عصر محمد علي

(تم التحويل من مصر محمد علي)

لا جدال في ان محمد علي قد سما باعماله الى مصاف عظماء الرجال، وتتمثل لك عظمته من كونه نشا نشاة متواضعة وتدرج من جندي بسيط الى ان ارتقى عرش مصر، فاسس ملكا عريضا، وغالب دولا كبارا، وانشا دولة عظيمة وحكومة ثابتة وطيدة، وبعث حضارة زاهرة، وانبت ثقافة كان لها الفضل الكبير في نشر لواء العلم والعرفان في وادي النيل.[1]

فالرجل الذي ينشئ كل ذلك، وكان اميا لم يتلق تعليما عاليا ولا اوليا، لابد ان يعد بحق من عظماء الرجال، ولولا عظمته لما تخطى نشاته الاولى، واذا تخطاها فلا يلبث ان يقف عند حد يتناسب مع مرتبته او مرتبة اقرانه، ولكن اضطلاعه بالمهمات الكبرى التي اخذها على عاتقه، وتاسيسه ذلك الملك الضخم رغم ما اعترضه من العقبات، وبقاء اثره خالدا طوال هذه السنين والى ما شاء الله يدل على مبلغ عبقريته.

نعم ان العانية الالهية لاحظته في مختلف ادوار حياته، وكان لها فضل كبير فيما وصل اليه من عز وسؤدد ، ولكن من من العظماء لم تكن العناية والاقدار دخل ايما دخل فيما نالوه من نجاح وتوفيق؟ ومن من العظماء المجهولين لم يقبر عظمتهم ادبار الحظ وغلبة الاقدار؟ فمع اعتقادنا بما للحظ والعناية الالهية من الاثر في حياة محمد علي، لا نشط في ان المواهب التي توافرت لديه كان لها القسط الاكبر في نجاحه وتوفيقه.

واول تلك المواهب ذكاؤه الخارق، وبعد نظره ، وسعة حيلته.

فقد جاء الى مصر ضابطا صغيرة في الحملة العثمانية التي جردتها تركيا لاخراج الفرنسيين من البلاد، وشهد انتهاء عهد الحملة الفرنسية، فلو كان على ذكاء عادي لانتهى امره بما انتهى اليه معظم ضباط الجيش التركي، ولكنه لمح من خلال الافق ما تتمخض عنه الامة المصرية من نزوع الى الحرية، وما يجيش في صدرها من امال كبار، وما تشعر به من سخط على نظام الحكم القديم، فماشاها في ميولها وسايرها في آمالها، ورسم لنفسه خطة الوصول الى عرش مصر عن طريق ارادة الشعب، وهي فكرة مبتكرة بالقياس الى ذلك العصر تدل على ذكاء محمد علي ودهائه وبعد نظره.

ثم تامل كيف اختط لنفسه طريق الوصول الى السلطة بين مختلف الاطماع والمنازع المختلفة، فلقد كان يعمل لهذا الغرض وامامه سلطتان يجب ان يتخلص منهما واحدة بعد الاخرى، وهما سلطة المماليك حكام البلد الاقدمين، وسلطة الوالي التركي الذي كان يمثل حكومة الاستانة، وكانت هذه الحكومة تعمل على ان تكون لها الكلمة العليا في البلاد بعد ان احتلتها بجيوشها، ثم كانت امامه عقبة اخرى وهي سلطة الجند الارناؤود والدلاة وغيرهم من اخلاط السلطنة العثمانية، فاستطاع محمد علي بدهائة وصبره وذكائه ان يضرب كل سلطة بالاخرى، وان يشق لنفسه طريق النجاح والوصول الى الغاية التي يطمح اليها.

كان خسرو باشا (والي مصر سنة 1802) يعمل للتخلص من محمد علي، فحاربه هذا بالجند اذ حرضهم على التمرد والمطالبة برواتبهم المتاخرة، وكان نتيجة تلك الحركة سقوط خسرو باشا وطرده من القاهرة، وكانت الفرصة سانحة ليحقق محمد علي أماله، ولكنه لم يشا ان يتعجل الوصول الى السلطة، بل اخذ لنفسه بالصبر والتريث حتى تتهيا له الظروف الملائمة التي يستقر فيها الحكم من غير منازع، فترك رؤساء الجند ينادون بطاهر باشا قائمقاما، ولعله كان يتوقع الا يطول مقامه في الحكم لما اشتهر عنه من الظلم، فثار عليه الاتراك الانكشارية وقتلوه، وخلا منصب الوالي من جديد، غير ان محمد علي تريث ايضا ولم يتعجل، كان الانكشارية قد اتفقوا على تعيين أحمد باشا واليا على مصر، فلم يرض بهذا التعيين وتحالف مع الامراء المماليك على اقصائه وترك السلطة لهم، والقى في روع كبيرهم ابراهيم بك انه الاحق بولاية مصر، وبذلك ضرب الاتراك بالمماليك، ثم ترك هؤلاء يحتملون امام الشعب مساوئ الحكم، فما لبثوا ان استهدفوا للثورة التي اقصتهم عن الحكم.

ويدلك على دهائه واناته انه كان في استطاعته ان يثب الى الحكم بعد سقوط دولة المماليك، لكنه اثر الانتظار واختار للولاية خورشد باشا، وبقى هو في صف الشعب يدافع عن مطالبه ويتودد الى زعمائه، فلما ساءت سيرة خورشد وكثرة مظالمه ثار عليه الشعب وخلعه كما رايته مفصلا في الجزء الثاني من تاريخ الحركة القومية ، وهناك طلب الزعماء من محمد علي ان يقبل منصب الولاية والحوا عليه في ان يجيب طلبهم، فقبل ما عرضوه عليه وصار الولاي المختار من الشعب.

واستطاع بذكائه وصدق نظره في الامور وسعة حيلته ان يذللك العقبات التي اعترضته في السنوات الاولى من حكمه، فتغلب على دسائس الاتراك والانجليز ومساعي المماليك، كما فصلنا ذلك في الفصول الاولى، كل ذلك يدللك على مقدرته بل على عبقريته، وخاصة اذا لاحظت انه الى ذلك الحين كان اميا، اذ من المعروف انه لم يبدأ في تعليم القراءة والكتابة إلا بعد أن تجاوز الاربعين وبعد ان تبوا عرش مصر وتخطى العقبات الاولى في حكمه.

ويتجلى لك بعد نظره ورجاحة عقله واخذه الامور بالاناة والحكمة انه لما اعتزم ادخال النظام الجديد في الجيش المصري لم يغامر بانفاذ عزمه، بل انتظر السنين الطوال يتحين الفرص الملائمة لانفاذ مشروعه، ولو انه استعجل الامر وتسرع لاستهدف لهياج الجنود، ولشهدت البلاد ثورة من ثورات الجند التي تودي بمراكز الولاة بل توردهم موارد الحتف والهلاك.

ولعلك تذكر حين عودته من الاسكندرية بعد جلاء الحملة الانلجيزي عن البلاد سنة 1807 كيف ثار الجند في القاهرة وعاثوا في اسواقها فسادا، وكيف استعمل الحكمة في اخماد ثورتهم. واعتزم من ذلك الحين ان يتخلص من الجيش القديم ويحل محله جيشا حديثا قوامه النظام والطاعة، ولكنه لم يمض في تحقيق برنامجه الا حوالي سنة 1819 -1820، وما ذلك الا لما آنسه من الخطر اذا هو انفذ مشروعه قبل ذلك الحين، فمثل هذه الاناة والحكمة وسعة الحيلة لا تصدر الا عن دهاتين الساسة ذوي الرءوس الكبيرة، وبهذه الصفات نجح في تاسيس الجيش المصري النظامي، فتامل كيف انتظر اكثر من اثنتي عشرة سنة قبل ان يبدا في انفاذ فكرته، وكيف انه عندما بدا في دور التنفيذ كان شديد الاحتياط بعيد النظر، فاسس المدرسة الحربية الاولى لتخريج الضباط النظاميين في اسوان اي في اقاصي الوجه القبلي، لكي يبدا بمشروعه بعيدا عن الدسائس والفتن التي كانت القاهرة مسرحا لها.

فبمثل هذا الذكاء وبعد النظر والاناة استطاع محمد علي ان يشق لنفسه طريق النجاح، وهو من هذه الناحية جدير بان يعلم ساسة الدول وزعماء الامة كيف ياخذون الامور بالحكمة والصبر ورجاحة العقل.

ومن مواهبه التي ذللت العقبات في طريقه وكفلت له الاضطلاع بالمهمات الجسام. الشجاعة وعلو الهمة، ومضاء العزيمة، فهذه الصفات كانت من اكبر مميزاته بعد الذكاء وحسن التدبير.

اما عن شجاته واستخفافه بالمخاطر فعللك تذكر حادثة براوسطه وكيف امتنع اهلها عن اداء ما عليهم من الضرائب، فعرض محمد علي على حاكم قوله ان ياخذ على عهدته اجبار اهلها على الاذعان، وسار اليهم في عشرة من الجند، وكيف استطاع ان يعتقل اعيان المدينة ويسوقهم الى قوله، وبذلك الاذعان اذعن اهل براوسطه وادوا ما عليهم من الخراج، فهذه الحادثة تدلك على ما جبلت نفس محمد علي من الجرأة، واقتحام الاخطار، فلقد كان هدفا لان يذهب ضحية مغامرته في تلك القرية الثائرة، ولاشك في ان تلك الشجاعة التي ظهرت عليه منذ نعومة اظفاره كانت كما اسلفنا من اخص صفاته بل هي من اسباب نجاحه في تاسيس ملكه العظيم.

وتتجلى شجاعته وقوة عزيمته في اقدامه على الحروب ومواصلة القتال رغم ما اعترضه من الهزائم والعقبات، واحتفاظه برباطة جأشه في اشد الاوقات حرجا، ولو لم تكن الشجاعة وعلو الهمة من اخص مواهبه لاضطربت نفسه وتولاها الياس امام المخاطر التي استهدف لها في كثير من المواطن.

ففي حرب الوهابيين استهدفت الحملات التي جردها على الحجاز للهزائم والخسائر الفادحة، وكانت تجيئه في بعض المواطن انباء مخيفة عما حل بجيشه من الكوارث فلم يتزلزل لهذه الانباء بل كان يقابلها بالجلد والثبات وقوة العزيمة، وكان كلما اخفقت حملة جرد غيرها، ماضيا في تحقيق غايته، وقد شهد له الجبرتي، ولم يكن من مناصريه، بعلو الهمة لمناسبة الكارثة التي جلت بالجيش المصري في واقعة الصفراء فقال عنه: "ولما حصل ذلك لم يتزلزل الباشا واستمر على همته في تجهيز عساكر أخرى.

ولو تابعت وقائع الحرب الوهابية لتحققت انه لولا همة محمد علي وقوة ارادته لما استطاع ان يواصل هذه الحرب ثماني سنوات متواليات حتى وصل بها الى نهايته من الظفر بالوهابيين وبسط نفوذ مصر وسلطتها على جزيرة العرب.

وتبدو لك ايضا شجاعة محمد علي في اعلانه الحرب على تركيا وزحفه عليها، فان محاربة السلطنة العثمانية وهي وقتئذ دولة الخلافة وصاحبة الجيوش الجرارة التي لا ينضب معينها، أمر يحتاج الى حظ كبير من الشجاعة وعلو الهمة، بل والمجازفة والاستهداف للاخطار، اذ لو ظفر به السلطان في واقعة من وقائع تلك الحروب الطاحنة لكانت دولة محمد علي بل حياته عرضة للخطر، فهذا الاقدام له قيمته في الحكم على شخصيته.

واذ قال قائل ان محمد علي انما حارب تركيا في الوقت الذي بدت عليها فيه اعراض الضعف والهرم، فماذا نقول عن وقوفه في وجه الدول الاوروبية جمعاء عقب انتصار الجيش المصري في بيلان وقونيه، واعتراضه على حرمانه ثمرة انتصاراته، فاذا رجعت الى الخطابات التي وجهها الى مندوبي الدول واعتراضه الى تدخلهن ومصارحتهن بعدم النزول على ارادتهن تجلى لك مبلغ شجاعته ورباطة جاشه وقوة يقينه، ثم ماذا تقول في تحديه الدول الاوروبية في الحرب التركية الثانية عقب انتصاره في واقعة نصيبين ورفضه الاذعان لقراراتها وطرده سفراءها من مصر؟ كل ذلك يدل على مبلغ ما تذرع به من شجاعة النفس ومغالبة المصاعب وتلك لعمري صفات العبقرية والعظمة.

وتتبين قوة عزيمته من انه انشا من العدم جيشا ضخما على احدث نظام، واسطولا قويا رفع علم مصر فوق ظهر البحار، واوجد حكومة منتظمة حيث كانت الفوضى ضاربة اطنابها ، وانشا المدارس والمعاهد حيث كانت الجهالة فاشية. والمستشفيات حيث كانت الامراض تفتك بالاهلين، وشق الترع واقام الجسور حيث كانت مياه النيل تذهب هدرا دون ان تنتفع منها الاراضي، واسس البعثات العلمية واقام المصانع والمباني العامة، كل ذلك يدل على ما تفعله العزيمة الحديدية، وقد شهد له الجبرتي بقوة العزم والشهامة، فقال عنه لمناسبة اصلاحه سد ابو قير: "فأرسل اليه المباشرين والقومة والرجال والفعلة والنجارين والبنائين والمسامير والات الحديد والاحجار والمؤن والاخشاب العظيمة والسهوم والبراطيم حتى تتمه وكان له مندوحة لم تكن لغيره من ملوك هذه الازمان، ولو وفقه الله من العدالة على ما فيه من العزم والسياسة والشهامة والتدبير والمطاولة لكان اعجوبة زمانه وفريد اقرانه"، وهي شهادة لها قيمتها من مؤرخ عرف عنه باحكامه الشديدة على محمد علي.

وقد ذكر عنه الكونت بنديتي قنصل فرنسا العام في مصر وقتئذ انه لما شرع في اقامة القناطر الخيرية وسمع بالاعتراضات التي ابديت على المشروع من جهة العقبات والمصاعب التي تحول دون نجاحه كان جوابه: "ان هذا صراع بيني وبين النهر العظيم! لكني ساخرج فائزا من هذا الصراع!"، فهذا الجواب يدلك على مبلغ شعوره بقوة ارادته، ولولا تلك الارادة لما اعتزم ان يقهر النيل ويتحكم في جريانه بواسطة مشروعه الكبير.

ومن اخص صفاته التي لازمته طول حكمه حبه للعمل وجلده على احتمال اعبائه، فلم يكن يعرف لنفسه هوادة، وكان يهتم بدقائق اعمال الحكومة ويراقبها بنفسه، ولا ينام من الليل الا قليلا، وكان يصرف معظم وقته في مراقبة الاعمال والعمال، ويكثر من التجول في الاقاليم ليراقب بنفسه تنفيذ التعليمات التي يصدرها، وبهذه الوسيلة كان يبث روح العمل والنشاط في نفوس الموظفين ويشعرهم دائما بان عينه لا تغفل عن مراقبة اعماله، وغني عن البيان ان هذا يستدعي مثابرة وجلدا على العمل ونشاطا لا يعرف الملل ولا الكلل، وهذا النشاط كان امرا غير مالوف في ملوك الشرق وامرائه الذين هم في الغالب اميل الى الدعة والكسل والانصراف الى الراحة وترك حبل الامور على غاربها والانكباب على الملاهي والملذات، فمحمد علي كان فذا بين ملوك الشرق وحكامه، وهو بنشاطه المنقطع النظير قد اعطى الملوك والحكام كافة احسن مثال للاضطلاع بمهام الامور، ولقد كان هذا النشاط موضع اعجاب الافرنج الذين لم يالفوا مثل تلك الحركة المستمرة من حكام الشرق وملوكه، ولقد تعجبوا على الاخص حينما رأوه وهو في سن السبعين يقوم برحلة طويلة شاقة في السودان ويتوغل في اصقاعه النائية مستهدفا للمتاعب والامراض متنقلا من جهة الى اخرى على اتم ما يكون من النشاط واليقظة، فهذه الحركة وذلك النشاط مع التقدم في السن يعطينا فكرة عما غرس في نفسه من علو الهمة وحبه للعمل.

ولا يخفى ان حبه للعمل ويقظته في مراقبة موظفي الحكومة كان لهما فضل كبير في تقدم الاداة الحكومية في عهده وبعث روح النشاط في فروعها بعد ان كانت الحكومة مصابة بالجمود او بما يشبه الشلل في عهد الحكم التركي وحكم المماليك.

تلك هي الصفات والمواهب التي تكونت منها شخصية محمد علي وجعلت منه رجلا عظيما، والان فلنبحث عن اثر هذه العظمة ونتائجها في ولايته الحكم، لان من العظماء من تتوافر فيهم صفات العظمة ولكنهم يقصرونها على ذواتهم وانفسهم فلا تنال البلاد منهم ثمرة ما، بل قد يجلبون عليها النكبات والكوارث، ومع ذلك يعدون عظماء، ولكن محمد علي كان من صنف العظماء الذين نالت البلاد على ايديهم كبرى الفوائد.

فهو من الوجهة السياسية كان يرمي الى انشاء دولة مصرية مستقلة، قوية الباس عظيمة السلطان، منيعة الجانب، وهي غاية تعد المثل الاعلى للقومية المصرية، ولقد حقق فعلا تلك الغاية وجعل من مصر دولة فتية مستقلة تمتد حدودها من جبال طوروس شمالا إلى أقاصي السودان جنوبا، وتشمل مصر وسورية وبلاد العرب وجزيرة كريت وقسما من الاناضول، ولئن تراجعت حدود مصر طبقا لمعاهدة لندره كما فصلناه في موضعه فقد بقيت حدودها الاصلية سليمة شملت استقلال مصر والسودان وحققت وحدة وادي النيل السياسية والقومية.

وغني عن البيان ان تحقيق هذا المشروع العظيم ليس من الهنات الهينات، ولا ينهض به رجل عادي، بل يحتاج الى سياسي كبير من اعظم الرجال همة ودهاء، فان اي خطأ يبدر منه كان يكفي لاحباط المشروع في خطواته الاولى، او هدمه من اساسه بعد تمامه، ولكن محمد علي احاط مشروعه بالحر وبعد النظر والحكمة، ويكفيك برهانا على بعد نظره في السياسة، أنه لم اعرض عليه مشروع حفر قناة السويس اعرض عنه رغم الحاح بعض الماليين والسياسييين الافرنج، اذ راى انه سيؤدي الى تدخل الدول في شئون مصر واتجاه الاطماع اليها وجعلها هدفا للدسائس الاستعمارية مما يفضي الى ضياع استقلالها، ومما يؤثر عنه انه قال في هذا الصدد: "اذا انا فتحت قناة السويس فسأنشئ بوسفورا ثانيا، والبوسفور سيؤدي الى ضياع السلطنة العثمانية، وبفتح قناة السويس تستهدف مصر للاطماع اكثر مما هي الان، ويحيق الخطر بالعمل الذي قمت به وبخلفائي من بعدي".

ولقد حققت الايام صدق نظره، وما كان اجدر خلفاءه ان يعملوا برايه فلا يغامروا بمستقبل البلاد وينشئوا فيها بوسوفرا ثانيا افضى الى ضياع استقلالها، ولكن هكذا شاء جد مصر العاثر ان يتنكبوا سبيله ويفتحوا تلك القناة التي كانت شؤما على البلاد.

ان كفاءة محمد علي كرجل سياسي بعيد النظر ظهرت في تاسيس الدولة المصرية المستقلة وفي ابعاد اليد الاجنبية عن التدخل في شئونها، ومن هنا جاءته فكرة المعارضة في فتح قناة السويس، وتبدو هذه الكفاءة ايضا في كونه مع وفرة اعمال الاصلاح والعمران التي تمت على يده، لم يحمل مصر دينا لدولة اجنبية، ولم يقع فيما وقع فيها خلفاؤه من مديد الاستدانة وفتح ثغرات التدخل الاجنبي في شئون البلاد.

ومما يذكر في هذا الصدد، أن شركة انجليزية طلبت اليه ان ياذن لها باجراء اصلاحات هامة في ميناء السويس تزيد من اتساعها وتجعلها مرفأ كبيرا، فابى ان يجيب الطلب، وكذلك لم يطمئن الى مد سكة حديدية بين مصر والسويس على يد شركة اجنبية اخرى، وبعد ان اتفق واياها على انفاذ المشروع عدل عنه خوفا من عواقب امتداد النفوذ البريطاني في مصر.

ففضل محمد علي ليس مقصورا على تحقيق استقلال مصر بل هو فوق ذلك قد وضع الدعائم الكفيلة بصيانة ذلك الاستقلال، ورسم السياسة الحكيمة التي تجعله بمنجاة من المخاطر، ولو ان خلفاؤه حذوا حذوه واتبعوا سياسته لما تصدع بناء الاستقلال في عهدهم.

تلك كانت اعمال محمد علي ومقاصده من الوجهة السياسية ، أما من الوجهة العمرانية فقد كان من الرجال ذوي الخطط الواسعة النطاق في الاصلاح ونشر لواء العلم والحضارة في البلاد، ولا نريد هنا ان نسرد اعماله في هذا الصدد فيكفي ان نرجع بك الى ما كتبناه عنها في الفصول السابقة، فهو من غير شك باعث نهضة الاصلاح والعمران في مصر الحديثة.

وهو من الوجهة الحكومية قد اسس حكومة نظامية، ولم يكن بمصر ثمة حكومة من قبل، بل كانت هيئة قوامها الخلل والفوضى، لكن محمد علي اوجد حكومة مستقرة، لها قواعد وانظمة ودواوين وادارات، وسن لها قوانين ولوائح، فهو من هذه الوجهة يعد من كبار رجال الدولة، ولا شك ان فكرة التنظيم هي ناحية بارزة من نواحي عبقريته، فهو الذي بث روح النظام في هيئات الحكومة وفروعها، في الجيش والبحرية، والتعليم، والشئون الخارجية، والري ، إلى ما غير ذلك.

كذلك يجب ان نذكر لمحمد علي انه عني بتنشئة اولاده واحفاده تنشئة علمية، فلم يتركهم رهن المقاصير والسرايات، وبين الخدم والغانيات، كما كان شان ملوك الشرق في الغالب، بل عنى بتربيتهم وتعويدهم الاضطلاع بمهام الدولة، ووكل اليهم كما مر بك قيادة الجيوش وخوض غمار الحروب، فعهد الىطوسون قيادة الحملة الاولى على الوهابيين، والى ابراهيم الحملة الثانية، والى اسماعيل الحملة على السودان ثم عاونه فيها ابراهيم، وعهد الى ابراهيم قيادة الجيوش في حرب المورة، ثم في حروب الشام والاناضول، وعلم ابنه سعيد فنون البحرية ودربه عليها علما وعملا، وارسل طائفة من ابنائه واحفاده الى فرنسا ضمن البعثات العلمية.

على انه من الواجب ان نقرر اثباتا للحقيقة من جميع نواحيها ان الشعب لم يتحرر من الشقاء في عصر محمدعلي، فقد وقع عليه ارهاق ومظالم كثيرة، ويحق لنا من هذه الناحية ان نقول ان اعمال الاصلاح التي تمت في عصر محمد علي لم ينتفع بها الجيل الذي عاش في ذلك العصر بل انتفعت منها الاجيال التي توالت من بعده، اما جيل محمد علي فقد فدحته اعمال السخرة والارخاق ، ولم يتذوق طعم الحرية الشخصية، ولا حق الملكية، فلعلك تذكر ان محمد علي قد تملك كل اراضي مصر، ووضع نظام احتكار الحاصلات الزراعية وبيعها، كما احتكر التجارة والصناعة، وقد اساء هذا النظام الى الشعب اساءة كبرى لانه ضرب عليه حجابا من الفقر والجمود، وصارت الحكومة هي المالكة لكل اطيان القطر وحاصلاته وتجارته وصناعته، وهذه الالة هي موضع ضعف في سياسة محمد علي الاقتصادية والاجتماعية، وعلى تعدد مشاريعه في الاصلاح لم يفكر تفكيرا جديا في ايجاد نظام للشورى يعود الشعب الاشتراك في الحكم كما بينا ذلك، وهذا عيب كبير في سياسته.

واذ تكلمنا عن المظالم التي ارهقت الشعب في عهده فمن الحق ان نقول انها اخف وطاة من المظالم التي كانت تقع في عصر المماليك.

حدثني صديق لي عن جده الذي ادرك عصر محمد علي انه كان يقول اننا كنا نحتمل مظالم حكمه لانها بمقارنتها بمظالم المماليك كانت اخف منها وارحم، وهذا القول فيه ناحية من الصواب، وينير لنا طريق الحكم على عصر محمد علي، للاجل ان نحكم على عظيم من العظماء او على عصر من العصور يجب علينا ان ندرس الرجل في مجموعه، والعصر باكمله، ثم نقارن بين ذلك العصر والعصر الذي سبقه، ثم الذي تلاه، وبذلك يكون الحكم صحيحا، والراي فيه سديدا، فاذا نحن نظرنا الى تاريخ محمد علي في مجموعه حكمنا من غير تردد انه مؤسس الدولة المصرية الحديثة ومحقق الاستقلال القومي وباعث نهضة الاصلاح والعمران في مصر، وانه من هذه الناحية اكبر بناء في صرح القومية المصرية، ومهما عددنا على حكمه من الماخذ فمن المحقق انه لو انه لم يتول حكم مصر لظللت كما كانت ولاية من ولايات السلطنة العثمانية يتعاقب عليها الولاة الجهلاء الذين كانت ترسلهم الاستانة كل سنة او سنتين والذين لم يكن لهم هم سوى الحصول على نصيبهم في الخراج وارسال الخزانة السوية الى الاستانة، ثم يتركون شئون الحكم في يد المماليك يعيثون في الارض فسادا، ويجعلون الحكم اداة للمظالم والفوضى، مما ادى الى تاخر البلاد في كل نواحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فلو لم يتول محمد علي حكم البلاد لبقيت رازحة تحت حكم التقهقر والفوضى، كما بقيت سائر ولايات السلطنة العثمانية كالعراق وسورية وفلسطين، او لاحتلها دولة من دول الاستعمار كما احتلت فرنسا الجزائر سنة 1830، وما زالت تحتلها الى اليوم (تاريخ آخر طبعة من الكتاب).

فهذه المقارنة تظهر لنا فضل محمد علي ومبلغ المزايا التي عادت على مصر من عبقريته وجهوده ومواهبه، وهذا فيما نعتقد هو حكم الانصاف على محمد علي وعصره.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ابراهيم باشا

ابراهيم باشا (1789-1848) من الواجب ان نفرد فصلا لابراهيم باشا، ولئن كانت الفصول السابقة تصلح ان تكون تاريخا له، فان بطولته تدعونا ان نختم هذا العصر بفصل خاص بابراهيم.


تاريخه

هو اكبر انجال محمد علي، وساعده الايمن في فتوحاته ومشروعاته، وقائد الجيوش المصرية في حروب الاستقلال، يقترن اسمه باسم ابيه في كثير من جلائل الاعمال، واهمها تاليف الجيش المصري وقيادته في ميادين القتال الى حيث حقق استقلال مصر ورفع ذكرها بين الامم.

ولد في قوله سنة 1789، وجاء مصر هو اخوه طوسون في سبتمبر سنة 1805، وعهد اليه ابوه بمهمات عدة، مارس فيها شئون الدولة واعمالها الادارية والحربية، فكانت له توطئة للاضطلاع بالمهام الجسيمة التي تولاها من بعد، فقد تولى منصب الدفتردارية سنة 1807 ولم يبلغ العشري، والدفتردار هو بمثابة وزير المالية اليوم، وقام في هذا المنصب بعمل من اجل اعمال العمران ، وهو مساحة اطيان القطر المصري.

وتولى ايضا حكم الصعيد وجمع بين هذا المنصب ومنصب الدفتردارية، وقاتل المماليك، ولكنه لم يشترك معهم في حرب حقيقية، وظلت كفاءته الحربية دفينة الى ان سطع نجمها اول وهلة في الحرب الوهابية، فهي اول حرب خاض ابراهيم غمارها وتجلت فيها مواهبه، ولا نريد هنا ان نعود الى وقائع تلك الحرب، فقد وفينا الكلام عنها في الفصل الخامس.

فالحرب الوهابية كانت اول ميدان للقتال ظهرت فيه بطولة ابراهيم باشا، تلك البطولة التي لازمته في الحروب التالية.

وتتبين لك ناحية من كفاءته وصدق نظره في كونه اول من استعان بخبرة الاوربيين في الحروب، فاصطحب معه في الحرب الوهابية طائفة من الافرنج، منهم الضابط الفرنسي فيسير احد ضباط اركان الحرب كما تقدم ذكره، وهذا امر لم يكن مالوفا ولا سائغا بين قواد الشرق الى ذلك العهد، ولكن ابراهيم باشا، لذكائه وحصافته، عرف ان الامم الشرقية لا تنهض الا اذا اقتبست خبرة علماء اوروبا وقوادها.

وبعد ان انتهت الحرب الوهابية عاون ابراهيم باشا اخاه اسماعيل في فتح السودان، ولكنه لم يطل مكثه هناك اذ اصيب بمرض شديد اضطره الى العودة لمصر.

وجاءت حرب اليونان، فعهد اليه محمد علي قيادة الجيوش المصرية في البر والبحر، وقد رايت مما سطرناه في الفصل السابع كيف ظهرت عبقريته في تلك الحرب التي تولى قيادة الجيش المصري في ميادينها اربع سنوات متتالية.

واذ كانت الحروب والشدائد هي المدرسة العملية التي تكون فيها ابراهيم باشا فان حملة الموره قد اكسبته خبرة واسعة في فنون الحرب والقتال، ذلك انه حارب فيها جيوشا اوروبية يقودها ضباط وقواد درس معظمهم اساليب النظام الحربي الحديث، واختلط بكثير منهم بصراوا خبرهم، فاقتبس من تلك الحروب معارف جمة زادته بصرا بفنون القتال.

ثم جاءت حروب الشام والاناضول، فخاض غمارها وقد اكتملت خبرته ومواهبه الحربية، فتجلت فيها عبقريته، وعظمت مكانته، واقترن اسمه باسماء كبار القواد والفاتحين ، وطبق ذكره الخافقين.

ويطيب لنا في هذا المقام ان نعيد هنا الكلمة التي ذكرناها عنه فيما سبق ففيها خلاصة تاريخه المجيد: "وانك لتلمح عظمة ابراهيم من كونه قاد الجيش المصري في ميادين النصر الى حيث جعل تركيا والدول الاوروبية تقف مبهوته مضطربة امام وثبات ذلك الفاتح الكبير، كأنما هي امام القدر".

ان تاريخ ابراهيم باشا مقترن بتاريخ الجيش المصري وحروبه في عصر محمد علي، ولقد فصلنا الكلام في هذا الصدد في فصول عدة فهذه الفصول هي تاريخ لابراهيم، ولا يخفى ان هذه الحروب كما اسلفنا هي التي حققت لمصر استقلالها، فلا غرو أن يكون أدق تعريف لشخصية ابراهيم باشا انه "قائد الجيوش المصرية في حروب الاستقلال"، وهو التعريف الذي اخترناه لنضعه بجانب صورته، ولعمري ان قيادته لجيوش مصر في حروب استقلالها لهي اعظم ما يزين تاريخه.

وقد ذاعت شهرته في اوروبا فنال فيها مكانة عالية لما استفاض عن بطولته وشهرته الحربية، وتجلت هذه المكانة حينما سافر الى اوروبا في سبتمبر سنة 1845 للاستشفاء من مرض عضال اصابه، وذهب الى ايطاليا ثم الى فرنسا، فقوبل باعظم مظاهر الحفاوة والاجلال، وبلغ لندره في يونيه سنة 1846، فقابلته الملكة فكتوريا وعظماء الانجليز بالترحاب والاحترام.

ولم تقتصر مواهب ابراهيم في ميادين القتال، بل ظهرت كفاءته الادارية في تنظمي الحكم المصري في سورية وتوطيد دعائم الامن فيها كما بسطنا ذلك في الفصل الثامن، وفي المهام الادارية التي تولاها في مصر، واذ كان من مزاياه في حياته الحربية حرصه على النظام، فقد استمسك بهذه الميزة في تنظيم الشئون الادارية التي تولاها، وكان في اوقات السلم شديد العناية بالشئون الزراعية وتنظيمها، وامتاز بميله الى تنسيق الحدائق وتنظيم اشجارها ونباتها، كانها في نظره صفوف من الجنود يجب ان يسود النظام بينها، وبلغ شغفه بتنظيمها ان استخدم مهندسا زراعيا انجليزيا عهد اليه تنسيق حدائقه الواسعة في جزيرة الروضة وغرس فيها العدد الوفير من اشجار الفاكهة والرياحين.

صفاته وأراؤه ومبادئه

ان ابرز صفة من صفات ابراهيم باشا شجاعته واقدامه ، فالشجاعة هي اكبر ناحية من نواحي عبقريته، وبجانبها حبه للنظام، وصرامته في تطبيق قواعده، ولا غرو فالنظام هو اساس الحياة العسكرية وقوام تقدم الجيوش وقوتها، وهو اول ما امتاز به الجيش المصري على الجيوش التركية في ميادين القتال، واول الاسباب التي كفلت له النصر والظفر، وكان ابراهيم باشا لصرامته في النظام يطبقه على نفسه، فيعيش عيشة الجندي البسيط في ماكله ونومه، ويقاسم جنوده السراء والضراء، ويشاركهم شظف العيش، وكثيرا ما كان يقطع المراحل الشاسعة سيرا على قدميه ليعطي جنوده المثال في احتمال شدائد الحروب ومتاعبها فلا غرابة اذ تعلقوا به واستبسلوا في القتال تحت رايته.

وكان يجمع الى الشجاعة الذكاء الحاد وصدق النظر والرغبة الشديدة في الاخذ باسباب تقدم الامم الاوروبية، وكان من مزاياه البساطة في معيشته والرغبة عن مظاهر الفخفخة والابهة، وهذا الخلق نادر بين قواد الشرق وامرائه، فانهم ابدا يحيطون انفسهم بمظاهر الابهة والعظمة، لكن ابراهيم باشا كان على حظ كبير من عظمة النفس، فلم يكن في حاجة الى العظمة المصطنعة.

وقد قابله كثير من عظماء الافرنج ورجالهم السياسيين والحربيين ووصفوه فيما كتبوه وصفا يعطينا صورة حية عن شخصيته وافكاره ومبادئه، ومن اصدق من وصوفه البارون بوالكونت فقد اجتمع به بالقرب من طرطوس بالاناضول في اغسطس سنة 1833 عقب انتصاره في معركة قونية وابرام اتفاق كوتاهية، واستطلع اراؤه وافكاره فكتب عنه ما ياتي:

"دخلت على ابراهيم في خيمته ولم يكن معه احد، وكان يجلس على ديوان كبير في صدر الخيمة على الطريقة الاوروبية، وامامه كرسي عدة، وقد بدا لي انه بلغ الاربعين، وهو قوي البنية، قصير القامة، كبير الراس، جميل الاسنان، ذكي النظر، نشيط في كل حركاته، قصير الذراعين، شأن أفراد عائلته، لكن ذراعيه اقصر من ذراعي ابيه، وقد لمحت روح الحماسة بادية في حديثه ولهجته، لما ناله من الانتصارات الاخيرة، وهو شغف بالحروب، لا يكترث كثيرا بحياته التي طالما جعلها هدفا للمخاطر بشجاعة بلغت حد المجازفة، يسير في حياته على هذه الوتيرة، ولا يطيب نفسا الا في جو العمل والنشاط والحركة، وقد رايته مشغولا بمشروعات جمة ترمي الى اصلاح سورية في الوقت الذي يستريح فيه من عناء المعارك، ويلوح لي كان هذه الراحة هي حالة يرغم عليها ولا يميل اليها، ويشعر بانها لا يصح ان يطول مداها".

وقد تجاذب ابراهيم باشا والبارون بوالكونت اطراف الحديث، ودار الكلام على الحرب الاخيرة، قال البارون في هذا الصدد: حدثني ابراهيم بلهجة طبيعية قائلا: "انه ليؤلمني ان الدول منعتني من متابعة الزحف"، فأجبته: اني اظن بالعكس انه قد ان الوقت الذي يحق فيه للدول ان تفكر في وقف سموكم عن الزحف، فانه لم يكن امامكم سوى بضع خطوات لتصل الجنود المصرية الى اسكدار، وهنالك تشب الثورة في الاستانة.

فأجابني: ولكني كنت شديد الرغبة في دخول الاستانة على راس جيشي، فقلت له: وماذا تقصدون سموكم من الذهاب الى الاستانة وماذا كنتم صانعين فيها؟

فاجابني: ما كنت ادخلها للهدم بل للاصلاح، ولكي اقيم حكومة صالحة مؤلفة من رجال اكفاء بدل الحكومة الحالية العاجزة عن الاضطلاع بحكم الامبراطورية.

فقلت له: ان سموكم يؤكد بحديثه المخاوف التي المعت اليها في كلامي، فان ما كنت تنوون احداثه هو ما كنا نعمل على منعه، لا لاننا مسوقون بفكر عدائية نحو سموكم ان نحو ابيكم، ولكن لان الانقلاب الذي كنت عازمين على احداثه في الاستانة يفضي الى مشاكل قد تشعل نار الحرب في اوروبا باسرها.

فاجابني: انك واهم فيما تظم، فان هذا الانقلاب كان يحدث دون اي مقاومة، فان الكسان على جانبي البوسفور والدردنيل يطلبونني لاحداث الانقلاب الذي يتم في هدوء وسرعة دون ان تجدوا الوقت للشعور بوقوعه، تقولون انكم تبغون الدفاع عن كيان تركيا وجعلها قوية، ولو تم هذا الانقلاب لكان من نتائجه بعث سلطنة قوية تقوم على انقاض هذه السلطنة المفككة التي تحاولون عبثا تاييدها والتي ستنحل يوما بين ايديكم وتسبب لكم وقتئذ مشاكل لاعداد لها.

وهنا سكت ابراهيم باشا قليلا عن الكلام، كانما استوقفته فكرة طارئة، ثم قال: أنني ابحث كثيرا واتساءل لماذا تحقد الدول الاوروبية كل هذا الحقد على الامم الاسلامية؟

فقلت له : اني لم افهم سموكم.

قال: نعم، فانك تقول الان ان وصول جيشي الى اسكدار يحدث ثورة في الاستانة، واني اوافقكم وارى رايكم، ولكن اليس هذا دليلا على ان الامة الاسلامية لا تريد حكم السلطان محمود؟ فباي حق ترغمون هذه الامة على ما لا تريده وهل يحق لكم معشر الفرنسيين ان تمنوعها من اختيار حكامها؟ عجبا! لقد كنت حينما ثار البلجيكيون وطلبوا تاليف مملكة مستقلة، وحينما قام اليونانيين يطالبون باستقلالهم، تنادون ان لكل امة الحق في اختيار ولي امرها ونظام الحكم الذي تبتغيه، بل انك ساعدتهم اليونانيين في ثورتهم، فلماذا تحرمون الامة التركية من هذا الحق؟

قال البارون بوالكونت: "وكان ابراهيم باشا يلقي حديثه هذا في حماسة وذكاء ويمزج الادلة القوية بشئ من الفكاهة والدعابة، وكان جوابي له ان سموه يخطئ في تقدير المبدا الذي املى على الدول الاوروبية سياستها في المسالة الشرقية، فانها لا تنظر الى مثل هذه المسالة في ذاتها بل تنظر اليها من ناحية تاثيرها في مركز الدول فاذا رات مثلا كما في الحالة التي نحن بصددها ان ثورة اهلية تفضي الى تزلزل التوازن الدولي واحداث حرب عامة كان من الطبيعي ان تعمل كل دولة ما تراه حائلات دون وقوع هذه الكارثة.

فقال ابراهيم باشا: ان هذا عبث فان اسباب الخصام بين الدول الاوروبية لا تنتهي، ودخلت معه في تفاصيل طويلة لاقنعه بخطأ فكرته".

وكان البارون بوالكونت قد قابل محمد علي قبل اجتماعه بابراهيم، واستطلع راي كليهما في الحالة السياسية، ودون خواطره عن شخصية الاثنين والمقابلة بينهما، فقال عن ابراهيم انه لم تتوافر عنده القدرة على تاسيس الممالك مثلما توافرت عند ابيه، ولكن عنده من المواهب ما يكفل المحافظة على كيانها وبقائها، وان من اسباب قوة الدولة المصرية الارتباط المتين بين محمد علي وابراهيم، وان ابراهيم قد حافظ على عظيم احترامه واجلال ابيه ولم يداخله اي زهو وخيلاء، ولم تتغير علاقته به حتى بعد الانتصارات العظيمة التي نالها، لدرجة انه لم يسمح لنفسه اني شرب الدخان في حضرته، واذا بعد عنه لا يفتا يبدي له من الاخلاص والطاعة والاحترام ما اعتداه من قبل.

وقال عن الفوارق في أرائهما: "ان محمد علي يمثل فكرة الحكم المطلق، اما ابراهيم فانه اقرب الى المبادئ الحرة وقد خالف اباه في مسالتين جوهريتين، فالمسالة الاولى انه لم يكن يوافقه على نظام الاحتكار الذي اتبعه في مصر وسورية ولو انه نفذ في هذا الصدد اوامر ابيه، والمسالة الاخرى انه يجاهر برايه في احياء القومية العربية، وذكر عن ارائه في هذا الصدد ما نقلناه في موضعه واضاف اليها انه كان يسمع مثل ابيه هذه الاقوال من حاشية ابراهيم وخاصة رجاله، بخلاف ما كان يسمعه من بطانة محمد علي التي كانت متشبعه بالفكرة التركية، وقال ان فكرة ابراهيم باشا ان يجعل من الامبراطورية التي اسسها ابوه دوةل عربية بحتة، اي ان يكون حكامها ورعيتها وجنودها وضباطها من جنس واحد وامة واحدة (وهي الامة المصرية) وان يعيد الى القومية العربية وجودها واستقلالها اسوة بلغتها وادابها وتاريخها".

ولايته حكم مصر

(ابريل سنة 1848 – نوفمبر سنة 1848)

ان عظمة ابراهيم لم تجئه من طريق ولايته الحكم، بل توافرت عنده وانقادت له من قبل، فلقد اسبغت عليه بطولته في ميادين القتال صفات العظمة والمجد، اما مدة حكمه فلم تزد على سبعة اشهر وثلاثة عشر يوما ولم تتسع ليخط فيها صفحة جديدة يضمها الى سجله الخالد.

تولى الحكم في حياة ابيه، ذلك ان محمد علي في اخريات سنيه قد اعتلت صحته واصيب بضعف في قواه العقلية، ولم يعد في استطاعته الاضطلاع باعباء الحكم، وقد ظهرت عليه اعراض هذا الضعف غير مرة ولم ينجع فيه دواء.

فعقد ابراهيم باشا مجلسا خاصا برئاسته واستقر راي المجلس على ان يتولى ادارة شئون الحكومة بدل ابيه، فتولى الحكم في ابريل سنة 1847 وابلغ الامر الى الباب العالي فارس اليه في يوليه فرمان التقليد، وقد عنى ابراهيم باشا مدة حكمه القصير بتوقية ثغور البلاد وحصونها وتجديد قوتها الحربية.

وفاته

(10 نوفمبر سنة 1848)

ولكن المنية عاجلته في 10 نوفمبر سنة 1848، توفى وفه من العمر ستون سنة هلالية، فخسرت مصر بوفاته قائد جيشها المظفر الذي كان لبطولته اليد الطولى في تحقيق استقلالها.

وفاة محمد علي باشا

(2 أغسطس سنة 1849)

وبعد وفاة ابراهيم ولي الحكم عباس باشا الاول، وما زال محمد علي مصابا بمرضه العضال الى ان توفى يوم 13 رمضان سنة 1265 (2 أغسطس سنة 1849) بسراي رأس التين بالاسكندرية، ونقلت جثته الى القاهرة وشيعت جنازته باحتفال مهيب، ودفن بمسجده بالقلعة حيث يرقد رقدته الابدية، وهكذا انتهت حياة ذلك الرجل الكبير بعد ان خلف مجدا لا يبليه الزمان، توفى بعد ان اسس الدولة المصرية وحقق استقلالها واتم وحدتها وشيد دعائم نهضتها، وتم على يده من الاعمال الجليلة ما تنوء به العصبة من عظماء الرجال.

وثائق تاريخية

وثيقة رقم 1

معاهدة جلاء الانجليز عن الاسكندرية المبرمة بين محمد باشا من جانب، والجنرال شربروك والكبتن فيلوز من جانب آخر.

(وهي المعاهدة التي انتهى بها الاحتلال الانجليزي الثاني)

"بما أن الجنرال فريزر قائد القوات البرية لصاحب الجلالة البريطانية والكبتن هلويل قائد الاسطول الانجليزي المرابط تجاه السواحل المصرية قد خولا الجنرال شربروك والكبتن فيلوز من ضباط البحرية الانجليزية سلطة ابرام الاتفاق الخاص بالجلاء عن الاسكندرية فقد اتفق كل من صاحب العظمة محمد علي باشا والي مصر، والجنرال شربروك والكبتن فيلوز المذكورين على الشروط الاتية":

المادة 1

توفق فورا الاعمال العدائية من الجانبين، وتجلو القوات البريطانية عن الاسكندرية في مدى عشرة ايام من التوقيع على هذه المعاهدة وتنسحب من جميع القلاع والاستحكامات والمنشات، وتتركها بالحالة التي هي عليها الان، ويسلم صاحب العظمة محمد علي باشا للقواد البريطانيين صهره مصطفى بك وعمه اسحق بك ومهر داره (حامل الختم) سليمان افندي رهائن يبقون على ظهر احدة السفن الحربية الانجليزية الى ان يتم تنفيذ هذه المعاهدة.

المادة 2

جميع اسرى الحرب الانجليز وكذلك الافراد الذين التحقوا بخدمتهم من الارقاء يطلق سراحهم ويسرلون بطريق النيل الى بوغاز رشيد حيث يبحرون على سفينة انجليزية.


المادة 3

يصدر عفو عام عن سكان الاسكندرية او غيرهم من الاهلين لما وقع منهم في الماضي ويؤمنون على ارواحهم واملاكهم لكونهم اضطروا بحكم الظروف الى اتخاذ الطريق الذي سلكوه.

المادة 4

بما ان امين بك الالفي قد بارح الاسكندرية اثناء الاحتلال الانجليزي فان صاحب العظمة محمد علي باشا يعد ابنه في حالة عودة امين بك المذكور الى الميناء الا يناله سوء ويعطى امانا له ولحاشيته بشرط الا يتجاوز عددهم اثنى عشر شخصا.

المادة 5

نظرا لتفرق الافراد الارقاء الملحقين بخدمة الجيش البريطاني ووجود بعضهم على مسافات بعيدة فيبقى مندوب انجليزي في الاسكندرية بعد الجلاء عنها ليتسلمهم كلما ظهروا، ولهذا المندوب ان يحصل من صاحب العظمة على كل حماية ومساعدة لاداء مهمته في احضاء هؤلاء الافراد، ويسمح لهم بان يرسل كل من يوجد منهم الى اية سفينة انجليزية تكون راسية في الميناء او يرسلهم الى صقلية او مالطة باية طريقة اخرى تتيسر له.

"حررت هذه المعاهدة في معسكر صاحب العظمة محمد علي باشا والي مصر بالقرب من دمنهور يوم 14 سبتمبر سنة 1897 الموافق 11 رجب سنة 1222".

"امضاءات: محمد علي باشا: شربروك، فيلوز".


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وثيقة رقم 2

اتفاق الاسكندرية

(27 نوفمبر سنة 1840)

"بين الكمودور نابييه قائد القوات البريطانية البحرية الراسية امام الاسكندرية من جانب، وبوغوص يوسف بك وزير خارجية صاحب السمو نائب ملك مصر المفوض من قبل سموه من جانب آخر، تم ابرام الاتفاق الاتي بالاسكندرية يوم 27 نوفمبر سنة 1849".

المادة 1

بما ان الكومودور نابييه بصفته المبينة اعلاه احاط صاحب السمو محمد علي علما ان الدول اشارت على الباب العالي باعادة حكم مصر الوراثي الى عهدته، وبما ان سموه يرى في ذلك وسيلة لوضع حد للحرب وويلاتها، فانه يتعهد بان يصدر اوامره الى ابنه ابراهيم باشا باجراء الجلاء فورا عن سوريه ويتعهد ايضا باعادة الاسطول العثماني بمجرد ان يصله اخطار رسمي بان الباب العالي يتنازل له عن حكم مصر الوراثي وان يبقى ذلك الحق كما كان مكفولا من الدول.

المادة 2

يضع الكومودور نابييه تحت تصرف الحكومة المصرية سفينة من سفنه لتنقل الى سوريه الضابط الذي يعهد اليه صاحب السمو ابلاغ القائد العام للجيش المصري امره بالجلاء عن سوريه ويعين الاميرال ستوبفورد قائد القوات البريطانية من ناحيته ضابطا لملاحظة تنفيذ هذا الامر.

المادة 3

وبناء على ما تقدم يتعهد الكومودور نابييه بوقف الحركات العدائية من جانب القوات البريطانية ضد الاسكندرية وكل جهة من الاراضي المصرية ويبيح حرية الملاحة لكل السفن المعدة لنقل الجرحى والمرضى وسائر الجنود المصرية الذين ترغب الحكومة المصرية نقلهم الى مصر بطريق البحر.

المادة 4

للجيش المصري الحق في ان ينسحب من سوريه حاملا معه مدافعه واسلحته وجياده وذخائره وامتعته وفي الجملة كل ما معه من مهمات الجيش.

وقد حررت نسختان من هذا الاتفاق:


"توقيع: شارل نابييه، بوغوص يوسف"

مراجع البحث

ذكرنا في هوامش الصحائف المراجع التي اعتمدنا عليها.

راجع هذا الكتاب: المستشار حلمي السباعي شاهين نائب رئيس قضايا الحكومة السابق

المصادر

  1. ^ الرافعي, عبد الرحمن (2009). عصر محمد علي. القاهرة، مصر: دار المعارف. {{cite book}}: Cite has empty unknown parameter: |coauthors= (help)