاد وتتسع الاراضي الزراعية، وهذه الاراضي مما لم يمسح في دفتار التاريخ، وقد اعفاها من الضرائب وسميت أباعد أو أبعاديات لانها كانت مستبعدة عن مساحة فك الزمام التي عملت سنة 1813، ولاجل ان يستحث اصحاب تلك الابعاديات على العمل فيها واصلاحها اصدر امرا في سنة 1838 بمنعهم من ان يؤجروها ويامرهم ويؤكد عليها ان يشتغلوا بانفسهم في اصلاحها.

وخص افراد اسرته وكبار حاشيته باراض اخرى اوسع من الابعاديات سميت جفالك أو شفالك واعفاها ايضا من الضرائب، وكانت تعطى بهذه الاطيان تقاسيط من مصلحة الروزنامة او حجج تحرر بالمحاكم الشرعية، وكانت كذلك في المبدا خارجة عن الاراضي الممسوحة التي تجنى منها الضرائب.

وحقوق أصحاب هذه الاطيان من الابعاديات والشفالك كانت مقصورة على حق الانتفاع الى ان لاحظ محمد علي ان عدم تخويلهم حق الملكية قد صرف اصحابها عن العمل لاصلاحها فخولهم حق الملكية والتصرف الشرعي فيها في اواخر حكمه سنة 1842.

مساحة الاراضي الزراعية

وراى محمد علي باشا من وسائل العمران مساحة الاراضي الزراعية في جميع المديريات توصلا الى حصرها وفرض ضرائب ثابتة سنوية عليها، وذلك هو التاريخ المشهور الذي بدا بعمله في سنة 1813 وعهد به الى ابنه ابراهيم باشا ومعه المعلم غالي بصفته رئيس المساحين، وتعد دفتار التاريخ التي أمر محمد علي بوضعها من اهم اعماله العمرانية، وفيها مساحة اطيان القطر المصري المزروعة وحدود كل اطيان البلاد واحواضها ومساحة سكن كل بلد ومساحة الاراضي المستعملة للمنافع العمومية كالترع والجسور والطرق والمدافن.

وعرف كل فلاح ما عليه من الضريبة، ومنح مشايخ البلاد عن كل مائة فدان من زمان البلد خمسة افندة لا يدفعون عنها ضريبة مقابل خدماتهم الحكومية وايواء من يحضر اليهم من الموظفين، وقد سميت هذه الاطيان مسموح المشايخ ام مسموح المصطبة.

على ان معظم هؤلاء المشايخ ساءت تصرفاتهم واستبدوا بتسخير الفلاحين في خدمة اراضيهم وكثرت شكاوى الناس منهم، فامر سعيد باشا سنة 1858 بابطال مسموح المشايخ وضم تلك الاراضي الى زارعيها من الفلاحين باعلى ضريبة في كل بلد.

وكانت مساحة الاراضي المزروعة سنة 1821 مليوني فدان وبلغت سنة 1840 3.856.000 فدان اي انها بلغت الضغف تقريبا في مدة عشرين عاما.

الضرائب

لم يكن للضرائب قاعدة او نظام قبل ان يمسح محمد علي اراضي مصر سنة 1813، بل كانت الاقعدة انه كلما احتاجت الحكومة الى المال فرضت اتاوة جديدة او زادت الاتاوات القديمة.

وقد كان محمد علي يستشير العلماء فيما يفرضه من الضرائب، وذلك في السنوات الأولى من حكمه، الى ان تخلص من نفوذ السيد عمر مكرم فاطلق يده في فرض ما يشاء من الضرائب والاتاوات كلما احتاج الى المال، وعظمت حاجته الى المال لمناسبة الحملة على الوهابيين، فإنها اقتضت نفقات طائلة، ولما اخفقت الحملة الاولى جهز حملات اخرى واحتاج الى اموال جديدة، ففرض ضريبة على الارضي الزرق التي كانت معفاة من المال من قبل، فشكا المشايخ والاهلون من ان مثل هذه الضريبة تؤدي الى ضياع غلة الاطيان الموقوفة على المساجد والمعاهد الدينية والاسبلة والمنشات الخيرية، ولكن هذه الشكوى لم تلق قبولا.

ولما تمت عملية مساحة اطيان القطر المصري قررت الحكومة فرض ضريبة ثابتة على الاطيان، وفرزت الراضي الزراعية الى درجات بحسب قيمتها ونوعها وجعلت لكل درجة ضريبة محدودة، فقدرت الضريبة على كل فدان باربعة قروش ونصف على الاقل في عموم القطر، وبخمسة واربعين قرشا او تسعة واربعين قرشا على الاكثر، ثم عدلت الضرائب غير مرة على مر السنين بوضع تقسيمات جديدة للاراضي ومراتبها، وكان الغرض من هذه التعديلات زيادة سعر الضرئيبة وبالتالي زيادة ما يجنى منها، وحجة محمد علي في هذه الزيادات ان الاصلاحات التي قام بها والحروب التي باشرها استنفدت ايرادات الحكومة، فكان لا مندوحة له عن زيادة الضرائب، كما انه استحدث ضرائب جديدة لسد العجز في ميزانية الحكومة.

وكان من نتائج زيادة الضرائب وافتقار الاراضي الى الايدي العاملة بسبب تجنيد الالاف من الفلاحين في الجيش ان تاخرت قرى كثيرة عن اداء نصيبها في الضريبة، وهجر كثير من الفلاحين بلادهم لفداحة الضرائب، ففكر محمد علي في ابتكار الوسائل لاداء المنكسر عن الخراج، فقرر قوتا ما (سنة 1839) تضمين القرى خراج القرى المجاورة وتضمين الاهالي الموسرين خراج المعسرين، على ان هذه الوسيلة كان لها نتائج سيئة، لانها فضلا عما فيها من الظلم والحيف فانها تؤدي الى اقفار القرى الموسرة واجبارها على دفع الضرائب اضعافا مضاعفة.

ففكر في طريقة اخرى وهي نظام العهد (جمع عهدة)، وذلك انه عهد الى بعض الاعيان والمامورين ورجال الجهادية ان يكون في عهدتهم جباية ضرائب بلاد باكملها، على ان يكونوا مسئولين عن الدفع من مالهم الخاص اذا لم يجبوها، ولا ريب ان هذا النظام قريب الشبه بنظام الالتزام الذي الغاه محمد علي، على انه يختلف عنه في كون المتعهد لا يستطيع ان يجني من اصحاب الالارضي الا الضريبة المحددة، اما الملتزم فكان يجني منهم ما تشاه اهواؤه واطماعه.

على ان مركز الفلاح ازاء المتعهد لم يكن مما يغبط عليه، لان المتعهد بما التزم به من اداء الضريبة كان يسخر الفلاح لاطماعه لانه يعتبر نفسه كالدائن الذي يسدد عنه دينه، وكانت الحكومة ملزمة اذا هجر الفلاحون بلادهم ان تعيدهم اليها حتى يستوفي المتعهد منهم ما دفعه عنهم، وف يهذا من مطاردة الناس وارهاقهم مالا يغيب عن البال.

وقد احدث نظام العهد مساوئ كثيرة، فالغته الحكومة سنة 1850 اذ اصدرت امرا باسترجاع البلاد من المتعهدين، على انها انعمت على بعضهم بما كان في ايديهم من العهد وجعلتها لهم رزقة بلا مال يملكون رقبتها ومنفعتها ملكا مطلقا، وسمحت لآخرين من المتعهدين بأن يتمتعوا مدى حياتهم بمنفعة العهد التي كانت في ايديهم.


فرضة الرءوس أو الضريبة على الدخل

هي ضريبة تجنى من الافراد على اعتبار انها جزء من اثنى عشر جزءا من المال المفروض انه يعدل الدخل، وهذه الضريبة مفروضة على الذكور المراهقين كافة متى بلغوا الثانية عشرة من عمرهم، وتختلف تبعا لتفاوت الناس في الثروة من 15 قرشا الى 500 قرش في السنة، وتجبى هذه الضريبة في المدن عن النفوس، وفي القرى عن المنازل، ويبلغ ما يحصل منها عادة سدس ايراد الحكومة.


ضرائب أخرى

وهناك ضرائب أخرى تجنى على الماشية، فالبقر والجاموس يدفع عنها عشرون قرشا للراس الواحد في السنة، وسبعون اذا كانت تباع للجزارين وتخصص للذبح على ان تبقى جلودها ملكا للحكومة، والجمال والنعاج يدفع عن الراس الواحد منها اربعة قروش، وقوارب النقل يدفع عن كل قارب مها 200 قرش، والنخيل يدفع عنه ضريبة تختلف بحسب اصناف محصوله ومتوسطها قرش ونصف عن كل نخلة، وقوارب الصيد يدفع عنها ضريبة.

نظام الاحتكار

احتكار الحاصلات الزراعية

ان الكلام عن نظام الملكية والضرائب يستتبع الكلام عن الاحتكار للارتباط بينهما، ذلك انه كان مالوفا من عهد المماليك ان تجنى الضرائب نوعا من حاصلات الارض، ولم يكن الفلاحون الذين خولهم محمد علي حق الانتفاع بالاراضي من اليسار بحيث يستطيعون اداء الضريبة نقدا في موعدها، كما ان الحكومة من جهة اخرى كانت تعطي الفلاحين ادوات الزراعة والمواشي والبذور التي يحتاجون اليها قرضا، فكانت قيمتها دينا عليهم يجب ان يؤدوه مع الضرائب، وهم كما قدمنا عاجزون عن ادائها نقدا لما كانوا عليه من الفقر والفاقة، لذلك اذن محمد علي باشا للفلاحين ان يؤدوا الضريبة صنفا من حاصلات أراضيهم، وانشأ في المديريات شونا (جمع شونة) لتحفظ فيها الحاصلات التي تجنى من الفلاحين، ومن هنا صارت الحكومة تتوىل بيعها للاهالي ولتجار الجملة من الاجانب الذين يصدرونها للخارج، وتتولى هي ايضا تصديرها لحسابها وبيعها في ثغور فرنسا وايطاليا والنمسا وانجلترا، فربحت من هذا العمل ارباحا طائلة، فكانت هذه الارباح مغرية لها باحتكار حاصلات القطر المصري والاتجار بها.

وذلك ان محمد علي قرر ان تحتكر الحكومة جمع الحاصلات الزراعية بحيث يهظر على الفلاحين أن يبيعوها الى التجار، وفرض عليهم ان يبيعوها للحكومة باثمان تقررها هي، فصارت الحكومة محتكرة لتجارة حاصلات القطر المصري باكملها، وهكذا تسلسل نظام الاحتكار، فبعد ان تملكت الحكومة معظم الاراضي الزراعية واحتكرتها بالغاء نظام الالتزام واسترداد املاك المتلزمين والغاء معظم الاوقاف، احتكرت كذلك الحاصلات الزراعية، أي ان الحكومة صارت المالكة للاراضي الزراعية ثم المحتكرة لحاصلات جميعا، فلم يكن للفلاح ملكية لا على الارض ولا على ما تنتجه!

قررت الحكومة اذن شراء الحاصلات من الفلاحين باثمان تحددها هي، وكانت تخصم من الثمن ما عليهم من الضريبة وتدفع لهم الباقي نقدا وصارت هي التي تتولى التصرف في الحاصلات وبيعها والاتجار بها وتصديرها وشمل الاحتكار حاصلات القطر المصري باجمعها كالقطن والارز والغلال والقمح والنيلة والسكر والافيون الخ.

وصار الفلاحون اذا احتاجوا للغلال للقوت يضطرون الى شرائها من الحكومة ثانية، وكثيرا ما يحدث ان ترفع الحكومة سعر البيع لتربخ من ثمن البيع، فتشتد الضائقة بالناس وترتفع اسعار الغلال في الوقت الذي تفيش بها مخازنها.

ولا جرم ان هذه الوسيلة وان كانت تعود على الحكومة بالمكاسب (زمنا ما) الا انها من الوجهتين الاقتصادية والاجتماعية تشل حركة التقدم الاقتصادي، لان اجبار الفلاحين على بيع حاصلات اراضيهم للحكومة وتحديدها على سعر البيع، عمل ينطوي على الظلم والارهاق، وفيه مصادرة لحق الملكية وحرمان المالك من الاستمتاع بحقه، ومن الانتفاع من تزاحم التجار على الشراء، ذلك التزاحم الذي ينجم عنه مضاعفة الثمرة للبائع، كما أن العمل بمثل هذا النظام يقتل كل همة فردية ويقبض ايدي الناس عن العمل، ومن ثم يحول دون تقدم البلاد ادبيا وماديا، ويضرب على الشعب حجابا من الفقر والجمود.

وقد ذكر الجبرتي احتكار الحكومة للغلال والسكر في حوادث سنة 1227 هـ (1812) وسنة 1230 هـ (1815) وذكر في حوادث ذي القعدة سنة 1231 هـ (1816) احتكارها حاصلات الكتان والسمسم والعصفر والنيلة والقطن والقرطم والقمح والفول والشعير والارز، وذكر في حوادث جمادى الاولى سنة 1222 هـ (مارس 1817) اشتداد أزمة الاقوات بسبب الاحتكار.

ولم يفت معظم كتاب الافرنج انتقاد هذا النظام فيما كتبوه عنه، فقد قال المسيو مورييه: "ان هذا الاحتكار هو الجانب السئ في تاريخ محمد علي"، وقال المسيو مريو: "لا حاجة بنا الى الاطالة في عيوب نظام الاحتكار كما وضعه محمد علي، لقد ربح الباشا منه ارباحا طائلة، لكنه افضى الى فقر الفلاحين المدقع وكاد يهوي بهم الى المجاعة لولا ما اعتادوه من القناعة وشظف العيش".

احتكار الصناعة

سرى مبدا الاحتكار من الزراعة والتجارة الى الصناعة. فبعد ان صار محمد علي المالك الوحيد لاراضي مصر، ثم التاجر الوحيد لحاصلاتها، صار الصانع الوحيد لصنائعها، والظاهر انه راى الاحتكار مما يزيد ايراد الحكومة لانه فتح بابا جديدا للربح، فعمد الى احتكار الصناعة، لكن هذه الطريقة اضرت بالحالة الاقتصادية في مصر ضررا بليغا.

قال المسيو مانجان في هذا الصدد: "كان في البلاد صناعات يتولاها الافراد، ويربحون منها ما يبيعونه من مصنوعاتهم الى اهل البلاد، وما يصدرونه منها للخارج، كنسيج اقمشة الكتان والقطن والحرير وصناعة الحصر والجلود واستقطار ماء الورد وصبغ النيلة وغير ذلك. وكانت هذه الصناعات تشغل عددا من السكان يربحون منها نحو ثلاثين الف كيس كل سنة (150000 جنيه) ولكن محمد علي احتكر هذه الصناعات واضاف ارباحها الى حسابه وبعد ان كان الصناع يستثمرون هذه الصناعات صاروا يعملون فيها لحساب الحكومة، ويقبضون رواتب معلومة، كعمال مأجورين، وقال ان من النتائج المترتبة على هذا النظام ان كثيرا من صناع النسيج فضلوا ترك صناعاتهم واشتغالهم بالزراعة وآثروها على الاشتغال عمالا لحساب الحكومة والاستهداف لسوء معاملة موظفيها، وان المصنوعات في نظام الاحتكار قد هبطت جودتها عما كانت عليه حين كانت الصناعة حرة ولا غرور فان الصانع الذي لا يعمل لحسابه لا يتقن العمل كما يتقنه لو كان ربحه عائدا اليه، وقال ان احتكار الصناعات قد اضرب الاهالي، لان الاحتكار من طبيعته ان يتلف مصادر الثروة، ويحرم الصانع نتيجة كده وتعبه".

وقد ذكر الجبرتي في حوادث سنة 1231 و1232 هـ (1816 و1817) احتكار الحكومة صناعة الغزل والنسيج وما احدثه من الضيق وارتفاع اسعار المنسوجات وكيف انه شمل "كل ما يصنع بالمكوك وما ينسج على نول او نحوه من جميع الاصناف من ابريسم وحرير وكتان الى الخيش والفل والحصير في سائر الاقليم المصري طولا وعرضا من الاسكندرية ودمياط الى اقصى بلاد الصعيد".

وذكر ايضا في حوادث ذي الحكة سنة 1235 (سبتمبر سنة 1820) احتكار الحكومة للصابون وتجارته والبلح بانواعه والعسل وصناعة الخيش والقصب والتلي الذي ينسج من اسلاك الذهب والفضة للتطريز والمقصبات والمناديل والمحارم خلافها من الملابس.

المالية

مالية الحكومة وميزانيتها السنوية

من كلامنا عن نظام الحكم نتبين في الجملة موارد الحكومة المالية من الضرائب والعوائد وارباح الاحتكار.

وقد بنيت ميزانية الحكومة في عصر محمد علي على هذا الاساس، والان نذكر مفردات الميزانية من ايراد ومصروفات عن سنة 1833 كما احصاها المسيو مانجان، ومنها يعرف نظام الحكومة المالي في تطبيقه وتنفيذه، وقد اورد المسيو مانجان مفردات الميزانية بالاكياس، ولما كان الكيس مقداره خمسمائة قرش فقد حولناها الى جنيهات لسهولة البيان.

ميزانية سنة 1833 – مفردات الايرادات

• الميري أو الضريبة العقارية: 1.125.000. • فريضة الرءوس أو ضريبة النفوس: 350.000. • العوائد على الحبوب: 180.000 • ربح الحكومة من احتكار الأصناف التالية وهي: القطن، النيلة، الافيون، السكر، النبيذ، الأرز، العسل، الشمع، الحناء، ماء الورد، بذر الكتاب، بذر السمسم، بذر الخس، بذر القرطم، الحرير، الزعفران، والنتر. 450.000. • ربح الحكومة من نسيج الأقشمة وبيعها: 60.000. • ربح الحكومة من فابريقة الاثواب الحريرية: 47.500. • دخل الحكومة من جمرك الاسكندرية وعوائد الدخولية: 30.000. • دخل الحكومة من جمرك دمياط وبولاق: 36.765. • دخل الحكومة من جمرك مصر القديمة: 8.005. • دخل الحكومة من جمرك السويس والقصير: 30.000. • دخل الحكومة من جمرك أسوان: 1.350. • رسوم الصيد في بحرية المنزلة: 13.750. • رسوم الملح والمراكب والاسماك: 17.500. • المكوس على البضائع السورية الاتية من طريق البر: 1.000. • ربح الحكومة من الجير والمصيص والاحجار: 22.000. • عوائد السوائل: 13.855. • عوائد السنامكي: 1.300. • عوائد الصيد في بحيرة قارون والمكوس بالفيوم: 2.900. • ربح الحكومة من الجلود الخام والمدابغ: 35.000. • المكوس في الوجه البحري والقبلي: 16.000. • عوائد الراقصات والموسيقيين والحواة: 2.500. • عوائد المواشي المخصصة للذبح: 10.000. • عوائد صب الفضة والمقصب: 2.250. • رسوم التركات (بيت المال) 6.000. • عوائد الوكائل والاسواق في الوجه القبلي: 2.000. • رسوم الخرج: 3.200. • ربح دار الضرب (الضربخانة): 15.000. • ربح بيع الحصر: 4.000. • ربح بيع النطرون: 3.000. • ربح بيع الصودا بالاسكندرية: 1.500. • ربح ملح النشادر: 2.000. • عشور النخيل: 20.000. • اجرة السفن المملوكة للحكومة: 12.00 • مجموعة الايرادات: 2.525.275 جنيه.

مفردات المصروفات

• ميزانة الجيش: 600.000 • مرتبات كبار الضباط ورؤساء المصالح: 199.295. • مرتبات الكتبة والموظفين: 100.000. • معاشات المتلزمين الذين الغي التزامهم: 17.500. • نفقات قافلة الحج: 11.000. • نفقات الفابريقات واجور العمال: 108.000. • نفقات انشاء القصور والفابريقات والقناطر والجسور: 90.000. • اموال مرسلة الى الاستانة: 60.000. • ميزانية موظفي البحرية ورجالها: 300.000. • مخصصات لصيانة قصور نائب الملك (محمد علي): 50.000. • مخصصات غذائية للموظفين: 25.000. • اجور الخيالة الترك غير النظاميين (الباشبوزق) 32.500. • اجور العربان: 25.000. • معاشات للارامل والنساء: 30.000. • اشياء مجلوبة من اوروبا برسم الفابريقات: 75.000. • مصاريف ترسانة بناء السفن في بولاق: 16.500. • نفقات المدرسة الحربية: 7.500. • نفقات المطبعة: 1.750. • نفقات انشاء السفن الحربية: 77.525. • مخصصات غذائية لنائب الملك: 20.000. • ثمن مهمات حربية: 70.000. • المعينات لادارة مشتريات الكشامير والاجواخ والاثواب الحريرية والجواخر الخ: 70.000. • مجموعة المصروفات: 1.999.070.

ويقول المسيو مانجان ان زيادة الايراد عن المنصرف لا يفيد بقاء متوفر نقدي في خزانة الحكومة، فان الايراد كان ينقص في اخر السنة عن تقدير الميزانية، ففي كل عام يبقى جزء من الميري غير مسدد من اصحاب الاطيان وقد تخسر الحكومة في اتجارها بالاصناف التي احتكرتها بسبب افلاس بعض التجار ممن يبتاعون منها تلك الاصناف ، وكذلك كانت تقع اختلاسات في الجمارك مما يؤدي ذلك الى نقس صافي الايردات بحيث لا يتوفر منها شئ في الخزانة في ختام العام.

مقارنة بين ميزانيات بعض السنوات

واذ قارنا ميزانيات بعض السنوات في عصر محمد علي يتبين مبلغ التقدم المطرد في مالية الحكومة.

السنة الايرادات المصروفات (بالجنيه)
1821 199.700 947.090
1833 2.525.275 1.999.070
1842 2.926.625 2.176.860

المصادر

  1. ^ الرافعي, عبد الرحمن (2009). عصر محمد علي. القاهرة، مصر: دار المعارف. {{cite book}}: Cite has empty unknown parameter: |coauthors= (help)