بيان عن مفاوضات صيف 1929 التي أدت إلى مشروع المعاهدة الإنجليزية المصرية (محمد محمود ـ هندرسن)

بيان عن مفاوضات صيف 1929 التي أدت إلى مشروع المعاهدة الإنجليزية المصرية (محمد محمود ـ هندرسن)، منشور من "وزارة الخارجية المصرية، القضية المصرية 1882 - 1954، المطبعة الأميرية بالقاهرة 1955، ص 297 - 301".

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

المنشور

أبحرت من الإسكندرية في الثالث عشر من شهر يونية قاصدا إنجلترا لحضور الحفلة التى رسمتها جامعة أكسفورد لتقليدى لقب دكتور في القانون المدنى، وكنت قد أزمعت على أى حال زيارة تلك البلاد في صيف هذا العام لاستئناف الحديث في أمور كنا قد بدأناها منذ الشتاء، واستفتاحه في أمور أخرى كنت أرى أن آن الأوان لتحريكها وتقديمها خطوات محسوسة .

أما الأحاديث التى كنت أريد استئنافها فهى الخاصة بالامتيازات. وقد يذكر أن الحكومة المصرية كانت دعت إلى عقد مؤتمر ينظر في بعض تعديلات قضى التطور والعمل على تحقيق مظاهر السيادة الداخلية بإدخالها في لائحة ترتيب المحاكم المختلطة وأخصها توسيع اختصاص هذه المحاكم توسيعا جزئيا ليشمل بعض الجنايات والجنح التى كثرت الشكوى من بقائها خاضعة للقضاء القنصلى أو مست الحاجة لإدخالها في سلطان القضاء المحلى. وقد سكتت المفاوضات بشأن هذا المؤتمر زمنا، فلما وليت وزارتى الحكم أعادت تذكير الدول بهذه المسألة. ولم يمض زمن طويل حتى وردت أجوبة معظم الدول متضمنة ملاحظاتها. ولما كان أهم تلك الملاحظات متعلقا بإعادة النظر في نظم التحقيق الجنائية ونظام السجون والنيابة العمومية، كان من الطبيعى أن ينتقل الموضوع من نقل بعض الاختصاص الجنائى للمحاكم القنصلية إلى نقله كله. ذلك أن البحث في هذه النظم لا يقتصر أثره على بعض الجنايات والجنح دون البعض الآخر. والواقع أن تعديلها على وجه يحدث الاطمئنان لكفاية القضاء المختلط يسقط كل اعتراض على تعميم الاختصاص الجنائى لذلك القضاء بحيث يشمل الجنايات والجنح جميعا.

وكانت أعمال اللجنة التى شكلت للبحث في تعديل النظم المذكورة قد تقدمت قبيل سفرى شوطا بعيدا، وكان ما يقدر لها من التوفيق في الوصول إلى نتائج مرضية بحيث يبعث في النفس ثقة بإمكان نقل مسألة توسيع الاختصاص من طور التوسيع الجزئى إلى طور التوسيع الكامل من الوجهة الفنية أو القانونية، فلم يبق إلا العمل على تحقيق هذه الغاية من الوجهة السياسية. وهو ما كنت أبغى الوصول إليه بمحادثاتى مع وزارة الخارجية البريطانية.

كذلك جرت أحاديث بيننا و بين وزارة الخارجية البريطانية في أمر الضرائب التى تنوى الحكومة المصرية فرضها على الأجانب. ومع شديد حرص الوزارة على أن تجعل الحديث في هذا الشأن حديثا في مبدأ سلطة الحكومة المصرية وحقها، غير منازعة ولا مدافعة، في إخضاع الأجانب لكل ما يفرض على أهل البلاد من الضرائب، فقد قضت ضرورات المفاوضة بالبحث في ضرائب معينة مع الاحتفاظ بمسألة المبدأ. وكان لمعالى وزير الخارجية في هذا الصدد مجهودات مباركة أثناء زيارته لوندره في شهر أبريل سنة 1929 جعلتنى عظيم التفاؤل بحسن النتيجة. وقد كان من أغراض زيارتى تأييد مجهودات زميلى، وتأكيد آثارها. إذ كنا بإزاء حكومة لم تشترك في الأحاديث السابقة.

أما الشؤون التى كنت أقصد إلى فتح الحديث فيها لأول مرة فهى اثنان: دخول مصر في عصبة الأمم، والسودان.

وقد كان دخول مصر في عصبة الأمم من أولى المسائل في برنامج الوزارات التى تعاقبت منذ أعلن استقلال البلاد. غير أن عمل بعضها في هذا السبيل لم يزد على مجرد الذكر في خطاب العرش.

وفى وقت من الأوقات. أريد جس نبض دار المندوب السامى لتعرف الطريق التى تلغى بها الحكومة البريطانية مثل ذلك الطلب إذا تقدم من مصر. فكان الجواب على ذلك أن الحكومة البريطانية لا يسعها إلا أن تكرر لمصر ما سبق لها إعلانه إلى سكرتارية عصبة الأمم عندما أبلغت في سنة 1924 بعض الدول، ومن بينها مصر، الاتفاق الدولى الخاص بتسوية المشاكل الدولية للانضمام إليه. وقد كان هذا الإعلان شبه تحذير حتى لا تعتبر المسائل المعلقة التى احتفظ بها تصريح 28 فبراير سنة 1922 من المسائل التى يجوز أن تعالج أو أن تسوى بالطريقة التى قررها الاتفاق الدولى المذكور.

ولقد يظهر أن مسألة دخول مصر في العصبة لم تتقدم بعد ذلك كثيرا. على أنى كنت أرى أن من مصلحة مصر أن ندفع بها إلى قدر من التحقيق العملى. وإن لم تنل مصر كل ما تطلبه في هذا السبيل.

كذلك كنت أرى أن الوقت قد آن، خصوصا بعد أن وضع الاتفاق الخاص بالنيل، لأن يعاد النظر فيما بقى من آثار الإنذار البريطانى متعلقا بالسودان للرجوع فيها إلى ما كان عليه الحال قبل سنة 1924

تلك كانت أغراضى من زيارة لوندره ومقابلة رجال السياسة البريطانيين، فهى لا تمتد إلى تسوية عامة للمسألة المصرية. ولكنها ترمى على أساس تجزئة المسائل المصرية، إلى تسوية ما كان مرتبطا منها بتنفيذ سياسة الوزارة وبرنامجها الإصلاحى من جانب، وإلى العمل من جانب آخر في حدود الحالة القائمة على استعادة ما خسرته مصر في أمر السودان، وعلى المشاركة الجدية في الحياة الدولية.

لم يقف بى عند هذه الأغراض، ولم يحل دون تعديها إلى تسوية المسألة المصرية برمتها. ضعف رغبة في الوصول إلى تلك التسوية، أو شك في فضل التسوية العامة على التسويات الجزئية، أو تردد، أو تهيب لتلك العقدة التى أعيى حلها كبار رجال مصر وبريطانيا، إذ كنت أعتقد أن صعوبات الحل ليست جوهرية، وإنما هى نسبية ترجع إلى الظروف التى قامت فيها المحاولات المختلفة لالتماس ذلك الحل، وأن الظروف قد تواتى في أى وقت. فيسهل ما كان صعبا. ويعود ميسورا ما ظهر في حين من الأحيان عسيرا.

وإنما حبب لى الاجتزاء بهذه الأغراض أنها كانت تتصل في أسبابها ومقدماتها بالسياسة التى انتهجتها للوزارة منذ عام. وكان لى بحق أن أعتقد أن تلك السياسة - بما نشرته في صفوف السكان من الاطمئنان والسكينة، وأعادته للحكومة من أسباب الثقة والهيبة. وما كشف عنه من آفاق جديدة في تطور مصر ورقيها - توجب علي أن أعمل في رفق وأناة على مواصلة السير فيها لأبلغ بها غايتها وأصل بها إلى أقصى مداها وأبعد نتائجها. كذلك كان لى أن أعتقد أن نجاح تلك السياسة يسهل علي مهمتى تسهيلا كبيرا.

وقف بى أيضا عند حد هذه الأغراض المعينة أن الحكم في بريطانيا انتقل منذ أوائل شهر يونيو من أيدى المحافظين إلى أيدى حزب العمال. وأنى قدرت أن الحكومة الجديدة نظرا لضرورة اعتمادها على معونة أحد الحزبين الآخرين قد تتحرج من أن تجعل المسألة المصرية من أولى ما تعالج من المسائل. وأن تستن فيها طريقا يختلف عما استنه الحزبان الآخران في ماضى حكمهما.

اتصلت إذن بذوى الشأن في هذه المسائل، وبذلت في تذليل صعوباتها وتأكيد نجاح مساعي فيها كل ما استطعت من إقناع وقوة، ولكنى شعرت بأن الخطوات التى أتقدمها في هذا السبيل دون الجهد الذى أبذله والغاية التى أترسمها بالنجاح الذى يحقق لى بقوة مركز الحكومة المصرية في تلك المسائل المختلفة أن أطمع فيه. ولم ألبث أن تبينت أن مجهوداتى تكون أكثر إنتاجا وأعظم توفيقا لو عالجت المسألة المصرية بالجملة لا بالتفاريق.

وليس من شك في أنه إذا تحققت الثقة بأن سيسود علاقات ما بين البلدين جو من الوئام والصفاء وأن سينفتح لهما عهد جديد يقوم على الصداقة وحسن التفاهم. يكون كل من الجانبين أكثر استعدادا للتساهل في المسائل الثانوية والتفاصيل. مما يعوق في أغلب الأحيان الوصول إلى تفاهم صحيح.

سئلت إذن عما إذا كنت أشاطر الرغبة والاستعداد لمعالجة المسألة برمتها فكان جوابى بطبيعة الحال إيجابا. فطلب إلى أن أحدد ما تريده الأمة المصرية لينظر فيما إذا كان من الممكن أن يتسع له صدر الحكومة البريطانية، وألفت نظرى إلى أن المشروع الذى تمخضت عنه المفاوضات بين المغفور له ثروت باشا وبين السير أوستن تشمبرلن في سنة 1927 اعتبر أقصى ما ترضاه الحكومة البريطانية وإلى أنه لا مندوحة من اتخاذه أساسا للحديث؛ إذ كان ثمرة أبحاث مستفيضة وجهود صادقة من الجانبين في سبيل تقريب وجهتى النظر المصرية والبريطانية، على أن أبين ما آخذه عليه وننظر معا فيما إذا كان ثمت سبيل لتحقيق الاتفاق بين البلدين.

ذهبت إذن أصور ما تريده الأمة المصرية وما تفهمه من استقلال لا يختلط بالحماية أو بالوصاية. أو أى وجه من وجوه التبعية. وأتعقب ما في مشروع سنة 1927 من قصور عن تحقيق تلك الغاية. وقد أستطيع أن أجمل تلك الملاحظات - إن كانت مما يجوز فيه الإجمال - بأن المشروع يترك احتلال البلاد قائما. وأنه لا يمكن في يقين الناس أن يستقيم للاستقلال معنى أو تتسق له صورة إلا إذا اقترن بزوال الاحتلال، وأن المشروع بوصف أنه محالفة لا يحقق على وجه كامل تكافؤ ما يجب أن يكون بين البلدين من الحقوق والتكاليف.

طلبت إذن فيما طلبت أن تستعيد الحكومة المصرية حريتها بالنسبة للأجانب فلا يشاركها أحد في هذا الشأن باسم حماية الأجانب والمسئولية عن أرواحهم وأموالهم. وأن تعدل الامتيازات بما يتفق مع روح العصر وحالة مصر الحاضرة وأن تلغى الإدارة الأوروبية، وأن تكون سيادة البلاد داخلية أو خارجية في جملتها وتفصيلها مطلقة من كل قيد فتزول سلطة الضباط البريطانيين في الجيش، ولا يبقى المستشاران إلا بمقدار حاجة الحكومة المصرية إلى مشورتهما فيما تعتزمه من مشروعات الإصلاح الواسعة النطاق ويكون لها وحدها حق تقدير هذه الحاجة. ويراعى في اختيارهما وتعيينهما أنهما موظفان مصريان.

أما السودان فقد طلبت أن تحترم وتنفذ اتفاقات سنة 1899 بشأنه مؤقتا. وعلى ذلك يعود إليه قسم من الجيش المصرى كما كان الحال قبل سنة 1924. ويجب أن تنقطع التدابير والإجراءات التى ترمى إلى التضييق على المصريين فيكون شأنهم في حرياتهم ومصالحهم في السودان شأن الرعايا البريطانيين. وقرنت هذه التسوية الوقتية بالاحتفاظ بحرية الحكومة في المفاوضات في مسألته في الوقت الذى تراه ملائما.

بعد مناقشات طويلة وعسيرة في هذه المسائل وفى تأمين المواصلات الإمبراطورية وتنظيم المحالفة بين البلدين، اتفق على أن تعد وزارة الخارجية مشروعا يضمن جملة ما اتفقنا عليه في هذه الشئون جميعا. وكان الرأى عندى أن تضمن المعاهدة الأحكام الكلية للتسوية الجديدة وأن يترك البيان والتفصيل لكتب تتبادل بين المفوضين. تصدر تارة عن الجانب المصرى. وطورا عن الجانب البريطانى بحسب ما تقتضيه طبيعة الكتاب.

ولقد حرصت كل الحرص على أن تظل المفاوضات مأمونة العواقب إذا لم تتكشف عن نجاح أو اتفاق. فاشترطت ألا يمس مصر أذى أو تضييق إذا تبين لى أن المحادثات لم تثمر اتفاقا مرضيا فرفضته. أو إذا رضيت الاتفاق وعرضته على البلاد فرفضته أو لم تقره.

سلمتنى وزارة الخارجية في 5 يوليه سنة 1929 المشروع الذى وضعته بناء على محادثاتنا، وهذا المشروع ملحق بهذا البيان ومشار إليه بمشروع (أ)، فتوفرت مع سعادة عبد الحميد بدوى باشا على دراسته لنتبين مطابقة المشروع المكتوب للاتفاق الشفوى، ولنرى ما إذا كانت الأمانى القومية حققت فيه على وجه مرض. وبدأت بعد ذلك أحاديث جديدة على أساس النص المكتوب انتهت إلى المشروع المعدل. وهو ملحق بهذا البيان ومشار إليه بمشروع (ب) والمقابلة بين النصين تدل بذاتها على وجوه التعديل وما اتخذ من وسائل التدليل على صحته. على أنى لا أرى بأسا من بيان ذلك على وجه الإجمال.


المصادر