الحضارة الآخية

الحضارة الآخية

الحضارة الآخية هي حضارة نشأت في (1300-1100 ق.م) في بلاد اليونان ، ويعد المؤرخون الإِلياذة و الأوديسة مرجعين رئيسيين في دراسة حضارة الآخيين , ويعطي هوميروس في الإِلياذة انطباعاً بأن مدينة مُوْكنَاي (أوميسينة Mycenae) كان لها نوع من السيطرة على بقية المدن الهلّنية , حين يعرض استجابة هذه المدن جميعاً لنداء آجاممْنُون , ملك مُوْكنَاي , عندما أهاب بالهلّنيين, ولاسيما الآخيين , أن يجمعوا قواهم ويخفّوا لحرب طروادة, رداً على العار الذي ألحقه باريس, ابن ملك طراودة, بأخيه مينيلاووس ملك اسبرطة, بخطفه زوجته هلّينا. وتؤكد هذا الانطباع التسمية التي يطلقها هوميروس على آجاممنون حين يصفه بأنه «ملك البشر» أو «سيد الآخيين», في أكثر من موضعٍ من سطور الملحمة. وإِذا كانت الآثار تشير إِلى هذه السيطرة, في المدة التي سبقت حرب طروادة, فإِنها لا تلبث أن تشير إِلى انحدار مركز مُوْكنَاي وتخلخل قوة المدن الأخرى التي خضعت لها وتأثرت بحضارتها. وهذا ما يفسّر سبب ضعف سيطرة آجاممنون على الملوك الآخيين, الذين كانوا تحت قيادته في حرب طروادة, على نحو ما يظهر من أشعار الإِلياذة.

وبالاستناد إِلى أشعار الإِلياذة و الأوديسة , وإِلى أدلة مختلف الدراسات الأثرية والتاريخية المقارنة يمكن استنتاج بعض الصور عن حضارة الآخيّين, في عهد الأبطال (ق 13- 11ق.م).


ملف:BesikBay.jpg

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الحياة الإجتماعية

كانت الأرض ملكاً للعشيرة أو الأسرة, ويشرف رئيس الأسرة على إِدارتها, ولكنه لا يستطيع بيعها. وتذكر أشعار الإِلياذة أراضي واسعة «عامة» يتصرف بها الملك, ولكنها مُلْكٌ مشترك للجماعة, ويحق لكل فردٍ أن يرعى فيها ماشيته.

إن الصورة التي تنطبع في أذهاننا عن الآخيين (أي عن اليونان في عصر الأبطال) هي أنهم كانوا أقل حضارة من الميسينيين الذين سبقوهم ، وأرقى حضارة من الدوريين الذين خلفوهم. وأهم ما نلاحظ فيهم أنهم كانوا أحسن أجساماً من هؤلاء وأولئك ، فرجالهم طوال القامة أقوياء البنية ، ونساؤهم ذوات جمال بارع فتان يسلب العقول بكل ما في هذا التعبير من معان. والآخيون ينظرون ، كما ينظر الرومان الذين عاشوا من بعدهم بألف عام ، إلى الثقافة الأدبية على أنها تدهور وتخنث. وهم لا يستخدمون الكتابة إلا مضطرين ، ولا يعرفون من الأدب إلا الأغاني الحربية وأناشيد الشعراء الجوالين غير المكتوبة. وإذا جاز لنا أن نصدق هومر حق علينا أن نقول إن زيوس قد حقق في المجتمع الآخي آمال الشاعر الأمريكي الذي كتب يقول إنه لو كان إلهاً لجعل الرجال كلهم أقوياء ، والنساء كلهن حساناً ، ثم جعل نفسه بعد ذلك رجلاً. لقد كانت بلاد الأخيين جنة من الحور العين. وحتى رجالها كانوا على جانب كبير من الجمال ، كان لهم شعر مرسل طويل ، ولحى كبيرة ؛ وكانت أعظم هدية يستطيع الرجل أن يهديها أن يقص شعر رأسه ويقربه قرباناً أمام كومة الحطب التي تحرق عليها جثة صديقه ؛ ولم يكن العري قد أصبح بعد عادة في البلاد ، فكان النساء والرجال يغطون أجسامهم برداء مربع يطوونه فوق الكتفين ، ويشبكونه بدبوس ، ويصل إلى قرب الركبتين ، وتضيف النساء إلى هذا نقاباً أو حزاماً ، ويضيف الرجال غطاء للحقوين - قدر له أن يتطور على مر الزمن وازدياد الاحتشام والكرامة حتى أصبح هو اللباس ثم السروال (البنطلون).

وكان الأغنياء يرتدون أثواباً غالية الثمن كالثوب الذي تقدم به بريام في ذلك إلى أكليز ليفتدي به ولده. وكان الرجال حفاة الأقدام والنساء عاريات الأذرع ، إلا في خارج الدور فكانوا يحتذون جميعاً صنادل. أما في داخلها فكانوا في العادة حفاة. وكانوا رجالاً ونساء يتحلون بالجواهر ، وقد أدهنت النساء وأدهن باريس "بالزيت الذي له رائحة الورد".

ترى كيف كان يعيش أولئك الرجال والنساء؟ يصفهم هومر بأنهم كانوا يحرثون الأرض ، ويشمُون وهم فرحون الأرض السوداء بعد تقليبها ، ويتتبعون بأعينهم في فخر وخيلاء الخطوط المستقيمة التي خطتها المحاريث ، ويبذرون القمح ويروون الأرض ، ويقيمون الجسور ليتقوا بها فيضان الأنهار في الشتاء. ويشعرنا هومر بيأس الفلاح الذي قضى الشهور الطوال في كدح مستمر ، ثم يأتي "التيار الجارف السريع فيهدم الحواجز والجسور ، ولا تستطيع سلسلة الأكوام الطويلة أن تكبح جماحه ، أو أسوار البساتين المثمرة حين يفاجئها أن تقف في سبيله. وليست أرض البلاد مما يسهل فلحها لأن الكثير منها جبال أو مناقع ، أو تلال كثيفة الأشجار ؛ وكانت الحيوانات البرية تهاجم القرى ، فكان الصيد ضرورة قبل أن يصبح رياضة وهواية.

وكان الأغنياء يعنون بتربية قطعان كبيرة من الماشية ، والضأن ، والخنازير ، والمعز ، والخيل ؛ ويُروى أن رجلاً منهم يسمى إركثونيوس Erichthonius كان له ثلاثة آلاف فرس ولود مع أمهارها. وكان الفقراء يأكلون لحم السمك ، والبقول ، والخضر أحياناً ، أما المحاربون والأغنياء فكان جل اعتمادهم على اللحم المشوي الكثير ، وكان فطورهم اللحم والنبيذ.وقد تغذى أديسيوس مع راعي خنازيره بخنزير صغير مشوي ، وتعشيا بثلث خنزير عمره خمس سنوات".

وكانوا يستعملون عسل النحل بدل السكر ، ودهن الحيوان بدل الزبد ، والكعك المصنوع من الحب بدل الخبز ، فكانوا يجعلونه رقائق ثم يخبزونه على لوح من الحديد أو على حجر محمي. ولم يكن الآكلون يضطجعون في أثناء تناول الطعام كما كان الأثينيون يفعلون فيما بعد ، بل كانوا يجلسون على كراسي ممتدة على طول الجدار لا مصفوفة حول مائدة وسطى. ولم يكونوا يستعملون الأشواك أو الملاعق أو الفوط إلا ما عسى أن يكون مع الضيوف من مدي ؛ وكانوا يأكلون بأيديهم وأصابعهم ؛ وكان شرابهم الرئيسي حتى الفقراء والأطفال هو النبيذ المخفف. وكانت الأرض ملكاً للأسرة أو العشيرة لا للفرد ؛ وكان الأب هو الذي يشرف عليها ويصرف شؤونها ، ولكنه لم يكن من حقه أن يبيعها ، وتقول الإلياذة إن مساحات واسعة كانت من أملاك الملك المشاعة (الدومين) ، وكانت في واقع الأمر ملكاً للمجتمع يستطيع أي إنسان أن يرعى فيها ماشيته ؛ ونرى في الأوديسة أن هذه الأرض المشاعة قد قسمت وبيعت - أو أصبحت ملكاً للأفراد الأثرياء أو الأقوياء ؛ وهكذا اختفت الأرض المشاعة في بلاد اليونان القديمة بنفس الطريقة التي اختفت بها في إنجلترا الحديثة.

ليخيل إلينا ونحن نقرأ أشعار هومر أننا نعيش في مجتمع أكثر بدائية وأقل خضوعاً للقوانين من المجتمع الذي شهدناه في نوسس أو ميسيني. فلقد رجعت الثقافة الآخية خطوة إلى الوراء ، وكانت مرحلة انتقال بين الحضارة الإيجية الزاهرة والعصر المظلم الذي سوف يعقب الفتح الدوري. فالحياة الهومرية فقيرة في الفنون ، غنية في النشاط والعمل؛ وهي ثقافة ينقصها التفكير والتأمل ، خفية سطحية ، سريعة. وهي أصغر سناً وأصلب عوداً من أن تهتم بالأخلاق أو الفلسفة. أو لعلنا نخطئ في حكمنا عليها لأننا نراها في الأزمنة الحادة أو الفوضى التي أعقبت الحرب.

ولسنا ننكر أننا نشهد في هذه الثقافة كثيراً من الصفات والمناظر الرقيقة الرحيمة ، وإنك لترى المحاربين أنفسهم كرماء ، يعطف بعضهم على بعض ، كما ترى بين الأب والابن حباً به من العمق قدر ما به من السكون والصمت. فهاهو ذا أديسيوس يقبل رؤوس أفراد أسرته وأكتافهم حينما يعرفونه بعد غيابه الطويل ، وهاهم أولاء يقبلونه كما يقبلهم. وحين يعلم منلوس وتعلم هلن أن تلمكس الطفل النبيل ابن أديسيوس المفقود الذي حارب من أجلهم حرب الأبطال يبكيان ويتحسران. وحتى أجممنون نفسه لا يستعصي عليه البكاء فيذرف من الدموع ما يذكر هومر بمجرى ماء يتدفق فوق الصخور. والصداقة بين الأبطال قوية متينة ، وإن كنا نظن أنه قد يكون في العلاقة القوية أو قل العلاقة الغرامية التي بين أكليز وبتركلوس ، وخاصة بتركلوس الميت شيء من الصلات الجنسية الشاذة.

وهم شديدو السخاء على الأضياف لأن "الغرباء والمتسولين أبناء زيوس" والعذارى يغسلن قدمي الضيف أو جسمه ويدهنه بالأدهان ، وربما قدمن له ثياباً غير ثيابه ؛ وهو يجد الطعام والمأوى إذا كان في حاجة إليهما ، وقد يتلقى الهدايا أيضاً. ومن أقوال هلن ذات الخد الأسيل ، وهي تضع بين يدي تلمكس ثوباً غالي الثمن: "هاأنذا أقدم لك أيها الطفل العزيز هذه الهدية ، لتذكر بها يدي هلن في يوم زواجك المرتقب من زمن بعيد ولتلبسها زوجتك". تلك صورة تكشف لنا عن الحنو الإنساني والشعور الرقيق اللذين يختفيان حتماً في الإلياذة بين نقع الحرب وقعقعة السلاح. والحرب نفسها لا تحول بين اليونان وبين حبهم القوي للألعاب. فالصغار والكبار على السواء يتبارون مباريات على جانب عظيم من الخطورة والمهارة ، تسودها العدالة والفكاهة. ويلعب خُطّاب بنلبي الداما ويتقاذفون الأقراص والحراب ، ويلعب ضيوف أديسيوس الفاكهون لعبة القرص وألعاباً غريبة هي مزيج من ألعاب الكرة والرقص. ولما أحرقت جثة بتركلوس بعد وفاته أقيمت بهذه المناسبة حسب العادات الآخية ألعاب كانت هي المثل الذي اُحتذي في الألعاب الأولمبية ، وكانت تشمل العَدْو ، وقذف القرص والحربة ، والرمي بالسهام ، والمصارعة ، وسباق المركبات ، والمبارزة بالسلاح ؛ وكانت كلها تسودها الروح الرياضية الطيبة ، إذا استثنينا أنها كانت محرمة إلا على الطبقات الحاكمة ، وأن الآلهة وحدها هي التي كان يسمح لها بالغش والخداع.

أما الجانب الآخر من الصورة فكان أقل من هذا مدعاة للسرور. فنحن نرى أكليز يقدم "امرأة تحذق الأشغال اليدوية الجميلة" جائزة للفائز في سباق العربات. ونرى الخيل ، والكلاب ، والثيران ، والضأن ، والآدميين يُضحى بها على كومة إحراق بتركلوس حتى يكون له بعد موته ما يبتغيه من حسن الخدمة ومن الطعام. ويحسن أكليز معاملة بريام ، ولكنه لا يفعل ذلك إلا بعد أن يجر جسم هكتور المشوه جراً مهيناً حول كومة الحريق.

وكانت الحياة في نظر الرجل الآخي قليلة القيمة ، لا يعد سلبها من الأمور الخطيرة ، وكانت لحظة من السرور كفيلة بردها إلى من قضي عليه بفقدها. وإذا ما غلبت مدينة على أمرها قتل رجالها أو بيعوا بيع الرقيق ، واتخذت النساء خليلات إن كن حساناً ، أو رقيقات إن لم تكن كذلك. وكانت القرصنة لا تزال من المهن المحترمة ، وكان الملوك أنفسهم ينظمون حملات مغيرة ، تنهب المدن والقرى وتتخذ أهلها عبيداً ، ويقول ثوسيديدس في هذا: "والحق أن هذا العمل أصبح أهم مورد من موارد الرزق لليونان الأولين ، ولم تكن هذه المهنة حتى ذلك الوقت مما يجلل صاحبها العار" ، بل كانت تكسبه المجد.

وكان في مقدور الأمم العظيمة أن تهاجم الشعوب الضعيفة المحرومة من وسائل الدفاع وتخضعها لسلطانها دون أن يعد ذلك منها مخالفاً للعدل أو الكرامة ، شأنها في هذا شأن الأمم القوية في هذه الأيام. وحين يسأل أديسيوس هل هو تاجر يهتم بالمكاسب التي يسد بها مطامعه ، يرى في هذا القول إهانة له ؛ ولكنه يتحدث في زهو وخيلاء عما فعله وهو عائد من طروادة إذ قل ما كان لديه من المؤن ، فنهب مدينة إسمروس Ismarus وملأ منها سفينة بالطعام ؛ وكيف صعد في نهر إيجبتس Aegyptus (يقصد نيل مصر) لينهب الحقول النضرة ويسوق أمامه النساء والأطفال الصغار ، ويقتل الرجال". وملاك القول أنه لم تكن ثمة مدينة من المدن آمنة من هجوم القراصنة المفاجئ عليها ، دون أن تعمل من جانبها ما يستفزهم أو يبرر هجومهم.


الأخلاق

يتصف الآخيون فضلاً عن حبهم للنهب والقتل دون أن يخشوا في ذلك تأنيب الضمير ، يتصفون فضلاً عن هذا بالكذب والخداع دون حياء ، فأديسيوس لا يكاد ينطق بقول دون أن يكذب فيه ، أو يعمل عملاً دون أن يشوبه الغدر. من ذلك أنه لما قبض على دولون Dolon الجاسوس الطروادي وعده هو وديوميد Diomed أن يبقيا على حياته إذا أدلى إليهما بما يطلبانه من المعلومات ، فلما فعل قتلاه. ولسنا ننكر أن غير أديسيوس من الآخيين لا يضارعونه في الغدر والخيانة ، ولكنهم لا يمتنعون عن ذلك لأنهم لا يريدون أن يغدروا أو يخونوا ، بل هم يحسدون أديسيوس ويعجبون به ، ويرونه أنموذجاً للخلق الطيب ؛ والشاعر الذي يصوره يعده بطلاً من كل الوجوه ، وحتى الإلهة أثينة نفسها تثني عليه لكذبه ، وتضيف هذه الصفة إلى محاسنه الخاصة التي تحببه إليها، وتقول له وهي تبتسم وتربت عليه بيدها: "إن الذي يفوقك في حيلك المختلفة الأنواع لا بد أن يكون ماكراً خبيثاً ، ولو كان الذي يلقاك إلهاً من الآلهة. إنك رجل ماكر فيما تسديه من نصح ، لا يقف خداعك وغدرك عند حد ؛ ويلوح أنك لا تمتنع في بلدك نفسه عن الاحتيال وعن القصص الكاذبة الخادعة التي تحبها من أعماق قلبك".

والحق أننا نحن أنفسنا نشعر بميل نحو هذا البطل الذي يشبه في التاريخ القديم البطل منشهوزن الخرافي Munchausen ، فنحن نتبين فيه وفي الشعب المجد المحتال الذي ينتمي إليه من الصفات ما يستثير الحب ؛ فهو أب لطيف رقيق القلب ، وهو في بلده حاكم عادل "لم يسيء لأحد في أرضه لا بالقول ولا بالفعل". ويقول فيه راعي خنازيره: "إنني لن أجد بعد اليوم سيداً يضارعه في شفقته مهما بعدت البلاد التي أذهب إليها ، حتى لو عدت إلى بيت أبي وأمي!". ونحن نغبط أديسيوس على "شكله الشبيه بأشكال الآلهة المخلدين" وعلى جسمه الرياضي ، الذي يمكنه وهو في نحو الخمسين من عمره أن يقذف القرص أبعد مما يقذفه أي شاب من شبان الفيشيان Phaeacian ؛ ونعجب "بثبات جنانه" و "بحكمته الشبيهة بحكمة جوف". ولا ينقطع عطفنا عليه وهو يتمنى الموت بعد أن يئس من قدرته على أن يرى مرة أخرى "الدخان ينبعث من أرض وطنه" ، أو حين يقوي قلبه وسط ما يحيط به من أخطار وآلام بالألفاظ التي كان سقراط يحب أن يرددها : "اصبري الآن يا نفسي ، لقد قاسيت من قبل ما هو شر من هذا". وهو في جسمه وعقله رجل من حديد ، ولكن كل قطعة فيه مهما صغرت قطعة من إنسان ، ولهذا فإنا نعفو عنه ونتجاوز عن سيئاته.

والحق أن المعايير الخلقية عند الآخيين تختلف عن معاييرنا اختلاف فضائل الحرب عن فضائل السلم. فالرجل الآخي يعيش في عالم مضطرب ، كَدِر ، جوعان ، على كل إنسان فيه أن يعني بحراسة نفسه ، وأن يكون على الدوام ممسكاً بقوسه ورمحه قادراً على أن ينظر في هدوء إلى الدم المراق. وفي ذلك يقول أديسيوس : "إن المعدة الجائعة لا يستطيع أحد أن يخفيها ... ومن أجلها صنعت السفن المعوجة وأعدت لتحمل الويل إلى الأعداء فوق البحر الهائج المضطرب". وإذا كان الآخي لا يجد إلا القليل من الأمن والسلامة في بلاده ، فإنه لا يرعى شيئاً منهما في خارجها ؛ ويرى أن من حقه أن يفترس كل ضعيف.

وأسمى الفضائل في رأيه فضيلة الذكاء المقرون بالشجاعة والقسوة ، ولفظ الفضيلة في لغته مشتق من لفظ الرجولة ومن صفة Ares أو المريخ. وليس الرجل الصالح عنده هو الرجل اللطيف المتسامح ، الأمين الرزين ، المجد الشريف ؛ بل هو الرجل الذي يحارب ببسالة وكفاية. وليس الرجل الطالح هو الذي يدمن الشراب ، ويكذب ، ويقتل ويغدر ، بل هو الجبان الغبي أو الضعيف. لقد كان ثمة نِتْشيون قبل نتشه ، وقبل ثرازمكس Thrasymachus بزمن طويل ، في فجاجة العالم الأوربي وصلابته.

المرأة والرجل

وكان المجتمع الآخي مجتمعاً أبوياً استبدادياً ، يمتزج به جمال المرأة وغضبها بحنان الأبوة وحبها القويين. وكان الأب من الوجهة النظرية صاحب السلطان الأعلى، وكان له أن يتخذ من السراري ما يشاء ، وأن يقدمهن لضيوفه، وأن يضع أطفاله على قمم الجبال ليموتوا أو يذبحهم قرباناً للآلهة الغضاب. وهذه السلطة الأبوية المطلقة لا تستلزم حتماً أن يكون المجتمع الذي تسوده مجتمعاً وحشياً ، بل كان ما تعنيه أن هذا المجتمع لم يبلغ نظام الدولة فيه مبلغاً يكفي لحفظ النظام الاجتماعي ، وأن الأسرة فيه تحتاج في خلق هذا النظام الاجتماعي إلى القوى التي آلت فيما بعد إلى الدولة حين أممت حق القتل. وكلما تقدم التنظيم الاجتماعي وارتقى نقص سلطان الأب ، وتفككت وحدة الأسرة ، ونمت الحرية والفردية.

ولقد كان الرجل الآخي في الحياة العملية رجلاً معقولاً في أغلب الأحوال ، يصغي في صبر وأناة إلى فصاحة أهل منزله ويخلص إلى أبنائه. وكان مركز المرأة في نطاق هذا الإطار الأبوي أرقى في بلاد اليونان الهومرية منه في أيام بركليز. فهي تضطلع بدور رئيسي في القصص والملاحم من خطبة بلبس لهبوداميا Hippodameia إلى رقة إفجينيا وحقد إلكترا. فلا الحجاب ولا البيت بمانع لها من الخروج ، بل نراها تسير حرة بين الرجال والنساء على السواء ، وتشترك أحياناً في مناقشات الرجال الجدية كاشتراك هلن مع منلوس وتلمكس. ولم يكن الزعماء الآخيون إذا أرادوا أن يستثيروا غضب الشعب على طروادة يلجئون إلى المبادئ السياسية أو العنصرية أو الدينية ، بل كانوا يستثيرونه بجمال النساء ؛ ومن أجل ذلك كان وجه هلن الجميل هو الحجة التي تذرعوا بها لإثارة حرب تهدف إلى امتلاك الأرض وإلى التجارة ؛ ولولا المرأة لكان بطل هومر جلفاً فظاً ليس له هدف يعيش من أجله ، فهي تعلمه شيئاً من الأدب والمثالية ودماثة الأخلاق.

وكان الشراء طريقة الزواج ، وكان الثمن عادة أثواراً أو ما يساويها يؤديه الخطيب إلى والد الفتاة. ويحدثنا الشاعر عن "العذراء حالبة الماشية". ولم يكن الخطيب وحده هو الذي يؤدي ثمن العروس ، بل كان والدها يؤدي لها أحياناً بائنة قيمة. وكانت حفلة الزفاف عائلية واجتماعية معاً ، وكان من مظاهرها كثرة الطعام ، والرقص والمرح الذي تنطلق فيه الألسنة. "وكانوا يسيرون بالعروسين في وهج المشاعل من حجراتهما ويخترقون بهما المدينة وسط أغاني العرس العالية. وكان الشبان يرقصون وهم يدورون ، وتعلو بينهم نغمات الناي والقيثارة" - ألا ما أشبه الليلة بالبارحة. ومتى تزوجت المرأة أصبحت من فورها ربة بيتها ونالت من التكريم بقدر ما تنجب من الأبناء. وكان الحب بمعناه الحقيقي - أي بوصفه حناناً وشوقاً - يأتي إلى اليونان كما يأتي إلى الفرنسيين بعد الزواج لا قبله ، فلم يكن هو الشرارة التي تنطلق باتصال جسمين أو تقاربهما ، بل كان ثمرة الاشتراك الطويل في العناية بالبيت وشؤونه. وفي الزوجة الهومرية من الوفاء بقدر ما في زوجها من عدمه. وليس في أشعار هومر إلا ثلاث زانيات - هن كليتمنسترا ، وهلن ، وأفرديتي ؛ ولكن الصورة التي يرسمها لهن لا تنطبق على المرأة العادية ، وإن انطبقت على الإلهات في تلك الأيام.

وكانت الأسرة الهومرية التي أثرت فيها هذه العوامل (إذا صرفنا النظر عن مغالاة الأقاصيص التي لا وجود لها في أشعار هومر) نظاماً سليماً يستريح له الإنسان ويسر منه، أكثر نسائها مهذبات رقيقات وأكثر أطفالها مخلصون أوفياء. ولم يكن عمل الأمهات مقصوراً على إنجاب الأبناء ، بل كن يقمن فيها بكثير من الأعمال: فكن يطحنّ الحب ، ويمشطن الصوف ، ويغزلن ، وينسجن ، ويطرزن. ولم يكن يخطن كثيراً لأن معظم الملابس لم تكن بحاجة إلى الخياطة ، كما كان الطبخ في العادة من أعمال الرجال. وكن فضلاً عن هذه الأعمال يلدن الأطفال ويربينهم ، ويعالجهن ما يصيبهم من أذى ، ويسوين ما يقوم بينهم من خصام ، ويعلمنهم عادات القبيلة وأخلاقها وتقاليدها الموروثة.

ولم تكن عندهم كتب ؛ فكانت الأسرة والحالة هذه أحسن نظام يرتضيه الصبيان. وكانت البنات يتعلمن الفنون المنزلية على حين يتعلم الأولاد الصيد والحرب ؛ فكان الولد يدرب على صيد السمك وعلى السباحة ، وحرث الأرض ، ونصب الشراك وترويض الحيوانات ، وتصويب السهام والحراب ، وأن يعنى بنفسه في كل ما يعترضه من الأحداث في حياته التي لم يكن للقوانين فيها السلطان الكامل على الأهلين. وإذا شب أكبر أبناء الأسرة من الذكور وبلغ سن الرجولة أصبح في غيبة أبيه رب الأسرة المسئول عنها ؛ فإذا تزوج جاء بزوجته إلى بيت أبيه. وهكذا تتجدد الأجيال جيلاً بعد جيل ، يتغير في خلالها أفراد الأسرة على مر الأيام وتبقى الأسرة محتفظة بكيانها ووحدتها ، وقد تظل محتفظة بهما عدة قرون ، تضع في بوتقة البيت التي ينصهر فيها الأفراد قواعد النظام والأخلاق التي لا بد منها لقيام الحكومات على اختلاف أنواعها.

الحاة السياسية

ترى كيف كان هؤلاء الآخيون الأشداء السريعو الانفعال يُحكمون؟ لقد كانوا في السلم تحكمهم الأسرة وفي الأزمات تحكمهم العشيرة. والعشيرة جماعة من الناس ينتسبون إلى أصل واحد ويدينون بالطاعة إلى رئيس واحد، وحصن هذا الرئيس هو منشأ المدينة ومركزها ، حتى إذا ما أصبح سلطانه سنة متبعة وشريعة معترفاً بها ، تجمعت حول هذا الحصن عشيرة بعد عشيرة حتى يتكون من مجموعها مجتمع سياسي من ذوي القربى. وإذا تطلب الرئيس عملاً إجماعياً من عشيرته أو مدينته دعا أحرارها الذكور إلى اجتماع عام وعرض عليهم اقتراحاً قد يقبلونه وقد يرفضونه ، ولكن أعظم الأعضاء شأناً هم الذين يستطيعون أن يقترحوا تغييره. ولقد كانت هذه الجمعية القروية العنصر الديمقراطي الوحيد في هذا المجتمع الأرستقراطي الإقطاعي ، وكان أعظم أعضائها فائدة للدولة أفصحهم لساناً وأقدرهم على التأثير في عامة الشعب.

وإنا لنشهد منذ ذلك الوقت البعيد في الشيخ نسطور الذي "يسيل صوته من لسانه أحلى من الشهد" ، وفي أوديسيوس المخاتل الذي تقع كلماته "على الناس وقع هشائش الثلج" ، نشهد فيهما بداية ذلك السيل من الفصاحة الذي قُدّر له أن يبلغ في بلاد اليونان مستوى أرفع مما بلغه في أية حضارة أخرى ، والذي قضى في آخر الأمر على هذه الحضارة القضاء الأخير. وإذا تطلب الأمر أن تعمل العشائر مجتمعة فإن رؤساءها يطيعون أوامر أقواهم سلطاناً ، ويتخذونه ملكاً عليهم ، ويدينون له بالطاعة هم وجيوشهم من الأحرار وأتباعهم من العبيد. وكان أقرب الرؤساء إلى الملك مسكناً ، وأكبرهم مقاماً عنده ، يسمون "صحابة الملك" ، وهذا هو الاسم الذي أطلق عليهم أيضاً في مقدونيا أيام فليب وفي معسكر الإسكندر. وكان هؤلاء الأعيان يستمتعون في البول boule أو المجلس بحرية القول ويخاطبونه حين يوجهون له القول على أنه "الأول بين الأنداد". ومن هذه الهيئات المختلفة - الجمعية العامة ، ومجلس الأعيان ، والملك - نشأت دساتير العالم الغربي الحديث كله على كثرتها واختلاف أنواعها وأسمائها. وكان للملك سلطان عظيم ولكنه ضيق الحدود. فهو ضيق في الرقعة التي يظلها لأن مملكته صغيرة ، وهو ضيق في زمانه لأن الملك معرض لأن يخلعه المجلس أو أن يخلع استناداً إلى حق سرعان ما اعترف به الآخيون وهو حق من عساه أن يكون أقوى من الملك سلطاناً. وفيما عدا هذا فقد كان حكم الملك وراثياً وكانت حدود سلطانه غير واضحة المعالم. وهو قبل كل شيء زعيم عسكري شديد العناية بجيشه لأنه إذا عدمه تبينت للناس أخطاؤه. وهو يحرص على أن يكون هذا الجيش حسن العدة ، والطعام ، والتدريب ، لديه ذخيرة من السهام المسمومة ، والحراب ، والخوذ ، والجراميق ، والرماح ، والتروس ، والدروع ، والعربات الحربية. وهو الحكومة بأجمعها طالما كان الجيش يحميه ، يجمع في يديه التشريع والتنفيذ والقضاء ، وهو كاهن الدين الأكبر الذي يقرب القرابين باسم الشعب ، أوامره هي القانون، وأحكامه نهائية لا معقب لها ، ولم يكن لفظ القانون قد وجد بعد.

ومن تحته المجلس الذي يجتمع أحياناً ليفصل في المنازعات الخطيرة ؛ وكأنما كان هذا المجلس يضع التقاليد التي تسير عليها جميع المحاكم فيما بعد ، فكان يبحث عن السوابق ويحكم على غرارها. وكان للسوابق الغلبة على القانون لأن السابقة مستمدة من العادة ، والعادة هي الأخت الكبرى للقانون تنازعه سلطانه. على أن المحاكمات على أنواعها نادرة في المجتمع الهومري ، وقلما نسمع فيه عن هيئات عامة للقضاء ، بل كان على كل أسرة أن تدفع الأذى عن نفسها وتثأر لنفسها ، وكانت أعمال العنف كثيرة تسود المجتمع.

ولم يكن من عادة الملك أن يجني الضرائب ليقيم بها دعائم ملكه ، بل كان يتلقى من حين إلى حين "هدايا" من رعاياه ؛ ولو أنه كان يعتمد على هذه الهدايا وحدها لكان ملكاً فقيراً بحق ؛ أما مورده الأكبر فكان في أغلب الظن مستمداً من الرسوم التي يفرضها على ما ينتزعه جنوده وسفنه من الأسلاب في البر والبحر. ولعل هذا هو السبب الذي من أجله وُجد الآخيون في عصر متأخر كالقرن الثالث عشر قبل الميلاد في مصر وفي كريت. فكانوا في مصر قراصنة غير ناجحين وفي كريت فاتحين عابرين. ثم نسمع عنهم فجأة وهم يستثيرون غضب الشعب بقصة عن السبي المذل ، ويجمعون بذلك قوى القبائل جميعها ، ويجندون مائة ألف محارب ، ويبحرون بأسطول ضخم منقطع النظير مكون من نحو ألف سفينة ليجربوا حظهم ضد حراب آسيا على سهول طروادة وتلها.


الحياة الإقتصادية

قد كانت الزراعة والرعي الموردين الرئيسين لاقتصاد الآخيين. وكانت المحصولات الرئيسة هي الحبوب و الكروم , وكانت أعمال الزراعة شاقة, لأن أكثر الأراضي جبلية, والمناخ يميل إِلى الجفاف, فلا يتبقى من الأماكن التي تصلح للزراعة إِلا نحو ربع مساحة الجبال, أو خمس مساحة البلاد, وكان الأغنياء يملكون قُطعاناً كبيرة من البقر والماعز والغنم, ويكتفي الفقراء بأكل السمك والحبوب, أو بما يصطادونه من الحيوانات البرية والطيور فقد كان الصيد آنئذ ضرورة من ضرورات الحياة.

ولم يكن الآخيون يستخرجون المعادن من الأرض. بل كانوا يستوردون ما يلزمهم من النحاس و القصدير و الفضة و الذهب من البلاد الأخرى. وكان الحديد من المواد النادرة الثمينة, وتصنع أكثر الأسلحة من البرونز.

وتتحدث الإِلياذة والأوديسة عن البنّائين والنجارين والسّراجين الذين كانوا يشتغلون في بيوت من يطلب ذلك. ولم تكن الحرف متطورة, إِذ كان أفراد الأسرة يصنعون في الغالب ما يحتاجون إِليه بأنفسهم.

بدأ الآخيّون في عهد الأبطال يتعرفون التجارة. ولم يقتصر نشاطهم على التجارة الداخلية بين مدن اليونان ومناطقها. فقد جاء في الإِلياذة والأوديسة ذكر المنسوجات الشفّافة الُموشَّاة الآتية من صَيْدُوْن (صيدا), والأدوات المصنوعة من الذهب الآتية من فينيقية, ومجموعة من المصنوعات الأخرى كالسلال والمزهريات المجدولة من أسلاك الفضة والأدوات المصنوعة من العاج والبرونز والصفيح. وكان الآخيون من جانبهم يقايضون على هذه الواردات بالماشية والمعادن. وليس في الإِلياذة أو غيرها ذكرٌ للنقود. وكانوا يعدّون البقر وحدة قياسية للتبادل التجاري ويستخدمون كذلك سبائك الحديد أو البرونز أو الذهب, وصنعوا سبيكة ذهبية فيما بعد بمقياس معين يدعى «تالَنْتُون».

وكان في مقدور الأرض أن تخرج المعادن كما تخرج الطعام ، ولكن الآخيين أهملوا استخراج المعادن واكتفوا باستيراد النحاس ، و القصدير ، و الفضة و الذهب ، ومادة أخرى جديدة عجيبة من أسباب الترف ، وهي الحديد. فنرى كتلة غير مشكلة من الحديد تقدم هدية ثمينة في الألعاب التي أقيمت تكريماً لبتروكلوس Patroclus6 ، ويقول عنها أكليز (أخيل) إنه سوف يُصنع منها كثير من الأدوات الزراعية. وهو لا يذكر في هذا المقام شيئاً عن الأسلحة، وكانت لا تزال تصنع من البرونز ، وتصف الأوديسة سقي الحديد ، ولكن هذه الملحمة قد وصلت إلينا في أكبر الظن من عصر متأخر عن عصر الإلياذة. وكان الحداد أمام كوره ، والفخراني أمام عجلته ، يعملان في حانوتيهما ، وكان غيرهم من الصناع الذين ورد ذكرهم في أشعار هومر - كصناع السروج ، والبنائين ، والنجارين ، وصناع الأثاث - كان هؤلاء يعملون في منازل من يكلفونهم بعمل لهم ؛ ولم يكونوا يعملون للأسواق ، أو للبيع ، أو للكسب ؛ وكانوا يداومون العمل ساعات طوالاً ، لكنهم كانوا يعملون على مهل وليس وراءهم دافع من المنافسة الظاهرة.

وكانت الأسرة نفسها تقوم بصنع أكثر حاجياتها ، فكان كل فرد يعمل بيديه ، وكان رب الأسرة ، بل كان الملك المحلى نفسه مثل أديسيوس ، يصنع ما يحتاجه بيته من سرر وكراسي ، وما يلزمه هو من أحذية وسروج ، وكان - على عكس اليونان المتأخرين - يفخر بمهارته في الأشغال اليدوية. ولقد كانت بنبي ، وهلين ، وأندروماك وخادماتهن لا ينقطعن عن الاشتغال بالغزل والنسج والتطريز ، والأعمال المنزلية. وتبدو هلين وهي تعرض تطريزها على تلماك ، أجمل منها وهي تتبختر فوق أسوار طروادة.

وكان الصناع من الأحرار ، ولم يكونوا قط من الرقيق كما كانوا عند اليونان الأقدمين ؛ وكان من المستطاع عند الحاجة تجنيد الفلاحين للعمل في خدمة الملك ، ولكننا لا نسمع قط بالأقنان اللاصقين بالأرض المرتبطين بها ؛ ولم يكن الأرقاء كثيرين ، ولم تكن منزلتهم منحطة ، وكان معظم الرقيق من الجواري خادمات المنازل ، وكانت منزلتهن في الواقع لا تقل عن منزلة خادمات المنازل في هذه الأيام ، إذا استثنينا أنهن كن يُشترين أو يبعن لآجال طوال ، لا للقيام بأعمال قصيرة غير ثابتة كحالهن في هذه الأيام. وكن في بعض الأحيان يعاملن بقسوة وحشية ؛ لكنهم في العادة كن كأعضاء في الأسرة التي يعملن لها ، يُعنى بهن في مرضهن أو عجزهن أو شيخوختهن ؛ وكن يرتبطن في بعض الأحيان بعلائق الود والمحبة مع رب الأسرة أو ربتها. فقد كانت نوسكا Nausica تساعد جواريها في غسل الملابس في النهر ، وتلعب الكرة معهن ، وتعاملهن في جميع الأحوال معاملة الرفيقات. وإذا ولدت الجارية ولداً من سيدها كان هذا الولد في العادة من الأحرار ، غير أنه كان ككل إنسان معرضاً لأن يكون رقيقاً إذا وقع أسيراً في الحرب أو في غارة القراصنة. وكان هذا أسوأ ما في الحياة الآخية.

والمجتمع الآخيوي مجتمع ريفي ، وحتى "مدنه" لا تعدو أن تكون قرى تشرف عليها قلاع قائمة فوق التلال المجاورة لها. وكانت الرسائل تنقل على أيدي السُعاة أو الرُسل ، وإذا كانت المسافة طويلة نقلت الرسالة بإشارات النار تبعث من إحدى قلل الجبال إلى قلة أخرى. وكان النقل البري تعوقه الجبال الخالية من الطرق ، كما تعوقه المستنقعات ، والمجاري الخالية من القناطر. وكان النجارون يصنعون عربات ذات أربع عجلات لها تروس وأطر من الخشب ، ولكن معظم البضائع كانت رغم وجود هذه العربات تنقل على ظهور البغال أو الرجال ؛ وكانت التجارة البحرية أقل مشقة من التجارة البرية رغم القراصنة والعواصف ، فقد كانت الموانئ الطبيعية كثيرة، ولم تكن السفن تنقطع عن رؤية الأرض إلا في أثناء الرحلة الخطرة التي تدوم أربعة أيام من كريت إلى مصر.

وكانت السفن عادة ترسو إلى البر في الليل ، وينام البحارة والمسافرون في مكان أمين على الأرض. وكان الفينيقيون في العصر الذي نتحدث عنه لا يزالون أفضل من اليونان في التجارة والملاحة ، وكان اليونان يثأرون لأنفسهم من هذا النقص باحتقار التجارة وإيثار القرصنة. ولم يكن عند اليونان الهومريين نقود، فكانوا يستخدمون بدل النقود المضروبة سبائك من الحديد ، والبرونز ، والذهب ؛ وكان الثور والبقرة يتخذان واسطة للتبادل.

وكانت السبيكة الذهبية التي تزن سبعة وخمسين رطلاً تسمى تالنت (من تالنتون أي وزنه). وكانت المقايضة كثيرة رغم ما كان عندهم من وسائط متعددة للتبادل ، وكانت ثروة الشخص تقدر بما عنده من بضائع وخاصة بما عنده من ماشية ، لا بما يملك من قطع من المعدن أو الورق ، قد تفقد قيمتها أو يعتريها التغيير والتبديل في أي وقت من الأوقات ، إذا ما بدل الناس عقائدهم الاقتصادية. وفي أشعار هومر كما في الحياة الواقعية أغنياء وفقراء ؛ ذلك بأن المجتمع أشبه ما يكون بعربة تجعجع في طريق لا مستو ولا معبد ، ومهما أتقن صنع العربة وتركيبها فإن بعض ما تحمله من متاع سوف يرسب في قاعها ويطفو بعضه الآخر إلى أعلى سطحها. ولم يصنع الفخراني آنيته كلها من طينة واحدة ، كما لم يصنعها كلها بنفس القوة والهشاشة ؛ ومن أجل هذا لا يكاد يستهل عصر الكتاب الثاني من كتب الإلياذة حتى تستمع إلى حرب الطبقات ، وحين يستشيط ثرسيتس Theresites غضباً ويطبق لسانه في أجممنون ، ندرك من فورنا أن هذا عرض قديم من أعراض ذلك الداء المزمن الوبيل.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الحياة الفنية

وترك الآخيون إلى التجار والكتبة من أهل الطبقة الدنيا فن الكتابة الذي تلقوه في أغلب الظن من بلاد اليونان الميسنية ، ذلك أنهم كانوا يفضلون الدم عن المداد و اللحم عن الطين ، ولسنا نجد في أشعار هومر كلها إلا إشارة واحدة للكتابة. ونجدها في سياق فذ واضح الدلالة ، وهو أن لوحة مطوية تعطى لرسول ويؤمر فيها من سوف يتلقاها بأن يقتل حاملها. وإذا ما وجد الآخيون وقتاً يقضونه في ممارسة الأدب فإن ذلك لم يكن إلا حين يجدون بين الحروب والغارات فترة من الوقت يركنون فيها إلى السلم ؛ ووقتئذ يجمع الملك أو الأمير أتباعه حوله ، يولم لهم وليمة ويدعو شاعراً أو مغنياً جوالاً ينشدهم على قيثارته شعراً ساذجاً يقص أعمال الأبطال من أسلافهم الأولين. وكان ذلك شعر الآخيين وتاريخهم.

ولعل هومر قد أراد كما أراد فيدياس أن ينقش صورته على ملاحمه فأخذ يقص علينا كيف طلب ألسينوس ملك القباشانيين أن يحيي أديسيوس بشيء من هذه الأغاني : "ادع إلينا المنشد الإلهي دمدوكس Demodocus، لأن الله قد اختصه دون غيره بالمهارة في الغناء .... ثم اقترب الرسول يقود المنشد القدير الذي تحبه إلهة الشعر أكثر من سائر الناس، فوهبته من نعمتها وسلطت عليه من نقمتها، فحرمته قوة البصر ولكنها وهبته نعمة الصوت الجميل".

والفن الوحيد الذي يعنى به هومر غير فنه طرق الحديد وتشكيله. فهو لا يذكر شيئاً عن التصوير ولا النحت ولكنه يستجمع كل ما أوتي من إلهام ليصف المناظر المصورة بالجواهر أو المزركشة على ترس أكليز، أو المنقوشة نقشاً بارزاً على دبوس أديسيوس الذي يحلي به صدره. وإذا تحدث عن العمارة كان حديثه قصيراً ، ولكنه يلقي على هذا الفن كثيراً من الضوء. ففي وسعنا أن نستدل من حديثه على أن المساكن العادية في عصره كانت تشاد من اللبن على أساس من الحجارة ، وأرضها من الطين المطروق بالأقدام ، والذي كان ينظف بحكه بأداة خشنة ؛ وكان السقف يتخذ من الغاب تعلوه طبقة من الطين لا تميل إلا بالقدر الذي يمكن الأمطار من النزول. وكانت الأبواب مفردة أو مزدوجة ، وقد تكون لها مزالج أو مفاتيح. أما المساكن التي هي أعلى من هذه درجة فكانت جدرانها تطلى بالجبس الملون ، وتزين حافاتها أو تنقش ، وتعلق عليها الأسلحة والتروس والنسيج المنقوش. ولم يكن في الدار مطبخ ، ولا مدخنة ، ولا نوافذ ، وكان في سقف بهوها الأوسط فتحة يخرج منها بعض الدخان المنبعث من الموقد ، وتخرج بقيته من باب الدار ، أو تستقر صناجاً على الجدران.

وكانت الحمامات من المرافق التي تحتويها بيوت الأغنياء ، أما غيرهم فكانوا يقنعون بوعاء من الخشب بدل الحمام. وكانوا يتخذون أثاثهم من الخشب الثقيل ، وكثيراً ما كان يصقل وتحفر فيه أشكال فنية جميلة. وقد صنع إكماليوس لينلي كرسياً ذا متكأ مطعماً بالعاج والمعادن النفيسة ، وكذلك صنع أديسيوس له ولزوجته سريراً ضخماً متيناً قَدَّر له أن يبقى مائة عام.

ومن خصائص هذا العصر أن أهله يُغفلون الهياكل ويوجهون كل عنايتهم إلى تشييد القصور ، بعكس عصر بركليز فإن أهله كانوا يهملون القصور ويصرفون جهودهم في بناء الهياكل. فنحن نسمع عن "بيت باريس الفخم" الذي شاده ذلك الأمير بمعونة أمهر المهندسين في طروادة ، وبقصر الملك ألسنوس الفاخر الذي كانت جدرانه من البرونز ، وطنفه من عجين الزجاج الأزرق، وأبوابه من الفضة والذهب، إلى غير ذلك من الأوصاف التي تَصْدُق على الشعر أكثر مما تصدق على فن العمارة. ونسمع كذلك الشيء القليل عن بيت أجممنون الملكي في ميسيني كما نسمع الشيء الكثير عن قصر أديسيوس في أتكا. وقد كان لهذا القصر دهليز أمامي مرصوف بعضه بالحجارة ، ويحيط به سور مجصص ، ويزدان بالأشجار ومذاود الخيل ، وكومة من الروث الساخن ينام عليها أرجوس كلب أديسيوس في ضوء الشمس. ويؤدي إلى داخل القصر مدخل ذو عمد ينام فيه العبيد والزائرون في كثير من الأحيان ، أما داخل القصر نفسه فكان يحتوي على حجرة للانتظار تؤدي إلى بهو أوسط يستند إلى عمد يصل إليه الضوء من قمته في السقف، وفي بعض الأحيان من فتحة أخرى بين طنف البناء وعوارضه التي فوق الأعمدة. وكانت مجامر نحاسية مستقرة على قواعد عالية تضيء البيت إضاءة مضطربة غير مستقرة. وكان في وسط البهو مدفأة الدار تجتمع الأسرة حول نارها المقدسة أثناء الليل للدفء والطرب ، وللتحدث عن أخبار الجيران، وعناد الأطفال ، وتقلبات الأيام.

وفي العمارة, تبرز الإِلياذة والأوديسة فخامة الصنع ودقة الزخرفة عند الحديث عن قصور الملوك والزعماء. ويلمس القارئ في الكتابات المنسوبة إِلى هوميروس, أنَّ المجتمع الآخيّ كان أقل تطوراً مما كان عليه في مُوْكنَاي وأبعد عن النظام والقانون والقيود الأخلاقية التي كانت سائدة في حضارة كريت[ر] (إِقريطش). وأن الآخيين رجعوا بالحضارة خطوات إِلى الوراء بالموازنة مع ما كانت قد بلغته في بلاد بحر إِيجة في عصري البرونز الثاني والثالث (1450- 1100 ق.م). وتبدو حياة الآخيين, فقيرة بالفنون الأخرى بعيدة عن القيم الفكرية, مقتصرة غالباً على الانصراف إِلى الحروب والغارات.


انتشار الآخيين وتحركاتهم

تشير الكتابات الحثّية إِلى ازدياد قوة الآخيين في منتصف القرن الثالث عشر ق.م. وهي تذكر أن الملك الحثي توداليا الرابع (1250-1220 ق.م) اضطر إِلى محاربتهم مدةً طويلة, وأنهم كانوا خصوماً أقوياء بقيادة ملكهم آتاريسياس أي أتريوس - والد آجاممْنُون - ويزاحمون الحثيين, ويسعون إِلى التوسع والاستيلاء على بعض جزر بحر إِيجه.

وقد وجد الآخيين أنفسهم مضطرين إِلى البحث عن مصادر الرزق خارج بلادهم لضيق وسائله في بلادهم فمالوا إِلى الهجرة, حيثما وجدوا إِلى ذلك سبيلاً. ولم تتجه هجراتهم نحو داخل القارة الأوربية لأسباب اقتصادية وبشرية وعسكرية بل توجهوا بأنظارهم إِلى البحر. وشجعهم على الملاحة في الحوض الشرقي للبحر المتوسط تقارب سواحله في أكثر من موضعٍ, وكثرة الجزر في أرجائه, والمراكز الحضارية على شواطئه. وقد أدت الهجرات المتتالية التي انطلقت من بلاد اليونان منذ وقت مبكر, إِلى انتشار سكانها على شواطىء البحر المتوسط الشرقية أولاً ثم الغريبة فيما بعد, ومنها هجرات الآخيين في نهاية عصر البرونز الحديث ومطلع عصر الحديد (1200-1000 ق.م).

وليست حرب طروادة, التي تتحدث عنها الإِلياذة, إِلا إِحدى المحاولات المنظمة لتوسع الآخيين واستيطانهم شواطئ آسيا الصغرى وجزر بحر إِيجة.

وساعد ضغط الدوريين على انتشار الآخيين كما جاء في روايات الإِخباريين والكتاب اليونانيين. فقد كان «الاجتياح الدُوري», أو عودة «آل هرقل» كما يقولون, الحادث الأكبر الذي أدى إِلى انهيار الآخيين وفقدهم السيطرة على شبه جزيرة البلوبونيز بعد ثمانين عاماً من حرب طروادة (في نهاية القرن 12 ق.م), فتشتّتوا في جزر بحر إِيجة وشواطئ آسيا الصغرى, ولم يبق لهم ذكر في مجرى تاريخ بلاد اليونان.


حصار طروادة

تُرَى هل حوصرت طروادة بحق؟ لسنا نعلم أكثر من أن كل مؤرخ يوناني وكل شاعر يوناني ، وأن كل سجل في معبد يوناني إلا القليل الذي لا يستحق الذكر ، وكل قصة يونانية - من أن هذه كلها تسلم بلا جدال بأن طروادة حوصرت ؛ وأن علم الآثار قد كشف لنا عن المدينة المخربة مضاعفة عدة مرار ؛ وأن القصة وأبطالها لا تزال في هذه الأيام كما كانت في آخر القرن الماضي تعد في جوهرها قصة صحيحة. وقد جاء في نقش مصري خلفه رمسيس الثالث أن "الجزائر كانت قلقة مضطربة" حوالي 1196 ق.م ، وفي بلني إشارة إلى رمسيس "الذي سقطت طروادة في أيامه". ويرجع إرتشثنيز Eratosthenes العالم الإسكندري العظيم تاريخ هذا الحصار إلى عام 1194 ق.م مستنداً في ذلك إلى الأنساب المتواترة التي نسقها المؤرخ - الجغرافي هِكتِيُوس Hecataeus في أواخر القرن السادس قبل الميلاد.

ويتفق الفرس الأقدمون والفينيقيون مع اليونان في قولهم إن تلك الحرب العظمى قد استعرت نارها لأن أربعة من النساء الحسان قد اختطفن من بلادهن. فالمصريون على حد قولهم اختطفوا أيو Io من أرجوس ، واليونان اختطفوا أوربا Europa من فينيقيا ، و ميديا من كلكيز Colchis؛ أليس من الإنصاف والحالة هذه أن يختطف باريسُ هلن؟

ويأبى استسيكورس في سنيه الأخيرة بعد أن تاب وأناب ، كما يأبى هيرودوت و يوربديز من بعده ، أن يعترفوا بأن هلن قد غادرت بلادها إلى طروادة ؛ وكل ما في الأمر أنها ذهبت إلى مصر مكرهة وأقامت فيها اثنتي عشرة سنة حتى جاءها منلوس. ويتساءل هيرودوت قائلاً: هل من الناس من يصدق أن الطرواديين يحاربون عشر سنين من أجل امرأة واحدة؟ ويعزو يوربديز إرسال الحملة إلى ازدياد السكان في بلاد اليونان أكثر مما تتحمله مواردها ، واضطرار أهلها بسبب هذه الزيادة إلى الهجرة والتوسع. ألا ما أقدم الأسباب الحديثة التي تبرر بها الرغبة في القوة والسلطان.

على أنه لا يبعد أن تكون قصة شبيهة بهذه القصة قد استعين بها على جعل هذه المغامرة مستساغة لدى اليوناني العادي ، وذلك بأن الناس في حاجة إلى الألفاظ الطنانة إذا أريد منهم أن يضحوا بحياتهم. ومهما تكن أسباب الحرب الظاهرة ، فإن الذي لا شك فيه أن حقيقة أمرها وجوهرها لم تكن إلا نزاعاً بين طائفتين تتنازعان السيطرة على مضيق الهسبنت والأراضي الغنية المحيطة بالبحر الأسود ، وكانت بلاد اليونان بأجمعها وغرب آسيا على بكرة أبيها ترى أنها نزاع حاسم ؛ واحتشدت أمم اليونان الصغيرة لمساعدة أجممنون، كما أرسلت شعوب آسيا الصغرى العون بعد العون لطروادة. وكانت الحرب في حقيقة أمرها بداية الكفاح الذي تجدد في مراثون وسلاميس، وعند إسوس وأربيلا، وعند تور وغرناطة، وعند ليبنتو وفينا. وليس في وسعنا أن نذكر من أحداث الحرب وما بعدها غير ما يقصه علينا الشعراء اليونان ومؤلفو المسرحيات منهم ، ونحن نقبل ما يقولون على أنه أدب أكثر مما هو تاريخ ، وهذا في حد ذاته مبرر قوي لاعتباره جزءاً من قصة الحضارة. فنحن نعلم أن الحرب بشعة وأن الإلياذة جميلة ، وأن الفن (إذا عكسنا قول أرسطاطاليس) قد يجعل الرعب - ويطهره تبعاً لذلك- بما يخلعه عليه من معنى وشكل ظريف. ولسنا نقصد بقولنا هذا أن الإلياذة قد وصلت إلى حد الكمال في شكلها ، إذ الحقيقة أن تركيبها مهلهل غير رصين ، وأن القصص فيها متناقض تارة وغامض تارة أخرى ، وأن خاتمتها ليست خاتمة بالمعنى الصحيح. غير أن كمال كل جزء على حدته يعوض ما في مجموعها الكلي من اضطراب ، والقصة رغم عيوبها الصغرى لا تقل في مستواها عن مسرحيات التاريخ العظمى ، ولعلها لا تقل عن مستوى التاريخ نفسه.

نرى اليونان في مستهل قصيدة الإلياذة وقد قضوا في حصار طروادة تسع سنين دون أن يظفروا بها: وقد غلبهم اليأس والحنين إلى الوطن ، وفتك بهم المرض. وقد وقفوا طويلاً عند أوليس Oulis لأن المرض وسكون الريح في البحر قد حالا بينهم وبين مواصلة السير ، وأثار أجممنون غضب كلتمنسترا ، وهيأ السبيل لسوء مصيره بأن ضحى بابنتهما إفجينيا لكي تهب الريح. وكان اليونان قد وقفوا في أماكن متفرقة في طريقهم ليأخذوا حاجتهم من الطعام والسراري ، فأخذ أجممنون الحسناء كريسيس Chryseis وأخذ أكليز بريسيس البارعة الجمال ؛ ثم يقول عراف إن أبلو يمنع النصر عن اليونان لأن أجممنون قد اعتدى على عفاف ابنة كاهنه كريسز Chryses. فيرد أجممنون كريسيس لأبيها ولكنه يواسي نفسه ويخلق في القصة موقفاً مثيراً بأن يرغم بريسيس على أن تفارق أكليز وتحل محل كريسيس في الخيمة الملكية.

ويدعو أكليز الجمعية العامة إلى الانعقا د، ويشكو إليها أجممنون وهو غاضب ثائر ، وينطبق بأول كلمة في الإلياذة ويثير الموضوع الذي يتردد فيها مراراً وتكراراً ، ويقسم أنه لن يمد هو أو جنوده يداً لمساعدة اليونان. ثم ننتقل بعدئذ إلى استعراض سفن الجيوش المتجمعة وقبائلهم ، ثم نشاهد منلوس المتعجرف يبارز باريس مبارزة يراد بها وضع حد للقتال ؛ ويتهادن الجيشان مهادنة المتحفزين ، ويشترك بريام مع أجممنون في تقديم القربان إلى الآلهة. ويظفر منلوس بباريس ولكن أفرديتي تنقذه وتختطفه في سحابة ثم تلقيه على فراش زوجته بعد أن تعطره وتمسحه بالمساحيق الربانية. وتأمره هلن أن يعود إلى القتال ولكنه يعرض عليها بدلا من هذا أن "يصرفا الوقت في الفراش". وتتغلب على هلن شهوتها فتجيبه إلى طلبه ، ويعلن أجممنون انتصار منلوس ، ويلوح أن الحرب قد وضعت أوزارها ، ولكن الآلهة تعقد مجلساً على جبل أولمبس للتشاور في الأمر كما يتشاور البشر، وتقرر أنها في حاجة إلى أن يسفك فوق ما سفك من الدماء. ويقترع زيوس لمصلحة السلم ولكنه يسحب صوته وينقلب مرتاعاً حين توجه زوجته هيرا خطابها إليه ، وتقترح أن تسمح لزيوس بأن يدّك ميسيني وأرجوس وإسبارطة دكاً إذا وافق على تدمير طروادة. ويبدأ القتال من جديد ويهلك عدد كثير من الرجال تمزق أجسامهم السهام أو الحراب أو السيوف "ويخيم الظلام على أعينهم".

وتشترك الآلهة في هذه اللعبة المرحة لعبة التقتيل والتقطيع ، فتنفذ حربة ديوميد في جسم أريس إله الحرب الرهيب ، ويصيح صيحة كأنها صادرة من تسعة آلاف رجل" ، ويسرع إلى زيوس ليبثه شكواه. وتعقب ذلك فترة يودع فيها هكتر البطل الطروادي زوجته أندرمكا وداعاً حاراً قبل عودته إلى القتال. وتخاطبه بصوت رقيق قائلة: "حبيبي ، إن بسالتك ستؤدي إلى هلاكك ؛ إنك لا ترحم طفلك ولا ترحمني ، أنا التي سأكون عما قريب أرملة ، لقد قتل أبي وأمي وإخوتي جميعاً ، ولكنك أنت يا هكتر أبي وأمي ، وأنت زوج شبابي ، فأشفق عليَّ إذن وأقم هنا في البرج". فيرد عليها بقوله : "إني أعلم حق العلم أن مآل طروادة هو السقوط، وأرى بعين الخيال أحزان إخواني وأحزان الملك ؛ غير أني لا أحزن من أجلهم ؛ أما الذي يكاد يزلزل كياني فهو أن أراك أسيرة رقيقة في أرجوس ؛ ولكني مع هذا لن أحجم عن القتال" ويصرخ ابنه الطفل أستياناكس Astyanax ، الذي قدر له أن يلقيه اليونان المنتصرون من فوق أسوار المدينة بعد قليل فيسقط على الأرض جثة هامدة ، يصرخ مرتاعاً حين يبصر الريش يتماوج في خوذة أبيه.

فيرفع البطل خوذته حتى يستطيع أن يضحك ، ويبكي ويصلي للطفل الحائر المندهش. ثم يتخذ طريقه إلى المعركة. ويبارز أجاكس Ajax ملك سلاميس. ويستميت البطلان في القتال ثم يفترقان في المساء بعد أن يتبادلا الثناء والهدايا. يالها من زهرة مجاملة تسبح في بحر من الدماء. وبعد أن يقضي الطرواديون يوماً كاملاً ينتقلون فيه من نصر إلى نصر يأمر هكتر المحاربين بالكف عن القتال ليستريحوا. هكذا خطب فيهم هكتر ؛ وحياه الطرواديون بأعلى أصواتهم وصفقوا له بأكفهم. ثم رفعوا النير عن جيادهم الحربية والعرق يتصبب من أجسامها وعقل كل منهم جواديه بالسيور بجوار عربته ، وجاء من المدينة بالثيران والضأن السمين ؛ وقدم هكتر لهم النبيذ وهو يخاطبهم بأعذب الألفاظ وأرقها .... وجاءهم بالحب من البيوت ، وجمع الرجال وقود النار ، وحمل الهواء الرائحة الذكية من السهل إلى السماء ، وسهر من كانوا على جانبي الميدان الليل الطويل يملأ الأمل صدورهم ، وأوقدوا نار المراقبة، وعلا لهب النيران الكثيرة التي أوقدها الطرواديون مروضو الخيول بجوار إلْيوم بين السفن السود ونهر زنثوس Thanathus ، وتلألأت تلألؤ النجوم حول آية الليل ، فكان منظراً من أعجب المناظر ، وسكنت الريح ، ولاحت قمم الجبال والرؤوس ، وظهرت الخلوات التي بين الجبال ، وبدت السماء الواسعة ذات الجلال ، وتلألأت نجومها التي يخطئها الحصر على قلب الراعي الذي أضناه النصب. وفي هذه الأثناء كانت خيل القتال المتعبة تلوك القمح والشعير الأبيض بالقرب من مركباتها تنتظر مقدم الفجر فوق عرشه الجميل.

ويشير نسطور ملك ببلوس الإيلية على أجممنون أن يرد بريسيس إلى أكليز ، ويجيبه أجممنون إلى طلبه ، ويعد أكليز بأن يعطيه نصف بلاد اليونان إذا انضم مرة أخرى إلى المحاصرين ، ولكن أكليز يظل غاضباً. ويفاجئ أديسيوس وديوميد معسكر الطرواديين بهجمة في أثناء الليل يقتلان فيها اثني عشر من رؤساء العشائر. ويقود أجممنون جنده ويستبسل في القتال ويُجرح ثم ينسحب من الميدان. ويلتف الأعداء حول أوديسيوس فيقاتلهم قتال الأسود ، ويشق له أجاكس ومنلوس الطريق وينجيانه ليقاسي فيما بعد حياة مريرة ويتقدم الطرواديون إلى الأسوار التي أقامها اليونان حول معسكرهم. فتنزعج هيرا وتصمم على إنقاذ اليونان، فتدهن بالزيت وتتعطر وتلبس أفخر الثياب، وتتمنطق بمنطقة أفرديتي المقوية ؛ وتغوي زيوس فيضاجعها، ويعمد بوسيدن في هذه الأثناء إلى مساعدة اليونان علىطرد الطرواديين. وتظل الحرب سجالاً فيصل الطرواديون إلى سفن اليونان ، وهنا تصل حماسة الشاعر ذروتها وهو يقص علينا كيف كان اليونان يحاربون مستيئسين وهم يتراجعون تراجعاً سيؤدي بهم إلى الهلاك.

ويقنع بتركلوس حبيب أكليز هذا البطل فيسمح له بأن يقود جنوده لمحاربة طروادة ، ويقتله هكتر بيده. ويحارب أجاكس حرباً شديدة فوق جثة الشاب القتيل. ويسمع أكليز بموت بتركلوس فيصمم آخر الأمر على القتال ، وتقنع أمه الإلهة ثيتيس الحداد الإلهي هفستوس Hephaestus بأن يصنع له أسلحة جديدة ودرعاً سابغة ضخمة. ويتصالح أكليز مع أجممنون ، ويقاتل إينياس ويوشك أن يقتله لولا أن بوسيدن ينقذه ليتخذ منه فرجيل موضوعاً لشعره. ويقتل أكليز عدداً كبيراً من الطرواديين ويقذف بهم إلى الجحيم مودعين بخطب يتحدث فيها عن نسبهم. وتواصل الآلهة القتال: فتقذف أثينة أريس بحجر يطرحه أرضاً وتحاول أفرديتي وهي في زي جندي أن تنقذه ، فتضربها أثينة ضربة على صدرها الجميل تلقيها على الأرض. وتصفع هيرا أرتميس على أذنيها ، أما بوسيدين وأبلو فيكتفيان بحرب الألفاظ. ويوليّ الطرواديون الأدبار من أكليز عدا هكتر وحده ؛ ويشير بريام وهكيبا على هكتر أن يبقى وراء أسوار المدينة ولكنه يرفض مشورتهما ، حتى إذا تقدم أكليز نحوه ولي الأدبار فجأة ؛ ويطارده أكليز حول أسوار طروادة ويطوف بها ثلاث مرات ؛ ثم يقف هكتر ليلاقي عدوه فيخر صريعاً. وفي ختام هذه المسرحية تحرق جثة بتركلوس بالمراسم الفخمة ؛ ويضحي أكليز من أجله بعدد كبير من الماشية ، وباثني عشر من أسرى الطرواديين وبشعره هو الطويل. ويقيم اليونان الألعاب تكريماً له ويجر أكليز جثة هكتر خلف مركبته ثلاث مرات حول كومة الحريق. ويقبل بريام بموكبه وحزنه يرجو أن يسمح له بجثة ولده ، ويرق قلب أكليز له ، ويرضى بعقد هدنة تدوم اثنى عشر يوماً ، ويسمح للملك الشيخ بأن يأخذ جثة ولده بعد تطهيرها ودهنها بالزيت ، ويعود بها إلى طروادة.


أثار الحضارة الآخية

إِن آثار الآخيّين في بلاد اليونان القارية, ولاسيما في شبه جزيرة البلوبونيز وفي جزر بحر إِيجه, والشواهد التاريخية والأثرية التي عثر عليها في آسيا الصغرى ومصر تلقي بعض الضوء على تاريخ هذا الشعب وحضارته. فقد عثر على مجموعة من وثائق الامبراطورية الحثية في موقع مدينة حاتوشا الأثرية عاصمة الحثيين الكبرى (بلدة بوغازكوي اليوم في وسط الأناضول), يرجع تاريخها إِلى زمن بين أواسط القرن الرابع عشر ونهاية القرن الثالث عشر ق.م. وتشير هذه الوثائق أكثر من مرة إِلى مملكة الآخيَاوة Achiyyawa وعلاقاتها بالامبراطورية الحثيّة.

ومن المتفق عليه اليوم أن هذا الاسم يعني الآخيين المذكورين في الإِلياذة. كما يظهر من تلك الوثائق أن مملكة الآخياوة كانت توجد في البحر, وهو بحر إِيجة في نظر الحثيين, وأن المنطقة التي تسيطر عليها المملكة كانت تضم عدداً من جزر هذا البحر. وتشير الوثائق الحثيّة ايضاً إِلى استيلاء آخياوة على جزيرة قبرس (قبرص), في أواخر عهد الامبراطورية الحثيّة, نحو 1200ق.م. فإِذا عُدَّ سقوط قبرس في يد الآخيين مؤشراً على اتجاه الهجرات الآخية نحو الشاطئ الغربي لآسيا الصغرى, فإِن من المنطق تحديد تاريخ حرب طروادة, التي تمثل محاولةً في هذا الاتجاه, في العقود الأولى من القرن الثاني عشر ق.م.

كذلك تتحدث الوثائق المصرية عن تحركات الآخيين (من بين أقوامٍ أخرى) نحو شواطئ القسم الشرقي للبحر المتوسط, إِذ تروي النقوش المصرية أن مجموعة من الشعوب هاجمت مصر عن طريق البحر مرتين: كانت إِحداهما عام 1221 ق.م, أي قبل سقوط الامبراطورية الحثية. والأخرى عام 1190ق.م, أي عام سقوط الدولة الحثية أو بعده بقليل. وفي المرة الأولى, كان بين المجموعة التي حاولت أن تغزو الشواطئ المصرية قوم أسماهم المصريون«آخيَاوَاشَة», أي الآخيين. وفي القائمة التي خلد بها الفرعون منفتاح (1233-1223ق.م) انتصاره على جدران معبد الكرنك ذكر للأسرى الذين وقعوا في يد جنوده, ومن بينهم أسرى آخيَاوَاشَة. وفي المرة الثانية, حاول المهاجمون اجتياح مصر من جهة الشمال الشرقي, وكان من بينهم مجموعة تدعى «دَانونَا», وهم الدَانَانيُّون Dananoi, وهو اسم متفق عليه مرةً أخرى على أنه مرادف لفرع من الآخيين المذكورين في الإِلياذة.



. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

المصادر

[الموسوعة العربية]