التبشير البروتستانتي في المشرق العربي

جزء من سلسلة عن
الإرساليات
الپروتستانتية
إلى الشرق الأوسط
Minarets missions.jpg

خلفية
المسيحية
پروتستانتية
في مصر
خط زمنى للتبشير

الأشخاص
صمويل مارينوس زويمر
أنتوني نوريس گروڤز
هنري مارتن
أندرو بونار
كورنليوس ڤان ديك
وليام مكلوي ميلر
صمويل جوردان
دگلس دنلوپ
وليام گودل

الوكالات التبشيرية
جمعية لندن التبشيرية
المجلس الأمريكي
جمعية إرساليات الكنائس (بالشرق الأوسط)
الجمعية التبشيرية المعمدانية


في سنة 1821 اشتعلت في اليونان الحرب التحريرية الوطنية ضد الحكم التركي الطاغي. فسارع عدد كبير من الأحرار المناضلين في أوربة والولايات المتحدة الأمريكية للالتحاق بصفوف جبهة التحرير لدعم الشعب اليوناني في كفاحه.[1]

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

بلاد الشام

في ذلك الزمن اقتفى أثر المتطوعين الأحرار عدد لا يحصى من المبشرين الانجيليين الأمريكان الذين حملوا معهم أموالا طائلة متوجهين ليس فقط الى المدن والجزر اليونانية، بل وإلى آسيا الصغرى وساحل المشرق العربي. وقد تركزت مهماتهم الأساسية في الجمع بين التعاطف مع اليونان وبين نشر تعاليم المذهب الإنجيلي (البروتستانتي) بين طوائف الروم الأرثوذكس العربية والأرمنية وغيرهم من أبناء المنطقة العربية بهدف احتوائهم داخل الحظيرة البروتستانتية.

كان المبشرون اسحاق بيرد، ووليام گودل، ووليام طومسون الذي وصولا الى المشرق سنة 1824، قد وجدوا تكئة حيوية لنشاطهم في الخلاف الدوري الذي شجر بين الزعامة الروحية لبطريركية الأرمن في القدس من جهة، وبين ثلاثة من رجال الدين، الذين بزوا نظرائهم في معارفهم وخدمتهم، فاستنكسوا عن القيام بواجباتهم الدينية اعرابا عن استنكارهم لتعسفات الفئة العليا من الأكليروس.

كان في مقدمة هؤلاء الثلاثة الاسقف هاكوب لوستراتسي أو آق‌چهرتسي (1781-1845) الذي كان يوقع الخطابات الأرمنية باسم هاكوب أبكاريان، والتحارير المكتوبة بالخط الأرمني – العثماني بإسم أبكاريوس، والذي اشتهر فيما بعد باسم يعقوب أغا أبكاريوس الأرمني أو ابن أبكار الأرمني. كان الثاني المطران هاكوب بولوتسي (1793-1832) المعروف لاحقا باسم كريكور وارتابيد (المطران المترجم). أي أن الرتبة الدينية طغت على كنيته الأصلية. وكان الثالث الأسقف ديونيسيوس كربيديان كارتلتسي وهو المشهور باسم ديونسيوس قرة بت.

إن مصادر التاريخ البروتستانتي تقيم اللقاء بين المبشرين الأمريكان ورجال الدين الأرمن بأنه "حدث عظيم الأهمية". لقد برر اللاهوتيون الأرمن اعتناقهم المذهب الإنجيلي بقولهم انهم لم يبغوا من ذلك المقايضة بين ايمانهم وجنسيتهم (ملتهم) بالبروتستانتية، بل "قايضنا بين الولاء للأتراك وبين التفاني في خدمة المسيحية. ونحن لا نسعى إلى الجاه والسلطان، لا بل لنؤكد هويتنا وقدرتنا على التعايش، والتفاعل مع الأمم الأخرى، لا بل والفوز بالشهرة الحسنة ولاسمعة الطيبة والوصول الى المقام السامي المشرف... وغايتنا من كل ذلك التحرر والانعتاق من سوط الاخوة المرائين الذين يدعون تمثيل الأمة".

تجدر الاشارة الى أن اللاهوتيين الأرمن المذكورين كان لهم القدح المعلى في العلوم اللاهوتية والوعظ والارشاد الديني، فضلا عن اتقانهم العديد من اللغات (اللغة الأرمنية القديمة والحديثة، والعربية والعثمانية) ولذلك استقطبوا ديونيسيوس وكيلا قنصليا لنابولي في صيدا، بينما تبوأ لوستراتسي منصب قنصل نابولي في صيدا ومن ثم في بيروت وقنصل انكلترة فيها أيضا. وفي تعليماتها المشددة باضطهاد وتشريد المبشرين الأجانب الإنجيليين الذين التجؤوا فارين الى جزيرة مالطة، تخلى اللاهوتيين الأرمن عن مناصبهم والتحقوا برعاياهم الإنجيليين سنة 1828، حيث صنفوا وطبعوا كتبا أرمنية بالحرف العربي العثماني.

وبعد العودة إلى صيدا خلال سنتي 1829-1830 سعى المبشرون البروتستانت بمعونة مريديهم الأرمن لادخال قوافل جديدة من أبناء البلاد في مذهبهم، ولاسيما أنهم كانوا يخصصوا منحة شهرية قردها خمسة دولارات أو جنيه استرليني لكل من يعتنق المذهب الإنجيلي. من المعروف أن أوائل الجاحدين كانوا يتعرضون للاضطهاد والقتل من قبل خصومهم الدينيين – المذهبيين، فالتعصب للمذهب كان من الظواهر المألوفة السائدة في الشرق. وللتدليل على ما نقوله نكتفي بالاشارة الى المصير المأساوي الذي تعرض له أسعد الشدياق.


أسعد الشدياق

ولد أسعد الشدياق في قرية عشقوت، ثم انتقل هو وعائلته الى الحدث، كان شابا مزهوا بمارونيته وفخورا بتسمية عائلته الشدياق (الشدياق وتُجمَع "شدايقة" عند النصارى: الشماس، أي أدنى من الكاهن بدرجة واحدة – المترجم)، ومن ذوي الثقافة العالية. كان مدرسا للغة العربية في مدرسة عين ورقة التي تخرج فيها. انتحل أسعد المذهب الإنجيلي فأثار حفيظة أهله ونقمة رؤسائه الدينيين الذين اعتقلوه وزجوا به في احدى زنزانات قبو دير قنوبين، حيث اضطهدوه وعذبوه جريا على طرق محاكم التفتيش، فمات قهرا وألما. لم يكن بمقدور أي كان الحؤول دون هذه الفاجعة المؤلمة، لأن الفرامانات السلطانية لم تكن تعترف بشرعية الارساليات الأجنبية، كما لم يكن بمقدور هؤلاء المبشرين الوصول إلى أقبية الدير الماروني. وبعدما غير الاسقف هاكوب بولوتسي اسمه إلى كريكور وارتابيد في عام 1834، تمكن بذكائه وفطنته من استصدار أمر يسمح باخلاء سبيل أسعد الشدياق. ولكن وا أسفاه، بعد فوات الأوان. ينبغي التنويه أيضا أن كريكور وارتابيد هو الذي دبر أمر فرار أخيه الأكبر الأكبر الشهير فارس الشدياق إلى مصر.

بيد أن المرسلين الأمريكان لم يأبهوا بوسائل القمع التي مارستها الكنيسة المارونية بحق مريديهم وأنصارهم، فاتخذوا من بيروت مقراً لهم، وحولوا احدى قاعات القنصلية الأمريكية الى كنيسة، وأنشؤوا مدرستين للبنين والبنات من أرقى المدارس في الشرق العربي من حيث مناهجها التعليمية–التربوية. ثم أوصوا على قاعدة للحروف العربية في لايپزيگ، ونقلوا مطبعتهم التي كانت تعمل منذ سنة 1822 في مالطة إلى بيروت فعرفت باسم مطبعة المبعوثين الأمريكان. وفيها طبعت – فضلاً عن التوراة وكتب الدين – الكتب العلمية والطبية والرياضية مما ألفه وترجمه أساتذة المدرسة الملكية لتعليم طلبتها، علاوة على بعض كتب الأدب والشعر والتاريخ.

المدارس السورية

توسعت شبكة مدارس المبشرين في أقل من عشرين سنة اتساعات ظاهرا فقد أنشئت مدرستان للذكور والاناث الدروز في الجبل. وفي بيروت تأسست مدرسة عليا لتحضير الأساتذة والمبشرين من أبناء البلد. وفي سنة 1846 افتتح الدكتور كورنليوس فانديك المبشر الأمريكي الشهير مدرسة كلية في قريبة عبية. ومن الجدير بالذكر أن التدريس في هذه المدارس منذ نشأتها وحتى العام 1860 كان يتم باللغة العربية. والراغبون فقط من الطلبة كانوا يدرسون اللغة الإنكليزية. هذا الأسلوب المغاير لما كان يتبعه المبشرون الكاثوليك في نشاطهم التعليمي – التربوي شكل احدى الضمانات الرئيسية لنجاح أعمال المبعوثين الأمريكان. ولاسيما أن الأساتذة الأولين هم الذين اضطلعوا بمهمات نقل العلوم العقلية والنقلية الى اللغة العربية. ففي مدرسة بيروت العليا مثلا، كان المعلم بطرس البستاني (1819-1883) المولود في قرية الدببة من اقليم الخروب، يدرس اللغة العربية، وتلقى تعليمه في مدرسة عين ورقة، كبرى مدارس ذلك العهد. اتصل البستاني أولا بالانكليز ترجمانا وهم يتربصون الدوائر بإبراهيم باشا والأمير بشير الثاني. ثم اتصل بالمرسلين الأمريكيين فتوثقت علاقاته بهم وتبعهم في مذهبهم البروتستانتي، وأصبح ركنا من أركان النهضة العربية الحديثة، ورائد رجال الفكر الناطقين بالضاد في العصر الحديث.

ناهيك بأن النجاح السريع الذي حققه المبشرون الإنجيليون في ميدان التعليم والتنوير كان مقرونا بمعارفهم الموسوعية العظيمة. فكبيرهم الأمريكي القس وليم طومسون كان عالم بالآثار. ولكنه، على حد تعبير كريمسكي- كان "علامة فريدا، وكان مقدورا له أن يترك آثارا عظيمة الأهمية والفائدة لو أنه قام على خدمة العلوم الأوربية، بدلا من تفانيه في خدمة العلوم العربية". وعلى ايلي سميث واحدا من كبار المستشرقين الأمريكان ورئيسا للمدرسة الكلية الأمريكية في بيروت. وهكذا كان إدوارد روبنسون من ثقات المستشرقين المختصين في جغرافية الأماكن المقدسة التوراتية. فيما كان جورج بوسط (المتوفى سنة 1909) والدكتور فانديك (1818-1895) يعملان في حقل ترجمة معظم فروع العلوم الحديثة كالطب والطبيعيات والرياضيات والفلك وغيرها. وان نسينا فلن ننسى أبدا التذكير بأن هؤلاء العلماء الأجانب كانوا يتقنون اللغة العربية اتقانا يبز معرفة بعض أبناء الضاد أنفسهم ، وأنهم عاشروا أهل الشرق وصاروا من أبناء البلاد الحقيقيين الذين تفانوا في خدمتها واعلاء شأنها. أضف الى ذلك أنهم كانوا يعولون على ثقات اللغة العربية المعاصرين لهم (بطرس البستاني، ناصيف اليازجي، وغيرهما) في تاليف وتعريب الكتب المدرسية العلمية والأدبية. فزهت اللغة العربية وازدهرت وعاشت عصرها الذهبي في النهضة العربية الحديثة.

وأخيراً، فان أحد "أسرار" نجاح وتفوق المبشرين الأمريكان يكمن في منهاجهم التعليمي – التربوي الرفيع المستوى. اذا كانوا يوجهون عناية فائقة لتربية النشء الجديد تربية روحية وبدنية راقية، ويقدمون عارف واسمة في شتى مناحي العلوم الاجتماعية والطبيعية والتطبيقية.

نشير في هذا السياق إلى أن الأوساط الأنگليكانية قدمت مساعدات جليلة الأهمية لنشاط المرسلين الأمريكان التعليمي – التربوي في خمسينيات القرن الماضي، وبالفعل، فان "جنتلمانا محترما يدعى جون لوتيان" كان قد وقف حياته على خدمة وازدهار القوى الروحية في البلاد (لبنان – المؤلف)، فسكن في قرية بعاورا التابعة لمواطنه الإنكليزي تشارلز تشرتشل، وتعرف مع المبشر سليمان وأخيه إلياس صليبي على افتتاح عدة مدارس في عبية أولا بقسميها النهاري للصغار والليلي للكبار، ومن ثم في قرى عرمون ويتالون وبتاتر وعاليه وسوق الغرب. اثر المساعدات المادية التي قدمها له مشايخ آل عبد الملك وآل تلحوق الدرزية، الأمر الذي دفع كلا من القنصلين الإنكليزي والأمريكي الىتشكيل لجنة ساهم في أعمالها بطرس البستاني والأخوان سليمان وإلياس صليبي، واليهم يرجع الفضل في وضع قانون "المدرسة الداودية الدرزية" في عبية. وقد تأسست مدارس أخرى مماثلة في عدد من القرى، وما ان اشرف عام 1867 على الظهور حتى بلغ عددها 21 مدرسة وكلية عاملة في نحو عشرين قرية لبنانية. كان يدرس فياه 32 أستاذ ووكيلا، ويتعلم فيها أكثر من 800 تلميذ وتلميذة. هذه وغيرها من المدارس التي انشئت لاحقا في طرابلس وبرمانا وصيدا تلقى التعليم فياه أبناء الطوائف الدرزية والمارونية والسنية والشيعية والروم الأرثوذكس والروم الكاثوليك، ولاسيما أن اللغة العربية كانت لغة التدريس الأساسية، وان الكتاب المقدس كان يتبوأ المكانة الأسمى بين الكتب المدرسية.

تجدر الاشارة أيضا الى أن المدارس الوطنية خلال العقول الثلاثة الأولى من القرن التاسع عشر لم تكن في وضع تحسد عليه، حقا ان الموارنة لهم فضل السبق في انشاء المدارس في لبنان من عهد بعيد، لكن المدارس التي تأسست برعاية البطركين المارونيين يوحنا الحولا ويوسف حبيش خلال سني 1812-1832 في قرى كفرحيا والرومي وهرهر وصربا ومارعبدا وريفون، كان أساتذتها بوجه الاجمال من الكهنة الا نادرا، وكذا الأمر في المدارس الدينية التابعة لأديرة بلمند الطائفة الأرثوذكسية، التي كانت دون المستوى فلم تكن معارف تلامذتها القلائل تتماشى مع متطلبات العصر.

بعد الغاء الرهبانية اليسوعية (1773-1814) أذن الفاتيكان سنة 1814 للآباء اليسوعيين بممارسة نشاطهم فاتخذوا من بيروت مقرا لهم ومارسوا نشاطا تربويا – تعليميا في العشرينيات برعاية القنصلية الفرنسية. وبعد أن أسسوا مدرسة بيروت (1839) وزحلة (1844) أعادوا فتح إكليركية غزير (1847) على قاعدة المدرسة الابتدائية العاملة في دير مارس إلياس منذ أواخر القرن الثامن عشر، وأنشؤوا سنة 1855 الكلية اليسوعية الداخلية. وفي سنة 47-1848 تأسست المطبعة الكاثوليكية للآباء اليسوعيين وكانت تطبع على الحجر ثم صارت تطبع على الحروف سنة 53-1854. وفي وقت لاحق أسس اليسوعيين مدارس أخرى في بكفيا وتعنايل وجزين ودير القمر وصيدا.


أما الآباء اللعزاريون الذين حافظوا على حيادهم منذ سنة 1773 فقد باشروا نشاطهم بدعم مادي من الحكومة الفرنسية . ففي سنة 1834 حولوا الأمر الذي لم يسبق له نظير في تاريخ الأديرة اللبنانية. كما أنهم استقدموا راهبات من باريس وأنشؤوا "جمعية أخوات الرحة"، ثم أضافوا الأموال التي خصصها "صندوق الدعوة في ليون" الى المبالغ المتجمعة من التبرعات في بلدان أوربة الكاثوليكية ليؤسسوا مدرسة داخلية للراهبات اللعازاريات.

وعلى هذا المنوال سارت الكنيسة المارونية التي ضاعفت عدد مدارس الطائفة وفي سنة 1853 أنشئت بمبادرة من الجمعيات الرهبانية العديد من المدارس للاناث.

كانت المساعي التي بذلتها الطائفة الكاثوليكية المحلية لتأسيس المدارس العربية قد ساندت الى حد كبير مدارس المبشرين الأجانب. التي كانت تدرس باللغة الفرنسية تلامذتها من أبناء الطبقة الاقطاعية – الارستقراطية أو الطبقة التجارية الربوية المارونية والروم الكاثوليك، الذين كانوا ينهلون معارفهم من الفكر المدرس (السكولاستيكي) البابوي. وقد جاءت هذه المساعي الحثيثة ردة فعل للنجاحات السريعة التي حققها المبشرون البروتستانت في حقل التعليم والتنوير ، فاصبح التنافس بين الطرفين على أشده. بيد أن الجهود التعليمية والمشاريع الثقافية المطروحة لم تنل زخما قويا الا بعد أن فشل التبشير الديني المزعوم في تحقيق النتائج الموجودة، ولذا تحول التبشير التنويري الذي كان يمارس لأهداف تكتيكية بحتة، الى استراتيجية شبه وحيدة.

ومهما يكن من أمر، فان انتشار العمل التعليمي – التنويري في الاراضي اللبنانية، ولاسيما في مدينة بيروت، طرح تدريجيا مهام عاجلة باتجاه تعميق وتوسيع الحركة التعليمية التنويرية. هذه المهام العصبية والمعهدة وجدت حلولا سريعة نسبيا لدى المبشرين الأمريكان الذين كان لهم قصب السبق في هذا الميدان، ولاسيما ان الفعاليات الفكرية والثقافية التي اضطلعت بها في بيروت وهبتهم امكانات فريدة على صعيد استقطاب المثقفين الوطنيين أولا، ومعاونيهم من أبناء الأمم الأخرى، ثانيا.

ناصيف اليازجي

كان الشيخ ناصيف اليازجي (180-1871) بمثابة اكتشاف عظيم بالنسبة للمبشرين الأجانب . وهو سلسل عائلة كلدانية – ملكية المذهب هاجرت من حمص نحو سنة 1690 لحيف وقع عليها في تلك الديار، الى قرية كفر شيما اللبنانية. حيث كان مولده من أب اشتغل بالطب على مذهب ابن سينا، عمل ناصيف بداية كاتب بطريرك الروم الكاثوليك أغناطيوس في دير كوكبة (1816-1818)، ثم استدعاه الأمير بشير الثاني الكبير واستكتبه، فخدمه زهاء اثني عشر عاما (1828-184). ولما نفي الأمير سنة 1841، انتقل ناصيف اليازجي مع عائلته الى بيروت، تلقى أوليات العلوم على أبيه وأنهاها على راهب ماروني من بيت شباب يقال له القس متى، فكانت ثقافته الأولى لاهوتية، تم له خلالها قدر صالح من الصرف والنحو والبيان واللغة والشعر، فكان له القدح المعلى في اللغة العربية الفصحى. ويحكى أنه كان يحفظ القرآن آية ىية، ومثل ذل حفظه لشعر أبي الطيب المتنبي. وهو الى هذا كله زجال نظم الأزجال عفو الخاطر في صباه، فكانت أغانيه تتردد على كل سنان، وكثير من شعره جرى مجرى الأمثال. كان نابعة عصره، فهو العلامة اللغوي النحوي البديعي الصرفي والشاعر الذائع الصين. وقد نشره المبشرون كتابه "فصل الخطاب في لغة الأعراب" في مالطة سنة 1836.

كان اليازجي من أشد المحافظين على لهجة قومه وتقاليد أهلا بلده في الطعام واللباس والجلوس وسائر العادات كما كانوا في عصورهم القديمة. وكان من أشد المدافعين عن نقاوة اللغة العربية وعظمتها بين الألسن والأخرى. فابلغ في تقديرها لدرجة رفض فيها تعلم أية لغة أجنبية، أو التكلم والتلفظ بأي لسان أعجمي. لذا لم يكن ناصيف ذا فائدة تذكر بالنسبة للمرسلين الأجانب في مجال نشر دعواهم ومذاهبهم. والترويج لافكار الأوربية الحديثة والتقدمية. ومع ذلك كان ركنا من أركان النهضة الأدبية والعلمية الحديثة، احتضنها منذ نشأتها وأمدها بالخير من المصنفات المخطوطة الفريدة في اللغة والشعر والأدب والمنطق.ويقال انه لو جمع ما كتبه بخط يده لكان ذلك لا يقل عن حمل جملية. ورغم أن اعظم تاليفه المخطوطة (أمثال: "مجمع البحرين" وهو ستون مقامة عارض فيها مقامات الحريري، وثلاثة دواوين تعد من عيون الشعر "نفحة الريحان" و"ثالث القمرين) لم تر النور في حياته، فان شهرته طبقت الآفاق وأصبح نبراسا للعقول في فجر النهضة العربية. وهذا يعني أيضا أنه كان مرجعا وموئلا، لعمق معارفه في العلوم العربية. بالنسبة للمرسلين الأمريكان الذين نشروا كتبهم الدينية والتعليمية والنويرية بعد أن صحح ناصيف اليازجي لغتها وضبط عبارتها وأسلوبها، فجاءت في غاية الاتقان شكلا وأسلوبا.

الأدب العربي الحديث والنهضة العربية

هذه الحقيقة أدركها كريمسكي تماما معبرا عنها بقول: "كل ما في الأمر ان الأساتذة الذين حاولوا أوربة تلامذتهم والأخيرين الذين يتأوربون، أدركوا حقيقة واحدة وهي: أن تطور البلاد على دروب الرقي والتقدم ممكن في حالة واحدة، عدم اقتصاره على العرب المسيحيين ، فالعرب المسلمون الذين يشكلون الغالبية العظمة من سكان سورية يجب أن ينخرطوا في مسار الحركة التقدمية التي نشأت في البلاد. وهذا ما فرضه الأمر الواقع. اذ سعى رواد الفكر النصارى لخلق أدب عربي جديد في شكله ومضمونه، وبلغة عربية فصحى تكون مقبولة لدى العرب المسلمين باعتباره اللغة الأمثل بلاغة وأكملها بيانا. والتي يعجز المسلم عن احتقارها بقوله إنها "نحو النصارى". أو بمعى آخر ، اعتباره أشبه بلغو أو رطانة.

وهكذا كان ناصيف اليازجي بتاليفه التي جاوزت العشرين (في الصرف والنحو والشعر والمنطق وغيرها من الفنون) وبنشاطه في الحقل التربوي لدى المبشرين الأجانب أو في المدارس الوطنية "العالية" واسهامه الفعال المثابر في قراءة المطبوعات المعدة للنشر وتنقيحها وضبطها، ولاسيما الكتاب المقدس. كان حجة وامام العلوم العربية اضطر العالم الاسلامي ان يقر بأن النصارى العرب قادرون على الكتابة والتأليف والابداع بلغة الضاد، التي لم تعد حكرا على المسلمين من العرب. وبأن الأدب الجديد الذي أبدعوه ليس محط سخرية واستهزاء، بل فخر واعتزاز للأمة العربية ولغة لاضاد، وبأن الأدب النصراني والأفكار الجديدة التي انبثقت عنه استقطبت اهتمام العالم العربي قاطبة، هذه هي الخدمات الجليلة التي تفانى في سبيلها اليازجي، فكان في كل ما نظم وكتب في اللغة والادب زعيم المفكرين في عصره ونادرة زمانه باعترف الجميع دون استثناء، أما المرسلون الأمريكان فقد ايدوا له عظيم الاحترام والتبجيل، وأظهروا أسمى آيات الاعجاب بذلك الشيخ المحافظ الى أبعد حدود المبالغة.

ليس هذا وحسب، ففي دراسته عن الرواية التاريخية العربية، أكد كراتشكوفسكي "أن ميلاد الأدب العربي الحديث مرتبط باسمين جليلين هما ناصيف اليازجي وصديقه الصدوق العلامة بطرس البستاني" وقد خصمها بوصف "أركان النهضة الثقافية لاعربية" ثم استطرد بقوله :وانصافا منا للحقيقة نشير الى أنهما لم يؤثرا تاثيرا مباشرا، وربما لم يساهما اسهاما فعالا في نشأة الأدب العربي الحديث في القرن التاسع عشر، لأن نشاطهما كان يدور أساس في فلك مجاراة العرب الأقدمين أي في مدار الفكر المدرسي القروسطي. ومن هذا المنظور فان اليازجي كان له تأثير ضار أكثر من البستاني، على الأدب العربي الحديث، اذ كان اتباعيا في مؤلفاته وتصانيفه فلم يحد قيد أنملة عن الاساليب البلاغية السلفية – المدرسية، فأدخل الأدب الجديد في حلقة مفرغة انتهى عندها الأدب القديم. وهنا يسأل القارئ اللبيب عن الدوافع التي حدت بالمستشرق الشهير كراتشكوفسكي لاطلاق صفة "أركان النهضة العربية" على الثنائي اليازجي والبستاني، لا بل وتسمية الأول "بأبي النهضة الأدبية"؟ لقد أجاب كراتشكوفسكي عن أمثال هذه التساؤلات بقوله: "وعلى كل حال كان دور الرائدين عظيما جدا في الأدب الحديث". ثم يفصل كراتسكوفسكي في مسألة "تنصير اللغة العربية" التي اضطلع اليازجي بالدور الأساسي فيها. ثم يؤكد "لقد أشاع لغة الضاد بين أبناء بلده في جميع ما كتب وألف. وبذلك أوجد مخرجا أو شكلا ملائما لبعث الطاقة الثقافية الكامنة، والتي أثبت المستقبل أنها كانت متوفرة الى حد عظيم لدى السوريين الموهوبيين بالفطرة، الذين فازوا بأكاليل الغار في ميدان الحركة الأدبية".


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الرواد

الدكتور كورنليوس ڤان ديك

كورنليوس ڤان ديك

لعب الدكتور كورنليوس ڤان ديك دورا كبيرا، إن لم يكن في مجال استكشاف اليازجي والبستاني، فعلى الأرجح على صعيد توظيف قدراتهما ومآثرهما الفكرية-الثقافية الفريدة والمميزة باتجاه اداء وخدمة الرسالة التي نذرا نفسيهما لها (بالطبع ليس من موقع الأهداف والاعتبارات التبشيرية البحتة).

الدكتور كورنليوس ڤان ديك سليل أسرة الرسام الهولندي العالمي، أنتون ڤان دايك، التي هاجرت الى أمريكا اثر الاضطهاد الذي عانته من قبل الرجعية الكاثوليكية بسبب انتمائها المذهبي وتفكيرها التقدمي ونشاطها السياسي – الاجتماعي. امتاز الشاب كورنيليوس بالذكاء وتوقد الفكر والاجتهاد فكان من أثقف الرجال في عصره. أتقن العديد من اللغات الأوربية وبرز في الطب والصيدلة والكيمياء والطبيعيات وغيرها من العلوم. وفي الحادية والعشرين من عمره فارق الوطن مبعوثا من قبل مجمع المرسلين الأمريكيين طبيبا لأسر المبشرين في الشرق. وجعل يدرس العربية على الشيخ ناصيف اليازجي، ثم على الشيخ يوسف الأسير، وغيرهما من أئمة اللغة، حتى صار من المعدودين في معرفتها، فلم يعد يمتاز عن أولادها في البيان والتأليف والنطق.

كان بلا ريب أول أفرنجي اطلع اطلاعا واسعا عل التراث العربي، وقام باطلاع المفكرين العرب الوطنيين، ولاسيما المعلم بطرس البستاني الذي كان يصغره بعام واحد وارتبط معه برباط الصداقة والمودة، على الفكر التنويري البرجوازي. وقد ألف مع رجال النهضة العربية جبهة عريضة متماسكة أثرت الى حد كبير في تخليص الحركة التبشيرية من النوازع الدينية الروحية المتطرفة باتجاه تطوير قابلية النشاط التبشيري للتفاعل والانفعال، والأخذ والعطاء، ومسايرة الزمن والعصر التنويري. وانطلاقا من هذه الخلفية يجب تقييم الدور التاريخي والخدمات الجليلة التي اسداها فانديك في ميدان النهضة الثقافية – القومية العربية، الأمر الذي غاب – براينا – عن ذهن المؤرخين والباحثين، دون أن ننسى بالطبع أن هذا الابن البار الهولندي الأصل الأمريكي المولد، الشرقي النشأة، قد اصبح حقا واحدا من كبار الأئمة ، الذين ساهموا في ارساء أسس النهضة العربية الحديثة، وفانديك الذي نذر نفسه لخدمة الحركة النهضوية – التنويرية – ألف وترجم باللسان العربي طوال خمسين عاما من عمره، فشملت تأليفه وتراجمه أهم العلوم القديمة والحديثة كالطب والطبيعيات والكيماء والجبر والرياضيات وتراجمه أهم العلوم الصرف والنحو والآداب ، وربت على عشرين كتابا أو نيف وخمسة آلاف صفحة مطبوعة.

انظر أيضاً

المصادر

  1. ^ نجاريان, يغيا (2005). النهضة القومية-الثقافية العربية. دمشق، سوريا: أكاديمية العلوم الأرمنية - الدار الوطنية الجديدة.