أديب إسحاق

أديب إسحاق (12721302 هـ، 18561885م). أديب لبناني، دمشقي المولد، أرمني الأصل بيروتي النشأة ، أحد الشخصيات البارزة في حركة النهضة القومية – الثقافية والتنوير العربي، وأول مناد حقيقي بالنزعة القومية العربية. وقد وصفه الكاتب العربي ناجي علوش الذي جمع آثاره السياسية والاجتماعية بقوله: "أديب اسحق هو أحد الرواد الطلائع في النهضة الأدبية السياسية في القرن التاسع عشر، وهو من أبرز هؤلاء الرواد" . ونعته المستشرق السوفييتي كوتلوف قائلا: "أديب اسحاق رائد الفكر القومي العربي".

عاش تسعًا وعشرين سنة قضاها بالعمل النشيط في الصحافة والأدب. ظهرت عليه بوادر النبوغ في النظم والنثر في سن مبكرة وهو لم يتجاوز الثانية عشرة. ترك المدرسة وهو في الحادية عشرة وعمل في الجمارك كاتبًا، ودرس اللغة التركية أثناء ذلك وأجادها في بضعة أشهر. تنقل في الوظائف الحكومية في بيروت، ولكن رغبته ظلت معلقة بالكتابة، فاعتزل العمل الحكومي وتفرغ للكتابة في الصحف، مما أكسبه شهرة واسعة بين القراء بسبب روعة أسلوبه وقوة عبارته.

انتقل أديب إسحاق إلى مصر سنة 1876م وساعد صديقه سليم النقاش في تقديم بعض البرامج المسرحية في الإسكندرية. وكان في القاهرة آنذاك جمال الدين الأفغاني فسافر إليه أديب إسحاق وانضم إلى حلقته، فشجعه على احتراف الصحافة ومحاربة الظلم والتخلف، فأصدر صحيفة مصر سنة 1877م ثم أصدر في الإسكندرية صحيفة التجارة بالاشتراك مع صديقه سليم النقاش سنة 1878م، ولكن الصحيفتين ألغيتا بسبب اتجاههما التحرري المناهض للأجانب.

انتقل أديب إسحاق إلى باريس سنة 1879م وأصدر فيها جريدة مصر القاهرة، ثم مالبث أن عاد إلى بيروت مريضاً بداء الصدر، ثم انتقل إلى مصر ولكنه رجع إلى لبنان وعمل بالصحافة بعد اندلاع الثورة العرابية، ثم ألجأه المرض إلى الاعتزال حتى توفي في بيروت سنة 1885م ولم يكمل عقده الثالث.

تنحصر آثاره في المقالات التي كتبها أو ترجمها، إضافة إلى بعض ما ترجمه من كتب عن الفرنسية مثل: آندروماك، وشارلمان، والباريسية الحسناء. وقد جمعت مقالاته وأشعاره في كتاب الدرر الذي طُبِع أكثر من مرة.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

حياته

نذر نفسه في سن مبكرة للاشتغال بفن الكتابة. كان في ربيعه الثامن عشر يوم تسلم قيادة أول جمعية عربية أدبية اجتماعية سياسية: "جمعية زهرة الآداب"، ونشر أول كتاب من نفثات قلمه، وحرر في جريدة "التقدم" الذائعة الشهرة ، وهز بيده مهد أول جريدة عربية معادية للأتراك. وفي التاسعة عشرة شارك في وضع أول موسوعة عربية، وعرف العرب على المسرح الأوربي الكلاسيكي ، فكان مؤسس ومدير أول مسرح عربي محترف. وفي الحادية والعشرين احتل مكانة بارزة بين المناضلين في سبيل التقدم الحضاري والسياسي للشعوب العربية، وبين رجالات الحركة الوطنية المصرية، وفي الثالثة والشعرين نجرع مرارة النفي السياسي بشجاعة منقطعة النظير، فزادته الخطوب قوة واندفاعا في كفاحه العنيد العتيد. وفي السادسة والعشرين حمل القلم والسيف مقارعا الاستعمار الدخيل، فاعتقل الى حين، ثم عذب وشرد ونفي مرارا، فتعرضت صحته للمؤثرات واشتد عليه الداء، وضاقت عليه سعة العمر فوافته المنية بتاريخ 12 حزيران (يونيو) 1885 في قرية الحدث بلبنان، وله من العمر عمر القمر ، فما اكتمل حتى امحق.[1]

وعن هذا الموضوع كتب ليفين يقول: "وكانت حياة أديب اسحاق قصيرة ولكنها حياة مناضل من أجل الحرية، وحياة مدافع عن الدستور والحقوق الشعبية. واذن، ليس مصادفة أن الرجعية الاقطاعية والاكليروس أعلنا ضده حربا سافرة في حياته وبعد مماته. اذ حالا لعدة أيام دون مواراة جثمانه الطاهر الثرى، ونظما هجوما بربريا على بيت والده، وهذا لعمري انتهاك فاضح لأبسط حقوق الانسان ولابسط قواعد الحكمة الالهية الخالدة. كيف لا وقد ارتكبت هذه الجريمة النكراء بحق انسان عبقري من عباقرة ذلك الزمان. فاسحق الى ذلك كله، كان شاعرا فياض القريحة، في شتى مظاهره، وداعية من الدعاة الى الاخاء والحرية والى التحرر من العبودية، وتحرير العقول من كل سلطة مستبدة دينية أم زمنية. علاوة على ذلك كان مع سليم نقاش واضح الحجر الاساسي للمسرح العربي الحديث ومؤلفا ومخرجا وممثلا. كان لأسلوبه البياني أثر بين في تطوير بنى وآداب اللغة العربية، وله عبارة موسيقية متماسكة متراكضة، يمده خيال رائع وتعبير بارع، فأعاد الى النثر رواءه وفخامته، والى ذلك كله، كان أديب اسحاق شخصية اجتماعية سياسية بارزة، اشتهر بنشاطه الذي لم يعرف الكلل والملل، فكان في بؤرة اهم وأخطر أحداث عصره الهائج المائج.


الثقافة والأدب

كان أديب اسحاق أعظم نجم لمع في قبة السماء العربية خلال سني 1874-1884. وقد شع نوره على جيل كامل من المثقفين الشباب والوطنيين العرب الأحرار، وكان "طراز العرب وزهرة الأدب" – كما قال جمال الدين الأفغاني في رثاته لفقيد العصر. ورغم أن الكثيرين من المفكرين والكتاب لا يجدون في ذواتهم القدرة الكافية على مجابهة السلطات الكهنوتية، فان اسحاق انبرى لمقاومتها وفضح عيوبها التي تسترت الكنيسة عليها خوفا من ضياع هيبتها وفقدان سطوتها في عيون الناس. وهذا من الامور الطبيعية لدى أديب اسحاق "الثوري المزاج والأسلوب" – كما يقول كراتشكوفسكي واستطرد كلامه "كان خطيبا مصقعا على المنابر، ومؤسسا للأسلوب الصحافي الجديد، الذي يذكرنا بالخطاب الحماسي، المندفع، الثائر الحيوي". ذلك الأسلوب الذي لاقى استحسانا عظيما ورواجا عظيما بفض النشاط الهادف اليويم، الكتابي والشفاهي، الذي اضطلع به أديب اسحاق وتحول الى سلاح ماض لنزعة القومية العربية الناشئة والمناهضة للسياسات الاستعمارية العثمانية والأوربية على حد سواء.

شهدت دمشق حقبة من التخلف الشديد قياسا الى بيوت والقاهرة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، كانت المدينة غارقة في ظلام القرون الوسطى، تعيش كغيرها من المدن الشرقية – الاسلامية حياة يسودها الجهل والخمول والانحطاط. ومما لا شك فيه أن الحكام والموظفين الأتراك اضطلعوا بالدور الأسوأ في دفع غالبية السكان المسلمين نحو هاوية التعصب الديني والتجهيلية والظلامية. وكان الحكام الأتراك الأنضاوليو الأصل قد أشعلوا نار المذبحة المروعة في دمشق سنة 1860، التي ذهب ضحيتها نيف وستة آلاف مسيحي، وكان وقودها دعوة الجهاد الزائف ضد "الامتيازات" الممنوحة "للنصارى الكفرة".

في هذه المدينة ولد أديب اسحق في 21 كانون الثاني (يناير) من عام 1856. كان جده اسحاق طلماتيان قد هاجر من أرمينية الشرقية الى إسطنبول ومنها إلى أرضروم. أرسل في مأمورية إلى دمشق حيث تسلم رئاسة الجمرك مدة طويلة. نشير بالمناسبة أن التوظيف في الجمرك كاد يكون حكرا على الموظفين والمستخدمين الأتراك عصرئذ. كان زملاءه الأرمن يدعونه "ايسهاك" والعرب "اسحاق" . أما والد أديب فكان معروفا بعبد الله ابن اسحاق ثم تحول مع الأيام الى عبد الله اسحاق، أي أصبح اسم والده كنية له. لكن والد أديب لم يكن قد استعرب في اختيار اسمه وحسب، بل انه – رغم حفاظه على ما تبقى في ذاكرته من نثار اللغة الأرمنية – انسجم انسجاما كاملا مع البيئة العربية وأطلق على ولديه اسمين من الأسماء العربية الشائعة الاستعمال وهما: ديب (ذئب)، ونمر، اللذان تحولا في المدرسة الى أديب (مهذب، مثقف ثقافة عالية) وعوني (الكثير المعونة للناس).

أولى الذكريات المروعة التي وشمت مخيلة الأخويت كانت مذبحة 1860 التي نجوا مع الأهل منها باللجوء أولا الى الدير الأرمني بدمشق والذي ذهب طعما للنيران، ومن ثم الى معسكر البطل العربي عبد القادر الجازئري الذي أبلى بلاء حسنا في انقاذ النصارى.

تلقى الاخوان مبادئ العلوم في مدرس اللعازاريين الفرنسية، حيث أظهر أديب تقدما ظاهرا على أقرانه. ولما بلغ أديب العاشرة أخذ ينظم الشعر كلفا به، وهو اذ ذلك لا يعرف شيئا من قواعد اللغة والعروض، وما أتم الثانية عشرة حتى كانت له عدة قصائد وموشحات مرهفة الاحساس أوحت الى أساذته بأنه سيكون شاعرا. وكانت بعض قصائده قد نشرت يومئذ في الصحف فنال عليها الفتى مكافأة مالية صغيرة زادته حماسة واندفاعا. وقد أدلى أخوه عوني اسحاق بشهادة مفادها أن أديبا كان قد نظم يومئذ زهاء ألف بيت من الشعر الغنائي.

بيد أن والده لم يكن موفقا في حياته وعمله بقد رما كان عليه جده، فهو لم يقدر على اعالة أسرته، ولذا ترك نجله البكر أديب المدرسة ليدخل في خدمة الجمرك ولما يبلغ الحادية عشرة بعد. فأدى أعمالا شاقة لا تتناسب وعوده الطري، وكل ديدنه تخفيف الوطأة عن أبيه.

وانتقلت أسرة أسحاق الى بيروت سنة 1871، فكانت هذه المدينة مرتعا لاحلامه بكل ما في هذا الكلام من مغزى ومعنى. تعلم أديب فترة في مدرسة اليسوعيين ومن ثم ساعد أباه في مصلحة البريد، وغاص أديب في الأجواء الأدبية البيروتية، فتعرف الى عدد من الأدباء والشعراء الشباب. ولاسيما أعضاء الجمعية العلمية السورية المنحلة الذين أحبوه وأحبهم. وقد ساعده هؤلاء في تحصيل وظيفة محترمة ذات مردود مقبول سنة 1873، ولاسيما أنه كان يجيد العربية والتركية والفرنسية، ويلم بالأرمنية، وقد باشر يتعلم الانكليزية.

لم يكن أديب في ربيع السابع عشر طامعا في مال أو يسر حال ، بل نازعا وتواقا للاشتغال بالأدب والثقافة. فبعد مدة وجيزة ترك وظيفته في ادارة الجمارك وانضم الى فريق من الشباب المثقف المتلف حول الصحافة اللبنانية، ثم دخل في "جمعية زهرة الآداب" التي أنشئت عام 1873 برخصة من الحكومة العثمانية، وكانت يومئذ برئاسة سليمان البستاني (1856-1925) وفي ربيع عغام 1874 تولى أديب رئاسة الجمعية فكان يلقي فيها الخطب الرنانة والمحاضرات المفيدة والأشعار الحماسية، داعيا الى الاخاء والتحرر والحرية والاستقلال، ومعارضا أجل التعصب الديني المقيت، ومبشرا بالتسامح الديني وتحيد السوريين قاطبة من أجل تقدم بلادهم الشامية ورقيها. وكان يحبر المقالات فبرز كاتبا ألمعيا من كبار كتاب المقالة على صفحات "الجنان" و"التقدم" فانتشرت شهرته الأدبية كانتشار النار في الهشيم. وعن هذا الموضوع يقول ليفين: "وهنا تجلت مواهبه الفائقة كأديب اجتماعي وخطيب، وكذلك تجلت شجاعته الفكرية".

ومما يؤسف له حقا غياب المعلومات الموثوقة عن الأجواء السياسية والاجتماعية أو الفكرية – الثقافية السائدة داخل "جمعية زهرة الآداب". غير أن الأدبيات المكرسة لتاريخ النهضة العربية الحديثة تحتوي بعض المعلومات العامة والوثائق المتعرفة، فضلا عن بعض المواد التي اكتشفت في السنوات الأخيرة وكلها عمادنا ودليلنا لاعطاء صورة واضحة الملامح عن هاتيك الأجواء.

نقول بادئ ذي بدء أن نوعا من الغموض يسود في علمي الاستشراق الأوربي والسوفيتي حول مسألة منهجة الفكر العربي الوطني – القومي، وتوضيع التيار القومي العربي توضيعا دقيقا في اطار الجمعيات السياسية. فضلا عن تقييم الأخير تقييما سليما دقيقا يمكنا من احلالها المحل اللائق بها في مسار الفكر السياسي – الاجتماعي العربي. والسبب الرئيسي لهذا الالتباس ناجم عن ندرة المستندات الوثائقية والمادة الصحافية المتناثرة هنا وهناك علاوة على المواقف الذاتية المتحيزة التي اتصف بها أدب المذكرات لأولئك الكتاب والادباء العرب المعصارين للأحداث ممن شاركوا شخصيا في تلك الأحداث أو كانوا على مقربة منها واطلاع عليها.

وأديب اسحاق واحد من الرواد الطلائع في الفكر السياسي – الاجتماعي ومن أعظم أركان التنوير العربي، كان ولا يزال مغموط الحق في تاريخ النهضة العربية الحديثة. ومن العوامل التي لعبت دورا سلبيا في عملية تقييم الكتابات السياسية والاجتماعية لأديب اسحق تقييما موضوعيا الحوادث المفتعلة التي قام بها ضباط الشرطة المصرية وبعض المسلمين المتعصبين الموتورين الذين أحرقوا البيت الذي كان يسكنه اسحاق في الإسكندرية في تمز (يوليو) 1882 ، علاوة على الأحداث المشابهة التي وقعت بعد عامين، فبعد عدة أيام من وفاته انسل بعض المغرضين المدفوعين من قبل السلطات الكهنونية السيويعة الى بيت أبيه، فسرقوا ما وجدوا من آثاره، والتي ينوي اعادة النظر فيها وطبعها، ومن ثم عاثوا فيه فسادا وأعملوا فيه تخريبا. وهكذا، وبسبب من هذه الأعمال البربرية، ذهب ارشيف اسحاق وقودا للنار مرتين، كتبه ومقالاته ومسوداته المخطوطة وصحفه المنشورة. فرغم الجهود الحثيثة التي بذلها الكاتب ناجي علوش بحثا عن آثاره المطبوعة والمخطوطة في أرشيفات ومكتبات بيروت والقاهرة ودمشق وغيرها من العواصم العربية. أعرب عن أسفة العميق لعدم اهتدائه الى ضالته المنشودة، وأكد أن ما وصل الينا من آثار ليس الا نثارا من انتاجه الوفير الذي عبثت به يد الشر والغدر.

وقد تضرر اسحاق تضررا غير قليل بسبب الاعتبار التالي وهو أن أدب المذكرات كان تقريبا المصدر الوحيد عن ذلك الزمان، ومن أن معظم كتاب هذا اللون الادبي كانوا اما من الكاثوليك الموارنة واما من المسلمين المتزمتين المتعصبين الذين لم يوفوه حقه من الموضوعية والعدل والانصاف. ومهما بدا ما نقوله من المفارقات العجيبة فان الكتاب المسلمين المستنيرين من المعاصرين واللاحقين قدروه تقدريا عظيما يليق بمكانته وعظمته رغم كونه نصرانيا أو حتى أرميني الأصل. ولم يؤخذ عليهم انهم حاولوا التعميم بعض الشئ على شخصيته أو تهميش دوره الكبير ومقامه الرفيع قياسا إلى الأفغاني، ويما يخص التقييمات السلبية التي روج لها كل من عرابي باشا ومحمد عبده.

وفيما يتعلق بالكتاب الموارنة – باستثناء قلة ممن عرفوا المفيد عن كثب فناصروه وساندوه – فانهم لم يتوانوا عن تدنيس ذكرى الفكر الحر الذي انطفأ سراج حياته وهو في عمر القمر. وخاصة أن الكنيسة الكاثوليكية المتمثلة في المقام الأول بالرهبانية اليسوعية، ظلت تعده حتى بعد انتقاله الى العالم الآخروي – من ألد أعدائها، فشنت عليه حملة عشوائية تذكرنا بمحاكم التفتيش الأوربية، فأتت على كل ما تركه من تأليف وتصانيف أدبية واجتماعية وسياسية، وهاجمت أصدقاءه وأشياعه ونصراءه، وكانت تقضي على كل ما يقع عليه بصرها من كتابات تخلد ذكراه وتعين على ترويج أفكاره الحرة.

ولم تنج من هجمات الكنيسة الكراريس الثلاثة التي كتبت في تلك الأيام بمناسبة الاشكالات التي حدثت في المقبرة بين العناصر الرجعية الاقطاعية – الكهنوتية من جهة، وبين أصدقاء وأنصار أديب اسحاق من ممثلي الطبقة البرجوازية المستنيرين من جهة أخرى. تلك الكراريس المطبوعة تعد اليوم وثائق نفيسة جدا. كل ما في الأمر أن هذه الكراسات المنشورا سرا والموجهة أولا ضد الكنيسة الكاثوليكية وقوتها الضاربة الرهبانية اليسوعية، وثانيا ضد السلطات التركية بصورة غير مباشرة لم يصلنا منها سوى نسخة واحدة أو نسختين على أبعد تقدير، لأن السلطات التركية والأكليروس الكاثوليكي أصدرا أوامر مشددة باتلافها انى وجدت.

الكراسة الأولى مطبوعة بالفرنسية غفلة التوقيع، نجد لها بعض الاشارات في المراجع العربية، ولكنها تعد من الوثائق المفقودة عامة، ولذا ظلت بعيدة عن دائرة البحث العلمي المنهجي، يرجع الفضل في اكتشافها الى المستشرق ايلي خدوري البارز في علم الاستشراق الانكليزي، الذي نشر التقرير الاصلي للقنصل الفرنسي في بيروت باتريمونيو المؤرخ في 6/9/1884 والمحفوظ في أرشيف وزارة الخارجية الفرنسية (لا جرم في أنه نشره دون عنوان وعلى شكل ملحق).

الكراسة الثانية غفلة أيضا مطبوعة على الجلاتين بعنوان "بشر البشير وجمعية التبشير" . أما الكراسة الثالثة فعنوانها "تباشير الفجر ومسبة البشير" غفلة التوقيع ومطبوعة. وللعلم نقول أن هذه الكراسات الثلاثة المنسوبة الى أصدقاء اسحاق (يرد ذكرها في المراجع العربية هامشيا وبغير عنوان عامة) توجه نقدا مرا ولاذعا الى الكنيسة الكاثوليكية. ولذا بقيت رهينة المحابس، ومحظور ذكرها حظرا شديدا . منع حتى يوسف إلياس سركيس زميل اسحاق في المدرسة من الاشارة اليها تصريحا أو تلميحا في قاموسه الموسوعي "معجم المطبوعات العربية والمعربة الشامل لأسماء الكتب المطبوعة في الأقطار الشرقية والعربية". والكراسات موضوع البحث هي الدليل القاطع والبرهان الساطع لاعادة النظر في تقييم "جمعية زهرة الآداب" لا بوصفها جمعية أدبية خطابية صرفة، بل باعتبارها باكورة الجمعيات السياسية – الاجتماعية العربية.

جمعية زهرة الآداب

"زهرة الآداب" واحدة من الجمعيات الأدبية التي ظهرت في الربع الآخير من القرن التاسع شعر، والتي لم تغب عن نظر أدب الاستعراب. ولكن – كقاعدة – لم يقترن ذكرها بالتفاصيل الدقيقة عن نشاطها، وبالتالي لم تحظ بالتقييم الموضوعي. ومن هنا ظلت الجمعية في جوهر الأمر لغزا من الألغاز وسرا مكنونا على أفهام المستعربين والدارسين. وبالفعل، فان أدبيات علم الاستعراب السوفيتي والأوربي والدراسات والأبحاث العربية التي لا تعد ولا تحصى تقدم لنا صورة مبتورة عن هذه الجمعية تتلخص في صفحتين لا أكثر: "زهرة الآداب" جمعية أدبية خالصة، وكانت وريثة "للجمعية العلمية السورية" في بيروت (1868-1873) واصلت نشاطها وأكسبته نوعية جديدة رفيعة المستوى. حصلت على رخصة من "الارادة السنية" للسلطات العثمانية ونشطت برعاية أسعد باشا متصرف بيروت في ذلك العهد. من المرجح أن سليم البستاني استلم رئاستها في تخوم سنتي 1872-1873. انتظم في سلكها أديب اسحاق سنة 1873 وأصبح رئيسها الفعلي، انخرط في عضويتها فريق من الأدباء ذوي الميول التحررية الراديكالية كانوا أعضاء سابقين في الجمعية العلمية السورية الملغاة. وفيما يتعلق بالأعضاء المراسلين وأعضاء الشرف فلم تصلنا لوائح بأسمائهم ولكن يمكن التنبؤ بذلك من خلال مراجعة قوائم الجمعية السورية. ومن الثابت أن جريدة "التقدم" التي استلم تحريرها أديب اسحاق اصبحت لسان حال الجمعية في نهاية عام 1874. وليست هناك أية معلومات دقيقة عن توقف أعمال الجمعية.

من اليسير جدا الاستنتاج أن الصورة المرسومة لجمعية "زهرة الآداب" لا تعدو كونها رسما بيانيا يليق بدائرة معارفة موجزة. وعلى كل حال، فالمعلومات المشار اليها كانت ولا تزال تتنتقل من كتاب لأخر رغم أنها لا تسمن ولا تغني من جوع – كما يقال. وأكثر من ذلك، فأمثال هذه المعطيات تثير المزيد من الالتباس والغموض في ظروف الارادة السنة التركية، التي تشكك في طبيعة ومهام كل من الجمعيات القائمة أنذاك. وقد وقع الكثيرون من الدارسين أسرى هذه المعطيات المتضاربة، فاضطروا الى تحاشي ذكرها. فها هو ذا مثلا المستشرق كوتلوف يتوانى عن ذكر "زهرة الآداب" في عداد الجمعيات التنويرية التي أثرت "تأثيرا محسوسا على تطور الفكر السياسي – الاجتماعي العربي. ان في سورية أو في العالم العربي كله". وليس هذا وحسب، فهو لم يشر ايضا الى جريدة "التقدم" في سياق حديثه عن الصحف "الداعية الى الفكر الجديد الأكثر تقدمية". وأكثر من كل ذلك، فهو رغم تكراره للتقييم الرفيع والمحق الذي أورده ليفين عن أديب اسحاق بوصفه "الرائد الداعي الحقيقي الى نزعة القومية العربية" ، واتفاقه في الراي مع الكتاب العرب الذين أكدوا ان اسحاق كان أول رائد دعا "لاقامة دولة عربية" نقول رغم كل هذا وقع كوتلوف في تناقض حاد مع نفسه. فبعد تأكيده أن "اسحاق نفسه" .. اتخذ موقف المدافع عن النزعة العثمانية و"الوحدة الاسلامية"، أصر جازما على أن أديب اسحاق كغيره من الرواد العرب "ظل يدور في اطار العثمانية" وعلى أن مواقف الرواد العرب المؤيدة للاتحاد العثماني "لم تكن اضطرارية قسرية أبدا، ولا من قبل مراعاة أحوال الرقابة المشددة".

تبقى كلمة لابد منها، فكوتلوف ليس المستعرب الأول أو الوحيد بين الباحثين السوفييت الذين أهملوا كلية "جمعية زهرة الآداب" خلال حديثهم عن سلسلة الجمعيات والتنظيمات التنويرية التي تركت آثارا هامة في تاريخ الفكر السياسي – الاجتماعي العربي. فالأديبة دولينينا والمستشرق زلمان ليفين أشارا بوضوح الى حلقات هذه السلسلة: "الجمعية السورية لترويج العلوم والفنون" (1847) و"الجمعية العلمية السورية" (1857) و"المجتمع العلمي الشرقي" (1882). وفي حديثه عن أديب اسحاق يولد ليفين نوعا من الوهم وكأن اسحاق ألقى محاضرات في جمعية "زهرة الآداب المحية" (البيروتية – المؤلف) بمعنى أنه كان غريبا عن ذلك المناخ الثقافي فيقول: "وهنا تجلت مواهبة الفائقة كأديب اجتماعي وخطيب وكذلك تجلت شجاعته الفكرية".

وكريمسكي الذي أخذ بالحسبان تأكيدات جرجي زيدان بشأن القرابة والتماثل بين الجمعيتين السوريتين وهو ما لقى استحسانا وقبولا عند كراتشكوفسكي أيضا فطور وجهة النظر التالية من خلال ابحاثه الهادفة لحل الاشكال القائم في مسألة التأريخ لنشوء وتوقف الجمعيتين المذكورتين : كانت الحركة التنويرية في بيروت تصب في مجرى واحد، بمعنى أن جمعيتي 1847 و1868 وجمعية زهرة الآداب ليست سوى تسميات مختلفة لمسمى واحد، أو بالأخرى محطات متباينة لجمعية واحدة ، فكتب يقول: "أحدقت ظنون الأتراك بالجمعية السورية التي أعيد انشاؤها للمرة الثانية فتوقفت بعد عامين من النشاط المثمر"، ثم بعثت مجددا سنة 1873 كجمعية أدبية خالصة باسم "زهرة الآداب". وبتعبير آخر: استبدلت تسمية "الجمعية العلمية السورية" باسم "جمعية زهرة الآداب".

ولكن كاتب كراسة "بشر البشير وجمعية التبشير" المجهول يؤكد بكل وضوح أن جمعية زهرة الآداب لم تكن وريثة شرعية ومباشرة للجمعية العلمية السورية واستمرارا متواصلا لها، بل تولدت عن الانقسام الذي وقع داخلها، فجاءت جمعية جديدة في نوعيتها ذات أهداف تنويرية سامية وغايات اجتماعية بعيدة المدى، يقول الكتاب بالحرف الواحد:

"كانوا ينظرون الينا شزرا عندما كنا نجتمع في اطار الجمعية العلمية السورية ونتأمل في مسألة تثقيف وتنوير أنفسنا ورفع مستوى أبناء وطننا، ولم يكونوا يومئذ يسامحوننا، لأننا كنا نخفي استيائنا من الزاد الفكري المقدم لنا في المدارس التابعة للكنيسة (الكاثوليكية) وحسب، بل لأننا كنا – على حد مزاعمهم – نختلف الى أساتذة كفار – هراطقة (بروتستانت) ونغترب عن طائفتنا الكاثوليكية . بيد أن هاجسنا الأساسي تجلى في تطلعنا لاستيعاب العلوم والمعارف. وكانت السجلات الدينية والمذهبية خارجة عن دائرة اهتماماتنا، اذ كان في صفوفنا أناس من النصارى والمسلمين على اختلاف مللهم وأجناسهم من الموارنة والدروز والروم الأرثوذكس والروم الكاثوليك والسريان والأرمن والبروتستانت. وحين توقفنا عن المشاركة في جلسات الجمعية العلمية السورية قررنا تأسيس جمعيتنا الجديدة (يقصد زهرة الآداب – المؤلف). لادراكنا حق الادارك أن معارفنا كانت كافية تماما لوقف حياتنا فداء لاستعادة كرامة وطننا سورية وعزته وبعث روح الحماسة الوطنية بين مواطنينا. وعندئذ لم يعودوا يعدوننا في عداء التائهين الساذجين، بل مارقين كفرة يستحقون الموت. وعدوا كل ارتباط بنا خطيئة منكرة لا تغتفر".

ويكشف كاتب الكراسة ا لنقاب عن الحقيقة القائلة بأن اعضاء جمعية زهرة الآداب ابتعدوا عن بطرس البستاني بسبب الخلافات المبدئية بين الطرفين، وليس من المستبعد أنهم تخلوا عن رئيسهم سليم البستاني للأسباب ذاتها.

يقول الكاتب: "لقد اتهمونا بالفريسييين لادعائهم بأننا القمنا الحجر معملنا (بطرس البستاني – المؤلف). لقد أجللنا واحترمنا معلمنا ونحن نكبره. ونطلب له الرحمة فقيدا، ولكننا – كما كنا في حياته والآن بعد وفاته – نجل الحقيقة أكثر من الجميع، لأنها تنبع من مبادئنا، ونحن لم تخف عنه قط أن الحقيقة والمبادئ تدفعنا للسير في دروب مختلفة. واذا كان بوصفه علامة بارزا قد حرم من رؤية حبته سنبلة حبلى، وغرسته شجرة يانعة، فاللوم يقع عليه وحده لأن الزهو أشره، وكما يقول المثل :اذا زل العالم زل بزلته عالم".

منذ عام 1876 حتى خريم 1882 عاش أديب اسحاق وعمل في مصر وفرنسة، وعاد للسكن في بيروت سنة واحدة (80/1881)و ومدامت جل المراجع المعروفة لا تقدم أية معلومات موثقة عن نشاط جمعية زهرة الآداب بعد فترة 1873-1876، فان يصح الافتراح أن الجمعية توقفت عن العمل بعيد ذهاب رئيسها أديب اسحاق الى مصر سنة 1876. بيد أن الكراسة الفرنسية وكذلك "تباشير الفجر ومسبة البشير" أكدتا أن الجمعية واصلت نشاطها ابان غياب اسحاق وأنها استمرت في الوجود بعد وفاته. ومن اللافت للنظر أن الكراسة العربية ركزت في ذات الوقت على المكانة الخاصة التي كان يتمتع بها أديب اسحاق حتى في غيابه: "وأديب معنا في غيابه أيضا، فعندما كان بعيدا عنا في الديار المصرية يكون حاضرا معنا عبر رسالته ومقالاته وبكل ما يذكرنا بما قال وفعل يوم كان بين ظهرانينا. واليوم بعد افتراقه عنا الى الأبد، يظل كالسابق حضورا كاملا بالنسبة لجمعيتنا. فعندما نبدأ بأي عمل نتساءل: ماذا كان يقول ويفعل أديب لو كان بيننا الآن؟ فهو أنى توجه – حتى في عواصم الافرنج الباردة. كان يحرق روحه ليمنحنا الدفء والحرارة والنور، فكان على صغر سنة نبراسا ينيرسراطنا بحكمة الكبار، ذلك السراط المستقيم الذي يؤدي بنا حتما الى الهدف المنشود الذي يصبو اليه هذا البلد وهذا الشعب".

ان كلا من الكراستين العربية والفرنسية رأتا من واجبهما التشديد على الطابع الأدبي والثقافي لجمعية زهرة الآداب، وهاذ ما يتساوق أولا مع اسم الجمعية، ويخلق ثانيا مظلة واقية لدفع التهم التي كان يوجهها خصوم الجمعية وأعداؤها. والكراسة الفرنسية النازعة قدر الامكان الى الايجاز والبلاغ تقول عن الجمعية: "انها جمعية أدبية صريحة .. هدفها الأساسي يتلخص في أنها حلقة وصل بين الشباب الذين يرومون الكمال ويصبون الى الجمال .. السياسة والدين لا صلة لهما بالجمعية. ينتسب الأعضاء من جميع الطوائف الى الجمعية، بصرف النظر عن انتمائهم السياسي أو الديني. ومن المتوخي أن يكون الأعضاء على قدر كاف من الثقافة الأصيلة، وان يكونوا من الأتقاياء الصالحين والناس المتسامحين ومحبي الصداقة وذوي الأخلاق الحسنة. ولذا فان جميع الآراء والمعتقدات يتعايش بعضها مع بعض داخل جمعيتنا. وقد يحدث بينها تضارب وتنافر ولكن ذلك لا يؤدي أبدا الى القطيعة والخصام. فلا وجود بيننا لأية مجادلات دينية لاهوتية، فالايمان في صدورنا والأديان في قلبونها. وكل من يتخذ من الدين برقعا للتحكم وذريعة لفرض السيطرة، وكل من يرغب في أن تكون الكنيسة في كل زاوية من الزوايا، وأن يكون اللاهوت محورا للنقاش والجدل، فهؤلاء لا يدركون ويستوعبون أن بمقدور الانسان أن يدع جانبا يقينياته ومعتقداته في سلام وأمان. وهم عاجزون كل العجز عن فهم الرابطة الإنسانية والالتقاء على أرضية الحياد المتمثلة في الأدب والعلم والأخلاقية. أجل، فليعلم الحاقدون الحاسدون أن جمعيتنا تضم في صفوف الأحرار والأخيار، والمؤمنين الأبرار الذين يتعايشون في جو من الوئام والانسجام رغم تعدد الآراء والأفكار.

اذا كانت الكراسة الفرنسية الموجهة أساسا الى الأوروبيين، ولاسيما الى الدوائر الدبلوماسية في بيروت، واذا كانت الكراسة العربية "تباشير الفجر ومسبة البشير" بأسلوبها العربي البليغ وحجتها الدافعة موجهة الى علية القوم من أبناء العرب والحكام والموظفين الأتراك العارفين بلغة الضاد – اذا كانتا كلتاهما تؤكدان بكل جدية واصرار الهوية الأدبية المطلقة للجمعية وتركزان على عدم اهتمامها بالشؤون السياسية والدينية، فان كراسة "بشر البشير وجمعية التبشير" تتخذ وجهة مغايرة تماما. فالكاتب مجهول الهوية يبدي مزيدا من الجزم والعزم فينطق باسم "جمعية زهرة الآداب" ويتحدث باسهام ولغة شاعرية عن مذهب أدبي نقرأ ما بين سطوره مضمونا اجتماعيا وسياسيا: "أدبنا في باديتنا وخيمتنا، في نبعنا وتمرنا، في نوقنا ووطبنا، في خيولنا وسيوفنا التي ستعيد لنا عزة بلادنا وأمجادنا كما كانت عليه قبل المسيح وبعد هجرة النبي محمد، ستعيد لنا الخلافة وكل ما بقي في أيدي أولئك (يقصد الأتراك – المؤلف) الذين يذلون أبناء العرب، أولئك الذين أعماهم بريق الذهب فشرعوا في اجلال واكبار المبشرين (اليسوعيين). لن يفهمنا لا وجهاء الجمعية التبشيرية، ولا أسيادهم وزعماؤهم (يقصد الأوروبيين – المؤلف) الذين يطمعون في السيطرة علينا. ولن يفهمنا أيضا أولئك الأسياد (يقصد الأتراك) الذين يدعون أنهم اخوة لنا في الايمان مع أبناء العرب (المسلمين) لكنهم في الحقيقة يتحكمون برقابنا وأرواحنا. لن يفهمنا سوى أبناء العرب الأقحاح المنتشرون من هذا البحر الى ذك وذلك. ونحن نتذاكر الأدب لهم (العرب – المؤلف) كي نحدد موعد ومكان فورتنا لاستعادة أمجاد أجدادنا وآبائنا وانتصاراتهم الغابرة الظافرة".

ورغم أن الكراريس الثلاث لا تشير الى أديب اسحاق كرئيس للجمعية لكنها تصفه بالركن الأساسي للجمعية وأعظم وأجل واحد من أبناء سورية الأبرار، فكاتب الكراسة الفرنسية مثلا، نظم تقريظا مؤثرا ومرهفا لأديب جاء فيه: "انه الصديق الصدوق ذو القلب الدافئ والطلعة البهية، والروح الفياضة السخية". أما كاتب "بشير البشير .. " فكان أكثر بلاغة وأنصع بيانا في تأبينه لأديب، اذ قال: "الأرز ينوح في لبنان لأنه فقد أعظم أرزة فيه وهو أديب .. وعلى الرغم من كونه أرمني الأصل، فأنه بز أبناء هذه البلاد في صناعة البيان، ولا غرو من ذلك، فأبناء الملل والأقوام والأجناس المختلفة يبذلون أرواحهم رخيصة في سبيل أمجاد سورية والعرب. ومن غير أديب يرفع عقيرته مناديا: أنا ابن هذه البلاد فجميع أبنائها أخوة لي، وقد بذلت الغالي والرخيص في سبيل عزتها وفخارها .. وأديب لا يزال بعد وفاته يخدم هذه البلاد، ويخدمنا نحن أبناء هذه البلاد لا يزال أستاذنا يلمنا: أبناء هذه البلاد تمزقهم الكنيسة شر ممزق على يد الكهنوت الأعمى المتعصب جهلا ونفاقا... يجب أن نتحد سويا لا على أرضية المنشأ والمذهب، وان نسير معا للوصول الى أهدافنا السامية، وأن نعمل كتفا لكتف حتى تستعد هذه البلاد عزتها وكرامتها". وفي موضع آخر من الكراسة يكيل الكاتب الصاع صاعين للكنيسة الكاثوليكية التي حاولت تسويد سمعة أديب اسحاق في أعين الجماهير الشعبية، فيقول: "كلا وألف كلا، فأديب لم يكن يوما جاحدا للدين والايمان، كما تحاول الكنيسة تصويره، فكل ما هو خير وقيم في الدين المسيحي يجري مجرى الدم في عروقه، كما يجري فيها كل ما هو ايجابي في الاسلام والاديان الأخرى، ومذاهب جميع الفلاسفة والحكماء الشرقيين والغربيين على حد سواء، حقا انه ليس عدوا للدين وتعاليمه السمحة، ولكنه ألد عدو للفئات العليا من رجال الدين الذين يستغلون الدين خدمة لمآربهم وأطماعهم، ويوظفونه أداة طيعة لتكريس فساد أخلاقهم ومعاملاتهم واللاإنسانية وجهلهم المطبق، أولئك الذين اتخذوا من الكهان العاديين البسطاء بيادق يحركونها أني ومتى شاؤوا". وفيما يخص مكانة أديب اسحاق في جمعية زهرة الآداب وفي أوساط المفكرين والمثقفين العرب، فان كاتب الأهجية يطعن مرة أخرى "وعاظ الحقد والكراهية" ثم يواصل كلامه قائلا: "لقد أدرك الوعاظ جيدا أنى يصوبون سهامهم: ألى أديب طبعا لأنه عقلنا ولساننا، قلبنا ويدنا، لا بل هو قبضتنا التي بها نضرب الضربة القاضية. إلى أديب الذي يسمو بعقله على حكمة الشيوخ ، معلم أبناء جيله وأقرانه وأترابه، وهو المثل الأعلى للكمال بالنسبة للجيل الناسئ من أبناء العرب الذين سيصبحون آلافا مؤلفة، فيما كان هو قبيل وفاته، الوحيد والفريد والاستثناء، اجل كان وحيد عصره ونسيج وحده".

وكاتب "تباشير الفجر ومسبة التبشير" قدر أديب اسحاق تقديرا عاليا بأسلوبه البلاغي الرفيع وبيانه الساحر البديع بقوله: "كانت السعادة والغبطة تملآن قلوب السامعين والعاشقين له، وكان الذعر والهلع يطوح بأفئدة الأشرار الحاقدين. لا أحد منا قرأ وطالع واستوعب مضامين الكتب كما فعل أديب. وما من كاتب في شتى أبواب العلوم والفنون الا طالعه وخبره وحفظه وعرفه معرفة دقيقة، كما كان عارفا لكل ما كتبه ببراعة، كانت حكمة الماضي تفيض منه فيضا الهاميا اشراقيا، فكان كالنبي يكشف ستر المحجوب، ويهتك أسرار السرائر. عندما كان يتكلم عن المستقبل كان كلامه يندفع اندفاع الماء من النبع، ثم يصير اعصارا هادرا يعصف بقلوب الجائرين المستبدين، ويتحول الى ضياء الفجر لينفير الأرواح العذبة اليائسة فيملؤها حياة وحيوية، لقد عرج الآن الى السماء وغاب وراء الأفق كي يبزغ كالشمس التي تهبنا النور والحرارة الى أن تأزف الساعة".

ولم يكن كاتب الكراسة الفرنسية أقل سخاء في اغداق الأوصاف الحميدة والشمائل الاصيلة على أديب أسحاق، ولكنه ينبري للدفاع عنه ضد اليسوعيين فيقول:

"ما هو الاتهام الذي توجهونه لأديبنا العزيز؟ لعل أول جرم قام به – في نظركم – أنه كان أعظم الأعضاء نشاطا وهمة، وحماسة واندفاعا داخل جمعية زهرة الآداب؟... كيف لا. وأنا الآن أذكر كيف كان خيطبنا المصقع يشدنا الى شفاهه بسحر بيانه وفصاحته لساعات طوال. كانت نبراته المتماسكة المدوية، وبلاغته الرائعة تدهشنا وتسحرنا. وعندما كان يتوجه بكلماته الأخيرة الساحرة كان تصفيق الرفاق ينصب بردا وسلاما على رؤوسنا ، فكيف تريدون منا ألا نعجب وندهش بهذا الانسان العظيم؟ " ثم يتابع كلامه معبرا عن كنونات فؤاده وعواطفه الجياشة فيقول مختتما حديثه "أديب مجد وفخار جمعيتنا".

لقد أظهرت الكراريس الثلاث حقيقة هامة جدا بالنسبة لعلم الاستعراب وهي: أن جمعية زهرة الآداب كانت تواجه اتهامات صريحة من قبل خصومها وأعدائها بشأن سريتها واتجاهها المعادي للأتراك.

والبراهين القاطعة على اتهامات الرجعية المتعلقة بسرية الجمعية تتجلى بوضوح في "تباشير الفجر ومسبة البشير" وفي الكراسة الفرنسية. وقد جاء في الكراسة الأولى ما يلي: "وهل بقي بلد واحد في أوروبة لم تحك فيه الجمعيات التبشيرية (اليسوعية – المؤلف) سلسلة من المؤامرات والدسائس. ولم ترم بخصومها من المناضلين البواسل في غياهب السجون وأقبية وزنزانات الأديرة أو لم توجه الاتهامات المزورة والشايات الكاذبة خدمة لمآرب أسيادها من حكام هذا البلد أو ذاك؟ وها هي ذي هذه الجمعيات تختار اليوم من الشرق ميدانا لدسائسها الخسيسة، وضد من؟ ضد جمعية زهرة الآداب التنويرية التي أخذت على عاتقها تنوير أذهان وعقول الناس ، وتزكية النفوس، وتصفية القلوب. انها جمعية مرخصة تعمل في وضح النهار، يحاول الدعاة والوشاة تصويرها بأنها جماعة من الناس يعملون في السر والخفاء وتحت جنح الليل والظلام في الأقبية والملاجئ السرية. اذ تعد العدة للاطاحة بالسلطات القائمة. وهم يدركون جيدا أن أرباب الحكم على بينة من حقيقة الأمر، ولكنهم يمنون أنفسهم بأن ترديد الأكاذيب مئات المرات لابد أن تجد آذانا مصغية ولو مرة واحدة. ولكنهم ينسون أو يتناسون المثل القائل: "الكذب داء والصدق شفاء"، وهل يا ترى كذبهم يليق باسم جمعية تحمل اسم يسوع عليه السلام؟ أن أنه صنيع شنيع لأتباع يهوذا الأشرار؟ وللقارئ أن يحكم بنفسه".

أما كاتب الكراسة الفرنسية فيعرض ملاحظات عامة عن الماسونية، ثم يوجه كلامه الى اليسوعيين قائلا: "لقد وجهتم الى الماسونية ذات التهم التي توجهونها اليوم الى جمعيتنا. فزعمتم أنها جمعية سرية وأنها بؤرة المروق والالحاد والثورة.. فنحن – لا قدر الله – لسنا جمعية سرية، ولكنا لا نرغب في حب الظهور داخل جمعية زهرة الآداب، ونحن والحق يقال نحب الحياة العائلية الشريفة، ونتحاشى استغلال خشبة المسرح والمدرج لأن اثارة الضجيج ليس في صلب أهدافنا، وكل ما نطلبه من جمعيتنا أن تسعى لاستبدال المتعة النفسية بمعاناتها الروحية، وأوقات الراحة الممتعة المفيدة بمتاعب العمل . ونحن لا نحب ذر الرماد في عيون الناس، ولا نركض وراء شعبية زائفة. ونحن البرجوازيين أناس أتقياء نرتئي العيش في أحضان الأسرة مرتاحين مطمئني البال، اذ لا قدرة لنا على التصرف بغير هذا. فنحن جماعة من الأصدقاء يعرفون بعضهم بعضا حق المعرفة. نجمع اشتراكا يسيرا من مواردنا كلا نكفل وجود جمعيتنا واستمراريتها. ويلمح الكاتب الى التهم الموجهة الى زهرة الآداب بشأن نشاطها السري.

والكراريس الثلاثة تتصرف بالنقد المتوقد والرسالة والجدية البالغتتين، مما يجعلها أكثر اثارة من وجهة نظر الرد على الاتهامات الموجهة الى أنصار وأتباع أديب اسحاق بشأن عدائهم للدولة العثمانية. خاصة أن التساؤلات المطروحة والأجوبة المطروقة فيها تتباين بين كاتب وآخر.

فكاتب الكراسة الفرنسية يواصل أسلوب الجدل المباشر مع اليسوعيين في شتى القضايا: "لقد اتهمتمونا والماسونيين معا بجريمة التآمر على حكومة بلادنا الشرعية، فهل فكرتم يا ترى في النتائج والعواقب التي قد تترتب على أمثال هذا الافتراء الدنئ الخسيس؟!". وحاول كاتب "تباشير الفجر..." ألا يغور في أعماق هذه التساؤلات السمجة وعدم التوسع في الرد عليها: "أولئك الناس يدعون أنهم مبشرو السيد المسيح ، فأطلقوا على جمعيتهم اسم يسوع الفادي الذي جاء من أجل خلاص البشر، فكيف نفسر اذا رغبتهم الجامحة في رؤية فريق كامل من الأعضاء المسيحيين في جمعية زهرة الآداب معلقين على أعواد المشانق، لا لسبب اللهم الا لأنهم – كما يزعمون – تآمروا على حياة رجال الدولة وضد استتباب الحكومة"؟ أما كاتب "بشر البشير" فهو كما عهدناه أكثر اقداما وجرأة في هذا الموضوع وغيره: "للدولة قوانين وبامكانها أن تعاقب الرعايا المتمردين حقا بموجب هذه القوانين. ولكن لب المشكلة كامن في تحديد ماهية التمرد والمتمرد والثائر. وخدمة هذه البلاد واجب مقدس بالنسبة لجمعية زهرة الآداب، فاذا عددتم هذا تمردا فان الصعود الى المشنقة واجب علينا أيضا. ألم ياصل رائدنا أديب اسحاق خدماته الجليلة لهذا البلاد طوال حياته التي قدمها فداء لشعبه؟ ألم يكن يفضل المشنقة عما فعلوه بعد مماته؟... ولعل من سوء حظ المتمردين الذين صعدوا الى المشانق أنهم حرموا من امكانية مشاهدة دموع التماسيح التي يذرفها عليهم أولئك الوشاة الذين أسلموهم الى الجلاد، فذهبوا الى أوربة يتباكون على مصير أخيهم وكل الاخوة المسيحيين كما شاهدنا مرارا وتكرارا ابان حوداث اليونان وسورية المأسوية المفجعة".

لقد قدم لنا كاتب "بشير البشير" أكثر من برهان على ثوريته الأصيلة، ولاسيما على صعيد كشف نوايا ومأرب الدول الأوربية ازاء الدولة العثمانية، والتي جاءت بمثابة حقائق جديدة ومثيرة للغاية: "ترى هل سيحاكمون أبناء هذه البلاد كمتمردين، لأنهم قاتلوا وسيقاتلون ضد أولئك الناس الذين تغلغلوا الى بلادنا كأصدقاء مميزين للحكومة العثمانية؟ ولكنهم يضمرون لنا الحقد والعداوة، ويسعون للقضاء علينا، أناس يظهرون بمظهر جمعية تبشيرية (يسوعية) يرعاها ممثلو الدول الكبرى. أجل، انهم يناضلون ضد كل من لا يحترم بلادنا ولا يجل شعبنا، ولا يقدر لغتنا وتاريخنا، ولا يعترف بعزتنا وكرامتنا. وهذا ينصرف مع بقية الشعوب الأخرى كاليونان والأرمن وهلمجرا. نحن لن ننسى أبدا ما علمنا اياه أديب العظيم: "هل بامكان انسان يذلك ويستعبد الشعوب الأخرى أن يفتخر بأنه ابن بار لشعبه" واذن، فالأفضل لنا أن نستيقظ من سباتنا ونحمل سيوفنا فنموت ثوارا على أن ننام والأغلال في أيدينا، ونعيش كالنعاج أذلاء خانعين".

وللعلم نقول: ان كاتب "بشير البشير وجمعية التبشير" قد جمع في السطور الأخيرة بين أبيات من الشعر لاديب اسحاق وابراهيم اليازجي، استقاها من قضائدهما المشبعة بروح التمرد والثورة، والتي جرت على ألسنة الناس مجرى الأمثال. وهنا نرى الزاما علينا التطرق الى مسألة العلاقة بين جمعية زهرة الآداب والجمعية السرية البيروتية المعادية للأتراك. وأكثر من ذلك فاننا نميل الى طرح فرضية الرابطة العضوية بين الجمعيتين.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

فكره السياسي والاجتماعي

أكدنا أكثر من مرة أن أقل القليل قد وصلنا من آثار الكاتب والرائد أديب اسحاق ، الذي كتب في شتى فنون الأدب، وكان يراعه سيالا ثر العطاء. ونحن لم نعثر على صفحة واحدة غير منشورة من تراب اسحاق. فناجي علوش الذي غربل محفوظات ومكنونات دور الكتب في القاهرة وبيروت، أعرب عن شديد أسفه لعدم وجود أية مجموعة كاملة لأية من الجرائد العديدة التي أصدرها أديب اسحاق، تساعده في لم شتات مئات وآلاف الصفحات التي دبجها بقلمه الرشيق، كما أنه لم يقتف أي أثر لموسوعة "آثار الأدهار" التي كان بمقدورنا أن نتعرف من خلالها على المقالات العلمية التاريخية التي خطها أديب. ولم تصلنا أية نسخة من كتابه في الغزل المعنون "فكاهة العشاق ونزهة الأحداق"، ولا عن الكتابين الموسوعيين في العادات والأخلاق والصحة، اللذين طبعا دون ضكر اسمه، وقد تم اتلاف الكثير من كتاباته المنشورة والمخطوطة وغير المنشورة التي القها خطبا نارية ابان نشاطه في جمعية "زهرة الآداب" فضلا عن مسودة مصنفة بعنوان "تراجم أعيان مصر في هذا العصر"، والمسرحيات التي ألفها أو شارك في تاليفها وتعريبها، إلا قلة منها مثل "أندروماك" و"شارلمان الكبير" . وقد لعب الضياع بمسرحياته المعنونة "غرائب الاتفاق" التي مثلت سنة 1877 على مسرح الإسكندرية، علاوة عل مختارات من شعره الراقي الذي نشر نثار منه في بعض الأماكن والقصص والروايات وصفحات من الأدب الهزلي.

ولعل ترجمة أديب اسحاق لرواية "الكونتيسة الباريسية" من أتحف الروائع الأدبية، التي صدرت وفقا للبعض بعنوان "الباريسية الحسناء" سنة 1884 – وللبعض الآخر بعنوان "منتخبات" والتي أكسبت صاحب الترجمة والمقدمة أديب اسحاق مكانة مشرفة على صعيد استيعابه العميق والشامل لمهام الأدب العربي الحديث، كما قال كراتسكوفسكي.

وقد شاءت الأقدار السعيدة أن يقوم جرجس ميخائيل نحاس أحد المقربين جدا من أديب اسحاق بجمع منتخباته في كتاب سمه "الدر" ضمت دفتاه أكثر من ثلاثمائة صحفة، نشر في مطبعة "المحروسة" بالإسكندرية عام 1886، ثم أعيد نشره في أربعة أجزاء، الى أن قام أخوه عوني اسحاق باصدار طبعة منقحة ومزيدة في بيروت سنة 1909، اذ بلغت صفحاته الستمئة. وفيما عدا روايتي "أندروماك" "شارلمان الكبير" اللتين نشرتا في طبعة جرجس نحاس ونقلت حرفيا في طبعة عوني التي بلغت الضعف من حيث الحجم واتسمت بمضمون أشمل وأعم للادة الأدبية والفنية (قصائد، خطب أدبية، أقوال متفرقة، ..ألخ)، فضلا عن مقالات رنانة في الميدان الصحافي (ولاسيما في الدور الثاني من جريدة "التقدم" حين أصدرها أديب ب97 صفحة بدلا من اثنتين، وفي جريدة "مصر" بصفحاتها الثلاثين عوضا عن 17 صفحة، وجريدة "مصر الفتاة" بثماني عشرة صفحة بدلا من اثنتين أيضا.. الخ)، اضافة الى ذلك فان ناجي علوش في "أديب اسحاق" الكتابات السياسية والاجتماعية، لم يقدم قط اضافات جديدة ونفيسة بفضل الجرائد التي اكتشفها، بل وانه لأول مرة بوب المواد وفقا لمواضيعها وأبحاثها وتواريخها، وهذا لعمري من الأمور الهامة جدا من زاوية تتبع نمو وتطور الفكر السياسي – الاجتماعي لأديب اسحاق.

ان كتاب ومؤلفي الدراسات الأساسية في تاريخ الأدب العربي (زيدان سركيس، عبود، الفاخوري، داغر وغيرهم) قدروا تقديرا عاليا مكانة أديب اسحاق في دنيا الأدب والثقافة والنهضة الحديثة. كما أن الصحافة العربية كرست له عددا كبيرا من المقالات العلمية المسهبة ولاثرية، ولكن الحقيقة المرة أن أحدا من الدارسين لم ينير لاعداد دراسة خاصة يحلل فيها حياة الكاتب النهضوي الكبير ونشاطه السياسي والاجتماعي والأدبي والثقافي، بينما اكتفى الباحثون الغربيون، ربما بسبب من ندرة المادة المتوفرة لديهم – باشارات عابرة عنه. وفيما يخص المستشرقين السوفييت فبعد تصرم عدة عقود من لاسنين على الخطوط العامة التي رسمها كريمسكي عن أديب اسحاق، قام كل من ليفين ودولينينا بمحاولة شبه جادة لتقييم الفكر الأدبي – السياسي وتحليل أفكاره وآرائه تحليلا لا يخلو من بعض العمق والشمولية. وهذا يعني أن أديب اسحاق الشاعر والمسرحي والصحافي والناقد والأديب والمؤرخ والمترجم لا يزال ينتظر باحثا يقوم بدراسته دراسة موضوعية متكاملة وشاملة.

ان دراسة كهذه خارجة بالطبع عن اطار كتابنا الحالي، ولكن الواجب يملي علينا التركيز قدر الامكان على المكانة العظيمة التي تبوأها أديب اسحاق في مضمار الشعر وفي الميدان الصحافي من منظور موقعه في حركة النهضة الثقافية العربية القومية.

فأديب اسحاق شاعرا كان يرسل القريض عفو الخاطر، قاله في جميع أغراضه المعهودة، وغالبا ما كان يبتدئ مقالاته بأبيات من الشعر يرويها أو يقرضها. ولكنه لم يهمل الشعر الجديد الذي ولد مع أبناء جيله ونقصد به الشعر الثوري – الوطني، فأبدع فيه بروحه الثائرة وبلاغته الشعرية، فجاء شعره متميزا سواء في مجال الشعر العربي التقليدي أو الحديث . ويلاحظ كل متتبعه أو قارئ لمقالاته السياسية المشبعة بالروحة الوطنية المتوقدة، أن اسحاق كان في كل مرة يكشف فيها عن نهجه السياسي الاجتماعي وتصل فيها الخواطر الجياشة الى الذروة، يطلق العنان لمشاعره الثائرة فيزين مقالاته المنثورة بشعر يرويه أو ينظمه، مما يضفي على افتتاحياته قوة وتأثيرا في نفوس القارئين. واذا كان الأدب السياسي والاجتماعي لدى أديب اسحاق قد وصل الى خير من من يثل في المقالة في الأدب العربي الحديث، فالفضل يرجع الى قريحته الشاعرية الفياضة، التي شكلت امتدادا طبيعيا لنثره الرائع البليغ، فان شعره قد امتاز أيضا بنفحة عصرية ندية من خلال مقالاته الصحافية النارية وخواطره الفياضة والصادقة. والمميز في شعر أديب اسحاق ليس فقط في محاكاته الشعر العربي الكلاسيكي ابتداء من غزليات عمر بن أبي ربيعة وانتههاء بالشعر الفلسفي لابي العلاء المعري، بل وفي حداثته وممارساته لظروف المكان والزمان التي عايشها. فكان يدعو ال اليقظة والوثبة، الى الوعي الذاتي والنهوض وينادي بالكفاح والايمان بالنصر.

ان الغرض الأسمى في حياة أديب اسحاق "أول مناد حقيقي بالنزعة القومية العربية" تجلى في رؤية العرب "شعبا عزيزا مكرما". وقد رافته هذه الآمال الوطنية طوال حياته التي لم تعرف الكلل والملل، بدءا من باكورة أفكاره التنويرية المعادية للأتراك وحكم الاستبداد والقهر، وصولا إلى خطبه الحماسية التي هاجم فيها الإنكليز والاستعمار عامة. ومعما بدا من المفارقات العجيبة فان اسحاق الذي كان يؤمن بأفكار الدعوة الغربية، وكان مؤهر أكثر من الجميع لتحمل أعباء هذه الدعوة، كان يدعو الى الوطن العثماني انطلاقا من اعتبارات تكتيكية – فانه أصبح في الفترة الأخيرة من حياته يدعو الى الوحدة العثمانية من طراز جديد، تنبت على أرضيته أفكار سياسية – اجتماعية حديثة تتمثل في أفكار الجامعة العربية، المعروفة الآن الراهن بالقومية العربية.

ان التحليل العلمي المنسق لأفكار أديب اسحاق حول العثمانية مشروع سابق لأوانه بسبب تعذر الوصول الى معظم انتاجه في الميدان الصحفي والأدب الاجتماعي – السياسي، وفي ظروف غاب التوثيق التاريخي للآثار التي وصلت الينا حتى الآن، ومهما يكن من الأمر، فان اخلاص أديب للدولة العثمانية التي كان يدعوها "دولتنا" بدا أكثر ووضحا في الفترة الأخيرة من حياته الصحافية والسياسية ، أي بعدما نفي من مصر وتسلم للمرة الثالثة ادارة جريدة "التقدم".

وقد استعرض الدكتور منير موسى في كتابه "الفكر العربي في العصر الحديث" آراء وأفكار أديب اسحاق السياسية والاجتماعية، مركزا ليس فقط على أن "أديب يعد الأمة العثمانية أمته، والوطن العثماني وطنه"، بل وأضاف بالحرف الواحد قوله: "ولم يعثر في "الدرر" له، ولو على كلمة واحدة عن الأمة العربية والوطن العربي والشعب العربي والدفاع عن العرب، بل هو متمسك بعثمانيته وشرقيته، وقد جاءه هذا الاتجاه عن أستاذه الأفغاني".

لاشك في أن الدكتور منير موسى تعامى قصدا – سامحه الله – عن رؤية التوجهات العربية الواضحة وضوح الشمس في رابعة النهار، والتعابير والاشارت بشأن العرب والعروبة الواردة في "الدرر" نحو "العرب" و"الدم العربي" و"سليقة العرب" و"العرب الكرام" و"اللسان العربي" و"الأمة العربية" وفي حديثه عن الأمير عبد القادر الجزائري، يقول: "الهمام المقدام العربي" و"أحد حماة الأمة العربية" ...إلخ. واذا لم يغرب عن بالنا أن أمثال هذه التعابير الحديثة لا بل والغريبة عن الحياة الفكرية – السياسية العربية، تزامنت وتجاوزت ما طرحه الشاعر الوطني ابراهيم اليازجي من خلال قصائده التي كانت تقرأ خفية في الندوات، بينما كان أديب يساهم في الواقع بأول طرح سياسي واضح نسبيا حول الوحدة العربية والقومية العربية. بمعنى أنه بز جميع رجال عصره في هذا الميدان، لأنه كان يبشر بها من خلال صحافته في ظل أجواء سياسة الظلم التي كان يمارسها السلطان الأحمر عبد الحميد الثاني ، من هذا المنظور يتضح لنا كم كان أديب اسحاق، رائدا بلا منازع في ايقاظ الوعي الذاتي القومي لدى العرب.

وبهذا المعنى أصاب ليفين كبد الحقيقة حين قال: "لقد دعا أديب اسحاق الى الوحدة العربية الشاملة (الجامعة العربية) القادرة وحدها في رأيه، على أن تهيئ للعرب إمكانية استرداد حقوقهم الضائعة، ثم يتابع كلامه محقا: "وفي طرحه لفكرة الوحدة العربية – يتجاوز اسحاق أطر المحدودية الدينية، ويؤكد مبدأ الوحدة المدنية في حدود الوطن العربي".

وناجي علوش الذي لم يستغرب توجه أديب الى النضال الديمقراطي من خلال وسيلتين، أولاهما: الصحافة، وثانيتهما: الأحزاب، لاعتباره اياه سليل مدرستين: الأولى الفكر الاصلاحي الإسلامي، وان كان أثر هذه المدرسة أقوى ثقافيا ولغويا منه سياسيا فيه (وهذا تحفظ هام جدا – المؤلف) والثانية: المدرسة البورجوازية الفرنسية".

والمهم في وجهة نظر علوش لا يتجسد برأينا في الهراء القائم حول الاثر اللغوي والثقافي الذي تركته مدرسة الاصلاح الإسلامي على فكر إسحاق السياسي الاجتماعي، بل التأكيد – الذي قد يبدو مفارقة لأول وهلة – ان اسحاق استوعب أفكار مفكري الثورة الفرنسية والقوانين الفرنسية، لا كما تمثلت في ثوراتها، ولذا كان يدعو ال الحياة الدستورية ، لا الى الثورة، ويطالب الحريات الديمقراطية ، بمعنى أنه استوعب وآمن بديمقراطيتها ، لا بثورتها.

ما ينبغي تأكيده في هذا السياق، هو هيام أديب اسحاق بالحرية والتحرر، فهو أدرك تمام الادراك الأفكار التي بشر بها منورو الثورة الفرنسية عن الحرية وبصفها حقا طبيعبيا ثابتا وضروريا من حقوق الانسان تمهد له طريق الرقي والكمال، وكان متوقدا حمية وحماسة بالفكر الليبرالي الفرنسي المعاصر له. وقد دفعت هذه الأفكار أديب اسحاق ليتخذ من مبدأ الحرية السياسية مثلا أعلى له. اذ أنها تمهد السبيل أمام الناس لأن يعيشوا في ظل الأخاء والمساواة والعدالة وتفسح المجال واسعا أمام تطور الانسان وريقه، والتي تسود في ظروف "الحفاظ على الحقوق في المجتمع" و"الدفاع عن حقوق الفرد فيه".

والتأكيد الثاني الذي نبغي التشديد عليه أيضا هو مذهب اسحاق في الثورة، ولاسيما ما يخص الثورات البورجوازية الأوربية التي خاض غمارها الثوار المناضلون ضد الطغيان والاستبداد من أجل الحرية الكاملة للانسان المستنير ومن أجل استقلال الشعوب المتمدنة".

والتأكيد الثالث والأخير مؤلف من شقين بالنسبة لنا، فالحرية لدى أديب غير مقيدة، ولكن لا يجمعها أي جامع بالفوضى. فالحرية عنده: "ثالوث موحد الذات، متلازم الصفات، يكون بمظهر الوجود فيقال له الحرية الطبيعية، وبمظهر الاجتماع فيعرف بالحرية المدنية، وبمظهر العلائق الجامعة فيعرف بالحرية السياسية". و"القانون الحق لا ينقص من الحرية ولا يزيل الاستقلال". ومن هنا فالثورة لديه هي الثورة البورجوازية الفرنسية الكبرى عينها، وهي ليست فقط الفعل المسلح والدامي، بل وبنفس المقدار نظام متكامل من الأفكار والآراء والقوانين والمبادئ الذي لا يجب تفهمه واستيعابه وحسب، بل وتطويره تطويرا ابداعيا خلاقا.

التأكيد الأخير في شقه الثاني محوري من حيث المضمون، وهو أن أنظار اسحاق كانت موجهة نحو الشرق عامة، والأقطار العربية، ولاسيما مصر ولنسارع الى القول: ان اسحاق الباحث أبدا عن "القانون الحق" لم يجد له سبيلا في أي بلد من بلدان العالم، فالحرية الحقيقية غير متكاملة في أي بلد على وجه التحديد، والوصول اليها من الأمور العصية جدا على أبناء ذلك البلد. وذلك بسبب سيادة التقاليد والعادات القديمة البالية التي تعرقل التقدم، وتعيق التطور ونمو التعليم والتنوير: "يجب على أبناء الشرق ان يستفيقوا من سبات الجهل وينبذوا عنهم التقاليد البالية التي تؤدي الى تفريق كلمتهم، ويغذو ألباب صغارهم بغذاء الحرية، ويرسموا على صدورهم، رسم الوطنية، والا ظلوا عبيدا لأعدائهم وبالتالي فمن الأفضل لهم أن يموتوا بدلا من الاستمرار في هذا الوضع.

وقد كتب أديب اسحاق معتمدا على نظرية الحق الطبيعي فقال: "ان العبودية بوصفها نتيجة للقهر من جانب المستبدين، في نهب وانتهاك لأقدس حقوق الحرية". وأكد اسحاق "أن الحرية غير ممكنة الا في وجود قوانين، يشترك في سنها الشعب اشتراكا ثابتا في شخص نوابه". ولم يكن أديب اسحاق يتصور الاصلاحات الديمقراطية والمؤسسات الادارية السياسية الديمقراطية بمعزل عن المشاركة الشعبية الفعال. وبعيدا عن تأييد الشعب ومساندته: "أن جميع أعضاء المجتمع في الدولة التي تكن الاحترام ازاء الحرية والقانون الحق متساوون أمام القانون أساسا ويتمتعون بحقوق وواجبات متساوية، وبحرية الاجتماع والتعبير والانتقال والخ". كما لاحظ ليفين ونسيبة وغيرهما بحق ان اسحاق لم ير نفعا في الحرية السياسية بالنسبة لبلد يسيطر فيه الجهل والعادات والأخلاق المنحطة. بل ان الحرية هناك من شأنها أن تؤدي الى عواقب وخيمة. فالقوي سيغتصب حق الضعيف، وستتحول الحرية في يد القوي الى أداة للاستبداد.

وقد ركز الكاتب اللبناني الشهير رئيف خوري على أن أديب اسحاق كان يرى أن ضمانة التنفيذ للقوانين غير ممكنة الا عندما تسري الحقوق والواجبات بدرجة متساورية على سائر أفراد المجتمع. ومع أن هذه الفكرة – يضيف خوري – لم تجد لديه صياغة دقيقة، فانها تتميز بأهمية خاصة لأن اسحاق نفسه نصير المنورين الفرنسيين غير المتحفظ، تطلع الى أبعد مما أنجزته الثورة الفرنسية. لا يكفي تقديم الحقوق وفرض الواجبات على الناس، بل لابد من وجود فرص التمتع بهذه الحقوق وأداء الواجبات.

والذي يثير انتباهنا في واقع الأول ليس درجة استيعاب اسحاق للفكر البورجوازي الفرنسي التنوري وتطوير موضعاته وطروحه، بل مدى ادراكه آنئذ، وانطلاقا من هذا طرحه للاصلاح الديمقراطي والتقدم عن طيق تعليم الشعب وتويره، وتطوير وعيه السياسي، وليس أبدا انتهاج طريق التحولات الثورية السابقة لعهدها.

نقول بادئ ذي بدء أن أديب اسحاق كان يشك في امكان نجاح الثورة في الأقطار العربية، ومن بينها مصر ايضا. فكن يعتقد بأنه يجب الاستفادة من تجارب "الثورات" في الماضي والاستنتاج أن الشرق غير مهيأ بعد للقيام بالثورة. وان قادة الحركات الثورية في الشرق هم من الناس الساعين الى الاثراء بدافع منافعهم الذاتية ومكاسبهم الطبقية – الفئوية الضيقة. بينما يظل الشعب المحور الرئيسي للثورة، أسير القيود والأغلال الجديدة والأشد قسوة ومرارة من سابقاتها، فيكون كالمستجير من الرمضاء بالنار. ومن هذا المنظور فإن أنور عبد الملك – رغم تأكيده لمقولة اسحاق بشأ، "عدم واقعية الشعوب الشرقية لأنها غير مهيأة للثورة" – نراه مصرا بغير حق على أن اسحاق لم يستوعب الثورة العرابية". أجل لم يكن بمقدور اسحاق "استيعاب" مفهوم آية ثورة من ثورات الشرق حيث كان الناس "لا يقاتلون عن أنفسهم ولا تحسبهم على بينة مما يقصدون. وانما يقتادهم الطامعون بسلاسل الوهم، فهم في الثورة دعاة زعيم وعصامة زعيم آخر".

ولنبادر الى التذكير والتشديد بأن اسحاق الذي يشكك بالثورة العرابية في مصر (وهو ليس الوحيد في هذا المضمار حتى ان مصطفى كامل ذاته لم يتورع عن أن يصف عرابيا نفسه بالخيانة. لم يكن اطلاقا خصما للثورة والأعمال الثورية في سبيل الوصول الى الحرية السياسية والاستقلال الذي رفع شعارها على رؤوس الأشهاد، وهو القائل:

ولا عز للوطن الا بالأمة ولا وجدا للأمة الا بالحرية.

وفي مقال "أوربة والشرق" التي نشرها في العدد الأول من "مصر القاهرة" في 24/12/1879 كتب أديب اسحاق يقول: "قضي على الشرق أن يكون هدفا لسهام المطامع والمطالب، تعبث به أيدي الأجانب من كل جانب فمنهم من يغير ليه بحجة الغيرة على الإنسانية، ومنهم من يتطرق اليه بدعوى اقامة المدنية، ولم نر منهم من صدق في دعواه، بل كلهم تابع في ذلك قصده وهواه". ومن الجلي أن انتقادات اسحاق كانت أشد وطأة على الاستعمار الانكليزي الذي جثم بكلكله على صدر الشعب المصري، فقال: "الإمبراطورية البريطانية استولت على الشعوب المستعبدة ولم تؤيد في جميع تلك البلاد غير الخشونة والاستبداد، استبقاء لأهلها على حال يسهل معها أخذ أوطانهم، واستخدام أبدانهم، بما فطرت عليه من الأثرة تحملها على كراهية الفضل ولا لبنيها، وبغض السعادة إلا لذويها، بل با تقرر في أذهان أهلها من أن الخارج عن جزائرها الثلاث، منحط عن درجة الإنسانية .. ودولة الإنكليز التي لا تبقى على حياة الخاضعين لها الا للانتفاع، فهي الجزار لا يطعم الضأن الا ليذبحه سمينا، ثم يجعل من جلده سوطا يسوق به الأنعام". وبعد أن يصور اسحاق أحوال شعوب الشرق المستعبدة أصدق تصوير يقول: "أفليس الموت خير من هذا الفوت؟ أيليق بذي الدم الشرقي أن يصير عل هذا المسف؟ أم يحسن بذي النفس الذكية أن يرضى بهذا الخسف؟ أم لا يعلم قومنا ما قاله المتنبي:

لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى حتى يراق على جوانبه الدم

بيد أن اسحاق الذي استقطب فكرة إراقة الدم في اطار الكفاح ضد نير المحتل الأجنبي، والذي كتب بعد اغراق الحركة الوطنية في بحر الدم يقول: "ان الذين يتحملون مسؤولية الانتفاضة هم أولئك الذين استثاروها بظلمهم وأجحافهم". أي أنه يذكرنا في الواقع بأن انتفاضة عرابي باشا التي مثلت الشطر الثاني من بيت المتنبي (حتى يراق على جوانبه الدم) لم تكن في الحقيقة ثورة بالمعنى الاصيل اطلاقا، بمعنى أنها لم تكن في سبيل الذود عن الشرف الرفيع من الأذى. وقد لاحظ رئيف خوري بدقة متناهية ان اسحاق كان يعقتد جديا بأن الثورة لا يمكنها أن تنجح الا عندما يحققها الشعب المدرك لمصالحه ومطامحه المدافع عن حقوقه. وكان يدرك جيدا أن الافراد – معما علت منزلتهم – والجيش معا غير قادرين على ازالة استعباد الشعب ماديا ومعنويا بشكل كامل، اذا ما ظل الشعب نفسه غير مدرك لوضعه وغاياته وأهدافه. ولذا كله تكون الثورة مشروعا تماما اذا كانت تعبيرا حقيقيا عن حاجات الشعب الباطنية، ولا انقلبت شرا مستطيرا".

وعلى هذا الاساس أكد اسحاق ضرورة محاربة الجهل وأفكار القرون الوسطى المظلمة السائدة في مصر. وتنوير الشعب وتطوير وعيه السياسي، واستثارة الثورة الروحية، وليس اطلاقا الدينية – الاصلاحية. وفي هذا الصدد كتب في مقال "الثورة": "فآليت ألا أمسك القلم عن تهيئة الخواطر لثورة الأنفس حتى أرى منبتي ما رأيت في غيره من محاسن آثارها، وألا أعدل عن مقاومة الظالمين حتى أرى قومي أمة تقول ما تعتقد، ويؤخذ بما تقول. وألا أبرح متوسلا نبهاء الشرق بحرمة المجد القديم، ووحدة الذل الجديد، أن يضرموا في القلوب نار الغيرة والحمية، حتى أرى الشرق وطنا عزيزا".

ليس من العسير بعد كل هذا تفهم التقييم الايجابي الذي قدمه جرجي زيدان لصحافة أديب إسحاق قبل زهاء قرن من الزمان بقوله: "كانت من أعظم أركان النهضة الانشائية في الجرائد". وهذا الوصف لا يزال قائما حتى الآن، فالدكتور عبد اللطيف حمزة يجزم قائلا: "كانت جرائده في الحقيقة من أقوى دعائم النهضتين القومية والأدبية" وقد طور أحد مؤرخي الصحافة المصرية هذا الرأي بقوله: "ان تلك الصحف كانت مثالا وقدوة للجرائد الحرة المستقلة الاصلية، التي خدمت طرائق الفكر السياسي القومي". وقد شدد المستشرق روثمان على أن مقالات أديب اسحاق "الشاعر السوري المشهور" و"رائد النهضة الأدبية والثقافية القومية العربية" و"الموجهة ضد الاحتلال الاستعماري والاستبداد الخديوي، والداعية الى قيام دولة عربية قومية مستقلة، تركت أثرا عظيما على مستقبل حركة التحرر الوطني العربي". كما قدر المستشرقون السوفييت بدءا من كراتشكوفسكي الى الآن، صحافة اسحاق تقديرا عاليا جدا، وعلى سبيل المثال لا الحصر وصف ايفانوف جريدتي "مصر" و"التجارة" بأنهما كانتا "من الجرائد الثورية المناهضة للاستعمار اللتين أنشأهما في مصر المهاجر السوري المناضل من أجل الحرية".

بيد أن صحافة أديب اسحاق التي كانت كالصور الذي ينفه في الدعوة الى الفكر النهضوي الثقافي القومي والتنوير العبي وكانت بمثابة الرائد غير المنازع في ميدان الصحافة، ولذلك لم يكن بامكانها التواصل والاستمرار في ظل الظروف العصيبة السائدة في مصر عصرئذ. فالأوضاع المعقدة الناجمة عن اعتداءات واستفزازات المستعمرين الإنكليز (والفرنسيين أيضا) كانت تتعرض لانتقادات شديدة اللهجة في كل عدد تقريبا من جرائد أديب. فكانت جريدتا "مصر" و"التجارة" تصبان جم غضبهما وهجومهما على الدول الأجنبية الأكثر تدخلا في البلاد الشرقية، وعلى الرقيبين الإنكليزي والفرنسي في مصر، وعلى الحكومة الخديوية، مما حدا بالحكومة الى توجيه انذار لهما. فما كان من جريدة "التجارة" إلا أن نشرت الانذار في العدد 123 بتاريخ 15/11/1879، ومفاده أن أديب اسحاق "يخرج عن النهج المعتدل المافق لقانون المطبوعات، ويطلب اليه "ملاحظة ظروف الزمان والمكان" و"عدم تخديش أذهان العامة" ، فعلق اسحاق في "التجارة" بسخرية مرة أخرى على الإنذار، قائلا: "اننا نعيش في عهد أمير طيب وزارة معروفة بحرية أعضائها الكرام"، ثم يتابع كلامه مؤكدا: "أ، المسلك الذي اختارته التجارة لادراك غايتها النبيلة، انما هو المدافعة عن الوطن وحكاية الأمور الواقعة، والقيام بأمر الحق والتشبث بأهداب الاعتدال، ولا ريب أن هذا المسلك يضمن لها رضا أولي الأمر وسائر ذوي الألباب، فضلا عن أن يوجب العقاب لها". وكان رد فعل حكومة رياض باشا سلبيا، اذ اصدرت قرارا في أواسط تشرين الثاني (نوفمبر) جاء فيه: "وحيث ما اعتادت نشره هاتان الجريدتان ضرره أكثر من نفعه اقتضى الحال صدور الحكم من ادارة المطبوعات بالغائهما مؤبدا".

لقد ذكر الكاتبان خير الله وسامي عزيز أن أديب اسحاق قد نفي الى مصر باعتباره "ثائرا"، فوصل الى باريس مارا ببيروت. ومن نافل القول ان عبد الله النديم كان قد زور الحقائق التاريخية حين زعم أن قرار حكومة رياض باشا كان له صلة "بدفاع صحيفتي التجارة ومصر عن شريف باشا"، وحين عد كل من يتعامل معه شريكا في الجريمة". وهذا لم يكن مفاجئا ، بسبب غياب الأفغاني – كما ينقل عن عبد الله النديم". وقد انبرت "التجارة" في أعدادها الصادرة بتاريخ 9، 27، 30 نيسان (إبريل) 1879 للدفاع عن نفسها من التهمة النكراء الموجهة لها، اذ عدت دفاعها عن شريف باشا انتصار للحق والعدل، "فشريف باشا كان مع الشورى آنذاك، وقد ايدته الصحافة من قبل عندما قدم لائحته الدستورية وأعرب عن استعداده لتقحيق المطالب الوطنية". ومن الطريف أن أديب اسحاق المنفي من مصر كان قد وكل محاميا أقام الدعوى على حكومة رياض باشا في شهر كانون الثاني (يناير) 1880. فأظهر المحامي المشهور "وريجوس" من معايب الادارة ومفاسد الوزارة ما تقشعر منه الأبدان حتى خيل للسامعين أنهم يرون الادارة متقمصة جسم انسان منخطف اللون بادي النحول على حد تعبير المؤرخ الطرزي.

كان غياب أديب اسحاق بعد صنوع والأفغاني أشبه بضربة قاصمة للحركة الوطنية المصرية عامة، للحزب الوطني الذي لم يكتمل بناؤه التنظيمي بعد، خاصة، بل يمكن القول ان علامة استفهام كبيرة وضعت أمام مستقبل الحركة الوطنية في منتصف الثاني من عام 1879 مع توطد مواقع الحكم الخديوي الاستبدادي، الذي مثل فعليا سلطة غلاة الرجعيين من الاقطاعيين الأرستقراطيين والأعيان وكبار التجار من الأجانب والمنحدرين من أصول غير مصرية. واضطر الوطنيون لخوض غمار معارك قاسية ضد الرجعية المحلية والمحتلين الأجانب الذين شددوا من هجومهم اثر غياب قادة الفكر العظام عن الميدان السياسي. هذه المرحلة من النضال الحامي الوطيسي لم تكن نتيجة الظروف الموضوعية التي فرضت عل القوى الوطنية مهمة التصدي لاستفزازات الخديوي واعتداؤات الدخلاء الأجانب، بل وناجمة عن الظروف الذاتية التي تجلت في النهوض الشعبي العارم والنقمة الجماهيرية الكبيرة التي عمت البلاد طولا وعرضا اثر نفي الزعماء الثلاثة صنوع – الأفغاني – اسحاق من الديار المصرية.

وقد ازدادت الأوضاع خطورة عندما تسلمت العناصر الاقطاعية والعساكر الرجعية دفة القيادة في الحركة الوطنية لامصرية، والتي أثارت الفوضى والبلبلة في البلاد بسبب ركضها اللاهث وراء مصالحها الطبقية ومكاسبها الفئوية الضيقة من جانب، والمواقف اللاطونية التي اتخذها الزعماء السياسيون الجدد الذين تسلموا قيادة النشاط السياسي بدلا من رجالات السياسة ذوي الميول الليبرالية النهضوية، من جانب آخر. هؤلاء الساسة الذين لم يدخروا وسعا في تحجيم وتقزيم الأهداف والمطامح التي نشدتها الحركة الوطنية المصرية، والتي تعرضت لأبشع الهجمات من قبل الصفوة الحاكمة الخديوية وأركان حرب السلطان التركي والاستعماريين الغربيين، من الجانب الآخر.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

المصادر

  1. ^ نجاريان, يغيا (2005). النهضة القومية-الثقافية العربية. دمشق، سوريا: أكاديمية العلوم الأرمنية - الدار الوطنية الجديدة.