الطقوس الكنسية

(تم التحويل من الطقوس الكنسيّة)
من سلسلة مقالات عن
المسيحية
Jesus Christ is the central figure of Christianity.

الأسس و العقائد
يسوع المسيح
الثالوث الأقدس (الأب ، الابن ، الروح القدس)
كرستولوجيا· الكتاب المقدس·
علم اللاهوت المسيحي. قانون الإيمان
تلاميذ المسيح· الكنيسة· ملكوت الله· إنجيل
تاريخ المسيحية· الخط الزمني

الكتاب المقدس
العهد القديم· العهد الجديد
الوصايا· عظة الجبل
الولادة· قيامة يسوع· الإرسالية الكبرى
الوحي· الأسفار· القانون· أبوكريفا
التفسير· السبعينية· الترجمات

الثيولوجيا المسيحية
تاريخ الثيولوجيا· الدفاع
الخلق· سقوط الإنسان· الميثاق· الشريعة
النعم· الإيمان· الغفران· الخلاص
تقديس· تأله· العبادة
علم الكنيسة· الأسرار المقدسة· الأخرويات

التاريخ
المبكرة· المجامع المسكونية· العقائد
الانشقاق· الحملات الصليبية· الإصلاح البروتستانتي

مسيحية شرقية
أرثوذكسية شرقية· أرثوذكسية مشرقية
مسيحية سريانية· كاثوليكية شرقية

مسيحية غربية
كاثوليكية غربية · بروتستانتية
كالفينية · معمدانية · لوثرية
أنگليكانية· تجديدية العماد
إنجيلية · ميثودية . مورمونية
أصولية · ليبرالية · خمسينية
كنيسة الوحدة · . شهود يهوه
علم مسيحي . توحيدية . الأدفنتست
مواضيع مسيحية
الفرق· حركات· محاولات التوحيد المسيحية
موعظة· الصلاة· موسيقى
ليتورجيا· افخارستيا· الرهبنة· تقويم· الرموز· الفن

شخصيات مهمة
رسل المسيح الاثنا عشر. الرسول بولس
آباء الكنيسة. قسطنطين. أثناسيوس· أوغسطينوس
انسيلم· الأكويني· بالاماس· ويكليف
لوثر· كالفن· جون ويزلي

بوابة المسيحية

الطقس liturgy هو صيغة موضوعة من مناسك أو أنماط العبادة. الطقس الكنسي أو المسيحي هو نمط عبادة تستخدمه (لكونه موصى به أو مفروض) طائفة أو كنيسة بصفة منتظمة.

وبالرغم من أن المصطلح طقس يُستخدم ليعني عبادة في العلن عموماً، إلا أن الشعائر البيزنطية Byzantine Rite تستخدم كلمة "طقس Liturgy", خصيصاً لتكون ملحوقة بالصفة "مقدس"، وعلى وجه التحديد، للإشارة إلى تناول القربان المقدس.[1]

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفعل الطقسي في الكنائس البيزنطيّة (الشرقية) والأجواء المحيطة

لقطة داخلية للقبة ويظهر بها الزخارف البيزنطيّة كما وتلك الإسلامية التي صنعت أثناء الوجود العثماني.

احتاجت المسيحية بعد انتصارها على الوثنية إلى صروح ضخمة تؤوي عبادها المتزايدين والتي كانت تحتاج بدورها إلى الزخرفة والزينة وكان لا بد للعابدين من تماثيل للمسيح ومريم ليقوى بها خيالهم، وإلى صور لتقص للأميين قصة إلههم المصلوب، فولدت فنون النحت والفسيفساء والتصوير من جديد، ومع ارتداد التيار الهلنستي إلى بلاد اليونان إثر تقدم آسيا الصغرى وسوريا صناعياً وازدياد قوتهما في حين ضعفت روما بسبب الغزو الأجنبي، تلاقت في بيزنطة مؤثرات الفن الشرقي الساساني والنسطوري (السوري) والقبطي (مصر) ليولد فن بيزنطي زخرفي رمزي كما الفن الشرقي بعيداً عن الفن اليوناني الممثل للطبيعة. ومتأثرة كذلك بالعناصر الإيرانية والأرمنية والكبدوكية والسورية.

فظهرت الرسوم على الجدران ونقوش الفسيفساء لتقص حياة المسيح وأعمال الرسل. وذلك في كنائس تحوي القباب والعقود والأقواس واستخدموا التاج "الثيودوسي" للأعمدة بأن جمعوا بين (آذان) النمط الأيوني، وأوراق النمط الكورنثي. فحفروا على هذا التاج المركّب أجمة من النبات والحيوان. ووضعوا بينها وبين الجدران والأقواس ليتناسب معها عصابة مربعة وعريضة في أعلاها، ومستطيلة وضيقة نوعاً ما عند قاعدتها ثم حفروا عليها أزهاراً مع مرور الأيام.

وجاءت الرسوم المستوحاة من حياة السيد المسيح، ومن الكتاب المقدس، أو ما سمي بالأيقونة البيزنطية لتزيين الجدران وقد نفّذت بمزج الألوان بمحلول الماء والصمغ أو الغراء وبزلال البيض على الخشب أو على الجبس بعد أن يجف وكذلك الفسيفساء المنفذة بمكعبات الحجارة أو الزجاج الملون البراق فوق أرضية زرقاء أو ذهبية وزينت كامل المساحات التي لا تطيق عين الشرقي أن تراها خالية من الزخرفة. كما وزينت الملابس والمذابح والعمد والجدران بالجواهر والأحجار الكريمة وصفائح الذهب والفضة، ونقشت المنابر وأسوار المحاريب وعلقت الأنسجة المزخرفة على الجدران وفرشت الأرض بالطنافس وغطيت المذابح والمنابر بالأقمشة المطرزة وبالحرير. فكان الفن البيزنطي وفير الألوان ودقيق الرموز وغزير الزينة وقادراً على تهدئة الذهن وتنبيه الروح، لتتداخل فنون الرسم والتلوين والنحت معاً في مزيج يصعب فصله. ويمكننا مشاهدة آثاره في "آيا صوفيا" كمثال.

في هذا الجو المحيط من الفنون التشكيلية الدينية كانت الطقوس تتم بألفاظ طنانة ونغمات موسيقية ساحرة متكررة تستحوذ على النفوس وتقوم على مزج العاطفة بالعقيدة وجامعة بذلك لعدد من الفنون السبعة، وقد كان للموسيقى علامات خاصة يونانية استبدلت في القرن الرابع بالحروف الهجائية التي كانت تمثل بها الأنغام علامات رمزية، وقد ألّف "رومانُس Romanus" الراهب اليوناني في أواخر القرن الخامس ألفاظ الترانيم التي لا تزال حتى اليوم جزءاً من الطقوس الدينية ولحنها.


كاتدرائية كولونيا المبنية على الطراز القوطي


الفعل الطقسي في الكنائس الغربية

وضع البابا "هدريان الأول" منشوراً خاصاً حول الطقوس الكنسيّة وكان عمله هذا إتماماً لجهود بذلها جريجوري الأول كما ودون گي‌يوم دوران Guillaume Durand" أهم طقوس الكنيسة الرومانية في كتاب "عرض للوظائف الدينية قائم على العقل Rationale divrnorum officiorum 1286" وكان القداس هو محور العبادات المسيحية حيث كان يُعرف في القرون الأربعة الأولى باسم "الحمد Eucharist" ثم اجتمعت حوله خلال الزمن مراسيم متتابعة معقدة من الأدعية والترانيم تختلف باختلاف أيام السنة وفصولها والغرض الذي يقام القداس من أجله وكان القداس ينشد على الدوام في أول الأمر بمشاركة المصلين ثم قلّ اشتراك المصلين فيه أثناء القرن الرابع وما بعده وأخذ مرتلون مختصون يردون على المنشد، ومن الترانيم ما يكاد يكون ركيك العبارات يحوي ألفاظاً رنانة مقفاة، ولكن في العصور الوسطى القرنين 12 و13 أصبحت محكمة العبارات تتخللها القوافي الرخيمة وتعبر عن أفكار طيبة رقيقة وترتفع إلى مستوى أعظم الشعر الوجداني الذي انتجه الأدب العالمي. كما وكانت تقام في الأعياد الدينية حفلات ومواكب وكانت حوادث آلام المسيح تمثل في آخر ثلاثة أيام في أسبوع الآلام، متضمنة مسرحية دينية ذات حوار وأغاني بسيطة، وكانت هذه المواكب والاحتفالات هي التي مهدت السبيل للمسرحية غير الدينية في العصور الوسطى.

الأجواء الفنيّة المحيطة بالطقوس الكنسيّة الغربية

لم تكن الكنيسة تقيم تعاليمها الأخلاقية التي تصل إليها عن طريق العقائد الدينية على الجدل المؤدي إلى الإقناع بل كانت تلجأ للوصول لهذا الغرض إلى الحواس وذلك بالتمثيل والموسيقى والتصوير والنحت والعمارة والقصص والشعر، وكانت هذه الطقوس في الكنائس الغربية تتم داخل عمارة تطورت لتصل إلى ما سمي بالعمارة القوطية التي تطورت الى إقامة القباب من الحجارة والآجر خوفا من الحريق، ولزيادة ثقلها أوجب تسميك الجدران والدعامات مما أضاق النوافذ وأظلم داخل الكنيسة، ثم اخترعت القبة المضلعة التي قللت من ثقل السقف فجاءت العواميد الحاملة لها رفيعة وسمح بوجود نوافذ طويلة في الجدران القليلة السمك مما سمح لممارسة فن الزجاج الملون كما أن الإطارات الحجرية التي تعلو النوافذ المركّبة شجعت على النقوش الغائرة أو الرسوم السطحية، وأصبحت عقود القباب والعقود الأخرى وأشكال النوافذ مستدقة، وظهرت الأبراج الكبيرة وأبراج الأجراس الرفيعة مما أظهر ميزة الطراز القوطي في العلو الشامخ والرشاقة وانتشرت الزخارف الخطية (ثقب الحجارة بأشكال زخرفية من أي نوع كان) على الجدران وشماريخ المساند والاسقف الهرمية التي فوق المداخل و(بطنيات) العقود المثلثة المحصورة بين كل عقدين والبواكي التي تعلو العقود بين الصحن والطرقات الجانبية والستائر والمنبر والحظار الزخرفي الذي خلف المذبح كما كانت واجهات المباني والطنف والأبراج تزحم بصور الرسل والشياطين والأولياء الناجين والملعونين، وصورت تيجان الأعمدة، ووجدت زخارف للزينة والحلي من الخشب والحجارة وعتبات الأبواب والنوافذ العليا وقوائم أكتاف الأبواب والنوافذ، ونحتت تماثيل من الحجارة لحيوانات عجيبة ومرعبة لتكون ميازيب gargoyles تبعد المطر الذي يلوث المباني عن الجدران أو تجره إلى الأرض، وضمن هذا الجو التشكيلي في الكنيسة كانت تتم القداديس بمصاحبة (النشيد الجريجوري) البسيط أو الترانيم الجريجورية ذات النغم الواحد الذي لا يصحبه أي آلة موسيقية ثم تطور وتعقد وتزخرف في القرن الثاني عشر ليتناسب مع الطراز القوطي في العمارة، وتطلب هذا التعقيد علامات موسيقية أفضل مما استعمل في الأغنية السهلة.

تطور تنويط الموسيقى في الطقوس الكنسيّة الغربية

فتطورت عملية التنويط على يد "أدو Odo" رئيس دير "كلوني" و"نوركر بلبولس Norkar Balbeulus" وهو أحد رهبان دير "جول Gall" في القرن العاشر ثم على يد كاتب لم يفصح عن اسمه في القرن الحادي عشر ثم وحوالي عام 1040 قام راهب يدعى "جيدو الأرزوي Guido of Arezzo" بتسمية الست نغمات الأولى من السلم الموسيقي بأسمائها الحالية فلقب "جيدو" بلقب مخترع الموسيقى، فبفضله لم يعد المغنون يحفظون الموسيقى اللاتينية عن ظهر قلب وأصبح تأليف الموسيقى ونقلها وحفظها وقراءتها أكثر سهولة وبهذا تعددت الأنغام في المقطوعة الواحدة وأصبح بالإمكان أن يغنيها صوتان أو أكثر في وقت واحد أو أن يعزف اثنان أو أكثر ألحاناً مختلفة ولكنها متوافقة، ثم جاء قس عالم في الرياضيات يدعى "فرانكو" في القرن الحادي عشر فوضع رسالة في قياس الغناء جمع فيها كل ما وجد قديماً من مقترحات نظرية وعملية ووضع أساساً للطريقة المستخدمة حالياً في الموسيقى للدلالة على أطوال النغمات الموسيقية، وانتهى الأمر بأن جعلت ثلاثة أو أربعة أو خمسة بل ستة أصوات مختلفة في بعض الأحيان تغنى في مجموعة متشابكة من الإيقاع الانفرادي تتقابل فيه الألحان وتمتزج في انسجام شبيه بالعقود المتقابلة في قبة قوطية.

الدراما الطقسية والدراما النصف طقسية

بين القرنين التاسع والحادي عشر تطورت الطقوس إلى دراما طقسيّة لأن الطقس أصبح عاجزاً عن إرضاء متطلبات الجمهور المحب للعرض فتداخلت فيه العديد من التوسيعات والتنويعات إلى أن أقيمت عروض حقيقة داخل الكنائس وكان ممثلوها الرئيسيون هم القائمون بالطقوس (الكهنة ومعاونوهم) ضمن موضوعات مستمدة من الكتاب المقدس ومن هذه العروض كمثال "لعبة دانيال" لكاتبها "ديبوفيه" القرن الحادي عشر، ويلاحظ فيها هيمنة العنصر الموسيقي ضمن وظيفية مسرحية وكانت غايتها تثقيف المؤمنين ضمن سياسة الكنيسة، وكانت تنشد باللغة اللاتينية الكنسيّة، ثم ما لبثت أن حوربت هذه المسرحيات في المجامع الكنسيّة فحظرت التمثيليات الدينية داخل الكنيسة وانتقلت إلى باحات الكنائس والساحات لتصبح دراما نصف طقسيّة وأصبحت الأدوار وقفاً على ممثلين هواة في بادئ الأمر ثم محترفين فيما بعد وبدأت تتعدد اللغات في المسرحيات بحسب القوميات تمهيداً لقيام مسارح خاصة بكل بلد، كما جاء خروج المسرح من الكنيسة لضرورة توسيع مكان الفعل وزيادة عدد الممثلين وتصوير أحداث الدراما بلغة أقرب إلى الجمهور العادي ولتصبح شعبية وفي منتصف القرن الثاني عشر سميت هذه الدراما نصف الطقسيّة في فرنسا: بـ (الألعاب والمعجزات والأسرار) حيث احتوت على تأليف شعر من رجال الكنيسة أو البورجوازية وتمثيل مرتبط بقواعد الإيماء والإلقاء، وتحوي أزياء وأدوات وديكورات تعتمد على مجموعة أماكن مختلفة تقدم بشكل مساحات متلاصقة أفقياً وأحياناً عامودياً تسمى "بيوتا" تمثل كل منها مكاناً مختلفاً جغرافياً، كالجحيم والسماء والجليل وقصر بيلاطس والقبر والسجن والجلجلة والجنة وأما في إيطاليا فتطورت الطقوس إلى ما سمي بالمدائحيّات :

المدائحيات

وقد ألفت جماعات دائمة منظمة بمبادرة من رجال الدين مهمتها إقامة جوقة دينية لكل عيد يقام وفق تقاليد المداحين وسميت هذه المجموعة من المؤلفات التي تنشدها هذه المجموعة باسم (المدائحيّات) وكان بعضها يحتوي إخراجاً معقداً ومكان العرض المفضل في البدء كان داخل الكنيسة، ويتم الحفل بأسلوب متعدد النغم، وبعض الجوقات، ثم جوقتان متناوبتان، ولضرورة المؤثرات المسرحية تحولت المسرحية إلى باحات الكنائس ثم إلى الساحات وفي القرن الخامس عشر ظهرت المنصة بظهور التمثيليات الدينية، وكانت تقسم إلى أجزاء يسمى كل منها (البيت) وتوضع عليها لافتة توضّح غايتها، وكانت الجنة في الأعلى وفي إحدى الزوايا يفغر تنين شدقيه ليكون مدخل الجحيم، وكانوا يستخدمون مقاطع شعرية تتألف من ثمانية أبيات ربما وفقاً لفن الإنشاد الرتيب الذي كان يمارسه "المغنون الشعبيون".

وهنا يمكن الوقوف عند كلام فيتو پاندولفي: [ …وفي هذه الحال، قد يجوز لنا أن ننظر إلى المدائحيات على أنها أول أشكال المسرح الموسيقي، الذي قدر له أن يتحول إلى "أوراتوريو" (ابتهالية) وإلى "أوبرا" (مغناة)][2]. يمكن القول بأن الأوراتوريو هي أوبرا ذات موضوع ديني تقدم في الكنيسة عوضاً عن المسرح فقد انبثق كل من الأوبرا والأوراتوريو من جذور واحدة، كما انبثقت التمثيلات الدينية (مسرحيات الأسرار أو آلام المسيح) والمسرحيات الدنيوية من جذور واحدة.

التاريخ

لقد كانت الكنيسة حكيمة إذ أفسحت في فنها، وترانيمها، وصلواتها، مكاناً لعبادة العذراء، ولكنها أصرت في العناصر القديمة من عباداتها وطقوسها على النواحي الصارمة الجدية من الدين. من ذلك أنها جرت على السنة التي كان يجري عليها الأقدمون، ولعلها رأت في هذه للسنة فائدة للمصلحة، فشرعت الصيام في أوقات معينة، نهت فيها عن أكل اللحم في جميع أيام الجمعة، كما حرمت أكل اللحم، والبيض، والجبن، طوال أيام الصوم الكبير الأربعين، وأمرت أن يدوم ذلك الصوم حتى الساعة الثالثة بعد الظهر، وأمرت كذلك ألا يكون في هذه الفترة زواج، أو طرب، أو صيد، أو محاكمات في دور القضاء، أو صلات جنسية بين الرجال والنساء(98). وكانت هذه نصائح لمن أراد أن يكون مسيحياً كاملاً، وقلما كان أحد يتمسك بها، أو يرغم على أتباعها، ولكنها أفادت في تقوية الإرادة وكبح الشهوات عند خلائق نهمين شهوانيين.

وكانت الصلوات أيضاً مما ورثته الكنيسة عن الأقدمين، ثم عدلت فصارت أشكالاً من التمثيل الديني، والموسيقى الدينية والفن الديني، رفيعة، سامية، مؤثرة في النفس. وكانت أقدم العناصر في الصلاة المسيحية هي مزامير العهد القديم وأدعية هيكل أورشليم وعظامه، وقراءات من العهد الجديد، وتناول القربان المقدس. وأدى انقسام الكنيسة شرقية وغربية إلى اختلاف في الشعائر الدينية، كما أدى عجز البابوات الأولين عن أن يفرضوا إراداتهم كاملة خارج حدود إيطاليا الوسطى إلى وجود خلاف في الحفلات الدينية حتى داخل الكنيسة اللاتينية نفسها. من ذلك أن أحد الطقوس الذي استقر في ميلان انتشر إلى أسبانيا، وغالة، وأيرلندة، وشمالي بريطانيا، ولم تتغلب عليه الطقوس الرومانية إلا في عام 664، وأصلح البابا أدريان الأول طقوس الكنيسة في منشور خاص بعث به شرلمان حوالي آخر القرن الثامن، ولعل عمله هذا كان إتماماً لجهود بذلها جريجوري الأول في هذه السبيل، ودون گيوم دوران Cuillaume Durand أهم طقوس الكنيسة الرومانية في كتابه "عرض للوظائف الدينية قائم على العقل Rationale divinorum officiornm (1286). وفي وسعنا أن ندرك ما لقيه هذا المؤلف من قبول إذا عرفنا أنه أول ما طبع من الكتب بعد الكتاب المقدس. وكان المحور الذي تدور عليه العبادات المسيحية وأهم شعائرها هو القداس. وكان هذا الاحتفال يعرف في القرون الأربعة الأولى باسم "الحمد Eucharist" ؛ وقد بقيت هذه الذكرى القدسية للعشاء الأخير جوهر الصلوات وعمادها الأساسي، ثم اجتمعت حولها في خلال إثنا عشر قرناً من الزمان مراسيم متتابعة معقدة من الأدعية والترانيم تختلف باختلاف أيام السنة، وفصولها، والغرض الذي يقام من أجله هذا القداس أو ذاك، ودونت هذه المراسم في كتاب القداس ليسهل على القس الرجوع إليها. وكانت الكنيسة اليونانية تفصل بين الرجال والنساء في وقت الاجتماع لإقامة القداس كما كانت الكنيسة اللاتينية تفعل ذلك في بعض الأحيان. ولم تكن هناك كراسي يجلس عليها المصلون، بل كانوا يؤدون الصلاة وهو وقوف، وكانوا في بعض اللحظات الرهيبة يؤدونها راكعين، ويعفى من الوقوف والركوع الشيوخ والضعفاء، وأقيمت للرهبان والقساوسة الذين يضطرون إلى الوقوف خلال الصلاة الطويلة أفاريز صغيرة في أمكنة الترتيل لتسند الجزء الأسفل من العمود الفقري، وأضحت هذه الرجمات miserieovoliae موضع عناية ناحت الخشب وحذقه. وكان القس الذي يقيم القداس يدخل وعليه (توغا ogat) كالتي يرتديها اليونان والرومان الأقدمون، يغطيها قميص أبيض طويل all وحلة القداس Cbasuble وبطرشيل stole وكلها أثواب زاهية عليها زخارف رمزية، أكثرها ظهور الأحرف JHS وهي أوائل الكلمات Jesos Huiss Soterأي عيسى ابن (الله) المنقذ. وكان القداس نفسه يبدأ عند أسفل المذبح بهذا النشيد المتواضع : سأدخل في مذبح الله، ويضيف إليه السادن ؛ "إلى الله الذي يضفي البهجة على شبابي". ثم يصعد القس المذبح ويقبله لأنه المكان المقدس الذي أودعت فيه مخلفات القديس. ويترنم بالدعاء الذي مطلعه كيري اليسون kyrie eleison ("ارحمنا يا الله") وهو بقية يونانية في القداس اللاتيني. ويتلو بعدئذ دعاء المجد ("المجد لله في العلا") والدعاء الأساسي الذي مطلعه "نؤمن بإله واحد" ثم يدشن قطعاً صغيرة من الخبز وقدحاً من الخمر لتكون جسم المسيح ودمه بأن يتلو عليها تلك الكلمات : هذا جسدي وهذا دمي.

Hic est sanguinis meus و Hoc est corqus meum ثم يعرض هذه العناصر المتحولة- أي ابن الله- لتكون قرباناً يتقرب به إلى الله وإحياءاً لذكرى التضحية على الصليب، وبديلاً من التضحية القديمة بالأحياء. ثم يلتفت القس إلى المصلين ويأمرهم بأن يسموا بقلوبهم إلى الله، فيرد عليه السادن بوصفه نائباً عن المصلين بقوله : "إنا نرفعها إلى الرب". ويتلو القديس بعدئذ القداس المثلث Triplc Sanctus وحمل الله Ognus Dei، وأبانا الذي، ويشترك هو نفسه في تناول الخبز والخمر المقدسين، ويقدم العشاء الرباني إلى الحاضرين، وبعد أن يؤدي عدة صلوات إضافية ينطق بالصيغة الأخيرة وهي : تفرقوا، حان الفراق Ite-missa est، ولعل لفظ القداس الإنجليزية mass مشتق من لفظ missa هذا(99). ويبقى بعد هذا القداس في أشكاله المتأخرة أن يبارك القس المصلين، وأن تتلى بعض فقرات أخرى من الإنجيل- وهي عادة الديباجة الأفلاطونية الجديدة من إنجيل يوحنا. ولا يقام القداس عادة إلا على يد مطران، وبعد القرن الثاني عشر لم يكن يقام إلا إذا ألقى فيه راهب موعظة.

وكان القداس ينشد على الدوام أول الأمر، وكان المصلون يشتركون في إنشاده، ثم قل اشتراكهم فيه أثناء القرن الرابع وما بعده، وأخذ مرتلون مختصون يردون على المنشد . وتعد الترانيم التي يتغنى بها في الصلوات المختلفة بالكنائس من أعظم ما أنتجته العاطفة والفن في العصور الوسطى روعة وأقوالها في النفس أثراً. ويبدأ التاريخ المعروف للترانيم اللاتينية بهلاري Hilary أسقف بواتييه (المتوفى عام 367). ذلك أنه لما عاد إلى غالة من منفاه في بلاد الشام جاء معه ببعض الترانيم اليونانية- الشرقية وترجمها هذه كلها. ووضع أمبروز Amdrose بداية أخرى في ميلان، ولدينا من ترانيمه الطنانة ثمان عشرة ترنيمة كان لحرارتها المكبوتة أعظم الأثر في نفس أوغسطين. وأكبر الظن أن ترنيمة الشكر والإيمان النبيلة التي مطلعها "الشكر لك يا الله" والتي كانت تعزى قبل إلى أمبروز قد كتبها نيقيتاس مطران رمسيانا Remisiana في أواخر القرن الرابع. وربما كانت الترانيم اللاتينية قد أصبحت أرق من الترانيم السابقة إحساساً وأجمل صورة لتأثرها بالشعر العربي الإسلامي والبروفنسالي(100). ومن الترانيم ما يكاد يكون عبارات ركيكة لا تزيد على ألفاظ رنانة، مقفاة، غير أن ترانيم عهد العصور الوسطى الزاهر- في القرنين الثاني عشر والثالث عشر- أضحت من جوامع الكلم، محكمة العبارات، تتخللها القوافي الرخمية، وتعبر عن أفكار طيبة رقيقة، ترفعها إلى مستوى أعظم الشعر الوجداني الذي أنتجه الأدب العالمي.


وجاء إلى دير القديس فكتور الشهير القائم في خارج باريس حوالي عام 1130 شاب من بريطاني بفرنسا، لا تعرف من اسمه أكثر من آدم نزيل دير القديس فكتور. وقضى الشاب ذلك الدير الستين عاماً الباقية من عمره هادئاً راضياً، وتشرب بروح هوجو Hugo ورتشرد الصوفيين الذائعي الصيت، وعبر عن هذه النزعة الصوفية تعبيراً متواضعاً، حلواً، دوياً، ترانيم يقصد بمعظمها أن تتلى بعد مراسم القداس. وبعد مائة عام من ذلك الوقت ألف راهب فرنسسكاني يدعى جاكوپونه ده تودي Jacopone de Todi (1228 ؟- 1306) أعظم ترنيمة في العصور الوسطى وهي المعروفة باسم "وقفت الأم Sebat mather". وكان جكوبون هذا محامياً ناجحاً في تودي القريبة من پروجيا Perugia، واشتهرت زوجته بصلاحها وجمالها، وماتت هذه الزوجة إثر حادث سقوط طوار عليها في أحد الأعياد، فذهب الحزن بعقل جكوبان، وأخذ يجول على غير هدى في طرق أمبريا Umbria مردداً بأعلى صوته ذنوبه وأحزانه، وطلى نفسه بالقار والريش، وأخذ يمشي على أربع ؛ وانضم إلى جماعة الفرنسسكان وأنشأ القصيدة التي تحتوي في إيجاز ما كان في هذا الوقت من تُقى وحنان:

ترنيمة
وقفت الأم Sebat mather
جاكوپونه ده تودي
وقفت الأم كسيرة القلب،

تزرف الدمع أمام الصليب

وابنها معلق يحتضر،

وقد نفذ في روحها المثقلة بالأحزان،

وهي تندبه وتتألم من أجله،

سيف الأسى البتار.

ألا ما أشد حزنها

تلك الأم التي أنعم الله عليها بابنها الوحيد،

والتي رماها الزمان بسهامه !

وأخذت وقتئذ تنتحب وتندب سوء حظها،

وترتجف حين أبصرت عذاب ابنها النبيل.

ومنذا الذي لا يحزن

إذا شاهد أم منقذنا

وقد شجتها الغصة ؟

من ذا الذي يستطيع أن يحاجز نفسه عن أن يشاركها أحزانها حين يرى هذه الأم الحنون

تندب مصير ولدها ؟.....

أقبلي ياأماه، يا منبع الحب،

وأشعريني آلامك بأكملها

دعيني أشاركك أحزانك،

واشعلي في قلبي نار الشوق

وحب المسيح إلهنا ومنقذنا،

دعيني أفعم قلبه بالسرور !

أيتها الأم المقدسة، افعلي هذا رحمة بي !

اغرسي ضريات من مات شهيداً

عميقة في قلبي

دعيني أقاسي آلام

ابنك الذي أصيب بجرح أليم

وتحمل الهوان من أجلي !

دعيني أبكِ بحق إلى جانبك،

وأقضي سني حياتي كلها

أشاركك الحزن على ابنك المصلوب.

ألا ليتني أستطيع أن أكون معك،

وأقف بجوار الصليب في صحبتك،

راضياً، مغتبطاً، مرتبطاً في الحزن بك

فليحيني الصليب،

ولتنجني آلام المسيح المنقذة للبشر :

وليرعني بلطفه،

وإذا ما بلي جسمي

فلتنظر روحي في أمجاد السماء

إليه وجهاً لوجه.

وليس في الشعر ما يضارع هذه الترانيم المسيحية التي قيلت في العصور الوسطى إلا قصيدتان إحداهما هي قصيدة عيد القربان Pange Lingue، والأخرى قصيدة "يوم الغضب" الرهيبة التي كتبها تومس من سلونو Thomas of Celono حوالي 1250، والتي تنشد في القداس الذي يقام للموتى، وهنا توحي رهبة يوم الحساب بقصيدة لا تقل كآبة وكمالاً عن أي حلم من أحلام دانتي المعذبة(101).

وأضافت الكنيسة إلى طقوسها ذات الأثر الشديد في النفس والمشتملة على الأدعية والترانيم والقداس- أضافت إلى هذه الطقوس ما يحدث في الأعياد الدينية من حفلات ومواكب، وأخذ عيد الميلاد في البلدان الشمالية المراسم المفرحة للطبقة التي كان التيوتون الوثنيون يقيمونها احتفالاً بانتصار الشمس وقت الانقلاب الشتائي على الظلمة المقبلة، ومن هذا نشأت كتل عيد الميلاد التي تحرق في بيوت الألمان، وأهل فرنسا الشمالية، والإنجليز، وأهل إسكنديناوة، كما نشأت شجرة عيد الميلاد التي تثقل بالهدايا، والولائم المرحة التي تتخم البطون القوية حتى الليلة الثانية عشرة بعد هذا العيد، وكان ثمة أعياد واحتفالات أخرى يخطئها الحصر- عيد الغطاس، وعيد الختان، وحد السعف، وعيد القيامة، وعيد الصعود، وعيد العنصرة... وكانت هذه لأعياد وأيام الآحاد كلها إلى درجة أقل منها قليلاً، أحداثاً مثيرة في حياة رجل يتذكره من ذنوبه، ويستحم، ويحلق لحيته أو يقص شعره، ويلبس خير ملابسه وأكثرها مضايقة له، ويطعم الله في العشاء الرباني، ويحس أعمق الإحساس بالمسرحية المسيحية الخطيرة الشأن التي قدر عليه أن يكون جزءاً منها. وكانت حوادث آلام المسيح تمثل في كثير من المدن في الثلاثة الأيام الأخيرة من أسبوع الآلام، تتضمنها مسرحية دينية ذات حوار وأغان بسيطة، كذلك كانت عدة أوقات أخرى من السنة الكنيسة تمتاز بأمثال هذه "الطقوس الخفية". وحدث في عام 1240 أن أبلغت يوليانا Juliana رئيسة دير قريب من لييج Liege قس القرية التي تقيم فيها أو رؤيا سماوية قد نبهتها إلى أنه لابد من تكريم جسم المسيح حين يستحيل القربان إلى لحمه ودمه في العشاء الرباني وذلك بإقامة عيد فخم رهيب، وأقر البابا إربان الرابع هذا الاحتفال في عام 1262 وعهد إلى تومس أكوناس أن يضع له "صلاة مؤلفة من ترانيم وأدعية تناسبه". وقام الفيلسوف بهذه المهمة على خير وجه وفي عام 1311 ثبت أخيراً عيد القربان واحتفل به في أول يوم خميس بعد عيد العنصرة بأفخم موكب من مواكب السنة المسيحية بأجمعها. وكانت هذه الحفلات تجتذب إليها جموعاً لا يحصى عددها، وتبعث البهجة والمرح في قلوب الكثيرين ممن يشتركون فيها، وهي التي مهدت السبيل للمسرحية غير الدينية في العصور الوسطى، وساعدت على قيام مواكب النقابات الطائفية واحتفالاتها، وألعاب البرجاس والاحتفال بتنصيب الفرسان، وتتويج الملوك، وشغل ما هنالك من فراغ في حياة الأهلين الذين لا يميلون بفطرتهم إلى السلم والنظام بالحركات المنبعثة عن التقى، والصلاح، والمناظر التي تسمو بأرواحهم إلى أعلى الدرجات. ولم تكن الكنيسة تقيم تعاليمها الأخلاقية، التي تصل إليها عن طريق العقائد الدينية على الجدل المؤدي إلى الإقناع، بل كانت تلجأ في الوصول إلى هذا الغرض إلى الحواس عن طريق التمثيل، والموسيقى، والتصوير، والنحت، والعمارة، والقصص، والشعر ولا يسعنا إلا أن نعترف أن الالتجاء إلى العواطف على هذا النحو أكثر نجاحاً وأهدى إلى الغرض- شراً كان أو خيراً- من الالتجاء إلى العقل المتقلب ذي النزعة الفردية. ولقد أوجدت الكنيسة بالتجائها إلى هذا فن العصور الوسطى.

وكانت أعظم المهرجانات ما يقام منها عند أماكن الحج. فقد كان الرجال والنساء يحجون ليكفروا عن ذنب أو يوفوا بنذر، ويطلبوا شفاءاً من داء بإحدى المعجزات، أو ينالوا غفراناً، وما من شك في أنهم كانوا يسعون، كما يسعى السياح في هذه الأيام، ليشاهدوا بلدانا جديدة ومناظر جديدة، وليقوموا في طريقهم بمغامرات تطرد ما يلقونه في حياتهم الضيقة للرتيبة من ملل وسآمة. وكان هناك عشرة آلاف مكان معترف بجواز الحج إليها في أواخر القرن الثالث عشر. وكان أكثر الحجاج شجاعة يؤمون فلسطين النائية، ومنهم الحفاة ومنهم من لا يلبسون إلا قميصاً واحداً، وكانوا يحملون في الصلاة، صليباً، وعكازاً، وكيساً من النقود تناولوها كلها من يد قيسي. وحدث في عام 1054 أن سار ليدبيرت Leidbert أسقف كمبريه على رأس ثلاثة آلاف حاج إلى بيت المقدس، وفي عام 1064 سار كبير أساقفة كولوني، ومينز، وأساقفة اسباير، وبامبرج، وأوترخت إلى بيت المقدس أيضاً، ومن ورائهم عشرة آلاف مسيحي هلك منهم ثلاثة آلاف في الطريق، ولم يعد منهم إلى أوطانهم سالمين إلا ألفان، وعبر حجاج آخرون جبال البرانس، أو جازفوا بحياتهم في المحيط الأطلنطي ليزوروا الأماكن التي يقال إن بها عظام الرسول يعقوب بقمبستيلا Compostela من أعمال أسبانيا، وفي إنجلترا كان الإنجليز يحجون إلى قبر القديس كثيرت Cuthpret في درهام، وإلى قبر القديس إدوارد المعترف Edward the Confessor في وستمنستر، وإلى قبر القديس إدمند St. Edmund في بيوري Bury، أو إلى الكنيسة التي أنشأها كما يقولون يوسف الأرمائي Joseph of Aremathnea في جلاستنبري Glastonbury وكان أهم من هذه الأماكن كلها في نظر الإنجليز ضريح تومس أبكت في كنتر بري. وكانت فرنسا تجتذب الحجاج إلى قبر القديس مارتن في ثور وإلى نتردام في تشارتر، ونتردام في له- بوي- أن- فلاي Lebuyen Velay وفي إيطاليا كنيسة القديس فوانسس وعظامه في أسسي Assisi، وفيها أيضاً سانتا، كاسا Santa Casa أو البيت المقدس في لوريتو Loreto ويعتقد المتقون أنه هو البيت الذي سكنت فيه مريم مع عيسى في الناصرة، وأن الملائكة حملت هذا الكوخ من فلسطين حين طرد الأتراك آخر الصليبيين منها، وطارت به في الهواء ثم أنزلته في دلماشيا (1291)، ثم طارت فوق البحر الأدرياوي إلى غابات أنكونا (اللورتوم Louretum) التي اشتق منها اسم هذه القرية المكرمة.

وآخر ما نذكره في هذا المقام أن كل طرق العالم المسيحي كله كانت تؤدي بالحجاج إلى رومة، ليشاهدوا قبري بطرس وبولس، ولينالوا الغفران بزيارة المنازل المقدسة، أو الكنائس القائمة في تلك المدينة ؛ أو للاحتفال بعيد من الأعياد، أو ذكرى سارة في التاريخ المسيحي. وحدث في عام 1299 أن أعلن البابا بنيفاس الثامن أن سيقام عيد كبير في عام 1300، وعرض أن يغفر جميع ذنوب من يأتون للتعبد في كنيسة القديس بطرس في ذلك العام. ويقال إن عدد من دخل أبواب روما من الغرباء في كل يوم من أيام هذه الشهور الإثنى عشر لم يكن يقل عن مائتي ألف، وإن مليوني زائر مع كل منهم نذر يناسبه وضعوا ما معهم من الكنوز أمام قبر القديس بطرس، وقد بلغت هذه الكنوز من الكثرة حداً شغل قسيسين ظلا يعملان بالمجارف ليلاً ونهاراً لجمع النقود(102). وكانت دلائل السياح ترشد الحجاج إلى الطرق التي يسلكونها، والأماكن التي لابد لهم أن يزوروها في طريقهم أو حين يحطون رحالهم. ووسعنا أن نرسم لأنفسنا صورة حقيقية من فرحة الحجاج المتعبين، وقد كساهم العثير، وحين تقع أبصارهم آخر الأمر على المدينة الخالدة، وحين ترتفع عقيرتهم بأغنية الفرحة والحمد التي يتلوها الحجاج : "أي روما النبيلة، يا ملكة هذا العالم كله، ويا خير المدائن كلها، ي ذات اللون الأحمر الياقوتي الذي كستك به دماء الشهداء الوردية، ولكنك كالسوسن النقي بمن فيك من العذارى. إليك نهدي تحياتنا خلال السنين وندعو لك بالخير، ونحييك من خلال القرون!". وقد أضافت الكنيسة إلى الخدمات الدينية المختلفة خدمات أخرى أجتماعية، فقد أشعرت الناس بما للعمل من كرامة ؛ ومارس رهبانها العمل في الزراعة والصناعة. ووافقت على أن ينتظم العمال في نقابات طائفية، ونظمت نقابات طائفية دينية للإشراف على أعمال الصدقات(103). وكانت كل كنيسة حرماً مقدساً من حق كل من يطارد أن يلجأ إليها ليجد فيها مقاماً له حتى تهدأ سورة من يطارده ويخضع للإجراءات القانونية، وكان إخراج هؤلاء الرجال من هذا الحرم الأمين تدنيساً له يعاقب من يرتكبه بالطرد من حظيرة الدين. وكانت الكنيسة الصغيرة والكبيرة المركز الاجتماعي في القرية أو المدينة. وكان حرمها المقدس في بعض الأحيان أو الكنيسة نفسها يستخدمان برضاء القساوسة لخزن الحبوب أو الدريس أو النبيذ، كما كانا يستخدمان أيضاً في طحن الحبوب أو عصر الجعة(104). وفي الكنيسة عمد معظم أهل القرية، وعندها سوف تدفن كثرتهم. أو فيها يجتمع الكبار في أيام الأحد ليتجاذبوا أطراف الحديث أو يتناقشوا في شؤون القرية، ويجتمع الشبان والشابات ليرى بعضهم بعضاً.

وعندها يجتمع المتسولون وتوزع الكنيسة صدقاتها، وفيها يجتمع كل ما تعرفه القرية من فن إلا القليل منه ليجمل بيت الله، ويبتهج ألف فقير بما يشهد من مجد المعبد المقدس الذي شاده الناس بأموالهم وأيديهم، والذي يعدونه ملكاً لهم، وموطنهم الجماعي والروحي. وكانت الأجراس المعلقة في برج الكنيسة تدق ساعات اليوم، أو تدعو المؤمنين إلى الصلاة والدعاء، وكانت موسيقى هذه الأجراس أحلى من كل ما عداها إذا استثنينا الترانيم التي تؤلف الإيمان الفاتر بتسابيح القداس. وقد ارتفعت أبراج الكنائس، المستدق منها وغير المستدق، في أقطار الأرض من نفجورود إلى فارس، ومن بيت المقدس إلى هبريدة تشق الفضاء لأن الناس لا يستطيعون الحياة بلا أمل ولا يرضون بالموت.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

المصادر

  • باندولفي، فيتو، تاريخ المسرح، الجزء الاول، ترجمة الاب الياس زحلاوي، منشورات وزارة الثقافة والارشاد القومي، دمشق، 1979.
  • باندولفي، فيتو، تاريخ المسرح، الجزء الثاني، ترجمة الاب الياس زحلاوي، منشورات وزارة الثقافة والارشاد القومي، دمشق، 1981.
  • البهنسي، عفيف، تاريخ الفن والعمارة، منشورات جامعة دمشق، الطبعة السادسة، 97/1998.
  • ديورانت، ول وايريل،قصة الحضارة، 12،16،21، ترجمة الدكتور زكي نجيب محمود، دار الجيل للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس، 1988.
  • صالومة، عبد الله، الفنون السبعة وانعكاساتها على فنون التصوير (بحث مقدّم لنيل درجة الماجستير في التصوير)، إشراف د. نزار صابور، كليّة الفنون الجميلة قسم التصوير، جامعة دمشق، 2004.
  • عكاشة، ثروت، موسوعة تاريخ الفن، الزمن ونسيج النغم، دار المعارف، القاهرة، 1980.
  • المعرفة، الناشر: شركة ترادكسيم، شركة مساهمة سويسرية، جنيف:

CONOSCERE, 1958 Pour tout le monde Fabbre, Milan, 1971 TRADEXIM SA-Genève, autorisation pour l'édition arabe.

  • ديورانت, ول; ديورانت, أرييل. قصة الحضارة. ترجمة بقيادة زكي نجيب محمود.

مراجع

  1. ^ Mother Mary and Ware, Kallistos Timothy, Festal Menaion (3rd printing, 1998), St. Tikhon's Seminary Press, p. 555, ISBN 1-878997-00-9
  2. ^ باندولفي، فيتو، تاريخ المسرح، الجزء الثاني، ترجمة الأب إلياس زحلاوي، منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي، دمشق، 1979، ص171.

وصلات خارجية