شبكة المدارس الوطنية

شبكة المدارس الوطنية، هو مشروع لإنشاء مدارس وطنية يهدف إلى تدعيم أسس المحبة والوفاق بين أبناء الشعب اللبناني والتوافق بين الطوائف الدينية المختلفة. أسسها بطرس البستاني في بيروت، عام 1870.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

التأسيس

ان سياسة اعادة الوفاق بين الطوائف المسيحية المختلفة، والمشاريع التعليمية التثقيفية التي صبت في مجرى هاتيك السياسة التي مارسها داود باشا، لقيت استحسانا كبيرا لدى أوساط رواد النهضة البيروتية الذين لعبوا دورا هاما وايجابيا عبر المدارس الوطنية الحديثة المولد. ففي تلك الفترة، كان المعلم بطرس البستاني قد انتهى من وضع قانون "المدرسة الداودية الدرزية" وسلمه الى داود باشا ثم سار على منوار الأخير فأنشأ مدرسة علمانية عرفت باسم "المدرسة الوطنية"، التي رأى كراتشكوفسكي عن غير حق انها "مدرسة من نمط المدارس التبشيرية" ، وهي في حقيقة الأمر منهاضة تماما للتبشير الديني أو المذهبي. ومن أسطع الأمثلة على ما نقول المقال الذي دبجه سليم البستاني في مجلة "الجنان" حول خلاصة عقيدة بطرس البستاني في مجال التربية والتعليم. فبعد التأكيد أن معظم المدارس التبشيرية ذات رسالة دينية – مذهبية "أنشئت بهدف التأثير على أذهان الناس تأثيرا دينيا – روحيا" أو لنشر هذه وتلك من اللغات الأجنبية، يتابع خواطره قائلا: "فأولادنا يتلقون معلومات عن بلاد بعيدة عنا وغريبة علينا، بينما لا يعلمون أي شيء عن بلادنا .. انهم يعرفون كل شيء عن صروح باريس وأنصابها وأسواقها وشوارعها، وعن تاريخ الانكليز والألمان، ولكنهم يجهلون تماما تاريخ بلادهم ودولتهم وشعبهم". ويستطرد البستاني قوله بأ، تعليما كهذا يكرس الفرقة والتجزئة، والتمزق والتشرذم داخل صفوف الشعب، ويجتث من الجذور التراث الثقافي الخاص، بينما يتركز الهدف الرئيسي للمدرسة الوطنية في تدعيم أسس المحبة والوفاق، والتضامن والتآخي بين أبناء الشعب الواحد. وفي استئصال أسباب التعصب الديني والعقدانية والانقسام الطائفي. ثم يخلص البستاني الى ما يلي: "مادام معظم المدارس بيد الافرنج فان الطريق الى الاصلاح المنشود سيظل مسدودا". والاصلاح المنشود برأيه هو: ترسيخ أسس الوحدة الوطنية. ويختتم البستاني بتأكيده أن علوم التراث يجب أن تكون أس الأساس فيقول: "وحفاظا منا على الميزات الخصوصية لأبناء الأمة يجب علنيا السعي لخلق نظام تعليم موحد يزرع في عقول الناس مبدأ الوطنية".[1]

مثلت "المدرسة الوطنية" البستانية ظاهرة هامة وبارزة في الحياة الاجتماعية – الثقافية ببيروت، لأنها – كما يدل اسمها – مدرسة امتازت بأداء رسالة وطنية سورية - عربية علمانية، بدلا من التبشير المذهبي. فقد شرعت أبوابها أمام أبناء جميع الطوائف، مما حفز تطور الحركة التنويرية القومية – العبية. وبعد تصرم عشر سنوات على انشائها أذاع المعلم بطرس البستاني في "الجنان"اعلانا جاء فيه: "قررنا يومها انشاء المدرسة الوطنية على أساس وطني، لا طائفي"، وأن "أبوابها كانت وستظل مفتوحة أمام تلامذة من جميع الطوائف والملل والأجانس من دون أن تتعرض لمذاهبهم الخصوصية أو تجبرهم باتباع غير مذهب والديهم، مع اعطاء الرخصة التامة لهم في اجراء فروض دياناتهم". غير أن هذا لا يعني أن المدرسة البستانية كانت تدعو الى قومية عثمانية ، بل قومية سورية – عروبية، لأن مؤسسها ركز دائما على الحقائق التالية: "ان المدرسة تهتم بتعزيز جانب اللغة الأم (يقصد العربية – المؤلف) اذ ان التعرف على الوطن الأم، واستيعاب العلوم التي طورها الأجانب بلغاتهم الأم أيضا وغيرها من أسباب رقي الانسان مرتبطة الى حد بعيد باتقان اللغة الأم كالرضاع من حليب الأم، لا بل وأكثر من هذا، "ستعنى المردسة بالحفاظ على مشاعر حب الوطن والتضحية في سبيله حتى لا يكون الطلاب غرباء في وطنهم".

وقد أشرف المعلم بطرس البستاني على ادارة المدرسة الوطنية، فتعاقد مع المعلمين الكبار نصارى ومسلمين عملا بمبدأ استخدام الأستاذة من مذاهب وأجناس مختلفة آخذا بالحسبان الكفاءة والاقتدار. فكان ناصيف اليازجي يدرس اللغة والآداب العربية والشيخ يوسف الأسير يدرس الفقه وعلوم الدين الإسلامي الأخرى، كما جمع حوله نخبة من أساتذة المبشرين البروتستانت الذين درسوا الرياضيات والطبيعيات واللغات الأجنبية (التركية والفرنسية والإنكليزية) والآداب الأجنبية. وقد نالت المدرسة شهرة عظيمة في عموم الشرق العربي فتوافد عليها أكثر من مئتي طالب من الأقاليم العربية التابعة للسلطنة العثمانية. ولم يقتصر الأمر على هذا وحسب. فقد توجه اليه أهل البصرة سنة 1876 بالتماس يرجون فيه انشاء مدرسة مماثلة في مدينتهم ، فارسل واحدا من اقربائه وهو سليمان البستاني لآداء هذه المهمة الجليلة.

في ذلك الوقت توسعت المدارس ومارست نشاطا تنويريا عظيما في بيروت، وخاصة المدارس اليسوعية الابتدائية. ومدرسة الرحمة للراهبات التي ضمت نحو 800 راهبة، وفي سنة 1865 تأسست المدرسة البطريكية للروم الكاثوليك برعاية البطرك جرجس عيسى، فظهر من تلامذتها جماعة من الأدباء، وكانت ممتازة بصبغتها الوطنية، وحرية الدين والتعليم شأنها في ذلك شأن المدرسة الوطنية البستانية، وكان التدريس جاريا باللغة العربية وقد تحلق حولها لفيف من كبار الأستاذة البارزين، أمثال :اليازجي، والشيخ ابراهيم الباقي، وسليم بك تقلا، والجراجيري بطرك المستقبل. كما تم افتتاح أو اعادة تنظيم العديد من المدارس الكلية التي أخذت تحذو حذو المدرسة الوطنية البستانية. وقد أنشأ المطران يوسف الدبس "مدرسة الحكمة" سنة 1865 وتوسعت سنة 1874، وهي للطائفة المارونية، كان التعليم فيها بالفرنسية. وكانت المدرسة الأرثوذكسية في بيروت قد أقفلت أبوابها، وتأسست سنة 1866 في سوق الغرب مدرسة الثلاثة أقمار ( وهم القديسون باسيليوس الكبير، غيرغوريوس النازيانزي ويوحنا فم الذهب)، فكان لها شأن عظيم بين المدارس الوطنية خلال عمرها الطويل.


الجامعة الأمريكية في بيروت

غير أن وجود المدارس الوطنية في بيروت والجبل الرفيعة المستوى على غرار المدارس البستانية ، لم يحل دون تطوير المدرسة الكلية التي انشأها المبعوثون الأمريكيون سنة 1862، والتي تحولت عام 1866 الى ما عرف ب"الكلية الإنجيلية السورية"، وهي مؤسسة علمية جامعية. فقد اضيفت الى المدرسة الكلية القديمة كليتان للطب والعلوم التطبيقية (الرياضيات والفيزياء وغيرها). وقد سميت منذ اليوم الأول لتأسيسها "بالجامعة الأمريكية في بيروت". أما الأموال اللازمة لتحويل المدرسة الكلية الى جامعة فقد جمعت عن طريق التبرعات في الولايات المتحدة بسعي من أول رئيس للجامعة دانيال بلس (1822-1916) ومساعديه الدكتورين فانديك ويوحنا ورتبات.

فتحت الجامعة أبوابها فبلغ عدد طلال كلية الطب 46، ثم وصل الى المئات خلال سنوات معدودة. كان الدكتور حنا ورتبات من أبرز الأساتذة في كلية الطب، وقد ترك لنا مؤلفات وتراجم عديدة في التشريح والفيزيولوجيا نذكر منها: "التوضيح في أصول التشريح"، و"أصول الفسيولجية" و"أعضاء جسم الإنسان ووظائفها" و"كفاية العوام في حفظ الصحة وتدبير الأسقام" و"قواعد حفظ الصحة" و"وصايا الشيوخ للشبان" وغيرها.

ونشر ورتبات بالانكليزية دراسات حول أديان سورية، ومعجم عربي إنكليزي له وللدكتور بورتر، وكتاب "حكمة العرب" فضلا عن الكثير من المقالات العلمية – الطبية التي كانت تساهم في تنوير أذهان الناشئة العربية. وحسبنا فيه شهادة عظيم عبقري وهو الدكتور فانديك الذي قيم تقييما موضوعيا نشاط هذا الرائد النهضوي الأرمني الأصل والنشأة: "لم يكن يضع تفرقة في الدين والجنس والعرق وما الى ذلك. كان على علاقات حميمة وطيبة مع الأرمن في بيروت وغيهرا. وكان عظيما في مؤاساته وعطفه على أبناء شعبه الأرمني الذي قاسى الأمرين من ظلم السلطان عبد الحميد الأحمر الدامي، فهو لم يخف يوما أصله الأرمني، بل كان يعتز بها. وفي الأعوام الأخيرة من حياته اعترت يقينياته بعض الشكوك، فكان يكرر دائما كلاما من هذا النوع: "يخيل لي أن اللع عكس ما يبشر به رجال الكهنوت. فلو كان عليما وبصيرا وعادلا رحيما لما سمح بأن يعذب الأرمن ويذبحوا على هذا الشكل المروع الفظيع".

وقد قدم المعاصرون شهادات وثائقية تفيد بأن يوحنا وارتبات كان طبيبا انسانيا يواسي الضعفاء ويعين الفقراء والمحتاجين ويساعد الكادحين بعقولهم وسواعدهم وينير عقول الشباب المتطلع الى مراقي العلم والمعرفة. فقد وصفه المبشر جوسب في مذكراته فقال: "كان انسانا نشيطا وحيويا جدا، عالي الثقافة وطبيبا قديرا ... كان رحوما وعطوفا على الفقراء من المرضى بوجه الخصوص"، وله وحده كل الفضل في انشاء مشفى "العصفورية" على مقربة من بيروت، الذي كان في واقع الأمر مركزا لأداء الخدمات الانسانية أكثر منه مشفى لمعالجة المصابين بالأمراض النفسية والعقلية. ومن روائع أعماله وتضحياته بالنفس في سبيل آداء واجباته الانسانية كطبيب وانسان، أنه كان يعرض حياته للخطر بالعمل ليلا ونهارا في الأحياء الشعبية ابان انتشار الأمراض السارية والأوبئة في بيروت.

المصادر

  1. ^ نجاريان, يغيا (2005). النهضة القومية-الثقافية العربية. دمشق، سوريا: أكاديمية العلوم الأرمنية - الدار الوطنية الجديدة.