شارل الخامس، الامبراطور الروماني المقدس

(تم التحويل من Charles V, Holy Roman Emperor)
الإمبراطور شارل الخامس
Emperor Charles V
امبراطور روماني مقدس، ملك أراگون، ملك قشتالة وليون، أرشدوق النمسا، (حامل ألقاب) دوق بورگندي، حاكم الأقاليم السبعة عشر لهولندا هابسبورگ
Anthony van Dyck- Portrait of Charles V on Horseback.JPG
العهدامبراطور روماني مقدس
ملك أراگون وقشتالة
دوق برگندي
دوق برابنت
كونت فلاندرز
دوق لوكسمبورگ
لورد البلاد الواطئة
دوق ميلانو
تتويج1516
سبقهJoanna of Castile (Castile)
Ferdinand II (Aragon)
Maximilian I (Holy Roman Empire, Austrian patrimony)
Philip the Handsome (Burgundian Netherlands)
فيليپ الثاني من إسپانيا (Spain and the Burgundian Netherlands)
فرديناند الأول (Holy Roman Empire, Austrian patrimony)
المدفن
الأنجالفيليپ الثاني من إسپانيا
ماريا من اسبانيا
جوان من إسپانيا
جون من النمسا (غير شرعي)
البيتبيت هابسبورگ
الأبفيليپ الوسيم
الأمخوانا من قشتالة
الديانةرومان كاثوليك

شارل الخامس (1500 - 1558) ، بالإنجليزية Charles V ، كان حاكم الامبراطورية الرومانية المقدسة من 1519 وللممالك الاسبانية [1516] حتى تنازله في 1556. قام بتوحيد عدة ممالك من ضمنها الإمبراطورية الرومانية المقدسة إسبانيا ناپولي و صقلية وهولندا البورگونية إضافة لمسعمرات إسبانيا في أمريكا.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

النشأة

هو ابن فيليب الأول وخوانا ملكة قشتالة. جداه من ناحية الأب هما الإمبراطور ماكسيمليان الأول وماري دوقة بورگونيا، وقد أبرزته العمة مارگريت هابسبورگ. وجداه من ناحية الأم هم فرناندو الثاني من أراگون وإيزابلا الأولى ملكة قشتالة، اللذان وحد زواجهما أراضيهما وهي إسبانيا الحالية، ابنتهما كاترين من أراگون كانت ملكة إنگلترة والزوجة الأولى لهنري الثامن. وكانت بنت عمه ماري الأولى من إنجلترا التي تزوجت ابنه فيليب.

Plus Oultre, Charles' personal motto on the gable of a Flemish house in Ghent, Charles V's birthplace.


ولد شارل في ڤانسان Vincennes. وأصبح وصياً على عرش فرنسا بعد استسلام والده جان الثاني إلى الإنكليز في بواتييه في عام 1356.

بدأ التدرب على الحكم في ظل ظروف شديدة الصعوبة، فقد كان عليه أن يواجه ثورة مجلس الطبقات بقيادة اتيين مارسيـل، وغزو الإنكليـز لبلاده، وذلك في أثناء حرب المائة عام (1337-1453). وإذا كان قد نجح في القضاء على تلك الثورة وقمع ثورة الفلاحين، فإنه أرغم على توقيع معاهدة سلام بريتيني Brétigny مع إنكلترا في عام 1360، التي أصبح الإنكليز بموجبها يسيطرون على ثلث فرنسا.

وفي عام 1364، توج شارل ملكاً على فرنسا باسم شارل الخامس، ولكي يتجنَّب الاعتماد على النبلاء المشكوك في ولائهم، اعتمد الملك شارل على عدد من المستشارين والإداريين من رجال القانون المهرة مثل: جان وغيوم دي دورمان، وبييردي اورجمون، والخبير في الأمور المالية نقولا أوريسم Oresme، وأحاط نفسه بعدد من قادة الحرب البارعين مثل برتران دوگيكلان B.du Guesclin وبفضل دوگيكلان أنهى شارل الصراع مع ملك نافاره Navarre شارل السييء le Mauvais ت(1364) الذي فكر بالاستيلاء على عرش فرنسا، وخلَّص المملكة من الفرق العسكرية الضخمة من المرتزقة غير الجديرة بالثقة (1367).

تجاهل شارل حق مجلس الطبقات في ممارسة الرقابة على ما يخصص للملك من منح سرية، وهيأ للتاج دخلاً ثابتاً ومنتظماً من الضرائب على المزادات العلنية والعقارات. وأعاد تنظيم الجيش الملكي (1374)، فأصبح يتكون من فرق نظامية تحت إمرة ضباط ملكيين، ويتقاضى أفراده رواتبهم بانتظام، فضمن بذلك ولاء الجيش وإخلاصه له.

بعد أن أكمل شارل إصلاحاته الداخلية، وعين دوگيكلان قائداً عسكرياً عاماً لفرنسا، استأنف الحرب على إنكلترا في عام 1369. ولدى وفاته في نوجان سور مارن Nogent-sur-Marne عام 1380، لم يعد الإنكليز يسيطرون إلا على بعض المدن الساحلية المحصَّنة (ولاسيما بوردو وكاليه).

كان الملك شارل الخامس محباً للآداب والفنون وراعياً لها، فقد أسَّس المكتبة الملكية، وجدَّد بناء اللوفر، وشيَّد قلعة الباستيل (التي صارت فيما بعد سجناً)، وفرض ضرائب دائمة، وأعاد للنقد عافيته. وعندما حصل الانشقاق عن الكنيسة الرومانية، وقف الملك شارل إلى جانب البابا كليمان السابع.


الزواج والأبناء

في 10 مارس 1526 تزوج شارل الأول من إبنة عمه إيزابيلا أخت جون الثالث ملك البرتغال. وأنجب منها فيليپ الثاني، وماريا وجون.

Habsburg possessions in 1547.

شارل المنتصر 1527-1530

فشا الطاعون في روما عام 1522 ونقص عدد سكانها إلى 55.000، وما من شك في أن حوادث القتل، والانتحار، والهرب في أثناء الحرب قد أنقصتهم أيضاً إلى أقل من 40.000 في عام 1527. وفي شهر يوليه من هذا العام الأخير جاء الطاعون مرة أخرى في أشد شهور العام قيضاً، وانضم إلى القحط والجحافل المخربة فأصبحت روما مدينة الرعب، والفزع، والخراب. وامتلأت الكنائس والشوارع مرة أخرى بجثث الموتى، ترك الكثير منها يتعفن في الشمس، وكانت الروائح الكريهة المنبعثة من الرمم والأقذار قوية إلى حد لم يطقه السجانون والمسجونون ففروا من أسوار القلعة إلى حجراتهم، وحتى في داخل الحصن مات الكثيرون من الوباء، وكان من بينهم خدم البابا. ولم يفرق الطاعون بين الأهلين والغزاة. فمات من الالمان 2500 في روما في 22 يوليه سنة 1527، وأهلك الزهري، والملاريا، وسوء التغذية نصف عدد الجيش.

وشرع أعداء شارل يفكرون جدياً في إنقاذ البابا. وكان هنري الثامن يخشى ألا يمنحه الحبر السجين إذناً بتطليق كاترين الأرگونية، فأرسل الكاردينال ولزي إلى فرنسا ليفاوض فرانسس في الوسائل التي تتبع لإطلاق سراح كلمنت، وفي أوائل شهر أغسطس عرض الملكان على شارل الصلح و 2.000.000 دوقة على شرط أن يطلق سراح البابا والأمراء الفرنسيين، وأن ترد الولايات البابوية إلى الكنيسة. فلما رفض شارل هذا العرض، عقد فرانسس وهنري معاهدة أمين (18 أغسطس) التي تعهدا فيها بمحاربة شارل، وما لبثت البندقية وفلورنس أن انضمتا إلى الحلف الجديد، واستولت القوات الفرنسية على جنوى وبافيا ونهبت المدينة الثانية نهباً يكاد يكون تاماً، ولا يقل عما أوقعه الجيش الإمبراطوري بروما، وخشيت مانتوا وفيرارا الفرنسيين القريبين منهما أكثر مما كانتا تخشيان البعيد عنهما، فانضمتا أيضاً إلى الحلف؛ غير أن القائد الفرنسي لوترك Lautrec عجز عن دفع رواتب جنده ولم يجرؤ على الزحف بهم على روما.

وأمل شارل في أن يسترد مكانته في العالم المسيحي الكاثوليكي، وأن يهدئ من تحمس الحلف المطرد الزيادة، فوافق على إطلاق سراح البابا مشترطاً ألا يقدم كلمنت أية مساعدة إلى الحلف، وأن يدفع من فوره إلى الجيش الإمبراطوري في روما 112.000 دوقة، وأن يقدم الرهائن ضماناً لحسن سلوكه. وجمع كلمنت المال اللازم، ببيع مناصب الكرادلة. ومنح الإمبراطور عشر أيراد الكنيسة في مملكة نابلي، وفي السابع من ديسمبر، غادر كلمنت سانت أنجيلو بعد أن قضى في السجن سبعة أشهر وتخفى في زي خادم، واتخذ سبيله وهو ذليل خارج روما إلى أرفينو، لا يشك من يراه في أنه رجل محطم.

وفي اوربينو أسكن قصراً مخرباً خر سقفه، وتعرت جدرانه وتشققت، تصفر الريح في جوانبه. ولما قدم عليه السفراء الإنجليز ليحصلوا لهنري على طلاق زوجته، وجدوه مكوماً في الفراش، وقد اختفى نصف وجهه الممتقع الضامر تحت لحية طويلة خشنة. وفي هذا القصر قضى البابا الشتاء، ثم نقل بعده إلى فيتيربو. وفي السابع عشر من يناير جلا الجيش الإمبراطوري عن روما بعد أن حصل من شارل على كل ما يستطيع الحصول عليه منه، لأنه كان يخشى فتك الطاعون، واتخذ هذا الجيش سبيله جنوباً إلى نابلي. وزحف لوترك وقتئذ بجيشه جنوباً، مؤملاً أن يحاصر نابلي. ولكن الملاريا كانت قد أهلكت عدداً كبيراً من رجاله، وقضى هو نحبه، وتقهقرت جيوشه المختلة النظام نحو الشمال (29 أغسطس سنة 1528). وفقد كلمنت كل أمل في معونة الحلف، فعرض على شارل أن يستسلم له استسلاماً تاماً، وفي السادس من شهر أكتوبر سمح له بالعودة إلى روما. وروعه أن رأى أربعة أخماس بيوتها قد هجرها أصحابها، وآلاف المباني قد تخربت؛ وذهل الناس إذ رأوا ما أحدثه الغزو الذي دام سبعة أشهر في عاصمة العالم المسيحي.

ويبدو أن شارل فكر في وقت ما في خلع كلمنت، وضم الولايات البابوية إلى مملكة نابلي، واتخاذ روما عاصمة لإمبراطوريته، وأنزل البابا منزلته الأساسية وهي أن يكون اسقف روما وخاضعاً للإمبراطور(47). ولكن هذا إذا حدث كان من شأنه أن يدفع شارل إلى أحضان اللوثرين في ألمانيا؛ ويوقد نار الحرب الأهلية في أسبانيا، ويثير فرنسا، وإنجلترا، وبولندا، والمجر لمقاومته بجميع قواها المتحدة. ولهذا تخلى عن ذلك المشروع، واتجه إلى جعل البابوية حليفته التي تعتمد عليه، وعونه الروحي في تقسيم إيطاليا بينهما. ولهذا عقد مع البابا معاهدة برشلونة (29 يونيه سنة 1529) التي نزل فيها البابا عن أشياء كثيرة هامة: منها أن يرد للكنيسة الإمارات التي انتزعت منها، وأن يعيد بالسياسة أو بالقوة أقارب البابا الميديتشيين في فلورنس، وحتى فيرارا نفسها وعد أن يعيدها إلى البابا. ووافق البابا في نظير هذا على أن يمنح شارل مُلك نابلي بصفة رسمية، وأن يجيز للجيوش البابوية حرية المرور في الولايات البابوية، وأن يلتقي بالإمبراطور في بولونيا في العام التالي ليثبتا قواعد الصلح وينظما إيطاليا.

وبعد قليل من ذلك الوقت التقت مرجريت عمة شارل ونائبته في حكم الأراضي الوطيئة بلويزة أميرة سافوى، وأم فرانسس. واستعانتا بعدد من السفراء والمندوبين، ووضعتا صيغة معاهدة كامپراي (3 أغسطس سنة 1529) بين الإمبراطور والملك. وبمقتضى هذه المعاهدة أطلق شارل الأمراء الفرنسيين نظير فدية مقدارها 1.200.000 دوقة؛ وتخلى فرانسس باسم فرنسا عن جميع مطالبه في إيطاليا، وفلاندرز، وآرتوا، وأراس، وتورناي(48). وبهذا ترك حلفاء فرنسا في إيطاليا تحت رحمة الإمبراطور.

ثم التقى شارل وكلمنت في بولونيا في الخامس من نوفمبر سنة 1529، وكان كلاهما الآن مقتنعاً بأنه في حاجة إلى الآخر. ومن أغرب الأشياء أن هذه كانت أول زيارة لإيطاليا يقوم بها شارل؛ ذلك أنه فتح تلك البلاد قبل أن يراها. ولما ركع أمام البابا في بولونيا، وقبل قدم الرجل الذي مرغه في الثرى، كان ركوعه هذا هو المرة الأولى التي أبصر فيها كلا الرجلين صاحبه- الرجل الذي يمثل الكنيسة في عهد اضمحلالها ، والرجل الذي يمثل الدولة الحديثة الناشئة المنتصرة- وفارق كلمنت جميع كبريائه، وغفر جميع ما لحقه من إساءات؛ ولم يكن من ذلك بد؛ فلم يكن في وسعه آنئذ أن يتطلع إلى عون فرنسا؛ وكان لشارل جيش لا يقاوم في جنوبي إيطاليا وشماليها، ولم يكن يستطيع إعادة فلورنس لآل مديتشي دون مساعدة الجيوش الإمبراطورية؛ وكان في حاجة إلى مساعدة الإمبراطور ضد لوثر في ألمانيا، وضد سليمان القانوني في الشرق. ووقف شارل وقتئذ وقفة الرجل الكريم الحصيف: فقد استمسك بجوهر شروط اتفاق برشلونة الذي عقده حين لم تكن له هذه القوة التي لا تقاوم، فأرغم البندقية على أن تعيد كل ما استولت عليه من أملاك الولايات البابوية؛ وسمح لفرانشيسكو ماريا اسفوردسا أن يحتفظ بميلان المخربة تحت رقابة الإمبراطور إذا أدى نظير ذلك غرامة حربية كبيرة؛ وأقنع كلمنت بأن يسمح لفرانتشيسكو ماريا دلا روفيري الجبان أو الغادر بأن يحتفظ بأربينو. وغفر لألفنسو انضمامه القريب العهد إلى فرنسا، وكافأه على ما قدم من معونة أثناء الزحف على روما بأن سمح له بالاحتفاظ بدوقيته على أن تكون إقطاعية بابوية، وأعطاه مودينا ورجيو إقطاعيتين من قبل الإمبراطورية؛ وأدى ألفنسو للبابا في نظير ذلك مائة ألف دوقة كان البابا في أشد الحاجة إليها. وأراد شارل أن يوطد دعائم هذه التسويات كلها فدعا جميع الإمارات إلى الانضمام إلى اتحاد من جميع أجزاء إيطاليا للدفاع المشترك عنها ضد الهجوم الخارجي- ماعدا هجوم شارل نفسه- وهي الوحدة التي سعى إليها دانتي عند الإمبراطور هنري السابع، وبترارك عند الإمبراطور شارل الرابع؛ وها هي ذي الآن تتحقق بالخضوع المشترك إلى دولة أجنبية. وبارك كلمنت هذا الاتفاق كله، وتوج شارل إمبراطوراً بأن وضع على رأسه تاج لمباردي الحديدي، وتاج الإمبراطورية الرومانية المقدسة الإمبراطوري البابوي (22-24 فبراير سنة 1530).

وسجل حلف البابا والإمبراطور بدماء فلورنس. وتفصيل ذلك أن كلمنت اعتزم أن يعيد إلى أسرته ما كان لها من سلطان فدفع 70.000 دوقة إلى فليبرت أمير أورانج (الذي أبقاه سجيناً)، لينشئ بها جيشاً يجتاح به جمهورية الأثرياء التي أقيمت هناك في عام 1527. وسير فليبرت للقيام بهذه المهمة عشرين ألفاً من الجنود الألمان والأسبانيين، الذين اشترك الكثيرون منهم في نهب روما(49). واحتلت هذه القوة بستويا وبراتو Prato في شهر ديسمبر سنة 1529 وضربت الحصار على فلورنس. وأراد أهل المدينة البواسل أن يعرضوا المهاجمين لنيران المدفعية الفلورنسية، فدمروا كل بيت، وحديقة، وجدار، في مسافة تمتد ميلا كاملا حول حصون المدينة؛ وترك ميكل أنجيلو أعمال الحفر التي كان يقوم بها في قبور آل ميديتشي ليبني الحصون والأسوار أو يعيد بناء ما كان قد تهدم منها. ودام الحصار سبعة أشهر قاست فيها لمدينة الأهوال، فقد شح فيها الطعام حتى بيع الفأر أو القط بما يعادل اثني عشر دولاراً ونصف دولار(50). وسلمت الكنائس آنيتها، وسلم الأهلون صحافهم، وتبرعت النساء بحليهن، كي تحول كلها إلى نقود لابتياع المؤن أو الأسلحة. وأخذ الرهبان الملتهبون وطنية أمثال الراهب بنيديتو دا فويانا Benedetto Da Foiana يرفعون روح الأهلين المعنوية بعظاتهم الدينية. وفر رجل شجاع من أهل المدينة يدعى فرانچسكو فروتشيو Francesco Ferruccio إلى خارجها، ونظم قوة قوامها ثلاثة آلاف رجل هاجم بهم المحاصرين لكنه هزم وخسر من جنوده ألفي رجل، وأسر هو نفسه، وجيء به أمام فابريزيو مارمالادو Fabrizio Maramaldo وهو قائد من أهل كلابريا كان على رأس الخيالة في جيش الإمبراطور. وأمر مارمالادو أن يؤتى بفروتشيو Ferruccio مقبوضاً عليه أمامه، وأخذ يدفع الخنجر في صدره حتى فارق الحياة(51). وأخذ القائد الذي استأجرته فلورنس ليتولى قيادة المدافعين عنها، وهو مالاتستا بجليوتي، يتفاوض لعقد اتفاق غادر مع المحاصرين، فأدخلهم المدينة، وصوب مدافعه نحو الفلورنسيين. واضطرت المدينة بتأثير الجوع واختلال النظام إلى التسليم (12 أغسطس سنة 1530).

وأصبح ألسندرو ده مديتشي دوقاً على فلورنسا وجلل أسرته العار بما ارتكبه من أعمال النهب وما أظهره من قسوة، فعذب مئات من الذين حاربوا دفاعاً عن الجمهورية، أو نفوا منها، أو قتلوا تقتيلا. وأرسل الراهب بنيديتو إلى كلمنت، فأمر هذا بسجنه في قلعة سانت أنجيلو، وفيها سجن الراهب حتى هلك من الجوع كما تقول إحدى الروايات التي لا يوثق بصحتها(52). وحل مجلس السيادة الذي كان يتولى حكم المدينة، وأطلق من ذلك الوقت اسم بالاتسو فيتشيو (Palazzo Vacchio أي قصر فيتشيو) على بالاتسو دلا سنيوريا (Palazzo della Sagnoria أي قصر السيادة)؛ وأنزل الناقوس الضخم العظيم الذي يزن أحد عشر طناً والمسمى بالبقرة La Vacco والذي ظل أجيالا طوالا يدعو الناس من البرج الجميل إلى الاجتماع- أنزل هذا الناقوس من موضعه، وحطم تحطيما؛ "حتى لا تستمع بعدئذ إلى صوت الحرية العذب" كما يقول أحد كتاب اليوميات المعاصرين(53).

الأراضي المنخفضة

كانت تجارة نافقة في بلاد الفلاندرز إبان نضج شارل أفضل من الانصراف إلى صناعة ضعيفة مشتتة. وساد الكساد في بروجس وغنت، وعاشت بروكسل باعتبارها قصبة فلمنكية، وكانت لوفان تشكل اللاهوت وتصنع الجعة وأنتورب تتحول - وسوف تكون عند حلول عام 1550 - أغنى مدينة في أوربا وأكثرها حركة وعملاً. وحولت التجارة الدولية والمال ذلك الميناء الهزيل على نهر شلدت العريض الصالح للملاحة بفضل انخفاض المكوس الجمركية على الواردات والصادرات والارتباط السياسي مع أسبانيا وبورصة متخصصة، وشعارها يقول بأنها أنشئت ad usum mercatorum cuiusque gentis ac linguae (ليفيد منها التجار القادمون من كل البلاد والمتحدثون بجميع الألسنة(11)". وكان القيام بمشروع أي عمل حراً من قيود الطائفة الحرفية والحماية البلدية، التي أبقت الصناعة القروسطية غير متقدمة لحسن الحظ. وفتح المصرفيون الإيطاليون هناك وكالات وأقام "التجار المغامرون" الإنجليز مستودعاً وركز آل فوجر وجوه نشاطهم التجاري، وبنى الهانز مؤسستهم العظيمة بيت الشرقيين (1564). وشهد الميناء 500 سفينة تدخل إليها أو تغادرها كل يوم و 5.000 تاجر يشتغلون بتبادل السلع. وكانت حوالة مالية مسحوبة على أنتورب وقتذاك أشيع شكل للعملة الدولية. وفي هذه الفترة حلت أنتورب بالتدريج محل لشبونة، وأصبحت أكبر ميناء أوربي لتجارة التوابل، وكان الوكلاء الفلمنكيون يشترون حمولات السفن الداخلة إلى لشبونة قبل أن تفرغ ثم ترسل مباشرة إلى أنتورب لتوزيعها في شمالي أوربا. وكتب سفير البندقية يقول: "لقد حزنت لرؤية أنتورب لأني شهدت مدينة تبز البندقية(12)"، وكان يشهد التحول التاريخي للزعامة التجارية من البحر الأبيض المتوسط إلى شمال الأطلنطي. وحفزت هذه التجارة الصناعة الفلمنكية فانتعشت حتى في غنت، وأمدت الأراضي المنخفضة شارل الخامس بمبلغ 1.500.000 جنيه (37.500.000 دولار) سنوياً، وهو يعادل نصف دخله الكلي(13).

واستجاب بمنح الفلاندرز وهولندة حكماً صالحاً معتدلاً، اللهم إلا في مجال الحرية الدينية - وهي هبة لم يكد يدركها أصدقاؤه أو أعداؤه. وكانت سلطته من الناحية الدستورية مقيدة بتعهده الذي أقسم على تنفيذه بمراعاة مواثيق المُدن والمقاطعات وقوانينها المحلية، وبالحقوق الشخصية والعائلية، التي حافظ عليها سكان المُدن بشجاعة، وبمجالس الدولة والمالية، ومحكمة للاستئناف أنشئت لتكون جزءاً من الإدارة المركزية. وكان شارل بوجه عام يحكم الأراضي المنخفضة حكماً غير مباشر عن طريق نواب يقبلهم المواطنون: أولاً عمته، وحاضنته ومربيته مرجريت النمساوية، ثم شقيقته ماري، ملكة هنغاريا السابقة، وهما امرأتان تتمتعان بكفاءة وإنسانية ومهارة. ولكن شارل أصبح أشد استبدادً باتساع رقعة الإمبراطوريّة وأقام حرساً أسبانياً في المُدن المتكبرة، وقمع بقسوة أي مخالفة خطيرة لسياسته الدولية، فعندما رفضت غنت أن تصوت على قرار بالاعتمادات العسكرية التي طلبها ومنحتها له المُدن الأخرى، أخمد شارل الثورة باستعراض قوة لا جدال فيها، واقتضى إعانة مالية وتعويضاً، وألغى الحريات التقليدية التي كانت تتمتع بها البلدية، واستُبْدِل بالحكومة المختارة محلياً موظفون معينون من قبل الإمبراطور (1540)(14). ولكن لم يكن هذا المتبع في الأغلب. وعلى الرغم من هذه القسوة العارضة فقد ظل شارل يحظى بشعبية بين رعاياه في الأراضي المنخفضة، ونال الثقة لما حققه من استقرار سياسي ونظام اجتماعي، وطدا دعائم الرخاء الاقتصادي، وعندما أعلن تنازله عن العرش حزن كل المواطنين تقريباً(15).

وسلم شارل بالنظرية المتداولة القائلة بأن السلام القومي والقوى يتطلبان حدة المعتقد الديني، وخشي أن تؤدي البروتستانتية في الأراضي المنخفضة إلى تعريض جناحه للخطر في نزاعه مع فرنسا وألمانيا اللوثرية، فأيد الكنيسة تأييداً كاملاً في قمع الهرطقة في الفلاندرز وهولندة. وكانت حركة الإصلاح الديني هناك معتدلة قبل لوثر، ودخلت بعد عام 1517، مثل ما دخلت اللوثرية ومذهب المنكرين للتعميد من ألمانيا، والزونجيلية والكالفينية من سويسرة والألزاس وفرنسا. وسرعان ما ترجمت رسائل لوثر إلى الهولندية وشرحها وعاظ في انتورب وغنت ودوردرخت واترخت وتسفولى ولاهاي. وتزعم الأخوة الرهبان الدومنيكان حركة معارضة نشيطة دحضوا فيها آراء خصومهم، وقال أحدهم إنه يود لو استطاع أن ينشب أسنانه في زور لوثر، وإنه لن يتردد في أن يذهب لتناول العشاء الرباني والدم يلطخ فمه(16). ورأى الإمبراطور، وهو لا يزال شاباً، أن يخمد الهياج بنشر "إعلان ملصوق" بناء على طلب البابا، يحرم طباعة مصنفات لوثر أو قراءتها. وفي العام نفسه أمر الحاكم العلمانية بتنفيذ منشور ورمس في سائر الأراضي المنخفضة ضد كل مَن يعرض آراء لوثر. وفي اليوم الأول من يوليو عام 1523 أرسل هنري فوس وجوهان إيك، وهما راهبان أوغسطينيان إلى المحرقة في بروكسل، فكانا أول شهيدين من البروتستانت في الأراضي المنخفضة. وسجن هنري الزتفيني، وهو صديق وتلميذ للوثر، ورئيس الدير الأوغسطيني في أنتورب، وفر، وقبض عليه في هولستاين وأحرق هناك (1524) وكان تنفيذ هذه الأحكام بالإعدام بمثابة إعلان لآراء المصلحين الدينيين.

وعلى الرغم من الرقابة فإن ترجمة لوثر للعهد الجديد انتشرت على نطاق واسع، وتداولها الناس في هولندة بحماسة أكثر من الفلاندرز الغنية. وكانت هناك أمنية لإعادة المسيحية إلى بساطتها الأولى، فنشأ عنها أمل، بعد مرور ألف عام، في عودة المسيح مبكراً، وإنشاء أورشليم جديدة لا تكون فيها حكومة، ولا زواج ولا ملكية، وامتزجت بهذه الأفكار نظريات شيوعية عن المساواة وتبادل العون بل "والحب الحر(17)". وتكونت جماعات تنكر التعميد في أنتورب وماسترخت وأمستردام. وجاء ملشيور هوفمان من أمدن إلى أمستردام عام (1531) وأعاد جون الليدني عام 1534 الزيارة يحمل معه يحمل معه عقيدة المنكرين للتعميد من هارلم إلى منستر. وقدر أن ثلثي السكان في بعض المُدن الهولندية كانوا من المنكرين للتعميد. بل إن العمدة في ديفنتز تحول لنصرة القضية. وشحذت المجاعة الحركة، فأصبحت ثورة اجتماعية. وكتب صديق لأرازموس عام 1534 يقول "إن اشتعال حماسة المنكرين للتعميد في هذه المقاطعات يجعلنا نشعر بقلق بالغ لأنه يتصاعد مثل ألسنة اللهب ولا تكاد توجد بقعة أو مدينة لا تتأجج فيها سراً شعلة التمرد(18"). وحذرت ماري الهنغارية الإمبراطور؛ وكانت وقتذاك نائبة له، من أن الثوار قد وضعوا خطة لانتهاب كل ضروب الملكية من النبلاء ورجال الأكليروس والأرستقراطية التجارية، وتوزيع الغنائم على كل رجل حسب حاجته(19). وفي عام 1535 أرسل جون الليديني مبعوثين لتدبير ثورة في نفس الوقت يقوم بها المنكرون للتعميد في عدة محلات هولندية، وبذل الثوار جهود الأبطال، فقد استولت جماعة على دير في فريزلاند الغربية، وحصنته، وحاصرهم الحاكم بالمدفعية الثقيلة، ومات 800 وهم يدافعون دفاعاً لا أمل فيه، (1535) وفي 11 مايو اقتحم بعض المنكرين للتعميد المسلحين قاعة المدينة في أمستردام واستولوا عليها، فطردهم سكان المدينة، ونكلوا بالزعماء، وانتقموا منهم انتقاماً مفزعاً من رجال مفزعين، فاستلت الألسنة، ومزقت القلوب من أجساد الأحياء، وألقي بها في وجوه المحتضرين أو الموتى(20).

وظن شارل أن ثورة شيوعية تتحدى البناء الاجتماعي بأكمله، فاستقدم محكمة التفتيش إلى الأراضي المنخفضة، وخول موظفيها سلطة سحق الحركة وكل الهرطقات الأخرى، مهما قضى ذلك على الحريات المحلية. وأخذ بين عامي 1521 و 1555 يصدر الإعلان الملصق بعد الإعلان ضد الانقسام بين الطبقات الاجتماعية أو الانشقاق الديني. وقد كشف أعنف هذه الإعلانات (25 سبتمبر سنة 1550) عن تدهور الإمبراطور، ووضعت الأسس التي قامت عليها ثورة الأراضي المنخفضة ضد ابنه:

لا يحق لأحد أن يطبع أو يكتب أو ينسخ أو يخفي أو يبيع أو يشتري أو يعطي في الكنائس أو في الشوارع أو غير ذلك من الأماكن أي كتاب أو رسالة من تأليف مارتن لوثر، أو جون أو يكولا مباديوس، أو أولريخ زونجلى، أو مارتن بوسر، أو جون كالفن، أو غيرهم من الهراطقة، الذين استهجنت أعمالهم الكنيسة المقدسة... ولا يحق له أن يحطم أو يؤذي بأي صورة أخرى تماثيل العذراء المقدسة، أو القديسين الذين اعترفت بهم الكنيسة... وليس له أن يعقد اجتماعات سرية أو اجتماعات غير قانونية، أو يحضر أي اجتماع من هذه الاجتماعات، التي يدعو فيها أنصار الهراطقة المذكورين ويعمدون ويدبرون مؤامرات ضد الكنيسة المقدسة والصالح العام... ونحن نمنع جميع الأشخاص العلمانيين من أن يتحدثوا أو يجادلوا في أمر يتعلق بالكتب المقدسة جهراً أو سراً... أو أن يقرأوا أو يعلموا أو يفسروا الكتب المقدسة، ما لم يكونوا قد درسوا اللاهوت في حينه، أو اعترفت بهم إحدى الجامعات المشهورة، أو يرحبوا بأي رأي من آراء الهراطقة المذكورين... وإلا تعرضوا للعقوبات المنصوص عليها فيما يلي... الرجال (تقطع رؤوسهم) بالسيف والنساء يدفن أحياء إذا لم يصررن على أخطائهن، وإذا أصررن عليها فإنهن يعدمن حرقاً، وفي كلتا الحالتين تصادر أملاكهن كلها لمصلحة التاج.

وتمنع كل الأشخاص أن ينزلوا عندهم أو يستضيفوا أو يزودوا بالطعام أو الدفء أو الملابس أو يؤيدوا بأية طريقة أخرى أي امرئ يعتقد أنه هرطيق، أو يشتبه في أن له سمعة سيئة كهرطيق، وكل من يتخلف عن التنديد بأي واحد من هؤلاء الذين نأمر بإدانتهم يكون عرضة للعقوبات المذكورة آنفاً... وكل مَن يعرف شخصاً موصوماً بالهرطقة يجب أن يبلغ عنه ويسلمه... ويكون للمبلغ، في حالة الإدانة، الحق في نصف أملاك المتهم... ولكي لا يكون لدى القضاء والموظفين أي ذريعة - بحجة أن العقوبات جسيمة جداً وشديدة، ولم ينص عليها إلا لإثارة الفزع في قلوب المجرمين - ليوقعوا عليهم عقوبة أقل مما يستحقون (نأمر) بأن يعاقب المجرمون حقاً بالعقوبات التي أعلنا عنها سابقاً، ونحظر على جميع القضاة أن يغيروا أو يخففوا العقوبات بأية طريقة، ونحظر على أي أحد، في أي ظرف أن يطلب منا، أو من أي أحد أو سلطة، أن يمنح عفواً عن، أو أن يقدم التماس في صالح، هؤلاء الهراطقة أو المنفيين أو الهاربين، وإلا تعرض للحكم عليه إلى الأبد بعدم الأهلية لتولي الوظائف المدنية أو العسكرية، ولأن يعاقب بعقوبة يقضى بها عليه بطريقة تحكمية(21).

وعلاوة على هذا كان يطلب من أي شخص يدخل البلاد المنخفضة أن يوقع على تعهد بالولاء للعقيدة المحافظة بحذافيرها(22). وتحولت الأراضي المنخفضة عن طريق هذه المنشورات اليائسة، إلى ساحة قتال بين الشكلين للقديم والجديد من المسيحية، وقدر سفير البندقية في بلاط شارل أن 30.000 شخص، وهم كل المنكرين للتعميد تقريباً، هلكوا عام 1546 في هذه المذبحة الإمبراطوريّة الطويلة(23)، التي قتل فيها الآمنون من المواطنين، وخفض تقدير آخر أقل إثارة عدد الضحايا إلى 10.000 شخص(24). وبقدر ما كان الهولنديون المنكرون للتعميد مهتمين، بقدر ما نجحت محكمة التفتيش الكارولينية، وظل بقية منهم على قيد الحياة في هولندة بإبداء عدم المقاومة، وهرب بعضهم إلى إنجلترا، حيث أصبحوا من أنصار البروتستانتية النشطين في عهد إدوارد السادس وإليزابث. وانهارت الحركة الشيوعية في الأراضي المنخفضة بعد أن روعها الاضطهاد وخنقها الرخاء.

ولكن عندما انحصرت موجة المنكرين للتعميد تدفق نهر من الهوجينوت المطاردين إلى الأراضي المنخفضة من فرنسا، وجاءوا معهم بإنجيل كالفن، وراقت الحماسة الصارمة القائلة بالحكم الديني للهرطقة الجديدة، لمن ورثوا تقاليد المتصوفة وإخوان الحياة المشتركة، وكان قبول كالفن للعمل باعتباره كرامة بدلاً من أن يعد لعنة، وللثورة باعتبارها بركة بدلاً من أن تعد جريمة، وللنظم الجمهورية باعتبارها أكثر موافقة من الملكية للمطامح السياسية لطبقة رجال الأعمال، يحتوي على أجزاء تلقى ترحيباً متفاوتاً من كثير من العناصر بين السكان. وما أن حل عام 1555 حتى كانت هناك جماعات كالفينية للمصلين في إيبرس وتورناي وفالنسينس وبروجس وغنت وأنتروب، وكانت الحركة تنتشر في هولندة ويرجع الفضل إلى الكالفينية لا إلى اللوثرية، أو مذهب المنكرين للتعميد، في أن ابن شارل سوف يحصر خلال جيل مرير، في صراع قدر له أن يشطر الأراضي المنخفضة إلى قسمين، ويحرر هولندة من السيطرة الإسبانية، ويجعلها موطناً وملجأ من أعظم المواطن والملاجئ للفكر الحديث.

وفي عام 1555 طرح شارل الخامس كل أحلامه ما عدا حلمه بأن يموت في طهارة، وتخلى عن أمله في قمع البروتستانتية في ألمانيا والأراضي المنخفضة أو مهادنة الكاثوليكية في مجلس ترنت، وتخلى عن طموحه في زعامة البروتستانت والكاثوليك والألمان والفرنسيين، في زحف رائع يقوم به ضد سليمان والقسطنطينية والتهديد التركي للعالم المسيحي. وقد أدى إفراطه في الطعام والشراب والعلاقات الجنسية وحملاته المنهكة وأعباء منصب واجه صدمة تغيير ثوري إلى تحطيم جسده وتبلد سياسته وتحطيم إرادته. وكان يشكو من قروح، وهو في الثالثة والثلاثين، واكتهل في الخامسة وأصيب وهو في الخامسة والأربعين بالنقرس والربو وسوء الهضم والتأتأة، وكان وقتذاك يقضي نصف وقت يقظته في ألم، ووجد أنه من الصعب عليه أن ينام، وكثيراً ما كانت الصعوبة التي يجدها في التنفس تجعله يجلس منتصباً طوال الليل، وكانت أصابعه مشوهة بداء المفاصل، إلى درجة أنه لم يكد يستطيع أن يقبض على القلم، الذي وقع به على صلح كريبي. وعندما قدم كوليني رسالة من هنري الثاني، لم يستطع شارل أن يفتحها إلا بصعوبة وقال متسائلاً: "ما رأيك في يا سيدي أمير البحر؟ ألست فارساً رائعاً يستطيع أن يهاجم ويحطم حربة، أنا الذي لا أستطيع أن أفتح خطاباً إلا بعد مشقة كبيرة؟(25)". ولعل قسوته العارضة وشيئاً من الوحشية التي هاجم بها البروتستانتية في الأراضي المنخفضة، ترجع إلى نفاد صبره بسبب آلامه. وأمر بقطع أقدام الأسرى من الجنود الألمان المرتزقة، الذين حاربوا في صفوف فرنسا، على الرغم من أن ابنه الذي قدر له أن يكون فيليب الثاني الصلب الرأي، طلب لهم الرحمة(26)، وقد حزن حزناً مريراً دام طويلاً لوفاة زوجته الحبيبة إيزابلا (1539)، ولكنه سمح في حينه بحضور عذارى لا حول لهن ولا طول إلى مخدعه(27).

ودعا في خريف عام 1555 إلى عقد اجتماع لمجلس الطبقات في الأراضي المنخفضة، يوم 25 أكتوبر، واستدعى إليه فيليب من إنجلترا. وفي قاعة دوقات برابانت الواسعة المغطاة بالسجاجيد في بروكسل حيث اعتاد فرسان الجزة الذهبية أن يعقدوا اجتماعاتهم، اجتمع النواب والنبلاء والحكام من سبع عشرة مقاطعة في نطاق حرس من الجند المدججين بالسلاح. ودخل شارل يستند على كتف وليام أف أورانج، الذي قدر له أن يكون عدواً لابنه في المستقبل. وتبعه فيليب مع نائبة الإمبراطور ماري الهنغارية، ثم أمانويل فيليبرت أف سافوي، ومستشارو الإمبراطور، وفرسان الجزة الذهبية، وكثير من الأعيان الآخرين الذين أقبلت عليهم الدنيا يوماً قبل أن تنساهم. وعندما جلس الجميع نهض فيليبرت وشرح في إسهاب ووضوح اغتبط لهما شارل، الأسباب الصحية والعقلية والسياسية التي حدت بالإمبراطور إلى إبداء رغبته في أن يتنازل عن حكم الأراضي المنخفضة لابنه. ثم وقف شارل نفسه وهو يتكئ من جديد على أمير أورانج الوسيم فارع القامة، وتحدث ببساطة، وفي صميم الموضوع، ولخص كيف ارتقى إلى أن بلغ آفاقاً متسعة من السلطان على التعاقب وتحدث عن ذوبان حياته في الحكم. وتذكر أنه زار ألمانيا تسع مرات وإسبانيا ستاً وفرنسا أربعاً وإنجلترا وأفريقية مرتين، وقام بإحدى عشرة رحلة بالبحر واستأنف كلامه قائلاً:

هذه هي المرة الرابعة التي أفكر فيها في الذهاب لإسبانيا من الآن... ولم يسبق أن جربت شيئاً سبب لي مثل هذا الألم العظيم... الذي أشعر به وأنا أفترق عنكم من اليوم دون أن أترك خلفي ذلك السلام والهدوء اللذين طالما رغبت في تحقيقهما... ولكني لم أعد قادراً على مباشرة شئوني دون أن أشعر بتعب شديد يسري في بدني، وبالتالي ألحق بالدولة الضرر... وإن ما يتطلبه تحمل المسؤولية من اهتمام عظيم، وما تسببه خور بالغ للعزيمة، وصحتي التي تدهورت من قبل، كل هذه لم تعد تترك لي القوة اللازمة للحكم... وينبغي لي في حالتي هذه أن أقدم لله والانسان حساباً خطيراً إذا لم أطرح السلطة عن كاهلي... وأن ابني، الملك فيليب قد وصل إلى سن تكفي لأن يكون قادراً على حكمكم، وهو، كما ارجو، أمير صالح لكل رعاياي المحبوبين(28).

وعندما تهالك شارل متألماً في مقعده نسى الحاضرون خطاياه واضطهاده وهزائمه، رثاء لرجل عمل جاهداً مدى أربعين عاماً، حسب ما أملته عليه آراؤه وسمحت به قدرته، تحت وطأة أثقل الالتزامات في عصره، وبكى كثير من السامعين. ونصب فيليب رسمياً حاكماً للأراضي المنخفضة، وحلف يميناً مغلظة (كما سوف يذكر بها فيما بعد) أن يراعى كل القوانين والحقوق التقليدية للمقاطعات. وفي أوائل عام 1556 سلم له شارل تاج إسبانيا، بكل ممتلكاته في العالم القديم والعالم الجديد، واحتفظ شارل باللقب الإمبراطوري، وكان يأمل أن ينقله لابنه قريباً، ولكن فرديناند احتج، وفي عام 1558 تنازل الإمبراطور عن لقبه لأخيه. وسافر شارل بحراً في السابع عشر من سبتمبر سنة 1556 من فشلنج إلى أسبانيا.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الصراعات مع فرنسا

هزم شارل الخامس القوات الفرنسية و أسر الملك فرنسوا الأول في معركة بافيا عام 1525 .

نقود شارل الخامس. النقش: IMP CAES CAROLVS V AVG

الصراعات مع الدولة العثمانية

Silver 4 real coin of Charles V, struck ca. 1542-1555
Obverse: CAROLVS ET IOHANA, REGES (Charles and Johanna, Monarchs). Depicts the crest of Castile and León. The strike date was determined by the Assayer L. Reverse: HISPANIARVM ET INDIARVM (للاسبانْيَات [الممالك الإسبانية] وبلاد الهند." Depicts the Strait of Gibraltar between the Pillars of Hercules. Center Latin motto is PLVS VLTRA, or "Further Beyond."

الإمبراطور يموت 1556-1558

وقام شارل الخامس في الثامن والعشرين من سبتمبر سنة 1556 بالدخول إلى إسبانيا لآخر مرة. واستغنى في برجوس عن خدمات معظم الذين كانوا قد عملوا معه ومنحهم مكافآت، وودع شقيقته، ماري الهنغارية والينورا، أرملة فرانسيس الأول. وأبديا رغبتهما في مشاركته اعتزاله في الدير، ولكن القواعد منعتهما، فاتخذا لهما مسكناً في موضع لا يبعد كثيراً عن هذا الشقيق الذي يبدو أنه لم يكن هناك مَن يحبه وقتذاك سواهما. وبعد أن أقيمت له عدة احتفالات في الطريق، وصل قرية جوانديلا في وادي بلازنسيا، على مسيرة نحو 120 ميلاً غربي مدريد، ولبث هناك عدة شهور، ريثما أكمل العمال الحجرات التي أمر بتجهيزها وتأثيثها في دير يوستى (سانت جوستوس) على مسيرة ستة أميال. وعندما قام بالمرحلة الأخيرة من رحلته (3 فبراير سنة 1557)، لم ينتقل إلى خلوة في دير بل إلى قصر ريفي فسيح، اتسع لإقامة المقربين من تابعيه الخمسين. وابتهج الرهبان بوجود ضيف عظيم مثله، بيد أنهم اكتأبوا عندما وجدوا أنه ليس لديه النية في أن يشاركهم حميتهم ونظامهم، فقد كان يأكل ويشرب كميات كبيرة، كما كان يفعل من قبل - أي بإفراط، وكانت عجات السردين وسجق الأسترمادورا وفطائر ثعبان السمك، ولحم الحجل المملح والديوك الخصية السمينة وأنهار من النبيذ والجعة، تختفي في كرشه الإمبراطوري، واضطر أطباؤه إلى أن يصفوا له كميات كبيرة من السنامكي والراوند للتخلص من الزيادة في وزنه.

وبدلاً من أن يتلو شارل تسابيحه وأوراده ومزاميره كان يقرأ رسائل من ابنه أو يملي رسائل له، وكان يعرض عليه النصيحة في كل وجه من وجوه الحرب واللاهوت والحكم. وأصبح في العام الأخير من عمره متعصباً متطرفاً قاسياً، وأوصى بتوقيع عقوبات وحشية "لاستئصال جذور" الهرطقة، وأسف لأنه كان قد سمح للوثر بالهرب منه في ورمس. وأمر بجلد أي امرأة مائة جلدة إذا اقتربت من أسوار الدير قاب قوسين أو أدناه(37). وراجع وصيته لكي ينص فيها على إقامة 30.000 قداس من أجل طمأنينة روحه. ويجب ألا نحكم عليه من أعماله في أيام الشيخوخة هذه، ولعل لوثة خبل قد انتقلت إليه بالوراثة من أمه.

وفي أغسطس عام 1558 انقلب النقرس الذي يشكو منه إلى حمى ملتهبة. وعاودته هذه بصورة متقطعة، وأخذت تشتد يوماً بعد يوم، وظل شهراً يتعذب بكل آلام النزع الأخير قبل أن تزهق روحه (21 سبتمبر سنة 1558). وفي عام 1574 أمر فيليب بنقل الجثة إلى الأسكوريان حيث يرقد تحت نصب تذكاري فخم.

وكان شارل الخامس أكبر فاشل في عصره، بل إن فضائله كانت أحياناً بؤساً وشقاء للإنسانية. ومنح إيطاليا السلام، ولكن لم يتم هذا إلا بعد مرور عقد من الزمان. تعرضت فيه للتخريب، وبإخضاعها هي والبابوية لإسبانيا، وجف عود النهضة الإيطالية تحت رئاسته الكئيبة، وهزم فرانسيس وأسره، ولكن ضاعت منه في مدريد فرصة ملكية ليبرم معه معاهدة كانت حرية بأن تنقذ ما كل الوجوه ومائة ألف روح. وعاون في إعادة سليمان إلى بلاده في فيينا، وصد بارباروسا في البحر الأبيض المتوسط، وقوى مركز آل هايسبورج، ولكنه أضعف الإمبراطوريّة، وفقد اللورين وسلم بورغنديا، وأحبط أمراء ألمانيا محاولة لتركيز السلطة هناك، وكانت الإمبراطوريّة الرومانية المقدسة منذ عهده نسيجاً واهياً، تنتظر نابليون ليحكم بإعدامها، وفشلت جهوده لسحق البروتستانتية في ألمانيا، وترك الأسلوب الذي انتهجه في قمعها في الأراضي المنخفضة تراثاً محزناً لابنه. وكان قد وجد المُدن الألمانية مزدهرة وحرة، وتركها ترزح ألماً تحت وطأة إقطاع رجعي، وعندما جاء إلى ألمانيا كانت تنبض بالحياة، فيها أفكار ونشاط تبز بهما أية أمة أخرى في أوربا وعندما تنازل عن عرشه كانت ضعيفة واهنة روحياً وفكرياً، وظلت جدباء مدى قرنين. وكانت السياسة التي انتهجها في ألمانيا وإيطاليا سبباً واهياً لما لحقهما من ضعف، أما في إسبانيا فكان عمله هو الذي سحق حرية البلديات وقوتها، وكان حرياً بأن يبقي إنجلترا في حظيرة الكنيسة بإقناع كاثرين أن تسلم بحاجة هنري إلى وريث، وبدلاً من أن يفعل ذلك أجبر كليمنت على اتخاذ موقف فيه تذبذب، يؤدي إلى الخراب.

ومع ذلك فإن استبصارنا المتأخر هو الذي يرى أخطاءه وجسامتها، وفي وسع حسنا التاريخي أن يصفح عنها باعتبارها متأصلة بجذورها في قيود بيئته العقلية وفي أوهام العصر العاتية. وكان اقدر سياسي بين معاصريه، ولكنه لم يكن كذلك إلا بمعنى أنه عالج بشجاعة أعمق موضوعات النزاع في أوسع مدى وصلت إليه. وكان رجلاً عظيماً حطت من شأنه مشكلات عصره وحطمته.

ونفذت إلى حكمه الطويل حركتان أساسيتان، وكانت أعظمهما نمو القومية في عهد ملكيات تنزع إلى المركزية، وفي هذه لم يكن له فيها نصيب. وأعظمها من الناحية الدرامية ثورة دينية، حفزت إليها الانقسامات والمصالح القومية والإقليمية. وقبلت شمالي ألمانيا وإسكنديناوة اللوثرية، أما جنوب ألمانيا وسويسرة والأراضي المنخفضة فقد انقسمت إلى طائفتين بروتستانتية وكاثواليكية، وأضحت إسكوتلندة كاللفينية مشيخية، وإنجلترا كاثوليكية أنجيلكانية أو بيوريتانية كالفينية. وظلت إيرلندة وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا والبرتغال موالية لبابوية بعيدة أو مهذبة. ومع ذلك نشأ تكامل واهٍ، وسط ذلك الانقسام المزدوج: فقد وجدت الولايات المستقلة المعتزة بنفسها أنها في حاجة إلى بعضها البعض، لضمان استقلالها، كما لم يحدث من قبل، وأنها مرتبطة بصورة متزايدة في نسيج اقتصادي، وأنها تؤلف مسرحا رحيباً لمناهج سياسية متشابكة العلاقات، وحروب وقانون بأدب وفن. كانت أوربا التي عرفها شبابنا تتخذ شكلها.

أجداده

شعار الإمبراطورية الرومانية المقدسة


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الألقاب

ساحة المحاكمة في قصر غرناطة في عهد شارل الخامس
Emperor Charles V at Mühlberg, painted in 1548 by Titian.

النهاية

في عهد الإمبراطور شارل الخامس اتسعت رقعة الإمبراطورية في أوروبا و اتسعت رقعة إسبانيا خاصة في المكسيك و البيرو . قسم ملكه على ولديه فرديناند الأول وفيليب الثاني . و تنازل عن العرش عام 1556 واعتزل في أحد الأديرة الإسبانية. وتوفي شارل الخامس في سنة 1558.

انظر أيضا

المصادر