أحمد فارس الشدياق

(تم التحويل من فارس الشدياق)
Ahmad Faris al-Shidyaq
Ahmad Faris Shidyaq.png
وُلِدَ
Faris ibn Yusuf al-Shidyaq

1805 or 1806
Ashqout, Lebanon
توفي20 September 1887
المهنةLinguist, writer, journalist, translator
الزوجMarie As-Souly
الأنجالSalim (1826–1906) and Fayiz (1828–1856)
الوالدانYoussef Ash-Shidyaq, Marie Massaad

أحمد فارس الشدياق (و. 1804 - ت. 1887) صحفي لبناني كان يصدر صحيفة الجوائب في اسطنبول. هاجم أحمد عرابي ووصفة بالعاصي. من ألمع الرحالة العرب الذين سافروا إلى أوروبا خلال القرن التاسع عشر. كان الكاتب والصحفي واللغوي والمترجم الذي أصدر أول صحيفة عربية مستقلة بعنوان الجوائب مثقفا لامعا وعقلا صداميا مناوشا أيضاً.

تحول أكثر من مرة بين المسيحية والإسلام. عاش في انجلترا ومالطة.

كانت لهذا الرجل الذي عاصر ڤكتور هوگو وگوستاف فلوبير وإدجار ألن بو وتشارلز ديكنز اتصالات بمستشرقين ومثقفين أوروبيين وكذلك بمفكرين إصلاحيين عرب. وكمتمكن بارع في اللغة العربية، متمرس بفن البلاغة وبدقائق القاموس اللغوي، فقد كان في الوقت ذاته أحد أهم مجدديها. [1]

ساهم مساهمة فعّالة في تطوير لغة صحفية حديثة منقّاة من البلاغة الزائدة. وصقل العديد من المصطلحات الحديثة مثل عبارة الإشتراكية التي أضافها إلى اللغة العربية. لقد عاش الشدياق حياة مليئة بالحركة على نحو خارق للعادة التي سنورد هنا بعضاً من جوانبهاعلى سبيل الذكر لا الحصر.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

حياته

ولد فارس الشدياق في بلدة عشقوت في لبنان، من الديانة المارونية. وانتقل إلى قرية الحدث قرب بيروت 1809 وتعلم في مدرسة عين ورقة المارونية العربية والسريانية وعلوم البلاغة والمنطق واللاهوت. وتحول إلى البروتستانتية، الأمر الذي كان يعد في ذلك الزمن عملا لا يخلو من المخاطر، وقد مات أخوه مسجوناً لدى المارونيين بسبب ذلك.

بعد الظروف القاسية التي عاناها الشدياق وأسرته من الاضطهاد الماروني ولجوئه الى وادي النيل، وجد نفسه مجبراً على الرحيل إلى القاهرة، حيث استلم في أواخر عام 1820 تحرير القسم العربي من جريدة الوقائع المصرية بعد حسين العطار والسيد شهاب الدين المكي. وفي سنة 1824 دعاه المرسلون الأمريكان الى جزيرة مالطة حيث عهدوا إليه ادارة مطبعتهم وتصحيح مطبوعاتهم، وعرب حينئذ "ترجمة التوراة". ثم دعته جمعية ترجمة الكتاب المقدس التابعة لجامعة كمبرج حيث عمل أكثر من عشرة أعوام فترجم وأصدر "العهد الجديد" في لندن سنة 1851. وكان قد نشر في مالطة سنة 1839 قاموس المترادفات العربية تحت عنوان "اللفيف في كل معنى طريف" أتبعه بعشرات الكتب، نذكر منها على سبيل المثال: "سر الليال في القلب والإيدال" في جزأين، طبع أولهما في الأستانة سنة 1867، والثاني لا يزال مخطوطا تظهر فيه مقدرته اللغوةي، ضمنه معظم آرائه ونظرياته في اللغة. و"غنية الطالب ومنية الراغب" في الصرف والنحو وحروف المباني (الأستانة 1871) وهو الكتاب المدرسي الذي أجازته الحكومات التركية والخديوية في مصر للمدارس الرسمية. و"الجاسوس على القاموس" استطال فيه على الفيروزيأبادي بأربعة وعشرين نقدا (الأستانة 1887) ...ألخ.

وفي العام 1834 دعاه المُنصِّرون، البعثة الكهنوتية (البريسبيتريانية) الأميركية، إلى مالطة لتعليم العربية في مدارسهم وتصحيح ما يصدر من مطبعتهم من كتب عربية، وقامت له شهرة أدبية لغوية. وعمل ابتداء من سنة 1834 مدرسا ومصححا صحفيا في مالطة لمدة 14 سنة.

غير أن انعطافا خطيرا طرأ على حياة الشدياق سنة 1846، كان أحمد باشا باي تونس في رحلة الى أوربة حيث امتدحه بقصيدة عصماءن فكلفه الباي بخدمة مملكته، وأرسل له سفينة مخصوصة لنقله الى بلاده. فلبى الدعوة وهناك حاز على منح مالية كبيرة فترك مذهب البروتستانت وتبع دين الاسلام وصار يعرف بالشيخ أحمد فارس الشدياق، وبعد ذلك قفل راجعا الى مالطة. ونشير في هذا المقام أن المادة الغنية المتوفرة في الأدبيات الاستشراقية حول أسباب اعتناق الشدياق للإسلام تجعلنا نخلص الى استدلال دوافعها وحوافزها، ولعل أهمها: مشاعر الغضب وأحاسيس ا لعقد التي تراكمت في نفسه من جراء موت أخيه أسعد الشدياق الذي قضى شهيد حرية المذهب والكبت الديني ثم المصير المآساوي الذي انتهى اليه والده ووفاته في دمشق مقهورا فقيرا. علاوة على الاضطهاد الديني الذي عاناه شخصيا على يد الموارنة والمسيحيين عامة. يجلا ألا يغرب عن بالنا ان الشدياق كان عصبي المزاج سريع الانفعال، كثير التقلب، رحب المال والجاه. وان نسينا فلن ننسى أبدا ميله الشديد لاستخدام الإسلام درعا يقيه من السدائس التي كانت تحاك ضده، فضلا عن اغتنامه كل فرصة سانحة للاستفادة لاحقا من جنسية قرينته الإنكليزية، وهكذا نرى أن ظروف العصر وصروف الدهر وشمت الشدياق بميسمها الذي دعا المؤرخ الأدبي العربي الكبير حنا الفاخوي لوصفه قائلا: "ولم يكن الشدياق متقلبا وحسب، بل عصبي المزاج ورجلا شريرا، اذ كان يطيب له أن يسخر ويتهكم بالناس أفرادا وجماعات، الأمر الذي تنفر منه الطباع وتمجه الأذواق".

وفي سنة 1848 تلقى دعوة من الجمعية اللندنية لنشر الإنجيل للقدوم إلى لندن من أجل المشاركة في ترجمة الكتاب المقدس إلى اللغة العربية، فانتقل ليقيم في أماكن مختلفة ببريطانيا وكذلك بباريس.

طلق زوجته المصرية ليتزوج بامرأة بريطانية، الأمر الذي مكنه من الحصول على حماية القنصلية البريطانية.

وفي العام 1853 كتب قصيدة تزيد على 130 بيتًا، بعث بها مدحًا للخليفة العثماني لمناسبة انتصاره على روسيا القيصرية يقول في مطلعها:

الحقُّ يعلو والصلاح يعمرُ والزور يُمحَق والفساد يُدمَّرُ
يا مؤمنون هو الجهاد بَادِرُوا مُتطوِّعين إليه حتَّى تُؤجَروا
في "لن تنالوا البِرَّ حتى تُنفقِوا مما تُحبُّون الدليلُ الأظهرُ

ومن عجب أن هذه القصيدة جاءت قبل إسلامه بأربع سنوات. وجاءت لـ "فارس الشِّدْيَاق" دعوتان من الخليفة و"باي تونس" الذي مدحه فارس الشِّدْيَاق تقديرًا لمبراته وخيراته التي وزعها على فقراء مرسيليا وباريس في أثناء زيارته لهما، ولبَّى فارس الشِّدْيَاق دعوة "الباي" وانتقل إلى تونس في العام 1857 على سفينة خاصة أرسلها إليه "الباي". [2]

ولم يَطُلْ به المقام في تونس وغادر إلى الأستانة ملبيًّا دعوة السلطان عبد المجيد، وهناك التحق بديوان الترجمة.

في الخمسينيات كان الشدياق في باريس، حيث أصدر بالاشتراك مع المستشرق الفرنسي غوستاف دوجا كتاب "سند الراوي في الصرف الفرنساوي" (باريس 1854) للراغبين في دراسة الفرنسية بالجزائر ومصر وسورية. وفي العام التالي أصدر "الساق على الساق فيما هو الفارياق" وهو كتاب لم يكتب مثله شرقي، ترجم فيه لذاته ووصف فيه حياته وأسفاره، اذ يعد من أغنى الآثار الأدبية التي ظهرت خلال عصر النهضة على الاطلاق. فالكاتب هو بطل الرواية، وأهم ما فيه مفاضلته بين الحياة الأوربية والشرقية – العبية بروح انتقادية متحفظة. وقد ألف الشدياق سنة 1852 كتابا ضخما طبع في تونس سنة 1866 بعنوان "الواسطة في معرفة أحوال مالطة وكشف المخبأ عن فنون أوربة"، وهو يشتمل على انطباعاته عن تطور العلوم والفنون والتقنية في أوربة، وقد أصاب أبو لغد في تقييمه للكتاب بقوله: "انه يتصف على الأرجح بانطباعات جد ساذجة وتأملات وخواطر عابرة، أكثر من كونه كتابا لصياغة الأفكار ومبادئ معينة بهدف اشاعتها في البيئة العربية، كما فعل سابقا الطهطاوي ولاحقا فرنسيس مراش في كتابيهما".[3]

وفي العام 1860 أنشأ صحيفة (الجوائب) سياسية أسبوعية، نالت شهرة كبيرة بين السلاطين والملوك ورؤساء الحكومات والمُفكِّرين العرب، وكانت صحيفة العرب تنقل عنها وتستشهد بها في الحديث عن سياسة الشرق.

وفي العام 1886 جاء "فارس الشِّدْيَاق" إلى مصر زائرًا بعد أن تعطلت جوانبه واحْدَوْدَب ظهره، ولكنه لم يزل على انتباهه وذكائه، ثم عاد إلى الآستانة، فكانت تلك العودة آخر أسفاره في الدنيا؛ ليبدأ رحلته إلى الآخرة في سبتمبر 1887 حين نزل به القضاء المحتوم.

إلى أي حد يستعصي تصنيف الشدياق، يتضح من الظروف التي حفت بدفنه. فبعد وفاته حصل خلاف بين الطوائف الدينية التي كانت تتنازع على أحقية تولي شؤون جنازته. وبالنهاية تم التوصل إلى اتفاق على دفنه بعد صلاة متعددة الديانات في موقع يتوسط المنطقتين المسيحية والدرزية من جبل لبنان.


رحلاته وأعماله

تتميز التجارب والانطباعات الأوروبية لفارس الشدياق بامتداد وعمق يتجاوزان إلى حد بعيد ما كان لغيره من الرحالة الآخرين. تنقل الشدياق، ضمن مختلف المهام التي كلف بها- أو في بحثه عن وظيفة ما- بين بلدان عديدة وفي ظروف مادية ومعنوية عسيرة في أغلب الأحيان.

وكانت تنقلاته تختلف كليا مثلا عن رحلة رفاعة رافع الطهطاوي الشيخ الأزهري والموظف الحكومي لاحقا، الذي جاءت إقامته في باريس ضمن إطار بعثة دراسية رسمية.

وخلافا للتقرير ذي الصبغة التوثيقية العملية لهذا الأخير جاء كتاب الشدياق الصادر سنة 1885 تحت عنوان "الساق على الساق في معرفة الفارياق " ذا طابع أدبي، وبالتالي فهو لا يعتبر وثائقياً صرفا. فقد جاء هذا العمل المهول الذي يقع في حوالي 700صفحة مقسماً إلى أربعة أجزاء قد ركز آخرها بصفة خاصة على فترة الإقامة في أوروبا، في هيئة نص يتنقل بين مختلف الأصناف الأدبية: لا هو بالرحلة في مفهومها التقليدي، ولا هو بالسيرة الذاتية الحقيقية ولا هو بالدراسة القاموسية الصرف، بل كل هذا معا.

يعرض هذا النص الذي يصور حياة بطله المسمى "الفارياق"( وهم إسم خيالي مصاغ من توليفة لشطري إسم الكاتب ولقبه كما يمكن للمرء أن يتبين ذلك بسهولة) في الوقت نفسه مناقشات فلسفية واجتماعية ووصف للأماكن التي مر بها إلى جانب تداعيات التعليقات اللغوية والأدبية.

وقد وردت الموضوعات المتنوعة لهذا العمل مصاغة غالبا في شكل نقاشات سجالية بين الفارياق والفارياقة، زوجته الذكية المثقفة والواعية. وقد جاء هذا التصوير النقدي الذي يتناول المنجزات الجديدة وكذلك الجوانب السلبية للحضارة الأوروبية الحديثة ومن ضمنها الأوضاع الاجتماعية في أوروبا أيام الثورة الصناعية، ينضح سخرية، من الآخر ومن الذات على حد سواء.

فرنسا وإنجلترا في أعماله

والجدير بالذكر هنا هو أن الشدياق لم يتناول أوروبا ككتلة متجانسة، بل كان يفرق بين بلد وآخر، وطبقة اجتماعية وأخرى. مقارنة بفرنسا تبدو بريطانيا في كتاباته أفضل منزلة: ولئن كان الشدياق لا يتردد في انتقاد المعاملات التي يراها ذات غايات ربحية، والافتقار إلى آداب معيشية وإلى التعبير التلقائي عن المشاعر وانعدام قيم الكرم والضيافة، فإن انطباعه العام يظل مع ذلك إيجابيا.

كانت إنكلترا بلده المضيف الأول، وقد حظي هناك بموقع جيد، بل ولعله قد تبنى أيضا بعض الأحكام المسبقة التي يغذيها الإنكليز ضد الفرنسيين. ينوه الشدياق بصدق الإنكليز ومصداقيتهم ووفائهم وكذلك المعاملات المتحررة بين الجنسين.

وقد حظيت النساء بتنويه خاص من طرفه: فهن في إنكلترا، حسب قوله، متواضعات وفيات ونقيات. أما فرنسا فوصف نساءها بالافتقار إلى الطهارة – وكذلك الحالة البائسة للشوارع وتدهور النظافة والقيم الأخلاقية. فالفرنسيات في نظره يحبذن استعراض مفاتنهن ومستبدات تجاه الرجال كما أنهن يطلبن نمط عيش مكلف جدا.

يفيض الكاتب في التنويه بتنظيم مجالات الحياة العامة في إنكلترا؛ الجميع يتمتعون بنفس الحقوق، ولا وجود لأي نوع من التعسف من طرف الحكام. وفي كتاب آخر صدر سنة 1867 بعنوان "كشف المخبّأ في فنون أوروبا" ، وهو كتاب رحلة من النوع التقليدي، قدم الشدياق صورة إيجابية عن فرنسا كأمة ذات حضارة تتمتع بنمط عيش متحضر.

لقد كان الشدياق دون شك مثقفا محباً للمواجهة لا يبتعد عن أي نوع من المحرمات: انتقادات إنجيلية، تصويرات شهوانية مثيرة، الدفاع عن حقوق المرأة وعن الفصل بين الدين والدولة، بالإضافة إلى انتقادات لاذعة للإكليروس اللبناني ولكبار الملاّك والطائفية؛ كل ذلك كان مستفزاً للغاية في ذلك الزمن - وما يزال جزئياً إلى يومنا هذا.

ولعل بقاء الشدياق مغمورا لا يحظى بما يستحق من التقدير، يعود إلى هذا الطابع الصدامي الاستفزازي. وحتى الآن ما يزال هذا العمل الجامع الذي خلفه لا يحظى بما يليق به من التكريم.

الجامعة الإسلامية

كانت الجامعة الإسلامية "السنية" التي انبرى الشدياق للترويج لها كمذهب ديني – سياسي متكامل، يرتكز على دعامتين أساسيتين:

أولا – الاعتراف بالوحدة الروحية – الدينية لجميع المسلمين دون أي تمييز، والاقرار بأن الولاء للاسلام يجب أن يسمو على الولاء للجنس والقومية والوطنية والطبقة.

ثانيا – ان الوحدة الرومية – الدينية الإسلامية تحت راية الخليفة – السلطان الأعظم هي النموذج الأكمل والامثل للنظام السياسي الذي دونه كل الأنظمة السياسية الادارية المغايرة.

ليس عسيرا أبدا رؤية أنه بقدر ما كانت نزعة الجامعة الإسلامية سلفية – أصولية، كانت الدعامتان مترابطتين غير منفصلتين مثل توءمي سيام الملتصقين. فالسلطان العثماني كان يبايع بحكم القضاء والقدر خليفة على المسلمين منذ بداية القرن السادس عشر. وأفكار الأفغاني حول الجامعة الإٍلامية كانت في وضع جينين أواخر الخمسينيات وطوال السيتينات . وهو رغم مد يده للسلطان ومبايعته بالخلافة والملك واستحواذه على مباركته ورضاه، كان يوجه أنظاره الى النجوم الصاعدة في قبة السماء (ليتخذ منها مظلة واقية لأمنه وسلامته) أي الى الأميرين محمد دوست وشير علي، فكان يستغل طموحهم الى الحكم لتحقيق مآرب الاستعمار الإنكليزي بمساعدة الإسلام.

ومن هنا كان هدف الشدياق النهائي مغايرا تماما وأعظم شأوا. اذ تمحور حول تحويل الامبراطورية العثمانية الى دولة إسلامية قوية موحدة. فقد أفادنا الطرزي بأن السلطان عبد العزيز ساعد على توسيع نطاق جريدة "الجوائب" لبث فكر الخلافة النبوية بين المسلمين المستشرقين خارج الدولة العثمانية، فكان أحمد فارس الشدياق يقبض كل سنة خمسمئة ليرة عثمانية من السلطان المشار إليه لهذه الغاية، علما بأن هذا المبلغ كان يعادل اثني عشر ألف روبل ذهبي.

كان الشدياق بداية ينشر "الجوائب" مجانا في المطبعة السلطانية، وفي السنة العاشرة أنشأ بأموال السلطان مطبعة خاصة جهزها بكل أدوات فن الطباعة الحديثة حتى صارت تعد من أشهر المطابع في السلطنة العثمانية. في ذلك الوقت كان الشدياق محررا في "الجوائب" كبرى الصحف العربية آنذاك. ولم يكن يتخذ موقفا معاديا من المعارف والعلوم التقنية الأوربية ولا حتى من التنوير الأوربي. ولكنه، على الضد من هذا، كان يبشر بأفكار تدعو الى التقدم العربي والشرقي – الإسلامي بمعزل عن التأثير السياسي الأوربي ،والى أن الرعايا العثمانيين لا يجب أن يتمتعوا وحدهم بالرعاية الأبوية للسطلان، بل جميع المسلمين الذين يجب أن ينضووا تحت راية خليفة الإسلام المعظم.

وبعد اطلاع كريمسكي على محتويات جريدة "الجوائب" كتب ما يلي: "انها صحيفة ذات نزعة أوربية، ولكنها مكرسة كليا للإسلام والسلطان". أما كوتلوف فقد أكد محقا "أن نشاط الشدياق اتسم بطابع إسلامي بحت، وكانت للوحدة العثمانية لديه أفضلية وأولوية على الوحدة العربية" . وليفين الذي عد الشدياق "مؤسسا للأدب العربي الحديث" لم ير ضرورة للتطرق الى آرائه السياسية – الاجتماعية، لكنه أكد أن جريدته اصبحت حاملة لأفكار النزعة العثمانية ونزعة الجامعة الإسلامية، اذ كانت تعد صحيفة شبه رسمية للحكومة العثمانية.


ومع ذلك، ينبغي التذكير، بأن الشدياق كان سيدا لا ينازع في ميدان الفكر الاجتماعي – السياسي الغربي، ولاسيما ان جناح الفكر الليبرالي الوطني كان ضعيفا جدا في الوسط النهضوي حيث لم يكن الراديكاليون قد نزلوا بعد الى الميدان. فكان رزق الله حسون الرائد الوحيد الذي قارع فكر الجامعة الإسلامية للشدياق من لندن النائية عن الأوساط العربية الشرقية، ولذا كان قاصرا عن وقف مدى نفوذه المباشر أو حتى تحييده واحتوائه. ويجب ألا ننسى أن "الجوائب" وصاحبها الشدياق نالا شهرة واسعة لم ينلها سواهما منذ ظهور الصحافة العربية حتى ذاك العهد، فانتشرت انتشارا عظيما في الشرق والغرب. وكان للشدياق القدح المغلي بين أساطين الفكر الإسلامي وجهابذته عصرئذ، لا بل ان الدوائر الأوربية كانت تحسب ألف حساب لمواقف "الجوائب" وآرائها التي عدت شبه رسمية للباب العالي كما أسلفنا.

ومهما يكن من أمر ، فالشدياق لعب دورا كبيرا في تطوير الأدب السياسي الاجتماعي العربي الذي تجلى في "كنز الرغائب في منتخبات الجوائب" الذي جمعه ابنه سليم الشدياق في سبعة مجلدات شملت انفس ما نشرته هذه الجريدة من منشور ومنظوم في حقول الأدب والسياسة والعلم والاجتماع والتاريخ وحوادث الكون (الأستانة 1871-1881). كان الشدياق جبار الأدب العربي الحديث في نثره المبتكر، ولاسيما في كتابي "الفصول اللطيفة والمقالات الظريفة" و"المقامات الأدبية"، حيث يبرز وحيد عصره في كتابة المقامات . كان مارون عبود أحد أعظم نقاد العرب في كتابه "صقر لبنان" الذي يبحث في تاريخ النهضة الأدبية الحديثة، قد نعت الشدياق بصقر لبنان تشبها بصقر قريش الذي شيد للعرب دولة في الأندلس. والشدياق زعيم المجددين في العلون اللغوية وآداب العربية. كانت له سجلات ومنظارات عظيمة مع المعلم بطرس البستاني وناصيف اليازجي وابنه ابراهيم اليازجي وغيرهم من الرواد العظام الذين قدموا خدمات جليلة لآداب العرب. وقد خص كل من المؤرخ كمال الصليبي والأديب ميخائيل صوايا، الشدياق بمركز الريادة بوصفه ركنا من أركان النهضة الأدبية في العصر الحديث. أما جرجي زيدان فوصفه بأنه "من أركان النهضة العلمية الأخيرة" ثم استطرد قائلا: "كان متبحرا في علوم اللغة، وله قريحة شعرية، ولكنه امتاز بمعرفته الواسعة في مواد اللغة وسهولة أسلوبه في الانشاء". ويجب الاقرار أيضا بأن الشدياق له خدما جلى في ميدان أحياء التراث ونشر وتحقيق وضبط نيف وعشرين كتبا في أواسط الثمانينات وتقديمها للقارئ العربي . حقا ان اختياره لمناهل التراث لم يكن هادفا دائما، فالى جانب المصادر التي توقظ الشعور بالفخر ضد العرب، كان يكثر من نشر الكتب التي تهم قليلا من المختصين بعلوم اللغة وعلى كل حال، كان الشدياق صاحب الفضل في تعريف العرب بعيون الفكر العربي الأصيل.

وأكثر من ذلك، فالدشياق حمل في ثنايا فؤاده مشاعر الشوق والحنين الى مسقط رأسه في بلاد الأرز طوال عشرات السنين من التغرب القاسي، فاشتهر بأنه أول من عبر عن فكرة "الوطنية اللبنانية" في الأدب العربي الحديث. ولا ننكر أبدا أن الشدياق انبرى في الدفاع بحماسة منقطعة النظير عن اهمية العلوم والمعارف الأوربية. داعيا الى نشرها بحماسة منقطعة النظير عن الحياة الشرقية. كما انه لم يتقاعس يوما عن الهجوم على التجهيل الديني وانتقاد الحياة الاقطاعية الخانقة سواء في الأقطار العربية أم على مستوى الدولة العثمانية عامة. وكان مع المعلم بطرس البستاني من أوائل نصراء المرأة قبل أن يهب شرقي لنصرتها والدعوة لتحررها واحلالها المحل اللائق بها في الأسرة والمجتمع.

كل هذا حقيقة ناصعة البياض لا غبار عليها.

ولكن كما تؤكد الأدبيات الاستشراقية ، لم تكن أراؤه النهضوية – التنويرية نابعة من ايمانه بالمثل والقيم العليا وقناعاته الراسخة الثابتة بفضائلها، بل من مآربه الهادفة لمواكبة متطلبات العصر الحديث وطموحاته الهادفة لأن يكون رجل العصر الأول وزعيم المحددين الذي لا ينازع، ولهذا السبب لم تكن القيم النهضوية والمعايير التنويرية الشدياقية تتصف بالمبدئية والاستمرارية. بل بالتقلب والتلون مع تقلب الأحوال والمنوال. فشابتها عيوب وهفوات مناقضة تماما للمفاهيم النهضوية. وعن هذا الموضوع يقول كراتشكوفسكي: "مما لا شك فيه أن الشدياق شخصية جامعة وعقل موسوعي ليس على الصعيد العربي فقط، ولكنه لم يكن – على ما يظهر – يراعي حرمة المبادئ، بل استطاع بعبقريته الدفاع عن كل ما رآه ضروريا في اللحظة المعينة، أي كان عنده لكل حادث حديث". وكان في كل ما دافع عنه، ولاسيما في طور النهضة – يتعارض مع قدس أقداس المبادئ النهضوية – التنويرية الأصيلة، مما أبعده موضوعيا عن مسار الحركة النهضوية الحديثة. كان كل ذلك أمرا لا محيد عنه، فعرقلة الجهود الرامية للسير بالفكر العربي باتجاه العلمنة والتنوير، والدعوة الى الوحدة الاسلامية الشاملة، ومعارضة الحريات السياسية والمدنية من خلال الاطناب في فضائل وشمائل نظام السلطان التركي الاستبدادي ومواجهة منافسيه المناضلين من مواقع المبدئية والموضوعية بالتهكم والسخرية والامبدئية، لا بل وحتى بالوشاية الى عسس السلطان ومخبريه، وغيرها من الأعمال والأنشطة التي اضطلع بها أحمد فارس الشدياق ساهمت في تمييع حركة النهضة القومية – الثقافية العربية، وقادت بالتالي الى حرمانه من تبوؤ المكانة اللائقة به في النهضة العربية الحديثة.

فمن الحقائق المسلم بها أن الشدياق لم يكن يطيق صبرا بأي عالم أو رائد ينافسه على الشهرة في ذلك العهد. وقد وجد فيليب الطرزي من واجبه الاشارة الى هذه الحقيقة التي "تغض من مقام العالم وتحط من قدر الكاتب"، موجها النقد الى أسلوب الشدياق في الذم والشتم في مناظرته العلمية أو السياسية مع أكبر علماء ذلك العصر، ابتداء من رزق الله حسون وناصيف وابنه ابراهيم اليازجي وانتهاء برشيد الدحداح وبطرس البستاني وأديب اسحاق ولويس صابونجي وسواهم من أسطاين وجهابذة. وقد أصاب عبد الغني حسن عين الحقيقة حين شدد على أن معظم الذين انتقدهم الشدياق نقدا لاذعا من الرواد المسيحيين الذين عابوا عليه تعصبه الأعمى للاسلام .


في طلب العلم

دخل فارس الشِّدْيَاق الكُتَّاب، ويصفه مُعلِّمه بأنه لم يطالع مدة حياته كلها سوى كتاب الزبور، وكان الصغار يخرجون من الكُتَّاب كما دخلوه فلا كسبوا علمًا ولا وسعوا فهمًا.

وأفاد الشِّدْيَاق من الكتب التي كان ينسخها أبوه، ورغم أنها كتبٌ أكبرُ من سِنِّه وعقله إلا أنه كان يغالب صعوباتها بطول الصبر على قراءتها. ولما تُوفِّي أبوه وهو صغير عرف أنه لا ملجأ له بعد الله غير عمله، فعكف على النساخة واتخذها صناعة، ولكنها ـ على حد قوله ـ مهنة لا تكفي المحترف بها، ولا سيما في بلاد تقدس الدرهم والدينار.

وحببته النساخة في الكتب. وكانت له حافظة قوية وذاكرة حاضرة أعانتة بعد ذلك في الإفاضة في التأليف اللغوي واستحضار الشواهد التي لا حصر لها بأدنى جهد وأيسر كلفة.

ولم يتكبر الشِّدْيَاق على طلب العلم في أي مرحلة من عمره؛ ففي خلال إقامته بمصر 1825ـ1834 لم يجد حرجًا في أن يتتلمذ على الشاعر المصري الشيخ "محمد شهاب الدين" والأديب "نصر الله الطرابلس" الحلبي وأفاد كثيرًا من توجيهات الشيخ "رفاعة الطهطاوي" الذي أخذه معه محررًا في الوقائع المصرية، مما أزاد من حصيلته اللغوية والشعرية.

قصة إسلامه

كان المُؤرِّخ "جورجي زيدان" من أقدم الذين ترجموا للشِّدْيَاق في كتابه المعروف "تراجم مشاهير الشرق" وأشار في قصة إسلامه قائلاً: ووجه إليه حضرة الباي أحسن منصب إليه، وهناك اعتنق الإسلام على يد شيخ الإسلام، وسُمِّى أحمد، فصار اسمه "أحمد فارس الشِّدْيَاق".

ومن الذين لم يتركوا إسلام فارس الشِّدْيَاق بلا تعليق خاص الباحث اللبناني "بولس سعد"، وقال في رسالة عنه: وكانت ذكرى وفاة شقيقه أسعد في الظروف التي ألمحنا إليها فيما تقدم (تعذيب البطريرك الماروني له بسبب تحوله إلى البروتستانتينية) لا تزال راسخة في ذهنه تؤلمه وتقض مضجعه فسولت له نفسه اعتناق الإسلام وسمي "أحمد فارس".

ووجه الغرابة أنَّ "أسعد الشِّدْيَاق" الأخ الأكبر مات بسبب تعذيب الموارنة له لتغيير مذهبه قبل إسلام "أحمد فارس" بما يقرب من 26 عامًا، فأين كان كل هذه المدة؟‍‍‍‍‍ أما كان أقوى في الاحتجاج بأن يغير دينه عقب وفاة أخيه مباشرة لا أن يصبر ربع قرن؟!

وفي كتابه "مجددون وقدماء" تجرد "مارون عبود" من عباءة الطائفية – كعادته وكتب عن فارس الشِّدْيَاق وأنصفه كثيرًا ودافع عنه. ومن العجائب أن عروبته لم تكن محل خلاف أو موضع جدل بين مؤرخيه وكُتَّاب سيرته أما مسألة عقيدته فأثارت من المجادلات ما ليس هنا موضع لذكره.

طبيعة نقدية

كان الشِّدْيَاق مُحبًّا للرحلات وقابل خلالها الملوك والمستشرقين والعلماء والشعراء ومنهم الخليفة العثماني وباي تونس والأمير المجاهد "عبد القادر الجزائري" بعدما استسلم لأعدائه الفرنسيين في العام 1847 بعد جهاد طويل.

ومما كتب عن عبد القادر:

شيئان لستُ أَطيقُ صبرًا عنهما ذكرى هواك ومدح عبد القادرِ
هو ذلك الشَّهْمُ الذي شهدتْ له كُلُّ البرية بالفِعَال الفاخرِ

كما التقى المستشرقين وقطع الأمل منهم وأساء الظن فيهم، كما هاجمهم في كتابه "كشف المخبا في فنون أوروبا" مؤكدًا أنهم لا يعلمون إلا القليل من العربية لأنهم لا يأخذونها عن أهلها وينسبون إليها ما ليس فيها.

وقد جرَّت طبيعة النقد عليه كثيرًا من أسباب الخصومات بينه وبين طائفة من أعلام زمانه. ويستظهر "مارون عبود" أن "فارس الشِّدْيَاق" قد انتقد القاموس المحيط لـ "الفيروز آبادي" في كتابه المُسمَّى "الجاسوس على القاموس" ليهدم كتاب "محيط المحيط" الذي اعتمد عليه "بطرس البستاني" على قاموس "الفيروز آبادي" فأصاب عصفورين بحجر واحد.

ولم يخسر الشِّدْيَاق مودة البستاني فقط، بل كان هناك أيضًا الشيخ "ناصيف اليازجي" وولده الشيخ "إبراهيم" واللغوي الشيخ "سعيد الشرتوني" والكاتب "أديب إسحاق" و"رزق الله حسون" الحلبي الذي أنشأ في لندن عام 1848 مجلة جدلية صغيرة أسماها "رجوم وغساق إلى فارس الشِّدْيَاق" وكان غرضه من إنشائها (الرد على أحمد فارس الشِّدْيَاق صاحب جريدة الجوانب لإطالة لسانه وتحريك قلمه بالسفاهة في حق رزق الله حسون).

ومن عجب أن هؤلاء الخصوم كانوا قبل ذلك يتبادلون الود والتقدير، كما أنه بعد موت نصيف اليازجي 1871 وفي نفس الشِّدْيَاق منه شيء ولكنه لم يستطع أن يسكت عن رثائه في صحيفة الجوانب.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

من خصائص الأسلوب

يصف النقاد الشِّدْيَاق بأنه من كُتَّاب العرب القلائل الذين يعرفون قيمة الألفاظ وينزلونها منازلها، كما أنه: دقيق الوصف، عميق التحليل، بارع في التصوير؛ ومن ذلك وصفه لملجأ للعجزة في مالطا: "والرابع للطاعنين في السن، العاجزين عن تحصيل معاشهم، المادين لوداع الدنيا يدًا، والمُغمضين عن وزرها ونعيمها عينًا. قد أصبحوا من هذه الحياة على شفا جرف هارٍ يَعتبر بهم اللبيب، ويتعظ بهم المُستهتر في حب هذه الدنيا؛ إذ تراهم كالأغرار من الأولاد قد انحنت بهم القدود لما استوى عندهم داعي الأجل وأظلمت منهم الأبصار بعد أن أضاء منهم صبح المشيب وانحلت منهم القُوَى.. فَثَمَّ يقضون ما بقي من حياتهم بـ كان وصار".

ويكتب الشِّدْيَاق في كتابه: "الساق على الساق" عن أثر النقد في الشعر قائلاً: "على أن من نبغ في الشعر ولم يلْقَ مَن ينتقد قوله مرةً ومَن يُخطئه أخرى فلا يُمكنه أن يصل إلى مرتبة الشعراء المُجيدين ولو بقي ينظم أبياتًا ويودعها سمعه فقط لما عرف الخطأ من الصواب قط فلا يكاد أحد يُصيب إلا عن خطأ".

وعلى الرغم من رأيه في شعر المناسبات وحملته على شعرائها، فإنه قد وقع فيما كان ينتقده وجرفه تيار المناسبات وبالغ في مدح السلاطين، وكان بارعًا في المدح ومن ذلك شعره في ملك فرنسا والخليفة العثماني وباي تونس والمجاهد "عبد القادر الجزائري".

ويتحدث عنه الأستاذ حسن الزيات قائلاً: "أما شعره فأدنى رتبةً من نثره وأقل جودةً وأضعف ابتكارًا، فهو في نثره مُجدِّد وفي النظم مُقلِّد وفي كليهما بالنسبة لأهل عصره سابق مجيد.

العلاقة بين الشدياق ورزق الله حسون

تشير العلاقة بين رزق الله حسون والشدياق الى اهتمام الباحثين في تاريخ النهضة العربية، لأنها تشكل جانبا بارزا من جوانب الفكر الاجتماعي – السياسي.

كان رزق الله حسون قد ترقى سنة 1861 الى رئيس نظارة جمارك الدخان، وفي العام التالي رافق الصدر الأعظم فؤاد باشا الى لندن بعد أن جاءها معتمدا عثمانيا في معرضها الدولي عام 1862. وبعد وقت قليل من عودته الى الأستانة اعتقل ورمي به في السجن. كانت التهمة التي وجهتها نظارة الضبطية الى حسون استيلاءه على أموال الجمارك ترمى الى تمويه الرأي العام واخفاء الدافع السياسي الكامن وراء تسوية الحساب وهو: "خطورة" الرائد حسون الأرمني المحتد من الناحيتين السياسية والاجتماعية. وتؤكد مراجع الاستشراق الفرضية القائلة بحصول الشرطة التركية على "بينة مباشرة" تمكنها من تصفية حسابها مع حسون وهي: كتاب وشاية موقع من قبل الشدياق شخصيا. واذن، فالدشياق الراغب في أن يكون الانسان الوحيد المتمتع برعاية ووصاية الدولة العثمانية والطامع في كرمها وسخائها – جعل مهمة تصفية الحساب مع منافسه المسيحي الأكبر في المديان الأدبي – السياسي – الصحافي رزق الله حسون هدفا رئيسا لحياته. وفوق ذلك بكثير: ليس سرا أن حسون المدافع عن اتجاه استقلال العرب عامة، والمسيحيين العرب خاصة، كان محروما من امكانية التصدي علنا للشدياق في الصحافة الصفراء الموالية للسلطان والمتعصبة للاسلام. كان مضطرا لان يكتب بخط يده مناشير تنتقد بسخرية لاذعة الشدياق ويوزعها على الأوساط العربية من الأستانة وغيرها. ومن المثير حقا الاشارة الى أن حسون كان وظل حتى الرمق الأخير من حياته يوجه للشدياق تهمة الخنوع والاذعان للسلطان التركي وخدمته خدمة ذليلة كانت تحط من قدر وكرامة العرب وأهدافهم القومية السامية، في حين اتهم الشدياق حسون بخيانة الدولة العثمانية والأتراك وخدمة الأجانب.

واغتنم الشدياق الفرصة السانحة لتوجيه ضربة قاضية الى حسون. كان الأديب الحلبي الأرمني قد نشر عام 1859 كراسا بعنوان "حسر اللثام عن الإسلام" وجه فيه نقدا مرا للرجعية الدينية المتزمتة، الأمر الذي يوجب على صاحبه الموت شنقا بموجب قوانين الدولة العثمانية. كان الكراس الغفل متداولا في السر بين أبناء الطوائف المسيحية ، فوقع سنة 1861 بيد الشدياق الذي سارع للوشاية برزق الله حسون الذي اعتقل على الفور.

ينبغي القول ان وشاية الشدياق كانت بمثابة دليل ملموس على خطورة حسون لدى السلطات التركية . ومن المعروف أيضا أن حسون كان يثير مخاوف أرباب السلطة بسبب اتصالاته الوثيقة مع دعاة اصلاح الدولة التركية – على حد قول كراتشكوفسكي. ويجب ألا يغرب عن البال أن الأصل الأرمني لحسون كان ذائعا مشهورا، وأنه لم يكن أنئذ يخفي قناعته ومبادئه التي عبر عنها في أكثر من مجال لم ينحصر بالحصافة، والتي تجلت أساسا في أن يقظة العرب الثقافية ونهوضهم في شتى الميادين الأخرى ممكن في حالة واحدة لا مناص عنها وهي: خروجهم من نظام الحكم التركي ، وبما أن فكرة الاستقلال الكامل لم تكن قد نضجت بعد في فكر حسون، لذا كان يوجه فطريا أنظار العرب نحو الدول الأوربية، فأوصى بتحويل سورية الطبيعية الى محمية تابعة لروسية في المقام الأول.

ومما يؤسف له أن مصادر التاريخ والأدبيات التاريخية التي أرخت لمسيرة وأعمال رزق الله حسون لاذت بالصمت المطبق ازاء مسألة خلاص المنور العربي الأرمني من براثن الأتراك ، وعن تفاصيل لجوئه الى روسية؟ ونحن أيضا محرومون من امكانية تحديد الطريق الذي سلكه حسون الى روسية غير أن واحدة من قصائده تخبرنا بأنه بعد وصوله الى مدينة باطومي على البحر الأسود لم يتحرك فورا تجاه الشمال، بل سافر الى تفليس عاصمة جورجية. ومن غير المعروف حتى اليوم ما اذا كان حسون قد زار وطن اجداده أرمنية أم لا، ولكن من المجلي أنه في طريقه الى عاصمة القياصرة بطرسبورغ، عرج على مدينة موسكو التي احتوت يومئذ جالية أرمنية كبيرة. وعن هذا الموضوع كتب الأديب كريمسكي ما يلي: "من الجائز أن يكون حسون قد زار الشارع الأرمني، والكنيسة الأرمنية، ومعهد اللعازاريين للغات الشرقية المعروف لدى كل الأرمن، حيث كان الأرمن من جميع أطراف المعمورة يتلقون فيه العلوم ، ومن بينهم شبان أرمن من مدينة حلب نالوا منحا دراسية فيه".


ليست هناك معلومات موثوقة تؤهلنا لتعريف القارئ بالنشاط الذي اضطلع به الكاتب المغترب في بطرسبورغ، ومن المعروف عنه أنه عمل في نسخ عدة مخطوطات من الأدب العربي القديمة المحفوظة في الدائرة الشرقية للمتحف الآسيوي. ولكن ثمة مسألة تدعو للتساءل: هل قصد حسون عاصمة القياصرة للعمل في نسخ المخطوطات؟ ففي المكتبة العامة تجد ورقة كبيرة مكتوبة بخط يده الجميل، وبأحرف متناهية في الدقة وهي عبارة عن نصوص من الأناجيل المقدسة، فهل يا ترى قطع حسون هذه المسافات الطويلة للوصول الى أبواب القيصر ألكسندر الثاني ولا هدف له سوى اثارة اعجاب الناس بخطه الجميل؟!

ولكي تأتي الاجابة عن هذه التساؤلات وأمثالها أكثر دقة، ترانا ميالين للأخذ بالملاحظات التي أبداها المستشرق الكبير كراتشكوفسكي في هذا الموضوع، وهي: أن قلة قليلة من المغتربين العرب كانوا يميلون للذهاب الى روسية، اما بهدف التجارة فيأتون أوديسة، واما بدافع ديني – مذهبي يتلخص في تلقي العلوم في المدارس الروسية الأرثوذكسية. وحسون لم يكن لا تاجرا، ولا مؤيدا للمذهب الروسي الأرثوذكسي، بل هو من الأرمن الكاثوليك، أما اللاجئون السياسيون من العرب فكانوا يتوجهون الى أوربة الغربية، ولاسيما الى فرنسة وانكلترة. وهكذا، ظهرت روسية على خريطة اللاجئين السياسيين العرب الفارني من الارهاب التركي بفضل الرحلة التي قام بها حسون اليها.

ونحن نعتقد ان كراتسكوفيكي أجهد نفسه كثيرا لتفهم "الدوافع التي حدت بحسون للتوجه صوب روسية" . فالدوافع عسيرة على الفهم، اذ من المحتمل جدا أن الدوائر الدبلوماسية المقربة من أسرة حسون هي التي رسمت خطة الفرار، ولاسيما أن بطريرك الأرمن الكاثوليك في الأستانة، أي عم رزق الله حسون ، كانت له ارتباطات واسعة بروسية وله الكثير من المعارف المخلصين في داخلها، وهناك سبب آخر لا يقل أهمية وهو أن حسون الذي كان يعرب في كل شاردة وواردة عن حبه وولائه لروسية، كان في مركز اهتمام الدوائر الحكومية الروسية، خصوصا أنهم كانوا يأخذون بالحسبان أصله الأرمني، وارمينية الشرقية كما نعلم تابعة لروسية القيصرية عصرئذ. ويجب علينا ألا ننسى اطلاقا أن حسون نفسه لم ينقطع عن الأرمن أبدا، وأنه اعتبر بلاد الأرمن موطن أجداده، وأنه بوصفه واحدا من أبناء الشعب الأرمني الذين اشتهروا بمعارفهم الموسوعية، كان يدرك حق الادراك الآثار الايجابية التي نجمت عن انضمام أرمينية الشرقية الى روسية، ولعل أهمها خلاص شطر من الشعب الأرمني من مظالم الأتراك ومذابحهم.

واذن، فالأرمني أسطفان تزادور حسونيان (يعني حرفيا: رزق الله حسونيان) الذي اشتهر بين العرب باسم رزق الله حسون، اختار التوجه صوب روسية بحثا عن حل للقدر التاريخي الذي عانا العرب، ونعني به مصير وقوعهم تحت السيطرة التركية، كان حسون على معرفة تامة بأن العمليات الحربية التي قام بها الأسطول الروسي على الشواطئ السورية قبل قرن من الزمان، قد مهدت لتحرير قسم من العرب من النير التركي البغيض – ولو لفترة قصيرة نسبيا – وأن يوسف الشهابي كبير الأمراء في جبل لبنان توجه يومئذ الى رجال الأرمن للتوسط لدى روسية بقبوله وشعبه تحت الحماية الروسية. ومن الطريف أن حسون دون ببراعة على هامش المخطوط المكرس للأناجيل الأربعة اسم القيصر "ألكسندر نقولايفيتش" وعلق في الحاشية باللغتين الروسية والعربية بهاذ الكلام: "رباه، امنح ألكسندر ملك هذا الزمان القوة والعنفوان كي يحقق ما قاله الإسكندر المقدوني لملك الفرنس داريوس في غابر العصر والأوان: "وكما لا تشع شمسان في قبة السماء، كذلك لا يملك في آسيا ملكان". ومن الجلي أن حسون كان يعراض بذلك كل الداعين لوضع آسية برمتها تحت أمرة السلطان التركي وفي مقدمة هؤلاء الشدياق الذي بشر بالوحدة الإسلامية ، بينما كان حسون يصبو لرؤية القارة الآسيوية بكاملها تحت سيطرة القيصر الروسي.

وسافر حسون من روسية الى فرنسة عام 1867، حيث كانت له لقاءات مع أوساط العثمانيين الجدد وغيرهم من المهاجرين والمغتربين الذين اختارو باريس مقرا لهم. ثم انتقل إلى إنكلترة واتخذ معظم سكناه فيها، ولاسيما قرية وندسورث. وقد شاعت أخبار في الأوساط العربية أنه جاء الى مسقط رأسه (حلب) متنكرا سنة 1873 فتفقد مكتباتها واستنسخ منها بعض الآثار النادرة.

لقد تفرغ حسون في إنكلترة لوضع كتبه وطبعها وللنشاط الأدبي والصحافي. كان في البداية يستنسخ بخطه الجميل الدوريات والمناشير ثم يطبعها على الحجر ويوزعها. وقد اخترع الحروف وحفرها بأنواع الخطوط المختلفة التي تفوق بها وجهز بها مطبعته المعروفة باسم "آل مسام".

وفي العام 1868 نشر مجلة عربية اسمها "رجون وغساق الى فارس الشدياق" نشر منها عددين في لندن: الأول في 4 آيار (مايو) 1868 في 14 صفحة صغيرة، والثاني في 5 آيار (مايو) وذلك ردا على أحمد فارس الشدياق اثر ما حدث بينهما من خصام شديد، فضلا عن أنها كانت تعبر تعبيرا صادقا عن الروح الوطنية السامية المتجسدة لدى الكثيرين من أدباء العصر الذين اضطروا للرحيل عن موطنهم، وتعكس مدى الاهتمام الذي كان يبديه حسون اذاء مصير أبناء العرب.

وفي سنة 1872 أصدر حسون جريدة سياسية أسبوعية مطبوعة عنوانها "آل سام" عمرت فترة قصيرة ايضا. كان قصده الأساسي يتركز في التقبيح بدولة الأتراك، اذ كان يقدح قدحا مريعا بالأتراك ودولتهم، فضلا عن تشويق الشرقيين الى محبة روسية التي كان يتمنى لها الاستيلاء على القسطنطينية.

وفي 19 تشرين الأول (أكتوبر) 1876 نشر جريدة أسبوعية سياسية أخلاقية سماها "مرآة الأحوال" فكانت أية في الظرف وبلاغة الانشاء وجودة الكتابة. وطبعت على الحجر بخط صاحبها رزق الله حسون. وكان هدفه من اصدار هذه الجريدة يتوقف على عدة أمور أهما: تحرير العرب من ريقة الحكم التركي، والدعوة الى يقظة العرب ونهضتهم القومية الحضارية والتجوه نحو روسية، وتوجيه النقد اللاذع للشدياق وغيره من رجالات النهضة. كان حسون يظهر قدراته الفائقة وابداعه العظيم كمناظر وهجاء ونقاد، فكان يندد بالآخرين المحسوبين على النهضة ويعارضهم بأفكاره الداعية الى تحرير العرب، كل العرب مسلمين ونصارى – من نير الحكم التركي، والى أن الدول الأوربية، وفي طليعتها روسية ستقهر الدولة العثمانية، وستمن بالتالي على العرب – حتى لو كانوا تحت حمايتها – بالحرية، وستمهد الطريق أمام نهضتهم الثقافية والقومية.

وكما جرت العادة في ذلك العهد، كان حسون في كل ما أصدره من جرائد ناشرا ومحررا ومضدا ومصححا وطابعا وموزعا. لكن كان لديه عدة مساعدين أيام نشره لجريدة "مرآة الأحوال" من مريديه ومواطينه، أمثال: جبرائيل الدلال وعبد الله مراش ولويس صابونجي وغيرهم. كانت الجريدة تصدر بأعداد كبيرة قياسا الى ذلك العصر (كان يباع منها في لندن وحدها 450 نسخة). حقا ان الناطقين بالضاد من العرب والأتراك الملمين بالعربية كانوا قلة في لندن، ولكن يبدو أن الجريدة كانت تتسرب الى المشرق العربي رغم مضايقات السلطات التركية.

كان الانتصار الذي حققه السلاح الروسي خلال الحرب الروسية – التركية (1877-1878) قد أنعش الآمال لدى حسون، الذي كان في ضائقة مالية أضطرته لتعطيل "مرآة الأحوال" ونشر مجلة عربية طبعت في لندن سنة 1879 كانت تصدر كل خمسة عشر يوما، عنوانا "حل المسألتين الشرقية والمصرية"، وهي أول مجلة عربية شعرية كانت تنشر قصائد تبحث في سياسة مصر خصوصا، والشرق الأدنى عموما بالاضافة الى المسألة الأرمنية. فاجتمع منها مجلد بقطع ربع في أكثر من ثلاثمائة صفحة، اتفق المؤرخون المهتمون بالصحافة العربية أنها كانت تحتوي على قصائد مشحونة بالهجو الفظيع في حق رجال الحكومة العثمانية ولاسيما مختار باشا الغازي الذي انهزم أمام الجيوش الروسية في قارص. وفي قصيده له يهجو الغازي – الفار مختار باشا مطلعها:

هل أتاكم بأن مختار غازي أصبح اليوم وهو مختار باشا
بات مثل البرغوث أو مقلة مف روكة قصعت بلحية باشا

ويقول بمناسبة النصر في قارص: "كم مرة حارب الروس الأتراك فهزموهم وسحقوهم، وهي هي ذي راية الروس ترفرف خفاقة فوق مدينة قارص. وأصبح الأتراك في خبر كان، هذه هي نهاية كل مستبد جائر، فهو دائما الى زوال، أما كان خيرا لهم لو أنهم عاملونا بالاحسان والعدل والانصاف؟

في سنة 1880 انقطع حبل حياة رزق الله حسون الكاتب الذائع الصيت والصحافي اللامع الذي طبقت شهرته الآفاق. وقد شاعت في الأوساط العربية رواية مفادها أن السلطان عبد الحميد – مدبر ألوف الاغتيالات – قد أمر بتسميم حسون، لأنه كان يوجه له ولرجال دولته نقدا مرا لاذعا أنزلهم دركات الجحيم، وذلك عبر صحافته وكتاباته التي لعبت دورا مهما في نهضة الآداب العربية وايقاظ الوعي القومي عند العرب. ورغم أن كراتشكوفسكي كتب مرة يقول: "على أن هذه الرواية لا أساس لها من الموثوقية"، لكنه استدرك فيما بعد ليشير في أكثر من مناسبة الى "أن حسون الذي حارب الحكومة التركية دون هوادة وافته المنية في لندن، ويبدو أن واحدا من عملاء السلطان التركي وجواسيسه قد دس له السم خفية". أما كريمسكي فكتب يقول: "ليست هناك أدلة ثابتة لهذه التهمة، ولكن عملا كهذا – والحق يقال – يتوافق تماما وجوهر سياسة السلطان عبد الحميد". وكانت جريدة "صوت الشعب" (الأرمنية الصادرة بتاريخ 27/10/1944 قد استشهدت بكلام المؤرخ اللبناني الشهير يوسف ابراهيم يزبك الذي "اتهم مدحت باشا بتسميم حسون" ، ولكنه قال أيضا أن المؤرخ عيسى المعلوف المقرب من رزق الله لم يدعم هذا الرأي).

من الصعب جدا رسم صورة كاملة عن أعمال رزق الله حسون ونشاطه، فبعض آثاره مطبوعة لم تصل الينا آية نسخة منها، وبعضها الآخر لا يزال مخطوطا محفوظا في المكتبات والأرشيفات والمتاحف. وسيزول عجب القارئ حين يعلم أن جواسيس السلطان وعملاءه كانوا يحصون أنفاس رزق الله في حياته ويراقبون كل تحركاته وأنشطته، وكانوا يسهرون بعد وفاته على منع ذكر اسمه في اي من الكتب التي أرخت للأدب العربي. وبالفعل لم يكن اسمه واردا اطلاقا قبل القضاء على حكم الأتراك، ولاتزال مقالاته المنشورة في حياته غير معروفة بالكامل ، فضلا عن أن مجموعات الجرائد والمجلات التي أصدرها غير موجودة، وأخيرا، فان الكثير من كتاباته المخطوطة لا تزال موزعة في حوزة أفراد كثيرين.

فكتاب "حسر اللثان" مثلا لم يصلنا وليست هناك معلومات موثوقة عنه. فقد درست آثار النسخ المخطوطة التي كانت بحوزة المسيحيين العرب في مطلع القرن الحالي. ويذكر كراتشكوفسكي أن السوري ميشال مرقص ، مدرس اللغة العربية في جامعة موسكو، كان قد أحضر معه نسخة الى روسية ورغب في ترجمة "حسر اللثان" الى الروسية ونشرها، ولكنه لم يوفق في تحقيق مشروعه. ومن الجائز أن تكون تلك النسخة قد انتقلت سنة 1852 الى السوري إلياس نوفل مدرس اللغة العربية والفقه الإسلامي في الدائرة العلمية التابعة لوزارة الخارجية الروسية، الذي استفاد من "حسر اللثام" كثيرا خلال تحضير كتاب بعنوان "محمد" الذي أصدره بالفرنسية سنة 1888 في بطرسبورغ، بيد أن السفارة التركية أمرت بجمع نسخ الكتاب واتلافها، فلم يبق منها سوى واحدة في المتحف الأسيوي، اختفت أيضا بعد عام 1894. ونشير في هذا السياق أن مؤرخا مجهولا كان قد نشر سنة 1895 كتابا سماه "حسر اللثان عن نكبات الشام" مؤلفا من 284 صفحة . ان تطابق عنوان الكتاب وموضوعه مع ما ألفه رزق الله حسون، ونعني تكريسه لتاريخ الحرب الأهلية المعروفة بحوادث سنة 1860، حين كان حسون أمين سر اللجنة المهتمة بالتحقيق في الحوادث – كل ذلك يدفعنا للاعتقاد بأن اخفاء اسم الكتاب والمطبعة التي نشرته لم يكن مصادفة محضة أبدا، ولاسيما انه من المعقول جدا أن يكون حسون مؤلف ذلك الكتاب، ولكن هل شكل "حسر اللثام عن نكبات الشام" يا ترى جزءا من هذا الكتاب؟ ومما يؤسف له حقا أن التفتيش في سائر المكتبات العربية لم يسفر عن نتائج ايجابية للحصول ولو على نسخة واحدة من الكتاب المذكور.

ولم تصلنا أيضا الرسالة التي كتبها بعنوان "قول من رزق الله حسون يبرئ نفسه من الغلول"، أي من التهمة الباطلة التي وجهت اليه بشأن استغلال مال الجمارك، اذ يوجه انتقادا فاضحا لموظفي الحكومة التركية. ولم تزل المكتبات خالية من بعض أعماله التي وصلتنا أسماؤها نقلا عن مصادر التاريخ ولم نرها نحو: "نشيد الأناشيد" و"مراثي أرمينية" وغيرها.

وأخيرا، كتاب "النفثات" الذي قدمه شخصيا في دمشق الى الأمير عبد القادر الجزائري، كان يحتوي على طرف كثيرة وابتكارات عديدة، نشير الى واحدة منها، فالصفحات الأخيرة من الكتاب (80-83) احتوت على قطعة عرض فيها بالشيخ أحمد فارس الشدياق مستخدما السورة 22 من القرآن ، التي رتب حسون أحرف آياتها السبع الأولى ترتيبا ألف منه جملة سخر وتهكم بها من الشدياق، فما كان من الأخير أيضا ألا أن تهكم من حسون حين قال عبارته الشهيرة: "كان حسون لصا وله سرقات، فأصبح صلا، وله النفثات". وقد أخطأ كراتشكوفسكي فقد فهمها بمعناها الحرفي "نفثت الحية السم"، والأولى بنا أن نفهمها بمعنى "انفجار وثوران" الذي يتناسب وطبع وأسلوب رزق الله حسون الثائر كالبركان المتفجر.


قد يدبو للنظرة الأولى ان كتاب "النفثات" الذي أصدره حسون في لندن قبل الشروع بنشر جرائده وضمنه صحفتين عرض فيهما بداعية الوحدة الاسلامية الشيخ أحمد فارس الشدياق، وقصائد مدح فيها البطل العربي عبد القادر الجزائري الذي قارع الاستعمار الفرنسي، علاوة على قصيدتين مكرستين لاعتلاء السلطان عبد العزيز العرش، والتماسين قدمهما للسلطان من غياهب السجن – قد يبدو ذلك بمثابة تراجع فكري أظهره حسون يومئذ بغية تمهيد طريق العودة إلى أسطنبول. ان ادراكه لعدم جدوى فعالياته ومردودين نشاطه السياسي – الاجتماعي بعيدا عن وطنه وشعبه، والشوق والحنين لأسرته التي تركها أسيرة في الأستانة ولاسيما الى قرينته وابنه الوحيد ألبير حسون، والآثار التي تركته في نفسه لقاءاته مع الرجال الأحرار العرب والأتراك دعاة الاصلاح في باريس وغيرها من الاعتبارات والعوامل التي قد تكون دفعته للتفكير بالعودة الى اسطنبول ولو مؤقتا. ولكن هذه الهواجش التي اعتملت في صدره أقل شأنا من الأهداف السياسية والاجتماعية التي وضعها نصب عينيه حين قام بتعريب قصص كريلوف عن الروسية. فوضعها على طريقة بيدبا الهندي في كليلة ودمنة، ولافونتين في خرافاته، ولقمان في حكاياته، وما شاكل. وهل كان حسون الا واحدا من كبار أحرار العرب حين نظم قصائد مكرسة لروسية، قارن فيها بين السلطان التركي الذي يستعبد الشعوب ويدمر المدن العامرة في الشرق، وبين بلاد القياصرة التي بلغت – كما يقول – حد الكمال، حيث يعيش الناس في أمان واطمئنان بعيدا عن الظلم والطغيان، فلا يعرفون شيئا عن فساد الحكم والأمراء الا من الحكايات؟

ويزداد حسون تألقا ولمعانا في كتاب "المشعرات" الذي صدر في سان باولو بعد وفاته (1901) والذي تضمن – وفقا لأخبار الصحافة العربية – أشعارا مختلفة وخمس مسرحيات ، الاشعار مكرسة أساسا لذكرى الأحداث الأليمة التي وقعت في بلاد الشام ولبنان سنة 1860 وهي دعوة صريحة للثورة على حكم الأرتاك، وقصائد تكفير واتهام للشدياق، وتجريم لليهود الذين ساهموا مع الأتراك في تدبير وتنظيم مذابح الشام، ومدائح للنصر المؤزر الذي احرزه السلاح الروسي على الأتراك في معركة قارص وغيرها.

الى هذا كله يجب التذكير بأن رزقا الله حسون كان قد ساعد كثيرا من المستشرقين في دراساتهم وأبحاثهم وفي اكتشاف وتحقيق ونشر عدة كتب من تاريخ الأدب العربي القديم (ديوان الأخطل وديوان ذي الرمة، ونقائص جرير والفرزدق وغيرها)، وقد أعد بنفسه للطبع ديوان حاتم الطائي ونشره في لندن سنة 1872.

ورزق الله حسون له مكانته البارزة والمميزة في تاريخ الفكر العربي السياسي – الاجتماعي. وقد أصاب كراتشكوفسكي الهدف حين عده "واحدا من أعظم رواد النهضة الأدبية القومية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر". وكصحافي حر طويل الباع كان له أثر جليل في صياغة الفكر السياسي العربي الليبرالي وترويجه واشاعته داخل حركة النهضة، رغم أن الصحافة في المشرق العربي كانت تنمو بوتائر سريعة من حيث الكم والكيف، ورغم أن التحولات الاجتماعية – السياسية والتغيرات الفكرية – الثقافية، وتفجر حركة التنوير العربي أصبحت في حكم الواقع الذي لا مرد له.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

كتبه

ويترك لنا ما يقرب من عشرين كتابًا في الدين المقارن واللغة والأدب، ويصفه الأستاذ حسن الزيات بأنه كان في الشعر والنثر بالنسبة لأهل زمانه سابق فريد.


1- سر الليال في القلب والإبدال.

2- الجاسوس على القاموس.

3- الساق على الساق في معرفة الفارياق.

4- الواسطة في معرفة أحوال أهل مالطة.

5- اللطيف في كل معنى ظريف.

6- كنز اللغات.

7- غنية الطالب ومنية الراغب.

8- الباكورة الشهية في نحو اللغة الإنكليزية.

9- سند الراوي في الصرف الفرنساوي.

10- منتهى العجب في خصائص لغة العرب.

11- المرآة في عكس التوراة

المصادر

  1. ^ بربارا فينكلر; ترجمة: علي مصباح. "الاستطلاعات الأدبية لأحمد فارس الشدياق". قنطرة - حوار مع العالم الإسلامي. Retrieved 2007-09-07.
  2. ^ حمدي عبد العزيز. "الشِّدْيَاق.. ناصر العربية". إسلام أون لاين . نت. Retrieved 2007-09-17.
  3. ^ نجاريان, يغيا (2005). النهضة القومية-الثقافية العربية. دمشق، سوريا: أكاديمية العلوم الأرمنية - الدار الوطنية الجديدة.