المؤتمر الوطني

المؤتمر الوطني

Convention nationale
الجمهورية الفرنسية الأولى
Coat of arms or logo
درع المؤتمر الوطني or
الدرع الجمهوري
فرانسو-ليون سيكار
پانثيون دى پاري، فرنسا، 1913
النوع
النوع
أحادي الغرفة
التاريخ
تأسس20 سبتمبر 1792
انحل3 نوفمبر 1795
سبقهالجمعية التشريعية
تلاهالكيان التشريعي
المقاعد850
مكان الانعقاد
قصر تويلري، پاريس
سلسلة عن
تاريخ فرنسا
الغال الكلتيون
الغال الرومانية
الفرنجة
العصور الوسطى
فرنسا أوائل العصر الحديث
الثورة إلى ح.ع.1
الثورة الفرنسية
الأسباب
مجلس طبقات الأمة
الجمعية الوطنية
اقتحام الباستيل
الجمعية الوطنية
التأسيسية
(1, 2, 3)
الجمعية التشريعية
وسقوط الملكية
المؤتمر الوطني
وعهد الرعب
الديركتوار
القنصلية
الحرب في الڤندي
شوانري
متعلقات: معجم,
خط زمني, الحروب,
قائمة الشخصيات,
التاريخانية
الامبراطورية الأولى
الاستعادة
ملكية يوليو
الجمهورية الثانية
الامبراطورية الثانية
الجمهورية الثالثة
الجمهورية الرابعة
فرنسا الحديثة

أثناء الثورة الفرنسية، المؤتمر الوطني Convention nationale أو المؤتمر La Convention، في فرنسا، تكون من المجلس التدبري الدستوري والتشريعي الذي انعقد من 20 سبتمبر 1792 إلى 26 اكتوبر 1795 (الرابع من برومير من السنة الرابعة حسب التقويم الجمهوري الفرنسي الذي سنـّه المؤتمر). وقد احتفظ بالسلطة التنفيذية في فرنسا أثناء الأعوام الأولى من الجمهورية الفرنسية الأولى. وقد أعقبه الديركتوار، بدءاً من 2 نوفمبر 1795. الأعضاء البارزون في المؤتمر الأصلي ضموا ماكسيمليان روبسپيير من نادي اليعاقبة، جان-پول مارا (المحسوب على اليعاقبة، بالرغم من أنه لم يكن عضواً رسمياً قط)، وجورج دانتون من الكوردليير. ومن 1793 إلى 1794، كانت السلطة التنفيذية فعلياً في يد لجنة السلامة العامة للمؤتمر.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

التشكيل: الجمهورية الجديدة

في قاعة المداولات في التويلري انعقد المؤتمر الوطني في 9 مايو 1793. ثم انتقل بعد ذلك إلى قاعة الماكينات القديمة في قصر تويلري، وهي قاعة كبيرة في الدور الأرضي، تُستخدم لمختلف العروض. والقاعة الآنف ذكرها تتسع لما بين 800 إلى 900 شخص، وأحيانا قد يصل الحضور فيها إلى ضعف هذا الرقم.

أدار اليعاقبة بحذق ومهارة انتخابات هذه الجمعية الثالثة (المؤتمر الوطني) التي تعتبر ذروة المد الثوري وانحداره في الوقت نفسه، وكانت مهارتهم في هذه الانتخابات تفوق حتى مهارتهم في انتخابات سنة 1971. لقد وجهوا الأمور بعناية بشكل غير مباشر: فالمصوتون يختارون الناخبين الذين يلتقون في جمعية انتخابية تختار بدورها النواب أو الوكلاء الذين يمثلون دوائرهم الانتخابية في المؤتمر الوطني، وكان الانتخاب في المرحلتين علنا وبالتعبير الصوتي عن الرأي، وكان الناخب - في كل مرحلة - يتعرض للأذى إن هو أغضب الزعماء المحليين(1). وفي المدن رفض المحافظون التصويت "فقد كان عدد الممتنعين كبيرا"(2) فمن بين سبعة ملايين شخص مؤهلين للتصويت امتنع 6,3 (3). وفي باريس بدأ التصويت في 2 سبتمبر واستمر لعدة أيام، بينما كانت المذبحة عند بوابات السجون ترسل الإشارات وتعطى التلميحات للناس: كيف تصوتون وكيف تبقون على قيد الحياة. وفي كثير من المناطق أحجم الكاثوليك الأتقياء عن التصويت وانتخبت منطقة فندي Vendee` المعروفة بانتمائها الملكي القوي تسعة نوّاب سيصوّت ستة منهم بالموافقة على إعدام الملك(4). وفي باريس اجتمعت الجمعية الانتخابية في نادي اليعاقبة وانتهوا إلى أن الأربعة والعشرين نائباً المختارين لتمثيل العاصمة لا بد أن يكونوا مقتنعين بالجمهورية وأن يكونوا مؤيدين للكومون:

دانتون Danton ، وروبيسبير Robespierre ومارا Marat وديمولين Desmoulins وبلو- فارن Billaud- Varenne وكولو دربوا Collot d 'Herbois وفريرون Freron وديفد David) الرسام) ... وفي المحافظات قام الجيروند Girondins ببعض الاستعدادات الخاصة بهم، ومن ثم فإن بريسو Brissot ورولان Roland وكوندرسيه Condorcet وبيتيو.Pétion وجود Goudet وباربارو Barbaroux وبوزو Buzot ربحوا حق الخدمة والموت. ومن بين الأجانب الذين جرى انتخابهم بريستلي Priestley وكلوتز Cloots وبين Paine ، وتم اختيار دوق أورليان Duc d`Orleans الذي أعاد تسمية نفسه باسم المواطن فيليب المحب للمساواة(ü) Citizen Philippe Egalité لتمثيل الحي (القسم) الراديكالي في باريس.

التمثيل في المؤتمر بعد انتخابات 1792. وقد اُنتُخِب بأقل من 10% من سكان فرنسا، فإن المؤتمرين وعددهم 749 كانوا جميعاً من الحركة الثورية. التكتلات، تركبيها يتذبذب، بدون خطوط سياسية واضحة. فالجبل والجيروند لم يكونوا أحزاباً بالمعني الحالي للمصطلح. ومعظم النواب، « السهل » (لم يكونوا « معتدلين »)، فقد كانوا يتبعون الجبليين أو الجيروند على حسب تقديرهم لأي الفريقين يجسد الأمال الجماعية.

وكانوا جميعا - فيما عدا عضوين - من الطبقة الوسطى وعندما اجتمع المؤتمر الوطني في التوليرى في 21 سبتمبر سنة 1792 كان يضم 750 عضواً، وكان هذان العضوان من العمّال، وكان الأعضاء كلهم تقريبا من المحامين، وكان الجيرونديون وعددهم 180 عضواً منظمين ومتعلمين وفصحاء وبلغاء هم الذين تولوا القيادة في مجال التشريع. وكان هناك استرخاء في إصدار القوانين ضد المشكوك في ولائهم والمهاجرين (الذين تركوا فرنسا إثر أحداث الثورة) والقسس كما كان هناك تحرر من السيطرة على الاقتصاد، على أساس أنه لم يعد هناك خوف الآن من الغزو الأجنبي، لكن سرعان ما ظهرت الشكايات من الاستغلال والتلاعب بالأسعار. ولإسكات حركة ظهرت بين الراديكاليين بمصادرة الملكيات الكبيرة وتوزيعها على الشعب، أعلن الجيرونديون في اليوم الأول للمؤتمر احترام الملكية الخاصة. وهكذا هدأت الأمور فاتفق الجيرونديون مع أعضاء الجبل (اليسار) وأعضاء السهل (المعتدلون) على إعلان الجمهورية الفرنسية الأولى في 22سبتمبر سنة 1792 وفي اليوم نفسه أصدر المؤتمر الوطني مرسوما، بعد عام من الدراسة والضبط والتعديل بإبطال التقويم المسيحي (الميلادي) في فرنسا وممتلكاتها ليحل محلة تقويم ثوري تبدأ فيه السنة الأولى (من 22 سبتمبر 1792 إلى 21 سبتمبر 1973) ثم السنة الثانية فالثالثة وهكذا وأن تسمى الشهور على وفق الحالة المناخية المعتادة (النمطية) شهر قطف العنب (فينرمينير (Vendémiaire وشهر الضباب (برومير Brumaire ) وشهر الصقيع (فريمير (Rrimaire بالنسبة للخريف، وشهر تساقط الثلج (نيفوز (Nivose، شهر المطر (بلوفيوز (Pluviose، شهر الرياح (فينتوز (Ventose بالنسبة للشتاء، وشهر التبرعم (جيرمينال (Germinal وشهر الإزهار (فلوريال (Floréal وشهر المروج الخضر (بريريال (Prairial بالنسبة للربيع، وشهر الحصاد (مسيدور (Massidor وشهر الدفء (ثيرميدور(Thermidor وشهر الفواكه (فركيتدور (Fructidor بالنسبة للصيف، وقد تم تقسيم الشهر إلى ثلاثة أقسام Décades كل قسم عشرة أيام وينتهي كل قسم بيوم يقال له ديكادي décadi هو يوم الراحة بدلا من يوم الأحد الذي كان يوم راحة في التقويم الميلادي، وخمسة الأيام الباقيات في السنة تسمى(السانس كولوتيد (Sans - Culottides يكــون فيها مهرجـان وطني، وكان المؤتمر الوطني يأمل أن يذكر هذا التقويم الفرنسيين بالأرض والعمل الذي يجعلها مثمرة لا بالقديسين religious saints والمواسم. فستحل الطبيعة محل الرّب God وتم استخدام هذا التقويم الجديد في 24 نوفمبر سنة 1793 وانتهى استخدامه في نهاية سنة 1805 للميلاد.

لقد وافق الجيرونديون وأعضاء الجبل (اليسار) على إقرار الملكية الخاصة وعلى الجمهورية وعلى الحرب على المسيحية، لكنهم اختلفوا اختلافا شديدا جدا في قضايا أخرى مختلفة، فالجيرونديون شجبوا بشدة النفوذ الجغرافي لباريس، باعتباره غير متوازن مع بقية المحافظات، فأهل باريس بنوابهم وجماهيرهم يؤثرون بإجراءاتهم التي يتخذونها في كل فرنسا، وامتعض الجبليون(ü) Montagnards) من تأثير التجار وأصحاب الملايين في تكديس الجيرونديين لأصوات الناخبين. واستقال دانتون (الذي حصل في دائرته الانتخابية على 638 صوتا من مجموع أصوات الناخبين وعددهم 700) من منصبه كوزير للعدل ليقوم بمهمة التوحيد بين الجيرونديين وأهل الجبل (اليسار) في سياسة العمل على إقرار السلام مع بروسيا والنمسا لكن الجيرونديين لم يكونوا يثقون به باعتباره معبود باريس الراديكالية وطالبوا ببيان بمصروفاته كوزير ولم يقدم لهم تفسيرا يقنعهم بالمبالغ التي أنفقها (كان دانتون من المؤمنين الكبار بجدوى الرشاوى) ولم يقدم لهم أيضا تفسيرا يقنعهم بكيفية حصوله على الأموال التي مكنته من شراء ثلاث منازل في باريس وضواحيها والعقارات الكبيرة في محافظة أوب Aube، فالذي لا ينكر أنه كان يعيش حياة مترفة، واتهم مستجوبيه بالعقوق ووجه جهده للتوفيق والمصالحة في الداخل والخارج وضم جهوده إلى جهود روبيسبير.

ورغم أن روبيسبير كان هو الشخصية الثانية بعد دانتون من حيث الشعبية في أحياء (أقسام) باريس إلا أنه كان لا يزال حتى الآن شخصية ثانوية بين نواب المؤتمر الوطني، فعند التصويت على رياسة المؤتمر لم يحز إلا على ستة أصوات، بينما حصل رولان Roland على 235 . وكان معظم النواب يعتبرونه متغطرسا غارقا في العموميات والتفاهات الافتراضية نهازاً للفرص يتحين الوقت المناسب بصبر ليستحوذ على سلطات إضافية، لكن ما تنطوي عليه اقتراحاته من وضوح واستقامة قد جعلت نفوذه يزداد - ببطء - شيئا فشيئاً، فقد نأى بنفسه عن التورط المباشر في الهجوم على التوليري وفي أحداث مذبحة سبتمبر، ومنذ البداية كان يدافع عن حق الانتخاب العام للذكور الراشدين كلهم رغم أنه من الناحية العملية، تغاضى عن مسألة إبعاد الملكيين والكاثوليك عن المشاركة في الاقتراع والإدلاء بأصواتهم ودافع عن الملكية الخاصة ولم يشجع دعوى مصادرة الممتلكات وتوزيعها، وعلى أية حال فقد اقترح ضريبة على المواريث وضرائب أخرى بالإضافة إلى إجراءات أخرى مهذبة لكنها فعالة لمعالجة التفاوت الشديد في الثروات(5) .

وفي هذه الأثناء راح ينتظر الفرصة المناسبة وسمح لمنافسيه بإرهاق أنفسهم حماسة وتطرفا، وبدا مقتنعا أنه سيحكم يوما وتنبأ أنه سيقتل ذات يوم(6). "لقد كان يعرف - كما يعرف هؤلاء الرجال كلهم أنه يكاد يحمل ساعة بعد ساعة روحه في كفه"(7).

لقد كان مارا Marat - وليس دانتون ولا روبيسبير - هو الذي ناصر البروليتاريا وناضل من أجلها، وقد غير مارا عنوان جريدته ليصبح "جريدة الجمهورية الفرنسية Journal de la République Francaise ". لقد بلغ الآن التاسعة والأربعين من عمره (كان عمره روبيسبير في الرابعة والثلاثين، وكان دانتون في الثالثة والثلاثين) ولم يبق له لينهي حياته سوى أقل من عام لكنه ملأ هذه الفترة بانشغاله بمعركة عنيدة وصلبة ضد الجيرونديين باعتبارهم أعداء للشعب وباعتبارهم ممثلين للبورجوازية التجارية الصاعدة التي ظهر أنها تعمل على استخدام الثورة سلاحاً سياسياً لصالح "المشروعات والنشاطات الاقتصادية الحرة" التي يتسم بها الاقتصاد الحر، وكان نقده الساخر وخطبه اللاذعة تتردد في باريس ومنها وتثير الأحياء (الأقسام) وتحرضها على التمرد وتشيع في المؤتمر الوطني روح العداوة العامة، وقد شجب الجيرونديون ما أسموه "بحكومة الثلاثة" ويقصدون دانتون وروبيسبير ومارا، لكن دانتون تبرأ منه وتنكر له، وتحاشاه روبيسبير فجلس مارا مع الجبليين (اليسار) لكنه كان عادة منفرداً وحيداً بلا أصدقاء. وفي 25 سبتمبر سنة 1792 قرأ فيرجنيو Vergniaud وآخرون في المؤتمر الوطني وثيقة تفيد أن مارا Marat كان قد دعا إلى دكتاتورية وأنه كان قد تسبب في الإثارة التي أدت إلى المذبحة، وعندما هب مارا (نصير الشعب) للدفاع عن نفسه، هوجم بغير هواده بصيحات "اجلس!" فقال "يبدو أن هناك أعداء كثيرين لي في هذا المؤتمر" فصرخ الجيرونديون: "كلنا أعداؤك". وعمل مارا على تكرار طلبه بقيام دكتاتورية على النمط الروماني المحدود واعترف بتحريضه على العنف لكنه برأ دانتون وروبيسبير من أي مشاركة في خططه، واقترح واحد من النواب القبض عليه ومحاكمته بتهمة الخيانة لكن هذه الحركة لم تنجح، وأخذ مارا مسدسه من جيبه وصوبه إلى رأسه وأعلن:"إذا صدر مرسوم باتهامي فسأنثر مخي عند أقدام الشعب"(8). وكان موقف الجيرونديين الذين قادوا فرنسا في الحرب على الأعداء - قويا في هذه الشهور بسبب انتصارات جيش فرنسا وانتشار القوات الفرنسية والأفكار الثورية.

ففي 21 سبتمبر سنة 1791 قاد الجنرال آن-پيير دي منتسكيو-فيزنسا Anne-Pierre Montesquieu-Fezensac قواته محققا فتحا سهلا لسافوى Savoy (كانت وقتها جزءاً من سردينيا) وذكر في تقرير له إلى المؤتمر الوطني أن "تقدم جيشي إنما هو نصر، فقد كان الناس في الريف والمدينة يخرجون لاستقبالنا وكان الناس في الأنحاء كلها يضعون الشارة الثلاثية ألوانها"(9) وفي 27 سبتمبر دخل قسم آخر من الجيش الفرنسي نيس Nice بلا مقاومة، وفي 29 سبتمبر فيلفرانش Villefranche وفي 27 نوفمبر تم إدماج سافويSavoy في فرنسا بناء على طلب زعمائها السياسيين المحليين.

أما فتح بلاد الراين Rhineland فكان أمراً أكثر صعوبة. ففي 25 سبتمبر قاد الجنرال آدم - فيليب دى كوستين Adam - Philippe de Custine المتطوعين التابعين له للاستيلاء على سبير Speyer وأخذ ثلاثة آلاف أسير وفي 5 أكتوبر دخل فورمز Worms وفي 19 أكتوبر مينز Mainz وفي 21 أكتوبر فرانكفورت - آم - مين Frankfurt - am - Main . ولكسب بلجيكا (التابعة للنمسا) إلى صف الثورة حارب ديمورييه Dumouriez في جيمابز Jemappes (6 نوفمبر) إحدى أكبر المعارك في الحرب، فقد تراجع النمساويون بعد مقاومة طويلة مخلفين وراءهم أربعة آلاف قتيل في ساحة المعركة، وسقطت بروكسل في 14 نوفمبر وليج Liége في 24 نوفمبر وأنتورب Antwerp في الثلاثين من الشهر نفسه، وفي هذه المدن كلها استقبل السكان الفرنسيين كمحررين. وقد تأخر ديمورييه في بلجيكا، وأثرى نفسه بالتعامل مع المضاربين في تمويل الجيش بالمؤن، بدلا من إطاعة أوامر المؤتمر الوطني بالتحرك جنوبا وضم قواته إلى قوات كوستين Custine، وعندما أُنب على ذلك هدد بالاستقاله تمَّ إرسال دانتون لاسترضائه فنجح في مهمته، لكن عندما تراجع ديمورييه Dumouriez أمام العدو في 5 أبريل سنة 1793 عانى دانتون من الشعور بالذنب.

وقد تبنى المؤتمر الوطني اتجاهين سياسيين يكمل أحدهما الآخر بعد أن أنتشى أعضاؤه بسبب هذه الانتصارات: الاتجاه الأول هو مد فرنسا إلى "حدودها الطبيعية" الراين والألب والبرنيس (البرانس) Pyrenees والبحار - والثاني هو مساعدة سكان الحدود بتقديم مساعدات عسكرية لهم ليتمكنوا من تحقيق الحرية الاقتصادية والسياسية. ومن هنا كان هذا المرسوم الجسور الصادر في 15 ديسمبر سنة 1792.

"من هذه اللحظة تعلن الأمة الفرنسية سيادة الشعب [في المناطق المتعاونة كلها]، وقمع كل السلطات العسكرية والمدنية التي حكمتكم حتى الآن كلها، وإبطال كل الضرائب التي ينوء بها كاهلكم، وإلغاء العشور التي تتقاضاها الكنيسة وكذلك الرسوم الإقطاعية ... والغاء القنانة (رق الأرض).. وتعلن الأمة الفرنسية أيضا إبطال المؤسسات (التشكيلات) التي تضم النبلاء والإكليروس كلها، وإبطال الامتيازات كلها لتعارضها مع مبدء المساواة

انكم الآن منذ هذه اللحظة إخوة وأصدقاء، فالكل مواطنون متساوون في الحقوق ويمكن لأي منكم أن يتولى أمور الحكم وأن يقدم الخدمات وأن يدافع عن بلاده."

وأدى هذا المرسوم "مرسوم الأخوة" إلى عدد من المشاكل للجمهورية الشابة. فعندما فرضت الضرائب على المناطق المفتوحة "أو المحررة بتعبير رجال الثورة" لدعم الاحتلال الفرنسي جأر الناس بالشكوى قائلين إن سيدا حل محل سيد آخر وإن ضريبة حلت محل أخرى. وعندما رأت الهيئة الكنسية في كل من بلجيكا وليج Liege وبلاد الراين Rhineland التي ألفت أن تسيطر على السلطات الحاكمة أو تشاركها - أنها مهددة في سلطانها وعقيدتها، مدت أيديها إلى ما وراء الحدود لمقاومة الثورة الفرنسية وتحطيمها إذا أمكن. وفي 16 نوفمبر 1792 أصدر المؤتمر الوطني مرسوما بفتح نهر شيلدت Scheldt للملاحة كلها.

وكان الهدف من هذا القرار هو جذب تجار أنتورب Antwerp إلى قضية الثورة الفرنسية - طالما أن صلح وستفاليا Peace of Westphalia (1648) كان قد منع الملاحة في هذا النهر إلا للهولنديين، (لأنها سحبت منها هذا الامتياز) وفسر ملوك أوروبا إعلان المؤتمر الوطني (السابق إيراد مقتطفات منه) بأنه إعلان للحرب عليهم جميعا وعلى السادة الإقطاعيين، فبدأ تشكيل أو تحالف ضد فرنسا.

التحقيق مع لويس السادس عشر في المؤتمر الوطني

وقرر المؤتمر الوطني قراره (حتى لا يكون أمامه سبيل للتراجع) بمحاكمة لويس السادس عشر بتهمة الخيانة. فمنذ 10 أغسطس راح المسئولون في التمبل Temple يقدمون لمعظم أفراد الأسرة المالكة معاملة نصف إنسانية: للملك وكان في الثامنة والثلاثين من عمره، والملكة كانت في السابعة والثلاثين من عمرها، وأخت الملك "مدام إليزابت" وكانت في الثامنة والعشرين، وابنة الملك (مارى تيريز (Marie - Therese (مدام روال (Madame Royale وكانت في الرابعة عشرة، وابن الملك ولي العهد لويس - شارلز Dauphin Louis - Charles وكان في السابعة من عمره. وبذل الجيرونديون كل ما في وسعهم لتأجيل المحاكمة لأنهم كانوا يعلمون أن الأدلة ستؤدي بالضرورة إلى الإدانة وتنفيذ حكم الإعدام وهذا سيؤدي إلى تكثيف القوى الخارجية جهودها للهجوم على فرنسا، واتفق معهم دانتون في هذا الرأي لكن ظهر شخص آخر في المؤتمر الوطني، إنه لويس - أنطوان سان - جوست Louis - Antoine -Saint - Just، وكان في الخامسة والعشرين من عمره، وقد لفت نظر المؤتمر الوطني بدعوته لقتل الملك: "لويس قتل الشعب وحاقت به الهزيمة ... انه همجي (بربري) سجين حرب أجنبي. لقد رأيتم خططه وتصميماته الغادرة .. إنه هو القاتل في الباستيل وفي نانسي Nancy وساحة دي مارس Champ-de - Mars .. في التوليري. فأي عدو وأي أجنبي قد ألحق بكم الضرر أكثر منه؟"(11) وكان من الممكن أن يتوقف هذا الهجوم بسبب الحكمة والتدبر، لكن حدث في 20 نوفمبر أن تم اكتشاف صندوق حديدي في جدار الغرف الملكية في قصر التوليري فأحضره رولان Roland إلى المؤتمر الوطني ، وكان به دليل يؤكد بقوة تهمة الخيانة، لقد كان الصندوق يضم 625 وثيقة سرية تفضح تعاملات الملك مع لافاييت Lafayette وميرابو Mirabeau وتاليران Talleyrand، وبرنيف Barnave وعدد من المهاجرين (الذين تركوا فرنسا إثر قيام الثورة) والصحفيين المحافظين. كان من الواضح أن لويس رغم تأكيده ولاءه للدستور، يتآمر للقضاء على الثورة. وأصدر المؤتمر الوطني أوامره بكشف النقاب عن ميرابو، وحطم اليعاقبة تمثالا في ناديهم كانوا قد أقاموه إحياء لذكراه، وتم القبض على بارنيف Barnave في جرينوبل Grenoble وهرب لافاييت إلى جيشه، أما تاليران فهرب كما يفعل دائماً. وفي 2 ديسمبر ظهر بعض الوفود من أحياء (أقسام) باريس أمام المؤتمر الوطني وطالبوا بالتعجيل بمحاكمة الملك، وسرعان ما أرسل كومون باريس توصيات شديدة للغرض نفسه، وفي 3 ديسمبر انضم روبيسبير للمطالبين بهذا الأمر. وحمل مارا Marat لواء المطالبة بأن يكون التصويت على المحاكمة علنا by voice &in public حتى يضع الجيرونديين المترددين تحت رحمة السانس كولوت (الذين لا يرتدون سراويل >بناطيل< قصيرة) في الممرات والشوارع.

وبدأت محاكمة الملك في 11 ديسمبر سنة 1792 أمام أعضاء المؤتمر الوطني جميعا. على وفق ما ذكره سيباستين ميرسييه Sebastien Mercier أحد النواب في المؤتمر الوطني فإن "خلفية الصالة تحولت إلى مقصورات وكأنها مسرح، حيث كانت النسوة يرتدين أكثر ملابسهن أناقة ورحن يلعقن المثلجات ويأكلن البرتقال ويشربن المسكرات المعطرة والمحلاة .... ويمكن للمرء أن يرى السعاة والحجاب ... يرافقون خليلة دوق أورليان"(12) وتم إطلاع الملك على الوثائق التي وجدت في الصندوق فأنكر توقيعه وأنكر أي علم له بالصندوق. وواجــه الأســـئلة بالتعلل بعـــدم التذكــر ليعين لنفســه محامين، فعرض كريتيان دى مالشرب Chrètien de Malesherbes الذي دافع عن الفلاسفة(ü) Philosohpes والأنسيكلوبيدي (الموسوعي) في عهد لويس الخامس عشر الدفاع عن الملك، فوافق لويس السادس عشر وهو حزين وقال له: "إن تضحيتك عظيمة لأنك تعرض حياتك للخطر ومع هذا فلن يمكنك إنقاذ حياتي"(31). (وبالفعل فقد أعدم ماليشيرب بالمقصلة في أبريل سنة 1794) وفي هذه الأثناء اقترح ممثلو القوى الأجنبية شراء بعض الأصوات لصالح الملك ووافق دانتون أن يكون وكيلا للمشترين لكن المبلغ المطلوب كان أكثر مما يريد أصحاب الجلالة استثماره(14) .

وفي 26 ديسمبر قدم رومين سيز Romain de Sèze القضية للدفاع، وساق رومين الحجة بأن الدستور لم يعط لأعضاء المؤتمر الوطني الحق في محاكمة الملك، وأن للملك الحقوق الإنسانية للدفاع عن حياته، فقد كان واحدا من أكثر الرجال إنسانية وأرقهم حاشية ومن أكثر الحكام ليبرالية ممن تبوأوا عرش فرنسا. هل نسي نواب المؤتمر الوطني إصلاحاته العديدة؟ ألم يكن هو الذي بدأ الثورة بدعوته مجلس طبقات الأمة للانعقاد ودعوته الفرنسيين كلهم ليقولوا له عن الأخطاء الحادثة وعن رغباتهم؟

وأجاب المدعي العام بأن الملك قد تفاوض مع القوى الأجنبية للقضاء على الثورة، فلم نستثني وارث العرش إذا كان خائنا مــــن إيقاع القصاص عليه؟ فطالما ظل على قيد الحياة ستحاك المؤامرات لإعادته إلى سلطانه كما كان قبل الثورة. فليكن عبرة للملوك كلهم حتى يرعووا ويتفكروا قبل أن يخونوا آمال شعوبهم.

وبدأ التصويت على جرم (إدانة) الملك في 15 يناير سنة 1793 . فصوت 683 - بمن فيهم ابن عم الملك فيليب دورليان Philipee d`Orléans من بين 749 نائبا على إدانة الملك(15). وقد عارض روبيسبير ومارا وسان ـ جوست Saint - Just حركة طرح هذا القرار (الحكم) للتصديق أو دعوة الشعب الفرنسي للاقتراع عليه من خلال جمعيات القاعدة Primary assemblies، ولم يحظ هذا الاقتراح بالقبول فقد عارضه 424 ولم يوافق عليه سوى 287، لأن دعوة الشعب إلى مثل هذا الاقتراع تعني استفتاءهم على عودة الملكية، كما قال سان جوست. أما روبيسبير الذي طالما دافع عن الديمقراطية وحق الذكور جميعهم في الانتخاب فقد تردد الآن وقال إن "الفضيلة (وتعني الحماسة الجمهورية) كانت دائما في الأقلية على هذه الارض"(16) وعندما وضع السؤال التالي في صياغته الأخيرة في 16 يناير: "ما هو الحكم الذي سيتعرض له ملك فرنسا؟" فإن الفريقين دخلا في نزاع شهدته الشوارع حيث صاحت الجموع مطالبة بحكم الإعدام وهددوا حياة كل من يصوت لحكم أقل من الإعدام، حتى إن النواب الذين كانوا حتى الأمس يطالبون بعدم إعدامه أصبحوا خوفا على حيواتهم يصوتون لصالح الحكم عليه بالإعدام، وأذعن دانتون، وثبت بين Paine على موقفه، أما فيليب دورليان الذي كان مستعدا للحاق بابن عمه فقد صوت لإقصائه (لإعدامه) أما مارا Marat فقد صوت لإعدامه في ظرف أربع وعشرين ساعة أما روبيسبير الذي كان دائما يعارض العقوبات الغليظة (الإعدام) فقد أصبح الآن يقدم الحجج ليبرهن على أن بقاء الملك حيا سيكون خطراً على الجمهورية (17)، أما كوندرسيه فطالب بإبطال العقوبات الغليظة (الإعدام) الآن وإلى الأبد، وحذر بريسوBrissot من أن الحكم بالإعدام سيؤدي إلى دخول ملوك أوروبا كلهم الحرب ضد فرنسا. وبعض النواب في المؤتمر الوطني أضافوا إلى تصويتهم شروحا (تعليقات) فقد قال باجانل Paganel : الموت! - إن الملك لا يصلح إلا له، أو لا فائدة منه إلا له "وقال ميلو Millaud اليوم إذا لم يكن الموت موجودا لوجب اختراعه". هكذا اقترح فولتير على الرب echoing voltaire on God أما دوشاتل Duchatel - وكان قد مات - فكم كان يود أن ترد إليه الحياة ليصوت ضد قتل الملك أمام المحكمة ثم يموت مرة أخرى(18). وكانت النتيجة النهائية هي موافقة 361 على موت الملك عاجلا، وصوت 334 لتأجيل هذا الأمر.

وفي 20 يناير قتل العضو السابق في فيلق حراسة الملك، لويس - ميشيل ليبليتيه دي سان فارجو Louis - Michel Lepeletier de Saint - Fargeau الذي كان قد صوت لصالح قتل الملك. وفي 21 يناير حملت عربة يحيط بها حرس مسلح، سارت على طول الشوارع التي حددها الحرس الوطني، لويس السادس عشر إلى ميدان الثورة (الآن ميدان الكونكورد Concorde أي ميدان الوفاق والوئام). وقبل أن تهوي عليه المقصلة حاول أن يتحدث إلى الجموع: "أيها الفرنسيون، إنني أموت بريئا .. إنني أقول ذلك وأنا على سقالة المقصلة وسأمثل قريبا أمام الرب. إنني أعذر أعدائي، وآمل أن فرنسا - " لكن عند هذه الكلمة أشار سانتير Santerre رئيس حرس باريس الوطني وقال: فلتدق الطبول Tambours " فدقت الطبول، وراحت الجماهير تنظر في صمت كئيب والنصل الثقيل يسقط، وراحوا يبكون حتى النخاع، وفي وقت لاحق قال واحد ممن حضروا هذا المشهد" في ذلك اليوم راح كل واحد يسير ببطء ولم يكن الواحد منا يجسر على النظر إلى الآخر"(19).


الثورة الثانية 1793

لقد كان إعدام الملك نصراً بالنسبة للجبليين (اليسار) والكومون وسياسة الحرب، كما أنه وحد المشتركين في قتل الملك والمتسببين فيه فارتبطوا ارتباطاً مصيرياً بالثورة فقد يقع عليهم الاختيار للتضحية بهم عند إعادة عرش البوربون. وقد أدى هذا الحدث إلى انقسام الجيرونديين وعزلتهم، فقد انشقوا عند التصويت وهم الآن يتحركون في باريس وهم في حالة خوف على حيواتهم وتطلعوا إلى المحافظات حيث السلام والنظام موجودان بشكل نسبي، واستقال رولان Roland - مريضا محبطا - من المجلس التنفيذي بعد يوم من إعدام الملك، والسلام الذي كان ممكنا بانشغال النمسا وبروسيا بتقسيم بولندا، غدا مستحيلا الآن بسبب غضب ملوك أوروبا لقطع رأس واحد من إخوانهم.

وفي انجلترا وجد وليام پت Willam Pitt رئيس الوزراء الذي كان يفكر في شن الحرب على فرنسا، أنه لم يعد هناك كبير أثر لأي معارضة برلمانية لسياسته، وصدم جماهير الإنجليز لأخبار إعدام الملك الفرنسي كما لو أن الملكية نفسها هي التي وضعت تحت المقصلة، كما لو أنهم هم أنفسهم (الإنجليز) ليسوا سلالة من نفذ الإعدام في شارلز الأول Charles I، وكان هدف بت Pitt الحقيقي - بطبيعة الحال - هو أن سيطرة فرنسا على أنتورب ستعطي لها - وهي عدوة بريطانيا القديمة - مفتاح الراين Rhine - وهو الطريق الرئيسي لتجارة بريطانيا مع وسط أوروبا. وأصبح هذا الخطر أكثر حدة عندما أعلن المؤتمر الوطني في 15 ديسمبر سنة 1792 ضم بلجيكا إلى فرنسا. والآن لقد فتح الطريق للسيطرة الفرنسية على هولندا وبلاد الراين Rhineland، فكل وادي الراين الخصب والمعمور بالسكان يمكن أن يغلق في وجه بريطانيا التي تعيش على تصدير منتجات صناعتها المنتشرة. وفي 24 يناير سنة 1793 طرد بت Pitt السفير الفرنسي وفي أول فبراير أعلن المؤتمر الوطني الحرب على كل من إنجلترا وهولندا. وفي 7 مارس انضمت إليهما أسبانيا وبدأ التحالف الأوربي الأول (المكون من بروسيا والنمسا وسردينيا وإنجلترا وهولندا وإسبانيا) المرحلة الثانية في العمل على كبح الثورة الفرنسية.

لقد توالت الكوارث بسرعة جعلت المؤتمر الوطني غير قادر على ملاحقتها، فالجيوش الثورية قد خملت بعد انتصاراتها المبدئية وترك آلاف المتطوعين الخدمة بعد انقضاء الفترة المحددة وتناقص عدد الجنود في الجبهة الشرقية من 400.00 إلى 225.000، وحتى هؤلاء كانوا ذوي ثياب رثة طعامهم الكفاف بسبب عدم كفاءة الممولين (المتعاقدين لتمويل الجيش) وفسادهم وارتشائهم، هؤلاء الممولين الذين كان يحميهم دومورييه Dumouriez ويستغلهم.

وفي 24 فبراير لجأ المؤتمر الوطني إلى التجنيد الإلزامي لإنشاء جيوش جديدة لكنه حابى الأثرياء بالسماح لهم بدفع البدلية لمن يقاتل عنهم (النص: شراء من يقوم مقامهم)، وانفجر التمرد على التجنيد الإلزامي في محافظات مختلفة، ففي الفنيدي Vende`e كان السخط على التجنيد الإلزامي وارتفاع تكاليف المعيشة وندرة الطعام، بالإضافة للسخط على التشريع المضاد للكاثوليكية، كل أولئك تضافر معا ليسبب تمردا حقيقيا اتسع مداه حتى استلزم الأمر استدعاء جيش من الجبهة للسيطرة على الأمور. وفي 16 فبراير قاد دومورييه Dumouriez 000،02 جندي لغزو هولندا، فهاجمت قوة نمساوية بقيادة الأمير ساكس - كوبرج Saxe - Coburg الحامية التي تركها دومورييه في بلجيكا، وكان هجومه مفاجئا مما تسبب في إبادة الحامية الفرنسية، أما دومورييه نفسه فقد هزم في نيرفندن Neerwinden (81 مارس)، وفي 5 أبريل انضم إلى النمساويين ومعه ألف رجل (تخلى عن الثورة لصالح أعدائها). وفي ذلك الشهر التقى مندوبون. من إنجلترا وبروسيا والنمسا لوضع الخطط لإخضاع فرنسا.

لقد هددت المصاعب الداخلية والنكسات الخارجية بانهيار الحكومة الفرنسية، فرغم مصادرة أملاك الكنسية وممتلكات المهاجرين (الذين تركوا فرنسا بسبب أحداث الثورة) فإن الأسينات assignats (العملة التي أصدرتها حكومة الثورة) كادت تفقد قيمتها فجأة، إذ أصبحت لا تساوي سوى 47% من قيمتها الاسمية في أبريل سنة 1793 وفي غضون ثلاثة أشهر بعد ذلك تدنت قيمتها إلى 33% (أي أصبحت لا تساوى سوى 33% من القيمة المكتوبة عليها)(20) واتسع مدى المقاومة للضرائب الجديدة حتى أصبحت تكاليف جمعها تكاد تساوي قيمتها.

وأدت القروض الجبرية (اقتراض الحكومة بتوجيه الأوامر لمن تقترض منهم)- كما في حدث في الفترة من 20 - 25 مايو 1793 - إلى سلب البورجوازية الصاعدة، وعندما حاولت هذه الطبقة استخدام الجيرونديين لحماية مصالحهم في الحكومة، أدى هذا إلى تعميق الصراع بين الجيرونديين والجبليين (اليسار) في المؤتمر الوطني. واستطاع دانتون وروبيسبير ومارا نزع نادي اليعاقبة من سياساته البورجوازية الأصلية ليجعلوه أقرب إلى الأفكار الراديكالية. أما الكوميون الذي يقوده الآن بيير شومت Pierre Chaumette وجاك هيبرت Jacques Hèbert فقد استخدم الجريدة الضارية (العنيفة) التي يمتلكها هذا الأخير (جاك) والتي تحمل اسم Pére Duchesne لإثارة المدينة (باريس) ومحاصرة المؤتمر الوطني بوابل من المطالب والإلحاح على مصادرة الثروات، وراح مارا Marat يوما بعد يوم يشن الحرب ضد الجيرونديين باعتبارهم حماة للأثرياء. وفي فبراير سنة 1793 قاد جاك رو Jacques Roux وجان فارلت Jean Varlet مجموعة من البرولتياريا (الذئاب المسعورة (Enragés لمهاجمة ارتفاع أسعار الخبز والإصرار على أن يقوم المؤتمر الوطني بتحديد أسعار كل ما هو ضروري للحياة. ولأن المؤتمر الوطني قد أزعجته عاصفة المشاكل فقد عهد بأعماله المنوطة به في عام 1793 إلى لجان تتم الموافقة على قراراتها بأقل قدر من النقاش.

وتم تعيين معظم اللجان لتكون مخصصة لمجال معين من مجالات النشاط والإدارة: الزراعة، الصناعة، التجارة، المحاسبة، المالية، التعليم، الخدمة الاجتماعية، شئون المستعمرات. وعادة ما كانت كل لجنة تضم اختصاصيين في مجالها، وقد أدت هذه اللجان أعمالاً طيبة جداً، بل إنها وسط الأزمات التي بلغت ذروتها، أعدت دستورا جديدا وتركت تراثا تشريعيا بناء راق لنابليون فكون على هديه "المدونة القانونية النابليونية" Code Napoléon.

ولحماية الثورة من الوكالات الأجنبية (غير الفرنسية) والتخريب الداخلي والإزعاج السياسي عين المؤتمر الوطني في 10 مارس 1793 لجنة الرقابة العامة(ü) كوزارة وطنية للبوليس ذات صلاحيات عملية مطلقة للقيام بزيارات مفاجئة للأماكن كلها بما فيها البيوت دون تحذير للقبض على أي شخص يشك في عدم ولائه أو في ارتكابه جريمة وقد تم إنشاء لجان أخرى للمراقبة في الكوميون وأحياء (أقسام) المدن . وأنشأ المجلس الوطني أيضا في 10 مارس محكمة ثورية(ü) لمحاكمة من يرسل إليها من المشكوك فيهم الذين سمح لهم بمحامين للدفاع عنهم لكن الحكم الذي يصدره المحلفون Jorors لا يمكن استئنافه أو إعادة النظر فيه. وفي 15 أبريل عين المؤتمر الوطني أنطوان - كوينتن فوكير - تينفيل Antoine -Quentin Fouquier - Tinville مدعياً عاماً رئيسياً أمام هذه المحكمة الثورية الآنف ذكرها وهو محام حقق شهرة بسبب إتقانه التحقيق ولعدم رحمته لكنه كفء، وإن كان لا يخلو من المشاعر الإنسانية بين الحين والآخر،(21) وعلى أية حال فإننا عرفناه من خلال رسم محفور يظهره بوجه كالصقر وأنف كالسيف. وبدأت هذه المحكمة الثورية جلساتها في 6 أبريل في قصر العدل، وكلما سارت الحرب قدما،وزاد عدد المتهمين المقدمين للمحكمة زيادة يصعب على المحكمة السيطرة عليها، اختزلت إجراءاتها القانونية وراحت تصدر الحكم بالإدانة في القضايا كلها تقريبا التي أحالتها لجنة الأمن العام(üü) Committee of Public Safety.

وهذه اللجنة الأخيرة (لجنة الأمن العام (Comite` de Salut Public أنشئت في 6 أبريل سنة 1793 لتحل محل المجلس التنفيذي Executive Council وأصبحت هي ذراع الدولة الفعال (الرئيسي). لقد كانت مجلس حرب. إنه لا يجب النظر إليها كحكومة مدنية تعترف بالقيود الدستورية (المقصود تمتنع عما يمنعه الدستور) وإنما كجهاز مخول تشريعيا بقيادة أمه تحارب من أجل وجودها، وبالتالي توجيه الأوامر لها. ولم تكن لسلطاته حدود إلا بمسئولياته أمام المؤتمر الوطني، ولا بد من تقديم قراراته لهذا المؤتمر الوطني الذي أحالها كلها تقريبا إلى مراسيم ملزمة. لقد كانت هذه اللجنة تدير السياسة الخارجية وتتحكم في الجيوش وجنرالاتها وفي الموظفين المدنيين ولجان الفنون والدين، والخدمات السرية للدولة، وكان يمكنها أن توجه الرسائل الخاصة (للأفراد والهيئات) والعامة (للجماهير)، وكانت ذات ميزانيات سرية ومن خلال "ممثليها المبعوثين" أو المرسلين في مهام كانت تتحكم في الموت والحياة في المحافظات وكانت تجتمع في حدائق (قسم النباتات) في التوليري (بافيلون دي فلور (Povillon de Flore بين القصر (التوليري) والسين Seine وكان أعضاؤها يجتمعون حول منضدة اجتماعات مغطاة بقماش أخضر، أصبحت - أي هذه المنضدة - لمدة عام مجلساً للحكومة الفرنسية.

وكان يجلس في صدر اللجنة حتى 10 يوليو دانتون الذي تم اختياره للمرة الثانية ليقود الأمة وهي في حالة خطر، وبدأ دانتون على الفور بحث زملائه في اللجنة - وبالتالي المجلس الوطني - على ضرورة أن تتراجع الحكومة علناً عن عزمها التدخل في الشئون الداخلية لأي أمــة أخرى(22). وأرسل المؤتمر الوطني بسبب حث دانتون ورغم اعتراضات روبيسبير مبعوثها لجس النبض طلبا للسلام لكل دولة من الدول التي شكلت تحالفا ضدها. وحث دوق بونسفيك Duke of Brunswick لإيقاف تقدمه، ونجح في ترتيب حلف مع السويد(23). وحاول مرة أخرى التوفيق بين الجبليين (اليسار) والجيرونديين لكن الخلافات بينهما كانت عميقة جداً.

وكثف مارا Marat هجومه على الجيرونديين حتى إنهم في ثورة غضبهم استصدروا في 14 أبريل سنة 1793 مرسوما من المؤتمر الوطني بإحالته إلى المحكمة الثورية لدفاعه عن القتل ودعوته إلى الدكتاتورية. وعند محاكمته تجمع عدد كبير من السانز-كولوت (الذين لا يرتدون سراويل قصيرة أي الشريحة الدنيا من الطبقة الثالثة) في قصر العدل والشوارع المفضية إليه يطالبون "بالانتقام من أي حماقة ترتكب ضد حاميهم الأثير لديهم"، وعندما خاف المحلفون أطلقوا سراحه فحمله أتباعه في موكب نصر على أكتافهم إلى المؤتمر الوطني وهناك هدد بالانتقام من متهميه، ومن هناك حملته الجماهير المبتهجة إلى نادي اليعاقبة وهناك جعلوه على مقعد الرياسة(24). وواصل مارا معركته مطالب بطرد الجيرونديين من المجلس الوطني باعتبارهم خونة الثورة البورجوازيين bourgeois betrayers of the revolution.

وحقق مارا Marat مكسبا خطيرا عندما أصدر المؤتمر الوطني - رغم اعتراض الجيرونديين وتحذيرهم - مرسوما بوضع حد أقصى لأسعار الحبوب في كل مرحلة من مراحل انتقالها من المنتج إلى المستهلك وأمر الجهات الحكومية بأن يصادروا من الزراع الإنتاج كله اللازم لمواجهة الاحتياجات(25).

وفي 29 سبتمبر امتدت هذه الإجراءات لتحديد أسعار البضائع الأساسية كلها، فدخلت تحت سياسة "تحديد سقف أعلى للأسعار"(26) لقد برزت الآن الحرب الداخلية بين المنتج والمستهلك، فثار الفلاحون على مصادرة محاصيلهم(27) وقل الإنتاج للشعور بأن القوانين الجديدة عاقت الدوافع للربح واتسعت السوق السوداء، عارضة بأسعار عالية البضائع للقادر على الدفع، والأسواق التي نفذت قوانين تحديد الأسعار خلت من الحبوب والخبز، ومرة أخرى سارت مظاهرات الجياع خلال شوارع المدينة.

وفزع الجيرنديون إلى ناخبيهم من الطبقة الوسطى في المحافظات لإنقاذهم من استبداد الجماهير، بعد أن امتعضوا بشدة ومراره من الضغط الذي تمارسه الطبقات الدنيا في باريس على المجلس الوطني. وكتب فرجنيو Vergniaud إلى ناخبيه في بوردو Bordeaux في 4 مايو سنة 1793: "إنني أدعوكم إلى منبر الدفاع عن حقوق الشعب لتدافعوا عنا إن كان هناك وقت باق للثأر للحرية، بإبادة الطغاة"(28) وكتب باربارو Barbaroux على النحو نفسه إلى مؤيديه في مرسيليا، وفيها - أي في مرسيليا- كما في ليون Lyons تحالفت الأقلية البورجوازية مع النبلاء السابقين لطرد رئيسى البلدية الراديكاليين في كلتيها.

وفي 18 مايو حث النواب الجيرونديون المؤتمر الوطني لتعيين لجنة للتفتيش على علميات كومون باريس وأحيائه (أقسام باريس) لكشف المخالفات القانونية. وكان أعضاء هذه اللجنة كلهم من الجيرونديين. وفي 24 مايو أمر المؤتمر الوطني بالقبض على هيبير Hèbert وفارلت Varlet باعتبارهما محرضين (مثيرين للفتنة)، وطالب الكومون والستة عشر قسما التابعة له - في الوقت نفسه - بالإفراج عنهما، لكن المؤتمر الوطني رفض. وحرض روبيسبير في نادي اليعاقبة في 26 مايو المواطنين على الثورة: "عندما تظلم الجماهير، وعندما لا يكون لها ملجأ إلا إلى نفسها، فمن الجبن حقا ألا ندعوها إلى الثورة. فعندما تنتهك القوانين كلها وعندما يبلغ الاستبداد ذروته، وعندما تداس العقيدة الطيبة واللياقة فلا بد أن يقوم الشعب بحركة مقاومة شعبية. لقد آن الأوان لذلك"(29) وفي 27 مايو طالب مارا Marat في المؤتمر الوطني بقمع اللجنة (لجنة الجيرونديين الآنف ذكرها) "لانها معادية للحرية ولأنها تميل إلى الحث على معارضة الشعب ومقاومته، وهذا التهديد مصلت فوق الرأس قريب الحدوث بسبب الإهمال الذي وقعتم فيه بالسماح بارتفاع أسعار البضائع ارتفاعا فظيعاً". وفي تلك الليلة مهد الجبليون (اليسار) الطريق لاتخاذ إجراء بإلغاء اللجنة (لجنة الجيرونديين الآنف ذكرها) وجرى التصويت الذي كانت نتيجته هذا الإلغاء، بأغلبية 279 ضد 238 . وفي 30 مايو انضم دانتون إلى روبيسبير ومارا للدعوة إلى "نشاط ثوري أو هبة ثورية Revolutionay Vigor".

وفي 31 مايو قرعت الأحياء أجراس التنبيه للخطر ليهب المواطنون - عند سماعها، وتجمعت الجماهير عند دار البلدية Hotel de ville وكونوا مجلس مقاومة، وضمنوا دعم حرس باريس الوطني بقيادة قائده الراديكالي هانريوت Hanriot، ودخل هذا المجلس الجديد - يحميه هانريوت بحرسه والجماهير المتزايدة العدد - إلى صالة المؤتمر الوطني وطالب بمثول الجيرونديين ليحاكموا أمام محكمة الثورة، وتحديد سعر الخبز عند ثلاثة جنيهات في أنحاء فرنسا كلها، وأي عجز ينتج عن ذلك يعالج بفرض ضريبة على الأثرياء، وأن يكون حق الانتخاب مقتصرا مؤقتا على السانس كولوت(03) (الذين لا يرتدون سراويل >بناطيل< قصيرة - الطبقة الثالثة)، وأقر المؤتمر الوطني الاعتراض الثاني فقط لهذه اللجنة البغيضة، وتراجعت الفصائل المسلحة لحلول الليل.

وعاد مجلس المقاومة الآنف ذكره إلى المؤتمر الوطني في أول يوليو مطالبا بالقبض على رولان Rolan الذي اتهمه السانس كولوت(الطبقة الدنيا) بارتباط مصالحه بالمصالح البورجوازية. وفر رولان هاربا إلى الجنوب حيث لاقى ترحيباً. أما زوجته مدام رولان فقد تأخرت ولم تلحق به لأنها خططت للدفاع عنه أمام المؤتمر الوطني لكن قبض عليها وأودعت في سجن أباى Abbaye (الكلمة تعني، الدير لأن هذا السجن كان في أصله ديرا) ولم يتح لها أن ترى زوجها بعد ذلك أبدا، وفي 2 يونيه احتشد ثمانون ألف رجل وامرأة - كان كثيرون منهم مسلحين - حول مقر المؤتمر الوطني، ووجه الحرس مدفعه للمبنى، وأخبر مجلس المقاومة الآنف ذكره نواب المؤتمر الوطني أن أحداً منهم لن يسمح له بالخروج حتى تتم الاستجابة لطلبات المجلس (مجلس المقاومة) كلها. وذكر مارا Marat بصوت عال أسماء الجيرونديين الذين يوصي بالقبض عليهم، وكان مارا قد سيطر على المنصة (المنبر) التي يتحدث متحدثو المؤتمر من فوقها ودبر بعض نواب المؤتمر أمر تملصهم من الحرس والجماهير وهربوا إلى المحافظات، وجرى القبض على اثنين وعشرين وفرضت عليهم الإقامة الجبرية في منازلهم بباريس. ومنذ هذا اليوم وحتى 26 يوليو أصبح المؤتمر الوطني خادماً مطيعا للجبليين (اليسار) ولجنة الأمن العام وجماهير باريس. لقد هزمت الثورة الثانية البورجوازية وأسست مؤقتا دكتاتورية البرولتياريا.

وأعطى المنتصرون للنظام الجديد شكلا بتكليف كل من هيرول دى سيشل Herault de Sechelles وسان - جوس Saint-Jus بصياغة الدستور الجديد الذي كان قد صدر في11 أكتوبر 1792 . وقد أعاد حق الانتخاب للذكور البالغين كلهم وأضاف حق كل مواطن في مورد رزق، والتعليم والمقاومة، وقصر حقوق الملكية بحيث لا تتعارض مع المصلحة العامة، وأعلن حرية العبادة واعترف بكرم ولطف بوجود الله (سبحانه) a Supreme being كموجود أسمى وأعلن الأخلاق كأمرٍ لازم للمجتمع، وقد أطلق كارلايل Carlyle الذي لم يكن يستطيع أن يهضم (يستسيغ) الديمقراطية هــذا بأنه " أكثر الدساتير- التي حبرت على الورق - ديمقراطية(31) وقبله المؤتمر الوطني (في 4 يونية سنة 1793) وأقره ربع الناخبين 1.801.918 واعترض عليه 11.610. وظل دستور 1793 على الورق فقط لأنه في 10 يوليو جدد المؤتمر الوطني للجنة الأمن العام Committee of Public Safety صلاحياتها كسلطة حاكمة فوق الدستور حتى يعود السلام.


مصرع مارا 13 يوليو 1793

"مصرع مارا"، بريشة جاك-لوي داڤيد، 1793.

ولجأ ثلاثة من الجيرونديين هم بتيو Pètion وباربارو Barbaroux وبوزو Buzot إلى كان Caen حيث وجدوا الحماية، وكانت هي الحصن الشمالي "للفدراليين Federalist " الذين يعارضون هيمنة أهل باريس على الحكومة الوطنية. وراحوا يلقون الخطب ليشجبوا السانس كولوت (ذوي السراويل >البناطيل< الطوال) والمتحدثين باسمهم خاصة مارا Marat ونظموا مظاهرات عسكرية للاعتراض ونظموا جيشا للتقدم صوب العاصمة.

وكانت شارلوت كورداي Charlotte Corday من بين أكثر المستمعين إليهم حماسة وتعاطفا، وهي تنحدر من سلالة المسرحي بيير كورني Pierre Corneille سليلة أسرة مؤيدة للنظام الملكي بشدة، وكانت أسرتها قد أصابها الفقر فتعلمت شارلوت في دير للراهبات وخدمت مدة عامين كراهبة وأتاحت لها الظروف قراءة بلوتارخ Plutarch وروسو Rousseau بل وحتى فولتير Voltaire، وقد تركت إيمانها (تشككت في المسيحية) وفتنت بأبطال روما القديمة. وقد صدمت عندما سمعت بقتل الملك الفرنسي (لويس السادس عشر) وكانت ممتعضة بسبب ما أثاره مارا Marat من سخط على الجيرونديين. وفي 20 يونيو سنة 1793 زارت باربارو Barbaroux وكان وقتها في السادسة والعشرين وكان وسيما جدا حتى أن مدام رولان Mme - Roland شبهته بأنطونيوس محبوب الإمبراطور هدريان. وكانت شارلوت تقترب من الخامسة والعشرين، وكان عقلها مشغولا بأمور أخرى بالإضافة إلى الحب، وكل ما طلبته هو خطاب تعريف لنائب في المؤتمر الوطني ليرتب لها لقاء مع المؤتمر، فكتب لها باربارو خطاب تقديم إلى لوز دوبرى Lauze Duperret، وفي 9 يوليو استقلت مركبة عمومية إلى باريس فوصلتها في 11 يوليو واشترت سكين مطبخ يبلغ طول نصلها ست بوصات، ودبرت أن تدخل قاعة اجتماع المؤتمر الوطني وتقتل مارا Marat على مقعده لكنها علمت أن مارا مريض ومقيم في منزله، فحصلت على عنوانه وذهبت إليه لكن لم يسمح لها بالدخول إذ قيل لها "السيد في الحمام" فعادت إلى محل إقامتها.

لقد كان الحمام الآن هو "المكتب الأثير" لدى مارا Marat، فقد تفاقم مرضه الذي يظهر أنه كان نوعا من الدرن الجلدي (السلية الجلدية) أو الاسكروفولا Scrofula وكان يجد راحة من آلامه بالجلوس مغمورا في الماء الدافىء حتى وسطه، وكانوا يضيفون له في هذا الماء المواد المعدنية والأدوية، وكان يضع قطعة قماش للتجفيف (منديلاً ) فوق كتفيه، ويلف حول رأسه منديلا كبيرا مبللاً بالخل، وكان يحتفظ بالأوراق والقلم والمحبرة فوق متسع على حافة الحوض، وكان يكتب يوما بعد يوم المادة المطلوبة لصحيفته على هذه الحافة وهو في هذا الحوض(32). وكانت أخته ألبرتين Albertine تتولى العناية به ، ومنذ سنة 1790 أصبح موضع رعاية من خادمته سيمون إيفارد Simone Evard التي تزوجها زواجا غير موثق كنسيا (لم يعقد أمام الإكليروس) وانما "أمام الله Supreme being أو الموجود الاسمي، ... في معبد الطبيعة الواسع"(33).

وأرسلت شارلوت Charlotte من مقر إقامتها طلباً لمقابلته: "لقد قدمت من كان Caen، إن حبك لأمتك يجب أن يجعلك متنبها للمؤمرات التي تحاك هناك. إنني في إنتظار إجابتك"(43). ولم تطق شارلوت صبرا حتى تتلقى الإجابة، ففي مساء 13 يوليو طرقت باب داره مرة أخرى، فلم يسمح لها بالدخول ولكن مارا Marat سمع صوتها فطلب السماح لها بالدخول واستقبلها بترحيب وأمر لها بمقعد فجلست فقربت مقعدها منه، فسألها: "ماذا يجرى في كان Caen؟" (أو هكذا روت شارلوت فيما بعد هذا الحوار الغريب) فأجابت: "ثمانية عشر نائبا من المجلس الوطني يحكمون هناك بالتآمر مع مسئولي المحافظة" فسألها: ما أسماؤهم، "فذكرتها له، فكتبها، , وأصدر حكمه التالى: ستجز المقصلة رقابهم" وعندئذ سحبت شارلوت سكينها وطعنته في صدره بكل قوتها حتى أن نصل السكين اخترق الأورطي aorta وتفجر الدم أثر الطعنة، فصرخ مناديا سيمون Simonne " أسرعي إلى .. أسرعي إلى يا صديقتي العزيزة" فأقبلت سيمون فمات بين ذراعيها، واندفعت شارلوت خارجة من الحجرة فاعترضها رجل وكف مقاومتها مستخدما كرسيا، وتم استدعاء البوليس فقبض عليها، فقالت:"لقد أديت واجبي فلندعهم - أي رجال الشرطة - يؤدون واجبهم"(35).

ولا بد أن مارا Marat كان يتمتع ببعض الصفات الطيبة فقد اجتمعت على حبه امرأتان تنافستا في ذلك ونذرت أخته نفسها فيما تبقى من عمرها لتوقير ذكراه.

وكان مارا في وقت من الأوقات طبيبا ناجحا، ولم يترك عند مماته شيئا سوى بعض المخطوطات العلمية وخمسة وعشرين سو(36) Sous وكان مارا Marat متعصبا لكنه أخلص للجماهير الذين نسيتهم الطبيعة والتاريخ، واحتفظ نادي الكوردليير(نسبة إلى مقرهم في دير فرسسكاني) بقلبه كأثر مقدس (ذي طابع ديني كرفات القديسين)، وأقبل الآلاف لإلقاء نظرة عليه "بتوقير صامت وقد كتموا أنفاسهم"(37) وفي 16 يوليو تبع جثمانه أعضاء المجلس الوطني المتبقون كلهم وخلق كثير من رجال ونساء أتوا من الأحياء (الأقسام) الثورية، إلى مثواه في بساتين الكوردليير (نسبة إلى دير فرنسسكاني جعلوه مقراً لهم) ونصب تمثاله الذي نحته دافيد David في قاعة المؤتمر الوطني وفي 21 سبتمبر سنة 1794 نقل رفاته إلى البانثيون Panthèon (مدفن العظماء).

وكانت محاكمة شارلوت قصيرة فقد اعترفت بفعلتها لكنها لم تعترف بأنها مذنبة، فقد قالت إنها لم تفعل سوى الانتقام لضحايا مذبحة سبتمبر، وقالت لقد قتلت "رجلا لأنقذ مائة ألف رجل"(38) وكتبت في خطاب إلى باربارو Barbaroux بصراحة قائلة "إن الغاية تبرر الوسيلة"(39) وبعد ساعات قليلة من اعترافها تم إعدامها في ميدان الثورة، وواجهت بزهو لعنات الجماهير التي حضرت تنفيذ الحكم فيها ورفضت عرض أحد القسس تلقينها العبارات التي يقولها الكاثوليكي عند الموت ورفضت قيامه بطقوس دينية قبل إعدامها(40).

لقد ماتت شارلوت قبل أن تتحقق من أن فعلتها (قتل مارا) فيها هلاك الجيرونديين الذين كانت تظن أنها تخدمهم بفعلتها هذه. وقال فيرنيو Vergniaud للجيرونديين مسامحاً إياها ومدركاً لأبعاد فعلتها: "لقد قتلتنا، لكنها علمتنا كيف نموت"(14).


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

انظر أيضاً

الهامش

المصادر

  • ديورانت, ول; ديورانت, أرييل. قصة الحضارة. ترجمة بقيادة زكي نجيب محمود.

وصلات خارجية