النهضة العربية

النهضة العربية، هي النهضة الثقافية التي بدأت في أواخر القرن 19 وأوائل القرن 20 في مصر، وانتقلت فيما بعد إلى المناطق العربية تحت الحكم العثماني مثل لبنان وسوريا. عادة ما تعتبر فترة التحديث والاصلاح الفكري.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

البعثات العلمية في عصر محمد علي

النهضة العربية الحديثة: حركة علي بك الكبير - التنافس الاستعماري - الحملة الفرنسية علي مصر - صعود الدولة السعودية الأولي، تأليف: عبد العزيز نوار، راندا عبد العزيز نوار.لقراءة الكتاب، اضغط على الصورة.

وجه محمد علي همته الى ايفاد البعثات المدرسية الى اوروبا ليتم الشبان المصريون دراستهم في معاهدها العلمية، وهذه الفكرة تدل على ناحية من نواحي عبقرية محمد علي باشا، فهو لم يكن يكتف بان يؤسس المدارس والمعاهد العلمية بمصر ليتلقي فيها المصريون العلوم التي تنهض بالمجتمع المصري، بل اعتزم ان ينقل الى مصر معارف اوروبا وخبرة علمائها ومهندسيها ورجال الحرب والصنائع والفنون فيها، واراد ان تضارع مصر اوروبا في مضمار التقدم العلمي والاجتماعي، فقصد من ارسال البعثات تكوين فئة من المصريين المثقفين لا يقلون عن ارقى طبقة مهذبة في اوروبا.[1]

واراد من جهة اخرى ان تجد مصر من خريجي هذه البعثات كفايتها من المعلمين في مدارسها العالية، والقواد والضباط لجيشها وبحريتها، ومهندسيها والقائمين على شؤون العمران فيها وادارة حكومتها لكي لا تكون مع الزمن عالة على اوروبا من هذه الناحية.

ولم تاملت مليا في العصر الذي نشات فيه هذه الفكرة واختلجت في نفس محمد علي، لعجبت لعبقريته كيف انبتت هذا المشروع، ففي ذلك العصر لم يفكر حاكم شرقي ولا حكومة شرقية في ايفاد مثل هذه البعثات، وهذه تركيا وسلطانها كان يملك من الحول والسلطة اكثر مما يملك محمد علي، لم تفكر حينذاك اصلا في ايفاد البعثات المدرسية الى المعاهد الاوروبية، فصدور هذه الفكرة في ذلك العصر وفي الوقت الذي كان محمد علي مشغولا فيه بمختلف الحروب والمشاريع والهواجس يدل حقيقة على عبقرية نادرة وهمة عالية.


رفاعة الطهطاوي

رفاعة الطهطاوي (1801-1873) من قادة النهضة العلمية في مصر في عصر محمد علي. كان الطهطاوي في كل أطوار حياته معلمًا ومربيًا بالفطرة والسليقة، بدأ حياته شيخًا يتحلق حوله طلبة الأزهر، وأنهى حياته معلمًا للأمة، لا يرى سبيلا لتقدمها إلا بالعلم يتاح لكل الناس لا فرق فيه بين غني وفقير أو ذكر وأنثى، وبذل من نفسه ما بذل من جهد لتحقيق هذا الغرض، ووضع الكتب والمؤلفات التي تعين على ذلك. [2]

ذهب إلى فرنسا في البعثة التي أرسلها محمد علي لتلقي العلوم الحديثة، فلم تقعد به همته عند حدود وظيفته التي كلف بها، بل سعى من أول لحظة إلى أن يقف على حضارة الغرب وثقافته، وبدأ في تعلم الفرنسية وهو على ظهر السفينة التي تقل البعثة إلى باريس. وما فعله هذا الشيخ النابه كان وليد قرار قد اعتزمه في نفسه من قبل، بفعل اتصاله بالشيخ حسن العطار الذي تتلمذ عليه وسمع منه عن علوم الفرنسيين الواسعة وفنونهم. وكان العطار قد اقترب من علماء الحملة الفرنسية وأدرك الهوة الواسعة التي اتسعت بين الغرب والعالم الإسلامي في مجال الحضارة والتقدم. ولم تكن مثل هذه الفرصة تفوت على رفاعة الطهطاوي الشغوف بالمعرفة، المحب للإصلاح، الراغب في الجديد، الداعي إلى الإحياء والتجديد. فانكب على الدرس والتحصيل والقراءة والترجمة، وتحول الإمام الفقيه إلى دارس يتعلم ويبحث، وغدا إمام البعثة أنجب المبعوثين. ولما رجع إلى الوطن أدرك ما يحتاجه البعث والنهوض فتبنى حركة الترجمة المنظمة، وأنشأ مدرسة الألسن، وبعث حياة جديدة في التعليم والصحافة.

ويرجع الفضل الأكبر للطهطاوي في تعريف المجمتع المصري على المنجزات العلمية التقنية والحضارة والمدنية الأوربية. فلم يبرء حقا أبا النهضة المصرية غير مدافع ولا منازع. كان الطهطاوي من تلامذة حسن العطار، وواحدا من مريديه في السر. وعين رئيسا إماماً لبعثة الطلال المصريين الذي أرسلوا الى باريس بتزكية من أستاذه العطار، الذي قدم له ما يلزم من النصح والارشاد فيما يخص التأد بالعلوم الأوربية، وشق طريق المستقبل ولما عاد الى الديار المصرية حاملا الشهادات الناطقة بعلمه وفضله، ولاه محمد علي منصب رئيس الترجمة في مدرسة الطب، وشهد له بقصب السبق لا في حقل الترجمة وحسب، بل في مضمار كيل المديح لباريه الكبير عزيز مصر فكان يسبح بحمد الله صبحا وعشية لارساله رجل البر والحسان الذي هداه العلي القدير لمعرفة أسباب تقدم الغرب على الشرق في شتى ميادين العلوم ، فاختاره لتخليصنا من ظلام الجهل الذي نغرف فيه في جميع ميادين المعرفة". لذلك كله اضطر الطهطاوي عموما الى التقوقع في الاطار الذي رسمه ولي أمره، ولم يستطع خلال نيف وثلاثين عاما من الجهد المضني تخطي حدود التعليم الرسمي، وهو الذي كانت نفسه صابية، ولاشك ، للتحليق في أجواء التنوير الحقيقي الاصيل. ومن هذا المنطلق ظل الطهطاوي بشير التنوير المصري، ليس غير، فكان كالزهرة الفريدة التي عجزت – في ظروف غياب المقومات الموضوعية- حتى عن رؤية تباشير الربيع المشرق الوضاء. وبهذا المعنى يقول المؤرخ أحمد: "كان نموذجا ليس بمعنى عدم وجود الكثيرين من أمثاله، بل بكونه وحيدا". أجل ظل وحيدا. رغم مثابرته على التدريس طوال حياته، لدرجة أصبح فيها نادرة عصره، ومع كل هذا فاننا لا نميل الى المغالاة في تبجيل دوره، كما فعل كل من ليفين وأحمدوف "ومن ثمة ينبغي اعتبار الطهطاوي بحث رائد التنوير العربي عامة؟" بل نتفق في الراي مع جرجي زيدان الذي عده "واحدا من أكبر أركان النهضة الأخيرة بمصر". واذا قدر لنا في سياق الكلام عن الطهطاوي ترديد التأكيد الذي أورده المستشرق عثمانوف بأنه "كان واحدا من أبرز وأعظم منوري عصره" ، فانه ينبغي علينا التذكير بأنه ظل طواله حياته منضويا في اطر التنوير المصري (لمحمد علي). ولابد لنا من الاشارة الى أن الكثيرين من الكتاب العرب – المؤرخ المصري ج. أحمد مثلا –يبدون نوعا من ضبط النفس في تقييماتهم لدور الطهطاوي، اذ يبوئونه مقاما متواضعا نسبيا في ميدان أوربة الفكر الاجتماعي السياسي العربي". وبعد أن يؤكد المؤرخ أبو لغد أن الطهطاوي "كان روح العصر في حركة الترجمة ومن أبرز المفكرين في مجال تعريف العرب بأوربة القرن التاسع عشر، يستدرك على الفور قائلا: "ولعلنا بالغنا هنا في تقدير دور الطهطاوي؟".[3]

تأثير النهضة

كتاب "الاتجاهات الفكرية عند العرب في عصر النهضة 1798-1914". انقر على الصورة لمطالعة الكتاب كاملاً.

الدين

كتب لينين في المسودة الأولية للموضوعات "حول المسألة القومية والكولونيالية" التي أعدها خلال أعمال التحضير للمؤتمر الثاني للأمعية الشيوعية. ونشرت في يونيو 1920 ما يلي: "وبشأن الأمم والبلدان الأكثر تأخرا، حيث تسود العلاقات الاقطاعية أو البطريركية – الفلاحية، يجب الأخذ بالحسبان أولا – ضرورة تأييد جميع الأحزاب الشيوعية لحركة التحرر البرجوازية، ثانيا – ضرورة الكفاح ضد العناصر الاقطاعية – الإكليركية وغيرها من القوى الرجعية ذات النزعة القروسطية، وذوي النفوذ والتأثير في البلدان التي تحاول توحيد الحركة التحررية المعادية للإمبريالية الأوربية والأمريكية بتعزيز مواقع الخانات والاقطاعيين والملالي ومن لف لفهم"؟

نشير بادائ ذي بدء الى أن نزعة الجامعة الإسلامية تكونت بوصفها مذهبا متكاملا منذ مطلع الستينات على يد أحمد فارس الشدياق الذي نسج خيوطها طوال خمسة أعوام من الجهد المتواصل، وطرح أفكارها على الساحة، فسارع الى تبنيها مباشرة المثقفون الأتراك وغير الأتراك المتفانون في خدمة السلطان في فترة الثمانينيات والتسعينيات يوم تسلم جمال الدين الأفغاني دفة القيادة في حركة الجامعة الإسلامية التي واصلت مسيرتها حتى صاغ لينين آراءه فيها كما ذكرنا عام 1920. مختصر القول: تعرضت نزعة الجامعة الإسلامية على الصعيدين النظري والتطبيقي خلال ستين عاما الى تحولات وتغيرات عديدة في أشكالها وطرائقها دون المساس بجوهرها الأساسي. والوصف العام الذي أطلقه لينين على جوهر الجامعة الإسلامية ينسحب على جميع الداعين والمبشرين بها، والمؤيدين والمناصرين لها، الأمر الذي تجلى بوضوح ما بعده وضوح في التوصيات الموجهة من لينين الى جميع الأحزاب الشيوعية حول ضرورة الكفاح ضد أتباع وأنصار الجامعة الإسلامية . ومن هذه التوصيات نستنتج بكل سهولة أن لينين عد نظرية الجامعة الإسلامية جزءا لا يتجزأ من الفكر الرجعي، وما كان بالامكان أن يحدث غير ذلك يوم استغلت الامبريالية الألمانية فكرة الجامعة الإسلامية بشكل ماهر منقطع النظير ابان الحرب العالمية الأولى (أي أنها أسدت خدمات لا تقدر بالنسبة للامبريالية الألمانية) فحولتها الى سلاح ماض في أيدي الأعداء الذين مارسوا نشاطا معاديا لدولة العمال والفلاحين الفتية.

هذه الجوانب الجوهرية في الجامعة الإسلامية تعرضت الى المداورة والمناورة الغريبتين في الأدبيات الاستشراقية السوفيتية. واليكم بعض الأمثلة عن هذا الف والدوران الناجمين عن التعامي عن المقولة اللينينة الواضحة وضوح الشمس في رائعة النهار. وهو ما دفع بعض مستشرقينا الى استنتاجات خاطئة ورؤية قصيرة النظر بشأن مسألة "الازدواجة" الموجودة في فعالية أتباع الجامعة الإسلامية، وبالتالي أـباع الطابع "الازدواجي" على أفكار الجامعة الإسلامية عامة. وسبب الالتباس – كما يزعمون – عائد الى تأكيد لينني جانبين أساسيين مرتبطين بأهداف الجامعة الإسلامية، الأول: الجانب التقدمي المتمثل في "الحركة التحررية المناهضة للإمبريالية الأوربية والأمريكية"، والثاني: الجانب الرجعي المتجسد في اتعزيز مواقع الخانات والاقطاعيين والملالي ومن لف لفهم.

اذا كانت مثل هذه الادعاءات والأحكام حول طبيعة التناقض أو الازدواجية في أفكار الجامعة الإسلامية تجد لها المبررات في فترة ما قبل الحرب العالمية الأولى وبعيد قيام ثورة أكتوبر، لأنها لم تكن بعد قد اقطلعت على الموضوعات اللينينية، فان اضفاء الطابع العلمي على أمثال هاتيك التقييمات عن الجامعة الإسلامية كأيديولوجية وحركة سياسية (خصوصا في طور نشوئها ونشاطها في البيئة العربية) هو تشويه فاضح لحقائق التاريخ. ويرجع ذلك لسبب بسيط جدا وهو أن الهدف الأساسي للجامعة الإسلامية – بدءا من ظهورها – يتركز في الحفاظ على النمط الاقطاعي البالي وفي استمرارية الحكم الاقطاعي الارستقراطي ضمن كيانات إسلامية تابعة للهيمنة العثمانية. وهذا لا يعني فقط الدعوة الى توطيد وديمومة "الوطن العثماني" المهتز الأركان والبنيان وحكم الخليفة – السلطان – وهو أمر مطابق كلية لأهداف النزعة العثمانية – بل وتوسيع حدوده الشمالية ليشمل الشعوب الإسلامية كافة (وهو الهدف الأسمى والنهائي للجامعة الإسلامية) وتوحيدها في إمبراطورية قوية واسعة الأرجاء. مختصر القول: اذا كانت نزعة الجامعة العثمانية تحمل طابعا "رسميا" ، فان نزعة الجامعة الاسلامية تتسم بطابع عدواني سافر مغال في التطرف والرجعية.

يبنغي التشديد خاصة على أن الجامعة الإسلامية كمذهب ديني فكري سياسي وكحركة ذات توجه معاد موضوعيا للبرجوازية والنزعة القومية . واذن لحركة النهضة العربية موضوع هذا البحث. وما يستوقفنا حيال هذا الموضوع الاعتراض الذي أبداه زين نور الدين ازاء أية محاولة رامية لاضفاء صبغة سياسية قومية على مفهوم اليقظة العربية، وذلك بحكم رؤيته للأوضاع السائدة في الفكر العثماني الذي يعده أدنى مستوى من نزعة الجامعة الإسلامية السائدة في أجواء الفكر العربي. فيقول: "هناك نقطة هامة جدا وهي أن القادة المسلمين آنذاك كانوا يرتؤون تحذير العرب من مغبة الغزو الأوربي والاستعداد للوقوف في وجهه، بدلا من تشجيعهم على اسقاط النظام التركي . فقد بقي الزعماء العرب وغالبية السكان في الشرق الأدنى على وفائهم واخلاصهم للسلطة العثمانية، ولم يفكروا أبدا بمسألة اضعاف الامبراطورية الإسلامية الوحيدة العزيزة الجانب". وبمعنى آخرن: ان مفهوم – اليقظة العربية – الذي اجتهدوا كثيرا لاشتقاقه، كان في البداية يعني "يقظة" ضد استثمار النظام التركي وفساده واستبداده، ويعني ثانيا: أماني وآمالا في اصلاحه وترشيده، أي القضاء على فساد الادارة واعطاء العرب حقوقا سلبها الأتراك، وتقديم المزيد من الحريات السياسية والمدنية. أما خيار الانفصال عن الدولة العثمانية أو تشكيل دولة عربية مستقلة ذات سيادة، فلم يكن يخطر ببال الغالبية العظمى من المسلمين، لا بصفة رغبة وأمنية، ولا بصفة ضرورة وامكانية".

جمال الدين الأفغاني

السيد جمال الدين الأفغاني دعا للوحدة الإسلامية لمواجهة النفوذ الأوروبي المسيحي المتزايد.

الأدبيات الاستشراقية تربط غالبا صيرورة فكرة الجامعة الإسلامية وسيرورتها باسم جمال الدين الأفغاني. فاذا صح هذا القول جزئيا – كما سنرى – فان التأكيد الحازم بأن الأفغاني كان في الوقت ذاته الرائد الأول لحركة الاصلاح الإسلامي – فان هذا الزعم عار عن الحقيقة تقريبا.

تلقى الأفغاني علومه النقلية والعقلية في كابل على أشهر الأساتذة كما يليق من سليل بيت عريق. وهو لم يتقن الكثير من اللغات وحسب (تعلمها خلال أسفاره وتنقلاته الكثيرة وهي الأفغانية، الفارسية، العربية، التركية، الفرنسية، الإنكليزية، الروسية) بل تبحر في علوم الشريعة كالتفسير والحديث والفقه والكلام والتصوف، والفلسفة والمنطق والتاريخ، والرياضيات والعلوم السياسية والفلك والطب وغيرها. انتقل سنة 1856 الى الهند، حيث أتقن العلوم الرياضية على الطريقة الأوربية. وفي عام 1857 سافر إلى الحجاز لأداء فريضة الحج .

أمضى العقود الثلاثة الأولى من حياته في أفغانستان. فانتظم في سلك خدمة الحكومة مدى احى عشرة سنة على عهد الأمير دوست محمد خان، تنقل خلالها في كثير من بلدان الشرق الأوسط لاداء مهمات متباينة.

في تلك الفترة بالذات أي في مطلع الستينيات (وليس كما يزعم بعض الكتاب في مطلع السبعينيات) طرح الأفغاني مشروع توحيد الشعوب الإسلامية سياسية واداريا في اتحاد يضم بلاد الأفغان وبلوجستان وكاشكار وباركاند وبخارى وقوقندا. ذلك المشروع الذي ارتبط تحقيقه بارادة ومشيئة السلطان التركي فضلا عن المساعدات المادية التي وجب أن يقدمها أغنياء المسلمين في الهند.

تجدر الاشارة الى أن مذهب الجامعة الاسلامية لم يكن قد اكتمل بعد في ذهن الأفغاني وفي ممارساته العملية على نحو يتلاءم ويخدم مآرب السلطان عبد الحميد ومصالحه هو وبطانته من الأمراء والوزراء ورجال الدولة، فالسيد الأفغاني أخذ بعد ستة شهور من وصوله على اسطنبول يتردد على "دار الفنون" حيث ارتجل في كانون الأول (ديسمبر) 1870 خطبة عنوانها "ارتقاء العلوم والصناعات" . ان بسط الشراع أمام رياح التنوير التي كانت تهب على العاصمة بهذا القدر أو ذاك، حتى ولو قام به شخص يتصل حبل نسبه بأسرة الرسول، قد يبدو نوعا من الغواية البريئة أو نزوة عابرة على أبعد تقدير. غير أن محاضرة السيد عدت أشبه بانحراف كامل عن الهالة القدسية المعقودة حول الفقه الاسلامي ، فهو مثلا يقدر عاليا دور العلماء ورسالتهم ، ويدمج النبوة في عداد الصناعات المعنوية، ويخلص الى القول ان وصايا الأنبياء تتعرض لتقلبات الزمان والمكان ، بينما الاكتشافات والاختراعات العلمية تحافظ على ديمومتها وخلودها. ومن ثم يعلن الأفغاني على رؤوس الأشهاد قائلا: "ونحن لا نحتاج الى الأنبياء في كل آن ومكان، بينما نحتاج الى العلماء في كل مكان وزمان، كي ينقذوا البشرية من ظلام الجهل ويسيروا بها الى مراقي التقدم والرقي والازدهار".


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

أحمد فارس الشدياق

أحمد فارس الشدياق (1804-1887) صحفي لبناني كان يصدر صحيفة الجوائب في إسطنبول. هاجم أحمد عرابي ووصفة بالعاصي. من ألمع الرحالة العرب الذين سافروا إلى أوروبا خلال القرن التاسع عشر. كان الكاتب والصحفي واللغوي والمترجم الذي أصدر أول صحيفة عربية مستقلة بعنوان الجوائب مثقفا لامعا وعقلا صداميا مناوشا أيضاً. تحول أكثر من مرة بين المسيحية والإسلام. عاش في انجلترا ومالطة.

كانت لهذا الرجل الذي عاصر ڤكتور هوگو وگوستاف فلوبير وإدجار ألن بو وتشارلز ديكنز اتصالات بمستشرقين ومثقفين أوروبيين وكذلك بمفكرين إصلاحيين عرب. وكمتمكن بارع في اللغة العربية، متمرس بفن البلاغة وبدقائق القاموس اللغوي، فقد كان في الوقت ذاته أحد أهم مجدديها. [4]

ساهم مساهمة فعّالة في تطوير لغة صحفية حديثة منقّاة من البلاغة الزائدة. وصقل العديد من المصطلحات الحديثة مثل عبارة الإشتراكية التي أضافها إلى اللغة العربية. لقد عاش الشدياق حياة مليئة بالحركة على نحو خارق للعادة التي سنورد هنا بعضاً من جوانبهاعلى سبيل الذكر لا الحصر.

ومهما يكن من أمر ، فالشدياق لعب دورا كبيرا في تطوير الأدب السياسي الاجتماعي العربي الذي تجلى في "كنز الرغائب في منتخبات الجوائب" الذي جمعه ابنه سليم الشدياق في سبعة مجلدات شملت انفس ما نشرته هذه الجريدة من منشور ومنظوم في حقول الأدب والسياسة والعلم والاجتماع والتاريخ وحوادث الكون (الأستانة 1871-1881). كان الشدياق جبار الأدب العربي الحديث في نثره المبتكر، ولاسيما في كتابي "الفصول اللطيفة والمقالات الظريفة" و"المقامات الأدبية"، حيث يبرز وحيد عصره في كتابة المقامات . كان مارون عبود أحد أعظم نقاد العرب في كتابه "صقر لبنان" الذي يبحث في تاريخ النهضة الأدبية الحديثة، قد نعت الشدياق بصقر لبنان تشبها بصقر قريش الذي شيد للعرب دولة في الأندلس. والشدياق زعيم المجددين في العلون اللغوية وآداب العربية. كانت له سجلات ومنظارات عظيمة مع المعلم بطرس البستاني وناصيف اليازجي وابنه ابراهيم اليازجي وغيرهم من الرواد العظام الذين قدموا خدمات جليلة لآداب العرب. وقد خص كل من المؤرخ كمال الصليبي والأديب ميخائيل صوايا، الشدياق بمركز الريادة بوصفه ركنا من أركان النهضة الأدبية في العصر الحديث. أما جرجي زيدان فوصفه بأنه "من أركان النهضة العلمية الأخيرة" ثم استطرد قائلا: "كان متبحرا في علوم اللغة، وله قريحة شعرية، ولكنه امتاز بمعرفته الواسعة في مواد اللغة وسهولة أسلوبه في الانشاء". ويجب الاقرار أيضا بأن الشدياق له خدما جلى في ميدان أحياء التراث ونشر وتحقيق وضبط نيف وعشرين كتبا في أواسط الثمانينات وتقديمها للقارئ العربي . حقا ان اختياره لمناهل التراث لم يكن هادفا دائما، فالى جانب المصادر التي توقظ الشعور بالفخر ضد العرب، كان يكثر من نشر الكتب التي تهم قليلا من المختصين بعلوم اللغة وعلى كل حال، كان الشدياق صاحب الفضل في تعريف العرب بعيون الفكر العربي الأصيل.

الدور المسيحي

سليم تقلا، إعلامي لبناني الأصل ومؤسس جريدة الأهرام.

أما في عصر النهضة العربية الحديثة، فقد اضطلع المفكرون والأدباء المسيحيون بدور متميز في الثقافة العربية الإسلامية وكانوا أول من رفع لواء القومية العربية عاليا ضد حملة حركة التتريك العثمانية. وهكذا فقد حافظوا على اللغة العربية وآدابها، وبادروا إلى وضع المعاجم المفصلة للغة العربية . ونذكر من جملة هؤلاء البارزين، على سبيل المثال، المعلم بطرس البستاني مؤسس أول مدرسة عربية حديثة، وأول معجم عربي مطول حديث باسم "محيط المحيط"، الذي يحتوي على مفردات القاموس المحيط للفيروزابادي، بالإضافة إلى ما استجد في اللغة العربية من ألفاظ ومصلحات حديثة، فضلا أول موسوعة عربية جامعة، منذ عام 1875، دائرة المعارف، وأول صحيفة عربية راقية اسمها نفير سورية. كما أنشأ الأب لويس معلوف أول معجم عربي مختصر اسمه "المنجد" بمجلد واحد، كان وما يزال مرجعا ضروريا لجميع الدارسين والكـُتاب العرب، لاسيما قبل صدور المعجم الوسيط. وأتذكر أن هذا المعجم هو المفضل لدى والدي، وقدعلمني منه كيفية البحث عن معنى الكلمة المبهمة. ومن هؤلاء المسيحيين الذين قدموا عطاءات ثمينة للمكتبة العربية أذكر بكل اعتزاز؛ جورجي زيدان مؤسس مجلة الهلال الغراء في عام 1892، التي ماتزال تصدر في القاهرة، ومؤلف العديد من الكتب ومنها أول كتاب في تاريخ العرب قبل الإسلام.[5] وهو أول من حاول إعادة كتابة التاريخ العربي الإسلامي، من خلال تدبيج الروايات التاريخية الرائعة ذات المغزى العميق والأسلوب الرقيق . ومنهم العالم الكبير شبلي شميل، وسليم تقلا مؤسس صحيفة الأهرام منذ عام 1875، ويعقوب صروف، وفارس نمر من مؤسسي المجلة الذائعة الصيت، مجلة المقتطف التي تخصصت في البحوث العلمية والفكرية والأدبية الراقية، وذلك منذ عام 1876. ومنهم ناصيف اليازجي وابراهيم اليازجي (1847- 1871) صاحب القصيدة المشهورة التي تشير بعض أبياتها إلى مدى حماس هذا الشاعر الموهوب لقضية الأمة العربية، وغفلة العرب عن خطورة ما تتعرض له بلدانهم من خراب ودمار، مادي ومعنوي. ومن بعض الأبيات:

تنبهوا واستـفـيـقـوا أيـــها العربُ فقد طغى الخطبُ حتى غاصتْ الرُكبُ
فِيمَ 'التـّــعَـلّـُـلُ بِالآمَـال تَخْدَعُـكـُم وَأَنـْـتـُــمُ بَيْنَ 'رَاحَاتِ 'القَنَـا 'سُلـبُ
اللهُ أَكْبَـرُ مَا هَـذَا 'المَنَـامُ فَقَـدْ شَكَاكـُـمُ 'المَهْدُ 'وَاشْـتــاقَـتـْـكُمُ 'التــُّـرَبُ
كَمْ تـُظْـلَمُونَ وَلَستـُمْ 'تَشْـتَكُونَ 'وَكَمْ تـُسْـتَغـْـضَبُونَ 'فَلا 'يَبْدُو 'لَكُمْ 'غَضَـبُ
أَلِفـْتـُمُ الْهَوْنَ حَتى صَارَ عِنـْدَكُمُ طَبْعَاً 'وَبَعْـضُ 'طِبَـاعِ 'الْمَرْءِ مُكـْتـَـسَـبُ
وَفَارَقَـتـْكـُمْ 'لِطُولِ 'الذ ُلِّ نَخْوَتـُـكُم فَلَيْسَ 'يُؤْلِمُكُمْ 'خَسْفٌ 'وَلا 'عَطـبُ
فَصَاحِبُ الأَرْضِ مِنْكُمْ ضِمْنَ 'ضَيْعَتِه مُسْتَخْـدَمٌ 'وَرَبِيبُ 'الدَّارِ' 'مُغْـتـَـرِبُ

ومع مرور قرابة قرن ونصف على هذه القصيدة، نلاحظ أنها ما تزال تنطبق بكل أسف على حال العرب، مما يدل على أننا لم نتقدم قيد أنملة ، بل ما تزال معضلاتنا تتفاقم وبلدنا يضيع، بسبب ضعفنا على مختلف المستويات وتخلفنا الحضاري.

وفي مطلع العشرينيات من القرن العشرين تشكلت الرابطة القلمية في نيويورك، على أكتاف نخبة من المسيحين المهاجرين من بلاد الشام، حيث فجرت أول حركة فكرية أدبية عربية في العالم الغربي، انتقلت إلى الوطن العربي فشكلت ثورة أدبية طورت اللغة العربية . فقد أصبحت أعمال جبران خليل جبران، أبرز أعضائها، تتصدر واجهات مختلف مكتبات أمريكا وأوروبا، منذ ذلك العصر حتى الآن، باعتبارها من عيون الأدب العالمي. ومن أعضائها الكاتب المعروف ميخائيل نعيمة وعبد المسيح حداد ورشيد أيوب وندرة حداد ونسيب عريضة ووليم كاتسفليس. وكانت تنشر أعمالها في مجلة الفنون وصحيفة السائح.

الأدب

تمثال أحمد شوقي في ڤيلا بورگيز، روما.


الإعلام

لو ضربنا صفحا عن الصحف الرسمية التي أصدرها نابليون ومحمد علي في مصر، وجريدة "المبشر" التي اصدرها الفرنسيون في الجزائر سنة 1847، أي الجرائد المعلوماتية الجافة الركيكة، فانه ينبغي القول ان نشوء الصحافة العربية الحديثة وتكوين الفكر الاجتماعي – السياسي الليبرالي، ارتبطا ارتباطا عضويا ومباشرا بنشاط أعلام النهضة العربية، وشكلا معلما مميزا على طريق تحول النهضة الحديثة الى درجة أرقى وأرفع ونعني بها مرحلة التنوير العربي.

ولنسارع الى تأكيد أن قصب السبق في وضع حجر الزاوية في بنيان الصحافة العربية الحرة، واضفاء الطابع التنويري على النهضة الثقافية – القومية، وظهور بوادر الوعي القومي العربي يرجع الى الرائد رزق الله حسون (1823-1880) الحلبي المولد، الأرمني المحتد، الذي نعته المؤرخ العلامة فيليب الطرزي بقوله: "يمكننا أن نسميه بكل حق جد الصحافيين في اللسان العربي على الاطلاق". ووصفه كل من كراتشكوفسكي وجرجي زيدان بأنه "الرائد الذي لا ينازع في الصحافة العربية السياسية الحرة غير الرسمية".

في 4 نوفمبر 1821، افتتح محمد علي لأول مرة في مصر دارا للطباعة بمساعدة الخبراء الأجانب، وعلى أساس آلات الطباعة التي خلفتها البعثة العلمية الفرنسية. وقد تسلم ادارة المطبعة نقولا مسابكي السوري الاصل، الذي ارسل خصيصا الى ايطاليا لدراسة فن الطباعة (1815-1820). صارت المطبعة تنشر الكتب المدرسي في شتى حقول العلم والمعرفة باللغة العربية والفارسية والتركية. بادئ ذي بدء كانت الترجمة تتم على أيدي شبان عديمي الخبرة في ميدان التجرمة ، ثم تسلم الى المحريين والمصحيين ممن امتازوا في علم اللسان وصناعة البيان، فيبذلون جهودا جبارة لاصدارها، وكان المحرر المسؤول في مقدمة هؤلاء الثقات.

جريدة الوقائع المصرية

جريدة الوقائع المصرية هي أول جريدة مصرية وعربية وإسلامية تصدر باللغة العربية كما صدرت أيضا باللغة التركية.

أسس جريدة الوقائع المصرية الوالي محمد علي في القاهرة عام 1828م، وصدر العدد الأول في 3 ديسمبر عام 1828م وكانت توزع على موظفي الدولة وضباط الجيش وطلاب البعثات.

وفي العام 1842م قام رفاعة الطهطاوي بتطوير الجريدة من حيث الشكل والمضمون والأسلوب، لدرجة أثارت حفيظة رجال الدولة وخشيتهم مما كان سببا في نفي رفاعة الطهطاوي إلى السودان، وجعل رفاعة الأخبار المصرية المادة الأساسية بدلاً من التركية، وهو أول من أحيا المقال السياسي عبر افتتاحيته في جريدة الوقائع، وفي عهده أصبح للجريدة محررون من الكتاب.[6]

وفي عهد الخديوي سعيد باشا توقفت الصحيفة بين عامي 1854 و1863، ومع بدء الاحتلال البريطاني لمصر ابتداء من سنة 1882م تحولَّت الوقائع المصرية من صحيفة حكومية إلى صحيفة شعبية يومية على يد الشيخ محمد عبده، فقد عهد اليه رياض باشا في عام 1880م مهمة إصلاح جريدة الوقائع المصرية، ومكث في هذا العمل نحو ثمانية عشر شهراً، نجح أثناءها في أن يجعل من الجريدة منبرا للدعوة للإصلاح، والعناية بالتعليم.

تعتبر الهيئة الناشر للجريدة الرسمية والوقائع المصرية وهى أقدم صحيفة مصرية بل وأقدم صحف الشرق الأوسط يزيد عمرها عن 179عام وقد ساهم في تحريرها وقتئذ قادة الحركة الفكرية في البلاد.


اللغة

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

السياسة

فيما يخص الأفق السياسي والاداري، وبالتالي المهام الفكرية والتدابير الثقافية التي وضعها محمد علي نصب عينيه ابان الحكم المصري على سورية (لبنان) فان البرجوازية اللبنانية المسيحية (والبيروتية خاصة) اتخذت موقفا عدائيا منها. وانطلاقا من هذا الموقف اتخذ منظرو البرجوازية موقفا مشابها تماما ازاء مسألة تقييم اعادة الحكم التركي المباشر الى البلاد، وبالتالي نحو كل الفعاليات الفكرية، الثقافية التي صبت في قنوات تعزيز أركانه.

ومن نافل القول ان الدافع الاساسي لاتخاذ ذلك الموقف السلبي لم يكن نابعا فقط من طبيعة النظام الاقطاعي الفاسد والجائر الذي أصاب جميع العرب بدرجات متفاوتة، وليس من الاستبداد المذهبي اليومي الناجم عن ممارسة سياسة اللامساواة والتفرقة القومية، وهي لعمري ظاهرة مألوفة بكل سلبياتها وعيوبها التي عاناها المسيحيون السوريون قاطبة بغض النظر عن انتماءاتهم الفئوية – الطبقية في المجتمع. الحافز الرئيسي في اعتقادنا يرجع الى ارساء أسس النظام الطائفي أو الصيغة الطائفية في صلب البنية الاجتماعية الاقتصادية التي تزامنت مع اعادة الحكم التركي المقيت. هذه الصيغة الطائفية هي التي جلبت الكوارث للبنان عبر التاريخ مع استمرار النظام القديم الذي عفا عليه الزمان.

من الجلي أن تنظيم السكان في لبنان لا على أسس اقليمية أو لغوية أو غيرها، وانما على أساس ديني مذهبي بحت، أدى بالضرورة الى وضع الطائفة السنية في موقع الصدارة من ذلك الكيان. فهو مبدأ توارثه العثمانيون الأتراك مع لقب الخلافة من وحي الدين الاسلامي. حقا ان هذا المبدأ تعرض لبعض العديل تمثل في تسلم الأتراك السنة بدلا من العرب السنة المواقع القيادية العليا في الحياة الاجتماعية السياسية (اضافة الى السيطرة شبه الكاملة في ميدان علاقات الانتاج الاقطاعي)، هذا التحول الذي تأقلم عليه السكان المحليون تدريجيا.

ومع ترسخ حكم محمد علي وتجذره واصل المبدأ المشار اليه فعاليته في الحياة اليومية لسكان مصر، ولكنه فقد قوته القانونية في الحياة الادارية – السياسية والاجتماعية – الاقتصادية في القاهرة عينها، لدرجة أكد فيها الجبرتي أن صفوة نائب الملك مؤلفة أساسا من النصارى أعداء الدين، غالبيتهم من الأرمن والأقوام الأخرى.

لقد تعرض هذا المبدأ لامتحان أشد وطأة في سورية ابان الحكم المصري، اذ أصبح في خبر كان خلال وقت يسير. ومن الحوافز التي أدت الى تلاشي هذا المبدأ أن الغالبية العظمى من السكان في سورية كانوا من أهل السنة ، الذين عدوا محمد علي واحدا من المتمردين على ادارة السلطان – الخليفة، فشكلوا جبهة مقاومة للمصريين تزعمها الاقطاعيون الرجعيون المحافظون.

بينما انضمت الطوائف النصرانية بزعامة القوى البرجوازية الطليعية الى معسكر مؤيدي وأنصار اصلاحات محمد علي التي باشرها بأسرع ما يمكن. في مثل هذه الظروف بطل مفعول مبدأ فرز السكان في سورية على أساس ديني – مذهبي من قبل السلطة الحاكمة، فنظر اليهم على أنهم مجموعة من الرعايا المتساوي الحقوق، الأمر الذي لعب دورا كبيرا في تعزيز مواقع الأوساط البرجوازية المسيحية على الصعيد الاقتصادي – الاجتماعي، وأدى بالتالي الى انعاش دور النصارى في الحياة السياسية – الادارية لهذا الاقليم.

ولكن، ما ان عاد الحكم التركي المباشر على سورية حتى تحول المبدأ الطائفي القديم الى قانون مقدس، أثار قلق اللبنانين عامة، والبرجوازية البيروتية المسيحية خاصة، كل ما في الأمر أن الكفاح المشترك ضد الأتراك في العقد الأول من القرن التاسع عشر، والمساعي الحثيثة التي بذلها كبار الأعيان والاقطاعيون الوطنيون من النصارى والمسلمين في سبيل توقيف فيسفساء متناسقة من شتى الطوائف اللبنانية، كانت قد تكللت بالظفر، وفي الأربعينيات عقدت الأوساط البرجوازية الآمال العظام على ترسيخ التآلف وتعميق التضامن والارتقاء بهما الى مستوى أرقى وأكمل من الرؤية القومية – الوطنية. لكن المذابح الطائفية التي لم يشهد لبنان نظيرا لها من قبل وسميت الفيسفساء الجديد بميسمها الديني المذهبي التفاخري . ان الطائفية اللبنانية التي أذكى نيرانها كل من السلطات التركية والدبلوماسية الغربية والارستقراطية المحلية الدينية والدنيوية، نالت زهما قويا من جراء تطبيق المبدأ الطائفي الاسلامي التركي، الذي أصطنع حواجز بين الطوائف اللبنانية تهدد باستحالة القفز من فوقها، الأمر الذي لا يتلاءم بالطبع مع حسابات البرجوازية اللبنانية.

وليس هذا فقط، ان اعادة الاعتبار للمبدأ الديني – المذهبي الاسلامي – العثماني الى صلب الهيكلية الاجتماعية، قد أعاد النصارى الى موقعهم المهيمن الذي وضعوا فيه خلال القرون السالفة، أي أصبحوا على هامشية الحياة الاجتماعية والسياسية. ولكونه تجليا مألوفا من الاضطهاد القومي – الديني عبر آلاف السنين، فان النصارى في سورية عامة ويضمنهم ممثلو الاقطاع الديني والزمني، لم يظهروا قلقا كبيرا . بيد أن ذلك آثار حفيظة البرجوازية المسيحية التي كانت في طريق صيرورتها طبقة اجتماعية مستقلة، الطبقة التي كان قبولها بالأمر الواقع يعني الزج بها في عقر دارها على هامشية الحياة الاجتماعية وتحجيم دورها الفعال وتقزيم قدراتها وطاقاتها وعرقلتها عن الاضطلاع بواجبها التاريخي في الحياة الاجتماعية – الاقتصادية لشعبها، ويحد من تطلعاتها وطموحاتها في المجالين السياسي الدولتي.

وهنا بالذات يكمن الجواب عن التساؤل التالي الذي قد يبدو غريبا للوهلة الأولى: لماذا كانت البرجوازية المسيحية البيروتية والشامية (وكذلك الجبلية) في طليعة الفئات السكانية الأخرى النصرانية والاسلامية، التي تمسكت بأهداب النزعة العثمانية في وقت لم يتم بعد الاعلان رسميا عن ولادة هذا المذهب السياسي الرامي الى القيام بدور البلسم الشافي لانقاذ الامبراطورية العثمانية من الدمار المحتم، ولم تكن قد نالت بعد شكلا متكاملا حتى في البيئة التركية ذاته؟!. والأشد غرابة في هذا السؤال أن المفكرين البرجوازيين المسيحيين تعلقوا بالعثمانية تعلقا أشد وأعظم من رجال الاقطاع والموظفين الأتراك ذويي النزعة الاصلاحية ومن المفكرين العرب المسلمين الذين كانوا يقتاتون من مخلفات الزاد الفكري الروحي التركي الغث. علاوة على انهم اضطلعوا باعباء الدعوة الرامية لاقناع غير الأتراك والمسلمين عامة والرعايا من أهل الذمة بالتراجع عن المطالبة بحقوقهم القومية ، والعزوف عن التيارات الانفصالية الموالية لأوربة، فضلا عن اسهامهم الفعال في استكمال عناصر ومكونات الأيديولوجية الجديدة التي عرفت تاريخيا بأسماء مختلفة أهمها النزعة العثمانية ، العثمانلي، الوحدة العثمانية، الاتحاد العثماني.

المصادر

  1. ^ الرافعي, عبد الرحمن (2009). عصر محمد علي. القاهرة، مصر: دار المعارف. {{cite book}}: Cite has empty unknown parameter: |coauthors= (help)
  2. ^ اسلام أون لاين
  3. ^
  4. ^ بربارا فينكلر; ترجمة: علي مصباح. "الاستطلاعات الأدبية لأحمد فارس الشدياق". قنطرة - حوار مع العالم الإسلامي. Retrieved 2007-09-07.
  5. ^ "دور المسيحيين في الثقافة والحضارة العربية الإسلامية". مدونات المعرفة، علاء الدين الأعرجي. 2009-09-01. Retrieved 2013-07-23.
  6. ^ نجاريان, يغيا (2005). النهضة القومية-الثقافية العربية. دمشق، سوريا: أكاديمية العلوم الأرمنية - الدار الوطنية الجديدة.
خطأ استشهاد: الوسم <ref> المعرف في <references> ليس له خاصة اسم.

قراءات إضافية

وصلات خارجية