رفاعة الطهطاوي

(تم التحويل من رفاعة الطهطاوى)
رفاعة الطهطاوي, 1801-1873.

رفاعة رافع الطهطاوي (7 جمادى الثانية 1216 هـ/15 أكتوبر 1801 - 1290 هـ/1873) من قادة النهضة العلمية في مصر محمد علي.

كان الطهطاوي في كل أطوار حياته معلمًا ومربيًا بالفطرة والسليقة، بدأ حياته شيخًا يتحلق حوله طلبة الأزهر، وأنهى حياته معلمًا للأمة، لا يرى سبيلا لتقدمها إلا بالعلم يتاح لكل الناس لا فرق فيه بين غني وفقير أو ذكر وأنثى، وبذل من نفسه ما بذل من جهد لتحقيق هذا الغرض، ووضع الكتب والمؤلفات التي تعين على ذلك. [1]

ذهب إلى فرنسا في البعثة التي أرسلها محمد علي لتلقي العلوم الحديثة، فلم تقعد به همته عند حدود وظيفته التي كلف بها، بل سعى من أول لحظة إلى أن يقف على حضارة الغرب وثقافته، وبدأ في تعلم الفرنسية وهو على ظهر السفينة التي تقل البعثة إلى باريس. وما فعله هذا الشيخ النابه كان وليد قرار قد اعتزمه في نفسه من قبل، بفعل اتصاله بالشيخ حسن العطار الذي تتلمذ عليه وسمع منه عن علوم الفرنسيين الواسعة وفنونهم. وكان العطار قد اقترب من علماء الحملة الفرنسية وأدرك الهوة الواسعة التي اتسعت بين الغرب والعالم الإسلامي في مجال الحضارة والتقدم. ولم تكن مثل هذه الفرصة تفوت على رفاعة الطهطاوي الشغوف بالمعرفة، المحب للإصلاح، الراغب في الجديد، الداعي إلى الإحياء والتجديد. فانكب على الدرس والتحصيل والقراءة والترجمة، وتحول الإمام الفقيه إلى دارس يتعلم ويبحث، وغدا إمام البعثة أنجب المبعوثين. ولما رجع إلى الوطن أدرك ما يحتاجه البعث والنهوض فتبنى حركة الترجمة المنظمة، وأنشأ مدرسة الألسن، وبعث حياة جديدة في التعليم والصحافة.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

مولده ونشأته

ولد رفاعة رافع الطهطاوي في 7 جمادى الثانية سنة 1216هـ الموافق 15 أكتوبر سنة 1801م في مدينة طهطا، محافظة سوهاج بصعيد مصر ، ونشأ في أسرة كريمة الأصل شريفة النسب، فأبوه ينتهي نسبه إلى الحسين بن علي بن أبي طالب. وأمه فاطمة بنت الشيخ أحمد الفرغلي، ينتهي نسبها إلى قبيلة الخزرج الأنصارية.

وقد لقي رفاعة عناية من أبيه، على الرغم من تنقله بين عدة بلاد في صعيد مصر، فحفظ القرآن الكريم، ثم رجع إلى موطنه طهطا بعد أن توفي والده. ووجد من أسرة أخواله اهتماما كبيرا حيث كانت زاخرة بالشيوخ والعلماء فحفظ على أيديهم المتون التي كانت متداولة في هذا العصر، وقرأ عليهم شيئا من الفقه والنحو.

ولما بلغ رفاعة السادسة عشرة من عمره التحق بالأزهر وذلك في سنة (1232 هـ= 1817م)، مسلحا بما سبق أن تعلمه على يد أخواله، الأمر الذي ساعده على مواصلة الدراسة مع زملائه الذين سبقوه في الالتحاق بالأزهر. وشملت دراسته في الأزهر الحديث والفقه والتصوف والتفسير والنحو والصرف... وغير ذلك. وتتلمذ عل يد عدد من علماء الأزهر العظام، وكان من بينهم من تولى مشيخة الجامع الأزهر، مثل الشيخ حسن القويسني، وإبراهيم البيجوري، وحسن العطار، وكان هذا الأخير ممن وثق الطهطاوي صلته بهم ولازمهم وتأثر بهم. وتميز الشيخ العطار عن أقرانه من علماء عصره بالنظر في العلوم الأخرى غير الشرعية واللغوية، كالتاريخ والجغرافيا والطب، واستفاد من رحلاته الكثيرة واتصاله بعلماء الحملة الفرنسية. وبعد أن أمضى رفاعة في الأزهر ست سنوات، جلس للتدريس فيه سنة (1237 هـ = 1821 م) وهو في الحادية والعشرين من عمره، والتف حوله الطلبة يتلقون عنه علوم المنطق والحديث والبلاغة والعروض. وكانت له طريقة آسرة في الشرح جعلت الطلبة يتعلقون به ويقبلون على درسه، ثم ترك التدريس بعد عامين والتحق بالجيش المصري النظامي الذي أنشأه محمد علي إماما وواعظا لإحدى فرقه، واستفاد من هذه الفترة الدقة والنظام.


الطهطاوي في الأزهر

التحق بالأزهر في سنة 1817م (1232هـ).. تلقى رفاعة العلم عن عديد من شيوخ الأزهر الأعلام:

  • لقد درس صحيح البخاري على الشيخ الفضالي المتوفى 1820م (1236 هـ).
  • ودرس جمع الجوامع في الأصول و مشارق الأنوار في الحديث على الشيخ حسن القويسني الذي تولى مشيخة الأزهر سنة 1834م (1250 هـ).
  • ودرس الحكم لابن عطاء الله السكندري على الشيخ البخاري المتوفى 1840م (1256هـ)
  • ودرس (مغنى اللبيب) و (جمع الجوامع) على الشيخ محمد حبيش المتوفى 1869م (1269).
  • ودرس (شرح ابن عقيل) على الشيخ الدمنهوري المتوفى 1869م (1286هـ).
  • ودرس (الأشموني) على الشيخ أحمد الدمهوجي الذي تولى مشيخة الأزهر سنة 1838م (1254هـ)، والمتوفى 1848م (1264هـ).
  • ودرس على الشيخ إبراهيم البيجوري الذي تولى مشيخة الأزهر المتوفى 1860م (1277هـ).

أما أهم أستاذ تتلمذ على يديه رفاعة الطهطاوي هو الشيخ حسن العطار المولود 1766م (1180هـ) والمتوفى 1835م (1251هـ) وقد تولى الشيخ العطار مشيخة الأزهر سنة 1830م (1246هـ).. تلقى تعليمه على أيدي نخبة من العلماء منهم الشيخان الأمير والصبان وتخصص في علم المنطق وكانت له معارف واسعة في علم الفلك والطب والكيمياء والهندسة والموسيقى وكان شاعراً.. يعده البعض رائداً من رواد النهضة العربية الحديثة حيث تتلمذ على يديه جيل من الرواد كرفاعة الطهطاوي والأديب واللغوي محمد عياد الطنطاوي هاجر إلى روسيا عام 1840م وتخرج على يديه عدد كبير من المستشرقين في مدينة بطرسبرج الذين تلقوا علوم اللغة العربية وآدابها وظل هناك حتى توفي في سانت بطرسبرج سنة 1861م.

أنشأ الشيخ حسن العطار جريدة الوقائع المصرية ورأس تحريرها.

كان يتردد على المجمع العلمي الذي أنشأه نابليون عقب احتلاله لمصر سنة 1798م وكانت له علاقة حميمة مع حاكم مصر محمد على باشا وقد أدى ذلك إلى اتهامه من قبل بعض العلماء أنه مهادن لمحمد علي وكان يبرر ذلك أنه يريد مصلحة الأزهر.

وكان لرفاعة الطهطاوي امتياز خاص عند أستاذه الشيخ العطار إذ كان يلازمه في غير الدروس ليتلقى عنه علوماً أخرى كالتاريخ والجغرافيا والأدب، وكان يشترك معه في الإطلاع على الكتب الغربية التي لم تتداولها أيدي علماء الأزهر. ولاننسى أن الشيخ العطار هو الذي رشح رفاعة الطهطاوي للسفر إلى باريس وزكاه عند محمد علي باشا.

في سنة 1821م تخرج رفاعة في الجامع الأزهر، وكانت سنه واحد وعشرين عاماً، ثم جلس للتدريس في نفس الجامع الأزهر لمدة عامين (1822م ــ 1824م) ثم انتقل إلى وظيفة واعظ وإمام في خدمة الجيش واستمر في هذا العمل حتى سنة 1826.

في باريس

وفي سنة (1324هـ= 1826م) قررت الحكومة المصرية إيفاد بعثة علمية كبيرة إلى فرنسا لدراسة العلوم والمعارف الإنسانية، في الإدارة والهندسة الحربية، والكيمياء، والطب البشري والبيطري، وعلوم البحرية، والزراعة والعمارة والمعادن والتاريخ الطبيعي. وبالإضافة إلى هذه التخصصات يدرسون جميعا اللغة والحساب والرسم والتاريخ والجغرافيا.

وتنوع تخصصات هذه البعثة يشير إلى عزم الوالي محمد علي النهوض بمصر والدفع بها إلى مصاف الدول المتقدمة، والوقوف على الحضارة الأوروبية الحديثة.

وحرصا على أعضاء البعثة من الذوبان في المجتمع الغربي قرر محمد علي أن يصحبهم ثلاثة من علماء الأزهر الشريف لإمامتهم في الصلاة ووعظهم وإرشادهم. وكان رفاعة الطهطاوي واحدا من هؤلاء الثلاثة، ورشحه لذلك شيخه حسن العطار.

وما إن تحركت السفينة التي تحمل أعضاء البعثة حتى بدأ الطهطاوي في تعلم الفرنسية في جدية ظاهرة، وكأنه يعد نفسه ليكون ضمن أعضاء البعثة لا أن يكون مرشدها وإمامها فحسب، ثم استكمل تعلم الفرنسية بعدما نزلت البعثة باريس؛ حيث استأجر لنفسه معلما خاصًا يعطيه دروسًا في الفرنسية نظير بضعة فرنكات كان يستقطعها من مصروفه الشخصي الذي كانت تقدمه له إدارة البعثة، وأخذ يشتري كتبًا خاصة إضافية غير مدرجة في البرنامج الدراسي، وانهمك في قراءتها. ومن شدة حرصه على مداومة القراءة والدرس تأثرت عينه اليسرى، ونصحه الطبيب بعدم الاطلاع ليلاً، لكنه لم يستجب لنصحه، واستمر في إشباع نهمه للمعرفة. وأمام هذه الرغبة الجامحة في التعلم قررت الحكومة المصرية ضم رفاعة إلى بعثتها التعليمية، وأن يتخصص في الترجمة؛ لتفوقه على زملائه في اللغة العربية والثقافة الأزهرية. وقد لقي الفتى النابه عناية ظاهرة من العالم الفرنسي جومار الذي عهد إليه محمد علي بالإشراف العلمي على البعثة، ومن المستشرق الفرنسي الكبير دي ساسي، واجتاز كل الامتحانات التي عقدت له بنجاح باهر، وكانت التقارير التي ترسل إلى محمد علي تتابع أخبار البعثة تخص رفاعة بالثناء والتقدير.

وفي سنة 1826م قررت الحكومة المصرية إيفاد أكبر بعثاتها إلى فرنسا، والتي أقلتها السفينة الحربية الفرنسية "لاترويت". وكان الطهطاوي ضمن هذه البعثة رغم أنه لم يكن طالباً من طلاب هذه البعثة، بل لقد رشحه الشيخ حسن العطار لكي يقوم لطلابها بالوعظ والإرشاد، ويؤمهم في الصلاة، لكنه لم يكتف بذلك ونبغ في تعلم الفرنسية وأجادها بيد أن رفاعة طَلَبَ الانضمام للبعثة كدارسٍ ، فتَمَّ ضَمَّه إليها لدراسة الترجمة. وتتلمذ على أيدي أنبه علماء فرنسا في ذلك الوقت. وبعد سنوات خمسٍ حافلة ، أدى رفاعة امتحان الترجمة، وقدَّم مخطوطة كتابه الذى نال بعد ذلك شهرة واسعة : تَخْلِيصُ الإِبْرِيزِ فىِ تَلْخِيصِ بَارِيز .

وأهم أسماء بعض طلبة البعوث العلمية التي أرسلها محمد علي إلى أوروبا:

  1. رفاعة رافع بك الطهطاوي (أول ناظر لمدرسة اللغات والألسن).
  2. مصطفى مختار بك (أول ناظر للمعارف من تلامذة بعثة 1826م.
  3. علي مبارك باشا (المهندس والمؤرخ المشهور).
  4. يوسف بك حكيكيان ( ناظر مدرسة المهندسخانة من سنة 1834م إلى سنة 1838م.
  5. محمد علي باشا الحكيم (طبيب وجراح مشهور).
  6. مصطفى محرمجي (مهندس قناطر وجسور).
  7. محمد بك السكري (مدرس بمدرسة الطب).
  8. محمد شافعي بك (ناظر المدرسة الطبية)
  9. محمد بيومي بك (مدرس بمدرسة المهندسخانة).
  10. مظهر بك (مهندس القناطر الخيرية).
  11. محمد شباسي بك (مدرس بمدرسة الطب).
  12. حسين بك الإسكندراني (ناظر البحرية)
  13. لمبير بك (ناظر مدرسة المهندسخانة من 1838).

لقد بلغ عدد من أرسلهم محمد علي باشا إلى أوروبا في زمنه 319 طالباً أنفق عليهم 224 ألف جنيه مصري. واستطاع هؤلاء التلاميذ أن يكونوا سادة المجتمع وأن يساهموا بشكل مباشر وفعال في تغيير وجه المجتمع المصري على كافة الأصعدة والميادين الحياتية كما ساهموا في تغيير بنية المجتمع العقدية والفكرية هم وتلامذتهم الذين جاءوا من بعدهم تماماً كما أراد محمد علي باشا ومستشارووه.

العودة إلى مصر

في سنة 1832م (1283هـ) عاد الطهطاوي إلى مصر من بعثته وكانت قد سبقته إلى محمد علي تقارير أساتذته في فرنسا تحكي تفوقه وامتيازه وتعلق عليه الآمال في مجال الترجمة.

وكانت أولى الوظائف التي تولاها بعد عودته من باريس، وظيفة مترجم بمدرسة الطب، فكان أول مصري يعين في مثل هذا العمل.

وفي سنة 1833 (1249هـ) انتقل رفاعة الطهطاوي من مدرسة الطب إلى مدرسة الطوبجية (المدفعية) بمنطقة (طره) إحدى ضواحي القاهرة كي يعمل مترجماً للعلوم الهندسية والفنون العسكرية.

وفي سنة 1835 (1251هـ) تم افتتاح أول مدرسة للغات في مصر وكانت تسمى أول الأمر (مدرسة الترجمة) ثم تغير اسمها بعد ذلك إلى (مدرسة الألسن) وهي الآن كلية الألسن التابعة لجامعة عين شمس بالقاهرة.

ويعتبر الطهطاوي أول من أنشأ متحفاً للآثار في تاريخ مصر.

ويعتبر الطهطاوي أول منشئ لصحيفة أخبار في الديار المصرية حيث قام بتغيير شكل جريدة (الوقائع المصرية) التي صدر عددها الأول في سنة 3 ديسمبر 1828م أي عندما كان الطهطاوي في باريس لكنه لما عاد تولى الإشراف عليها سنة 1842م وكانت تصدر باللغتين العربية والتركية حيث جعل الأخبار المصرية المادة الأساسية بدلاً من التركية، وأول من أحيا المقال السياسي عبر افتتاحيته في جريدة الوقائع، أصبح للجريدة في عهده محررون من الكتاب كان من أبرزهم أحمد فارس الشدياق، والسيد شهاب الدين.


وفى هذه الفترة تجلى المشروع الثقافى الكبير لرفاعة الطهطاوى؛ ووضع الأساس لحركة النضهة التى صارت في يومنا هذا، بعد عشرات السنين إشكالاً نصوغه، ونختلف حوله يسمى الأصالة أم المعاصرة ! كان رفاعة أصيلاً ومعاصراً من دون إشكالٍ ولا اختلاف ، ففى الوقت الذى ترجم فيه متون الفلسفة والتاريخ الغربى، ونصوص العلم الأوروبى المتقدِّم ؛ نراه يبدأ في جمع الآثار المصرية القديمة ويستصدر أمراً لصيانتها ومنعها من التهريب والضياع.

وظل جهد رفاعة يتنامى ؛ ترجمةً، وتخطيطاً، وإشرافاً على التعليم والصحافة.. فأنشأ أقساماً متخصِّصة للترجمة (الرياضيات - الطبيعيات - الإنسانيات) وأنشأ مدرسة المحاسبة لدراسة الاقتصاد، ومدرسة الإدارة لدراسة العلوم السياسية. وكانت ضمن مفاخره : استصدار قرار تدريس العلوم والمعارف باللغة العربية (وهى العلوم والمعارف التى تدرَّس اليوم في بلادنا باللغات الأجنبية) وإصدار جريدة الوقائع المصرية بالعربية بدلاً من التركية؛ هذا إلى جانب عشرين كتاباً من ترجمته ، وعشرات غيرها أشرف على ترجمتها.

مدرسة الألسن

كان رفاعة الطهطاوي يأمل في إنشاء مدرسة عليا لتعليم اللغات الأجنبية، وإعداد طبقة من المترجمين المجيدين يقومون بترجمة ما تنتفع به الدولة من كتب الغرب، وتقدم باقتراحه إلى محمد علي ونجح في إقناعه بإنشاء مدرسة للمترجمين عرفت بمدرسة الألسن، مدة الدراسة بها خمس سنوات، قد تزاد إلى ست. وافتتحت المدرسة بالقاهرة سنة (1251هـ = 1835م)، وتولى رفاعة الطهطاوي نظارتها، وكانت تضم في أول أمرها فصولاً لتدريس اللغة الفرنسية والإنجليزية والإيطالية والتركية والفارسية، إلى جانب الهندسة والجبر والتاريخ والجغرافيا والشريعة الإسلامية. وقد بذل رفاعة جهدًا عظيمًا في إدارته للمدرسة، وكان يعمل فيها عمل أصحاب الرسالات ولا يتقيد بالمواعيد المحددة للدراسة، وربما استمر في درسه ثلاث ساعات أو أربعا دون توقف واقفًا على قدميه دون ملل أو تعب يشرح لهم الأدب والشرائع الإسلامية والغربية. وقد تخرجت الدفعة الأولى في المدرسة سنة (1255هـ = 1839م) وكان عددها عشرين خريجًا، وكانت مترجمات هؤلاء الخريجين قد طبعت أو في طريقها إلى الطبع. وقد اتسعت مدرسة الألسن، فضمت قسمًا لدراسة الإدارة الملكية العمومية سنة (1261هـ=1844م)، لإعداد الموظفين اللازمين للعمل بالإدارة الحكومية، وقسمًا آخر لدراسة الإدارة الزراعية الخصوصية بعد ذلك بعامين، كما ضمت قسمًا أنشئ سنة (1263هـ = 1847م) لدراسة الشريعة الإسلامية على مذهب أبي حنيفة النعمان لإعداد القضاة، وأصبحت بذلك مدرسة الألسن أشبه ما تكون بجامعة تضم كليات الآداب والحقوق والتجارة. وكان رفاعة الطهطاوي يقوم إلى جانب إدارته الفنية للمدرسة باختيار الكتب التي يترجمها تلاميذ المدرسة، ومراجعتها وإصلاح ترجمتها.

إغلاق ونفي

ظلت المدرسة خمسة عشر عامًا، كانت خلالها مشعلاً للعلم، ومنارة للمعرفة، ومكانًا لالتقاء الثقافتين العربية والغربية، إلى أن عصفت بها يد الحاكم الجديد عباس الأول، فقام بإغلاقها لعدم رضاه عن سياسة جده محمد علي وعمه إبراهيم باشا وذلك في سنة (1265هـ = 1849م)، كما أمر بإرسال رفاعة إلى السودان بحجة توليه نظارة مدرسة ابتدائية يقوم بإنشائها هناك، فتلقى رفاعة الأمر بجلد وصبر، وذهب إلى هناك، وظل هناك فترة دون عمل استغلها في ترجمة رواية فرنسية شهيرة بعنوان "مغامرات تلماك"، ثم قام بإنشاء المدرسة الابتدائية، وكان عدد المنتظمين بها نحو أربعين تلميذًا، ولم يستنكف المربي الكبير أن يدير هذه المدرسة الصغيرة، ويتعهد نجباءها برعاية خاصة. عود حميد

الخديوي إسماعيل

وبعد وفاة عباس الأول سنة (1270هـ= 1854م) عاد الطهطاوي إلى القاهرة، وأسندت إليه في عهد الوالي الجديد "سعيد باشا" عدة مناصب تربوية، فتولى نظارة المدرسة الحربية التي أنشأها سعيد لتخريج ضباط أركان حرب الجيش سنة (1277هـ = 1856م)، وقد عنى بها الطهطاوي عناية خاصة، وجعل دراسة اللغة العربية بها إجبارية على جميع الطلبة، وأعطى لهم حرية اختيار أجدى اللغتين الشرقيتين: التركية أو الفارسية، وإحدى اللغات الأوربية: الإنجليزية أو الفرنسية أو الألمانية، ثم أنشأ بها فرقة خاصة لدراسة المحاسبة، وقلمًا للترجمة برئاسة تلميذه وكاتب سيرته صالح مجدي، وأصبحت المدرسة الحربية قريبة الشبه بما كانت عليه مدرسة الألسن.

مع التراث

ولم يكتف رفاعة بهذه الأعمال العظيمة، فسعى إلى إنجاز أول مشروع لإحياء التراث العربي الإسلامي، ونجح في إقناع الحكومة بطبع عدة كتب من عيون التراث العربي على نفقتها، مثل تفسير القرآن للفخر الرازي المعروف بمفاتيح الغيب، ومعاهد التنصيص على شواهد التلخيص في البلاغة، وخزانة الأدب للبغدادي، ومقامات الحريري، وغير ذلك من الكتب التي كانت نادرة الوجود في ذلك الوقت. غير أن هذا النشاط الدءوب تعرض للتوقف سنة (1277هـ = 1861م) حيث خرج رفاعة من الخدمة، وألغيت مدرسة أركان الحرب، وظل عاطلاً عن العمل حتى تولى الخديوي إسماعيل الحكم سنة (1279هـ = 1863م)، فعاد رفاعة إلى ما كان عليه من عمل ونشاط على الرغم من تقدمه في السن، واقتحم مجالات التربية والتعليم بروح وثابة يحاول أن يأخذ بيد أمته إلى مدارج الرقي والتقدم، فأشرف على تدريس اللغة العربية بالمدارس، واختيار مدرسيها وتوجيههم، والكتب الدراسية المقررة، ورئاسة كثير من لجان امتحانات المدارس الأجنبية والمصرية.

قلم الترجمة

ومن أبرز الأعمال التي قام بها رفاعة في عهد الخديو إسماعيل نظارته لقلم الترجمة الذي أنشئ سنة (1280هـ = 1863م) لترجمة القوانين الفرنسية، ولم يكن هناك من أساطين المترجمين سوى تلاميذ الطهطاوي من خريجي مدرسة الألسن، فاستعان بهم في قلم الترجمة، ومن هؤلاء: عبد الله السيد وصالح مجدي ومحمد قدري. وكان مقر قلم الترجمة حجرة واحدة بديوان المدارس، ولم يحل ذلك دون إنجاز أعظم الأعمال، فترجموا القانون الفرنسي في عدة مجلدات وطبع في مطبعة بولاق، ولم تكن هذه المهمة يسيرة، إذ كانت تتطلب إلمامًا واسعًا بالقوانين الفرنسية وبأحكام الشريعة الإسلامية، لاختيار المصطلحات الفقهية المطابقة لمثيلاتها في القانون الفرنسي.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

روضة المدارس

حين عهد إلى الطهطاوي إصدار مجلة روضة المدارس، سنة (1287هـ = 1870م) جعل منها منارة لتعليم الأمة ونشر الثقافة بين أبنائها، فقد نظمها أقسامًا، وجعل على رأس كل قسم واحدًا من كبار العلماء من أمثال عبد الله فكري الأديب الكبير، وإسماعيل الفلكي العالم الرياضي والفلكي، ومحمد باشا قدري القانوني الضليع، وصالح مجدي، والشيخ حسونة النواوي الفقيه الحنفي المعروف، وغيرهم. وكانت المجلة تنشر مقالات تاريخية وجغرافية واجتماعية وصحية وأدبية وقصصا وأشعارا، كما كانت تنشر ملخصًا لكثير من الدروس التي كانت تلقى بمدرسة "دار العلوم".

واعتادت المجلة أن تلحق بأعدادها كتبًا ألفت لها على أجزاء توزع مع كل عدد من أعدادها بحيث تكون في النهاية كتابًا مستقلاً، فنشرت كتاب "آثار الأفكار ومنثور الأزهار" لعبد الله فكري، و"حقائق الأخبار في أوصاف البحار" لعلي مبارك، و"الصحة التامة والمنحة العامة" للدكتور محمد بدر، و"القول السديد في الاجتهاد والتجديد" للطهطاوي.

وكان رفاعة قد نيف على السبعين حين ولي أمر مجلة الروضة، لكنه ظل مشتعل الذكاء وقاد الفكر، لم تنل الشيخوخة من عزيمته، فظل يكتب فيها مباحث ومقالات حتى توفي في (1 من ربيع الآخر 1290هـ = 27 من مايو 1873م).

آثار فكرية

وعلى الرغم من كثرة المسئوليات التي تحملها رفاعة وأخذت من وقته الكثير، فإنه لم ينقطع عن الترجمة والتأليف فيما يعود بالنفع على الأمة، ولم يقض وقته إلا فيما فيه فائدة، وقد وصفه تلميذه النابه صالح مجدي بأنه "قليل النوم، كثير الانهماك على التأليف والتراجم". وقد بدأ رفاعة إنتاجه الفكري منذ أن كان مبعوثًا في فرنسا، ومن أهم كتبه: - مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية.

- المرشد الأمين في تربية البنات والبنين.

- أنوار توفيق الجليل في أخبار مصر وتوثيق بني إسماعيل.

- نهاية الإيجاز في سيرة ساكن الحجاز، وهو آخر كتاب ألفه الطهطاوي، وسلك فيه مسلكا جديدا في تأليف السيرة النبوية تبعه فيه المحدثون.

أما الكتب التي قام بترجمتها فهي تزيد عن خمسة وعشرين كتابًا، وذلك غير ما أشرف عليه من الترجمات وما راجعه وصححه وهذبه.

ومن أعظم ما قدمه الرجل تلاميذه النوابغ الذين حملوا مصر في نهضتها الحديثة، وقدموا للأمة أكثر من ألفي كتاب خلال أقل من أربعين عامًا، ما بين مؤلف ومترجم.

رضا الحكام

لقد رضي محمد علي ومعظم أبنائه الولاة عن الشيخ رفاعة الطهطاوي فقد بلغت ثروته يوم وفاته 1600 ألف وستمائة فدان غير العقارات وهذه ثروته كما ذكرها علي مبارك باشا في خططه:

  • أهدى له إبراهيم باشا حديقة نادرة المثال في (الخانقاة). وهي مدينة تبلغ 36 فداناً.
  • أهداه محمد علي 250 فداناً بمدينة طهطا..
  • أهداه الخديو سعيد 200 فدانا..
  • وأهداه الخديو إسماعيل 250 فداناً..

واشترى الطهطاوي 900 فدان.. فبلغ جميع ما في ملكه إلى حين وفاته 1600 فدان، غير ما شراه من العقارات العديدة في بلده طهطا وفي القاهرة.

نقمة الحكام

بيد أن هذه الشعلة سرعان ما خبت، مع تولِّى الخديوى عباس حكم مصر. فعبَّاسٌ هذا : أغلق مدرسة الألسن، وأوقف أعمال الترجمة، وقصر توزيع الوقائع على كبار رجال الدولة من الأتراك .. ونفى رفاعة إلى السودان (سنة 1267هجرية = 1850ميلادية)

وهكذا عَبَس وجه الثقافة ، وعُوِّقَ رفاعة عن مشروعه النهضوى الكبير.. بيد أن رفاعة لم يعبس ولم يعاق، فواصل المشروع في منفاه، فترجم هناك مسرحية تليماك لفنلون ، وجاهد للرجوع إلى الوطن .. وهو الأمرُ الذى تيسَّر، بعد موت الخديوى العَبَّاس ، وولاية سعيد ؛ وكانت أربعة أعوام من النَّفْى قد مرَّتْ .

عاد رفاعة بأنشط مما كان ، فأنشأ مكاتب محو الأمية لنشر العلم بين الناس، وعاود عمله في الترجمة (المعاصرة) ودفع مطبعة بولاق لنشر أمهات كتب التراث العربى (الأصالة) .. وقضى رفاعة فترةً حافلة، أخرى ، من العمل الجامع بين الأصالة والمعاصرة؛ حتى انتكس سعيد .. فأغلق المدارس، وفصل رفاعة عن عمله (سنة 1278هـ/1861)

ويتولى اسماعيل الحكم بعد وفاة سعيد، سنة 1280 هجرية (1863 ميلادية) فيعاود رفاعة العمل، ويقضى العقد الأخير من عمره الحافل في نشاط مفعم بالأمل.. فيشرف مرة أخرى ، أخيرة، على مكاتب التعليم، ويرأس إدارة الترجمة، ويصدر أول مجلة ثقافية في تاريخنا : روضة المدارِس ..ويكتب ، في التاريخ: أَنْوارُ تَوْفِيقِ الجَلِيل فِى أَخْبَارِ مِصْرَ وتَوْثِيقِ بَنىِ إِسْمَاعِيل. وفى التربية والتعليم والتنشئة : مَبَاهِجُ الأَلْبَابِ المِصْرِيَّةِ فِى مَنَاهِج الآدَابِ العَصْرِيَّةِ.. المُرْشِدُ الأَمِينِ للبَنَاتِ والبنَينِ . وفى السيرة النبوية : نِهَايَةُ الإِيجَازِ فِى تَارِيخِ سَاكِنِ الحِجَازِ ..

نقد فكر الطهطاوي

استوقفتني عبارة ذكرها الشيخ رفاعة الطهطاوي في كتابه تخليص الإبريز: "اعلم أنه جاء إلى الفرنساوية خبر وقوع بلاد الجزائر في أيديهم قبل حصول هذه الفتنة بزمن يسير، فبمجرد ما وصل هذا الخبر إلى رئيس الوزراء "بوليناق" أمر بتسييب مدافع الفرح والسرور، وصار يتماشى في المدينة كأنه يظهر العجب بنفسه، حيث إن مراده نفذ وانتصرت الفرنساوية في زمن وزراته على بلاد الجزائر، ومما وقع أن المطران الكبير لما سمع بأخذ الجزائر، ودخل الملك القديم الكنيسة يشكر الله سبحانه وتعالى على ذلك، جاء إليه ذلك المطران ليهنيه على هذه النصرة. فمن جملة كلامه مامعناه: أنه بحمد الله سبحانه وتعالى على كون الملة المسيحية انتصرت نصرة عظيمة على الملة الإسلامية، ولازالت كذلك. انتهى. مع أن الحرب بين الفرنساوية وأهالي الجزائر إنما هي مجرد أمور سياسية ومشاحنات تجارات ومعاملات ومشاجرات ومجادلات، منشأها التكبر والتعاظم! ومن الأمثال الحكيمة لو كانت المشاجرة شجراً لم تثمر إلا ضجرا"

نلاحظ أن الذي أوصل الطهطاوي إلى هذا التأويل والفهم هو انطلاقه من مقدمة مادية فكانت النتيجة فاسدة بالتبعية لأنه كان أسير التفسير المادي للظواهر والأحداث التاريخية.

هكذا بشر الطهطاوي الأمة الإسلامية بدين الغرب الجديد وبقوانين الغرب وأخلاقهم!! ونتيجة خلطة الطهطاوي لأهل فرنسا وعلمائها وانبهاره بقوانينهم وسلوكياتهم، نراه يتأثر بالتفسير المادي في قراءة الأحداث التاريخية، فلاعجب إذن أن ينظر الطهطاوي إلى اعتداء فرنسا على الجزائر من منظور مادي، فالخلافات التجارية والمشاحنات المالية مع التكبر والتعاظم هو سبب الإعتداء!! وتغاضى الطهطاوي عن الباعث الحقيقي للعدوان الفرنسي وأغفل الجانب العقدي.

كانت هذه تقدمة لإلقاء الضوء على فكر ومنهج الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي واضع النطفة الأولى للعلمانية في العالم العربي والإسلامي؛ هذه النطفة الأولى التي وضعت في رحم أمتنا على حين فرقة من المسلمين وعلى حين ضعف وغفلة في بلاد الإسلام! وطفق السلخ يكبر في رحم الأمة حتى صار تنيناً مخيفاً يبتلع في جوفه كل القيم بلا استثناء!! [2]

مازعم أنه رائد التنويريين

أُطْلِق عليه «رائد التنوير في العصر الحديث» نجد فيما كتبه من آراءَ جديدةٍ، تُعْتَبَر هي البُذُور الأولى، لما يُسَمَّى «بالفكر المُسْتَنِير» والذي كان مصدر التَّلَقِّي له ما شاهده في الحياة الأوربية، وما قرَأَه مِن تَرْجَمةٍ من الكتب الفرنسية.

يقول عن «حُب الوطن»: (فجميع ما يجب على المؤمن لأخيه المؤمن منها يجب على أعضاء الوطن، من حقوق بعضهم على بعض، لما بينهم من الأُخُوَّة الوطنية فضْلاً عن الأُخُوَّة الدِّينية. فيجب أدَباً لمن يجمعهم وطن واحد، التعاون على تحسين الوطن وتكميل نظامه، فيما يخص شرف الوطن وغِناه وثروته، لأن الغِنَي إنما يتحصَّل من انتظام المعاملات وتحصيل المنافع العمومية، وهي تكون بين أهل الوطن على السَّوِية، لانتفاعهم جميعاً بِمَزِيَّة النَّخْوَة الوطنية) ([1]).

ويُعَلِّق الدكتور محمد محمد حسين على هذا الكلام فيقول:(هذا الاتجاه هو أثرٌ من آثار الحضارة الغربية وتَصَوُّرها للوطن الجامع لمصالح ساكِنِيه على اختلاف أديانهم وأجناسهم، واقتباس من المجتمع الفرنسي بعد الثورة، الذي قَضَى على الرابطة الدينية، وأقام مكانها رابطة المصلحة الوطنية، أو ما سمَّاه الطهطاوي «المنافع العمومية» التي تقوم على الحرية والإخاء والمساواة بين أبناء الوطن الواحد».([2])

ويَظْهَر تأثر الطهطاوي وإعجابه بفكرة الحرية في مجتمع الثورة الفرنسية، حيث نجده عقد لها فصلاً في كتاب «المُرْشِد الأمين للبنات والبنين» وتكلم فيه عن الحرية والمساواة([3]) وهما شعاران ضمن ثلاث شعارات للثورة الفرنسية.

وكما يقول الدكتور محمد محمد حسين ناقداً له: (بأنه لم يستطع أن يدرك الأغوار البعيدة والجوانب المتعددة لكلمة الحرية، ولم يستطع أن يدرك أنَّ نَقْل هذه الآراء إلى المجتمع الإسلامي يمكن أن ينتهي إلى النتيجة نفسها: نَبْذِ الدِّين، وتَسْفِيه رجاله، والخروج على حدوده. لم يدرك ذلك ولم يلاحظ إلا الجانب البرَّاق الذي يأخذ نظر المحروم من الحرية، حين تمارس في مختلف صورها وألوانها، وفي أوسع حدودها، فكان كالجائع المحروم الذي بَهَرَتْه مائدةٌ حافِلةٌ بألوان الأطعمة، فيها ما يلائمه وما لا يلائمه، ولكنه لم ينظر إليها بعين حِرْمانِه، ولم يرَها إلا صورةً من النعيم الذي يتُوقُ إليه ويَشْتهِيه) ([4]).

ومما يُصَوِّر لنا التَّغَيُّر الفكري لَدَيْه، ما حدث له تحت تأثير إقامته في باريس، ومشاهدته لحال المرأة فيها، حيث أظهر إعجابه بما هي عليه، ونَفَى أنْ يكون الاختلاط والتبُّرج هناك داعياً إلى الفساد، أو دليلاً على التساهُل في العِرْض، وامْتَدح مُراقَصَة الرجال للنساء، ووَصَفَه بأنه فنٌّ مِن الفُنون (ولا يُشَمُّ منه رائحةُ العُهْر أَبَداً، وكل إنسانٍ يعْزِم امرأةً يَرْقُصُ معها، فإذا فَرَغ الرَّقْص عَزَمَها آخَرُ للرَّقصةِ الثانية وهكذا)([5]).

كما يُظْهِر إعجابه بالقوانين العقلية، والشرائع الوضعية في المجتمع الفرنسي في قوله: (والقانون الذي يمشي عليه الفرنساوية الآن، ويتخذونه أساساً لسياستهم هو القانون الذي ألَّفَه لهم ملكُهُم المُسَمَّى لِوِيز الثامن عشر. ولا زال مُتَّبَعاً عندهم ومُرْضِياً لهم، وفيه أمورٌ لا يُنْكِر ذَوُو العقول أنها من باب العدل... وإن كان غالب ما فيه ليس من كتاب الله تعالى ولا من سُنَّة رَسُول الله- ×- لِتَعْرِفَ كيف حَكَمَتْ عقولهم بأن العدل والإنصاف من أسباب تعمير المَمَالِك وراحة العباد) ([6]).



([1]) مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية لرفاعة الطهطاوي (1/319) دراسة وتحقيق محمد عمارة المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت، الطبعة الأولى، 1973م.

([2]) الإسلام والحضارة الغربية ، محمد محمد حسين ص 21.

([3]) انظر المرشدالأمين للبنات والبنين. رفاعة الطهطاوي (2/473-477) ضمن الأعمال الكاملة لرفاعة الطهطاوي. للدكتور محمد عمارة.

([4]) الإسلام والحضارة الغربية صـ24-25.

([5]) تخليص الابريز. الطهطاوي (2/122).

([6]) المصدر السابق صـ(2/95).


( المرجع : الاتجاه العقلاني عن المفكرين الاسلاميين المعاصرين ، سعيد الزهراني ، 1/204-205) .



([1]) مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية لرفاعة الطهطاوي (1/319) دراسة وتحقيق محمد عمارة المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت، الطبعة الأولى، 1973م.

([2]) الإسلام والحضارة الغربية ، محمد محمد حسين ص 21.

([3]) انظر المرشدالأمين للبنات والبنين. رفاعة الطهطاوي (2/473-477) ضمن الأعمال الكاملة لرفاعة الطهطاوي. للدكتور محمد عمارة.

([4]) الإسلام والحضارة الغربية صـ24-25.

([5]) تخليص الابريز. الطهطاوي (2/122).

([6]) المصدر السابق صـ(2/95).


أهم مؤلفات الطهطاوي

  • تخليص الإبريز في تلخيص باريز ويسمى هذا الكتاب أيضاً (الديوان النفيس بإيوان باريس) وهو الذي صور فيه الطهطاوي رحلته إلى باريس وتقدم به إلى لجنة الإمتحان في 19 أكتوبر 1830م.
  • مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية... وقد خصصه الطهطاوي للكلام عن التمدن والعمران ولقد طبع في حياته سنة 1869م (1286هـ).
  • المرشد الأمين في تربية البنات والبنين.. خصصه الطهطاوي لفكره في التربية والتعليم وآرائه في الوطن والوطنية، وقد طبع في العام الذي توفي فيه 1873م (1290هـ) ومطبوع الآن طباعة حسنة متوفرة في الأسواق.
  • أنوار توفيق الجليل في أخبار مصر وتوثيق بني إسماعيل.. وهو الجزء الأول من الموسوعة التي كان قد عزم الطهطاوي على تأليفها وفي هذا الجزء يتكلم عن تاريخ مصر القديمة حتى الفتح الإسلامي، وطبع في حياة المؤلف سنة 1868م (1285هـ).

وعشرات الكتب والأبحاث والقصائد والمنظومات الشعرية من علوم شرعية ولغوية وأشعار في الوطنية ومدح الولاة وغير ذلك.

أهم المترجمات التي قام بها الطهطاوي

  • ترايخ القدماء المصريين. طبع 1838م.
  • (تعريب قانون التجارة الفرنسي طبع سنة 1868م.
  • تعريب القانون المدني الفرنسي.. طبع سنة 1866م.
  • كتاب قلائد الفلاسفة.. طبع سنة 1836م.
  • مبادئ الهندسة.. طبع 1854م.
  • المنطق.. طبع 1838م.
  • روح الشرائع لمونتسكيو.. لم يطبع.
  • أصول الحقوق الطبيعية التي تعتبرها الإفرنج أصلاً لأحكامهم.. لم يطبع.
  • الدستور الفرنسي الي نشره في كتابه تخليص الإبريز.
  • كتاب جغرافية العمومية.. وهو كتاب (ملطبرون).. ترجم منه رفاعة الطهطاوي أربع مجلدات من ثمانية.. وطبع بدون تاريخ.

هذا بالإضافة إلى عشرات الكتب والأبحاث التي كتبها بنفسه أو أشرف عليها ولولا خشية الإطالة لذكرناها.

زعيم نهضة العلم والادب في عصر محمد علي (ولد سنة 1801 وتوفى سنة 1873) مصري صميم، من اقصى الصعيد، نشأ نشاة عادية من ابوين فقيرين، قرا القران ، وتلقى العلوم الدينية كما يتلقاها عامة طلبة العلم في عصره، ودخل الازهر كما دخله غيره، وصار من علمائه كما صار الكثيرون، لكنه بذ الاقران، وتفرد بالسبق عليهم، وتسامت شخصيته الى عليا المراتب، ذلك انه كان يحمل بين جنبيه نفسا عاليا، وروحا متوثبة، وعزيمة ماضية، وذكاء حاد، وشغفا بالعلم، واخلاصا للوطن وبنيه، تهيات له اسباب الجد والنبوغ فاستوفى علوم الازهر في ذلك العصر، ثم صحب البعثة العلمية الاولى من بعثات محمد علي، وارتحل الى معاهد العلم في باريس، واستروح نسيم الثقافة الاوروبية، فزادت معارفه، واتسعت مداركه، ونفذت بصيرته، لكنه احتفظ بشخصيته، واستمسك بدينه وقوميته، فاخذ من المدنية الغربية احستها، ورجع الى وطنه كامل الثقافة، مهذب الفؤاد، ماضي العزيمة، صحيح العقيدة، سليم الوجدان، عاد وقد اعتزم خدمة مصر من طريق العلم والتعليم، فبر بوعده ووفى بعهده، واضطلع بالنهضة العلمية تاليفا وترجمة وتعليما وتربية، فملأ البلاد بمؤلفاته ومعرباته، وتخرج على يديه جيل من خيرة علماء مصر، وحمل مصباح العلم والعرفان يضئ به ارجاء البلاد، وينير به البصائر والاذهان، وظل يحمله نيفا واربعين سنة، وانتهت اليه الزعامة العلمية والادبية في عصر محمد علي، وامتدت زعامته الى عصر اسماعيل، ذلك هو رفاعة رافع الطهطاوي.

فلنستغرض تاريخ تلك الشخصية الكبيرة التي ازدان بها عصر محمد علي، والتي لها الفضل الكبير على النهضة العلمية والادبية في تاريخنا الحديث.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

نشاته الاولى

هو السيد رفاعة بن بدوي بن علي بن محمد علي بن رافع، يتصل نسبه بمحمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن فاطمة الزهراء بنت الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو من نسل الحسين، وامه يتصل نسبها بالانصار.

ولد في طهطا بمديرية جرجا، ولذلك سمى الطهطاوين وكانت ولادته سنة 1217 هـ (1801) ميلادية.

كان اجداده من ذوي اليسار، ثم اخنى عليهم الدهر، فلما ولد المترجم كانت عائلته في عسر، فسار به والده الى منشاة النيدة بالقرب من مدينة جرجا، واقاما في بيت قوم كرام الى فرشوط، وفي خلال ذلك كان المترجم يحفظ القران، ولما عاد الى طهطا اتم حفظه، واخذ يتلقى مبادئ العلوم الفقهية، فقرا كثيرا من المتون المتداولة في ذلك العصر على اخواله وهم بيت علم من الانصار الخروجية وفيهم جماعة من افاضل العلماء كالشيخ عبد الصمد الانصاري والشيخ ابي الحسن الانصاري، والشيخ فراج الانصاري، والشيخ محمد الانصاري.

ثم توفى والده فجاة رفاعة الى القاهرة، وانتظم في سلم طلبة الازهر سنة 1817م (1232 هـ).

دراسته بالازهر وميله الى الادب

بدت عليه مخايل الذكاء والنباهة من صباه، وكان محبا للعلم والتحصيل، ذا عزيمة قوية، فجاهد في المطالعة والدرس، واخذ العلم عن شيوخ عصره ، وفي جملة من تلقى عنهم المترجم الشيخ حسن العطار شيخ الجامع الازهر، فقد احبه لما انسه فيه من الذكاء والاكباب على العلم، وقربه اليه ، وحفه برعايته، وكان الشيخ رفاعة يتردد عليه كثيرا في منزله، وياخذ عنه العلم والادب والجغرافية والتاريخ.

وكان الشيخ حسن العطار من علماء مصر الاحلام، وامتاز بالتضلع في الادب وفنونه والتقدم في العلوم العصرية، وكان هذا نادرا بين علماء الازهر، فاقتبس منه المترجم روح العلم والادب، فكانت تلك الميزة من اسباب نبوغه، ذلك ان الادب قد فتح ذهنه الى البحث والتفكير وهداه الى سداد الراي وحسن الديباجة وسلامة المنطق.

من هنا نشات ميول رفاعة بك منذ نشاته العلمية الى العلوم العصرية، والى الادب والانشاء، ويتبين من ذلك فضل الشيخ حسن العطار على المترجم، فانه اولى من وجه الفقيد الى الاغتراف من ينبوع الادب الفياض، وقد بادر الشيخ رفاعة الى الارتواء من منهله العذب، وهو بعد في الازهر، فقرا كثيرا من كتب الادب، ومهر في فنونه، واذا تاملت في رحلته (تخليص الإبريز) وهي اول كتاب الفه في باريس، شهدت فيما يدلك على سعة مادته من بدائع الادب العربي في النثر والنظم.

والشيخ العطار كما يقول رفاعة بك هو الذي اشار عليه قبل رحيله الى فرنسا ان يدون رحلته في تلك الاقطار، فكانت هذه الرحلة تخليص الابريز باكورة مؤلفته، فالشيخ العطار كما ترى له يد طولى في تكوين الفقيد وهو الذي اختاره اماما للبعثة كما سيجئ بيانه.


تدريسه في الازهر

لم يمض على المترجم بالازهر بضع سنوات حتى صار من طبقة العلماء، وتولى التدريس فيه سنتين، وكان يترد بين حين واخر على طهطا ويلقي بعض الدروس بجامع جده ابي القاسم، فامتازت دروسه بجاذبية كانت تحببه الى المستمعين وترغبهم في الاستزادة من بحر علمه، وهنا ظهرت خاصية جديدة في المترجم، وهي مقدرته ونبوغه في التعليم والتثقيف، وليس كل عالم ينال هذه الموهبة، بل هي ميزة تحتاج الى جاذبية معنوية، وكفاءة ممتازة، ومما يذكر عنه ان علماء طهطا شهدوا له بالسبق في هذا المضمار، وكانت دروسه تحفل بالسامعين وطلبة العلم.

قال صالح مجدي بك في هذا الصدد: "وكان رحمه الله حسن الالقاء، بحيث ينتفع بتدريسه كل من اخذ عنه، وقد اشتغل في الجامع الازهر بترديس كتب شتى في الحديث والمنطق والبيان والبديع والعروض وغير ذلك، وكان درسه غاصا بالجم الغفير من الطلبة، وما منهم الا من استفاد منه، وبرع في جميع ما اخذه عنه، لما علمت من انه كان حسن الاسلوب، سهل التعبير، مدققا محققا، قادرا على الافصاح عن المعنى الواحد بطرق مختلفة بحيث يفهم درسه الصغير والكبير بلا مشقة ولا تعب، ولا كد ولا نصب".

اتصاله بالجيش

قضى الشيخ رفاعة ثماني سنوات في الازهر، والف ودرس وهو ابن احدى وعشرين سنة، وكان الى ذلك الحين فقيرا رقيق الحال اذ كانت والدته تنفق عليه مما تبيعه من الحلي والعقار، وكان يستعين على معاشه باعطاء دروس لحسين بك نجل المرحوم طبوزاوغلي، وكان كذلك يلقي بعض الدروس بالمدرسة التي انشها محمد لاظ اوغلي.

وفي سنة 1240 هـ (1824م) عين واعظا واماما في احد الايات الجيش المصري النظامي الذي اسسه محمد علي، فانتظم في سلك اللاي حسن بك المانسترلي ثم انتقل الى الاي احمد بك المنكي، وكلاهما من اعظم قواد الجيش المصري في عصر محمد علي، وظل الشيخ رفاعة مضطلعا بوظيفة الامامة من سنة 1249 الى شعبان من السنة التالية.

بدات حياة المترجم العملية بالتدريس في الازهر ، ثم يتقلده وظيفة الامامة في الجيش، فانتقل بذلك من بيئة الازهر الى بيئة جديدة، وهي الجيش النظامي، ونعتقد ان هذا الانتقال قد احدث تطورا في حياته وفي سيرته وذهنيته، لانه بدا يتصل بالحياة العسكرية، ويالف نظاما لا عهد له به من قبل، وعيشة فتحت ذهنه الى نواح جديدة من الحياة والتفكير، ولابد ان تكون الحياة العسكرية التي اتصل بها عن كثب قد افادته بما فيها من احترام النظام، وتقدير لمزاياه وايلاف لاوضاعه واحساس بالدفاع عن الذمار والكفاح في سبيل الوطن، ومواجهة للاخطار، مما يغرس في النفس روح الوطنية والشجاعة والاقدام.

ويلوح لنا ان هذه المعاني قد انطبعت الى حد كبير في نفس المترجم، فقد عاش طوال عمره ذا انفة واباء ، يكره الذل، ولا يقيم على الضيم، محبا لبلاده في سبيلها راحته ووقته وعلمه وذكاءه، وعاش كذلك محبا للنظام في كل عمل تولاه، في تلقي العلوم وفي التاليف والتعريب، وفي حسن تنظيم المعاهد التي تولى ادارتها.


المصادر

  • جمال الدين الشيال: رفاعة رافع الطهطاوي - دار المعارف - القاهرة - 1970م.

حسين فوزي النجار: رفاعة الطهطاوي، رائد فكر وإمام نهضة - الدار المصرية للتأليف والترجمة - القاهرة، بدون تاريخ.

  • محمد عمارة - رفاعة الطهطاوي رائد التنوير في العصر الحديث - دار المستقبل العربي - القاهرة - 1984م.

م* جموعة من الباحثين - ندوة الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي - كلية الألسن - القاهرة 1984م.

  • عمر الدسوقي - في الأدب الحديث - دار الفكر العربي - القاهرة - 1966م.