المدرسة الحربية بأسوان

جاء الكولونيل سيف الى مصر كما قدمنا، فلماانس منه محمد علي باشا الكفاءة لتحقيق مشروعه انفذه سنة 1820 الى اسوان لتكوين النواة الاولى من الجيش، وبدا في العمل بان قدم اليه خمسمائة من خاصة مماليكه ليدرهم على ان يكونوا ضباطا في النظام الحديث، وطلب الى بعض رجاله ان يحذوا حذوه ويقدموا من عندهم من المماليك، فاجتمع لدى الكولونيل سيف الف من هؤلاء واولئك اخذ يدربهم مدة ثلاث سنوات على فنون الحرب واسالبيها الحديثة، فصاروا نواة الجيش النظامي اذ تكونت منهم الطائفة الاولى من الضباط.[1]

قد اختار محمد علي اسوان لتخريج الطائفة الاولى من ضباط الجيش رجاة ان ينفذ مشروعه بعيدا عن الدسائس والانظار معا، ولكي يتم في رهيبة وسر دون ان يلتفت اليه الناس، فاذا نجح فالنجاح، وان خفق لا يكون لاخفاقه رد فعل يتزعزع مركز محمد علي، وكان من دلائل بعد نظره وفراسته، ومما رغبه ايضا عن القاهرة خشيته ان يكون تعليم التلاميذ على يد ضابط اوروبي مثارا لهياج الخواطر فيها، وخاصة بني الجنود غير النظاميين الذين كانوا ينفرون من كل نظام جديد، ثم ليكون التلاميذ بمنجاة من اساليب اللهو بعيدين عن اماكنه فلا يفسد عليهم الاخلاق الحربية، فاختار لهم كما قلنا مدينة اسوان وانشا بها اربع ثكنات فسيحة لاقامتهم ولتكون مدرسة لهم، وقد عنى محمد علي بامر هذه المردسة وتنظيمها وامدادها بما تحتاجه من الادوات والاساليب، فهي اول مدرسة حربية انشاها لتكوين الجيش المصري النظامي. وقد ذكر المسيو فولابلي وكلوت بك ان الكولونيل سيف لقى صعوبات كبيرة في تدريب اولئك الشبان على الاساليب الحديثة، لان قوام هذه الاساليب النظام والطاعة المطلقة للرؤساء، والمماليك اعتادوا الصخب والضوضاء والاخلال بالنظام، ولم يالفوا من الحركات العسكرية سوى الكر والفر، فكان النظام والسكون اللذان لا مندوحة عنهما اثناء المناورات والتمرينات العسكرية مما لا يروق لهم، اضف الى ذلك انهم لم يعتادوا ان يتعلموا فنون الحرب على ضباط اوروبيين (مسيحيين)، فجاشت نفوسهم بفكرة التمرد والعصيان، ودبروا المؤامرات للفتك بالكولونيل سيف على مثال مؤامرات المماليك لاغتيال بكواتهم القدماء، فبينما كان ذات يوم يمرن اولئك الشبان على ضرب النار اذا باحدهم قد رماه برصاصة كادت ترديه، لولا انها انحرفت ومرت بجانب اذنه، وسمع صفيرها، فلم يتزعزع ولم يفقد شيئا من شجاعته ورباطة جأشها، بل استمر في عمله وامر التلاميذ باطلاق النار كرة جديدة.

وحدث مرة اخرى ان نزع تلاميذه الى العصيان وتهددوه بالقتل، فطلب اليهم ان يبارزوه متعاقبين واحدا تلو الاخر حتى لا يدنسوا انفسهم بالخيانة والغيلة، فكان لهذه الشجاعة والبطولة وسعة الصدر تاثير سحري في نفوس اولئك الفتيان الذين مهما يكن ما اتصفوا به من الغدر فانهم يقدرون الشجاعة حق قدرها، فبعد ان كانوا ناقمين عليهم صاروا من خاصة اوليائه يحيطونه باعجابهم واجلالهم، فتمكن الكولونيل سيف من اتمام تعليمهم في مدى ثلاث سنوات.

واستمر على هذا النحو الى ان تكونت من تلاميذه الهيئات الاولى من الضباط. وقد كان ابراهيم باشا يصحب احيانا الكولونيل سيف في اسوان، وكان لوجوده تاثير كبير في حمل الشبان على الطاعة واتباع النظام الجديد.

يؤخذ من البيانات المتقدمة ان اول مدرسة حربية للجيش النظامي هي مدرسة اسوانن وقد ذكر العلامة على باشا مبارك ضمن كلامه عن مدينة اسوان ما يلي: "وعلى نحو ثلثي ساعة من جهتها البحرية قصر وبستان من انشاء محمد بك لاظ أوغلي سنة 1238 هـ مدة اقامته بها من العساكر الجهادية الذين جعل العزيز محمد علي عليهم سليمان باشا الفرنساوي لتعليمهم القوانين الافرنجية العسكرية، وكان يقرب ذلك البستان قشلاق لاقامة ضباط العساكر، ثم جعل مكتبا للتلامذة على طرف الميري".

فالقشلاق الذي ذكره على باشا مبارك هو المدرسة الحربية باسوان التي تكونت فيها نواة الجيش النظامي.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

المصادر

  1. ^ الرافعي, عبد الرحمن (2009). عصر محمد علي. القاهرة، مصر: دار المعارف. {{cite book}}: Cite has empty unknown parameter: |coauthors= (help)