تقرير اللجنة الخصوصية المنتدبة لمصر (لجنة ملنر)

تقرير اللجنة الخصوصية المنتدبة لمصر (لجنة ملنر) في 9 ديسمبر 1920، منشور من "وزارة الخارجية المصرية، القضية المصرية 1882 - 1954، المطبعة الأميرية بالقاهرة، ص 33 - 92"

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

المنشور

«"تحقيق أسباب الاضطرابات التي حدثت أخيرا في القطر المصري وتقديم تقرير عن الحالة الحاضرة في تلك البلاد، وعن شكل القانون النظامي الذي يعد تحت الحماية خير دستور لترقية أسباب السلام واليسر والرخاء فيها، ولتوسيع نطاق الحكم الذاتي فيها توسيعا دائم التقدم والترقي، ولحماية المصالح الأجنبية".»

تأليف اللجنة الخصوصية المنتدبة لمصر

الفيكونت ملنر الوزير الأكبر لمستعمرات جلالة الملك (رئيس اللجنة).

السير رنل رود.

الجنرال السير جون مكسويل.

البريجادير جنرال السير أوين توماس، العضو في البرلمان.

السير سسل ج . ب . هرست من موظفي وزارة الخارجية.

مستر ج . أ . سبندر.

مستر أ . ت . لويد (سكرتير اللجنة).

مستر أ . م . ب. انجرام من موظفي وزارة الخارجية (معاون السكرتير والسكرتير الخصوصي لرئيس اللجنة).

في 9 ديسمبر سنة 1920

{{اقتباس|إلى فخامة الإرل كرزن وزير الخارجية.

مولاي اللورد

أعرض على فخامتكم تقرير اللجنة الخصوصية المنتدبة لمصر والتي أنا رئيسها وقد وقع هذا التقرير أعضاء اللجنة كلهم ما عدا الجنرال السيرجون مكسويل الذي اضطر لأسباب صحية أن يغادر إنجلترا في أوائل شهر نوفمبر، وهو نزيل مصر الآن، ولكن أتاني منه الكتاب التالي الذي يعرب فيه عن موافقته على الأمور التي استصوبناها وأوصينا بها في هذا التقرير، وهذا نص كتابه:

"يشق علي أن أخبركم أني مراعاة لصحتي وطوعا لأمر الطبيب لي بالسفر إلى الخارج لم يعد في استطاعتي مشاركة اللجنة في تشاورها وتداولها في أمور مصر.

على أني أغتنم هذه الفرصة لأقول إني موافق تمام الموافقة على ما آلت إليه مداولاتها بوجه الإجمال إلى تاريخنا هذا، ومتحد معها في السياسة التي رسمت حدودها في مشروع الاتفاق الذي سلم إلى سعد باشا زغلول في شهر أغسطس الماضي".

ولى الشرف يا مولاي اللورد أن أكون عبد فخامتكم الخاضع،


ملنر

(1) عمل اللجنة في مصر

كانت حكومة جلالة الملك تفكر في إرسال لجنة خصوصية إلى بر مصر منذ شهر أبريل سنة 1919 لما تفاقم القلق في تلك البلاد حتى ظهر بمظهر العنف والتعدي والإخلال بالنظام، وفى شهر مايو التالي أعلن أن لجنة كهذه ستسافر إلى بر مصر برياسة اللورد ملنر في فصل الخريف، فجاهر المصريون الوطنيون بعزمهم على تدبير ما يلزم لمقاطعة تلك اللجنة واشتد عزمهم هذا كثيرا باحتجاج محمد سعيد باشا رئيس الوزارة حينئذ على مجيء اللجنة قبل إمضاء عقد الصلح مع تركيا وازداد ذلك قوة وشدَة بعد استعفاء محمد سعيد باشا إثر إغفال احتجاجه فخلفه وهبه باشا على رياسة الوزارة، وظلت الوزارة الجديدة قابضة على زمام الأحكام مدة إقامتنا كلها بمصر.

واستعفي وهبه باشا بعد ذلك لاعتلال صحته فحل محله توفيق نسيم باشا أحد زملائه في الوزارة وكان وزير الداخلية مدة إقامتنا بمصر. ويعسر على المرء أن يفي هذين الرئيسين وسائر رفاقهم الوزراء حقهم من المدح والإطراء على ما أبدوا من الشجاعة والغيرة الوطنية باستلامهم مقاليد الأحكام في زمن كانت فيه بلادهم تعاني شدة أزمة كهذه وكانت حياتهم مهددة بخطر دائم. ولا تزال وزارة توفيق نسيم باشا قابضة على زمام الأمور وأعضاؤها هم عين الوزراء الذين كانوا في وزارة وهبه باشا ما خلا وزيرا واحدا؛ فهي كسابقتها في أوصافها: وزارة أعمال مؤلفة من رجال إداريين أكفاء مقيمين على ولاء السلطان، ويديرون الأمور بالاتفاق مع المعتمد السامي البريطاني وليس لوزارتهم صبغة سياسية ولا هي ميالة إلى اتباع خطة مقررة في المسألة التي هي أم المسائل الحالية أي مسألة مستقبل مصر.

فتغير الوزارة في مصر وأحوال أخرى أيضا أخرت سفر اللجنة إلى آخر شهر نوفمبر، ثم بلغنا بورت سعيد في صباح الأحد الموافق 7 ديسمبر ووصلنا إلى مصر القاهرة بعد الظهر من ذلك اليوم عينه، وكانوا قد اتخذوا جميع الاحتياطات للمحافظة على سلامتنا نظرا إلى روح العداء للجنة الذي اشتد في النفوس بالتحريض والإغراء. فبلغنا الفندق المعدَ لنزولنا فيه من دون أن يحدث حادث ما.

وفى اليوم التالى ليوم وصولنا قدَمنا اللورد أللنبى كلنا إلى عظمة السلطان فكان ذلك الزيارة الرسمية وإنما تقدمتها زيارة قصيرة قابل فيها عظمته اللورد ملنر مقابلة ودية غير رسمية، وكان ذلك أول حديث من عدة أحاديث جرت لرئيسنا وبعض أعضاء لجنتنا مع عظمته، فكان عظمته يعاملنا فيها دائما بتمام الصداقة ويعرب في أثنائها بصراحة عن رأيه في الحالة السياسية بمصر والحوادث التي حدثت بها في السنوات القليلة الماضية وعن صعوبة مركزه. ولكنه امتنع عن أن يشير برأى؛ أو أن يعطى نصيحة في الموضوع الذي انتدبنا له، أي دستور مصر في المستقبل. ولم يحاول قط أن يدير زمام مداولاتنا أو أن يؤثر فيها أقل تأثير، وإنما اقتصر على النصح لنا بالتأني في استنتاج النتائج والاحتراس من الفضوليين، ودلنا على بعض من ذوي المقامات الذين يحسن بنا استشارتهم مثل رشدى باشا وعدلي باشا ومحمد سعيد باشا ومظلوم باشا وكلهم من الوزراء السابقين وكان موقفه بإزاء غرض اللجنة موقف الملتزم جانب الحياد.

وقد كان الاحتراس أشد ظهورا من ذلك في الوزراء - وهبه باشا ورفاقه - الذين تعرفنا بهم في حفلة أقامها اللورد أللنبى بدار الحماية في 11 ديسمبر والذين كنا نحن وإياهم على غاية الوداد طول مدة إقامتنا بمصر وكانوا دائما على استعداد لمساعدتنا في بحثنا ولموافاتنا بكل أنواع المعلومات وجمعنا بكل موظف نروم مقابلته. ولم يكن ثمة ريب على الإطلاق في رغبتهم في تمكيننا من انتهاز كل فرصة تمكننا من معرفة نظام الحكومة وكيفية إدارتها لأعمالها ومن الاطلاع على حالة البلاد، ولكنهم كانوا شديدى العناية بتركنا وشأننا حتى نستنتج النتائج بأنفسنا، ولما طلبنا منهم صريحا أن يفصحوا لنا عن آرائهم أظهروا عدم رغبتهم في اقتراح شئ من عندهم في المسائل الدستورية الخارجة عن المسائل الإدارية، ولم يظهروا أدنى رغبة في معرفة الجهة التي تتجه إليها أفكار اللجنة من جهة حكومة مصر في المستقبل. غير أن هذا الاحتراس والتمنع اللذين بديا في رجال الحكومة الوطنيين كانا على نقيض ما فعله جمهور الوطنيين والجرائد الوطنية فإنهم أثاروا عواصف الاحتجاج والاستنكار على اللجنة حين وصولها، ولم نكد نقيم أياما بل ساعات في القاهرة حتى رأينا الأدلة الكثيرة على وجود معارضة شديدة لها منظمة لمقاومتها، فان التلغرافات انهالت علينا معلنة عزم مرسليها على الاعتصاب احتجاجا منهم على وجودنا في البلاد وكان كثير من هذه التلغرافات مرسلا من صبيان المدارس وتلامذتها، ولكن تلغرافات أخرى وردت من هيئات عمومية كمجالس المديريات وبعضها من موظفى الحكومة وكثير من النقابات والجماعات المتفاوتة في الأهمية وعظم الشأن. وقد بلغ عدد التلغرافات التي وردت علينا مدة إقامتنا بمصر 1131 تلغرافا كلها من هذا القبيل، ولم يصلنا غير 29 تلغراف تهنئة معظمها من أناس يعرفون بعض رجال اللجنة بأشخاصهم. أما الجرائد الوطنية فكلها ماعدا القليل النادر منها أفرغت جعبتها في القدح والتعريض منادية بأن كل اعتراف باللجنة يؤوَل بكونه رضى عن الحالة الحاضرة، وأن كل مصري تكون له علاقة بأعضائها يرتكب جناية خيانة الوطن. واتفقت كلمة معظم الكتاب طبعا لمقتضى ذلك على أن سعد زغلول باشا المقيم بباريس هو الوكيل الذي أنابه الشعب المصري عنه، فالأولى باللجنة مفاوضته في الأمر. وأضرب صبيان المدارس والمحامون وعمال الترام عن العمل، كل فريق منهم في دوره وجعلوا يخرجون في مواكب ينضم إليها الصبية من تلامذة المدارس والغوغاء ويطوفون في الشوارع وهم حاملو الأعلام ويصيحون بأعلى أصواتهم بالدعاء على اللجنة وخصوصا اللورد ملنر، ويهتفون بالدعاء لزغلول باشا والاستقلال التام لمصر، ولم تقتصر هذه المظاهرات على الذكور بل شاركتهم فيها الإناث، فإن سيدات مصر القاهرة انتهزن تلك الفرصة فبرزن من خبائهن وركبن المركبات وطفن في الشوارع وهن يرددن ذلك النداء الحربي. وخروج مثل هذه المواكب أمر غير مألوف في بر مصر على الإطلاق، ولكنها كانت حسنة النظام فيما خلا الشغب الذي كان يحدثه صبيان المدارس والرعاع، فلولا النظام البديع الذي حافظ البوليس عليه-وكان رجال العسكرية يساعدونهم أحيانا في حفظه-لخرب الشيء الكثير في مصر، ولسفكت الدماء في شوارعها أيضا، ولكن غاية ما حدث من هذا القبيل تكسير بعض مركبات الترام ولم يقع ضرر يذكر فيما سوى ذلك. وبعد مرور أسبوع أو أسبوعين على وصولنا خف الاضطراب والإخلال بالنظام. على أنه وقع بعض التعدي على جنود من البريطانيين مدة إقامتنا بمصر وحاول المعتدون اغتيال بعض الوزراء ثلاث مرات متوالية فدل ذلك على أن العنصر المجرم كان لا يزال نشيطا وخصوصا بين فئة من الطلبة والذين على شاكلتهم.

ولا حاجة بنا إلى إطالة الكلام عن ضروب العداوات التي قوبلت اللجنة بها، وأنواع المقاومات للغاية التي جاءت من أجلها، وإنما نذكر حادثتين من هذا القبيل لأنهما تدلان بوجه خاص على قوة التيار الذي كان الجمهور مسوقا به. ففي الأسبوع الثاني من وصولنا أرسل علماء الجامع الأزهر الذي هو معهد التعليم الديني الإسلامي منشورا إلى المعتمد السامي البريطاني أبانوا فيه حقوق مصر في طلب استقلالها التام وطلبوا خروج البريطانيين من البلاد. وهناك أسباب تحملنا على الاعتقاد أن العلماء الذين وقعوا ذلك المنشور لم يكونوا يهوون ركوب ذلك المركب السياسي وإنما ركبوه إذعانا لضغط الأساتذة والتلامذة الذين نشطت بينهم الدعوة لمعارضة البريطانيين؛ واشتد بينهم التحريض على ذلك منذ مدة، ثم تلا هذا المنشور-تصريح يشبهه مذيل بأسماء ستة من أمراء بيت محمد علي أقارب السلطان، وقد أرسل في كتاب إلى اللورد ملنر ونشر في الجرائد في الوقت عينه. ولا يبعد أن يكون أولئك الأمراء قد فعلوا ذلك لأسباب مختلفة ولكن لا ريب في أن السبب الأكبر منها هو رغبتهم في اكتساب حب الجمهور لهم بانحيازهم إلى حركة طغت على البلاد حينئذ كالسيل الجارف.

وكان أقرب غرض للقائمين بهذه الحركة منع أعضاء اللجنة من الاتصال الودي بوجهاء المصريين الذين ينطقون بلسان أمتهم وأن يعلموا بأنفسهم قيمة الطلب المتواصل "للاستقلال التام" والطعن الدائم على الحماية، فلذلك كان مركز اللجنة دائما تحت مراقبة حراس خفيين من المعارضين، فلم يكن مصري ذو شأن يزورها حتى يبلغ خبره الصحف حالا فتحمل عليه بالإنذار والوعيد كأنه ارتكب جريمة، ثم يقصد ذلك المجرم جماعة من التلامذة إلى منزله ويستفسرون عن سبب سلوكه هذا فينتهى الأمر غالبا بأنه يطنب في صحة تمسكه بالعقيدة الوطنية وتبرئة من الخروج بكلمة عن حدود هذه العقيدة في حديثه مع اللجنة، ولم يشذ عن ذلك إلا واحد أو اثنان من ذوى الشجاعة الأدبية الذين أفهموا أولئك الفضوليين أن لا يتعرضوا لشؤونهم ولا يسألوهم عما لا يعنيهم. وكانوا يستقصون حركات أعضاء اللجنة بمزيد الحرص والدقة ولا سيما متى سافر واحد منا إلى الأرياف، فيرسلون الرسل حالا من مصر ليقتفوا خطواتنا ويسعوا في منعنا من الوصول إلى الأهالى وخصوصا الفلاحين ويدبروا المظاهرات التى يحسبون أنها تؤثر فينا فتوهمنا باتحاد الرأى المصرى وتضامنه حتى لقد أفضت زيارة أحد أعضاء اللجنة لطنطا إلى اضطراب وشغب دام أياما ولم تخمد ناره إلا بيد رجال العسكرية، فعرقلت هذه المظاهرات عملنا طبعا بعض العرقلة، ولكنها قصرت عن بلوغ الغرض الأكبر المقصود منه لأنه يستحيل على المرء ألا يستنتج من هذه الأعمال أنه لو كان المصريون مجمعين حقيقة هذا الإجماع الذى أرادوا أن يوهمونا بوقوعه لتركونا وشأننا حتى نتحققه بأنفسنا من الجولات في البلاد بلا عائق ولا مانع.

ولا يظنَّنَ أحد أن مقاطعة اللجنة التى كان العامل الأكبر فيها الطلبة وصبيان المدارس وقعت موقع الاستحسان عند المتعلمين عموما، أو نالت رضى جميع المتمسكين بالأراء الوطنية الراقية لأن هؤلاء كانوا يرون أن مقابلة الغرباء بالإعراض والجفاء لا تطابق المجاملة وحسن الضيافة التى يتباهى بها المصريون جميعهم، وزد على ذلك أن أناسا كثيرين كانوا يودون أن يفصحوا للجنة عن آرائهم ولكن منعهم من ذلك خوفهم من المضايقة لأشخاصهم والتطاول عليهم ولذلك قال لنا كثيرون إننا إذا استطعنا أن نفهم الجمهور أن من يزور اللجنة فزيارته لا تؤثر في وطنيته بالضرورة فالحائل دون حرية الكلام معنا يزول. وعليه كتبنا التصريح التالى ونشر في 29 ديسمبر في الجريدة الرسمية والجرائد الأخرى وهذا نصه:

"جاءت اللجنة البريطانية إلى مصر فأدهشها ما رأته من الاعتقاد الشائع بين الجمهور بأن الغرض من مجيئها هو سلب شئ من الحقوق التى كانت لمصر إلى اليوم. فاللجنة تعلن فساد هذا الاعتقاد، وأنه لا نصيب له من الصحة البتة، وأنها إنما أوفدتها الحكومة البريطانية بموافقة مَجلس نوابها مجلس أعيانها لغرض واحد هو التوفيق بين أمانى الأمة المصرية وبين ما لبريطانيا العظمى من المصالح الخاصة في مصر مع المحافظة على الحقوق المشروعة التى لجميع الأجانب القاطنين فيها. وإن اللجنة لعلى يقين من أنه إذا توفر حسن النية وصدق الإخلاص بين الجانبين يصبح في الميسور تحقيق هذه الغاية، وإنها لترغب رغبة أكيدة في أن تكون الصلات بين بريطانيا العظمى ومصر أساسها اتفاق ودى يستأصل كل سبب للتنافر فيتمكن المصريون من أن يفرغوا جهدهم في ترقية شؤون بلادهم تحت أنظمة دستورية.

وللوصول إلى هذه الغاية تود اللجنة أن تقف على آراء الهيئة المشخصة للأمة المصرية وآراء الأشخاص الذين يهتمون اهتماما صادقا بخير بلادهم ويتمكن كل فرد من إبداء رأيه بغاية الصراحة ونهاية الحرية، إذ ليس من غرض اللجنة تقييد الآراء أو المناقشة بقيد ما أو حصرها في دائرة مخصوصة؛ وهى تعلن أن الدخول في المناقشة لا يعتبر اعترافا بمبدأ أو تنازلا عن رأى من قبل اللجنة أو من قبل المناقش لها وأن حرية المناقشة شرط أساسي للنجاح وبغيرها يتعذر رفع سوء الفهم والوصول إلى الاتفاق".

فهذا التصريح أثر بعض التأثير قطعا في تخفيف العداوة ولكنه لم يذهب بنفور المصريين إجمالا من الاتصال باللجنة رسميا. فقر رأينا والحالة هذه للوقوف على رأي المصريين أن نعتمد على أنفسنا في معرفته باغتنام الفرص التي تسنح لكل فرد منا في معاشرته لهم على اختلاف طبقاتهم. ولما كانت هذه الفرص تسنح لنا على الدوام وكان الناس الذين نقابلهم يبدون آراءهم على انفراد معنا بمنتهى الصراحة والبساطة، وكان معظم قادة الرأي المصري من جملتهم تمكنا في الأشهر الثلاثة التي قضيناها في بر مصر من معرفة الأفكار والشعور والأميال في العالم المصري وسبر غور المجاري التي تجري فيها بمزيد الدقة.

وقد شغلت أحاديثنا معهم جانبا عظيما من وقتنا، ولكنا كنا ندرس الحالة أيضا من وجهة أخرى مختلفة عن الوجهة الأولى تمام الاختلاف، فإن وزارة الخارجية البريطانية كانت قد عنيت بجمع مجلدات من الأوراق الرسمية التي أعدتها لإرشاد اللجنة، وعلاوة على ذلك كانت لجنة الاستعلامات التي أنشأها المعتمد السامي قد جمعت شيئا كثيرا من البيانات القيمة قبل وصولنا، وكذلك من الآراء المحكمة التي حصلت عليها في مسائل كثيرة من وجهاء الموظفين وسكان القطر غير الموظفين والهيئات الممثلة للأمة. فدرس هذه الآراء وجمعها وبوّبها وحرّرها سكرتير اللجنة الكبتن ب أ. هوبر تحريرا يشهد له بالبراعة استغرق زمنا محسوسا.

وقد كانت مطالعة هذه الأوراق الكثيرة مفيدة لنا جدا، ومع ذلك سعينا في زيادة ما تضمنته من المعلومات باجتماعنا شخصيا بكل من سمح لنا الوقت بمقابلته من أفراد البريطانيين الموظفين وغير الموظفين، وكذلك كبار النزلاء الأجانب الذين لم يكونوا يترددون طبعا عن الاتصال الدائم باللجنة جهارا، وكان كبار الموظفين البريطانيين يجودون علينا بشهاداتهم ومشوراتهم كلما طلبناها منهم في بادئ الأمر، ونحن مدينون لهم بالمساعدة التي ساعدونا بها عن طيب نفس، فقد مكنتنا مساعدتهم من الإحاطة علما بالحوادث الأخيرة وفحص نظام كل ديوان من دواوين الحكومة المصرية والمستخدمين فيه فحصا وافيا، وقد قسم هذا العمل على لجينات ألفت من لجنتنا وكانت هذه اللجينات ترفع تقاريرها إلى لجنتنا الأصلية التي اجتمعت كلها معا في جلسة واحدة لسماع آراء أسمى الموظفين البريطانيين وآراء السير وليم برنيات الذي كان قبل ذلك قائما بأعمال المستشار المالي في الحكومة المصرية وكان بمصر القاهرة في أواخر مدة وجودنا فيها وكان المستر (والآن السير سيسل) هرست العضو القضائي في اللجنة يشترك معنا في هذه الأعمال على قدر الإمكان ولكنه قضى معظم وقته في درس النظام القضائي وخير تعديل يعدل به ليطابق مقتضى الزمان الحالي، وكذلك السير أوين توماس الذي كان يقوم بعمل لجينة من تلك اللجينات ولكنه وجه عنايته خصوصا إلى درس الأحوال الزراعية وزار عددا من الأباعد والأملاك التي يخص بعضها الحكومة وبعضها أفراد الناس ليحيط علما بأساليب الزراعة وبأحوال الناس المعاشية، وقضت اللجنة كلها ماعدا واحدا منها (كان يعمل عملا آخر) أياما من أسبوع في الأسكندرية حيث تيسر لها الاتصال بالجاليات الأجنبية المهمة النازلة بالمركز التجارى العظيم في القطر المصرى، فاطلعنا على آراء الغرف التجارية الفرنسوية والإيطالية واليونانية وآراء الغرفة التجارية البريطانية أيضا، وزار بعض أعضاء اللجنة مراكز أخرى للأشغال والأعمال في الوجهين البحرى والقبلى وأخبروا رفاقهم بما رأوه فيها فجاءت هذه الزيارات بفوائد ثمينة ودونت في بطون الأوراق رغما عن السعى في منعنا من الاتصال بالأهالى مباشرة كما تقدم.

وزار اثنان منا، وهما الجنرال السيرجون مكسويل والسيرأوين توماس، السودان زيارة استغرقت عدة أسابيع، وعادا منها بمعلومات ثمينة ضممناها إلى المعلومات التى جمعناها من أقوال الذين تمكنا من الاجتماع بهم في مصر القاهرة من البريطانيين والأهالى المقيمين في تلك البلاد.

فهذه الأعمال العديدة التى ذكرناها بالإيجاز شغلتنا كلنا في شهرى يناير وفبراير، وفى أواخر فبراير أخذ الوقت الباقى لدينا لإنجاز أبحاثنا يقرب من النهاية لأن جماعة من أعضاء اللجنة كانوا مضطرين أن يعودوا إلى انكلترا قبل آخر شهر مارس، فجعلنا نعقد الجلسات لتبويب المعلومات التى جمعناها وتنسيقها، ولمقارنة الآراء التى استخلصها كل منا على حدة بعضها ببعض، فاتضح لنا لأول وهلة أنه يتعذر علينا كتابة تقرير في المدة الباقية لنا بمصر لكثرة المواد المتراكمة لدينا وكثرة المسائل التى تقتضى بحثا دقيقا لاسيما وأن مقابلاتنا بالناس كانت لا تزال تستغرق جانبا كبيرا من وقتنا. فلذلك أرجأنا إعداد تقريرنا إلى ما بعد عودتنا إلى انكلترا. على أن المناقشات الابتدائية التى جرت بيننا أظهرت أننا مجمعون إجماعا غريبا على بعض الأمور الجوهرية حتى أننا أثبتنا قبل سفرنا من مصر عدة اقتراحات اتفقنا كلنا عليها اتفاقا وقتيا، ولكنا جعلناها بمثابة رءوس أقلام قابلة للتعديل طبقا لما تقتضيه زيادة البحث والمناقشة.

وهذه الاقتراحات تعم دائرة لجنتنا وتحقيقنا كلها وهى أساس تقريرنا الحالى، فيخلق بنا والحالة هذه أن نراجع حاصل لجاننا في مصر والنتائج التى وصلنا إليها.

(2) النتائج الوقتية التي استنتجناها في مصر

(أ) أسباب الاضطرابات الأخيرة والقلق الحالي

أولا - قبل الحرب:

إن الاضطرابات التى وقعت في شهر مارس سنة 1919 تعاظمت حتى بلغت غايتها بسبب حوادث معينة تتعلق بالحرب ولا يمكن نسبتها على الاطلاق إلى أحوال حديثة أو أحوال جرت في زمانها فقط، لأن السبيل مهد لها قبل حدوثها بزمان طويل.

ويظهر أن الناس في هذه البلاد كثيرا ما يحسبون فيما يقولونه ويكتبونه أن مصر جزء من الإمبراطورية البريطانية. وهذا لا يطابق الواقع ولم يطابق قط فيما مضى أن "المركز الخصوصي" الذي تشغله بريطانيا العظمى في مصر يبتدئ تاريخه من يوم توسطها لإعادة النظام مدة الثورة العرابية سنة 1882 بعد ما طلبت من الدول أن تشترك معها في ذلك فأبت. فألقى ذلك على عاتق بريطانيا العظمى مسئولية لا يسعها رفضها ولا تستطيع القيام بأعبائها إلا باحتلال تلك البلاد إلى أن يستتب النظام في البلاد ويثبت إمكان المحافظة عليه وصيانة أرواح الأجانب المقيمين فيها وأموالهم. وكانت الحكومة البريطانية تنوي في ذلك الحين الجلاء عن البلاد حالما تدرك تلك الغاية كما صرحت به جهارا فأرسلت السير هنري در مندولف سنة 1887 إلى الآستانة يمهد لها سبيل الجلاء فوضع اتفاقا مع السلطان وافقت بريطانيا العظمى بمقتضاه على إخراج جنودها من القطر المصري بعد ثلاث سنوات على شرط ألا يجدَ حينئذ خطر خارجي أو داخلي يقتضي إبقاءهم فيه، وأيضا على شرط أنه يحق لها أن تعود فتحتل البلاد إذا حدث خطر كهذا، ولكن السلطان رفض توقيع هذا الاتفاق في آخر لحظة بسبب التشديد الأجنبي عليه فأخفقت المفاوضات بسبب ذلك.

ومع أن بريطانيا العظمى بقيت في مصر فهي لم تفعل شيئا في السبع والعشرين سنة التي تلت ذلك بجعل مركزها في مصر شرعيا أو يمس النظرية التي من شأنها اعتبار مصر أمة مستقلة استقلالا داخليا تحت سيادة سلطان تركيا، وكانت مصر نظريا تحت حكم الخديوي ومجلس النظار المصريين ومجلس شورى القوانين المصري والجمعية المصرية ولم يكن المعتمد البريطاني اسما غير "وكيل سياسي وقنصل جنرال" يعرب عن آراء حكومته ورغائبها لحكومة مصر كغيره من معتمدي الدول الأخرى. ثم لوجود جيش الاحتلال ولكثرة ما ألقي على عاتقه تدريجيا من الواجبات والمسئوليات بحكم الأحوال أضحى الحكم الحقيقي في البلاد، ومع ذلك كان يعنى أشد العناية باحترام تلك النظرية، وكان المصريون يعدون احترامه لها عربونا يضمن لهم أن الدولة المحتلة لا تقصد أن تغض من حالة الحكم الوطني في بلادهم.

وكانت الدول الأجنبية تعده كذلك أيضا، فلما عقد الاتفاق بين إنكلترا وفرنسا سنة 1904 وقع تصريح في لندن هذا نصه:

" تصرح حكومة جلالة الملك البريطانية أنها لا تنوي تغيير حالة مصر السياسية، وتصرح حكومة الجمهورية الفرنسية أنها لا تعرقل عمل بريطانيا العظمى في تلك البلاد إما بطلبها منها تعيين أجل للاحتلال البريطاني أو بغير ذلك".

فهذا الاتفاق كان يفي بقضاء جميع الأغراض لو دام السلم في أوروبا، ولكن وقوع الحرب ودخول تركيا فيها إلى جانب العدو أفضيا إلى مسائل صعبة معقدة لأن المصريين كانوا حكما رعية سلطان تركيا ويدينون له لا للتاج البريطاني فهذه حالة لا يمكن احتمالها كما لا يخفى، ولكن مجرد إلغاء السيادة التركية بداعى الحرب كان يحرم مصر من كل حالة سياسية معينة ويتركها بين يدى بريطانيا العظمى كبلاد من البلدان التابعة لتركيا، وحينئذ كان يسهل على بريطانيا العظمى حل هذا الإشكال بضم مصر إلى الامبراطورية البريطانية، ولكن الحكومة البريطانية اختارت عمدا سبيلا أرق من هذا به تنال مصر الأمن ويبقى مبدأ الوحدة القومية المصرية غير ممسوس وذلك ببسط حماية بريطانيا العظمى عليها، وعليه صدر المنشور التالى في الوقائع الرسمية في 18 ديسمبر سنة 1914:

"يعلن وزير الخارجية لدى جلالة ملك بريطانيا العظمى أنه بالنظر إلى حالة الحرب التى سببها عمل تركيا قد وضعتَ مصر تحت حماية جلالته وأصبحت من الآن فصاعدا من البلاد المشمولة بالحماية البريطانية.

وبذلك زالت سيادة تركيا على مصر وستتخذ حكومة جلالته كل التدابير اللازمة للدفاع عن مصر وحماية أهلها ومصالحها".

وفى اليوم التالى صدر منشور آخر بخلع عباس حلمى الخديوى إذ ذاك بحجة التصاقه بأعداء الملك وأن وراثة عرش مصر عرضت على سمو البرنس حسين كامل فقبلها ملقبا بسلطان مصر.

أما المصريون الوطنيون فكانوا دائما يقولون ويؤكدون أنهم فهموا أن الحماية ستكون احتياطا حربيا، وأن الدفاع عن مصر الذى صدر الوعد به في الفقرة الثانية من المنشور يقتصر على الدفاع في الحرب فقط، ولكن يظهر لنا من عبارة المنشور أنه لا يفتح بابا لهذا التفسير، ولكن لا ريب في أن المصريين أفهموا أن المساعى ستبذل بعد الحرب لتحقيق أمانيهم القومية، وأن الجهد أفرغ في التأكيد لهم بأن حالتهم السياسية الوطنية لم تصر بعد بسط الحماية عليهم أردأ مما كانت عليه قبلها. مثال ذلك التلغراف الذى أرسله جلالة الملك إلى السلطان حسين لما جلس على عرش السلطنة فقد استعمل جلالته فيه هذه الكلمات:

"فى اليوم الذى ترتقى فيه عظمتكم السلطانية منصبها السامى أرغب أن أقدم إلى عظمتكم السلطانية عواطف الوداد المنبعثة عن أكمل إخلاص مع تأكيدى لكم بأننى لا أنفك عن تأييدكم في المحافظة على مصر وضمان رفاهيتها في المستقبل وسعادتها، ولقد دعيتم عظمتكم السلطانية إلى تحمل مسئولية منصبكم السامى إبان أزمة خطيرة في الحياة الأهلية بمصر، وإنى على يقين أنه بمعاونة وزرائكم وبحماية بريطانيا العظمى يتسنى لكم التغلب على كل المؤثرات التى يراد بها العبث باستقلال مصر وبرفاهية أهلها وسعادتهم".

وزد على ذلك أن المصريين الوطنيين يستشهدون بشواهد عديدة صرح فيها رجال الدولة البريطانيون بإنكار كل فكرة بضم البلاد أو باحتلالها احتلالا دائما، وبتأييد القول الذى قاله السير الدن غورست وهو أن الفكرة الأساسية التى تتوخاها الحكومة البريطانية هى إعداد المصريين للحكم الذاتى ومساعدتهم في الوقت نفسه لكى يتمتعوا باجتناء الفوائد التى تعود عليهم من وجود حكومة صالحة جيدة في بلادهم. فالإنكليز يعلمون الحوادث التي حالت دون إنجاز هذه العهود حتى الآن، ولكن المصريين يحرصون عليها. ولذلك يسهل اتخاذها حجة على الإنكليز لاتهامهم بسوء النية، فينبغي تذكر هذه الأمور إذا أردنا أن نفهم سبب استنكار المصريين للزعم المعتاد وهو أن مصر صارت من الأملاك البريطانية أو أن بسط الحماية عليها صيَّرَها كذلك.

ولذلك ظلت الحالة في مصر حالة غير طبيعية منذ احتلال البريطانيين لها سنة 1882، ففي بادئ الأمر كانت تعرض مشاكل يظن الإنسان أنه لا يمكن حلها والتغلب عليها ثم لا تلبث أن تحل بنجاح فائق تحت إشراف رجل من أعظم الإداريين كفاءة واقتدارا. ولما مرت الأيام وبان في الظاهر أن أداة الحكم في مصر سائرة سيرا حسنا منتظما لم يعد الرأي العام البريطاني يهتم بأمر الحالة غير المحدودة في تلك البلاد، ولكن الواقع أن الحاجة إلى تسوية تلك الحالة كانت تزداد شيئا فشيئا كلما ازداد تأثير وجودنا في القطر المصري والشعور بتأثير الطرق الأوربية التي تدخل إليه، فإنه بعد زوال الخوف من الظلم الذي غادر المصريين في الأيام القديمة طائعين خاضعين تحركت فيهم خواطر جديدة ومطامع جديدة مما لابد منه، فمصريو سنة 1920 يختلفون عن مصريي سنة 1910، ويختلفون كثيرا جدا عن مصريي سنة 1890 سواء كانوا من أهل المدن أو من الفلاحين، فنحن لم نعالج حل القضية المصرية كما يقتضيه الصدق والجد، وإهمالنا ذلك هو الذي سبب بعض ما وصلت إليه الحالة الحاضرة.

إن نظام الأحكام الذي استنبطه اللورد كرومر لإنقاذ حكومة قد دهمها الإفلاس لم يكن إلا نظاما وقتيا، لأنه لم يكن أحد يظن مدة أعوام كثيرة أن الاحتلال يدوم إلى ما شاء الله بعدما وافقنا فعلا سنة 1887 على أنه ينتهي بعد أجل قصير، ولكن التدابير المؤقتة والوسائل التي اتخذت في ساعتها لسد الحاجة الماسة ثبتت ورسخت شيئا فشيئا حتى صارت نظامات مقررة وجعل العنصر الأقوى بين العناصر الإدارية يزيد قوة وتفوقا وينال من السلطة ويتحمل من المسئولية ما لم يكن مقصودا في الأصل ويقصر خدمة العنصر المصري على الوظائف الثانوية في الحكومة. إن السياسة التي كانت متبعة في أوائل عهد الاحتلال كانت تقوم باستخدام عدد محدود من الموظفين البريطانيين المنتقين بمزيد العناية ليشيروا وليساعدوا خصوصا في دوائر المالية والري ثم أضيف إليهم على مر الأيام مستشار قضائي ومستشار للمعارف وبعدهما مستشار للداخلية وجماعة من المفتشين للأقاليم، كان عدد هؤلاء الموظفين محصورا ضمن دائرة محدودة وكان لا يوظف منهم إلا الأكفاء المجربون كان اشتراكهم في الأحكام محتملا ومقبولا، بل كان المصريون ينظرون إليهم بالتجلة والإكرام. ولما زادت إيرادات مصر وسع نطاق الوظائف في حكومتها كثيرا فاقتضى هذا التوسيع زيادة عدد من يوظف فيها من المساعدين والخبيرين الأجانب. فلطول زمان الاحتلال زاد عدد الموظفين البريطانيين زيادة مطردة وأغفل المبدأ القاضي بأن يكون غرض الإدارة تدرب المصريين وإعدادهم لتدبير شئونهم بأنفسهم. نعم إن الوزراء المصريين أخذوا في السنين الأخيرة يوسعون دائرة عملهم ويزيدون اهتمامهم بشؤون وزاراتهم عما كانوا يفعلون في أوائل أيام الاحتلال حين كان أكثرهم يكتفي بفخر منصبه، ولكن زاد عمل وكلاء الوزارات ورؤساء المصالح الذين أكثرهم ليسوا مصريين استقلالا عن مجلس الوزراء فجعل الاستياء ينمو ويزيد من عدد الوظائف التي احتكرها البريطانيون ولحظ الناس زيادته هذه قبل وقوع الحرب بزمان طويل. ورأى المصريون الذين طال اختبارهم لوظائف الحكومة، واتصفوا بالكفاءة أنه قد قضي على ترقيتهم إلى أسمى الوظائف في حكومتهم بعد النظام القاضي بأن المنصب الذي يتقلده موظف غير مصري لا يتقلده مصري إذا خلا، بل يتقلده غير مصري على الدوام.

واستاء الناس في مصر استياء خصوصيا حين وصول اللجنة من زيادة عدد البريطانيين حديثا في خدمة الحكومة، فهذه الزيادة وإن كان ما شاع عنها لا يخلو من مبالغة عظيمة لعدم صحة العلم بحقيقتها كانت زيادة محسوسة وشملت وظائف قليلة من الوظائف الصغيرة التي كان أهالي البلاد يستخدمون فيها إلى ذلك الحين. ومما يذكر هنا أن عدد الموظفين البريطانيين كان حوالي مائة في أوائل سني الاحتلال فبلغ حوالي 1600 في هذه الأيام "وفئات" رواتبهم تختلف عن فئات رواتب المصريين، فزيادة فئاتهم وإن كان لها مسوغ بالنظر إلى ظروفهم الخصوصية جعلت على أسهل سبيل سببا للتظلم والشكوى.

ومما زاد القلق في مصر بلا ريب كيفية المعيشة في مصر، فقد كان البريطانيون يزيدون اعتزالا وابتعادا عن معاشرة المصريين كلما زادوا عددا في مصر حتى أصبح الحي الذي يقيمون فيه بالجزيرة حيا قائما بنفسه شبه محلة من محلات الجنود البريطانية في بلاد الهند مستكملة العدة اللازمة لعشرتها وألعابها ورياضتها البدنية فزاد طيب العيش بذلك للبريطانيين، ولكنهم خرجوا به عن حظيرة الهيئة الاجتماعية المصرية وانحصروا في بقعة خاصة بهم، وبات المصريون في عزلة عنهم. ونحن لا نجهل الصعوبات التي تحول من الجانبين دون حرية الصلات الخالية من التكلف والمؤاخذة بين الرجال والنساء من أقوام مختلفة الأجناس والعادات، ولكنا إذا طرحنا كل ما يجب طرحه من حسابنا لهذه الاعتبارات وأشباهها. فالباقي بعد ذلك يقضي علينا بأن نقول إن اقتصار البريطانيين على معاشرة بعضهم بعضا واعتزالهم لسواهم الاعتزال الذي ازداد خصوصا في الأعوام الأخيرة كان سببا في البعد بينهم وبين المصريين وجعل احتلال الأجنبي أثقل على الطبع مما ينبغي أن يكون.

على أننا لحظنا بسرور حسن علاقات الحب والوداد بين كثيرين من الذين نزلوا مصر منذ زمان طويل وقليلين من كبار الموظفين ونسائهم وبين جيرانهم المصريين ورأينا الأدلة الكثيرة على عظم قيمة هذه الصداقة في الأيام العصيبة وزمان الشدّة أخيرا، ونحن على يقين أنه إذا زيدت علاقات الصداقة هذه بين الجيران ووثقت عراها زادت الفائدة من زيادتها وتقويتها. وعلى البريطانيين الذين ينزلون مصر والذين يزورونها أيضا أن يحسنوا معرفة سلوك الناس فيها واصطلاحاتهم وعاداتهم وأن يراعوها ويحترموها. ويخلق بهم، وخصوصا الزوار منهم، أن يعلموا أن عدم مراعاة الذوق السليم في أمور ولو كانت طفيفة تافهة بذاتها قد يؤدى إلى عواقب وخيمة لا نسبة بينه وبينها في جسامتها فليتوخ النزلاء والزوار البريطانيون إجمالا إزالة الحواجز الموجودة لا إيجاد حواجز جديدة، وليمازجوا المصريين في معيشتهم على قدر الإمكان وليتعلموا الكفاية من لغتهم حتى تتيسر لهم معاشرتهم وحتى يجدوا اللذة والتبسط فيها، وليجتنبوا الأسباب الجزئية التى تسوؤهم لأنها إذا توالت كانت وخيمة العاقبة.

هذا، ولسنا نرى من الجهة الأخرى مسوغا لانتقاد سمعناه كثيرا وهو أن الموظفين البريطانيين انحطوا في الكفاءة والأوصاف، ففى مصر اليوم موظفون بريطانيون كثيرون بالغون شأوا بعيدا في الكفاءة والمقدرة، كما كان بها فيما مضى رجال فائقون في مقدرتهم وآخرون معتدلون فيها ولكن قوة الانتقاد زادت في المصريين كثيرا بتقدمهم وباتصالهم بالبلدان الأخرى فصاروا يتطلبون من المقدرة والكفاءة أكثر مما كان يتطلبه أسلافهم.

وأيضا بعد ما اعتزل اللورد كرومر منصبه بمصر سنة 1907 توالى على مصر لا أقل من خمسة وكلاء بريطانيين ومعتمدين سامين حتى جعلت مصر تشعر كأنها حقل من حقول التجارب فتأتى عن هذه التغيرات المتكررة التى قضت بها ظروف الحال أن الموظفين البريطانيين الثابتين زادوا استقلالا وهؤلاء كانوا يهتمون بإصلاح أحوال الدواوين والمصالح وإجادة أعمالها أكثر من مراعاة المسائل السياسية، وأما المصريون الذين كانوا يراقبون مجرى الأمور فكانوا يعدون ذلك دليلا على عدم التثبت في الأمور وعدم الثبات فيها.

ومن أسباب الاستياء العام أيضا عدم النجاح في سياسة التعليم. كما هو ظاهر جليا، فأدى ذلك إلى تخريج عدد دائم الازدياد. ولا حاجة إليه من طلاب الوظائف الحاملين شهادات الامتحان والخالين من تأثير التهذيب الحقيقى، ففى بادئ الأمر كانت الحال تقتضى تعليم عدد من الشبان تعليما يمكنهم من القيام بمقتضيات وظائف الحكومة الكتابية التى كان معظم الموظفين فيها إذ ذاك من غير المصريين، وكذلك إعداد الطلبة لدخول المدارس العليا التى تدرس الطب والحقوق والهندسة، ولكن يظهر هنا أيضا أن الحال بقيت إلى عهد قريب بلا سعى يذكر في تنقيح نظام وضع في ظروف استثنائية وبلا التفات إلى كون الأحوال المتغيرة تقتضى اتباع طرق جديدة، وأن التعليم والتهذيب الذى أقبل الناس عليه إقبالا حقيقيا وجعلوا يلحون في طلبه لا يزال قاصرا جدا. والسواد الأعظم من الأهالى لا يزال أميا، وليس ذلك فقط بل لا يزال بلا تربية اجتماعية أو أدبية أيضا. والناس إنما يجدون التهذيب الصحيح بمعناه الأسمى في المعاهد الدينية والخيرية التى يشرف على أكثرها أناس فرنسيون أو أمريكيون أو في كلية فيكتوريا البديعة التى أنشأها نزلاء الاسكندرية البريطانيون. ولكن مع كل هذه الانتقادات التى ينتقد بها على المعارف المصرية لابد لنا من التسليم بأن مستوى التعليم ارتقى كثيرا عما كان عليه في أوائل عهد الاحتلال وأن عدد الذين يهتمون بالمسائل العمومية بفهم وذكاء ازداد اليوم كثيرا.

هذا، والدعوة الوطنية قائمة على ساق وقدم في مصر منذ زمان طويل، ولو نشأ الروح القومي في الصدور مقرونا بالعقل والاعتدال لقوبل بالميل إليه والعطف عليه والاهتمام به، وقد كان المرحوم اللورد كرومر يؤمل أن يوجهه جهة الخير والنفع ولكن المناظرات السياسية التي كانت لسوء الحظ بين الدول الغربية حوّلته من بادئ الأمر حتى صبغته بالصبغة المضادة للبريطانيين، وكان الخديو السابق تارة يؤيد أنصار الدعوة الوطنية ويشدد عزائمهم، وتارة يخذلهم ويقاومهم طبقا لغاياته الشخصية. وكثر عديدهم بانضمام أعضاء إليهم من موظفي الحكومة الناقمين المستائين الذين يعدون وجود البريطانيين حائلا بينهم وبين الترقي، والذين ضعفت عزائمهم من وجود نظام للانتقاء للوظائف يمكَن ذوي الوجاهة والنافذي الكلمة من تفضيل أقاربهم وأتباعهم وتقديمهم على غيرهم في وظائف الحكومة. ثم إن ازدياد عدد التلامذة الذين ينتظرون الاستخدام في الحكومة جزاء التضحيات التي كثيرا ما يضحونها حقيقة في سبيل الاستعداد لتلك الخدمة والذين يرون أن مزاحمة الأجنبي لهم على الوظائف تقلل من إمكان حصولهم عليها صيرهم آلات معدة لنشر تلك الدعوة في الأقاليم.

ونقول أخيرا إن هناك أمرا دائم الوجود وكامنا في النفوس وهو عدم اصطبار المسلم على حكم المسيحي، فوجود المسلم في مركز سياسي تحت مركز المسيحي مناف لروح الإسلام، والشعور الذي يصدر عن هذا الروح يدوم طويلا في الصدور بعد ما تخف حرارة الشعور الديني نفسه، أو تخمد تماما في الصدور. ولا ريب أن وجود الشعور المذكور أثر تأثيرا استخدمه العنصر الديني في البلاد لتحريض الناس على اسم "الحماية" بعد ما فسروها بأنها تفيد خضوع الحاكم المسلم وحكومته الإسلامية لملك مسيحي خضوعا دائما. ولا يخفى أن في الشرق غيرة وطنية على الدين أشد وأمكن من الغيرة الوطنية على الوطن وعلى تقاليد أهله.

ثانيا - في أثناء الحرب:

هذه هي العوامل التي كانت قد عملت مدة طويلة لما دخلت تركيا - كرسي الخلافة - الحرب سنة 1914 ضد الدولة المحتلة، ووعد عمال ألمانيا جهرة بتحرير مصر من السيطرة البريطانية بعد انتصارهم الأخير الذي كانوا واثقين به كل الثقة، ففي هذه الأحوال وبسبب روح العداء المستحكم الذي ما زال يتجسم ضد الدولة المحتلة مدة سنتين أشير على القائد العام-ونعمت الإشارة بإعلان الحرب مع تركيا ليعلم الناس أن بريطانيا العظمى أخذت على نفسها "أن تحمل وحدها حمل الحرب الحاضرة من غير أن تدعو الأمة المصرية إلى مساعدتها فيها" على أنه من العدل والإنصاف أن يسطر هنا أنه مهما تكن الأماني والآمال التي حركتها الحرب في صدور فئة من المصريين فإن الشعب المصرى تحمل التكاليف والقيود التى اقتضتها تلك الحرب بالصبر والرضى، والخدم التى قام بها فيلق العمال المصرى كانت خدما لا تثمّن ولا غنى عنها للحملة على فلسطين، وأن حكومة السلطان أيدت رجال السلطة البريطانية بأعظم تعاون حبى. والدلائل على ذلك كثيرة منها تنازلها عن ثلاثة ملايين جنيه إنجليزية من حساب الأمانات والعهد التى كانت قد سلفتها وكان يحق لها المطالبة بها.

إلى هنا بحثنا فقط في أسباب الاضطراب في القاهرة وغيرها من البنادر الكبرى في المدة السابقة للاضطرابات التى حدثت في مارس سنة 1919.

بقى علينا أن نبحث في الأسباب التى أثرت في الفلاحين فجعلتهم يتأثرون بتحريض أنصار الدعوة الوطنية وأقوالهم.

ظهرت آثار القلق على الفئات المتعلمة في مصر قبل أزمة سنة 1919 بزمان طويل كما أبنَا فيما تقدم، ولكن انتشارها حتى وصلت إلى الفلاحين وحملتهم على ارتكاب الفظائع وهم الطبقة التى جنت منافع عظيمة من الاحتلال البريطانى أمر يحتاج إلى الإيضاح.

فأولا نقول إن الاضطراب بين الفلاحين أضيق نطاقا مما كان يظن، والاضطرابات انحصرت في جوار البنادر الكبرى والبلاد المحاذية لخطوط المواصلات، وأما القرى البعيدة التى لا يصل إليها المحرضون وأهل الدعوة بسهولة فلم يبد فيها صغار الفلاحين ميلا كثيرا إلى الاشتراك في حركة كهذه، ثم إن الأماكن التى وقعت الاضطرابات فيها وقع التعدى فيها على سكك الحديد بوجه الإجمال. وهناك ما يحمل على الاعتقاد بأن مهاجمة سكك الحديد كانت اتباعا لخطة قديمة سابقة كان يقصد بها التمهيد لهجوم ألمانى عثمانى على القنال، ويؤيد هذا الهجوم ثورة تحدث في مصر، وهذا يعلل بعض الدلائل التى تدل على اشتراك واتحاد في العمل باضطرابات مارس سنة 1919.

وهناك ما يدل أيضا على أن التحكم في أسعار القطن زاد استياء الناس، لأن هذا التحكم يحرم الزارع مزية المزاحمة في الأسواق الأجنبية مع كون إيجار أطيانه على ازدياد. ولكن هناك عوامل جرتها الحرب وكانت أدعى إلى زيادة جفائه ونفوره وهى: (1) التجنيد لفيلق العمال والهجانة المصرى، (2) مصادرة الحيوانات الأهلية، (3) مصادرة الحبوب، (4) جمع الأموال للصليب الأحمر. فكان استهجان الناس لطريقة تنفيذ هذه العوامل أكثر من العوامل نفسها.

أما العامل الأول فقد دلت الدلائل على أن الأنفار كانوا بعد تجنيدهم يرضون بشروط التجنيد، وأن الرواتب التى كانوا يأخذونها نفعت الفقراء نفعا عظيما، ولكن يظهر أن المستشفيات التى كانوا يمرضون فيها لم تكن على ما يرام، وأنه كان بين ضباطهم كثيرون يجهلون لغتهم ولا خبرة لهم بمعاملتهم. على أن قبولهم للانتظام في سلك فيلقهم المرة بعد المرة وعدم اشتراك الذين كانوا في الخدمة وأما العامل الرابع وهو جمع الأموال للصليب الأحمر فقد تولاه المأمورون والعمد المصريون. وكان المقصود جمع هذه الأموال بالتبرع ولكنه كثيرا ما تحول إلى الغصب والإكراه على يد موظفين يطلبون أن يكون لهم فضل واستحقاق بجمع الأموال التي جمعت من مراكزهم. شاع في البلاد أن جزءا فقط من المال المجموع بلغ المصدر الذي جمع له. فمما يختلف فيه والحالة هذه ما إذا كان من أصالة الرأي ومراعاة مقتضى الحال في أيام كان فيها فريق من الناس يشيد بذكر الصليب وفريق بذكر الهلال أن يعمل في مصر شيء أكثر من فتح اكتتاب لمساعدة الجرحى فكان كثيرون من أغنياء المصريين والأجانب المقيمين في مصر يقبلون على الاكتتاب بلا ريب. وأما تفويض جمع المال إلى موظفين محليين من المصريين فكان من شأنه فتح باب للمنكرات والمساوئ المؤدية إلى زيادة التشديد على الفقراء الذين كرهوا الحرب جدا لأسباب أخرى كثيرة. هذا ومما يقتضي ذكره أن لجنتي الصليب الأحمر الإنكليزي وفرسان ماريو حنا عينتا بعد الحرب (100,000) جنيه إنكليزي لإعانة الذين نكبوا في الحرب من فيلق العمال المصريين وعائلاتهم. وزد على هذه الظلامات الخصوصية التي ذكرت أن أسعار الأشياء ارتفعت في مصر ارتفاعا متواليا لم يسبق له مثيل ولاسيما أسعار الحاجيات كالحنطة والثياب والوقود فثقلت وطأتها على الفقراء ولاسيما أن أجورهم لم تكن تكفي للنفقة التي يقتضيها غلاء المعيشة مع أنهم كانوا يرون عددا من مواطنيهم ومن الأجانب غير المحبوبين عندهم يجمعون الثروات الكبيرة، فعائلة من أربعة أنفس رجل وزوجته وطفلين لم تكن تستطيع في أوائل سنة 1919 الحصول على ما يكفيها من الطعام إلا بثمن يفوق متوسط الأجرة كثيرا حينئذ.

فهذه العوامل المختلفة أفضت في آخر سنة 1918 إلى الاستياء والقلق بين معاشر الفلاحين وأضاعت بعض الثقة التي كانت عندهم بمزايا الإدارة البريطانية، فأعد ذلك النفوس لقبول تحريض المحرضين. وكانت إذ ذاك قد مضت مدة طويلة لم ير الفلاح فيها موظفا إنجليزيا ولم يتوسط إنجليزي لحمايته من المطالب الجائرة التي كانت تطلب منه، وكان قد اعتاد أن يرى المفتش الإنجليزي يمر في غيطانه راكبا جواده ويقف هنا وهناك ليسمع شكاوى صغار الفلاحين، فغاب هذا المنظر عنه أو كاد حتى في الأيام السابقة للحرب ولم يعد يرى سوى السيارات تنقل الموظفين على عجل من مركز إداري إلى آخر، فغياب المفتش عنه سهل عليه تصديق الإشاعات التي شاعت عن قرب رحيل الإنجليز وتقسيم البلاد على الفلاحين وترك المياه مباحة لهم يأخذون منها ما شاءوا بلا ممانعة وإلغاء الضرائب عنهم. وهناك أيضا ما يحمل على الاعتقاد أن بعض المحرضين الذين لا خلاق لهم روجوا الإشاعات الوهمية الكاذبة عن تعدي الجنود الإنجليزية على أعراض النساء المصريات وهجومهم على القرى يعيثون فيها قتلا وفسادا فهاج ذلك روح السخط والانتقام الذي أفضى إلى قتل بعض الجنود الإنجليز قتلا شنيعا في ديروط. أما تلك الإشاعات فليس ثم دليل على أن زعماء الحزب الوطني هم الذين أوحوا بها.

فقدت مصر بوفاة السلطان حسين سنة 1919 حاكما مقتدرا وكريم الأخلاق يعرف أهل وطنه حق المعرفة. وكان قد قبل أن يكون سلطان مصر الأول مع علمه بثقل أعباء هذا المنصب واشترك بشجاعة وإخلاص في تحمل المشقات التى يقتضيها تدبير أمور بلاد إسلامية تحتلها دولة مسيحية محاربة لسلطان هو خليفة المسلمين وعاش حتى تغلب على نفور الناس منه بسبب حلوله محل ابن أخيه وحاز احترامهم وإكرامهم له على اختلاف طبقاتهم. أما خلفه الذى تعلم وتهذب في إيطاليا فوجد نفسه من بادئ الأمر في مركز أضعف كثيرا من مركز سلفه في عيون شعبه ولم يكن له عليهم يد إذ ذاك فمهما قصد وسعى وجدَ لم يكن يستطيع سد السيل الذى كان يطفو ويتعالى ضد الإنجليز.

ثالثا- بعد الحرب:

حاولنا فيما تقدم وصف حالة مصر الداخلية الى آخر الحرب فسهل الآن علينا أن ندرك كيف أن المبادئ التى جاهر بها الرئيس ولسن ووافق الحلفاء عليها أثرت تأثيرا سريعا قاطعا في الرأى المصرى. فقد ظهر أن قبول الدول لفكرة تعيين الأمم مصيرها جاء مصدقا لعواطف تختمر في صدور الطبقات المتعلمة منذ زمن طويل.

فالذين كانوا ينتظرون في مصر نصراً ألمانيا عثمانيا ويرحبون به فيما مضى وجدوا الآن فرصة سانحة لتغيير موقفهم، فقاموا يدعون أن مصر بمساعدتها الحلفاء أدبيا وماديا على نيل النصر كانت هي نفسها آلة فعالة في خلع البقية الباقية من النير العثمانى.

والمعتدلون في مصر قاموا يقولون إن الوقت قد حان للمطالبة بحكم ذاتى طبقا لما صرح به الساسة البريطانيون مرارا من أن تدخلنا في مصر وقتى وشعر الناس شعورا صادقا بأن سلوك البلاد عامة في الحرب ومعاونة السلطان ووزرائه والبذل الكثير الذى دعيت الأمة إليه فَلَبَّتْهُ تعطيهم حقا في مراعاة بريطانيا العظمى لهم مراعاة خصوصية حتى أن رشدى باشا كبير الوزراء كان قد فتح في آخر سنة 1917 مسألة تسوية العلاقات بين بريطانيا العظمى ومصر تسوية نهائية.

ونشطت هذه الحركة واشتدت عزيمة أهلها بنشر التصريح الإنجليزى الفرنسوى في أوائل نوفمبر سنة 1918 عن سورية والعراق. فقد جاء فيه أن بريطانيا العظمى وفرنسا تنويان تحرير الشعوب التى أنقذت من الظلم العثمانى تحريرا تاما، وأن تنشئ لهم حكومات وطنية تستمد سلطتها من السنن التى يسنونها من تلقاء أنفسهم ومطلق اختيارهم، فأبان المعتمد السامى حينئذ (السرر يجنلد ونجت) أن هذه السياسة سيكون لها صدى في مصر. وزد على هذا أن المصريين كانوا قد شاهدوا قبل ذلك بقليل إنشاء مملكة مستقلة في بلاد العرب التى لا يزالون يعدونها متأخرة بمراحل في الحضارة والارتقاء عن بلادهم التى تضارع بلاد الغربيين بعض المضارعة.

وبينما كان الناس يتحدثون بهذه الأمور في كل مكان ثار ثائر الرأي العام إثر إذاعة مذكرة سرية أوّلت بأنها تنكر على مصر مزايا الحكم الذاتي الذي يراد منحه لأمم دون الأمة المصرية ارتقاء. وذلك أن لجنة خصوصية كانت قد عينت في أوائل سنة 1918 للبحث في الإصلاح الدستوري فطلبت من السير وليم برنيات نائب المستشار المالي أن يضع مذكرة تكون قاعدة لمناقشتها، وأن يفحص على الخصوص مبدأ منح النزلاء الأجانب قسطا في تشريع البلاد لعل ذلك يغري الدول بالتنازل عما يحق لها بموجب الامتيازات الأجنبية من المفاوضة في كثير من ذلك التشريع، فلما قدمت مذكرة السير وليم برنيات إلى رئيس الوزارة في أواسط نوفمبر سنة 1918 ساءته كثيرا، ثم ذاعت واشتهرت مع أن المقصود كان جعلها قاعدة لمناقشات سرية، فقامت القيامة وعلا الاحتجاج على مشروع فسر بأنه يمنح الجمعية التشريعية سلطة استشارية فقط ويعهد في السلطة التشريعية كلها إلى مجلس ثان (مجلس شيوخ) تكون فيه الأكثرية من الأعضاء الذين تعينهم الحكومة وبعض الأعضاء الأجانب المنتخبين.

وفى الوقت الذي عينت فيه اللجنة المذكورة آنفا كانت لجنة أخرى تدرس مسألة الإصلاحات القضائية اللازمة فيما إذا ألغيت الامتيازات الأجنبية، وقد قضت في ذلك أشهرا كثيرة ولم تصدر تقريرا ولكن شاع أنها تنوي استبدال المحاكم المختلطة بمحاكم جديدة تكون لغتها الإنجليزية ويكون القانون الإنجليزي هو المعمول به فيها. وفي ذلك ما فيه من الغبن والحيف على المحامين من أبناء البلاد وشل أيدي المحامين الأجانب الذين يترافعون بالفرنسية وكان من شأن هذه الإشاعة أنها زادت معاداة المحامين لتوسيع المراقبة الإنجليزية.

وفى 13 نوفمبر سنة 1918 زار زغلول باشا وزعيمان آخران من زعماء الفريق المتقدم في الحركة الوطنية المعتمد البريطاني السامي وأعربوا له عن رغبتهم في السفر إلى لندن لعرض بيان "بالاستقلال الذاتي التام" لمصر، وعرض رشدي باشا في الوقت عينه أن يسافر هو وعدلي باشا يكن وزير المعارف إلى لندن للمناقشة في شؤون مصر، وقال إن السلطان موافق على ذلك تمام الموافقة، وكانت حجة هذين الوزيرين أن مؤتمر الصلح سيوافق على الحماية رسميا، وعليه لا يمكن ترك ماهيتها وكنهها بلا تعريف وتحديد. فقد كان لمصر تحت السيادة العثمانية حقوق معلومة، وهما يريدان أن يعلما ما هي حقوقها على بريطانيا العظمى تحت حمايتها.

فأبلغ السير ريجنلد ونجت وزارة الخارجية مطالبها، فجاءه الجواب بأن "لا فائدة من السماح لزعماء الحركة الوطنية بالمجيء إلى لندن، وأما زيارة الوزيرين فليست مناسبة الآن. وأبان وزير الخارجية البريطانية السبب في ذلك، وهو أنه سيغيب هو وزملاؤه عن لندن بسبب مؤتمر الصلح، ولذلك "لا يستطيعون أن يعطوا الوقت الكافي والعناية الواجبة لمسائل الإصلاح الداخلي المصري" وعليه طلب من الوزيرين أن يؤجلا زياراتهما، فأفهم رشدي باشا المعتمد السامي أنه يعد رفض حكومة جلالة الملك لسماع أقواله حالا تفسيرا لمعنى الحماية لا يوافق عليه ولذلك قدّم استعفاءه. ولا ريب أنه كانت هناك موانع واضحة تمنع من البحث مع الوزراء المصريين في مسائل كهذه حين كان الضغط السياسي شديدا، وكان مؤتمر الصلح بوشك أن يفتح، ولكن يظهر أنهم لم يدركوا في تلك الساعة الحرجة وجوب البحث في المسألة المصرية حالا مع أن المعتمد السامى ألح عليهم في مقابلة الوزيرين، فلم يدخروا وسعا في إقناع رشدى باشا باسترجاع استعفائه وضربوا موعدا لمقابلة الوزيرين، ولكن مركز أنصار الحركة الوطنية كان قد قوى واعتز في مصر حتى أن الوزيرين اشترطا في سفرهما أن يسمح لزغلول باشا ورفاقه بالسفر مثلهما. ولما لم يروا من الموافق السماح بذلك أصر الوزيران على الاستعفاء، فطلب المعتمد السامى إلى انجلترا لاستطلاع رأيه في الحالة.

وكانت نتيجة هذه الحوادث أن بعض المعتدلين انضموا إلى المتقدمين من أهل الحركة الوطنية، ونهض هؤلاء يطالبون بسياسة أبعد مدى، وحمل عمالهم حملة شديدة على الإنجليز في طول البلاد وعرضها حيث لم يبق إلا قليلون من الموظفين البريطانيين بسبب الحرب.

وبينما كان البحث دائرا على سفر الوزيرين المصريين إلى لندن في أوائل سنة 1919، أرسلت مذكرة إلى وكلاء الدول في مصر بتأليف وفد من اثنى عشر عضوا تحت رياسة زغلول باشا وغرضه عرض أمانى مصر المشروعة على الدول الأخرى، وكان معظم أعضاء الوفد أعضاء لجنة وطنية تألفت في آخر السنة السالفة من أربعة عشر عضوا.

وفى الثالث من شهر مارس رفع الوفد عريضة إلى السلطان أوّلها الجمهور بأن الغرض منها محاولة إرهاب عظمته ومنعه تأليف وزارة جديدة، فعدّ ذلك تحديا لا يمكن السكوت عنه، فقر رأى السير ملن شيتهام القائم بأعمال المعتمد السامى بعد موافقة الحكومة البريطانية على إبعاد زغلول باشا وثلاثة من أشد أنصاره إلى مالطة، فأفضى ذلك إلى تجدد التحريض والاحتجاج وبدأ الطلبة بالقاهرة بمظاهرات ضد الإنجليز أوجبت مداخلة الجنود على عجل. وجاءت أنباء الأقاليم بحدوث مثل هذه الفتن، وفى 12 مارس حدثت فتنة في طنطا فأخمدها الجنود بعد سفك دم. ولم يأت اليوم الرابع عشر والخامس عشر من مارس حتى كانت الاضطرابات قد انتشرت في معظم مديريات الوجه البحرى وعم فيها الهجوم على المواصلات لقطعها ووردت الأنباء من أماكن كثيرة بالسلب والنهب والاعتداء على الجنود البريطانية وقتل بعضها وبعض الملكيين، وفى 16 منه قطعت سكة الحديد والأسلاك التلغرافية بين القاهرة والوجهين البحرى والقبلى. ولم يأت يوم 18 مارس حتى كانت مديريات البحيرة والغربية والمنوفية والدقهلية قد جاهرت بالثورة. وقد قطعت المواصلات تماما بين القاهرة والوجه القبلى والأجانب المقيمين فيه، وبلغ تعصب الثوار أشده في ذلك اليوم بقتل ضابطين بريطانيين وخمسة من غير الضباط في ديروط ومفتش إنجليزى في مصلحة السجون وهو راكب القطار بين مصر وأسيوط والمنيا، ولكن عادت الحالة فهدأت في 26 مارس من الوجهة العسكرية المحضة. فأعيدت المواصلات بخط سكة حديد الأكبر والتلغراف ورتبت الجنود اللازمة لحراستها، ووجهت القوّات العسكرية في جهات مختلفة لحفظ النظام في الأماكن التي اشتدت الثورة فيها والقبض على الذين ارتكبوا الفظائع ومحاكمتهم وإعادة هيبة الحكومة إليها، وأنقذت الأماكن النائية في الوجه القبلي، فزال بذلك الدور الأوّل من الاضطراب وكان أشد الأدوار خطرا.

وعليه لم يمض على إبعاد زغلول باشا وشركائه أسبوع حتى قامت حركة على الإنجليز، بل على الأوربيين عموما وبلغت حدا تخشى عواقبه. وكانت حركة وطنية تؤيدها أميال جميع الطبقات والمذاهب في الأمة المصرية وفى جملتهم الأقباط، وظهرت بين أشد عناصرها تعصبا بمظهر تخريب الأملاك والمواصلات تخريبا منظما والاستهانة بالنفوس استهانة متزايدة. ولا ريب أن الوفد مسئول عن تنظيم المظاهرات الأصلية التي نشأت الحركة عنها، ولكن أعضاؤه الذين يفوقون سواهم في المسئولية هالهم تفاقم الخطب حتى خرج زمام الحالة من أيديهم وانتقل إلى أيدي المتطرفين غير المسئولين تؤيدهم بعض العناصر الأجنبية من المتشردين.

وَكان اللورد اللنبي القائد العام في مصر قد سافر لينضم إلى مؤتمر الصلح في باريس في 12 مارس فعاد إلى القاهرة في 25 منه، وكان قد عين معتمدا ساميا خاصا مدّة غياب السير ريجلند ونجت في إنجلترا وصدرت إليه التعليمات "بإعادة القانون والنظام وبإدارة الأمور بجميع الوسائل على ما يقتضيه بقاء حماية الملك قائمة على قاعدة ثابتة عادلة" وقد أفضت التدابير العسكرية التي اتخذت إلى تهدئة الأحوال ظاهرا، ولكن الشعور بعداوة الإنجليز لم يخف إلا قليلا وتحول بالأكثر ضد العنصر العسكري الذي أشاعوا الأخبار الكاذبة عن سلوكه في قمع الفتنة وظل المحامون والطلبة معتصبين وغاب كثيرون من الموظفين عن مكاتبهم.

ودعا المعتمد السامي الخاص إليه نفرا من الأعيان وخاطبهم بلهجة سليمة، ولكن ذلك لم يحل دون الإضراب العام من 2 أبريل إلى 6 منه. غير أن اللورد اللنبي سمح بسفر المصريين الذين يريدون السفر إلى إنجلترا وبعودة زغلول باشا ورفاقه الثلاثة من مالطة جريا على سياسته السلمية وبموافقة حكومة جلالة الملك، وبذلك انعكست السياسة التي اتبعت قبل مرور شهر على إبعادهم وأصبح زعماء الحركة أحرارا يذهبون إلى إنجلترا أو إلى غيرها لتجديد التحريض والتهييج.

هذا بالاختصار حديث سير الأحوال في الأربعة الأشهر الأولى من سنة 1919، وقد اتضح بعد حدوث ما حدث أنه كان يجب تنشيط الوزيرين المصريين للمجيء إلى لندن لما طلبنا ذلك، ودلت النتيجة على أن مشورة السير ريجنلد ونجت في هذه المسألة كانت عين الصواب. وفى رأينا أنه كان يحسن صنعا لو زاد إلحاحا في وجوب اتباع مشورته. وبعد هذا الخطأ الذي ارتكب في بادئ الأمر جرت الحوادث في مصر بأسرع مما أدركت الحكومة، فإنها لم تقدر نتائج إبعاد الزعماء حق قدرها، ولما ألغي الأمر بإبعادهم بعد حدوث اضطرابات شديدة تبادر إلى ذهن الناس طبعا أن السياسة البريطانية سياسة تردد، وأنها تتقلب تقلبا سريعا تحت تأثير الإغراء والتحريض، ثم اقتضى الأمر في المرحلة الثانية معاقبة الذين قتلوا الضباط الإنجليز وارتكبوا فظائع أخرى مدة الفتنة. وهذا العقاب أطال عهد السخط طبعا وإن لم يكن قد أنفذ بالاعتدال بوجه الإجمال. وحاولت الحكومة تطييب خواطر المصريين بإحالة كثير من القضايا إلى المحاكم العادية بعد ما نظرت المحاكم العسكرية في القضايا المستعجلة جدا، ولكن رأي أنصار الحركة الوطنية قد صلب ورسخ، فنتج عن ذلك أن الناس لم يعودوا يتقدّمون للشهادة في جميع القضايا تقريبا فأطلق سراح المتهمين فيها. وفى أثناء ذلك سافر زغلول باشا ورفاقه بعد إخلاء سبيلهم من مالطة إلى باريس آملين أن يحملوا مؤتمر الصلح على سماع دعوى مصر بالاستقلال. ولما أخفقوا في ذلك وجهوا همهم للحصول على تأييد الأجنبي لقضيتهم، فأوفدوا رسولا إلى أمريكا لاستمالة الرأي العام في الولايات المتحدة. وجدّ أنصارهم في مصر في السعي لإتمام نظامهم وجمع أموال طائلة ونشر دعوتهم في جوانب البلاد متذرعين إلى ذلك بالقلق الصناعي الذي كان في البلاد. فحوّلوا كل جهدهم للاستعانة به. ولذلك تعدّدت حوادث الإضراب عن العمل بين كبيرة وصغيرة، وأعلن في خلال ذلك أن الحكومة البريطانية عازمة على إرسال اللجنة الخصوصية إلى مصر. فحكم المهيجون بأن غرض هذه اللجنة القضاء على الوطنية المصرية، فجعلوا همهم تضييق دائرة عملها بمقاطعتها مقاطعة منظمة .

(ب) الحركة الوطنية والأماني المصرية

تقدم لنا كلام كاف لتعليل سرعة نموّ الحركة الوطنية. وأصعب من ذلك أن نبسط الكلام بقدر ما يحتمل المقام عن ماهيتها وأغراضها الحقيقية بسطا صحيحا مفهوما.

قيل " إن كل مصري يستحق أن يسمى مصر يا وطني النزعة في قلبه " وهذا القول إنما يصدق على المتعلمين كثيرا أو قليلا، وهم أقل من 10 في المائة من سكان مصر الذين يبلغ عددهم 14 مليونا. فلا معنى لهذا القول عند إطلاقه على 92 في المائة من الأميين وخصوصا الفلاحين الذين هم ثلثا الأمة كلها . ففي المدن والبنادر يسهل تهيج الغوغاء بتلقينهم ألفاظا مستحبة رنانة تتخذ شعارا سياسيا فيصيحون بها وهم لا يفهمون معناها. وأما الفلاحون فجمهورهم لا يبالي بالسياسة من طبعه. وهم لا يزالون على العهد القديم في الفلاحة يعيشون في أطيانهم ومنها، وهم متعلقون بها تعلقا شديدا. ومع أن طرقهم وأدواتهم الزراعية لا تزال على عهدها الأول، وقلما يستعينون بالعلوم الزراعية فهم يخرجون، بجدهم الذي لا يبارى ومعرفتهم التامة بالتربة، تلك الحاصلات العجيبة التي هي أساس الثروة المصرية، وليس لهم همّ في هذه الحياة إلا هذه الحاصلات وأخذ الماء الكافي لزراعتهم من النيل في حينه لئلا تمحل أرضهم. ولكنهم وإن كانت دائرة نظرهم في الأمور لا تزال محدودة فقد ازدادوا استقلالا واستمساكا بحقوقهم عما كانوا عليه في عهد الاستبداد الماضي.

وإذا تركوا وشأنهم فلا عداوة عندهم للإنجليز، على أنهم لا يحبون الأجنبي أيا كان، واعتبارا لكونهم مسلمين غيورين لا تخلو مقابلتهم للمسيحي في بادئ الأمر من الفتور والنفور، ولكن هذه الأوهام زال معظمها منهم مع الإنجليز بعد اختبارهم لاستقامة الموظفين البريطانيين ولطفهم بوجه الإجمال؛ وما أفضى إليه وجودهم من التحسن الظاهر في أحوال الفلاحين. نعم إن أبناء العهد الجديد الذين لم يعرفوا مساوئ العهد القديم أقل شكراً لنا من آبائهم الذين كانوا يتذكرون تلك المساوئ و لا ينسونها، ولكن الفلاحين وإن يكونوا أقل ضعفا واستكانة مما كانوا في الأزمان الماضية لا يزال عندهم ما يخيفهم من أصحاب الأطيان وتعنت عدد كبير من الموظفين المصريين واضطهادهم لهم، وهم يشعرون أن النفوذ الإنجليزي يحميهم من هذه الأخطار بعض الحماية. نعم إن حوادث الحرب المشئومة التي أشرنا إليها آنفا أدّت إلى زعزعة ثقتهم بعدلنا وحسن نيتنا زعزعة وقتية، وكانت أسبابا مهيأة للحوادث الفظيعة التي حدثت ضد الإنجليز في ربيع سنة 1919، ولكن تلك الفظائع كانت شاذة وقصيرة الأجل. و يظهر أنه فيما خلا الجهات التي يصل إليها تحريض أهل المدن مباشرة عاد الفلاحون إلى حسن الظن بالإنجليز الذين يعرفونهم ويعرفون كيف يعاملونهم، وقد أثرت فينا شهادة عدد من مواطنينا الموظفين وغير الموظفين الذين يعيشون بين الفلاحين و يعاشرونهم حيث أكدوا لنا أن المرارة التي كدرت الصفاء في السنة الماضية أو السنتين الماضيتين زالت الآن، وأن الإنجليز الذين أحسنوا السلوك ينزلون على الرحب والسعة في البلاد كما كانت الحال فيما مضى .

ولكن من العبث أن نؤمل أن حسن سلوك الفلاحين معنا يدوم طويلا إذا بقيت العلاقات بيننا وبين الطبقات المتوسطة والعليا من مواطنيهم على ما هي عليه من الجفاء، فقد سادت الحركة الوطنية في مصر الآن كل ناطق وصامت واجتذبتهم أليها كلهم، إما طوعا أو كرها من أمراء العائلة السلطانية إلى صبية الكتاتيب وأصحاب الأملاك وأهل الصناعات العالية ورجال الدين والأدباء والصحافيين وطلبة المدارس. وأخطر من هذا شأنا أنها تخللت الآن طبقة الموظفين وكبار ضباط الجيش، وربما حال حب هؤلاء للنظام العسكري ومحافظتهم على الأصول الرسمية دون مجاهرتهم بأميالهم. وقد كان سلوك الموظفين المصريين مع اللجنة سلوكا لا غبار عليه، ولكن معظمهم من أشد أنصار الحركة الوطنية في قلوبهم ونفوذهم يتجه إلى الجهة الوطنية ولا يعقل أن أميال رؤساء كل طبقة من طبقات الهيئة الاجتماعية وجميع الذين يقوم بهم الرأي العام في الأمة لا يؤثر في السواد الأعظم منها على مر الأيام. ولا ينكر أن هذه الملايين التي تجهل القراءة والكتابة لا تبالي بالحركة الوطنية من حيث كونها مذهبا سياسيا ولكن يسهل تعليمها ترديد الألفاظ المستحبة التي تصير شعارا لها. والمتطرف لا يحاول اكتساب تأييدها إياه بالحجج السياسية المحضة كما يحاول ذلك بالطعن دائما في كل ما هو إنجليزي، وبنسبة كل نكبة تصيب البلاد وكل ظلامة شخصية إلى خبث الموظفين البريطانيين أو عدم كفاءتهم فهذه الحرب القائمة بتسويد كل شيء تسويدا كاذبا يديرها كثيرون : خطباء الجوامع والطلبة الذين يعودون إلى بلادهم أيام عطلة المدارس وجميع الصحف العربية إلا القليل منها.

والفلاح و إن كان لا يقرأ بنفسه عادة يصغى إلى من يقرأ له، فإذا كان كل ما يقال ويكتب للتأثير فيه يوجه إلى جهة واحدة فلابد أن الأكاذيب التى تنفث كلها فيه على الدوام تسمم عقله أخيرا.

نحن نحسب في حسابنا أنه عند زيارتنا لمصر كانت الصيحة ضد الإنجليز بالغة غاية الشدة، وكان الفريق المتطرف يزيدها و يقويها تقوية اصطناعية لكى يؤثر فينا، مع أنه ما من خبير بهذه الأمور يتأثر منها حتى يخطىء فيحسب الشطط الذى ينتج عن التحريض السياسى البالغ غاية الشدّة دليلا على حقيقة رأى الأمة، ولكن ما يستحق الاعتبار أنه بينما كان كثيرون من المصريين يستهجنون شطط المتطرفين لم يحرك أحد منهم ساكنا لمنعه غير الذين تضطرهم مناصبهم الرسمية إلى ذلك ونفر قليل جدا. وخشى وجوه مصر على اختلاف آرائهم الشخصية أن يظهروا بمظهر الذين لا يميلون إلى الأمانى الوطنية أو أن يفعلوا شيئا من شأنه كبح جماح المتطرفين وردهم إلى دائرة الاعتدال، ولم يجرؤ أحد أن يقول إنى موافق على "الحماية" أو أنه غير موافق على "الاستقلال التام". فكان ظاهر ذلك أن كل ذى رأى مستقل يميل إلى الحركة الوطنية بكليته وعندنا أن ذلك سيبقى كذلك على الراجح.

لا مشاحة أن الأمر جلل، ومن يقدره يخيل إليه لأول وهلة أنه لا خيار لنا أمام هذا البنيان المرصوص،لا أن نقلع عن مركزنا في مصر بالكلية، أو أن نحافظ عليه قوة واقتدارا رغم العداوة المتزايدة لنا في الأمة المصرية، ولكنا بعد إنعام النظر في هذه القضية زدنا أملا بها واقتنعنا بعد الأحاديث الكثيرة الودية التى جرت بيننا و بين وجهاء المصريين الذين يمثلون أمتهم وفى جملتهم قوم يعدون من غلاة الوطنيين، أنهم لا يضمرون للانجليز من الخصومة والعداوة بقدر ما يتوهم الإنسان من الحملات المنكرة التى تحملها الصحف علينا. وتبين لنا أن علم الحركة الوطنية الضافى يخفق على أقوام متعدّدة الآراء مختلفة طبعا وقصدا، فلا ريب في أن هنالك قوم من أنصار الحركة الوطنية يحملهم كرههم لكل مراقبة أجنبية وخصوصا لكل مراقبة بريطانية على تعدّى القانون وارتكاب الجرائم والموبقات، أو على الميل إلى من يرتكب تلك المنكرات على القليل. وأغراضهم كلها تنافى الاتفاق والتفاهم بين الإنجليز والمصريين ، وليس ذلك فقط، بل إنهم مستعدون أيضا للسعى في بلوغ تلك الأغراض بوسائل لا يحللها شئ، ولا يسع حكومة من الحكومات إلا الضرب على أيدى الذين يجرّئون الناس عمدا على نظام من الإرهاب يراد به جعل التعاون بين البريطانيين والمصريين محالا في المستقبل. ولا ريب أن الحوادث المشئومة التى حدثت بمصر نفسها في السنوات الأخيرة، وروح القلق والثورة الذى ساد العالم كله، وكان له صدى شديد في مصر أفاد الفئة المتطرفة لأنها اتخذته حنطة لمطحنتها اكسبت الحركة الوطنية مسحة من الشؤم والوبال. فلا عجب والحالة هذه، إذا اعتبر كثير من الانجليز المقيمين بمصر وأكثرهم من إنجليز انجلتر أن الحركة الوطنية مرادفة للعداوة الشديدة للانجليز، وأن الغرض منها قلب نظام الحكومة المصرية الحالى رأسا على عقب.

ولكنا اقتنعنا حتى قبل مغادرتنا القاهرة أن التمسك بهذا الرأي الواسع خطأ كبير، ولا يجوز أن نترك التأثير الذي علق بنفوسنا في الاضطراب الذي حدث في الاثني عشر شهرا الماضية يعمينا عن رؤية المعقول والمشروع من أماني الحركة المصرية و لو فعلنا ذلك لكانت عاقبته سوق المعتدلين شيئا فشيئا إلى أحضان المتطرفين، وتحويل الخلاف الواقع لسوء الحظ بين الإنجليز والمصريين والسهل التلافي إلى عداوة وجفاء دائم بين الفريقين. نعم إنه يجب قمع التعدي والإخلال بالنظام، والحق يقال إن التدابير التي اتخذت لذلك مدّة إقامتنا بمصر كانت معتدلة وفعالة. ومما يقضي بالأسف الاضطرار إلى إبقاء الأحكام العرفية في مصر، ولكن هذه الأحكام تجرى في أيام اللورد أللنبي بأقل ما يمكن من الشدّة ومن التعرض لسير القضاء المعتاد بالبلاد ولأحوال الناس في معيشتهم اليومية. غير أن وجوب قمع التعدي والإخلال بالنظام في الحال لا يجيز عدم التمييز بين الذين يعارضون نظام الحكومة الحالي كثيرا أو قليلا، والذين يجاهرون بالثورة والجناة الذين كانوا سبب الفتنة في ربيع سنة 1919 وما تلاها من ضروب التعدي بعد ذلك التاريخ، فإنا في الكلام الذي جرى لنا مع كثيرين من المجاهرين بكونهم من أهل الحركة الوطنية- وقلما التقينا بمن ينكر ميله إليهم - وجدنا روحا يختلف كل الاختلاف عن الروح الظاهر في تلك الفظائع والمنكرات، فقد ذموا أمامنا الالتجاء إلى التعدي والمجاهرة بالثورة وقالوا إن ذلك جناية لا خير منها. ويروي جمهورهم أن بريطانيا العظمى أقوى من أن تعجز عن إخضاع مصر إخضاعا تاما إذا شاءت أن يكون لها رعايا مكرهون مرغمون لا حلفاء صادقون شاكرون، واعترفوا كلهم اعترافا متفاوتا في شدته وحرارته بالمنافع العظيمة التي أغدقتها بريطانيا العظمى على مصر، واعترف أكثرهم أيضا بأن مصر لا تزال في حاجة إلى مساعدة إنجلترا لها على تنظيم أمورها في الداخل، ومنع التعرض لها من الخارج، ووقايتها من أن تعود فتصير مرة أخرى ميدانا لتنافس الدول ودسائسها، واعترفوا كلهم بلا استثناء بأن لبريطانيا العظمى مصالح خصوصية في مصر لأنها حلقة الاتصال. بينها و بين سلطتها الشرقية وأملاكها الأسترالية، وأن لها كل الحق في ضمان هذا الاتصال وحفظه من خطر الانقطاع. ولكن هل يلزم انقضاء هذه الأغراض أن تحرم مصر استقلالها، وتجعل جزءا غير منفصل عن السلطة البريطانية، وأن تقاوم رغبة المصريين المتأصلة في أعماق نفوسهم في أن يكونوا شعبا قائما برأسه بين شعوب العالم. ألا تقضي مصر أغراض إنجلترا كما تقضيها الآن أو أحسن إذا صارت بلادا منتظمة الأمور هادئة الأحوال مصادقة لإنجلترا متصلة بها اتصالا وثيق العرى لا تشكو ظلامة ولا تميل إلى ثورة. أو ليس هذا الحل هو الحل الوحيد المطابق للسياسة التي طالما جاهرت بها بريطانيا العظمى في تصريحاتها المتكررة حيث قالت إنها لا تقصد امتلاك مصر ولا إدماجها في السلطة البريطانية وإنما تروم جعلها قادرة على الوقوف على قدميها. قالوا إنهم اعتقدوا بصدق هذه التصريحات زمانا طويلا، ولكنهم أخذوا الآن يكفون عن تصديقها لأنهم يرون- بعد مرور أربعين سنة تقريبا على الاحتلال البريطاني لبلادهم - أنهم لم يدنوا من الغرض الذي ادّعت بريطانيا العظمى أنها ترمي إليه بل بعدوا عنه، وأن بريطانيا العظمى بإصرارها الدائم على الحماية التي يعتقدون كلهم أنها تتضمن إخضاع بلادهم إخضاعا دائما، عدلت عدولا قطعيا عن سياستها الأولى، ونكثت عهدها. فأنهم قبلوا الحماية حين إعلانها كضرورة اقتضتها الحال، لأنه لما كانت بريطانيا العظمى في حرب مع تركيا أصابت بقطع الحلقات التى كانت باقية بين تركيا ومصر، فلم يكن بد إذ ذاك من وضع شئ آخر في الحال موضع السيادة العثمانية، فوضعت الحماية. وكان وضعها سائغا باعتبار كونها وسيلة وقتية لسد الحاجة، وبعد انتهاء الحرب جعلوا ينتظرون أن تسوى بريطانيا العظمى العلاقات بينها و بين مصر على وجه يطابق تصريحاتها ومصالحها الحقيقية وشرفها، ولكنهم بدلا من ذلك لا يرون الآن أمامهم غير فقد جنسيتهم وقوميتهم فقدا دائما وصيرورتهم "مستعمرة بريطانية" فهم يستغيثون من ذلك ولا يزالون يستغيثون بالعدل البريطانى أولا و بعطف كل العالم المتمدين عليهم أخيرا.

(ج) السياسة المقبلة

هذا في اعتقادنا بيان الرأى عند أنصار الوطنية المصرية، ولكن سلوك الفئة المتطرفة الصاخبة سبيل العنف، وخروجها عن دائرة الاعتدال والإنصاف جعلا الحركة تظهر كأنها ليست مما يقبل الصلح أو الاتفاق مع أن الأمر ليس كذلك في رأينا، ولا هو دائم بالضرورة، فإن الهيئة المستحقة الاعتبار المعروفة بالوفد التى يرأسها سعد باشا زغلول، والتى تسلطت على عقول المصريين تمام التسلط ولو في هذا الحين على الأقل، والتى تقول أيضا بأنها تنطق بلسان الأمة، ومعها وثائق كثيرة مؤلفة من أعضاء أكثرهم ليسوا من الغلاة المتطرفين بل أصلهم من حزب الأمة الذى الذى كان غرضه التقدم الدستورى تدريجا بخلاف الحزب الوطنى الذى هو حزب الثورة ومعارضة البريطانيين. نعم إن زغلول باشا و رفاقه لما رأوا من خطتنا معهم ما أوهمهم بأننا نرفض جميع آمالهم مالوا إلى المعارضين، وما زالوا يدنون منهم شيئا فشيئا إلى عهد قريب، ولكن ظهر لنا بالاختبار أن الأمر لا يقتضى إلا عناء يسيرا لفهم رأيهم وإزالة ريبهم وشبهاتهم في مقاصد بريطانيا العظمى حتى يستمال كثيرون منهم إلى المناقشة في الحالة بتمام التعقل. وهذا يصدق أيضا على الذين هم أكثر منهم اعتدالا في رأيهم مثل الوزراء السابقين رشدى باشا وعدلى باشا وثروت باشا الذين لم ينضموا إلى الوفد فعلا، وأن يكونوا ميالين إلى الغايات الوطنية. ولما خرجنا في تلك المناقشات عن دائرة العبارات والصيغ، ودخلنا في جوهر القضية وصعوباتها العملية تبين لنا أن المصريين على آراء شتى ومذاهب مختلفة، ولكنهم متفقون كلهم على أمر واحد وهو رغبتهم في حفظ قوميتهم وجنسيتهم بحيث يكونون شعبا ممتازا عن سواهم.

فيظهر مما تقدم ذكره أنه لابد من مراعاة هذا الشعور المتأصل في أعماق نفوسهم عند السعى في التوفيق بين البريطانيين والمصريين، ولا غنى عن ذلك في كل سياسة يقصد بها استمالة العناصر التى هى أكثر اعتدالا وميلا إلينا من سواها بين عناصر الوطنية المصرية حتى تعود إلينا وتنحاز إلى جانبنا، ولا يكفى لذلك إعطاء مصر كثيرا أو قليلا من "الحكم الذاتى" حتى ولو أعطيناها ما هو معروف عندنا "بالدومنيون هوم رول" (الاستقلال الداخلي لأملاكنا) لأن المصريين لا يعدّون بلادهم من جملة الأملاك البريطانية ولا يعدّون أنفسهم رعية بريطانية. وهذا الفارق يوجب الفرق والتمييز بين قضية الارتقاء الدستوري في مصر وقضيته في البلدان الأخرى التي مضت عليها السنون وهى جزء من الإمبراطورية البريطانية كبلاد الهند البريطانية مثلا. فإننا نقول في كلامنا عن هذه البلاد إنها تبلغ حالة القومية (أو حالة الأمة) تدريجا، وأما المصريون فيقولون إنهم بلغوا هذه الغاية، ولا يمكن أن يرضوا بحل لمستقبل مصر إذا لم يكن مبنيا على الاعتراف بدعواهم هذه بل يجب حينئذ إكراههم على قبوله إكراها.

وعندنا مقابل هذه الاعتبارات اعتبارات أخرى، وهي أن مصر وإن لم تكن جزءا من الإمبراطورية البريطانية فعلا فأهميتها حيوية لنظامنا الإمبراطوري كله. وأنها بلغت بإرشاد بريطانيا العظمى مستوى جديدا من الحضارة والتمدن. إذا تركناها تنحط عنه كان ذلك شرا ووبالا فالتوفيق بين الدفاع عن هذه المصالح المصرية والبريطانية و بين الاعتراف لمصر بالحالة القومية ليس بالأمر اليسير، والإنسان يتوهم لأول وهلة أن هذه القضية تزداد إشكالا وتعقيدا بسبب قوة مركزا الجاليات الأجنبية غير الجالية البريطانية في مصر ولكنه إذا أنعم النظر في ذلك وجد أنه يجعل تلك القضية أقل إشكالا، فليس في الشرق بلاد كمصر يكثر فيها النزلاء الأوربيون و يتمتعون بمزايا خصوصية، ويحتلون مراكز مهمة في التجارة والتعليم والصناعات العلمية والأدبية والهيئة الاجتماعية ودواوين الحكومة أيضا. ثم إن المدن المصرية الكبيرة ولاسيما الإسكندرية أضحت مدنا أوربية من وجوه، وستظل بلاد مصر بلادا دولية على الدوام بمعنى ما. فما من حل للقضية المصرية يدوم طويلا ما لم يراع فيه ضمان المصالح الأوربية العظيمة الحصينة المركز في وادي النيل، فلا عجب إذا ظهر كأن تلك القضية غير قابلة للحل وأنها فريدة في بابها. ولكن كل ما في مصر - وجوها- فريد في بابه أيضا، وليس عندنا سوابق نتبعها لمعالجتنا لأحوال خارجة عن الحد المألوف كهذه، وكل نظام يطابقها يلزم أن يكون جديدا غريبا ولا يصلح أن يحكم عليه بعدم الصحة لمجرد كونها في حكم الأمور المتناقضة.

وبناء على هذه الصعوبات وصلنا تدريجا إلى هذه النتيجة، وهي أن كل حل تفرضه بريطانيا على مصر فرضا لا يرضي ولا يفي بالغرض، وأن الحكمة تقضي بالتماس حل يتفق عليه الفريقان أي بعقد معاهدة بين البلدين. ولم نر سبيلا آخر غير هذا. إلى إطلاق سراح مصر من الوصاية التي يعترض المصريون عليها اعتراضا شديدا بلا تعريض المصالح الحيوية التي تجب علينا وقايتها من الأخطار، وظهر لنا أن كل ما يلزم لوقايتها أن يستوفي بعقد معاهدة ترضى فيها مصر مقابل تعهد بريطانيا العظمى بالدفاع عن سلامتها واستقلالها أن تسترشد ببريطانيا العظمى في علاقتها الخارجية وتعطيها حقوقا معينة في الأراضي المصرية. أما الحقوق التي كنا نفكر فيها فعلى نوعين: الأول أن يكون لبريطانيا العظمى الحق في إبقاء قوة عسكرية في أرض مصر لتحمي مصلحتها الخصوصية في مصر أي سلامة مواصلاتها الإمبراطورية، والثاني أن يكون لها نصيب من المراقبة على التشريع المصري والإدارة المصرية فيما يختص بالأجانب للدفاع عن كل المصالح الأجنبية المشروعة. أما الامتياز الأول فليس بأكثر مما يمكن مصر، مع محافظتها على كرامتها، أن تمنحه لحليف يتكفل بأن يحميها من كل الأخطار الخارجية ولذلك تهمها قوته وسلامته أهمية حيوية. وأما الامتياز الثانى فليس فيه من الافتئات على استقلال مصر أكثر مما كانت دائما معرضة له بسبب الامتيازات الأجنبية *

على أن استبدال ثلاث عشرة دولة تتمتع بحقوق الامتيازات في مصر بدولة واحدة فقط يزيد استقلالها ولا ينقصه، وزد على ذلك أننا- جريا على ما اتصفت به السياسة البريطانية في مصر- جعلنا قسما من مشروعنا حصر المزايا التى يتمتع بها الأجانب بمقتضى حق الامتيازات داخل حدود معقولة لتصير مصر ولية أمرها أكثر مما هى الآن. وذلك لا يمكن عمله إلا إذا كانت مصر تعترف بأن بريطانيا العظمى هى التى تحمى تلك الامتيازات الأجنبية بعد ردها إلى حدود معقولة.

وهذه النقطة الأخيرة تحتاج إلى إيضاح فنقول إن القيود التى تقيد بها الامتيازات الأجنبية حقوق مصر المطلقة لها حسنات ولها سيئات. فحسناتها أنها تحمى حرية الأجانب وأملاكهم بكونها تضمن لهم العدل في أحكام المحاكم والسلامة من استبداد الحكام المحليين، وسيئاتها أنها تعفى

  • الامتيازات الأجنبية اسم أطلقه الأوربيون على الامتيازات التى نال بها الأجانب المقيمون في تركيا من سلاطين تركيا الأولين حقوقا خارجة عن حقوق بلادها إدامة للامتيازات المضارعة لها التى كانت السلطنة البيزنطية تمنحها للأجانب المقيمين في بلادها وهى تنحصر بفريق واحد فقط من الفريقين المتعاقدين ولا أجل لها ،وإنما تقبل التعديل بمعاهدات تالية لها، أما إذا كانت هذه المعاهدات التالية إلى أجل معين فالامتيازات تعود فتنتعش عند انقضاء ذلك الأجل، وكان القصد منها في الأصل تمكين المسيحيين من المتاجرة والسكنى في بلاد السلطنة العثمانية بوقايتهم من الظلم أو العسف الذى كان يمكن أن ينالهم لكونهم غربا، ويدينون بدين آخر. ويبتدىء تاريخ الامتيازات التى منحت لبريطانيا العظمى من عهد قديم جدا ولكنها بعدما غيرت وحورت تغييرات متعددة بحسب تاريخها الآن منذ سنة 1657، وقد ثبتت في معاهدة الصلح التى عقدت في الدردنيل سنة 1809 ومنحت الامتيازات لفرنسا في السنين 1581، 1604، 1673 وجددت سنة 1740 ومنحت الامتيازات للدنمارك سنة 1612 وجددت سنة 1680 ولا تزال نافذة المفعول ونالت الدول العظام كلها تقريبا امتيازات كهذه من الباب العالى في أوقات مختلفة في الاربعمائة سنة الماضية.

فوجود الامتيازات الأجنبية في مصر ناتج عن هذه المعاهدات الخاصة بالفريق المتعاقد مع الباب العالى (دون الباب العالى نفسه) وقد كان عدد الدول التى تتمتع بها قبل الحرب خمس عشرة دولة: وهى بريطانيا العظمى والولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وإيطاليا وأسبانيا وهولندا والبلجيك ونروج وأسوج والدانمرك واليونان والبرتغال وروسيا والمانيا وألنمسا وهنجاريا فانتهت امتيازات الدولتين الأخيرتين بعقد معاهدتى فرسايل وسان جرمان. وتتضمن الحقوق التى تخولها الامتيازات للأجانب في مصر علاوة على بعض الامتيازات التجارية إعفاءهم من الضرائب الشخصية بلا مصادقة عليها من حكوماتهم وحفظ حرمة منازلهم وحمايتهم من القاء القبض عليهم استبدادا و إخراجهم عن دائرة اختصاص المحاكم الأهلية، فأفضى أمر هذا الامتياز الأخير بعد إنشاء المحاكم المختلطة سنة 1876 إلى عدم تطبيق تشريع على الأجانب بلا مصادقة الدول ذوات الامتيازات، وأن القضايا المدنية التى تقع بين الأوربيين والأهالى أو بين الأوربيين المنتمين إلى شعوب مختلفة تنظر أمام المحاكم المختلطة وأما القضايا الجنائية التى تتعلق بالأوربيين وكذلك القضايا المدنية التى تقع بين أوروبيين من شعب واحد فتنظر أمام المحاكم القنصلية ، وتستعمل فيها قوانين بلادها. ولا يؤدى الأجانب الآن ضريبة من الضرائب الداخلية غير عوائد الأملاك وأموال الأطيان.

الأجانب من الضرائب ومن وجوب اتباع القوانين المحلية واللوائح العادلة فتؤخر بذلك تقدم البلاد تأخيرا عظيما لا مسوغ له، ولذلك كانت سياسة بريطانيا العظمى ولا تزال التخلص من الامتيازات الأجنبية واستبدالها بنظام يحمي كل المصالح الأجنبية المشروعة، ويبطل الامتيازات التي يتمتع بها الأجانب الآن والتي لا يمكن الدفاع عنها وللوصول إلى هذه الغاية دارت المفاوضة منذ مدة بين بريطانيا العظمى والدول التي لها حقوق في مصر بموجب الامتيازات ولكن هذه الدول لا يمكن أن تتنازل عن تلك الحقوق ما لم تحصل على ضمان بأن أبناء وطنها يحصلون على العدل والمعاملة بالإنصاف في المستقبل. ولإعطائها هذا الضمان يجب أن توضع بريطانيا العظمى في مركز يمكنها من تنفيذه ، فمن مصلحة مصر إذن أن يمكن بريطانيا العظمى أن تحمي الامتيازات التي يتمتع بها الأجانب الآن في مصر و يقضي العدل والإنصاف بإبقائها فيها. وبهذا المعنى يجب أن يفسر الاعتراف في معاهدات الصلح الحديثة بمركز بريطانيا العظمى في مصر.

هذه هي أوصاف التسوية التي بتنا نرى أنها تضبط العلاقات بين بريطانيا العظمى ومصر في المستقبل ذكرناها بوجه الإجمال وتركنا تفصيلها لنشرحه بعد، فلما شرعنا نناقش فيها المصريين الذين كنا نحن وإياهم على وداد- وكلهم من ذوي الآراء المتقدمة في الوطنية تقدما متفاوتا في القلة والكثرة- وجدنا منهم ما شدد عزائمنا وهو مقابلتهم لاقتراحاتنا بالميل إليها والعطف عليها لأنهم يرتاحون إلى فكرة عقد معاهدة أو تسوية يتفق عليها الفريقان كما يتفق الند مع ندّه لا كما يملي الأعلى على الأدنى لمطابقتها لشعورهم بأنهم شعب قائم برأسه ولحفظ كرامتهم القومية ، إذ الأمر الظاهر أن تلك الفكرة تنطوي على الاعتراف مبدئيا باستقلال مصر ولا تطابق النظرية التي تعتبر بموجبها مصر ملكا من الأملاك البريطانية. ولما نظروا في الشروط التي اشترطناها في اقتراحنا وعلقناها على ذلك الاعتراف سلموا بأنها وإن كانت شروطا لا يقبلها الوطنيون المتطرفون لكنها من الشروط التي يستطيعون أن يسوغوها ويبرروها أمام أبناء وطنهم لكونها تطابق حالتهم القومية وكونهم أمة قائمة بنفسها، فإنهم لا يستطيعون المحافظة على تلك الحالة إلا إذا أيدتهم بريطانيا العظمى فيها. ويحق لبريطانيا العظمى أن تأخذ بدلا معقولا لهذا التأييد الذي لا غنى عنه لمصر وهذا البدل إنما هو الإشراف على سياسة مصر الخارجية وإبقاء قوة في أرض مصر لقضاء أغراضها الإمبراطورية. أما فيما يختص بشؤون مصر الداخلية فمصر تكون ولية أمرها وحاكمة نفسها بنفسها تماما إلا فيما يختص بامتيازات الأجانب. وأما القيود التي يتقيد بها حكم مصر نفسها بنفسها من بقاء بعض من تلك الامتيازات فلا تكون أكثر بل أقل مما كانت طول الزمان وأثقالها تكون أيضا أخف مما كانت. ولا ينكر بعد هذه الاعتبارات أن التسوية التي اقترحناها لم تقترح حبا، بمصلحة بريطانيا العظمى وحدها بل بها و بمصلحة مصر أيضا ولذلك يمكن الدفاع عنها بحجة كونها تصلح لأن تكون أساسا عادلا معقولا ليبنى عليه تعاون الأمتين في المستقبل.

ولا يسعنا ذكر رأي المصريين الذين ذكرناهم في هذه التسوية إلا بوجه الإجمال لأن المناقشات طالت بيننا و بينهم، والاختلاف كثر في الرأي بينهم أنفسهم عند التفصيل وقضينا وقتا طويلا في مجادلات مملة لا نهاية لها في معاني ألفاظ "الحماية" و "السلطة" و "الاستقلال التام" ، ولكن ذلك كله لم يمنع من إنعام النظر طويلا في مواد المعاهدة التي كنا نفكر فيها ولا أدل على أن الاتفاق عليها غير ممكن. ويقال بالإجمال إن الأحاديث التي جرت ونحن بمصر أرتنا أننا تقدمنا كثيرا في سبيل الاتفاق والتفاهم مع المصريين، وأننا انتقلنا خصوصا من جو إلى جو خير منه كثيرا لأن الجفاء الذي استحوذ أخيرا على جميع المصريين من أنصار الوطنية والشبهات التي دبت في نفوسهم من جهة بريطانيا العظمى ابتدأت تزول، واشتدت الآمال باستمالة الفئات المعتدلة منهم لتأييد سياسة المصالحة والمسالمة.

ولكن كل ما كان يمكننا فعله ونحن في مصر للوصول إلى نتائج معينة محدودة كان أيضا محدودا لأنه لم يكن من اختصاصنا حل القضية المصرية وتسويتها لأننا إنما انتدبنا لنشير بخير الطرق التي يجب اتباعها للوصول إلى تلك الغاية. والمصريون الذين حادثناهم هناك كانوا يقولون كلهم أفرادا وجموعا إنهم إنما يعربون عن آرائهم الخصوصية ولا يدّعون بأنهم يتكلمون بلسان الجمهور من أهل بلادهم بل إن أكثرهم تجاوز هذا الحد وقالوا إن زغلول باشا ووفده هم وحدهم الذين فوّض إليهم الناس عموما تمثيل الأمة المصرية. أما نحن فلم نكن نسلم طبعا بأن زغلول باشا ورفاقه حائزون لكل السلطة التي يدعونها لهم؛ ولكنا مع ذلك لم نكن نستطيع أن نتعامى عن رؤية الحقيقة وهي أنهم كانوا في هذه المدة أقوى قادة الرأي العام المصري،وأن لا أمل بأن المشروع الذي يعارضونه يحوز حسن الالتفات أو يقع موقع القبول عند الجمهور. وكان من الضروري في اعتبارنا، كما قلنا للمصريين في أول الأمر، إن المعاهدة التي نفكر في عقدها مع مصر لا تعقد عقدا عرفيا فقط بل عرفيا وأدبيا أيضا إذا أريد أن تكون لها قيمة حقيقية فهي تكون لها شكلا معاهدة بين الحكومة البريطانية والحكومة المصرية، ولكن عقدها بين الحكومتين فقط غير كاف لأنه يمكن أن يقال دائما بعد ذلك إن الحكومة المصرية لم تكن حرة مختارة في عقدها بل إنها كانت مكرهة على قبول كل شرط تشترطه بريطانيا العظمى، وأنها على كل حال حكومة أوتوقراطية استبدادية لا تمثل الشعب المصري حقيقة. فلذلك كان من الأمور الجوهرية في مشروعنا أن لا تنفذ المعاهدة إلا إذا وافقت عليها جمعية مصرية تنوب عن الأمة المصرية نيابة حقيقية، فإما أن تكون الجمعية التشريعية الحالية التي أوقفت جلساتها منذ نشوب الحرب، أو تكوين هيئة جديدة تنتخب لتلك الغاية وذلك أفضل. ولكن المصريين أولى منا نحن بأن يحكموا أي جمعية تعدّ عندهم أحسن جمعية تمثل رأي الأمة، وإنما ينبغي على كل حال أن تكون جمعية منتخبة من الشعب تتناقش وتتداول بتمام الحرية، وتأخذ قراراتها بلا ضغط عليها من جهة من الجهات رسمية أو غير رسمية.

وكان الجميع يؤكدون لنا أن زغلول باشا ورفاقه ينالون الأكثرية الكثيرة إن لم ينالوا الأكثرية المطلقة في مثل هذه الجمعية، ولذلك رأينا من الحماقة في مثل هذه الحالة أن نترك الرسميات تحول دون مناقشتنا له إذا شاءوا الكلام معنا، فإننا من أول الأمر دعونا وجوه المصريين ليبسطوا لنا آراءهم بلا محذور على فريق من الفريقين، وكان يحتمل أن زغلول باشا الذى كان حينئذ في باريس يعود إلى مصر ليقابل لجنتنا لأن المصريين الذين كانوا يحادثوننا حينئذ بذلوا الجهد لإقناعه بذلك، وكان بعضهم من أقوى أنصاره وساعدهم عدلى باشا في ذلك أيضا بما له من الكلمة النافذة لأنه ولو كان مستقلا عنهم كانت العلاقات ودية بينه وبين زغلول باشا، وكان يروم جدا أن يجتمع به، ولكن زغلول باشا لم يكن يرى إذ ذاك إجابة أصدقائه إلى طلبهم، ومع أن المخاطبات العديدة دارت بينه و بينهم في أواخر مدة إقامتنا هناك، بقى في باريس ولم يغادرها في ذلك الحين.

ولذلك كانت الحالة لما سافرنا من مصر كما يأتى:

استقينا معلومات عديدة من مصادر بريطانية ومصرية عن الأحوال إذ ذاك وانتهزنا الفرص الكثيرة لنعرف بأنفسنا حالة شعور الجمهور، وقررنا رأينا في أحسن سياسة توفق بين المصالح البريطانية والمصالح المصرية، ولكنا لم نكن نستطع حينئذ أن نحكم في أمر المشروع الذى كنا نفكر فيه، لأننا لو فرضنا أنه وقع موقع القبول عند البريطانيين فلم يكن يمكننا أن نقول إنه يلقى في مصر التأييد الكافى الذى يسوغ قضاء الوقت في وضع تسوية على مبادئنا فيه. ولهذا كانت غاية ما نستطيع عمله أن نرفع تقريرا عن الحالة كما وجدناها، ويدل على النتائج التى أوصلنا بحثنا وتحقيقنا إليها ونبسط الرجاء أن ازدياد حسن التفاهم الذى رأينا دلائله بين البريطانيين والمصريين يمكن أخيرا من تعيين حالة مصر في المستقبل باتفاق الفريقين.

(3) أعمال اللجنة بعد مغادرتها لمصر ـــــ ( ا ) مناقشات مع رجال من الوفد المصري بلندن

غادرنا مصر في الأسبوع الأول من شهر مارس وسافرنا في طرق مختلفة، والتقينا في لندن ثانية في أواسط أبريل لكتابة تقريرنا. وبعد الابتداء به بقليل جدّ أمر لم يكن غير منتظر تماما، فوقفنا عملنا آملين أن نعلم منه أكثر مما كنا نعلم عن النقطة الكبرى التى فارقنا القطر المصرى ونحن مرتابون فيها، وتلك النقطة هى كما أوضحنا قبلا الموقف الذى يمكن أن يقفه أقطاب أهل الرأى الوطنى بإزاء السياسة التى كنا نحن نميل الى نصح الحكومة البريطانية باتباعها فحدث الآن ما يمكن أن يجلو الشك عن هذه النقطة وذلك باتصال اللجنة بزغلول باشا رأسا.

ففى أواخر، أبريل زار عدلى باشا باريس وهو موضوع التجلة والاحترام من جميع مواطنيه، وكانت نصائحه لنا في مصر من أعظم النصائح قيمة، فقصد زغلول باشا من فوره وجعل يكلمه لكى يجمع بينه و بين اللجنة. فعلمنا في أوائل شهر مايو أنه بحسن مساعى عدلى باشا بالأكثر رضى زغلول باشا وأعضاء الوفد أن يعدلوا عن خطتهم الأولى وأن يتصلوا باللجنة مباشرة. واتفق في الأسبوع الثالث من مايو أن مستر هرست ( والآن السير سسل ) كان في باريس، فأبلغهم دعوة للاجتماع باللجنة في لندن، ولما أيقن زغلول باشا ألاّ حرج عليه في ذلك على مركزه من حيث كونه المحامي عن الاستقلال المصري وصل إلى لندن في 3 يونيه ورافقه سبعة من أعضاء الوفد ثم التحق بهم عضو أو عضوان آخران.

ودار الكلام بينهم وبين اللجنة في أوقات متعددة تخللها فترات كثيرة لانشغال عدة من أعضاء اللجنة بأشغال أخرى، ولذلك استمر الكلام إلى أواسط شهر أغسطس، وجرت تلك المناقشات الطويلة على صور وأشكال شتى: فعدد منها جرى في جلسات تحضرها هيئة اللجنة للاجتماع بزغلول باشا ورفاقه بحضور عدلي باشا أيضا، والنقط التي كانت تصعب المناقشة فيها في هيئة كبيرة كهذه كانت تحال من وقت إلى آخر إلى لجان فرعية مؤلفة من أفراد قليلين من الفريقين فيتناقشون فيها ويفضونها عادة. وزد على ذلك أنه كثيرا ما كان الكلام يدور في الفترات التي تتخلل الجلسات لرسمية بين أفراد من أعضاء اللجنة وواحد أو اثنين من المصريين فيأتي بفائدة كثيرة. ولا فائدة من الإسهاب في وصف الوجوه الكثيرة المتغيرة التي جرت عليها هذه المناقشة الطويلة فنقتصر على تبيان أوصافها العمومية.

ونبتدئ بذكر ما نسطره بالسرور و الارتياح وهو أن العلاقات كانت بيننا على غاية الصفاء والوداد من الأول إلى الآخر حتى أنه لما كان الاختلاف في الرأي بيننا يبلغ غايته، فإن الجدال كان يجري بيننا بمزيد الصداقة، ولا يخامرنا الريب يوما في أن زوارنا كانوا يرومون بكل إخلاص مثلنا أن يجدوا مخرجا من مشاكل الحال ومصاعبها ولكنهم، ونخص بالذكر زغلول باشا نفسه منهم، كانوا مقيدين بقيود الخطة التي اختطوها لأنفسهم قبل ذلك بمدة حين كانوا يعتقدون أن بين أماني المصريين وسياسة بريطانيا العظمى هوّة لا يمكن عبورها للتوفيق بينهما. ولما رأوا أنهم أخطأوا فهم تلك السياسة تعذّر عليهم أن يعدلوا مركزهم حتى يطابق رأيهم بعد تغييره في مقاصد بريطانيا العظمى. فلطالما قالوا لنا المرة بعد المرة إنهم لا يستطيعون قبول اقتراح عرضناه عليهم مع عدم منازعتهم في مطابقته للعدل والإنصاف، وما ذلك إلا لكونه لا يطابق "التوكيل" الذي أخذوه من الشعب المصري. ولم نكن نجني نفعا من قولنا لهم إن " التوكيل " الذي يدّعونه هو البيان الذي وضعوه هم أنفسهم، وأن الجمهور المصري إنما قبله منهم فليس ثم ما يمنعهم من تعديل سياسة هي من بنات أفكارهم، فكانوا يجيبوننا دائما أنه ليس لهم سلطة لأن يحيدوا عن المطالب التي صادقت عليها الأكثرية الكبرى من أهل بلادهم والتي كانت في الأصل قد عرضت منهم. فكان النداء الحربي الذي دوّى بمصر في الثمانية عشر شهرا الماضية حجر عثرة دائما في الطريق، ولذلك كنا كلما قربنا من الاتفاق على أمر جوهري في سياق المناقشة نجد من الصعوبة مالا يعرض في إلباس ذلك الاتفاق ثوبا من التعبير لا يغاير الصيغ التي يرى المصريون أنفسهم مقيدين بحفظها.

وقبلوا فكرة عقد معاهدة بين بريطانيا ومصر حالما عرضت عليهم، وقد ابتدأنا بها في سيرنا ولولاها لما تقدمنا تقدما يذكر، ولما وصلنا إلى التناقش في شروط المعاهدة التي تتضمن

الضمانات القليلة الجوهرية للمصالح البريطانية والأجنبية تهيّب المصريون الموافقة على أمر يمكن أن ينافى الاستقلال الذى يرمون إليه، الواقع أن اقتراحاتنا لم تكن تنافى ذلك الاستقلال إذا فسرت حق تفسيرها كما كان المصريون أنفسهم أو بعضهم على الأقل يعترفون به، ولكنهم كانوا دائما في وجل من أن أبناء وطنهم لا يرون رأيهم فيعدونهم في مصر خائنين للقضية المصرية.

ومع كل هذه المصاعب فقد ذللناها تدريجا الواحدة بعد الأخرى، وفزنا أخيرا بوضع رسم للتسوية ارتاح إليه الفريقان بعضهم كثيرا وبعضهم قليلا. ولم نصل إلى هذه النتيجة إلا بعد ما تساهلت اللجنة في أمور كثيرة نخص منها بالذكر أمرا نعود إلى ذكره بالإسهاب قريبا فإننا وافقنا على طلب للمصريين كنا عازمين على مقاومته في أول الأمر، وإنما وافقنا عليه لعلمنا أنه يرضى أهل مصر أكثر من كل أمر سواه. فرأينا أنه مهما كلفتنا الموافقة عليه فثمنه لا يعد غاليا علينا إذا اكتسبنا موافقة الأمة المصرية الودية على المشروع برمته. ثم يلزمنا أن نعترف أن الوفد كان يميل إلى التجاوز عن كثير من مطالبه لرغبته الشديدة في الاتفاق وحسن التفاهم مع اللجنة.

أعجبتنا التسوية التى توصلنا إليها نظرا إلى ما هى عليه بذاتها، ولكن على شرط واحد جوهرى وهو أن زغلول باشا ورفاقه يكفلون بأن يستعملوا نفوذهم لحمل أهل مصر على قبولها بعد ذلك بأن تصادق جمعية من مصرية شعبية على معاهدة تنفذ بها تلك التسوية. وهذا الشرط لا يزيد عما يحق لنا أن نطلبه منهم. ولم نكن ننتظر أن يعدونا بنجاح مسعاهم، كما أننا نحن لا نقدر أن نعدهم بأن الحكومة البريطانية والأمة البريطانية توافقان على مشورتنا وتقبلان نصيحتنا، والذى طلبناه منهم إنما هو أن يتكفلوا بأن يؤيدوا النتيجة التى وصلنا إليها نحن و إياهم معا من صميم قلوبهم، لأنهم إن لم يفعلوا ذلك ضعف الأمل في فهم التسوية حق الفهم في مصر أو في استقبالها بالترحيب والارتياح. وإن لم يكن لنا نحن هذا الأمل فمن العبث أن نحبذ هذه التسوية للشعب البريطانى ونقول له إنها حل للقضية المصرية، لأننا نعتقد أن الشعب البريطانى يرضى أن يجود في الشروط التى يعقدها مع مصر إذا كان يقتنع بأن تلك الشروط تقبل بالشكر، وأنها تؤول إلى تحسين العلاقات تحسينا دائما وإلى التعاون بالصدق والإخلاص بينهم وبين المصريين في المستقبل.

أما زغلول باشا ورفقاؤه فلم يكونوا مستعدين لأن يتكلفوا بهذا المقدار ، أو أن يتقيدوا إلى هذا الحد لخوفهم من أن ينكرهم كثيرون من أتباعهم في مصر ، ولذلك ظلوا يطلبون التعديل والتحوير في الشروط المتفق عليها،وذلك بالأكثر في شكله لكى يجعلوها أقرب إلى قبول الرأى العام المصرى، فتساهلنا لهم بقدر ما تقتضيه الحكمة ،لأننا نحن أيضا مضطرون إلى مراعاة الرأى العام البريطانى كما أوضحنا لهم ؛ فلا فائدة من موافقتنا على كل ما يرومونه منا لإرضاء المصريين إذا كانت موافقتنا تقضى إلى رفض المشروع كله في بريطانيا العظمى ، فكأننا قد بلغنا والحالة هذه سدّاً لا منفذ له.

(ب) مذكرة 18 أغسطس سنة 1920

ولما بلغت المسألة هذه المرحلة اقترح المصريون توقيف البحث والمناقشة إلى حين، ريثما يزور بعض أعضاء الوفد القطر المصري ليوضحوا للناس هناك ماهية التسوية التي تميل اللجنة إلى تحبيذها، والمنافع العظيمة التي تنتفعها مصر منها. فإذا أحسن الناس ملقاهم كما يؤملون كان ذلك توكيلا لهم يسوّغ للوفد بعد رجوع رسله أن يتكفل بتأييد اقتراحاتنا بلا قيد ولا شرط. فاستصوب زغلول باشا هذه الفكرة، ولكنه لم يشأ أن يسافر بنفسه، ورغب ثلاثة أو أربعة من رفاقه في السفر.

وكان لهذا الاقتراح مزايا ظاهرة في نظر الأعضاء المصريين، لأنه يمكّن رسلهم أن يحثوا على قبول بعض الشروط من غير أن يتقيدوا بها فلا ينفردوا بذلك عن حزبهم إذا لم تقابل تلك الشروط بالرضا والاستحسان. وكان لهذا الاقتراح مزايا لنا نحن أيضا لأن المناقشة التي تقع بين الجمهور في مصر على أثره تمكننا من سبر غور الرأي المصري أكثر مما تيسر لنا سبره فيما مضى، وأن نقارن بين قوة المعتدلين وقوة المتطرفين من أنصار الحركة الوطنية. وعليه كتبت مذكرة حاوية بعبارة مجملة أشهر خصائص التسوية التي تحبذها اللجنة وتشير بقبولها على الشرط المعين آنفا. فكان وضع هذه المذكرة خاتمة المساعي التي سعيناها لإفراغ نتيجة مناقشاتنا في قالب معين وعلى شكل محدود. وكان الغرض منها تمكين رسل الوفد من استخلاص عبارة تعرب عن الرأي العام المصري، فهذه المذكرة التي سميت اتفاق ملنر و زغلول ليست اتفاقا كما هو ظاهر عليها، وإنما هي رسم للقواعد التي يمكن أن يبنى عليها اتفاق بعد وضعها. فدفعها اللورد ملنر إلى عدلي باشا الذي كان وسيطا بين الفريقين، وكان له نصيب عظيم في كل مفاوضاتنا، وطلب منه أن يوصلها إلى زغلول باشا وأصحابه، وكان المفهوم أنهم يستعملونها كما شاءوا في مناقشاتهم العمومية وهي مؤرخة في 18 أغسطس وهذا نصها:

إن المذكرة المرسلة مع هذا هي نتيجة المحادثات التي دارت بلندن في شهري يونيه وأغسطس سنة 1920 بين اللورد ملنر وأعضاء اللجنة الخصوصية المنتدبة لمصر، وبين زغلول باشا وأعضاء الوفد المصري. وقد اشترك عدلي باشا في تلك المفاوضات أيضا، وهي عبارة عن رسم سياسة يقصد بها تسوية المسألة المصرية على أحسن وجه لمصلحة بريطانيا العظمى ومصلحة مصر كلتيهما.

فأعضاء اللجنة مستعدون لأن يشيروا على الحكومة البريطانية بقبول السياسة المبينة في هذه المذكرة إذا اقتنعوا أن زغلول باشا وأعضاء الوفد مستعدون أيضا للدفاع عنها والترغيب فيها، وأنهم يستعملون كل نفوذهم ليحصلوا على مصادقة جمعية وطنية مصرية على عقد معاهدة كالمعاهدة المبينة في المادتين 3 و 4.

وواضح أنه إذا كان الفريقان لا يتحدان قلبيا على تأييد الخطة المقترحة هنا فاتباعها لا يصادف نجاحا،


الإمضاء: (ملنر)


مذكرة

1 - لكى يبنى استقلال مصر على أساس متين دائم يلزم تحديد العلاقات بين بريطانيا العظمى ومصر تحديدا دقيقا، ويجب تعديل ما تتمتع به الدول ذوات الامتيازات في مصر من المزايا وأحوال الإعفاء وجعلها أقل ضررا بمصالح البلاد.

2 - ولا يمكن تحقيق هذين الغرضين بغير مفاوضات جديدة تحصل للغرض الأول بين ممثلين معتمدين من الحكومة البريطانية وآخرين معتمدين من الحكومة المصرية، ومفاوضات تحصل للغرض الثانى بين الحكومة البريطانية وحكومات الدول ذوات الامتيازات، وهذه المفاوضات ترمى إلى الوصول إلى اتفاقات معينة على القواعد الآتية:

3 - (أولا) تعقد معاهدة بين مصر و بريطانيا العظمى، تعترف بريطانيا العظمى بموجبها باستقلال مصر كدولة ملكية دستورية ذات هيئات نيابية، وتمنح مصر بريطانيا العظمى الحقوق التى تلزم لصيانة مصالحها الخاصة، ولتمكينها من تقديم الضمانات التى يجب أن تعطى للدول الأجنبية لتحقيق تخلى تلك الدول عن الحقوق المخوّلة لها بمقتضى الامتيازات.

(ثانيا) تبرم بموجب هذه المعاهدة نفسها محالفة بين بريطانيا العظمى ومصر، تتعهد بمقتضاها بريطانيا العظمى أن تعضد مصر في الدفاع عن سلامة أرضها، وتتعهد مصر بأنها في حالة الحرب حتى ولو لم يكن هناك مساس بسلامة أرضها تقدم داخل حدود بلادها كل المساعدة التى في وسعها إلى بريطانيا العظمى، ومن ضمنها استعمال ما لها من الموانى وميادين الطيران ووسائل المواصلات للأغراض الحربية.

4 - تشمل هذه المعاهدة أحكاما للأغراض الآتية:

(أولا) تتمتع مصر بحق التمثيل في البلاد الأجنبية، وعند عدم وجود ممثل مصري معتمد من حكومته تعهد الحكومة المصرية بمصالحها إلى الممثل البريطاني،وتتعهد مصر بأن لا تتخذ في البلاد الأجنبية خطة لا تتفق مع المحالفة، أو توجد صعوبات لبريطانيا العظمى، وتتعهد كذلك بأن لا تعقد مع دولة أجنبية أي اتفاق ضار بالمصالح البريطانية.

(ثانيا) تمنح مصر بريطانيا العظمى حق إبقاء قوة عسكرية في الأرض المصرية لحماية مواصلاتها الإمبراطورية، وتعيّن المعاهدة المكان الذي تعسكر فيه هذه القوة، وتسوي ما تستتبعه من المسائل التي تحتاج إلى التسوية، ولا تعتبر وجود هذه القوة بأي وجه من الوجوه احتلالا عسكريا للبلاد كما أنه لا يمس حقوق حكومة مصر.

(ثالثا) تعين مصر بالاتفاق مع الحكومة البريطانية مستشارا ماليا، يعهد إليه في الوقت اللازم بالاختصاصات التي لأعضاء صندوق الدين الآن ويكون تحت تصرف الحكومة المصرية لاستشارته في جميع المسائل الأخرى التي قد ترغب في استشارته فيها.

(رابعا) تعين مصر بالاتفاق مع الحكومة البريطانية موظفا في وزارة الحقانية، يتمتع بحق الاتصال بالوزير، ويجب إحاطته علما بجميع المسائل المتعلقة بإدارة القضاء فيما له من مساس بالأجانب، ويكون أيضا تحت تصرف الحكومة المصرية لاستشارته في أي أمر مرتبط بتأييد القانون والنظام العام.

(خامسا) نظرا لما في النية من نقل الحقوق التي تستعملها إلى الآن الحكومات الأجنبية المختلفة بموجب نظام الامتيازات إلى الحكومة البريطانية، تعترف مصر بحق بريطانيا العظمى في التدخل بواسطة ممثلها في مصر لتمنع أن يطبق على الأجانب أي قانون مصري يستدعي الآن موافقة الدول الأجنبية، وتتعهد بريطانيا العظمى من جانبها بأن لا تستعمل هذا الحق إلا حيث يكون مفعول القانون مجحفا بالأجانب.

صيغة أخرى لهذه الفقرة

" نظرا لما في النية من نقل الحقوق التي تستعملها إلى الآن الحكومات الأجنبية المختلفة بموجب نظام الامتيازات إلى الحكومة البريطانية، تعترف مصر بحق بريطانيا العظمى في التدخل بواسطة ممثلها في مصر لتمنع أن يطبق على الأجانب أي قانون مصري يستدعي الآن موافقة الدول الأجنبية، وتتعهد بريطانيا العظمى من جانبها بأن لا تستعمل هذا الحق إلا في حالة القوانين التي تتضمن تمييزا مجحفا بالأجانب في مادة فرض الضرائب، أو لا تتفق مع مبادئ التشريع المشتركة بين جميع الدول ذوات الامتيازات".

(سادسا) نظرا للعلاقات الخاصة التي تنشأ عن المحالفة بين بريطانيا العظمى ومصر يمنح الممثل البريطاني مركزا استثنائيا في مصر ويخول حق التقدم على جميع الممثلين الآخرين.

(سابعا) الضباط والموظفون الإداريون من بريطانيين وغيرهم من الأجانب الذين دخلوا خدمة الحكومة المصرية قبل العمل بالمعاهدة يجوز انتهاء خدمتهم بناء على رغبتهم أو رغبة الحكومة المصرية في أي وقت خلال سنتين بعد العمل بالمعاهدة، وتحدد المعاهدة المعاش أو التعويض الذي يمنحه الموظفون الذين يتركون الخدمة بموجب هذا النص زيادة على ما هو مخول لهم بمقتضى القانون الحالي.

وفى حالة عدم استعمال الحق المخوّل بهذا الاتفاق تبقى أحكام التوظف الحالية بغير مساس.

5 - تعرض هذه المعاهدة على جمعية تأسيسية، ولكن لا يعمل بها إلا بعد إنفاذ الاتفاقات مع الدول الأجنبية على إبطال محاكمها القنصلية و إنفاذ المراسيم المعدلة لنظام المحاكم المختلطة.

6 - يعهد إلى الجمعية التأسيسية في وضع قانون نظامي جديد تسير حكومة مصر في المستقبل بمقتضى أحكامه، و يتضمن هذا القانون النظامي أحكاما تقضي بجعل الوزراء مسئولين أمام الهيئة التشريعية، وتقضي أيضا بإطلاق الحرية الدينية لجميع الأشخاص، وبالحماية الواجبة لحقوق الأجانب.

7 - تحصل التعديلات اللازم إدخالها على نظام الامتيازات باتفاقات تعقد بين بريطانيا العظمى والدول المختلفة ذات الامتيازات، وتقضي هذه الاتفاقات بإبطال المحاكم القنصلية الأجنبية، لكي يتيسر تعديل نظام المحاكم المختلطة، وتوسيع اختصاصها وسريان التشريع الذي تسنه الهيئة التشريعية المصرية ( ومنه التشريع الذي يفرض الضرائب) على جميع الأجانب في مصر.

8 - تنص هذه الاتفاقات على أن تنتقل إلى الحكومة البريطانية الحقوق التي كانت تستعملها الحكومات الأجنبية المختلفة بمقتضى نظام الامتيازات، وتشمل أيضا أحكاما تقضي بما يأتي:

(أولا) لا يسوغ العمل على التمييز المجحف برعايا أي دولة وافقت على إبطال محاكمها القنصلية، ويتمتع هؤلاء الرعايا في مصر بنفس المعاملة التي يتمتع بها الرعايا البريطانيون.

(ثانيا) يؤسس قانون الجنسية المصرية على قاعدة النسب، فيتمتع الأولاد الذين يولدون في مصر لأجنبي بجنسية أبيهم ولا يحق اعتبارهم رعايا مصريين.

(ثالثا) تخول مصر موظفي قنصليات الدول الأجنبية نفس النظام الذي يتمتع به القناصل الأجانب في إنجلترا.

(رابعا) المعاهدات والاتفاقات الحالية التى اشتركت مصر في التعاقد عليها في مسائل التجارة والملاحة، ومنها اتفاقات البريد والتلغراف تبقى نافذة المفعول. أما في المسائل التى ينالها مساس من جراء إبطال المحاكم القنصلية، فتعمل مصر بالمعاهدات النافذة المفعول بين بريطانيا العظمى والدول الأجنبية صاحبة الشأن، مثل معاهدات تسليم المجرمين وتسليم البحارة الفارين، وكذلك المعاهدات التى لها صبغة سياسية، سواء أكانت معقودة بين أطراف عدّة، أم بين طرفين كاتفاقات التحكيم، والاتفاقات المختلفة المتعلقة بسير الحروب، وذلك كله ريثما تعقد اتفاقات خاصة تكون مصر طرفا فيها.

(خامسا) تضمن حرية إبقاء المدارس، وتعليم لغة الدولة الأجنبية صاحبة الشأن، على شرط أن تخضع هذه المدارس من جميع الوجوه للقوانين السارية بوجه عام على المدارس الأوربية بمصر.

(سادسا) تضمن أيضا حرية إبقاء أو إنشاء معاهد دينية وخيرية كالمستشفيات الخ. وتنص المعاهدات أيضا على التغيرات اللازمة في صندوق الدين، وعلى إبعاد العنصر الدولى عن مجلس الصحة في الاسكندرية.

9 - التشريع الذى تستلزمه الاتفاقات السالفة الذكر بين بريطانيا العظمى والدول الأجنبية يعمل به بمقتضى مراسيم تصدرها الحكومة المصرية.

وفى الوقت عينه يصدر مرسوم يقضى باعتبار جميع الإجراءات التشريعية والإدارية والقضائية التى اتخذت بمقتضى الأحكام العرفية صحيحة.

10 - تقضى المراسيم المعدلة لنظام المحاكم المختلطة بتخويل هذه المحاكم كل الاختصاص الذى كان مخولا إلى الآن للمحاكم القنصلية الأجنبية، ويترك اختصاص المحاكم الأهلية غير ممسوس.

11 - بعد العمل بالمعاهدة المشار إليها في البند الثالث تبلغ بريطانيا العظمى نصها إلى الدول الأجنبية، وتعضد الطلب الذى تقدمه مصر للدخول عضوا في جمعية الأمم.

(ج) سياسة المذكرة

أولا- تمثيل مصر في البلاد الأجنبية:

إن سياسة المذكرة التى مر ذكرها مطابقة بجملتها للنتائج التى توصلنا إليها قبل سفرنا من مصر بناء على الأسباب التى أبنّاها آنفا، ولكن نتيجة المناقشات التى دارت بيننا وبين زغلول باشا ورفاقه صيرتنا مستعدين للذهاب إلى أبعد منها. وأهم نقطة حملتنا حججهم على تعديل رأينا فيها ظاهرة في المذكرة ظهورا عظيما. وهى حق مصر في تعيين ممثليها في البلدان الأجنبية. فقد كنا ولا نزال نرى من المبادئ الأساسية أن تكون علاقات مصر الخارجية تحت إدارة بريطانيا العظمى بوجه العموم. وجميع عقلاء المصريين يدركون عظم قيمة الضمان الذي ينالونه من محالفة بريطانيا العظمى لهم مهما كانت أميالهم شديدة إلى الحركة الوطنية. وواضح أنه لا يمكن أن ينتظر من بريطانيا العظمى أن تحمل على عاتقها مسئولية الدفاع عن سلامة مصر واستقلالها من جميع الأخطار إذا تركت مصر وشأنها في اتباع السياسة الخاصة بها، ولو كانت ضارة بالسياسة البريطانية أو غير مطابقة لها، وهذه أولية لم ينازعنا فيها أحد من المصريين الذين كنا نناقشهم، بل كلهم كانوا مستعدين أنهم عند عقد معاهدة المحالفة يعطون كل الضمانات اللازمة لمنع مصر من كل عمل يمكن أن تعمله إذا كان يوقع بريطانيا العظمى في ارتباك، ولم يقع بيننا وبينهم خلاف في الرأي في هذه النقطة عند المناقشة. ويظهر لنا أن عبارات المذكرة المتعلقة بها تدل دلالة كافية على أن الاتفاق عليها كان تاما بيننا. وإنما قلنا إنها تدل عليها دلالة كافية. لأنه لا يجب أن يبرح من البال سواء كان في هذه النقطة أو في غيرها أننا لما كنا نضع المذكرة لم نكن نحرر معاهدة، بل كنا نعرب بعبارات معتادة عن الآراء والأفكار التي تذكر بالتفصيل، وبمزيد الضبط والتدقيق في المعاهدة التي يفاوض فيها وتعقد بعد ذلك.

فالمسألة الحقيقية التي كانت موضوع الأخذ والعطاء لم تكن "هل يجب أن تكون مصر حرة في اختيار سياسة أجنبية مستقلة عن بريطانيا العظمى " إذ لا خلاف في أن موافقتنا على هذه المسالة ضرب من المحال، وإنما كانت: هل يتضمن هذا المبدأ بالضرورة أن تبقى إدارة جميع علاقاتها الخارجية في أيد بريطانية ؟

فهذه المسألة كنا قد اتفقنا فيها على قرار نهائي قبل أن نناقش المصريين فيها، وهذا القرار هو أن تقتصر السيطرة البريطانية على علاقات مصر السياسية، وأما مصالح مصر التجارية وسواها من مصالحها الخارجية غير السياسية فالأفضل تركها بيد المصريين، وهذه المصالح كثيرة وعددها آخذ في الازدياد، فاتساع نطاق التجارة والمواصلات، وازدياد عدد المصريين الذين يسافرون الآن إلى البلدان الخارجية. أو يقيمون بها وخصوصا في غرب أوربا، والعلاقات العديدة التي تحصل لهم هناك تحتاج هذه كلها إلى حماية رسمية، فإذا ظل سفراء بريطانيا العظمى وقناصلها يرعون مصالح جميع الأفراد المصريين خارج بلادهم ثقلت أعباء ذلك جدا عليهم. ولذلك رأينا من بادئ الأمر أن تعيين مصر لممثلين لها في الخارج يكون عين الصواب.

ولكن الذي كنا نقصده في الأصل هو أن تكون صفة هؤلاء الممثلين صفة قنصلية فقط سياسية. فلما دارت المناقشة في لندن بيننا وبين المصريين غيرنا رأينا في هذه النقطة بعد تردد وتمنع، فإن المصريين أجمعوا على إنكار الصفة الرسمية على الممثلين المصريين يفسد فكرة المحالفة، ويحمل أبناء وطنهم على رفض التسوية التي كنا نفكر فيها وعدم قبولها. ورأينا نحن أنهم مصيبون فيما يقولون، لأننا أدركنا ونحن في مصر أن المصريين جميعهم والسلطان ووزراءه في جملتهم يرومون أن تمثل بلادهم سياسيا في الخارج مهما اختلفت آرائهم في المسائل الأخرى. وكانوا كلهم ممتعضين من إلغائنا منصب وزير الخارجية المصري عند إعلاننا الحماية، وتسليمنا زمام وزارة الخارجية لعدم الاستغناء عنها إلى المعتمد السامي البريطاني، وكذلك كانوا كلهم يرجون أنه متى آن الأوان لتسوية العلاقات بين بريطانيا العظمى ومصر تسوية دائمة. يعين وزير مصري في وزارة الخارجية المصرية، ويتلقى ممثلو مصر في البلدان الخارجية اعتمادهم من حاكم مصر رأسا، وكانوا يرجون على هذا المبدأ أيضا بعد زوال السيادة العثمانية. أن الذين ترسلهم مصر إلى البلدان الأجنبية ليمثلوها فيها تكون لهم الصفة السياسية التي تكون لممثلي الدول الأجنبية في مصر.

فلذلك لم يخامرنا ريب في أن أعضاء الوفد المصري كانوا يعبرون عن رأي أبناء بلادهم كلهم في هذه المسألة. وكانوا يقولون لنا قولا صريحا باتا إننا إذا لم نوافقهم على هذه النقطة فلا أمل بتسوية العلاقات بطريق الاتفاق بين بريطانيا العظمى ومصر في المستقبل، وأما إذا اعترفنا بها لمصر. أرضينا المصريين إرضاء تاما بمراعاتنا عزة نفسهم، فيسهل ذلك قبول سائر شروطنا. وسألوا قائلين: لم أنتم خائفون ؟ فقد اعترفتم أن لمصر مصالح كثيرة خاصة بها في البلدان الأجنبية يحسن المصريون رعايتها أكثر مما يحسنها غيرهم، ولا مزية لبريطانيا العظمى من الضن بالصفة السياسية على الذين يعينون للاعتناء بتلك المصالح ، لأنهم لا يستطيعون أن يعملوا عملا يضر بالمصالح البريطانية أو يناقض السياسة البريطانية. ما لم يخرقوا المعاهدة التي تم الاتفاق على تحريرها لمنع وقوع أمر كهذا. وزد على ذلك أن عدد الممثلين السياسيين الذين يمثلون مصر في الخارج يكون قليلا جدا لأن مصر لا تروم أن يكون لها ممثلون منهم إلا في بلدان قليلة؛ ولا يسعها أن تقوم بنفقات كثيرين منهم أيضا. ففي سائر البلدان توكل مصر بريطانيا العظمى برعاية مصالحها وكفى بذلك دليلا على متانة العلاقات وحسنها بين البلدين.

فلم يسعنا إلا الشعور بقوة هذه الحجج الوجيهة، ومع ذلك فالأمر واضح، وقد قلناه لهم وأكدناه على مسامعهم، وهو أنه متى وجد ممثلون سياسيون من المصريين ولو في قليل من عواصم أوربا ووجد ممثلون سياسيون من الأجانب في مصر، انفسح بذلك المجال لدسائس يمكن أن تكون عواقبها وخيمة، لأن قلة وجود أعمال لهم يعملونها ضمن الدائرة السياسية قد يغريهم بتعدي حدود وظائفهم حتى لا يقال إنهم لا يجدون شغلا يشغلهم، ولكن رجال الوفد لم يسلموا بأنه يخشى من حدوث أمر كهذا، بل كان رأيهم أن المصريين يرتضون ويسرون بالمركز الذي نالته مصر بعقد المعاهدة، فيكونون آخر من يوافق على دسائس يمكن أن تفتح للأجانب سبيل الدخول في شئون بلادهم بإلقاء الشر أولا بينهم وبين بريطانيا العظمى، وأن أعظم ضمان يقينا شر هذه الدسائس هو أن المصريين يوافقون من صميم أفئدتهم على محالفة يعترف فيها بحالتهم القومية وكرامتهم الوطنية.

هذه هي الأدلة والبراهين التي حملتنا على إعادة النظر في مركزنا بإزاء مسألة الصفة السياسية، مع علمنا تمام العلم كما قلنا للوفد صريحا أن تساهلنا في هذا الأمر قد يلقي الرعب المقلق في دوائر الرأي العام البريطاني. ويخشى أنه يمنع الشعب البريطاني من قبول الاتفاق برمته. وإذا بنينا حكمنا على ما نشأ عنه من الانتقاد والأقوال الدالة على عدم الرضا عنه في دوائر كثيرة اتضح أننا أصبنا ولم نخطئ في توقعنا له المعارضة الشديدة. ومع ذلك فنحن لا نزال نرى كفة الحجج الراجحة هي في جانبه بلا مشاحة، لأنه مادام الجفاء والخلاف ضاربين أطنابهما بين بريطانيا العظمى ومصر، فنحن نظل معرّضين لعداوة المصريين لنا في البلدان الأجنبية، فالجمعيات التي أنشئت لنشر الدعوة ضد إنكلترا تنشرها بجد واجتهاد منذ أعوام في سويسرا وفرنسا وإيطاليا وألمانيا. ولا علاج لذلك إلا بإعادة علاقات الوداد. ونحن نعد السياسة التي أوضحناها هنا كفيلة بذلك، فإذا تمت لنا هذه النتيجة، فإعطاء الصفة السياسية لممثلي مصر في الخارج نافع لنا لا محالة، لأنه إذا بقي قوم من المصريين غير راضين بالمصالحة، وبقوا مصرين على إدامة الدعوة ضدنا كما هو المنتظر، اضطر الممثلون الرسميون لمصر أن يسعوا في كبح جماحهم وإيقافهم عند حدهم، إذ لا يسع معتمدا مصريا إلا الإعراض عن كل عمل يعمله أبناء وطنه ضد حليفة مصر وذمّه والنفور منه، وإلا قصر في الواجب عليه وتعرّض للعزل عن منصبه.

ثانيا- الدفاع عن المواصلات البريطانية:

ظهرت الأهمية العظمى التي يعلقها رجال الوفد على مسألة " حالتهم القومية " أتم الظهور لما شرعنا نبحث في مصلحة بريطانيا العظمى الحربية بمصر من حيث الدفاع عن مواصلاتها الإمبراطورية، فكان رأيهم أن مصر تستطيع أن تعطي بريطانيا العظمى- متى كانت حليفتها- قاعدة في أرضها من غير أن يقدح ذلك في عزة نفسها. أي أنها تعطيها "مكانا منيعا لأسلحتها " أو" نقطة ارتكاز" في سلسلة استحكاماتها الإمبراطورية التي تربط الشرق بالغرب، ولم يأبوا أن بريطانيا العظمى تستلزم زمام الموارد المصرية كلها أيام الحرب، وخصوصا كل وسائط المواصلات والسكك الحديدية وميادين الطيران إلخ لإدارة الأعمال الحربية، بل رحبوا بهذا الحكم لأنه يثبت أن الاتفاق من الجانبين، ومعقود بين البلدين. بدليل أن مصر تعطي شيئا بدلا مما تأخذه، فكما أن بريطانيا العظمى تتعهد في معاهدة المحالفة التي تعقد بينها وبين مصر بأن تدافع عن مصر، فكذلك مصر يجب عليها عدلا وإنصافا أن تفعل شيئا لمساعدة الإمبراطورية البريطانية إذا دخلت بريطانيا العظمى في حرب ولو لم يكن لمصر مصلحة فيها مباشرة.

وأصعب من هذه المسألة مسألة إبقاء قوّة عسكرية بريطانية بمصر أيام السلم، وفيها أيضا لم يهتم المصريون بعدد تلك القوّة بقدر ما اهتموا بصفتها، فبقاؤها في مصر سائغ عندهم مادامت تعتبر قوّة يقصد بها قضاء غرض خارجي،وهو الدفاع عن الإمبراطورية البريطانية لا " جيش الاحتلال " ولا " قوة لحفظ النظام " في مصر، إذ مفاد ذلك بقاء مصر خاضعة لبريطانيا العظمى. ولم يفتحوا مسألة مقدار تلك القوة طول مدة المناقشة لاعترافهم بأن مقدارها يتوقف على الأحوال الخارجية، وأنه يتغير بتغير مقتضيات الدفاع الإمبراطوري وذلك بقطع النظر عن مقدار القوة اللازمة إذا كانت مصر في خطر. بل كان كل همهم أن تلك القوة لا تعد حامية لمصر بوجه من الوجوه لأن المحافظة على النظام الداخلي من شئون المصريين أنفسهم.

ولكي يؤكدوا ذلك أعظم تأكيد ألحوا في أن يكون معسكر تلك القوة على ضفة قنال السويس، وفضلوا أن تكون تلك الضفة الشرقية، ولكن لم يكن في إمكاننا أن نوافقهم على ذلك لأن وجود جنود بريطانية في "منطقة القنال" المحايدة يمكن أن يلقي المشاكل بين بريطانيا العظمى والدول الأخرى التي لها مصلحة في تلك الترعة الدولية. إذ حياد القنال مضمون باتفاقات دولية، فاحتلال جنود دولة واحدة لمنطقة القنال احتلالا دائما قد يعد خرقا لذلك الحياد. وزد على ذلك أن مصلحة بريطانيا العظمى العسكرية في مصر لا تقتصر على ضمان حرية المرور لها في قنال السويس. بل إن الدفاع عن مواصلاتها الإمبراطورية ينطوي على أكثر من ذلك كثيرا. إذ مصر تقرب شيئا فشيئا من أن تصير "عقد ارتباط" كل تلك المواصلات برية كانت أو جوية أو بحرية فلهذه الاعتبارات عدلنا عن تعيين القنطرة أو غيرها في منطقة القنال لنزول الجنود فيها، وبعد ما تم التسليم مبدئيا بوجود قوة عسكرية في مصر تركنا مسألة معسكرها حتى يقر القرار عليها مع غيرها من التفاصيل في المفاوضات التي تجرى لعقد المعاهدة المنوتة.

ثالثا- الموظفون البريطانيون في خدمة الحكومة المصرية.

تبحث الفقرة السابعة من البند الرابع من المذكرة في مركز الموظفين البريطانيين في خدمة الحكومة المصرية، وهذه المسألة عظيمة الشأن جداً من حيث انتظام الحكومة وحسن سير أحكامها في مصر، فنظام الإدارة الداخلية الحالي برمته بنى الموظفون البريطانيون معظمه بعملهم وقدرتهم، وقضى كثيرون منهم زهرة العمر في بر مصر، فإذا أبعد العنصر البريطاني عن الحكومة حالا خيف من تقوّض أركانها وخراب بنيانها، بل إن التسرع في تخفيض عدده يخشى أن يؤثر في متانة ذلك البناء، ويعطل حسن إدارة أعمال الحكومة كثيرا.

ولكن لا خوف من أن تعود الحكومة بعد خروج الموظفين البريطانيين منها إلى سوء الإدارة الذي أنقذناها منه، وأن جميع الشرور والمساوئ القديمة تعود إلى ما كانت عليه، لأن عدد المصريين الذين صاروا كفئا علما وأخلاقا للاشتراك أعمال الحكومة على مبادئ التمدن ازداد ازديادا عظيما في عهد الاحتلال واعتاد المصريون جميعهم من أعلاهم إلى أدناهم أن تكون أعمال حكومتهم، وإدارتها حسنة الانتظام عادلة صادقة، فلا يصبرون عليها إذا عادت إلى مساوئ العهد الماضى تماما. ولكن مع هذا كله لا يخلو الأمر من خطر على البناء الجديد أن يتداعى بنيانه إذا أبعد الذين بنوه، ولا يزالون عماده، دفعة واحد، عنه.

فمن الطبيعى والحالة هذه أن ينظر بعين الهمّ والقلق لأول وهلة إلى الاقتراح الذى فحواه أن تترك الحكومة المصرية المحضة وشأنها مطلقة الحرية في استبقاء من تبقيه، وفى إخراج من تخرجه من خدمتها من الموظفين البريطانيين وغيرهم من الأجانب. ولكنا إذا تدبرنا هذه المسألة من الجهة التى يمكن العمل بها، وبحثنا فيها بهدوء وتأن خفّف عنا ذلك القلق كثيرا، لأن من يظن أن وزارة من الوزارات المصرية تقدم يوما على إخراج جميع الموظفين الأجانب من خدمتها فقد وهم مهما أطلقت لها الحرية في ذلك. وحسبنا تصور الحالة التى تبيت فيها تلك الوزارة بعد ما تعدم فجأة أعظم مستشاريها اختباراو أكثرهم تحملا المسئولية، وتستهدف لنفور الجمهور منها نفورا شديدا، وانقلابه عليها بعد انهيار نظام إدارتها حتى نحكم بأنه ما من عاقل يلقى بنفسه عمدا في بحر هذه المصائب والمحن. ثم إن الأمر لا يقتصر على نفور المصريين وعدم استحسانهم، بل عليه أيضا أن يحسب حساب سخط الأجانب وخوفهم، فإن الجاليات الأجنبية الكبيرة الغنية التى يتوقف عليها كثير من يسر مصر ورفاهيتها تقوم عليه حالا قومة واحدة. لأنها كلها تعد وجود عدد من البريطانيين في الحكومة المصرية عنوان سلامتها وملجأ رفاهيتها. ولا ينتظر أن المعتمد السامى أو أى لقب آخر يلقب به في المستقبل لا تكون له كلمة يقولها بهذا الشأن. نعم إنه لا يكون له حق الأمر والنهى على الحكومة المصرية، ولكنه معتمد حليفة مصر وأسمى الأجانب مقاما في مصر. وحامى مصالح الأجانب فيها. فلهذه الاعتبارات يكون لكلمته شأن عظيم، ويهم كل وزير مصرى أن يكون على صفاء واتفاق معه. فالمؤثرات التى من شأنها منع الوزراء المصريين عن الإفراط والتفريط في استعمالهم حق الاستغناء عن خدمة الموظفين البريطانيين مؤثرات قوية جدا. هذا ناهيك أن سرورهم العظيم يعلمهم أن ذلك الحق هو حقهم وأن الموظفين البريطانيين باقون معهم ليساعدوهم لا ليأمروهم وينهوهم يزيد رغبتهم في الاتكال على مساعدة البريطانيين ولا ينقصها.

إذا ما من مصرى عاقل يتمنى بجد أن يستغنى عن مساعدة الأجنبى لحكومة بلاده، أو يعتقد أن مصر تستطيع الاستغناء عن تلك المساعدة من الآن إلى زمان طويل. لكن المصريين عامة يعتقدون - وهم مصيبون في اعتقادهم- أن جلب الموظفين البريطانيين زاد عن الحد أحيانا وخصوصا في السنين الأخيرة، وهم معتصمون بهذا المبدأ، وهو أنه لا يجوز تعيين بريطانى أو أجنبى آخر وفي وظيفة يمكن أن يعين فيها رجل كفء لها من قومهم. فهم يتطلعون إلى الزمان الذى يعين فيه رجال من أبناء وطنهم في وظائف الحكومة كلها أو جلها، ويشعرون أن التقدم في هذه الجهة كان أبطأ مما يجب، ويودون أن يصير أسرع، ولكنهم لا يريدون التخلص من أولئك الموظفين البريطانيين الذين هم موضع احترامهم وكثير ما هم، وكذلك يأبون أن يمنعوا من استخدام غيرهم من المضارعين لهم في كفاءتهم في حكومة بلادهم في المستقبل (1)

(1) بذلنا جهدا كثيرا لتعرف الحقيقة عن عدد الموظفين الأجانب في الحكومة المصرية فأعدت لنا مصلحة الإحصاء، كشوفا تبين كيفية توزيع جميع الوظائف في ميزانية 1919 - 1920 وطلبنا من كل وزارة بيانا لتوزيع الوظائف فيها بنسبة بعضها إلى بعض في سني 1905 و 1910 و 1914 و 1920

أما كشوف مصلحة الإحصاء فقد قسمت الوظائف فيها ذات معاش ( داخل هيئة العمال) ووظائف بعقود (كنتراتات) ووظائف ماهياتها شهرية وأخرى ماهياتها يومية (وهذه الفئة ظهورات) أما القسمان الأخيران فالمستخدمون 98.5 في الماية منها مصريون ولذلك تكون المزاحمة فيها غير زائدة.

وأما الوظائف ذات المعاش والوظائف ذات العقود فقد تبين من إنعام النظر فيها أن حالها تختلف عما تقدم. لأننا إذا ضربنا صفحا عن مناصب الوزراء، السبعة وموظفي الديوان السلطاني ومجلس الوزراء والجمعية التشريعية ووزارة الأوقاف - وهذه وظائفها كلها بيد المصريين وحدهم ما عدا واحدة أو اثنين منها، فالمصريون يتقلدون 86 في المائة من الوظائف ويقبضون 71 في المائة من الرواتب وأما البريطانيون فيتقلدون 6 في المائة ويقبضون 19 في المائة من الرواتب. وغير المصريين والبريطانيين يتقلدون 8 في المائة من الوظائف ويقبضون 10 في المائة من الرواتب. وفي بعض الرسوم الإحصائية التي رسمت لبيان توزيع هذه الوظائف والرواتب على الوزارات المختلفة قسمت الوظائف إلى ست درجات: الثلاث الأولى منها تختلف رواتبها من أدنى راتب إلى 799 جنيها مصريا في السنة وتسمى الوظائف الصغيرة. والثلاث الأخرى تشمل الوظائف الكبيرة ورواتبها من 800 جنيه مصري إلى 2999 جنيها مصريا في السنة.

فالوظائف الصغيرة يشغل المصريون نحو ثلثي ما كان راتبهم منها يختلف من 240 إلى 499 جنيها مصريا وينحط نصيبهم من الثلث قليلا في الوظائف التي تختلف رواتبها من 500 جنيه إلى 799 ج . م . والوظائف الكبيرة يزيد التفاوت فيها وضوحا فإن نصيب المصريين فيها لا يبلغ الربع. نعم إن نصيب المصريين يرتفع حتى يزيد عن ثلث الوظائف التي راتبها من 1200 ج . م إلى 1499 ج . م ولكن ذلك راجع إلى وزارتي الحقانية والداخلية حيث يعين المديرون المصريون والقضاة المصريون. أما وزارات المالية والمعارف والأشغال العمومية والزراعة والمواصلات فوظائفها الكبيرة يتقلد المصريون منها 31 مقابل 168 يتقلدها البريطانيون و 32 غيرهم وراتب كل منها أكثر من 800 ج . م . نعم إن في هذه الوزارات وظائف كبيرة كثيرة تقتضي معارف فنية خصوصية ولا يمكن وجود مصريين قادرين على القيام بها في الوقت الحاضر ولكن إذا كان المصريون سيصيرون مسئولين عن إدارة بلادهم الداخلية فالواجب اتخاذ تدابير أحسن من التدابير الحالية لتدريبهم وإعدادهم لتقلد أمثال هذه الوظائف الكبيرة.

أما الجداول التي يقارن فيها بين توزيع الوظائف ذات المعاش والوظائف ذات العقود في سني 1905 و 1910 و1914 و 1920 فأرقامها تقريبية فقط لأن تقييدها في السجلات غير كامل ولكنها كافية لإدراك التقلب بين المستخدمين بوجه الإجمال فقد زاد عدد العنصر المصري في مجموع الوظائف من 45.4 في المائة سنة 1905 إلى 50.4 في المائة سنة 1920 ولكن عدده في الوظائف الكبيرة نقص من 27.8 في المائة سنة 1905 إلى 23.1 في المائة سنة 1920 وزاد نصيب البريطانيين في قسم تلك الوظائف عينها من 42.2 في المائة إلى 59.3 من المجموع كله.

أما الخطر فهو من الجبهة الأخرى. فقد يمكن أن الموظفين البريطانيين وغيرهم من الأجانب يتركون الخدمة جملة من تلقاء أنفسهم خوفا من أن يبقوا تحت رحمة حكومة مصرية محضة، فيكون ذلك مصيبة عظيمة، ولكن نستبعد جدا أنهم يخرجون من الخدمة على هذا المنوال: (أولا) لأن مصالح مصرية كثيرة مثل مصلحة المبانى والسكة الحديد والجمارك، ومثل الأشغال العمومية ونحوها تستخدم عددا كبيرا من الإنجليز وغيرهم من الأوربيين في وظائف فنية لعدم وجود مصريين مستوفين الخبرة اللازمة لها. فهؤلاء الموظفون الأجانب لا يشعرون بأن تغيير حالة مصر السياسية أثر في مركزهم وإنما الذين يخافون من هذا التغيير هم الذين يقلدون مناصب إدارية محضة ولهم سلطة على جماعات كبيرة من المصريين لأنهم يسألون أنفسهم قائلين: هل ترى يؤيدنا الوزراء المصريون الآن في استعمالنا لسلطاتنا؟. وهل يمكننا أن نستمر على جهادنا الدائم في سبيل مقاومة الرشوة والصنيعة "المحسوبية" وترقية الذين يستحقون الترقى لا الذين يوحى بترقيتهم، وأن تنجح في ذلك باستمرارنا عليه. فمثل هذا الخوف طبيعى وقد يحمل بعضا من أولئك الموظفين على الاستعفاء، ولكن موظفين آخرين يزيدون ثقة بأنفسهم، وقوة مركزهم في المستقبل، لأنهم لا يكونون مثل أولئك الأوربيين القلائل الذين كانوا في خدمة الحكومة قبل الاحتلال فلاقوا المشاق والأهوال في سبيل إصلاح أحوال الحكومة قبل أن يتطرق إلى مصر إصلاح. ومع أنهم كانوا في أحوال صعبة تكدر النفوس لم يعدموا نفوذا ووجاهة ولم يعاملوا بغير التجلة والإكرام، أما الموظفون البريطانيون الذين يبقون في مصر اليوم فإنهم يكونون في بلاد اختمرت بالتأثيرات الأوروبية وتعودت الجرى على أساليب الحكم البريطانى، ومتصلة على حدودها بشواهد محسوسة ناطقة تذكر بالقوّة البريطانية. وزد على ذلك أن الاعتراف بالاستقلال المصرى يزيل مانعا عظيما يحول الآن دون نفعهم للبلاد، وذلك أنه إذا لم يوقف استياء المصريين وضررهم من جانب الموظفين الأجانب عند حدهما خيف أنهما يؤديان إلى قطع كل تعاون حتى بينهم وبين الموظفين المصريين، وسببهما ليس أشخاصا بل النظام، إذ من السهل إثارة العداوة الآن عليهم بحجة كونهم يجلبون إلى مصر رغم أنفها، ويجعلون فيها عمالا للسؤدد الأجنبى وعلامة عليه. فأسباب هذه العداوة تزول متى لم يعودوا يعّدون آلات بيد حكومة أجنبية، ويزداد تأييد الوطنيين لهم في محافظتهم على حسن سير الحكومة وتعيين الأكفاء فيها. والدليل على ذلك أن الموظفين البريطانيين في الإدارة والضباط البريطانيين في الجيش غير مكروهين شخصيا، بل إن أحسنهم محترمون ومحبوبون أيضاً عند شعب يعترف حالا بالكفاءة لأربابها، ولا سيما إذا اقترنت باللطف والكياسة، فإذا تأمل الإنجليز الموظفون في الحكومة المصرية هذه الاعتبارات وتأنوا. وما من شئ يوجب العجلة، فالمرجح أن كثيرين منهم يبقون في وظائفهم، وما من خدمة يخدمونها بأشرف من هذه الخدمة، وهى إنشاء شركة حبية بين بريطانيا العظمى ومصر ومساعدة المصريين حتى ينجحوا في أنظمة الحكم الذاتى.

ولكن وإن يكن خروج الموظفين البريطانيين وغيرهم من الأجانب جملة وبسرعة أمرا غير منتظر، فإنه يحسن مع ذلك تدبير أمر الذين تروم الحكومة المصرية أن تستغنى عن خدمتهم، أو الذين يرومون

هم أنفسهم أن يخرجوا من خدمتها عند تنفيذ النظام الجديد. فهؤلاء يجب أن يعاملوا بإنصاف وسخاء إذ لا شيء يكدر صفو العلاقات بين الإنجليز والمصريين في المستقبل من أن يخرج عدد من الموظفين السابقين وهم يتظلمون من الحيف عليهم. فيجب في كل معاهدة تعقد بين بريطانيا العظمى ومصر أن تكون مراكزهم مضمونة، وأن ينص على شروط الخروج من الحكومة بعد مشاورة رجال ينوبون عنهم. وبموجب القانون الحالي يعطى الموظفون المصريون إذا أحالتهم الحكومة على المعاش بسبب غير سوء سلوكهم معاشا طيبا مناسبا لطول مدى خدمتهم. وما من ترتيب يوضع من جديد يمس الحقوق الحالية، ولكن- يلزم مراعاة لتغيير الأحوال- أن يوضع تدبير خصوصي لمعاملة الذين قد يقضي على مستقبلهم في الخدمة قضاء مبرما، وكذلك الذين قد يتركون الخدمة من تلقاء أنفسهم في النظام الجديد يعاملون معاملة الذين تستغني الحكومة عنهم. والمعتاد الآن أنه إذا أراد موظف الاستعفاء من الخدمة قبل بلوغه السن المعينة للإحالة على المعاش يخسر بعض حقوقه، ولكن هذه القاعدة لا تنطبق على ما نحن بصدده بعد تغير شروط الخدمة تغيرا جوهريا؛ بل يجب أن يترك للموظفين حق الخيار بين البقاء في الخدمة أو تركها في النظام الجديد، فإذا اختار الترك يعامل معاملة من يلزم بالخروج من الخدمة إلزاما.

رابعا - التحفظات لحماية الأجانب.

تستثني المذكرة في البند 4 والفقرتين 3 و 4 شيئين من المبدأ العام القاضي بأن تكون الحكومة المصرية في المستقبل حرة في تعيين الوظائف التي توظف غير المصريين فيها، وهما على ما في الفقرتين المذكورتين تعيين مستشار مالي وموظف في وزارة الحقانية وظيفته الخصوصية مراقبة تنفيذ القانون فيما له مساس بالأجانب "بالاتفاق مع حكومة جلالة الملك" ورب قائل يقول بعد الذي تقدم ذكره بهذا الشأن، وما الذي أوجب استثناء هذين الأمرين، فالجواب على ذلك أنه المسئوليات الخصوصية التي تلقى على عاتق بريطانيا العظمى بمقتضى التسوية المطلوبة لحماية حقوق الأجانب، فالأمران اللذان يهمان الدول الأجنبية التي يتمتع رعاياها الآن بالامتيازات الأجنبية هما اقتدار مصر على سد ديونها، وذلك يهم حملة السندات المصرية ويؤثر أيضا في كل رؤوس الأموال والمشروعات الأجنبية في البلاد، وسلامة أرواح الأجانب وأملاكهم.. فلضمان هذين الأمرين لا تكف الدول بكل تأكيد عن الإلحاح طالبة إبقاء بعض المراقبة الأجنبية، وقد رضيت أن تتولى بريطانيا العظمى تلك المراقبة. فإذا كفت بريطانيا العظمى الآن عنها طلبت الدول أن يعهد بها إلى دولة أخرى غيرها، أو إلى فريق من الدول لتحل في ذلك محلها.

ومن المبادئ الأساسية التي تبنى التسوية المنوّية عليها أن كل سلطة تلزم لضمان مصالح الأجانب في مصر، ولحمل الحكومات الأجنبية على الاطمئنان والإيقان بأن حقوق رعاياها تحترم، وهذا هو سبب الشرط المتقدم، وهو أن يبقى تعيين الموظفين الكبيرين المشار إليهما بالاتفاق مع الحكومة البريطانية، لأن الواجب على أحدهما ضمان اقتدار مصر على سد دينها، والواجب على

الآخر مراقبة تنفيذ القوانين التى لها مساس بالأجانب، وقد وصفت وظيفتاهما وصفا إجماليا في المذكرة، وسيحدد مدى اختصاصهما تحديدا دقيقا عند تحرير المعاهدة، لأننا اكتفينا هنا أيضا بالاتفاق مبدئيا وتركنا التفصيل للمفاوضة الآتية.

وهذا يصدق أيضا على الفقرة الخامسة من البند الرابع، حيث خوّل المعتمد البريطانى في بعض الأحوال حق منع تطبيق القوانين المصرية على الأجانب، وقد كثرت المناقشة في ذلك، وبذل رجال الوفد جهدهم لكى يمنعوا هذا الحق من أن يتحول إلى منع عام في التشريع المصرى، وهذا ما لم نكن نريده، ولكن صعب علينا الاتفاق على تعيين حدود هذا الاتفاق تعيينا مدققا، ولهذا أثبتنا لذلك صيغتين في المذكرة. فالمسألة كثيرة التعقيد ولكنا إذا جردناها من حواشيها الفنية والاصطلاحية بقى معنا ما يأتى:

وهو أن الحكومة المصرية تجد نفسها كيفما التفتت مكتوفة اليدين لا تستطيع سن قوانين تسرى على رعايا الدول ذوات الامتيازات في بلادها بلا مصادقة منهن، وان تكن الجمعية العمومية للمحاكم المختلطة تنوب عنهن أحيانا في تلك المصادقة. وقد قدمنا أن السياسة البريطانية ترمى دائما إلى تنقيص القيود التى تقيد بها سلطة الحكومة المصرية التشريعية، وأن ذلك أيضا هو جزء من المشروع المنوى في المذكرة، ولكن ذلك غير ممكن، وليس المطلوب إزالة تلك القيود بالكلية، وهى ما دامت لا غنى عن وجود من يكون له حق استعمالها. وهذا الحق الذى يقصد به ضمان مصالح جميع الأجانب المشروعة تمنحه مصر على ما في المشروع الذى تتضمنه المذكرة لدولة واحدة هى بريطانيا العظمى.

(د) (نص خاص بالسودان (1)).

(هـ) زيارة أعضاء من الوفد لمصر

وبعد انتهاء المناقشات التى أسفرت عن مذكرة 18 أغسطس سافر زغلول باشا وسائر رجال الوفد وعدلى باشا أيضا من لندن إلى باريس. ثم سافر في الحال أربعة من أعضاء الوفد (وهم محمد باشا محمود وأحمد لطفى بك السيد وعبد اللطيف المكباتى بك وعلى بك ماهر) إلى مصر طبقا لما تم الاتفاق عليه. لكى يحصلوا من مواطنيهم على تأييد المشروع المبين في المذكرة. وكانت خلاصة المذكرة قد وصلت إلى الجرائد مع هفوات قليلة في تفصيلها قوبلت في مصر بعبارات الرضا والاستحسان.

وحوالى ذلك الحين نشر في مصر منشور طويل من زغلول باشا نوّه فيه بصفة الوفد النيابية التى يمثل فيها الأمة، وبما لقيه من تأييدها. وأشار إلى المساعى التى بذلها الوفد لعرض القضية المصرية على مؤتمر الصلح وعلى العالم كله مدعيا أنهم اكتسبوا شيئا كثيرا من الميل والعطف

(1) راجع الكتاب الأخضر عن السودان.

في البلاد الأجنبية. ثم استطرد إلى ذكر تعيين اللجنة الخصوصية ومقاطعة أعضائها بسبب الإصرار على بقاء الحماية، وما جرى بعد ذلك حتى أفضى الأمر إلى زيارة الوفد المصري للندن، والمناقشات التي جرت فيها، وأعلن في الختام أن الاقتراحات التي نشأت عن تلك المناقشات ستعرض على الأمة على يد رسل منتدبين لذلك، فإذا قوبل المشروع بالاستحسان عين ممثلون للمفاوضة في عقد معاهدة على القاعدة المقترحة.

ولخلوّ هذا المنشور من الجزم يظهر أنه أضعف الحماسة التي استقبلت بها لجنة الوفد المركزية في القاهرة إعلان التسوية في بادئ الأمر، ولكن لما وصل الرسل الأربعة إلى الإسكندرية في 7 سبتمبر قوبلوا بمظاهر الابتهاج، والترحيب، وأنعش وصولهم التفاؤل في النفوس، وأرسلت لجنة الوفد المركزية رسالة برقية إلى زغلول باشا أعربت فيها عن "ثقة البلاد كلها" بالوفد وعن الحماسة الغالبة على الجمهور. ظهرت في ذلك الوقت دلائل الفتور في الجذب والدفع اللذين اعتورا علاقات البريطانيين والمصريين مدة من الزمان، ولاحت تباشير المصالحة في كل مكان.

صحيح أن الحزب الوطني وآخرين من المتطرفين حملوا على التسوية المنوية حملة منكرة في أول الأمر، وقال الناقدون إن الاستقلال المنوي لمصر ليس استقالا حقيقيا، واحتجوا خصوصا لعدم إدخال السودان في المشروع، وقام في مقدمة المعترضين أربعة من أمراء البيت الخديو الذين وقعوا المنشور المذكور، فانتهزوا الفرصة ونظروا في الجرائد في 11 سبتمبر سنة 1920 تصريحا بأن آراءهم لم تتغير، وأنهم لا يؤيدون اتفاقا يضيق نطاق استقلال مصر، ولكن هذه المظاهرة لم تؤثر في الجمهور تأثيرا يذكر. ولما رأى أولئك الأمراء أن تلك الاقتراحات وقعت وقعا حسنا عند الناس عموما تداركوا الأمر بأن نشروا كلاما يعفو أثر ما كانوا قد نشروه قبلا.

ولم يتصل رسل الوفد الأربعة بالعالم السياسي في مصر مطلقا، ومع ذلك بذلت العناية التامة حتى يكونوا في عملهم كاملي الحرية مطلقي الحركة. أما الخطة التي جروا عليها فكانت أنهم يدعون إليهم جماعات صغيرة من وجهاء المصريين الممثلين لقومهم لكي يجتمعوا معا ويتناقشوا في التسوية المقترحة، فإذا عادت هذه الجماعات من عندهم أبلغت الأمر إلى جماعات أخرى في الأقاليم، فترد على الرسل الأربعة قرارات الموافقة والانضمام إلى القابلين بحيث لم يمض أسبوعان على وصول أولئك الرسل حتى اتضح أن أكثرية جسيمة من العناصر الممثلة للبلاد توافق على قاعدة المفاوضات التي عرضوها عليها. ولكن أهم الشهادات الناطقة بهذا الاستحسان العام شهادة الباقين من أعضاء الجمعية التشريعية في اجتماع عقدوه لمحادثة أعضاء الوفد في 16 سبتمبر، وكان عددهم تسعة وأربعين عضوا، فقر قرار خمسة وأربعين منهم بالموافقة على الاقتراحات، وامتنع اثنان عن إعطاء رأيهما وعارض اثنان فقط فيه. ولم يستطع عضوان آخران الحضور بنفسيهما إلى الاجتماع، فكتبا يعربان عن رأيهما بالموافقة على المشروع، وعليه أيد المشروع سبعة وأربعون عضوا من الواحد والخمسين عضوا الباقين أحياء من أعضاء الجمعية التشريعية.

وبينما كان هذا الاستحسان العام يسجل طُلب تفسير بعض النقط الخصوصية في المشروع مع الرجاء بأنه متى عاد الوفد إلى لندن يحصل على التأكيدات القطعية بشأن هذه النقط، وأهم هذه النقط رغبة الناس إجماعا في الحصول على دليل قاطع على إلغاء الحماية عند عقد معاهدة المحالفة.

(و) المقابلات الأخيرة مع الوفد المصري في لندن

وعاد الرسل الأربعة من مصر إلى باريس في أوائل أكتوبر، وانضموا إلى زغلول باشا وسائر زملائهم الذين بقوا في أوربا. وفي آخر الشهر المذكور عاد الوفد كله يصحبه عدلي باشا إلى لندن، واجتمع مرتين مع اللجنة قص فيهما الرسل الأربعة ما رأوه وخبروه في مصر، وجرى للبحث في الحالة التي نجمت عن ذلك. وقد ظهر من أقوال الرسل التي جاءت مؤيدة للأخبار التي نشرتها الجرائد أن الرأي المصري قابل شروط التسوية المنوية بالاستحسان، وأن المساعي الكبيرة التي بذلت في أول الأمر لإثارة المعارضة انتهت بالفشل التام، ولكن الرسل لم يغفلوا أن يرسخوا في أذهاننا حينئذ أن الموافقة العامة على التسوية كانت مصحوبة ببعض التحفظات من جانب المصريين الذين كلموهم، وأنهم أوصوا بأن يجتهدوا لكي يحصلوا على تعديل التسوية في نقط منها. وكان أهم. ما يرغبون فيه من هذا القبيل تضييق اختصاصات المستشار المالي والموظف البريطاني في وزارة الحقانية، وإهمال الشرط الذي تضمنه البند الخامس من المذكرة، وهو أن تنفيذ المعاهدة المنوية بين بريطانيا العظمى ومصر يتوقف على عقد اتفاقات مع الدول لإجراء التعديل اللازم في نظام الامتيازات، وأهم من ذلك إلغاء الحماية رسميا، وأوردوا نقطا أخرى أقل أهمية من ذلك. فاتضح لنا أننا إذا أعدنا النظر في هذه الأمور كلها اضطررنا إلى فتح باب المناقشة من جديد بعد ما اشتغلنا بها معظم الصيف، واتفقت آراء أعضاء اللجنة كلهم على أن السير على هذا المنوال ضرب من العبث، لا سيما بعد ما أوضحنا لأعضاء الوفد أن كل اتفاق يتم بيننا وبينهم لا يمكن أن يكون نهائيا على كل حال، وأن كل ما يسعنا عمله هو أن نمد الطريق للمفاوضات الرسمية التي تدور فيما بعد إذا لقيت فكرة عقد المعاهدة على المبادئ التي تناقشنا فيها قبولا عند الرأي البريطاني والمصري. أما النقط التي قدمت الآن فيمكن عرضها كلها على بساط البحث في المفاوضات الرسمية هي وغيرها من النقط التي لا بد من أن تعرض للبحث من الطرفين، فمحاولتنا أن نعين من الآن ما يقر عليه القرار أخيرا من هذه التفاصيل يؤخر حتما البدء بهذه المفاوضات، وقد يضر ضررا كبيرا في نجاح سيرها أيضا.

وقد لخص اللورد ملنر رأي اللجنة في بيان تلاه في الجلسة الثانية التي حضرها الوفد في 9 نوفمبر وهو كما يأتي:

رأينا أنه يحسن أن تعقد هذه الجلسة قبل سفر الممثلين المصريين لجلاء الحالة، وترك مجال للتعاون على العمل بينهم وبين اللجنة في المستقبل.

ويظهر من الأخبار التي عاد بها إلينا السادة الذين رجعوا من مصر أخيرا أنها تدل على أن هناك جمهورا كبيرا يستحسن التسوية - على القاعدة المبينة في مذكرة أغسطس ولكنهم قالوا إن في المذكرة نقطا يرغبون تعديلها، وإنهم يرغبون أيضا في إضافة شروط جديدة قبلما يعدوننا بتأييدهم لنا من غير قيد ولا شرط، وإني في غنى عن الإسهاب في الكلام على هذه النقط اليوم لأن أعضاء اللجنة مجمعون رأيا على أن لا فائدة من المناقشة في التفاصيل الآن.

والمذكرة لم تدّع أنها تتضمن غير تبيان المبادئ العامة التي يمكن أن يبنى الاتفاق عليها. وعلى كل حال لا يكون الاتفاق إذا قر القرار عليه إلا نتيجة مفاوضات رسمية بين ممثلين معتمدين من الحكومة البريطانية والحكومة المصرية. كما كنا نتوقع ذلك دائما. وفى تلك المفاوضات يمكن عرض النقط الجديدة التي قدمتموها على أثر زيارة بعضكم لمصر، وغيرها من النقط التي يمكن أن يعرضها هذا الفريق أو ذاك. ومن المستحيل والمكروه أيضا أن تُمنع الاقتراحات التي ليس فيها مناقضة واضحة لجوهر الاتفاق المبين في المذكرة. التي تحتاج في حالتها الحاضرة إلى توضيح وإتقان قبلما تحول إلى معاهدة رسمية، ومن رأينا أننا إذا تعرضنا لهذه المناقشات من الآن لا نكون قد سهلنا حصول التسوية، ولذلك يكون الأجدر بنا أن نجتنب الآن إبداء أي رأى في النقط الجديدة التي عرضتموها أخيرا مع أننا نعتقد أنه يمكن الوصول إلى حل مرض، بل لا بد من الوصول إليه حينما تدور المفاوضات القانونية.

والأمر الذي يهمنا الآن بعد أن بلغنا ما بلغناه، هو التأثير في الرأي العام هنا وفى مصر حتى يستحسن التسوية على المبادئ التي استحسناها نحن وأنتم. وأعظم من ذلك كله أن نغرس ونقوي بكل وسيلة ممكنة أواصر الصداقة والثقة المتبادلة التي ساعدت محادثاتنا هنا على إيجادها، والتي يجب تعميمها بين الفريقين إذا شئنا أن تفضي مساعينا إلى الغاية المطلوبة. فإن ذلك كله أهم جدا من المناقشة في التفاصيل. أما فيما يختص بهذه البلاد فإننا نؤمل أن تقرير اللجنة الذي نحن مهتمون بإنجازه بأسرع ما يمكن يؤدي إلى هذه الغاية، ومما يماثل ذلك في الأهمية أن تنتج مساعيكم في مصر نتيجة مثل هذه، ونحن نعترف لكم شاكرين عظم ما فعلتموه من هذا القبيل حتى الآن، ولكن من البّين أنه لا يزال هناك معارضة يجب التغلب عليها، وأن في مصر أناسا كثيرين لم يتشربوا روح الاتفاق بل لا يزالون معادين لحسن التفاهم بين بريطانيا العظمى ومصر لسبب من الأسباب، فهم يرتابون في نيات هذه البلاد، أو يدّعون ذلك. غير مدركين مقدار السخاء الذي تقابل به بريطانيا العظمى أماني الشعب المصري. وأنكم بتبديدكم سوء الظن وسوء التفاهم وغرسكم حسن الظن في النفوس بدلهما تعملون مالا يستطاع عمله بطريقة أخرى للوصول إلى التسوية التي نرغب فيها كلنا أشد رغبة.

فرد زغلول باشا على هذا البيان بخطبة خلاصتها أنه شديد الرغبة كما نحن شديدو الرغبة في إيجاد حالة موافقة للتسوية، ولكن مساعيه في هذا السبيل تضعف جدا إذا لم يستطع أن يعد المصريين

شيئا من جهة التحفظات المطلوبة، وبالأخص إذا كان غير قادر أن يقول للمصريين إن بريطانيا العظمى- ألغت الحماية نهائيا. وقد أعاد القول الأخير مرارا وكرر هذه الآراء في رسالة بعث بها إلى اللورد ملنر.

وكانت هذه آخر مقابلاتنا مع الوفد وقد غادر إنجلترا بعدها. ولا بد لنا من القول إن مناقشاتنا كانت دائما على غاية المودة من البداية إلى النهاية، ومع أننا افترقنا من غير أن نصل إلى اتفاق نهائي. بل بقى كل فريق متمسكا برأيه، فقد استنتجنا أن شروط الاتفاق المنوي وقعت وقعا حسنا جداً في مصر سواء قوبلت بتحفظات أو بغير تحفظات، وأن أكثر أعضاء الوفد - إن لم يكونوا كلهم- كانوا شديدي الثقة بأنها تقابل من مواطنيهم بالقبول التام أخيرا، شديدي الرغبة في تحقيق ذلك.

خلاصة عامة

نظرا إلى ماهية الموضوع الكثيرة التشويش، والتركيب وإلى طول تقريرنا الذي قضت به الضرورة، مع بذلنا الجهد في حذف كل التفاصيل التي ليست بجوهرية منه، نروم الآن أن نراجع أشهر خصائص الخطة التي نشير باتباعها، والمراحل التي قطعناها حتى وصلنا إلى نتائجنا فنقول:

لما وصلنا إلى مصر وجدنا القلق والاستياء مستحوذين عليها، وكانت الفتنة قد قمعت، ولكن الهيجان لم يخف بل كان لا يزال يظهر بمظهر العنف الخطر عند فريق من المتطرفين. وكانت المطالبة تنهال من كل مكان "بالاستقلال التام" مبتدئا بإلغاء الحماية التي كانوا يقولون إنها تتضمن إبادة الجنسية المصرية. ولكي يسوّغ أنصار الحزب الوطني هذا الاستنتاج كانوا يستشهدون برفض الحكومة البريطانية السماح للوزراء بالسفر إلى لندن بعد الهدنة، وإبعاد زغلول باشا ورفاقه، وازدياد عدد الموظفين البريطانيين منذ نشبت الحرب، واستمرار الأحكام العسكرية. ثم إن البنود الأربعة عشر التي أعلنها الرئيس ولسن أثارت آمالا في كل مكان، ووعدت أمما أخرى شرقية بتقرير مصيرها، والمصريون يحسبونها دونهم. فزاد ذلك في استيائهم، واحتدمت الغيرة الدينية من جراء انكسار الأتراك، وما حام حول مستقبل الخلافة من الريب والشكوك.

وأما من جهة البريطانيين فكانت الحالة على غاية الصعوبة. فإن عددا كبيرا من الموظفين الواسعي الخبرة أخلوا مناصبهم من أوّل الحرب، وحل محلهم رجال جدد لا يعرفون إلا اليسير من النظام المتبع الذي حفظت به الرقابة البريطانية في عهد لورد كرومر من غير أن يجرح إحساس المصريين. نعم إن عمل الإدارة في زمن الحرب خليق بالشكر الجزيل. ولكن الضرورة أفضت إلى تقديم المصالح البريطانية على المصالح المصرية ولو بعض الشيء وإلى استخدام الوسائل الميسورة، ولو لم تخل من الشدّة مما ينفر منه شعب لم يكن ميله إلينا شديدا. ولما انتهت الحرب كان كثير من المعالم القديمة قد زال وانقطع كل اتصال بالماضى، وصارت الأحكام العسكرية ضربة لازب لحفظ النظام وللقيام بأعمال الإدارة، وكان القنصل الجنرال الوكيل السياسى قد صار معتمدا ساميا وهو القائد العام أيضا، وظل الوزراء المصريون في مناصبهم، ولكن الجمعية التشريعية وقفت، فكانت الإدارة في هذه الأحوال مضطرة أن تقوم بأعمال رغما عن مقاومة تكاد تكون عامة، ويكاد الموظفون أنفسهم يشتركون فيها، وهم معتمد الحكومة في جانب كبير من عملها التنفيذى.

وقد استنتجنا حال وصولنا أن هذه الحالة لا يمكن معالجتها بالرجوع إلى النظام الذى كان متبعا قبل الحرب، ولا بإصلاح إدارى محض. بل لا بد من تغيير جوهرى يناسب الأحوال الجديدة. ولكن الهياج الذى ثار على "الحماية" زاد الصعوبة في إيجاد سياسة يقبل بها المصريون، وتصان بها المصالح البريطانية. فإن كلمة "الحماية" صارت عنوان الاستعباد في أذهان المصريين، وأصروا على أن معناها هو المعنى الذى فهموه لها، فعاد الجدال في هذا الموضوع ضربا من العبث، واتضح لنا والحالة هذه أنه لا يمكن أن نصل إلى تسوية بالاتفاق ما لم تُتخذ خطة أخرى.

ومن حسن الحظ وجدنا أن المحادثات غير الرسمية التى دارت بيننا وبين أناس من أقطاب مصر تقوّى الأمل أن تسوية مثل هذه ليست مما يستحيل الوصول إليها على مبادئ جديدة. واتفقت كلمتهم على أنهم يرفضون كل حالة سياسية منحطة توجبها عليهم الحكومة البريطانية، ولكنهم يرحبون بمعاهدة تحالف تعقد بين الفريقين باختيارهما، تقرر استقلال مصر وتنيل بريطانيا العظمى كل التأمينات والضمانات التى تراد من الحماية بالمعنى الذى نفهمها به نحن، وانحصر أكثر عملنا بعد ذلك في فحص هذا الأمر الذى حسبناه محتملا. وكان غرضنا دائما أن نجد قاعدة لمحالفة توضع فوق كل المجادلات على الألفاظ والعبارات، وتكون الحد الوحيد النهائى للعلاقات بين بريطانيا العظمى ومصر.

وليس في اعتراف بريطانيا العظمى باستقلال مصر شئ جديد. فقد عنينا أشد العناية كل مدة احتلالنا لمصر باحترام وحدة مصر كأمة تحت سيادة سلطان تركيا، ولما ألغينا السيادة التركية فضلنا بعد إنعام النظر أن نعلن حمايتنا لمصر على أن نضمها أو نجعلها جزءا من الامبراطورية البريطانية. وقد جددنا وعدنا دائما بإعطاء مصر الحكم الذاتى. ومن رأينا أن الوفاء بهذا الوعد لا يمكن تأجيله، والروح الوطنية المصرية لا يمكن إطفاؤها. وقد يمكن قمع ما يبلغ درجة العنف من مظاهرها، ولكن الحكم على بلاد أهلها مظهرون العداء لنا يتهموننا بنقض عهودنا، عمل شاق مكروه لدى الذين يشتركون فيه، ولدى الشعب البريطانى المسئول عنه.

غير أن هناك مصاعب هائلة تعترض كل تغيير فجائى تام ينقل كل السلطة إلى أيد مصرية. وهناك مصالح بريطانية جوهرية لابد من الاحتقاظ بها، ولابد أيضا من حماية عدد كبير من

الأجانب المتوطنين في مصر وحماية حقوقهم. ووجود هؤلاء في مصر يجعل مركزها مختلفا عن مركز غيرها من البلدان الشرقية، ويزيد المسألة تعقيدا.

أما المصالح البريطانية الجوهوية فهي أن المواصلات الإمبراطورية العظيمة التي تخترق الأراضي المصرية، يجب ألا تهدد بخطر سواء كان باضطرابات داخلية أو باعتداء أجنبي، وأن تكون ميسورة في زمن الحرب، وللأغراض الضرورية في زمن السلم، وألا تعود إلى مصر منافسة الدول التي تتنافس على التفوق فيها. وأخيرا ألا تجري مصر المستقلة على سياسة خارجية تكون معادية للإمبراطورية البريطانية مجحفة بها. ولذلك فإن كل معاهدة تعقد بيننا وبين المصريين يجب أن تضمن المركز الخاص الذي للمندوب البريطاني في مصر، وتمكننا من إبقاء قوة داخل الأراضي المصرية لحماية مواصلاتنا الإمبراطورية، ونتخذ التأمين الكافي في أن السياسة المصرية تكون مطابقة لسياسة الإمبراطورية البريطانية.

ثم إن حماية الحقوق الأجنبية مشكلة أشد تعقيدا، فهذه الحقوق مضمونة الآن بالامتيازات، ولكن الامتيازات أعظم كل القيود التي تشكو منها مصر الآن. فإن تعدد القضاء الناتج عنها، والتسهيلات التي تحولها للرجال الذين ليس لهم جنسية معينة للنجاة من المحاكم الأهلية، كل ذلك مشاكل تمنع حفظ القانون والنظام، في حين أن إعفاء الأجانب من الضرائب المقررة غير أموال الأطيان وعوائد الأملاك يشل يد الحكومة إذا أرادت أن تزيد إيراداتها، لأنه يستحيل عمليا فرض ضرائب على المصريين ويعفى الأجانب منها، ولذلك بقيت الحكومة زمانا في الماضي مضطرة أن تضيق على بعض فروعها المهمة كالتعليم العمومي والصحة العمومية، مع أن ثروة البلاد تزداد بسرعة، ومواردها كثيرة تكفي لكل حاجات حكومة منظمة، وفى زمن الحرب لم يتيسر الحصول على إيراد كاف للخفراء إلا بضريبة خصوصية فرضت بواسطة الأحكام العسكرية.

فاتضح لنا أنه ما من حكومة مصرية تستطيع أن تكون مستقلة إلا بعد إزالة هذه القيود، وإذا تركت وزارة مصرية تعاني مصاعب هدّدت الإدارة الحالية بتوقيف دولاب أعمالها، فيكون ذلك بمثابة القضاء عليها بالفشل. وتراءى لنا أنه إذا بقيت الامتيازات، فالمرجح كل الترجيح أن الحكومة المصرية تتعرض لضغط تتبارى فيه السلطات الأجنبية يمكن أن يشلها إذا لم تؤيدها بريطانيا العظمى. فيرى من ذلك جليا أن مصلحة مصر تقتضي إلغاء الامتيازات، وإعادة تنظيم المحاكم المختلطة حتى تقوم مقام المحاكم القنصلية، فتنظر في القضايا الجنائية التي تتعلق بالأجانب كما في القضايا المدنية. ولكن تحقيق ذلك لا يتيسر إلا بواسطة بريطانيا العظمى. وهي لا تتوقع أن تفلح في جعل الدول تتنازل عن امتيازاتها الحاضرة إلا إذا كانت بحيث تستطيع أن تؤكد لهم أن مصر تبقى قادرة على إيفاء ما عليها من الديون، وأن أرواح الأجانب وأموالهم في أمان، ولذلك وجهنا اهتمامنا إلى الحصول على مركز مثل هذا لبريطانيا العظمى يمكنها من إعطاء

التأكيد اللازم، ولا يحصل هذا الغرض ينبغى أن يكون في المعاهدة بند يخوّل لبريطانيا العظمى حق الدخول في التشريع الذى يتناول الأجانب، ويخوّلهما أيضا قسطا من الرقابة على الإدارات التى لها تأثير مباشر في المصالح الأجنبية.

وإذا استثنينا هذه الاحتياطات اللازمة لمصالح بريطانيا العظمى الخاصة، وحماية حقوق الأجانب، فإننا نرى أن تعاد حكومة مصر فعلا إلى ما كانت عليه نظريا مدة احتلالنا، أى حكومة مصرية للمصريين، ولنا ثقة كافية بأعمال الإصلاح التى تمت في الأربعين سنة الماضية. تحملنا على الاعتقاد بأن هذا السبيل يمكن السير فيه الآن ونحن واثقون بنجاحه، ولكن يجب أن نعمل به بكل جوارحنا وبروح الحب والإخاء، ولا شئ يحتمل أن يؤدى إلى الفشل مثل أن تقيد هذه السياسة بقيود كثيرة تدل على أن صاحبها موجس شرا، وتشوّه مبدأ الاستقلال المصرى، وتوجد الريبة في صدق نياتنا، وتفسد علينا غرضنا الأصلى وهو إعادة الثقة المتبادلة والمؤازرة الأكيدة بين البريطانيين والمصريين.

ولا نحاول إخفاء اقتناعنا بأن مصر لم تصر بعد قادرة على الاستغناء عن المساعدة البريطانية في إدارتها الداخلية، ولكن المصريين يعلمون ذلك، ومتى أيقنوا أن المسئولية واقعة عليهم وحدهم لا يسرعون للاستغناء عما لا يستغنى عنه من مساعدتنا اللازمة لنجاح بلادهم وحسن إدارة حكومتهم، ومما يزيدهم إبطاء في ذلك علمهم انهم إذا فشلوا في أمر لم يعد يمكنهم أن يحتجوا بأن فشلهم كان لائتمارهم بأمر البريطانيين، ولعلم وزرائهم أن الأعمال الحسنة التى يعملها الموظفون البريطانيون في الحكومة يعود الفخر بها إلى أولئك الوزراء العقلاء الذين أبقوهم في وظائفهم، وعندنا أن الجو كله يتغير تغيرا تاما متى اقتنع المصريون بأن غرض السياسة البريطانية هو مساعدتهم لينالوا الاستقلال الذى يرمون إليه لا أن يحولوا في سبيلهم لكى لا ينالوه، وقد رسخ هذا الاعتقاد فينا بعد الذى اختبرناه بأنفسنا في الأخذ والعطاء بيننا وبين المصريين الممثلين لقومهم، واتصال حبل الوداد بيننا وبينهم، فإنهم لما وثقوا بخلوص نيتنا أظهروا حسن استعدادهم حالا لقدر رأينا قدره، وللاعتراف بمصالح بريطانيا الخصوصية في مصر بما هم مدينون لها به من الشكر على أعمالها الماضية في البلاد، وعدم استغنائهم عن مساعدتها لهم على حفظ سلامتها واستقلالها. ولم تضعف عزيمتنا لأنهم ليسوا كلهم مستعدين للتقيد بلا شرط ولا استثناء بكل نقطة من نقط التسوية التى عاونونا على استنباطها، فلا ريب عندنا في أنهم موافقون بكليتهم على أعظم مزايا تلك التسوية، وأنهم شديدو الرغبة في حمل أهل وطنهم على قبولها. والظاهر لنا أن الرأى العام متجه إلى هذه لا محالة. وقد قل ما كان من الجفاء والحقد وضعفت الدعوة العنيفة التى كانت غالبة إلى عهد قريب، ومالت البلاد إلى الهدوء والسكون، فالوقت ملائم لإقرار علاقات بريطانيا العظمى ومصر على قاعدة موافقة دائمة هى قاعدة المعاهدة التى تقرر لمصر استقلالها وتضمن لبريطانيا العظمى مصالحها الجوهرية. ومزية ذلك لبريطانيا العظمى ومصر ظاهرة. أما لبريطانيا العظمى فلأنه يحدد مصالحها تحديدا واضحا، ويقرها في معاهدة يقبلها المصريون فلا ينازع فيها منازع بعد ذلك، وأما لمصر فلأنه ينيلها ضمان بريطانيا العظمى لسلامتها واستقلالها، فنصيحتنا لحكومة جلالة الملك هي أن تسرع بلا إبطاء زائد في مفاوضة الحكومة المصرية لعقد معاهدة على المبادئ التي حبذناها، وعندنا أن إضاعة هذه الفرصة مصيبة عظيمة.

هذا ونروم في الختام أن نسطر شكرنا لسكرتيري اللجنة، ونعرب عن تقديرنا لخدماتهما التي لا تثمن حق قدرها، فإن مستر أ . ب . لويد أولهما اعتزل خدمة الحكومة بعد خبرة سنين عديدة في مصر وفى وزارة الخارجية البريطانية، وذلك قبل أن تشرع اللجنة في عملها بقليل، ولكنه أذعن إلى إلحاح رئيسنا عليه، ورضي أن يصحبنا إلى مصر، و يكون سكرتيرنا الأول فيها مع أنه كان المفهوم في أول الأمر أن واجبات أخرى لا تسمح بالبقاء في هذه الوظيفة طويلا بعد عودتنا إلى إنكلترا، وقد استفدنا منه فوائد عظيمة مدة إقامتنا بمصر لمعرفته التامة بالبلاد وأهلها وبجميع دوائر الحكومة، ولما له من المكانة عند البريطانيين والمصريين معا.

ولما تركنا مستر لويد في شهر مايو اجتمع شغل السكرتارية كله على مستر أ . م . ب انجرام من موظفي وزارة الخارجية البريطانية، وكان قد صحبنا إلى مصر بوظيفة مساعد لمستر لويد وسكرتير خصوصي للورد ملنر، وكانت واجبات وظيفته في الأشهر السبعة الماضية ثقيلة شاقة، ولكنه قام بها بهمة كبيرة وغيرة متقدة ومقدرة وكفاءة، ونحن مدينون له دينا كبيرا على مساعدته.

الإمضاءات: ملنر- رنل رود- أوين توماس- سسل ج. ب. هرست - ج. ا. سبندر

9 ديسمبر سنة 1920

(4) نص مشروعى مفاوضات ملنر

(أ) نص مشروع المعاهدة الذى قدمه اللورد ملنر الى الوفد المصرى 17 يوليه سنة 1920

(المادة الأولى)

تتعهد بريطانيا العظمى بضمان سلامة أرض مصر واستقلالها كمملكة (سلطنة) ذات نظامات دستورية.

(المادة الثانية)

وتتعهد مصر من جانبها أن لا تعقد أى معاهدة سياسية مع أى دولة أخرى بدون رضاء بريطانيا العظمى.

(المادة الثالثة)

نظرا للمسئولية الملقاة على عاتق بريطانيا العظمى بمقتضى الفقرة المتقدمة، ونظرا لمالها من المصلحة الخاصة في حفظ مواصلاتها مع ممتلكاتها في الشرق والشرق الأقصى، فمصر تعطيها حق إبقاء قوة عسكرية بالأراضى المصرية، وحق استعمال الموانئ والمطارات المصرية لغرض التمكن من الدفاع عن القطر المصرى ومن المحافظة على مواصلاتها مع أملاكها المذكورة، أما المكان أو الأمكنة التى تعسكر فيها تلك الجنود البريطانية فإنها تعين بعد باتفاق الطرفين.

(المادة الرابعة)

تقبل مصر أن تعين بالاشتراك مع حكومة جلالة الملك مستشارا ماليا يعهد إليه بجميع الاختصاصات المخولة الآن لأعضاء صندوق الدين لحماية حقوق دائنى مصر. ويكون تحت تصرف الحكومة المصرية في جميع المسائل الأخرى التي ترغب استشارته فيها.

(المادة الخامسة)

تتعهد بريطانيا العظمى بمساعدة مصر في تحرير نفسها من القيود التي تقيد حريتها في التشريع والإدارة بسبب الامتيازات التى يتمتع بها الأجانب في مصر. وفى وضع نظام بمقتضاه تكون القوانين المصرية سارية على المصريين والأجانب على السواء.

(المادة السادسة)

وتوقعا لتنازل الدول الأجنبية عن الامتيازات الخاصة التي يتمتع بها رعاياها حتى الآن، ونظرا لضرورة تطمين تلك الدول على أن حقوق الأجانب الشرعية ستكون مع ذلك محترمة. فمصر تعطي لبريطانيا العظمى حق التدخل بواسطة ممثليها في مصر لإيقاف تنفيذ أي قانون يكون ماسا بحقوق الأجانب الشرعية، أو مخالفا للمتبع في البلاد المتمدنة، وإن وجدت الحكومة المصرية حق التدخل هذا قد استعمل في أي حالة مخصوصة بدون وجه فلها رفع الأمر لعصبة الأمم.

(المادة السابعة)

قضاء المحاكم المختلطة الحالية أو ما يحل محلها من الأنظمة المماثلة لها يبقى قائما. وينسحب هذا القضاء على المواد الجنائية وجميع الدعاوى الأخرى الخاصة بالأجانب في مصر.

(المادة الثامنة)

تقبل مصر أن تعين بالاشتراك مع حكومة جلالة الملك موظفا إنجليزيا بوزارة الحقانية يكون له من الاختصاص والسلطة ما يتمكن معه من تأكيد حسن إدارة القوانين فيما يتعلق بالأجانب.

(المادة التاسعة)

تكون حكومة جلالة الملك مستعدة لأن تأخذ على عهدتها تمثيل مصر في أي بلد لم يتعين فيها ممثل مصري. ولكن ليس لمصر أن تعهد بهذا التمثيل لأي دولة أخرى غير بريطانيا العظمى.

(المادة العاشرة)

تعترف الحكومة أن لمركز ممثل بريطانيا العظمى في مصر صفة خاصة، وأن له باعتباره ممثل الدولة الحليفة حق التقدم على جميع الممثلين الآخرين.

(المادة الحادية عشرة)

الموظفون البريطانيون وغيرهم من الأجانب عدا من ذكروا بالمواد السابقة تسوي حالتهم باتفاق خاص بين الحكومتين البريطانية والمصرية.

وهذا الاتفاق يعتبر جزءا متمما للتراضي المزمع عقده بينهما.


(ب) نص مشروع المعاهدة الذى قدمه الوفد المصرى إلى لجنة اللورد ملنر في 17 يوليه سنة 1920

(المادة الأولى)

تعترف بريطانيا العظمى باستقلال مصر.

تنتهى الحماية التى أعلنتها بريطانيا العظمى على مصر في 18 ديسمبر سنة 1914 هى والاحتلال العسكرى الإنجليزى، وبذلك تسترد مصر كامل سيادتها الداخلية والخارجية وتكون دولة ملكية ذات نظام دستورى.

(المادة الثانية)

تجلى بريطانيا العظمى جنودها عن القطر المصرى في ظرف من تاريخ العمل بهذه المعاهدة.

(المادة الثالثة)

عند استعمال الحكومة المصرية حقها في الاستغناء عن خدمة الموظفين الإنجليز. تلتزم بإحسان معاملتهم على الكيفية الآتية:

فى غير حالة الرفت لبلوغ السن القانونية. أو للعجز الجسمانى عن العمل. أو بمقتضى حكم تأديبى أو لانتهاء المدة المحدّدة في عقد الاستخدام. يعطى الموظف المرفوت تعويض إضافى بمقدار شهر عن كل سنة قضاها في الخدمة، ويمنح هذا التعويض أيضا لكل موظف يترك باختياره خدمة الحكومة المصرية في ظرف سنة من تاريخ العمل بهذه المعاهدة.

(المادة الرابعة)

تخفيفا لمضار الامتيازات الأجنبية إلى حين إلغائها تقبل مصر أن الحقوق التى تستعملها الدول الآن بمقتضى هذه الامتيازات يكون لبريطانيا العظمى استعمالها باسمها بالكيفية الآتية:

(1) الزيادات والتعديلات التى يراد إدخالها على لائحة ترتيب المحاكم المختلطة لا تحصل إلا بموافقة بريطانيا العظمى.

(2) كافة القوانين الأخرى التي لا تنفذ الآن في حق الأجانب أصحاب الامتيازات إلا بموافقة الدول، أو بقرار بالموافقة صادر من الهيئة التشريعية لمحكمة الاستئناف المختلطة، أو من الجمعية العمومية بهذه المحكمة. تصير نافذة عليهم بمقتضى دكريتو يصدر وينشر لهذا الغرض ما لم تحصل معارضة من بريطانيا العظمى تبلغ لوزير الخارجية المصري في ظرف (....) من تاريخ النشر بالجريدة الرسمية. ولا تصح هذه المعارضة إلا إذا كان مبناها أن القانون يشمل أحكاما لا نظير لها في شريعة من شرائع الدول ذوات الامتيازات أو- إن كان قانونا ماليا- أن الضريبة التي يأمر بها لا مساواة في المعاملة بشأنها بين المصريين والأجانب، وفى حالة حصول خلاف بين الحكومتين في صحة مبنى هذه المعارضة فلمصر رفع الأمر إلى عصبة الأمم لتفصل فيه.

(المادة الخامسة)

في حالة إلغاء المحاكم القنصلية وإحالة محاكمة الأجانب على ما يقع منهم من الجنايات والجنح إلى المحاكم المختلطة تقبل مصر أن تعين أحد رجال القانون من التبعية الإنجليزية في وظيفة النائب العمومي لدى المحاكم المختلطة.

(المادة السادسة)

تقرر الحكومة البريطانية أنها مستعدة للنظر بالاشتراك مع الحكومة المصرية بعد مضي خمس عشرة سنة في مسألة إزالة المساس الحاصل بسيادة مصر على سكان بلادها بسبب ما للأجانب من الامتياز في التشريع والقضاء. وتحتفظ مصر لنفسها بالحق في رفع هذه المسألة، إن اقتضى الحال، إلى عصبة الأمم بعد الميعاد المذكور.

(المادة السابعة)

في حالة إلغاء قومسيون صندوق الدين العمومي، فإن مصر تعين موظفا ساميا تختاره بريطانيا العظمى يكون له ما للقومسيون المذكور الآن من الاختصاصات ويكون تحت تصرف الحكومة المصرية في كافة ما ترغب تكليفه به من الاستشارات والمهمات المالية.

(المادة الثامنة)

لبريطانيا العظمى- إن رأت لزوما - أن تنشئ على مصاريفها بالشاطئ الآسيوي لقنال السويس نقطة عسكرية للمساعدة على صد ما عساه يحصل من الهجمات الأجنبية على هذا القنال.

تحديد منطقة هذه النقطة يحصل بعد معرفة لجنة مكوّنة من خبراء عسكريين من الطرفين بعدد متساو.

ومن المتفق عليه أن إنشاء هذه النقطة لا يعطي لبريطانيا العظمى أي حق في التدخل في أمور مصر. ولا يخل أدنى إخلال بما لمصر من حقوق السيادة على تلك المنطقة التي تبقى خاضعة لسلطة مصر ومنفذة فيها قوانينها. كما لا يمس بالسلطة المخوّلة لمصر باتفاقية القسطنطينية المحررة في أكتوبر سنة 1888 الخاصة بحرية الملاحة في قنال السويس.

وبعد مضى عشر سنين من تاريخ العمل بهذه المعاهدة يبحث المتعاقدان الأمر لمعرفة ما إذا كان استبقاء هذه النقطة لم يعد له لزوم، وما إذا لم يكن ممكنا أن يترك لمصر وحدها العناية بالمحافظة على القنال. وفى حالة الخلاف يرفع الأمر إلى عصبة الأمم.

(المادة التاسعة)

في حالة ما ترى مصر التي لها حق التمثيل السياسي ألا تعين نائبا مصريا عنها لدى أي بلد من البلاد يعهد بالمصالح المصرية في هذا البلد إلى نائب بريطانيا العظمى، وهو يتولى الدفاع عن تلك المصالح وفق آراء وزير الخارجية المصري.

(المادة العاشرة)

يوافق الطرفان بمقتضى هذا على عقد محالفة دفاعية بينهما للأغراض الآتية:

(1) تتعهد بريطانيا العظمى بالاشتراك في الدفاع عن الأراضي المصرية ضد كل تعدّ يحصل من جانب أي دولة من الدول.

(2) عند حصول تعدّ على المملكة البريطانية من جانب أي دولة أوربية. ولو لم تكن سلامة القطر المصري ذاته في خطر مباشر، فإن مصر تتعهد بأن تقوم داخل حدود بلادها لبريطانيا العظمى بجميع ما تحتاجه حربيا من تسهيل سبل المواصلات وأعمال النقل. وشروط أداء هذه المعونة تتحدد بعد باتفاق خاص.

(المادة الحادية عشرة)

تتعهد مصر، فوق ذلك، بألا تعقد أية محالفة مع أية دولة أخرى بدون الاتفاق مقدما مع بريطانيا العظمى.

(المادة الثانية عشرة)

هذه المحالفة معقودة لمدة ثلاثين سنة في نهايتها يمكن للطرفين أن ينظرا في أمر تجديدها.

(المادة الثالثة عشرة)

مسألة السودان تكون موضوع اتفاق خاص.

(المادة الرابعة عشرة)

كل ما كان مخالفا لهذه الشروط من الأحكام المتعلقة بمصر الواردة بكافة المعاهدات الأخرى يكون ملغى ولا عمل له.

(المادة الخامسة عشرة)

تودع هذه المعاهدة بسكرتيرية جمعية الأمم لتسجل بها وتقرر بريطانيا العظمى أنها عن نفسها قابلة من الآن دخول مصر بهذه الجمعية بصفتها دولة حرة مستقلة.

(المادة السادسة عشرة)

يعمل بهذه المعاهدة لمجرد تبادل التصديق عليها من المتعاقدين ويحصل التصديق فيما يتعلق بمصر بناء على قرار بالاعتماد صادر من الجمعية الوطنية التي تدعى لتقرير الدستور المصري الجديد.


المصادر