الفن الآشوري

الفن الآشوري، هو الفن القديم في بلاد الرافدين. أخذت نتائج أعمال التنقيب التي أجرتها البعثات الأثرية منذ بدايات القرن العشرين تظهر معالم الفن الآشوري المختلفة من عمارة ونحت وتصوير، في مواقع آشور ونمرود وخورسباد.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

مواد البناء والأسلوب الفني

ثور مجنح برأس إنسان، في خراساباد.
رامي بالقوس من على ظهر حصان.

كان الفن الآشوري متعدد المظاهر، فقد شيّد ملوك آشور أبنية رفيعة المستوى زاد ت الزخرفة في تألقها، وكان الآجر الرمادي هو »الخامة» الأساس في البناء أما العناصر الجمالية المضافة إليه فتزيده بهاءً؛ ويرجح أن الأخشاب والستائر كانت تغطي الجدران من الداخل في المعابد والقصور ولكن من المؤكد أن الآشوريين تبنوا فن التصوير الجداري، الموروث عن أسلافهم من شعوب بلاد الرافدين، في تلوين جدران قصورهم في كل المواقع التي مرّ ذكرها؛ ولكن المجموعة المهمة التي عثر عليها في قصر تل برسيب على الفرات الأعلى في أقصى المملكة (تل أحمر في سورية اليوم) تعد مثالاً للفن الآشوري وتشكل مساحة مئة وثلاثين متراً من التصوير على الجدران، ويستشف من تجميع القطع أنها تمثل رحلات صيد وتربية خيول كما تعكس جمال الملابس التي كانت سائدة آنذاك (بعض تلك القطع موجود في متحف حلب وكثير منها في متحف اللوفر في باريس)..[1]

أما الواجهات الخارجية فقد لجأ الآشوريون إلى فن زخرفي آخر في تزيينها وهو الآجر المزجج، الذي تؤلف مجموع قطعه ـ إذا ما رصفت ـ زخارف هندسية وحيوانات أسطورية ذات بروز خفيف، وكانت المشاهد تلمع في الضوء بأبهى الألوان الترابية والزرقاء والمائلة إلى الخضرة كما في واجهات بعض معابد خورسباد.

نحت بارز يمثل مأدبة ملكية للملك آشوربانيبال.

واستخدم الآشوريون كذلك فناً أتى من الشمال السوري وهو النحت الحجري البارز من الهيصم alabâtre (نوع من المرمر). وقد أقيمت المنحوتات orthostates على الجدران الآجرية فوق أساساتها الحجرية حول الساحات أو داخل القاعات. وكانت الحقبة الذهبية لهذا الفن، الذي انطلقت فيه العبقرية الآشورية ، بين القرنين التاسع والسابع قبل الميلاد. وامتاز بالابتكار وبراعة التأليف مبيناً قوة المملكة ورفعة الملك وذلك في نينوى ونمرود؛ مثال ذلك النحت البارز الذي يمثل مشهد صيد الأسود وهو من الهيصم بارتفاع 92ـ95سم من عهد آشورناصربال الثاني(اليوم في المتحف البريطاني في لندن) وكان يزين قاعة العرش في قصر الملك في نمرود، ويمثل الملك لابساً سترة متواضعة وهو يرمي بالقوس السباع من على عربته. والنحت البارز الآشوري بما تحلّى به من دقة يعد معيناً للمعلومات عن المواد التي كانت تستخدم في تلك الحقبة كالخشب والجلد والقماش ولم يعد لها اليوم أثر يذكر.

نحت بارز من قصر آشور ناصربال يمثل عفريتاً مجنحاً له جسد إنسان ورأس نسر يحتفل أمام الشجرة المقدسة.

أما النحت المدوّر (التماثيل) فكان نصيبه أقل من النحت البارز، ومنه تمثال آشورناصربال الثاني في نمرود من القرن التاسع قبل الميلاد وتمثال شلمنصر الثالث. وظهر النحت كذلك في شخوص سباع مجنحة وثيران برؤوس آدمية متوّجة وكانت تلك الشخوص تحتل موقع الحراسة على البوابات التي أحكمتها أبواب خشبية مزينة بزخارف من البرونز كما في مدينة أم غربل Balawat (في العراق). مثال ذلك ثور ذكر مجنح ذو رأس آدمي ولحية مستعارة، من قصر صرغون الثاني في خورسباد (القرن الثامن قبل الميلاد) وهو اليوم في متحف اللوفر في باريس، ومن صفاته المميزة أن له خمس قوائم تظهر أربعٌ منها إذا شوهد من الناحية الجبهية والخامسة مجاورة أنسيّاً للقائمة الأمامية تظهر إذا ما شوهد من الناحية الجانبية. وإلى جانب ذلك وجد في المواقع الآشورية تماثيل حيوانات من الجص بحجوم صغيرة وأختام أسطوانية وتمائم تثير الدهشة لما فيها من دقة في تمثيل المخلوقات الخيالية والمشاهد الأسطورية.

واستخدم الآشوريون كذلك فن الترصيع والتنزيل بالمعدن والعاج في الأثاث الخشبي، أما الحلي والأسلحة فقد وجد منها من القطع القليل، وفي المنحوتات البارزة تمثيل لقطع متقنة الصنع من تلك الأنواع التي كان الآشوريون يملكونها.

لقد خضع الفنان الآشوري للفكر الشرقي في التصوير الجداري والنحت البارز والنقش على المصغرات من الأختام الأسطوانية والتمائم، فمثل الوجه والعين والساقين جانبياً والجذع جبهياً . وبدا الفن الآشوري بمظاهره المختلفة معبراً عن قوة المملكة ورفعة الملك.


التخطيط الحضري


الفنون الصغرى

بلغت أشور في آخر عهدها ما بلغته معلمتها بابل في الفنون، وبزتها في النقوش الغائرة. فقد حفزت الثروة العظيمة التي تدفقت على أشور وكلخ ونينوى الفنانين والصناع الآشوريين إلى أن يخرجوا للإشراف ونساء الأشراف، وللملوك وقصور الملوك، وللكهنة والهياكل، حليا مختلفة الأشكال، فصهروا المعادن وبرعوا في تشكيلها وصناعتها كما نشاهد ذلك في أبواب بلاوات العظيمة،

وفي الأثاث الفخم الجميل، الشكل الدقيق الصنع المتخذ من أثمن الأخشاب، والمقوى بالمعادن، والمرصع بالذهب والفضة والبرنز والأحجار الكريمة(56). وكانت صناعة الفخار عندهم منحطة، وفي الموسيقى لم يزيدوا على ما أخذوه منها عن البابليين، ولكن التصوير بالطلاء الممزوج بالغراء وصفار البيض الزاهي الألوان أصبح من الفنون الآشورية الخاصة التي انتقلت إلى بلاد الفرس فبلغت فيها حد الكمال. وكان التصوير في أشور كما كان على الدوام في بلاد الشرق القديم فنا ثانويا تابعا للحرب يسير في ركابها.

النقش الغائر

León herido، نقش غائر في قصر نينوى.

وأخرج فن النقش الغائر في أيام المجد أيام سرجون الثاني وسنحريب وعسرهدن وأشور بانيبال وبتشجيع هؤلاء الملوك روائع هي الآن في المتحف البريطاني. على أن من أجمل آياته تحفة يرجع عهدها إلى أيام أشور بانيبال الثاني. وهي من المرمر النقي وتمثل مردك إله الخير يهزم تيمات الخبيث إله الفوضى(57). أما صور الآدميين المحفورة فهي جامدة خشنة وكلها متماثلة لا فرق بين الواحدة منها والأخرى، كأنما قد وضع لها نموذج واحد كامل وفرض عليها أن تحاكيه في جميع العهود. ذلك أن للرجال جميعهم رؤوسا ضخمة وشوارب غزيرة، وبطونا كبير، وأعناقا لا تكاد تراها العين. وحتى الآلهة نفسها قد صورت بهذه الصورة الآشورية لا تستتر إلا قليلا. ولا تظهر حيوية الرجال في صورهم إلا في أحوال جد نادرة، منها قطعة المرمر المنقوشة التي تمثل الأرواح تتعبد أمام نخلة هندية(58). وفي اللوحة الجيرية التي تمثل شمسى أداد السابع والتي عثر عليها في كلخ(59). أما النقوش التي تثير إعجابنا بحق فهي نقوش الحيوانات، وما من شك في أن الفن قديمه وحديثه لم ينجح في نحت الحيوانات نجاح الفن الآشوري. إن الألواح تكرر أمام الأعين مناظر مملة تمثل الحرب والصيد، ولكن العين لا تمل قط من النظر إلى حركات الحيوانات القوية ونفورها الطبيعي، وتصويرها البسيط الذي لا تكلف فيه، كأنما الفنان الذي حرم عليه أن يصور سادته في حقيقتهم وفرديتهم قد وهب كل علمه وحذقه لتصوير الحيوانات. وهو يصور منها أنواعا جمة لا عديد لها- يصور آسادا، وخيلا، وحميرا، ومعزا، وكلابا، ودببة، وظباء، وطيورا، وجنادب، ويصورها في كل وضع من أوضاعها ما عدا سكونها. وما أكثر ما يمثلها وهي تعاني سكرات الموت، ولكنه حتى في هذه الحال يجعلها مركز الحياة في صورته وفنه.

تمثال صغير من البرونز
أسد يزأر

وهل هناك ما هو أروع من خيل سرجون الثاني في نقوش خراساباد(60)، أو اللبؤة الجريحة التي عثر عليها المنقبون في قصر سنحريب(61) في نينوى، أو اللبؤة المحتضرة المنقوشة على حجر المرمر والتي استخرجت من قصر أشور بانيبال(62)، أو مناظر صيد أشورناصربال الثاني وأشور بانيبال للآساد(63)، أو منظر اللبؤة المستريحة(64)، أو الأسد الذي أطلق من الشرك(65)، أو القطعة التي نقش عليها أسد ولبؤة يستظلان تحت الأشجار(66). كل هذه من أجمل روائع هذا الفن في العالم كله. ولسنا ننكر أن تمثيل الأشياء الطبيعية عن طريق الحفر كان عند الآشوريين فنا فجا خشنا يجري على سنن جامدة محددة، وأن أشكاله ثقيلة غير ظريفة، وأن خطوطه قاسية عسرة، وأن العضلات مبالغ فيها كثيرا، وأن كل ما روعي فيها من قواعد المنظور لا يعدو وضع الشيء البعيد في النصف الأعلى من الصورة بنفس الأبعاد التي رسم بها ما هو أقرب منه إلى الراسم، وما وضع من تحته في الصورة، على أن المثالين في عهد سنحريب عرفوا كيف يعوضون هذه العيوب بما أخرجوه من صور واقعية قوية، مصقولة حسب الأصول الفنية، مثل فيها الفنانون حركاتها أوضح تمثيل، وليس ثمة فيما نقش من الحيوانات شيء يفوقها حتى اليوم. لقد كان فن النقش الغائر للآشوريين ما كان فن النحت لليونان، أو التصوير الزيتي للإيطاليين في أيام النهضة، كان فنا محببا إليهم، يعبر تعبيرا فذا عن مثلهم الأعلى القومي في الشكل وفي الصفات.

التماثيل

هذا ما نقوله عن النقش عند الآشوريين، أما النحت فكان أقل منه شأنا وأحط منزلة. ويخيل إلينا أن الحفارين في نينوى وفي كلخ كانوا يفضلون النقش عن التصوير المجسم؛ ولذلك لم يصل إلينا من خرائب الآشوريين إلا قليل من التماثيل الكاملة. وليس فيما وصل إلينا منها ما هو ذو قيمة كبيرة. نرى تماثيل الحيوانات مليئة بالحياة والجلال، كأنها لا تشعر بأنها أعظم من الإنسان قوة فحسب بل تشعر فوق هذا بأنها أرقى منه خُلُقا- وحسبنا أن نذكر منها الثورين اللذين كانا يحرسان مدخل خراساباد(67)؛ وأما تماثيل الأناسى والأرباب فهي خشنة ثقيلة بدائية، مزينة ولكنها لا فروق بينها، منتصبة ولكنها ميتة. ولعل من الجائز أن نستثني من هذا الوصف تمثال أشورناصربال الثاني الضخم المحفوظ في المتحف البريطاني الآن. ذلك أن في وسع الناظر إليه أن يرى فيه من خلال خطوطه الثقيلة ملكا في كل شبر من جسمه! يرى الصولجان الملكي وقد قبض عليه قبضة قوية، والشفتين الغليظتين تنمان عن قوة العزيمة، والعينين القاسيتين اليقظتين ويرى عنقا كعنق الثور ينذر الأعداء والمزورين في أخبار الضرائب بالشر المستطير، ويرى قدمين ضخمتين متزنتين على ظهر الأرض أكمل اتزان.

على أننا يجب إلا نقسو في حكمنا على فن النحت الآشوري؛ فأكبر الظن أن الآشوريين كانوا كلفين بالعضلات المفتولة والرقاب القصيرة، وأنهم لو رأوا نحافة أجسامنا التي تكاد تشبه نحافة أجسام النساء أو رشاقة هرميز الناعمة الشهوانية كما صورها بركسنليز أو عُلّية أبلون لسخروا من هذا كله أشد السخرية.

المساكن

القصور

Genio alado, قصر خراساباد.

المعابد

الزقورات

نموذج مقترح لإعادة إعمار الزقورات السومرية


تصميم المباني، التحصينات والمعابد الآشورية

Tell Asmar votive sculpture 2750-2600 B.C


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

العمارة

أما من حيث العمارة الآشورية فكيف نستطيع أن نقدر قيمتها إذا كان كل ما بقي منها أنقاضا وخرائب لا تكاد تعلو عما يحيط بها من رمال، ولا تفيد في شيء إلا أن تكون مشجبا يعلق عليه علماء الآثار البواسل ما "يستعيدونه" بخيالهم من أشكال تلك العمائر القديمة. لقد كان الآشوريون كالبابليين الأقدمين والأمريكيين المحدثين لا ينشدون الجمال في مبانيهم بل كانوا ينشدون العظمة والفخامة وينشدونهما في ضخامة الأشكال. وجرى الآشوريون في عمائرهم على سنن الفن في أرض الجزيرة فاتخذوا اللبن مادة أساسية لمبانيهم، ولكنهم اختطوا لأنفسهم طريقة خاصة بهم، بأن اتخذوا واجهاتها من الحجارة أكثر مما فعل البابليون. وورث الآشوريون الأقواس والعقود من أهل الجنوب، ولكنهم أدخلوا عليها كثيرا من التعديل، وأجروا بعض التجارب على إقامة العمد، مهدوا بها السبيل للعمد التي في شكل النساء وللتيجان "الأيونية" اللولبية التي نشاهدها عند الفرس واليونان(68). ولقد أقاموا قصورهم على مساحات واسعة من الأرض، وكانوا حكماء إذ لم يعلوا بها أكثر من طبقتين أو ثلاث طبقات(69). وكان القصر يتألف عادة من عدد من الردهات والغرف تحيط بفناء هادئ ظليل. وكان يحرس مداخل القصور الملكية حيوانات مهولة من الحجارة، وتصف حول جدران الردهة القريبة من مدخل القصر وتعلق عليها نقوش غائرة وتماثيل تاريخية، وكانت تبلط بألواح المرمر، وتعلق على جدرانها أقمشة ثمينة مطرزة مزركشة، أو تكسى بالأخشاب النادرة الغالية وتحف بها حليات جميلة أما السقوف فكانت تقوى بكتل خشبية ضخمة، تغطى في بعض الأحيان برقائق من الفضة أو الذهب وتصور عليها من أسفلها بعض المناظر الطبيعية(70).

وكان أعظم المحاربين الستة من ملوك أشور هم أيضا أعظم البنائين منهم. فقد أعاد تغلث فلاصر الأول بناء هياكل أشور بالحجارة، وقال عن واحد منها أنه "جُعل داخله متلألئاً كقبة السماء، وزين جدرانه حتى كانت في لآلئ النجوم المشرقة، وجعله فخا ذا سناء وبريق" (71). وكان الملوك الذين جاءوا من بعده أسخياء فيما وهبوه للمعابد، ولكنهم كانوا كسليمان يفضلون عليها قصورهم،

فقد شاد أشورناصربال الثاني في كلخ قصرا عظيما من الآجر المبطن بالحجارة، وزينه بالنقوش التي تمتدح التقوى والحروب. وقد كشف راسام عند بلاوات بالقرب من هذا الموضع عن بقايا بناء آخر عثر فيه على بابين كبيرين عظيمين من البرنز دقيقي الصنع(72). وخلد سرجون الثاني ذكره بأن أقام قصرا فسيحا عند دور- شروكين "أي حصن سرجون" في موضع خراساباد الحالية. وكان على جانبي مدخله أثوار مجنحة، وعلى جدرانه نقوش وقرميد براق، وكانت حجراته الواسعة ذات آثار بديعة النقش والصنع، كما كانت تزينها تماثيل تبعث في النفس الروعة والمهابة. وكان سرجون كلما انتصر في واقعة جاء بالأسرى ليعملوا في هذا الصرح العظيم، وجاء بالرخام واللازورد، والبرنز، والفضة، والذهب ليجمله بها. وشاد حوله طائفة من الهياكل، وأقام من خلفه زجورات من سبع طبقات غطيت قمة أعلاها بالفضة والذهب. وشاد سنحريب في نينوى قصرا ملكيا سماه "المنقطع النظير" يفوق في ضخامته كل القصور القديمة(73). وكانت جدرانه وأرضه تتلألأ فيها نفائس المعادن والأخشاب والحجارة، وكانت قراميده تنافس في بريقها آيتي النهار والليل؛ وصب له صناع المعادن آسادا وأثوارا ضخمة من النحاس، ونحت له المثالون أثوارا مجنحة من حجر الجير والمرمر، ونقشوا على جدرانه الأغاني الريفية. وواصل عسرهدن توسيع نينوى وإعادة ما تهدم من عمائرها، وفاقت مبانيه مباني من سبقوه جميعهم في روعتها وفي أثاثها وأدواتها المترفة الثمينة. فقد كانت اثنتا عشرة ولاية تقدم إليه حاجته من الموارد والرجال؛ ونقل إلى بلاده آراء جديدة عن العمد والنقوش عرفها أثناء إقامته في مصر؛ ولما أتم بناء قصوره وهياكله ملأها بالتحف التي غنمها من جميع بلاد الشرق الأدنى وبما رآه فيها من روائع الفن(74).

وأسوأ ما يمكن أن يقال عن فن العمارة الآشورية أن قصر عسرهدن قد انهار كله وأصبح أطلالاً بعد ستين سنة من بنائه(75). ويحدثنا أشور بانيبال أنه أعاد تشييده؛ ويخيل إلينا ونحن نقرأ نقشه أن القرون التي تفصل ما بيننا وبين هذا العصر قد انطوت، وأننا نخترق بأبصارنا قلب ذلك الملك:

"وفي ذلك الوقت تقادم عهد الحرم، مكان الراحة في القصر... الذي شاده جدي سنحريب ليقيم فيه، وذلك لطول ما استمتع فيه من بهجة وسرور وتداعت جدرانه. وإذ كنت أنا أشور بانيبال، الملك العظيم، الملك القادر، ملك العالم، ملك أشور،... قد نشأت في ذلك الحرم وحفظني فيه أشور، وسن، وشمش، ورامان، وبل، ونابو، وإشتار،... وأنا وليٌّ للعهد، وبسطوا علي حمايتهم الطيبة وملاذهم الرضى؛... ولم ينفكوا يبعثون إلي فيه أنباء سارة عن ظفرنا بأعدائنا، وإذ كانت أحلامي وأنا على سريري في الليل أحلاما سارة، كما كانت خيالاتي في الصباح مبهجة جميلة،... فقد مزقت خرائبه؛ وأردت أن أوسع رقعته فمزقتها جميعا. وشدت بناء مساحة أرضه خمسون تِبكى. وبنيت ربوة ولكنني وقفت خائفا أمام مزارات أرباب الآلهة العظام، فلم أعل بهذا البناء كثيرا؛ وصببت نبيذ السمسم ونبيذ العنب على قباء مؤنه، كما صببتهما على جداره الطيني. ولكي أشيد هذا الحرم كان أهل بلادي ينقلون اللبنات في عربات عيلام التي غنمتها منهم بأمر الآلهة. وسخرت ملوك بلاد العرب الذين نقضوا الهدنة معي، والذين أسرتهم في الحرب بيدي وهم أحياء، يحملون الأسفاط و(يلبسون) قلانس الفعلة ليشيدوا ذلك الحرم... وكانوا يقضون نهارهم في صنع اللبنات، ويرغمون على العمل فيه أثناء عزف الموسيقى. وشدت بناءه من قواعده حتى سقفه وأنا مغتبط مسرور، وأنشأت فيه من الحجرات أكثر مما كان به قبلاً؛ وجعلت العمل فيه فخما، ووضعت فوقه كتلاً طويلة من أشجار الأرز التي تنمو على سِرارا ولبنان، وغطيت الأبواب المصنوعة من خشب الليارو ذي الرائحة الذكية بطبقة من النحاس وعلقتها في مداخله... وزرعت حوله أيكة حَوَت جميع أنواع الأشجار، والفاكهة... على اختلاف أصنافها... ولما فرغت من أعمال بنائه قربت القرابين العظيمة للآلهة أربابي، ودشنته وأنا مغتبط منشرح الصدر، ودخلته تحت ظلة فخمة(76).

الاكتشافات الحديثة

عادة تصور لمدينة نمرود على ضفاف نهر دجلة.

أتاحت التنقيبات في موقع آشور رسم معالم المدينة وسورها المزدوج ومينائها المبني على ضفة نهر دجلة في مجال المدينة؛ ونتيجة ذلك ظهر القصر القديم الذي يعود إلى بداية الألف الثاني قبل الميلاد، وقد تبين أن هذا القصر بقي قيد الاستعمال حتى آخر حقبة الألف الثاني ق.م على ما لحق به من تغيرات مهمة. وظهر كذلك القصر الجديد الذي شيّده الملك توكولتي نينورتا الأول (1246-1209ق.م) Toukoulti Ninourta I إلى الغرب من القصر الأول في الوقت الذي آل فيه القصر القديم إلى مدفن ملكي حيث اكتشفت خمسة مدافن حجرية.

أما المباني الدينية المكتشفة في الموقع فلا تقل أهمية عن قصور المدينة، فالزقورة الكبيرة التي كانت مكرسة بدايةً للإله إنليل ومن ثم للإله آشوركانت قائمة بين القصر ومعبد آشور، في حين كان الهيكل المزدوج للإلهين آنو وأدد يحتوي على زقورتين واحدة لإله العاصفة أدد وأخرى لآنو إله السماء. أما المعبد المزدوج للإلهين سن (القمر) وشمش، ومعبد عشتار فكان لكل منهما مخطط من النمط السومري أي إنه مؤلف من ثلاثة مجازات متوازية ومدخل يمتد على طول الجانب، بمعنى أنه مختلف عن مخطط النمط الآشوري الذي يتألف من الحجرة المقدسة حيث الصنم مسبوقةً بحجرة المتعبد، ويقع الباب على محور الحجرتين،وقد عرف هذا المخطط تحولات كثيرة في غضون مايقارب ألفي عام. والنمط الأخير من المباني الدينية هو المسمى بيت أكيتو Bit Akitou المخصص للإله آشور، حيث كانت تقام احتفالات العام الجديد وهو يقع خارج السور.

أما في نينوى فمع ظهور دلالات تشير إلى أن موقعها كان مأهولاً في الألف السادس قبل الميلاد فإن تاريخ هذا الموقع بقي غامضاً حتى بدايات الألف الثاني قبل الميلاد، إذ اكتشف فيه قصر بناه في تلك الحقبة الملك الآشوري تغلات بيلاصر الأول (1115-1077ق.م) Teglath-phalazar I.

نحت بارز يمثل صيد الأسود

وكانت نينوى قد تبوأت مركزاً مهماً في القرن السابع قبل الميلاد وقام الملك سنحريب (705-680ق.م) ببناء قصر مزين بالنحت البارز واستخدم هذا القصر بعده آشوربانيبال الذي بنى قصراً آخر وزينه بالنحت البارز وفيه مكتبة احتوت على نحو خمسة آلاف نص نقشت على خمسة وعشرين ألف رقيم (لوح مسماري)؛ والمعروف عن الآشوريين شغفهم بجمع النصوص الدينية والأدبية والعلمية التي خلفها أسلافهم. وقد عثر في موقع نينوى على معبدين واحد للإله نبو والآخر للإلهة عشتار. ومن المعالم المهمة التي وجدت أعمدة الساقية التي كانت تزود المدينة بالماء.

أما موقع نمرود الحالي بالقرب من نهر دجلة فقد قامت فيه مدينة كلحو (كلح) التي أسسها في القرن الثاني عشر قبل الميلاد الملك شلمنصَر الأول وسكنها المهجرون من بابل في عهد توكولتي نينورتا الأول. وفي القرن التاسع قبل الميلاد أصبحت مدينة كلحو عاصمة الملك آشورناصربال وشيد فيها قصراً له وأعاد بناء ما هدمه الكلدانيون .

وقد كشف في موقع نمرود عن ستة قصور وأربعة معابد كانت كلها ضمن سور المدينة إضافة إلى زقورة للمعبودة نينورتا؛ كما كشف في الموقع وخارج السورعن قصر نهري بناه الملك شلمنصر الثالث وامتاز هذا القصر باحتوائه على مخازن وورشات خاصة بالملاحة. ومما يجدر ذكره أن مجموعة مهمة من المنحوتات العاجية من أصل فينيقي وسوري كانت بين مكتشفات حفريات مدينة نمرود.

وأما موقع خورسباد على مسافة 15كم شمال شرقي الموصل فقد أظهرت الحفريات أن المدينة شيّدها دفعة واحدة الملك صرغون الثاني سنة 717ق.م وسماها دورشاروكين، ويظن أنها كانت عاصمة له ثم هجرت بعد موته. وكان يحيط بالمدينة سور ذو قاعدة عريضة وتقع القلعة إلى الشمال الغربي منها وفي جنوب المدينة يقع قصر ثانوي. واحتوت القلعة مجمَعاً مقدَساً مؤلفاً من هياكل تنتمي لستة من الآلهة المعبودة، وفي الجهة المقابلة للمجمع يقع هيكل آخر للإله نبو، ويتصل هذا الهيكل مباشرة بقصر صرغون بجسر حجري قائم على عقود، كما يتصل بمجموعة من المباني المخصصة للعائلة المالكة.

انظر أيضا

المصادر

  1. ^ حسن كمال، إلياس الزيات. "الإشعاع بالتألق". الموسوعة العربية. Retrieved 2012-01-19.

قراءات إضافية