جرمين ده ستال

Madame de Staël

آن لويز جرمين ده ستال-هولستين Anne Louise Germaine de Staël-Holstein (النطق الفرنسي: [stal]؛ 22 أبريل 1766 - 14 يوليو 1817)، تشتهب بإسم مدام ده ستال Madame de Staël، كانت مؤلفة سويسرية تتكلم الفرنسية تعيش في باريس والخارج. وقد تركت أثراً كبيراً على المذاق الأدبي في اوروبا عند مطلع القرن 19.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

خَصْمُ نابليون اللَّدود

سبق للجنة الأمن العام أن أبعدت مدام دي ستيل عن فرنسا وخفّضت حكومة الإدارة هذه العقوبة فاكتفت بإقصائها عن باريس، وبعد سقوط حكومة الإدارة أسرعت عائدة إلى العاصمة (21 نوفمبر 9971) وسكنت شقّة في شارع دي جرينل de Grenelle في حي فوبورج سان جيرمين Faubourg ST. Germain الرَّاقي. ولم تعترض الحكومةُ القنصليةُ - أعنى نابليون - على عَوْدتها - وسرعان ما افتتحت صالوناً جديداً لأسباب منها أن المناقشات في باريس.. كانت دائماً أكثر فتنةً وسحراً من كل المسرّات(21) وأنها كانت قد صمَّمت على أن تلعب دوراً في توجيه الأحداث، ولم تضع في اعتبارها أن مثل هذا الدور لا يليق بامرأة. لقد بَدَالها أنَّ هذا أمر لائق تماماً لامرأة مثلها ذات مال وذكاء، خاصة إن كانت وريثة جاك نيكر Jacques Necker (والدها) الذي كانت تعتبره بطل الثورة الفرنسية الذي لم يُقَدَّر حق قدره. وبالإضافة لهذا فقد كانت الحكومة الفرنسية لا تزال مدينة له بمبلغ عشرين مليون فرنك كان قد أَقْرضها لها (للحكومة) في سنة 9871، وكان أحد أهداف مدام دي ستيل هو استعادة هذا المبلغ. وكان نموذج الحكومة الأمثل من وجهة نظرها هو الملكية الدستورية التي تسمح بحرية الصحافة والعبادة والخطابة، والتي تحمي مِلْكية الأثرياء ضد حسد الفقراء، تماماً كما كان رأي أبيها. وبهذا المعنى كانت تَشْعر أنها كانت مُخلصة للثورة كما عرفتها الجمعية الوطنية 9871 - 1971. لقد كانت تحتقر المشتركين في قَتْل الملك ورحَّبت في صالونها بجيرانها من ذوي الرُّتب والألقاب في فوبورج Faubourg الذين كانوا يدعون كل يوم طالبين من الرب عوْدة البوربون إلى الحكم. ومع هذا فقد حلَّقت المتجمعين في صالونها حول بنيامين كونستات (قستنطين) Benjamin Constant الذي نذر حياته للدفاع عن الجمهورية والذي كان - كعضو في التربيونيت Tribunate- يُعارض كل حركات نابليون من مرحلة القنصلية إلى مرحلة السلطة الإمبراطورية، ورحّبت في صالونها أيضاً بإخوة القنصل الأول (نابليون) لأنهم كانوا هم أيضاً غير مرتاحين في ظلِّ سلطته المتزايدة.

وحقيقة الأمر أن كل ذوي الشأن في المجاليْن السياسي والفكري في باريس - وجدوا طريقهم إلى اجتماعات المساء في صالونها، شغفاً منهم في معرفة آخر الأقاويل في المجال السياسي وليسمعوا مدام دي ستيل تَخُوض غمار الحوار والمناقشات على نحو لم تشهده باريس من امرأة منذ مدام دي ديفان Mme de Deffand. وقد أعلنت مدام دي تيسّي Tesse: لو كنتُ ملكة لأمرتُ مدام دي ستيل بالحديث معي طوال الوقت(31). وقد كتبت جيرمين Germaine نفسها أن كل طبقات فرنسا كانت تشعر بضرورة النقاش، فلم يكن الكلام (الحوار) هنا كما هو في أي مكان آخر - مجرد وسيلة للتعارف والاتصال بين الناس... وإنما كان كآلة موسيقية شُغف الناس بالعزف عليها(41).

ولم تكن دوماً معارضة لنابليون إن كان لنا - حقيقة - أن نُصدّق بورين Bourienne، فقد كتبت له خطابات إطراء وتملّق في بداية الفترة القنصلية لتعرض خدماتها عليه(51). ولكن قرارهُ بتجاهل عروضها، وتوسيع دائرة الرقابة واحتقاره للمكفرين السياسيين، وفكرته عن المرأة التي مؤداها أنها مجرد أداة للإنجاب، ووسيلة للذة، وأنه لا يُوثق في فكرها، كان بمثابة لدغة (قرصة) لها دفعتها للرد عليه. وعندما أطلق على ضيوفها اسم الأيديولوجيين ideologues أطلقت عليه بدورها عدو الفكر slash أيدو فوب ideophobe، ولأن غضبها منه ( من نابليون) كان يزداد، فقد وصفته بأنه روبيسبير فوق صهوة جواد(61) أو هذا البورجوازي الذي اعتلى العرش(71).

وفي السابع من مايو سنة 0081 انتقلت بزوجها وبطانة صغيرة من المخلصين إلى كوبت Coppet في فترة الصيف. وكان نابليون قد غادر باريس في اليوم السابق ليعبر جبال الألب ويواجه النمساويين في مارينجو Marengo، واعترفت جيرمين Germaine (مدام دي ستيل) في وقت لاحق: لم أستطع أن أمنع نفسي من تمنّي أن تحيق الهزيمة بنابليون إذ بدت هزيمته هي الطريق الوحيدة لوقف الطغيان(81). وفي خريف هذا العام عادت إلى باريس بعد أن ضَجِرت من الإقامة في كوبت ومونت بلانك Mont Blanc، فقد كانت لا تستطيع العيش دون مناقشات ولم تكن المناقشات مزدهرة في أيِّ مكان ازدهارها في باريس(91). وسرعان ما جمعت في صالونها جماعة من العباقرة والنوابغ راحوا يتحاورون في موضوعهم الأثير وهو دكتاتورية نابليون. واشتكى نابليون من هذا الوضع قائلاً: لقد حملت كنانتها المليئة بالسهام. إن الجماعة المتحلّقة حولها تتظاهر بأنها (مدام دي ستيل) لا تتحدث في السياسة ولا تتحدث عنِّي لكن كيف - إذن - أفسرّ أنَّ كلَّ من رآها، قلَّ حُبّ لي؟(02) وقال بعد ذلك في سانت هيلانه إن بيتها أصبح حقاً ترسانة توجِّهُ أسلحتها ضدي. لقد كان الناس يذهبون إلى هذا البيت ليكونوا فرساناً زائفين في حرب صليبية تشنها ضدي(12). بل أنه ذهب إلى حد القول: إن تلك المرأة علَّمت الناس أن يفكروا فيما لم يتعوَّدوا التفكير فيه قبل ذلك، وما كانوا قد نسوا كيفية التفكير فيه(22).

لقد شعر نابليون أنه كقائد يعمل على إخراج فرنسا من حالة الفوضى بفرض نظام إداري يتَّسم بالكفاءة، وبتحقيق جيوشها انتصارات - في الوقت نفسه - ضد التحالفات المعادية، أنَّ من حقه أن يتوقع - أو يفرض عند الضرورة - معنويات عامة وأخلاقاً عامة على الجماهير، وأن يفرض تنسيقا بين الروح الوطنية والإرادة الوطنية للدفاع عن جمهورية فرنسا الجديد وحدودها الطبيعية - لكن هذه المرأة (مدام دي ستيل) جمعت حولها كلا من الموالين للملكية واليعاقبة ووحَّدتهم ضده، ووالت أعداءه. وكان والد جرمين Germaine متفقاً مع نابليون. لقد أنَّبها (أي أنّب ابنته) لهجومها المتواصل على الدكتاتور الشاب (نابليون) وقال لها إن شيئاً من الدكتاتورية ضروري أثناء الحرب(32). لكنها أجابته قائلة إن الحرية أهم من النصر. وشجعت مدام دي ستيل، بيرنادوت Bernadotle في معارضته لنابليون، وكتبت بعض الخطب التي ألقاها كونستانت Constant (قسطنطين) في التريبيونيت Trebunate (مجلس الدفاع عن حقوق الشعب) ضد انتهاكات نابليون لاختصاصات وصلاحيات المجلس التشريعي (الهيئة التشريعية). لقد كانت هي (مدام دي ستيل) وبونابرت سريعي الغضب متّسمين بالغرور، ولم تكن فرنسا لتتسع لكليهما، ليكون كل منهما حراً يتصرف كما يشاء.

وفي ربيع سنة 1801 كتب نابليون لأخيه جوزيف (يوسف): إن السيِّد دي ستيل في بؤس شديد، ومع هذا فإن زوجته تُقيم الولائم والحفلات الراقصة(42) ونقل جوزيف إليها هذا التوبيخ، فانتقلت إلى مقرِّ إقامة زوجها في ميدان الكونكورد (الكلمة تعني الوفاق) فوجدته وقد أخذ به الشَّلل كل مأخذ، فراحت تُمرِّضه وتعتني به، وفي شهر مايو سنة 2081 أخذته معها عندما غادرت باريس إلى سويسرا، ومات في الطريق وتمّ دفنه في مقبرة كوبت Coppet. وفي العام نفسه بدأت مدام دي ستيل في تعاطي الأفيون لأن نوبات الهياج كانت تعتريها.


المؤلفة

مدام دى ستال في كورين (1807)، Firmin Massot، زيت على خشب، 61 × 52 سم - مجموعة شاتو دى كوپيه (سويسرا).

كانت مد دي ستيل أعظم مؤلفة في أوروبا في زمانها وكانت أعظم كتاب فرنسا باستثناء شاتوبريان Chateaubriand لقد كتبت خمسة عشر كتاباً قبل سنة 1800 (أصبحت هذه الكتب منسيّة الآن)، وفي ذلك العام (1800) قدَّمت عملاً كبيراً عن الأدب De la Litterature ثم ألفت روايتين (دلفين Delphine في سنة 1803 وكورين Corrine في سنة 1807) وقد حقَّقت هاتان الروايتان لها الشهرة في أنحاء أوروبا. وفي الفترة من 1810 إلى 1813 خاضت معركة حياتها لنشر عملها المهم (عن ألمانيا De L'Allemagne)، وتركت بعد موتها كتاباً آخر مهماً وكبيراً (أفكار وتفسيرات حول... الثورة الفرنسية Considerations Sur... La Revolution Francaise) و (عشر سنوات في المنفى Les dix Annees d exil) لقد اتّسمت كتاباتها التي أشرنا إليها هنا بالصدق، كما أنها كانت أعمالا أساسيَّة، وبعضها بلغ 800 صفحة. وكانت مدام دي ستيل تبذل جُهدا شاقاً في العمل. لقد كانت تعمل بجد وتمارس الحب بجد ومواظبة، وتكتب بعاطفة جيَّاشة وحماس. لقد حاربت حتى النهاية أقوى رجال العصر (نابليون) وكان سقوطُه نصراً لها، مع أنها كانت تعاني ظروفاً حزينة.

لقد تناول عملها الموسوم باسم (De la litterature Consideree dans ses rapports avec institutions sociales) موضوعاً كبيراً ومهماً: إنني أريد أن أفحص أثر الدين والأخلاق والقوانين على الأدب (والفكر) وأثر الأدب (والفكر) على الدين والأخلاق والقانون. لقد كانت لاتزال تتنفّس روح القرن الثامن عشر - حرية الفكر، الفرد في مواجهة الدولة، تطور المعرفة والأخلاق، هنا لا مجال للميثولوجيا (الأساطير) الفوقطبيعية (التي لا تنسجم مع قوانين الطبيعة)، فقد كانت مدام دي ستيل تؤمن بنشر التعليم والعلم والمعرفة. وكان المطلب المسبّق - في رأيها - لإحداث أي تطور هو تحرير العقل من سطوة السيطرة السياسية. فبالعقول المتحررة على هذا النحو، سينتعش الأدب (والفكر) ويتضمّن أفكاراً مفيدة، وسينتشر لينتقل لنا تراث الجنس البشري. لا يجب أن نتوقع أن يزدهر الفن والشعر على نحو ما يتقدم العلم والفلسفة لأنهما (الفن والشعر) يعتمدان بشكل أساسي على الخيال الذي اتَّسم بالخصوبة والتوقّد في الأزمنة المتأخرة كما كان في الأزمنة الباكرة في التاريخ. وفي التطور الحضاري يسبق الفن والشعر العلمَ والفلسفة، ومن هنا فإن عصر پريكليس Pericles سبق عصر أرسطو، والعصور الوسطى سبقت جاليليو Galileo، والفن في عهد لويس الرابع عشر سبق عصر التنوير العقلي. والتطور العقلي لا يتسم بالاستمرار، فهناك تقهقر أو تراجع أو نكوص بسبب اضطرابات في الطبيعة أو تقلّبات السياسة، لكن حتى في العصور الوسطى كان العلم والمنهج العلمي يتقدمان مما مهّد لظهور كوبرنيكس وجاليليو وبيكون وديكارت. وفي كل العصور تمثل الفلسفة تجميعاً تراكمياً للتراث الفكري وجوهره. وتأملت مدام دي ستيل وتنبأت قائلة أنه ربما أصبحت الفلسفة في بعض حقب المستقبل مفهومة وناضجة بشكل كاف بحيث تحل محل العقيدة المسيحية أو بتعبير آخر تغنينا عن العقيدة المسيحية التي كنا نعتقدها في الماضي(52). وقد عرَّفت التنوير الفلسفي Les Lumieres Philosophiques بأنه الحكم على الأشياء بمعيار العقل(62) ولم تفقد مدام دي ستيل إيمانها بحياة العقل إلاّ عند حديثها عن الموت. إن انتصار التنوير الفلسفي (العقلي) كان دوماً ملائما لعظمة الجنس البشري وإصلاح حاله(72).

لكنها استمرت تقول (وكانت قد قرأت روسّو كما قرأت فوليتر) إن تطور العقل (الفكر) ليس كافيا فالمعرفة ليست إلاّ عنصراً واحداً في عملية الفهم. أما العنصر الآخر فهو الشعور، فلابد أن تكون الروح حساسة مرهفة كما لابد أن تكون الحواس كذلك. فبدونها (الحواس) تصبح الروح كلوح ميت غير قابل للتلقي أو تصبح كمتلق ميت للمثيرات المادية (الفيزيقية)، فبالحواس تدخل الروح في حياة الموجودات الحية الأخرى وتشاركها إعجابها ومعاناتها، فبشعور الروح من خلال الجسد يكون الشعور بوجود الله وراء العالم المادي. ومن خلال وجهة النظر هذه تصبح الآداب الرومانسية التي ظهرت في الشمال الضبابي (ألمانيا وسكاندينافيا وبريطانيا العظمى) على الدرجة نفسها من الأهمية التي لآداب الجنوب المشمس (اليونان وإيطاليا) وتصبح قصائد أوسيان Ossian في أهمية ملاحم هوميروس Homer.

وكان من الممكن أن يوافق نابليون في فترة شبابه على هذا التقويم لكن كان لا بد أن ينزعج من وجه نظر المؤلفة عن العلاقة بين الأدب (والفكر) والحكومة. فالديمقراطيات (كما اعتقدت مدام دي ستيل) تجنح إلى جعل الكُتَّاب والفنانين يجنحون إلى إرضاء أذواق الجماهير بينما تعمد الارستقراطيات إلى جعل الكتاب والفنّانين يعملون على إرضاء أذواق النُّخبة (الخاصّة) وتشجيع الفكر المصقول المحكم ورصانة الصياغة والشكل(82). فنظام الحكم الاستبدادي يعمل على ترقية الفنون والعلوم ليُظهر نفسه - أي هذا الحكم الاستبدادي - من خلال البهاء والقوة، ولكنه - أي النظام الاستبدادي - لا يشجع الفلسفة والدراســات التاريخيــة لأنهــا خطــر علــى الدكتاتوريــة بســبب تناولهــا للأمور بعمــق وسِعَة، والديمقراطيــة تحفــز الآداب وتؤخّــر الفــن، والارستقراطيات تفرض الذوق لكنها تعمــد إلى إطفــاء الحماسة والجدة والابداع، والحكومة المطلقة (الاستبدادية) تكبت الحريات والإبــداع والفكر. فلو أمكن أن يكون لفرنسا حكومة دستورية تُزاوج ما بين النظام والحرية لأمكنها أن تزاوج بين تشجيع الديمقراطية والقيود المفروضة بحكمة في ظل حكم القانون.

نقول الحق تماماً إن هذا الكتاب كان كتاباً جديراً بالاهتمام بالنسبة لامرأة في الرابعة والثلاثين من عمرها، وتمتلك سبعة ملايين من الفرنكات. وبطبيعة الحال كانت هناك أخطاء في هذا الكتاب ذي الستمائة صفحة لأنَّ العقل عندما يفلت يكون عُرضة للزَّلل بشكل أكيد رغم أنه قد يُسْقِط بعض الثمار التي يتعذَّر الإمساك بها (المراوغة). لقد كانت مدام دي ستيل شخصية غامضة في مجالي التاريخ والأدب، لقد كانت ترى أنَّ الايرلنديين ألمان وأن دانتي شاعر صغير (قليل القيمة) بل لقد دافعت بشجاعة عن الحكومة الليبرالية وعن المسيحية القائمة على أسس عقلية فأسقطت في طريقها مئات من المُسلَّمات. وتنبّأت بأن تطوّر الاحصاءات قد يجعل الحكومة أكثر وعياً وأن التعليم السياسي قد يساعد في إعداد مرشحين للوظائف العامة. ولاحظت وكأنها تتنبّأ أن التقدم العلمي سيجعل التقدم الخلقي أمراً لا مناص منه لأنه إذا زادت قوة الإنسان زادت قوةً وسائل منعه من اساءة استخدامها(92) وقلما كانت هناك فكرة من أفكار القرن الثامن عشر لم يتناولها هذا الكتاب، وقلما كانت هناك فكرة من أفكار القرن العشرين لم يبذر هذا الكتاب بذرتها(03).

لقد كتبت في هذا المجلد حياتها بطولها بما فيها من آلام وحسرات ذلك أن النظام الاجتماعي بكامله.. قد حشد حشوده ضد امرأة أرادت أن تُحقق شهرة لم يُحققها الرجال في عالم الأدب والفكر (13). والآن فقد كان عليها أن تكون استثناء لأنها كما كتبت بعد ذلك بواحد وعشرين عاما في ربيع سنة 0081 نشرتُ كتابي في الأدب وأدى نجاحه إلى استعادتي ثقتي كاملة بالمجتمع، وامتلأت - مرة أخرى - غرفة الاستقبال عندي بالزائرين(23). وكانــت قلوب كثيرين قد انخلعــت فابتعــد عن صالونها من كان يتردد عليه بعد هجوم كونستانت (قسطنطين) العنيف على الدكتاتورية إلاّ أنهم بعد صدور كتابها هذا عادوا إليها نادمين وراحوا يتملَّقونها ووجد العريف الصغير Little Corporal (المقصود نابليون) في قصر التوليري أن عليه أن يعترف بوجود عدو له يُباريه في همته وطباعه.

وفي أغسطس سنة 1802 أرسل جاك نيكر Jacques Necker للقنصل ليبرون Lebrun نظرات أخيرة في السياسة والمالية Les Dernieres Vues de politique et de Finance - الذي عرض فيه آخر أفكاره في السياسة والاقتصاد. وفي هذا الكتاب التمس الأعذار لدكتاتورية نابليون لكن باعتبارها شراً لا بُد منه، وافترض أن هذه الدكتاتورية مؤقتة وحذر من استمرار تركز السلطة في أيدي العسكريين وعبَّر عن أسفه لأن مالية الحكومة الجديدة تعتمد اعتمادا كبيرا على تعويضات الحرب، واقترح دستوراً أكثر ليبرالية يكون نابليون حارسا Aguardian عليه. وقد أطلع ليبرون Lebrun نابليون على هذا الكتاب وكان نابليون وقتها قد أصبح بالفعل نصف إمبراطور (على وشك أن يكون إمبراطوراً) فامتعض - أي نابليون - من فكرة تقليص سلطاته. ولأن نابليون كان مُقتنعاً أن مدام دي ستيل هي التي وجهت أفكار أبيها، فقد أصدر أمراً بإبعادها عن باريس مما يعني إغلاق صالونها المزعج ونسي نابليون أنها كانت تستطيع الكتابة بالمهارة نفسها التي تتحدث بها. وقضت شتاء 1802 - 1803 في جنيف لكنها أصبحت في ديسمبر حديث باريس بنشرها روايتها دلفين Delphine. لا أحد يقرأ هذه الرواية الآن، لكن عند صدورها لفتت نظر كل المهتمين بالأدب والسياسية لأنها كانت جزءاً من نضال قوي بين امرأة وعصرها.

ودلفين (بطلة القصة) فتاة فاضلة قوية تتوق إلى الاستسلام (الإذعان) وتخشاه( ويُقصد بها مدام دي ستيل) وأحب ليونس Leonce (= ناربون Narbonne) الارستقراطي الوسيم الفتاة دلفين لكنه جفل منها (ابتعد عنها) بسبب إشاعة تتهمها بعلاقات جنسية غير شرعية affaurs فلم يستطع أن يُقامر بوضعه الاجتماعي باتخاذها زوجة له، فتزوج من ماتيلدا دي فيرنون Matilde de Vernon التي كانت أمها تمارس السحر وتغطي أكاذيبها بالظُّرف والذكاء، ونظر أهل باريس لهذه السيدة (الواردة في الرواية) على أنها تاليران Talleyrand رغم أنها امرأة بينما تاليران رجل، وقد انتقم تاليران لنفسه بأن ذكر أن هذه المؤلِّفة المسترجلة (المرأة الذَّكر) قد تنكرت وكذلك هو في زي النساء. (يقصد أنه ليس فيها من الأنوثة شيء). وتُواصل القصة ذاكرة أن دلفين - بعد رفضها - عادت للدير حيثُ قادتها رئيسة الدير لعالم العفة طوال الحياة. وعندما اكتشف ليونس Leonce طهارتها فكر في تطليق زوجته غير الحساسة وأن يتزوج دلفين لكنه خشي تدمير مصالحه بخرقه قانون الكنيسة القاضي بالزواج الأحادي (الزواج مرة واحدة في العمر)، وماتت ماتيلدا Matilde - ضحية، وكان موتها مناسبة درامية (في القصة) مناسبة ليحث ليونس Leonce دلفين على الفرار معه لتستسلم لعواطفه، وهجرها وانطلق ليلحق بالمهاجرين emigres (الذين غادروا فرنسا إثر أحداث الثورة الفرنسية) إلاّ أن السلطات قبضت عليه وحكم عليه بالإعدام. واندفعت دلفين - التي كانت تحب قسوته - لإنقاذه، إلا أنها لم تصل إلا لتراه صريعا بعد اطلاق النار عليه، وعندئذ خرت هي أيضاً وفارقتها روحها. واستخدمت المؤلفة هذه الأحداث الدرامية السخيفة أو المنافية للعقل، وهذه الحبكة الرومانسية النمطية لتجعل منها منصة خطابة تناقش من خلالها شرعية الطلاق، وتعصّب الكاثوليكية (وكانت قد ورثت عن أسرتها المذهب البروتستنطي)، والحقوق المعنوية للمرأة بدلاً من المعايير المزدوجة، ومشروعية الوعي الفردي (تصرف الفرد بما يميله عليه ضميره) بدلا من شرف الانتماء إلى طبقة. وقد تلقى المثقفون في باريس حججها بقبول حسن، لكن نابليون لم يكن سعيداً بها، فقد كان في ذلك الوقت قد ولى وجهه شطر الكاثوليكية كعلاج للتفسّخ الخُلقي، والاضطراب الفكري في فرنسا، وفي 31 أكتوبر سنة 3081 أصدر أمراً يمنع مدام دي ستيل من الاقتراب من باريس مسافة أربعين فرسخا.

وظننت مدام دي ستيل أن الوقت الملائم قد حان لزيارة ألمانيا. وكانت قد تعلَّمت قدراً كافياً من الالمانية يُتيح لها قراءة ما هو مكتوب بهذه اللغة، إلاّ أنها لم تكن تجيد الحديث بها، فلم لا تنعم الآن بموسيقا فينا، ومفكري فيمار Weimar والمجتمع الملكي في برلين؟ وفي 8 نوفمبر عبرت الراين عند متز Metz إلى ألمانيا مع أوجست والابنة ألبرتين Albertine وخادمين وكونستانت (قسطنطين) الذي أصبح بالنسبة لها عشيقاً أفلاطونياً أو بتعبير آخر فارساً أقل رتبة في خدمة فارس كبير Cavaliere Servente.

السائحة

وكان انطباعها الأول - في فرانكفورت - غير سار، فقد بدا الرجال في ناظريها ذوي بدانة، وكأنهم يعيشون ليأكلوا، ويأكلون ليدخنوا، وكانت تجد صعوبة في التنفس عندما يقتربون منها. وكان الألمان مندهشين من هذه المرأة المعتزة بنفسها التي لا تستطيع أن تُقدّر ما تُسببه بيبلاتهم pipes من جوٍ مريح، وكتبت أمُّ جوته Goethe قائلة لابنها. إنها تكبس على نفسي كحجر الرحى. إنني اتحاشاها قدر استطاعتي وأرفض أي دعوة لحضور أي مكان هي فيه، إنني أتنفس بحرية أكثر عندما تكون غير موجودة(33).

مدام دى ستال مع ابنتها، في 1805

وأسرعت جيرمين Germaine مع حاشيتها إلى فيمار Weimar حيث وجدت الشِّعر قد نقّى الجو المحيط بها. لقد كانت المدينة (ڤايمار) يسودها الكتّابُ والفنانون والموسيقيون والفلاسفة، وكان البلاط يقوده بتسامح وحكمة الدوق شارل أوجستس Charles Augustus وزوجته الدوقة لوزير Luise وأمه الدوقة دواجر أنّا أمالي Dowager Anna Amalie. وكان هؤلاء الناس على درجة عالية من التعليم، ويتسمون بحسن التمييز والحصافة، وكانوا جميعاً - تقريباً - يتحدثون الفرنسية. وأكثر من هذا فقد قرأ كثيرون منهم رواية دلفين Pelphine وكان عدد أكثر بكثير قد سمع عن حربها ضد نابليون ولاحظ كثيرون أنها كانت ذات مال وأنها أنفقته. وقد أكرموها بالدعوة على الغذاء والمسرح والحفلات الراقصة، ودعوا شيلر Schiller ليقرأ مشاهد من فيلهيلم تل Wilhelm Tell واستمعوا إليها وهي تقرأ فقرات طوال من كتابات راسين Racine، وحاول جوته Goethe - الذي كان وقتئذ في يينا Jena - أن يتهرَّب من واجبه بادعاء إصابته بالبرد، لكن الدوق حثَّه على المجئ إلى فيمار رغم هذا، فأتى وتناقش مع مدام دي ستيل بغير ارتياح. ولكنه غدا حذراً بسبب تهديدها الصريح بأنها تنوي طبع تقرير عن ملاحظاته(43). وكانت مستاءة خائبة الرجاء لأنها وجدت جوته على غير ما توقعت فلم يعد هو فيرتر Werther وأنه تحوّل من عاشق إلي حَبْر (كبير كهنة). وحاول جوته أن يُربكها بالمتناقضات وبالآراء المتضاربة لقد أدى تناقضي ومشاكستي بشكل عنيد إلى إصابتها باليأس في غالب الأحوال، لكنها كانت في ذلك الوقـت ودودة جـداً وأظهـرت على نحو متألق ذكاءها وفصاحتها(53) وقد ذكرت هي في وقت لاحق أنه كان من حسن حظي أن گوته وڤيلاند Wieland كانا يتحدثان الفرنسية بطلاقة، أما شيلر فكان يناضل من أجل ذلك(63) وقد كتبت لشيلر بود، وكتبت لجوته باحترام، فهو أي جوته بالإضافة إلى نابليون هما الرجلان الوحيدان اللذان قابلتهما وأجبراها على التزام حدودها (عرَّفاها حدودها أو أوقفاها عند حدودها أو جعلاها تتحقق من إمكاناتها المحدودة) ولم يكن شيلر مرتاحاً لسرعتها في الحديث وتوالي أفكارها بشكل سريع، لكنه انتهى متأثراً، فقد كتب إلى أحد أصدقائه لقد قادني الشيطان إلى امرأة فرنسية فيلسوفة هي من بين كل المخلوقات الحية، الأكثر حيوية والأكثر استعداداً للجدال والنضال دفاعاً عن رأيها، والأكثر امتلاكاً لنواصي الكلمات، وهي أيضاً الأكثر ثقافة والأكثر اتقاداً ذهنياً من بين نساء العالمين، وإذا لم تكن شائقة حقيقة وممتعة، لما سبَّبت لي ازعاجاً(73). وتنفّست فيمار الصعداء عندما غادرت مدام دي ستيل برلين بعد إقامة استمرت ثلاثة أشهر.

لقد وجدت ضباب برلين محبطاً مسببا للكآبة، بعد أن شهدت التألق في فيمار، وكان سادة الحركة الرومانسية غير موجودين بها أو وافتهم منيتهم، وكان الفلاسفة قد انشغلوا في جامعات بعيدة. هيگل في ينا، وشلنگ في ڤورتسبورگ Wurzburg، فكان على جيرمين أن تقنع بما عند الملك والملكة وأوجست فلهيلم فون شليجل August Wilhelm Von Schlegel من معارف لغوية وثقافية أبهجتها. وقد اتفقت معه أن يصحبها إلى كوبت Coppet ليكون معلّما ومرشداً لابنها أوجست Auguste فوافق وأحبها في أسوأ فترة في حياتها.

وفي برلين تلقت أخباراً تُفيد أن أباها مريض بشكل خطير فأسرعت عائدة إلى كوبت لكنها تلقت خبر وفاته (9 أبريل 4081) قبل وصولها (إلى كوبت). فكان هذا الحدثُ لطمةً لها سبَّبت لها حزناً أكثر من أي نزاع بينها وبين نابليون. لقد كان أبوها يمثل لها دعماً معنوياً ومالياً، وكانت تراه دوماً على حق وصلاح، وما كان أيٌّ من عشاقها ليحل محله. ووجدت عزاءً بعد موته في كتابة نصر أدبي يَغُصُّ بتوقيره وحبه (السيد نيكر، شخصيته وحياته الخاصة Monsieur Neckerصs Character & Private Life) كما كتبت عنه في مقدمة عملها الكبير (عن ألمانيا De lسAllemgne) وقد ورثت معظم ثروة أبيها وأصبح دخلها الآن 000،021 فرنك في السنة.

وفي شهر ديسمبر ذهبت تلتمس الدفء في إيطاليا وأخذت معها ثلاثة أطفال - أوجست وألبرتين وألبرت - وشليجل Schlegel الذي أصبح معلّماً ومرشداً لها أيضاً (وليس لأطفالها فحسب) لأنه وجد معلوماتها قليلة جداً عن الفن الإيطالي. وفي ميلان انضم إليهم بيدكر دي سيسموندي Baedeker Jean Charies leonard de Sismondi الذي كان قد شرع في كتابة كتابه التعليمي: تاريخ الجمهوريات الإيطالية. وقد وقع هو أيضاً في حب جيرمين - أو بالأحرى وقع في حب عقلها ومالها - حتى اكتشف كما اكتشف شليجل من قبله أنها لم تأخذ الأمر علي محمل الجد. واتَّجهوا معاً عبر بارما Parma ومودينا Modena وبولونيا Bologna (مدينة إيطالية) وأنكونا Ancona إلى روما. وكان جوزيف بونابرت مولعاً بها أيضاً فزودها بخطابات تُقدّمها إلى أفضل المجتمعات الإيطالية، واحتفت بها الطبقات الارستقراطية لكنها وجدت الأمراء والأميرات أقل احتفاءً بها من الكاردينالات الودودين الذين عرفوا كتبها وثروتها وعداءها لنابليون ولم تزعجهم عقيدتها البرونستنطية، لقد تم استقبالها بشكل رسمي ولافت ترحاباً وأُلقيت أمامها القصائد وعُزفت الموسيقا في أكاديمية أركاديا Accademia dell Arcadia وقد سجلت هذه التجربة في روايتها كورين Corinne.

وفي يونيو سنة 0581 كانت في كوبت مرة أخرى وسرعان ما أحاط بها العشاق والأصدقاء والدارسون والدبلوماسيون (الأمير استرهازي الفيني Esterhazy of Vienna وكلود هوشي Cloude Hochet من مجلس الدولة شكله نابليون) بل وحتى الحاكم (منتخَب بفتح الخاء بافاريا). لقد أصبح صالونها في كوبت الآن أكثر شهرة من أي صالون في باريس. لقدكتب شارل فكتور دي بونستيتن Charles - Victor de Bonstetten: لقد عُدتُ لتوّي من كوبت. إنني أشعر بالذهول الكامل.. وأشعر بالإنهاك والارتباك الكاملين بسبب هذه المفاسد العقلية (الفكر الضّار). فمزيد من المثقفين والمفكرين يُنفق الواحد منهم في كوبت في يوم واحد أكثر مما يُنفقه واحد منهم في أي بلد آخر طوال عام(83). إن الحشد المجتمع كثيرُ العدد متعدد المواهب بحيث يكفي لتمثيل العديد من المسرحيات. وجيرمين نفسها في دور البطلة في أندروماك Andromaque و فيدر Phedre واعتبر بعض الضيوف أداءها رائعاً لا يفضله سوى بطلات (نجمات) مسرح باريس. وفي مناسبات أخرى عُزفت الموسيقا، وتم إحياء الاجتماعات بقراءة أشعار واحد من الشعراء. وكانت مائدتها عامرة ثلاث مرات في اليوم يتحلَّق حولها الضيوف الذين يبلغ عددهم أحياناً ثلاثين شخصاً، وهناك دوماً خمسة عشر خادماً لا يكفّون عن العمل، وفي الحدائق ترى العشاق يتجوّلون وفي هذا الجو قد تُعقد صداقات جديدة.

وكان محبّي (عشاق) جيرمين الذين تتخذ منهم أداة للتسلية أو بتعبير آخر الذين تضيّع بهم الوقت (بمعنى أنها لم تكن تعتبر جبهم إلاَّ وسيلة للتسلية ولا تعتبره من نوع الحب الجاد) وهم مونتمورنسي Montmorency وكونستانت Constant (قسطنطين) وشليجل وسيسمندي - سرعان ما يفتر حبهم لها لأنها كانت ترهقهم بمطالبتهم بطاعتها والإخلاص لها في الوقت الذي كانت تستحوذ على الدفء لنفسها مع پروسپير دي بارانت Prosper de Barante الذي كان في الثالثة والعشرين من عمره بينما هي في التاسعة والثلاثين ولكنه لم يستطع أن يُلاحقها فأرهقته (والمعنى مفهوم) فولّى مدبراً طالبا ملاذاً منها في البُعد عنها، وقد هجته في قصتها كورين، وقد أسمته في هذه القصة باسم أوزوالد Oswald. هذه الرواية (التي كانت شهيرة في وقت من الأوقات) أصبحت الآن على وشك الاكتمال فراحت المؤلفة تبحث عن ناشر فرنسي، وكان الأمر يتطلب موافقة على الطبع من وزارة الداخلية، وأكد والد بروسبير Prosper - مدير شرطة ليمان Leman - لفوشي أن مدام دي ستيل قد أصبحت متحفظة وحذرة طوال العام الماضي، وبناء على هذا سُمِح لها بقضاء صيف سنة 6081 في أوكزير Auxerre (على بعد 021 ميلاً من باريس) فاتخذت لها فيلا هناك، وفي الخريف سُمِح لها بالانتقال الى روان Rouen لقضاء الشتاء، وزارها أصدقاء كثيرون في المدينتين وعبر بعضهم عن أمله في أن تحيق الهزيمة أخيراً بنابليون في معركة شرسة تجبره على قضاء الشتاء مع جيشه في الشمال المتجمدّ(93) وفضَّ البوليس السرّي التابع لنابليون مراسلات جيرمين (مدام دي ستيل) وعلم نابليون بمشاعرها. فكتب غاضباً إلى فوشيه Fouche في 13 ديسمبر لا تترك هذه البَّغي bitch مدام دي ستيل تقترب من باريس إنني أعلم أنها ليست بعيدة عنها(04) (وكانت قد انسلت بشكل سري إلى باريس وقضت فيها فترة وجيزة في ربيع سنة 7081) وأثناء الاستعداد لمعركة فريدلاند Friedland كتب نابليون إلى فوشيه في 91 أبريل:

من بين ألف أمر وأمر وصلني بشأن مدام دي ستيل يوجد خطاب يمكن أن يظهر لك كم هي لطيفة هذه المرأة الفرنسية الموجودة هناك.. حقيقة أنه من الصعب أن يكبح المرء سخطه ونقمته عند رؤية كل هذه المسوخ عند هذه البغي. لن أقول لك عن المشروعات التي أعدتها بالفعل هذه الزمرة السخيفة في حالة وقوع الحدث السعيد الممثل في مقتلي، مادام وزير الداخلية لابد أن يكون قد علم بذلك.

وفي 11 مايو كتب إلى فوشيه مرة أخرى:

لقد كتبت لي هذه المرأة المجنونة خطاباً من ست صفحات زادت فيه الخلاف إلى الضعف.. إنها تقول لي إنها اشترت عقاراً في وادي مونتمورنسي Montmorency وخَلُصت إلى أن هذا يخوّلها حق الإقامة في باريس. إنني أكرر لك أن معنى أن تترك هذا الأمل يُداعب خيال هذه المرأة هو أنك تُعذّبها دون مبرر. إنني لو أظهرت لك الأدلة التفصيلية على كل ما فعلته في محل إقامتها خلال شهرين لأصابتك الدهشة. حقيقة رغم بُعدي عن فرنسا بخمسمائية فرسخ، فإنني أعلم ما يحدث هناك بشكل أفضل من وزير داخليتي(14).

وعلى هذا فقد عادت جيرمين (مدام دي ستيل) على غير رغبتها إلى كوبت Coppet في 52 أبريل سنة 7081. وقد صحبها كونستانت Constant (الثابت رغم التقلبات) لكنه فارقها عند دول Dole ليقيم مع والده المريض. فلمّا وصلت إلى كوبت أرسلت شليجل إلى كونستانت (قستنطين) ليقول له أنه إذا لم يَعُد إليها فإنها ستقتُل نفسها. وكان بنيامين يعلم أن هذا تهديد خيالي (تهديد سيرانه أو بتعبير آخر تهديد امرأة فاتنة لعوب، والسيرانة كائن أسطوري عند الإغريق له رأس امرأة وجسد طائر) وليس تهديد أوزّة عراقية Swang (أي ليس تهديداً حقيقيا) ومع هذا فقد عاد إليها وتحمل صامتاً توبيخها. كان قد كفّ عن حبها منذ وقت طويل لكن كيف يقول المرء الحقيقة لامرأة لا إجابة عندها سوى ابتلاع الأفيون وفي العاشر من يوليو أتت جوليت ريسامييه Recamire في زيارة طويلة فأحبتها جيرمين (مدام دي ستيل) وقررت أن تعيش.

شاتو ده كوپـِّيه

وسمحت وزارة الداخلية بطبع روايتها كورين، وتم نشرها في ربيع سنة 7081 فأعطى المؤلفة انتصارا يُعزيها عن انتصار نابليون في فريدلاند Friedland في 41 يونيو. وكانت الكتابات التي موَّلتها الحكومة معادية للرواية لكن آلاف القراء عبروا عن رضاهم وسعادتهم بهذه الرواية. إننا اليوم غير مفتونين بشكل (بناء) هذه الرواية - إنها رواية عاطفية تخللتها مقالات كئيبة مؤرخة عن مشاهد وشخصيات وأحوال دينية وآداب وفنون في إيطاليا، ولم يؤثر بطل الرواية ذو الوجه الرجولي في أي من القراء (فقد تحوّل إلى شخصية ضعيفة) أو إيحاء سماوي تُوّج (بضم التاء) في عيني بطلة القصة(24). لكن في سنة 7081 لم تكن إيطاليا قد أصبحت بعد بلدا انتشر فيه التأليف، كانت بلادا أكثر شهرة في نواظرنا في مجالي التاريخ والفنون، وكان فن الرواية فَرْخاً ينشر جناحيه وكان الحب الرومانسي يناضل للتحرر من سلطان الوالدين والروابط الاقتصادية والمحرمات، وبدأت حقوق المرأة تجد من يُعبر عنها. وكان في رواية كورين كل هذه الأمور الفاتنة تجرى على لسان شخصيات تُغني الأشعار بشكل تلقائي وتداعب أوتار القيثارات الفاتنة، وكورين في شبابها (كشخصية في الرواية) هي نفسها - كما هو واضح جيرمين، بشال هندي حول خصلات شعرها الأسود الصقيل... وذراعاها جميلان جمالاً فائقاً.. وقوامها الذي ينم عن قوة ونشاط. وأكثر من هذا فإن حوارها وطريقة كلامها، يجتمع فيهما كل ما هو طبيعي وخيالي ودقيق وسام وقوي وحلو(34) انه لأمر غريب أن نقول إن الإمبراطور (نابليون) الذي لم يكن يُطيق مدام دي ستيل، عندما وصلت السفينة التي تقله إلى سانت هيلانه، تناول الكتاب (كورين) ولم يستطع أن يضعه جانباً إلا بعد أن قرأه حتى آخر سطر فيه(44).


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

عندما تصبح ألمانيا مفهومة

لقد أضافت الآن مدام دي ســتيل إلى مهامهــا (الإطاحــة بنابليــون والإنغماس في الملذات الحسية والمعنوية) مهمة أخرى وهو مشروع حساس يهدف إلى توضيح ألمانيا وشرحها للفرنسيين. وحتى عندما كانت روايتها الوليدة (كورين) تناضل دفاعاً عن نفسها ضــد الصحافـة الخاضعـة لسـلطة نابليـون، كانـت مـدام دي سـتيل تُخفـي فـــي نفســها معزوفة جَسُورة مفعمة في بلاد ما وراء الراين. ولإعداد نفسها لهذه المهمة (المعزوفة) ولتكون على وعي كامل بما هي مقدمة عليه شرعت في القيام بجولة سياحية أخرى في أوروبا الوسطى.

وفي 03 نوفمبر سنة 7081 غادرت كوبت مع ألبرت والبرتين وشليجل وخادمها الخاص (راعي ملابسها) يوجين Eugene (جوزيف أجينت Uginet). وفي فينا استمعت إلى موسيقا هايدن Haydn وجلوك Gulck وموزار Muzart لكنها لم تُعر بيتهوفن التفاتاً. وخلال ثلاثة أسابيع من بين الأسابيع الخمسة التي قضتها في النمسا راحت تمارس الحب مع الضابط النمساوي موريتس (موريس) أودونيل Moritz O'Donnell وعرضت عليه المال والزواج لكنها فقدته فكتبت إلى كونستانت خطابات مفعمة بالإخلاص الذي لا حدود له - قلبي وحياتي وكل ما عندي ملكك كما تشاء وكيف تشاء(54) لكنه اكتفى باقتراض بعض من أموالها. وفي تبلتس Teplitz وبيرنا Pirna أجرت مباحثات مع فريدرتش فون جينتس Friedrich Von Genz الناشر (النص وكيل الدعاية والإعلان Publicist) المعادي لنابليون عداء شديداً، وعندما علم نابليون بهذا اللقاء خَلُص بأنها تعمل على تدمير اتفاق السلام الذي عقده مؤخراً في تيليست Tilsit في شهر يوليو. وفي فيمار لم تجد شيلر (كان قد مات سنة 5081) ولا جوته، فواصلت طريقها إلى جوثا Gotha وفرانكفورت، وفجأة اعتراها المرض والإحباط فأسرعت عائدة إلى كوبت.

وربما ساهمت أخبار الموت التي تلقتها، في اتجاهها نحو التأمل الباطني (التصوّف)، وقد أسهم شليجل في ذلك أيضاً، لكن التأثير الأقوى كان من الزاهد جولي فون كرودنر Julie Von Krudener والدرامي الداعر زكاريا (زكريا) فيرنر Zacharias Werner وقد جال كلاهما في كوبت في سنة 8081. وبحلول شهر أكتوبر من هذا العام كان معظم ضيوفها بين الألمان وسادت اللغة الالمانية في صالونها واستسلم التنويريون لتأثير الدين الصوفي (ذي المنحى الباطني). لقد كتبت جيرمين (مدام دي ستيل) إلى أدونل OصDonnell لا حقيقة على هذه الأرض إلاّ الدين وسلطان الحب، وكل شيء آخر فان، بل إنه أكثر فناء من الحياة نفسها(64).

وفي هذا الجو كتبت كتابها عن ألمانيا De L'Allemagne. وفي سنة 0181 قَرُب كتابها من الاكتمال وتطلّعت إلى باريس لتطبعه فيها. وكتبت بتواضع إلى نابليون قائلة له إن ثمانية أعوام من النفي والبؤس قد غيّرت كل الشخصيات والقدر يعلِّم الاستسلام. واقترحت أن تذهب للولايات المتحدة وطلبت منه جواز سفر كما طلبت أن تقضي فترة انتقالية في باريس. فمنحها نابليون جواز السفر لكنه لم يوافق على دخولها باريس(74). ومع هذا ففي أبريل سنة 0181 تحركت بأسرتها ومعها شليجل إلى شومونت Chaumont (بالقرب من بلوا Blois) ومنها أشرفت على طبع كتابها المخطوط ذي المجلدات الثلاثة في تور Tours. وفي شهر أغسطس انتلقت إلى فوسي Fosse المجاورة.

وسلّم الطابع نيكول Nicolle بروفات (التجارب الطباعية) للمجلدين الأوّلين إلى الرقابة في باريس، فوافقت على الطباعة بعد حذف جمل قليلة غير مهمّة. وطبع نيكول خمسة آلاف نسخة وأرسل نسخاً للأشخاص ذوي الحيثية، وفي 3 يونيو أُزيح فوشيه وزير الداخلية المتعاطف، وحل محله الصارم رينيه سافاري (دوق دي روفيجو). وفي 52 سبتمبر أحضرت جوليت ريسامييه J. Recamier للرقيب بروفات (التجارب الطبيعية) المجلد الثالث، وبروفات المجلدات كلها مع خطاب من المؤلفة للأميرة هورتنس Hortense لتسليمها لنابليون. وقرر سافاري أن الكتاب ليس في صالح فرنسا ولا حاكمها وبالتالي فلا يمكن السماح بتوزيعه، ومن الواضح أن نابليون كان موافقاً على هذا المنع. وأمر وزير الداخلية الطابِعَ بوقف النشر، وفي 3 أكتوبر أرسل إلى مدام دي ستيل ملحوظة صارمة مؤداها أن تُنفِّذ ما كانت قد عقدت العزم عليه وأن تغادر إلى أمريكا فورا. وفي 1 أكتوبر هاجمت فرقة من الجنود دار الطباعة وحطمت ألواح الطباعة وحملت معها ما استطاعت الوصول إلىه من مجلدات الكتاب، وفي وقت لاحق جرى فَرْمها، وطالبَ ضُباط آخرون بمخطوط الكتاب فأعطتهم جيرمين (مدا دي ستيل) الأصل، لكن ابنها أوجست Auguste أخفى نسخة احتياطية. وعوّضت المؤلفة الطابعَ عن خسارته وانسلّت عائدة إلى كوبت.

وهذا الكتاب (عن ألمانيا) كما نُشر في سنة 3181 هو محاولة جادة لتناول كل جوانب الحضارة الألمانية في عصر نابليون بإيجاز وتعاطف. إن امرأةً لها هذه الاهتمامات الكثيرة والعشّاق الكثيرون ثم بعد هذا تجد الوقت الكافي لإنجاز هذا العمل، والطاقة والكفاءة اللتين تُعينانها على إتمامه، لهي حقاً إحدى عجائب هذه الفترة المتسمة بالهيجان والاضطراب. فمن خلال خلفيتها السويسرية العالمية وزواجها من واحد من بارونات الهولشتين Holestein وتراثها البروتستنطي وكراهيتها لنابليون كانت مؤهلة لإعطاء ألمانيا كل مزية وأن تجعل - تقريبا - كل ارتباط لها فيها في صالحها، وكانت تستخدم الفضائل الألمانية كوسيلة توجه بها نقدا غير مباشر لنابليون وطغيانه، ولتقدم الثقافة الالمانية للفرنسيين كثقافة غنية بالمشاعر والعواطف والدين وبالتالي كثقافة مناسبة بشكل جيد لتصحيح ما ساد بين مثقفي فرنسا من شكوكية ومصلحية وميل للسخرية.

ومن الغريب أن نقول أنها لم تهتم بفيينا رغم أن فيينا كانت مثلها مرحة وحزينة في آن واحد - مَرِحةً بسبب النبيذ والكلام (المناقشات والأحاديث) وحزينة بسبب موت الحب، وبسبب توالي انتصارات نابليون. كانت فيينا كاثلوليكية وجنوبية (لها مزاج أهل الجنوب) في موسيقاها وفنها وعقيدتها التي تكاد تكون عقيدة طفولية ساذجة، أما هي (مدام دي ستيل) فكانت بروتستنطية شمالية (لها مزاج أهل الشمال) مثقلة بالطعام والمشاعر تتقدم متعثرة في الفلسفة، لم يكن هنا ثمة كانط Kant وإنما موزار Mozart، فلا خلافات حادة ولا مناقشات ملتهبة، ولا كتابات للمفكرين تشبه الألعاب النارية فليس هناك إلا المسرات البسيطة التي نعم بها الأصدقاء والعشاق، والآباء والأبناء، والنزهات في الممتنزهات والتسكع على نهر الدانوب.

حتى الألمان أذهلها وضعهم مدفأة وبيرة (جعّة) وتدخين التوباكو حول كل تجمع شعبي، فيصبح الجو ثقيلاً حاراً مع هذا فهم لا يميلون أبداً إلى التخلي عنه(84) وكانت ترثي للبساطة الريقية التي يتصف بها اللباس الألماني، وميل الرجال الألمان للمسالمة (كونهم مروضين أو داجنين) واستعدادهم للتخلي عن السلطة. والانفصال بين الطبقات... أكثر ما يكون وضوحاً في ألمانيا منه في أي مكان آخر... فكل شخص محتفظ برتبته (المقصود وضعه الطبقي) ومكانه.. كما لو كان منصباً أو وظيفة مخصصة له منذ زمن طويل(94) لقد افتقدت في ألمانيا هذا التلاحم الخصب بين الارستقراطية والمؤلفين والفنانين والجنرالات والسياسيين، ذلك التلاحم الذي وجدته في المجتمع الفرنسي، فهنا في هذا المكان ليس لدى النبلاء سوى القليل من الأفكار، وليس لرجال الأدب خبرة عملية كثيرة بالأمور العامة(05). والطبقة الحاكم ظلت اقطاعية والمفكرون أضاعوا أنفسهم في أحلام لا أساس لها على أرض الواقع (أحلام في الهواء). وهنا اقتبست مدام دي ستيل القول المأثور الشهير الذي قال به جان بول ريشتر Jean Paul Richter: إمبراطورية البحار لإنجلترا، وإمبراطورية البر لفرنسا، أما ألمانيا فلها إمبراطورية الهواء(15) وأضافت قائلة (وهو قول (مرتبط بالموضوع الآنف ذكره): إن انتشار المعارف في العصر الحديث يؤدي إلى إضعاف الشخصية إذا لم يتم تدعيم هذا الانتشار بعادة العمل في المجالات المختلفة وتحقيق الإرادة(25).

وأُعجبت مدام دي ستيل بالجامعات الألمانية كأفضل جامعات في العالم في ذلك الوقت، لكنها كانت تأسى للغة الألمانية بما فيها من حروف صامتة متوالية، كما بغضت تركيب الجملة الألمانية وطولها، تلك الجملة التي تجعل الفعل الحاسم في آخرها (أي الفعل الأساسي الذي يحدّد المعنى)، وبذا تكون المقاطعة أو المداخلة أثناء الحوار أمراً صعباً(35)، وكانت تشعر أن المداخلة أو المقاطعة إنما هي حياة المناقشات. كما أنها وجدت في ألمانيا القليل جداً من المناقشات المُفعمة بالحيوية والمهذبة في الوقت نفسه(45). تلك المناقشات التي تعد خاصية من خواص الصالونات الباريسة. وهذا فيما ترى كان يرجع إلى عدم وجود عاصمة وطنية (واحدة) لألمانيا يمكنها - أي العاصمة - أن تجمّع مفكري البلاد (ألمانيا)، بالإضافة إلى العادة الألمانية المتمثلة في إبعاد الألمان للنساء عن مائدة العشاء أو الغداء عندما يشرعون في التدخين أو الحديث. في برلين قلما يتحدث الرجال إلا مع بعضهم، فالجو العسكري (المقصود الروح العسكرية) يجعلهم يتسمون بشيء من الخشونة والغلظة ينأى بهم عن مشاكل مجتمع النساء(55) وعلى أية حال ففي فيمار نجد السيدات مثقفات وميّالات للحب والعشق ونجد الجنود وقد هذبوا من عاداتهم وسلوكياتهم، ونجد الدوق وقد تحقق من أن شعراءه قد خلّدوا له مكانا لائقاً في التاريخ. ورجال الأدب في المانيا.. كوّنوا - في نواحٍ كثيرة - أكثر التجمعات المتنورة تميزاً في العالم(65).

لهذا السبب رحبت مدام دي ستيل بالفلسفة الألمانية رغم صعوبتها لأنها - مثلها في ذلك مثل مدام دي ستيل - تركز على الذات. إنها - أي الفلسفة الألمانية - ترى في الشعور (الوعي) معجزة أعظم من ثورات العلم. لقد رفضت سيكولوجيا لوك Locke وكونديلاس Condillace التي قصرت كل المعارف على الحواس، وبالتالي جعلت الأفكار آثاراً لأشياء خارجية، وهذا - فيما شعرت - يؤدي ولا مناص إلى المادية والإلحاد (إنكار وجود الله). وفي واحد من أطول فصول كتابها حاولت - بتواضع - أن تحدثنا عن جوهر الديالكتيك الكانطي (فلسفة كانط فيما يتعلق بالديالكتيك): إنه - أي هذا الديالكتيك - يُعيد العقل إلى مكانه كمشارك فعّال في البحث عن الحقيقة، والإرادة الحرة (حرية الاختيار) كعنصر فعلا في تقرير الأفعال، والالتزام الخلقي الذي يمليه المضير كمقوِّم (بتشديد الواو كرسها) أساسي للأخلاق. لقد شعرت أنه بهذه النظريات فصل كانط Kant بيد ثابتة إمبراطورية الروح عن إمبراطورية الحواس(75) وعلى هذا فقد أقام الأساس الفلسفي للمسيحية كبناء خُلقي فعّال.

ورغم أنها كانت قد جعلت من الوصية السادسة من الوصايا العشر ساحة مخضبّة بالدماء إلا أنها اقتنعت أنه لا حضارة تبقى بلا أخلاق، ولا أخلاق بلا عقيدة دينية. ودللت على أن تدخل العقل في الدين إجراء خائن فالعقل لا يعطي السعادة لمن فقدوها(85) فالدين سلوى البؤساء وثروة الفقراء ومستقبل الأموات(95) وفي هذا وافقها الإمبراطور والبارونات. وعلى هذا فقد كانت تُفضل بروتستنطية ألمانيا على الكاثوليكية التي تدعيها الطبقة العليا الفرنسية. واهتزت مشاعرها عند سماع الترانيم الدينية الرائعة منطلقة من حناجر الألمان في الأماكن المخصصة للتراتيل في الكنائس وفي المنازل والشوارع، واشمأت لأن أثرياء الفرنسيين يفضلون حضور البورصة (سوق الأوراق المالية) تاركين الفقراء ليلتقوا بالرب (المقصود لينفردوا بالتعبّد)(06). وكان لديها كلمة طيبة تقولها للإخرة الموراقيين، فالفصل الأخير في كتابها يمثل دعوة للحماسة الصوفية (الوجد الديني الباطني) - إنه المعنى الباطني للدعوة إلى الله كُلّي الوجود (سبحانه).

لقد كان كتاب (عن ألمانيا) واحداً من رز الكتب في عصره، لقد كان بالنسبة لها يُمثل قفزة هائلة من كورين (الرواية) إلى كانط (الفيلسوف) مع ما فيه من بعض القصور لظروف العصر، ونزوع كاتبته إلى التمرد. وكان نابليون حكيما عندما قلّص تأثيره بالاقلال من امتداحه. لقد كان كتاباً رائعا من سيّدة غير متعاطفة مع توجهات الحكومة. لقد انتقدت الرقابة على المطبوعات بشدّة، لكن كان عليها أن توضح قضيتها وتدعمها. لقد امتدحت ألمانيا في كثير من الصفحات على حساب فرنسا، لكنها غالبا ما كانت تمتدح فرنسا على حساب ألمانيا، ويحوي الكتاب مئات الفقرات تبث فيها حبها لوطنها (فرنسا) المحرم عليها. وتناولت بخفة وحساسية الموضوعات الغامضة (غير الواضحة) لكنها كانت تهدف إلى جذب اهتمام قِطَاع عريض من القراء في فرنسا، وبتلك الوسيلة تحقق تفاهماً عالميا. لقد طالبت بتزاوج خصب بين الثقافتين الفرنسية والالمانية مما قد يُساعد نابليون في توحيد اتحاد الراين Rhenish Confederation مع فرنسا(16). لقد كتبت بذكاء - وأحياناً بألمعية - مزّينة صفحات كتابها بالأفكار والملاحظات التنويرية. وأخيراً لقد قدمت ألمانيا إلى فرنسا، كما سرعان ما قدمها (ألمانيا) كوليردج Coleridge وكارليل Carlyle لإنجلترا. يقول جوته: إن هذا الكتاب لابد من اعتباره صدعا في سور الصين العظيم الذي فصل الأمتين الفرنسية والالمانية، نتيجة سوء الفهم والاحكام المسبقة، لقد أصبح الألمان الآن معروفين بشكل أفضل فيما وراء الراين وفيما وراء القنال (يقصد بحر المانش) - الأمر الذي لن نعدم بسببه تحقيق نفوذ كبير في كل غرب أوروبا(26). لقد كانت امرأة أوروبية جيّدة.


نَصْرُ لم يكتمل

مؤلف آخر - ولا غيره - كان يمكن أن يفهم ماذا يعني لجيرمين دي ستيل أن يبقى انتاجها المتراكم وفكرها غير منتشر، وقابع في مُعتزلات كوبت، كوليد وأدوه عند مولده. لقد اكتشف أن بيتها محاط بجواسيس الإمبراطور، وأن بعض خدمها تلقّوا الرشاوى لكتابة تقارير عنها، وأن أي صديق يجسر على زيارتها سيتعرض لانتقام الإمبراطور وأُحيط ذوو الحيثية - الذي أنقذتهم وثرواتهم أثناء الثورة الفرنسية - علماً بألا يقتربوا منها الآن(36).

ومع هذا فقد كان هناك موقفان مُرْضيان لها. في سنة 1181 قابلت ألبير-جان روكا Albert-Jean Rocca وكان عند التقائه بها في الثالثة والعشرين من عمره، وكان ليفتنانت ثاني، أصيب بجرح في إحدى المعارك وأصبح أعرج، ومصاباً بالسل، وقد أحبها وكانت وقتها في الخامسة والأربعين ولم يعد جسدها على ما يرام وما عاد مزاجها في التمام إلاّ أنها كانت متألقة فكرياً، ولم تكن بغير جاذبية مالية.

وحاصرها جون وأنجب منها طفلاً، ورحبت جيرمين بالحب الجديد متحدية الشيخوخة ملتمسة تأخيرها - وكان أملها الثاني هو أنها إن استطاعت أن تتخذ طريقها إلى السويد أو إنجلترا فربما تجد ناشراً لمخطوط كتابها الذي أخفته (عن ألمانيا)، لكنها لم تكن تستطيع أن تلتمس طريقاً إلى السويد خلال أي من المناطق الخاضعة لسلطة نابليون، فقررت أن تأخذ مخطوطها سراً عبر النمسا ومن ثم عبر روسيا إلى سان بطرسبرج ومنها إلى ستوكهولم حيث سيساعدها الأمير بيرنادوت. ولم يكن يسيراً عليها أن تترك الوطن الذي حققت فيه شهرتها، وفيه قبر أمها التي لم تستطع - الآن - نسيانها وقبر أبيها الذي كان لايزال يبدو لها حكيم السياسة وقديس المال - وفي 7 أبريل سنة 2181 أنجبت ابنها من روكا Rocca وأرسلته إلى مربية تعتني به، وفي 32 مايو سنة 2181 استطاعت أن تفلت من مراقبة كل جواسيس نابليون فصحبت ابنتها ألبرتين وابنيها وعشيقها العجوز شليجل وعشيقها الجديد روكا Rocca أو أنها سبقتهم ثم تبعوها هم، قاصدة فيينا على أمل أن تدبر هناك جواز سفر إلى روسيا ومن ثم تجد طريقها إلى سان بطرسبرج وقيصر الوسيم المتحرر المتحلي بروح الفروسية. وفي 22 يونيو عبر نابليون بخمسمائة ألف جندي النيمن Neimen في روسيا على أمل أن يجد هناك قيصر المهزوم النادم.

وقد روت جيرمين قصة رحلتها هذه في كتابها عشر سنوات في المنفى Ten Years of Exile. إن المرء وهو يتأمل الآن هذه الإرادت والأحداث المتشابكة، ليدهش للشجاعة التي دفعت هذه المرأة المنهكة عبر آلاف العوائق والمشاكل لتصل - عبر شعب كان التصور أنه بربري - إلى زيتومير (تسيتومير Zhitomir) في بولندا الروسية (المناطق البولندية التابعة لروسيا) قبل وصول جيوش نابليون بثمانية أيام فقط(46) لقد أسرعت إلى كييف Kiev ومنها إلى موسكو حيث - ويا للقدر - تلبثت لزيارة الكرملين Kremlin لتستمع إلى موسيقا الكنيسة وتزور المبرزين المحليين في العلم والأدب. وقبل وصول نابليون بشهر غادرت موسكو عن طريق نوفجورود Novgorod إلى سان بطرسبرج، وفي كل مكان في المدن التي مرت عليها تلَّقاها الناس كحليف مميز في الحرب ضد الغازي (نابليون). وتملَّقت القيصر وامتدحته كأمل للحرية الأوروبية (الليبرالية الأوروبية European Liberalism) وخططت معه لتنصيب بيرنادوت Bernadotte ملكاً على فرنسا.

وفي سبتمبر وصلت إلى ستوكهولم وساعدت في إدخال بيرنادوت في تحالف ضد نابليون(56) وبعد أن أقامت في السويد ثمانية أشهر عبرت إلى إنجلترا، فنادت بها لندن كسيدة أوروبا الأولى، وأتى بايرون Byron وغيره من ذوي الحيثيات لتقديم احترامهم لها، ولم تجد صعوبة في ترتيب نشر مجلدات كتابها (عن ألمانيا) مع ناشر كتب بايرون وهو جون مري Murray (كان هذا في أكتوبر سنة 3181)، وبقيت في إنجلترا بينما الحلفاء يهزمون نابليون في ليبتسج Leipzig، ويتجهون إلى باريس ويضعون لويس الثامن عشر Louis XVIII على العرش. وعندها (في 21 مايو سنة 4181) أسرعت بعبور القنال الإنجليزي (المانش) واستعادت صالونها في باريس بعد عشر سنوات في المنفى واستضافت ذوي الحيثية من اثنى عشر بلداً - الاسكندر، وولينجتون Wellington وبيرنادوت، وكاننج Canning وتاليران، ولافاييت Lafayette. ولحق بها كونستانت Constant وتألقت مدام ريساميه Recamier مرة أخرى. ودعت جيرمين (مدام دي سيتل) اكسندر Alexander إلى تذكّر اعلاناته (بياناته) الليبرالية، وحث الاسكندر وتاليران الملك لويس الثامن عشر أن (يمنح to grant) رعاياه الذين استعادهم دستورا ينص على وجود مجلسين تشريعيين على النسق البريطاني، وأخيراً أصبح لمونتسكيو Montesqieu طريقه. لكن مدام دي ستيل لم تكن تحب كلمة (يمنح to grant) هذه فقد أرادت أن يعترف الملك بسيادة الشعب وسلطته المطلقة. وفي يوليو سنة 4181 اتخذت طريقها عائدة إلى كوبت Coppet منتصرة فخورة، لكنها كانت تحس باقتراب أجلها.

إن مغامراتها ومعاركها وحتى انتصاراتها استنزفت حيويتها المذهلة. ومع هذا فقد اهتمت بروكا Rocca أثناء موته، ورتبت لزواج ابنتها من الدوق دي بروجلي Broglie وبدأت تكتب تحفتها ملاحظات على الأحداث الرئيسية للثورة الفرنسية Considerations sur les principaux evenement de la Revolution Francaisc في 006 صفحة. وكان الجزء الأول من هذا الكتاب مُخصصا للدفاع عن نيكر Necker (أبيها) في كل سياساته، والثاني تشجب فيه بقوة حكم نابليون الاستبدادي. فهو - أي نابليون - بعد استيلائه على السلطة بدت كل حركة من حركاته في ناظريها خطوة نحو الدكتاتورية، وكانت حروبه - في ناظريها - دعامات ومبررات لممارسة الحكم المطلق، وقبل ستندهال Stendhal - قبل تين Taine بكثير - كانت تُشبِّه نابليون بالقادة العسكريين الإيطاليين في القرنين الرابع عشر والخامــس عشر(66) لقد قرأ مبـادئ ميكافيلي في الحكم واقتنع بها دون أن يشعر بحبٍ لوطـنه يمكـن مقارنته بحبـه لهـذه المبــادئ. لــم تكن فرنســا حقيقة بلاد آبائه وإنما كانت حجراً يعتليه ليعلو فوقه. ولم يكن الدين بالنسبة له قبولاً متواضعاً بوجود الموجود الأعظم وإنما أداة للفتح والغزو والسلطة، فالرجال والنساء لم يكونوا في ناظرية أرواحاً وإنما مجرد أدوات(76). لم يكن سفاحاً متعطشاً للدماء ولكنه كان دوما غير مبال بالقتلى مادام النصر قد تحقق. لقد كانت فيه غِلظة قائد العساكر المرتزقة وليس خلق الإنسان المهذب (الجنتلمان) وأدى هذا إلى تتويج سُوقي جعل من نفسه قاضياً ورقيباً على كل حديث وكل فكر، وعلى كل الصحافة التي كانت هي الملاذ الأخير للحرية، وعلى الصالونات التي كانت قلاعاً للعقول المتحررة في فرنسا. إنه لم يكن ابن الثورة، وإن كان ابناً لها فهو أيضاً قاتلها(86).

وعندما علمت مدام دي ستيل بخطة تُحبَك لقتل نابليون ذلك الإمبراطور المعزول عن العرش أسرعت بإخبار أخيه جوزيف بذلك وعرضت أن تذهب إلى إلبا Elba لتحمي عدوّها المخلوع، فأرسل نابليون يشكرها على موقفها، وعندما عاد من إلبا Elba واستعاد حُكم فرنسا دون تفاخر، لم تستطع أن تكتم إعجابها بشجاعته: إنني لن أكف عن معارضة نابليون لقد فعل ما هو طبيعي لاستعادة عرشه، وكانت مسيرته من كان Cannes إلى باريس واحدة من أعظم مظاهر الجُرأة والجسارة في التاريخ(96).

وبعد واترلو Waterloo انسحبت أخيراً من ميدان الصراع السياسي. ولم تستسغ احتلال قوات اجنبية لفرنسا كما لم تستسغ اندفاع النبلاء القدامى لاستعادة الأرض والثروة والسلطان. وعلى أية حال فقد كانت سعيدة بأن يرسل لها لويس الثامن عشر العشرين مليون فرنك التي كانت الخزانة الفرنسية مدينة بها لأبيها نيكر Necker أو لورثته. وفي العاشر من أكتوبر سنة 6081 تزوجت روكا Rocca بشكل شخصي (دون مراسم زواج) وفي 61 أكتوبر رغم أن كليهما كان مريضاً، اتجها إلى باريس وأعادت جيرمن (مدام دي ستيل) افتتاح صالونها. وكان هذا آخر نصر حققته. وحضر لصالونها أشهر قاطني باريس: وحضر ولنتجتون من انجلترا، بلوشر Blucher وفلهلم فون همبولدت WilhelmVan Humboldt من بروسيا، وكانوفا Canova من إيطاليا، وهنا بدأ شاتوبريان حكايته الرومانسية مع مدام ريساميه. لكن صحة جيرمين كانت قد تدهورت كثيراً وخاب أملها في الذين استعادوا العرش وراحت هذه الخيبة تزداد عندما بدأ الملكيّون يعملون على إزالة كل أثر للثورة الفرنسية من الحياة السياسية. ولم يكن هذا هو حلمها الذي حلمت به لقد عرَّفت في كتابها (ملاحظات عن الوقائع الرئيسية للثورة الفرنسية) الطغيان (الحكم المطلق) بأنه تجمّع السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية في شخص واحد، وأصرّت على وجود جمعية وطنية ينتخبها الشعب المخول، لا مجال للتعيين فيها.

ولم تعش مدام دي ستيل حتى ترى كتابها هذا منشورا لقد ضعف جسدها لفرط ما أفرطت في ممارسة العواطف والجنس، وتسمَّم لفرط ما تناولت من مخدرات، ولم تكن تستطيع النوم إلا إذا زادت من جرعات الأفيون، وفشل جسدها في محاولاته لدعم عقلها. وفي 12 فبراير سنة 7181 وبينما هي تصعد السُّلَّم لحضور استقبال دعاها إليه أحد وزراء لويس الثامن عشر، ترنحت وسقطت إذا أصابها شلل دماغي، وظلت طوال ثلاثة أشهر منطرحة على ظهرها لا تستطيع حراكاً لكنها كانت قادرة على الكلام وشاعرة بالألم. وحثت ابنتها على القيام بدورها كمضيفة في صالونها. قالت لشاتوبريان لقد أحببتُ الله وأبي والحرية(07) وماتت في 41 يوليو سنة 7181 (الذكرى السنوية لسقوط الباستيل) ولم تكن قد بلغت عند موتها الواحدة والخمسين وبعد أربعة أعوام مات عدوها العظيم (نابليون) ولم يبلغ الثانية والخمسين.

وقد نتفق مع ماكولي Macaulay أنها كانت أعظم امرأة في زمانها(17) وأعظم اسم في عالم الأدب والفكر بين روسو وشاتوبريان. وكانت أعمالها (كتاباتها) ذوات أهمية من حيث الهدف والمدى أكثر من أهميتها من حيث كونها أعمالا أدبية خالصة وكان فكرها أكثر انتشاراً (يشغل رقعة واسعة) أكثر من كونه عميقاً. وكانت تشترك مع عدوها الذي اختارته (نابليون) في كثير من الصفات: شخصية قوية: طاغية، شجاعة عند النزاع، روح مهيمنة وثابة، تعصّب للرأي، لكن كان ينقصها عقله الواقعي فكان خيالها - كما يبدو في رواياتها - طفولياً رومانسياً، إذ ما قورن بأحلامها السياسية. لنتركه (أي نابليون) يلخصها لنا من خلال منظوره في جزيرته المنعزلة: لقد أصبح بيت مدام دي ستيل ترسانة حقيقية تصوّب أسلحتها ضدي. لقد كان يأتيها كثيرون ليتسلَّحوا كما لو كانوا فرسانها في حرب يشنونها ضدي... ومع هذا فمن الحق أن نقول إنها كانت امرأة ذات موهبة عظيمة وتمييز فائق وشخصية قوية. إنها ستتحمّل وتثبُت(27).


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

انظر أيضاً

الهامش

  •  Chisholm, Hugh, ed. (1911). "Staël, Madame de" . دائرة المعارف البريطانية (eleventh ed.). Cambridge University Press. {{cite encyclopedia}}: Cite has empty unknown parameter: |coauthors= (help)

المصادر

ديورانت, ول; ديورانت, أرييل. قصة الحضارة. ترجمة بقيادة زكي نجيب محمود.