مصطفى جواد

د.جمال الدين فالح الكيلاني
ساهم بشكل رئيسي في تحرير هذا المقال

مصطفى جواد (1904 - 1969)، أستاذ اللغة العربية في العراق وأحد أهم اللغويين العرب في القرن العشرين.

علامة العراق الأكبر والمؤرخ الكبير الأستاذ مصطفى جواد علم أعلام العراق المعاصر من مواليد قضاء الخالص محافظة ديالى. لدية العشرات من الكتب والمؤلفات العلمية واللغوية والتاريخية عضو المجمع العلمي العراقي والمصري والسوري والمغربي والاردني رحمة الله عليه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ولادته ونشأته

ولد مصطفى جواد مصطفى البياتي عام 1904م من أبوين تركمانيين في محلة شعبية في الجانب الشرقي من بغداد. تنقل طفولته بين بغداد وقضاء الخالص التابعة لمحافظة ديالى. تعلم في الكتاتيب ومن بعد في المدارس قارئا القرآن الكريم وحافظا له. ودرس في المدرسة الجعفرية ومدرسة باب الشيخ بعد دخول الإنكليز العراق محتلين. بعد تخرجه من دار المعلمين العالية عام 1924م عين معلما في مدرسة الناصرية ثم البصرة وبعدها في مدرسة الكاظمية ببغداد. سافر إلى فرنسا لإكمال دراساته العليا هناك والعودة عام 1939م بعد نيل شهادة الدكتوراه مدرسا في معهده الذي تخرج منه وساهم في التدريس فيه وأيضا في كلية التربية التي ورثت المعهد بعد تأسيس جامعة بغداد. في عام 1962م أنتدب للتدريس في معهد الدراسات الإسلامية العليا وعين عميداً للمعهد المذكور بعد عام. وواصل النشر والكتابة والبحث في تلك السنوات رغم اشتداد آلام مرض القلب عنده والذي طال به. توفي في بغداد التي ولد فيها تاركا خلفه كنزا ثمينا من آثاره ومؤلفاته المختلفة في شتى ميادين المعرفة بلغت مجموعها 46 أثراً، نصفها مطبوع ونصفها الآخر ما زال مخطوطا. وفضلا على ذلك فكان للمرحوم العديد من المؤلفات المشتركة ومقالات ودراسات منشورة لم تجمع بعد. وبالإضافة لكونه من عباقرة اللغة العربية وموسوعة معارف في البلاغة والسير والأخبار والآثار، كان مؤرخا معروفا وله مصادر تاريخية موثوقة يرجع إليها الباحثين والمهتمين في شؤون التاريخ. فكانت حياته الثقافية حافلة بالإبداعات في البحث والتنقيب والتخصص في اللغة وتاريخها فألف وحقق ما يثريها ويعمق من معرفتها والتمعن بها، باذلاً جهوده في الإحاطة بها وتدريسها لأكثر من خمس وأربعين سنة.

ولد مصطفى جواد في محلة القشلة في بغداد عام 1901 ، وكان أبوه خياط وأصل أسرته من دلتاوه (الخالص) في محافظة بعقوبة (لواء ديالي سابقاً) لذلك كان يوقع مقالاته وقصائده المبكرة باسم مصطفى جواد الدلتاوي ثم حذف هذه النسبة بعد ذلك ، وانتقل مع والده إلى دلتاوه وعمل بالفلاحة في صباه ثم عاد إلى بغداد وأكمل دراسته الابتدائية [1]

من كتب الأستاذ العلامة المرحوم مصطفى جواد والتي أعادت دار المدى بدمشق نشرها كتاب الضائع في معجم الأدباء. تقديم تلميذه الوفي له الدكتور عناد غزوان. حيث كتب الدكتور بحق المرحوم مصطفى جواد قائلا "يقف مصطفى جواد علماً بارزاً من أعلام النهضة العربية في ثقافتنا وحضارتنا وفكرنا وتاريخنا الإنساني. فقد كان - - عاشقا طبيعيا للحقيقة، مخلصا لها، مترصدا إخلاصه فيها، عائما بها ولذاتها. تلك الحقيقة هي حبه العميق للغة العربية لغة الحضارة والفكر الإنسانيين. كان موسوعة معارف، في النحو والخطط والبلدان والآثار، (أعانه على ذلك حافظة قوية وذاكرة حادة، ومتابعة دائمة، حتى غدا في ذلك مرجعا للسائلين والمستفتين، فنهض بما لا ينهض به العصبة أولو القوة. فكان أمة كاملة في رجل. وعالما في عالم، ومدرسة متكاملة قائمة بنفسها). وخدم اللغة العربية أكثر من لغة أمه التركمانية وقضى عمره في كتابة قواعدها الصحيحة وكتابة التاريخ العراقي والعربي. حيث ألف كتب ومصادر مهمة وموثوقة يستند الباحثون والكتاب وذوي الفكر عليها. فكان عالماً، عبقرياً، لغوياً، كاتباً، شاعراً ومؤرخاً عظيماً رفع رؤوسنا عالياً بين أشقائنا العرب واستحق فخرنا واعتزازنا الكبير به ف وأسكنه فسيح جناته.

أستاذ اللغة العربية في العراق وأحد أهم اللغويين العرب في القرن العشرين. ولد الدكتور مصطفى جواد في محلة (عقد القشل) ببغداد عام 1904م، ووالده جواد الخياط ابن مصطفى بن إبراهيم، وأصل أسرته من دلتاوه. درس العلوم الابتدائية في مدارس دلتاوه (الخالص بمحافظة ديالى حاليا) في عهد الدولة العثمانية. وبعد وفاة والده بدلتاوه في أوائل الحرب العالمية الأولى، عاد إلى مسقط رأسه بغداد.

دخل دار المعلمين الابتدائية عام 1921م، وتخرج منها بعد ثلاث سنوات فعين مدرسا للمدارس الابتدائية عام 1924م، ومارس التعليم في المدارس تسع سنوات (1924 - 1933)م، متنقلا بين الناصرية والبصرة والكاظمية ودلتاوه.

سافر إلى فرنسا، وأكمل دراسة الماجستير والدكتوراه في جامعة السوربون ونشبت بعدها الحرب العالمية الثانية فعاد إلى بغداد، قبل أن يناقش الرسالة وعاد معه الدكتور ناجي معروف، والدكتور سليم النعيمي، وهما مثله كانوا بانتظار مناقشة الرسالة.

عين كاتبا للتحرير في وزارة المعارف ونقل بعد ذلك معلما في المدرسة المأمونية ببغداد، ومنها نقل إلى المدرسة المتوسطة الشرقية ببغداد. تعرف خلال هذه المدة على الأب أنستاس الكرملي فلازمه وكتب في مجلته (لغة العرب). وكتب الكثير من الأبحاث والكتب عن اللغة العربية وتحديثها وتبسيطها. وكان له برنامج مهم في التلفزيون العراقي بعنوان "قل ولا تقل". شغل منصب المشرف على الأساتذة الخصوصيين الذين أشرفوا على تدريس وتثقيف الملك فيصل الثاني ملك العراق. هو من الأصدقاء المقربين للسيد رشيد عالي الكيلاني وكان على صلة طيبة به خصوصا أنهما بالأصل من لواء ديالى.

من اللطائف التي تروى عنه ركوبه إحدى سيارت الأجرة في بغداد وفي الطريق شغل السائق المذياع فأذيع برنامجه من الإذاعة (قل ولا تقل)، فضجر السائق وأغلق المذياع وقال باللهجة العراقية العامية: (أسكت كواد). فطلب مصطفى جواد التوقف ونزل من السيارة وهمس في أذن السائق: (قل قواد ولا تقل كواد). فسارع السائق للأعتذار منه وقبل مصطفى جواد اعتذاره وضحك. لقد كانت له روح فكاهة، مع طيبة قلب ويروي عنه البغداديون الكثير من النكات.


من مؤلفاته

  • دليل خارطة بغداد المفصل، مشاركة مع الدكتور أحمد سوسة، مطبعة المجمع العلمي العراقي، 1958م.
  • جاوان القبيلة الكردية المنسية، المجمع العلمي العراقي.

عقله اللغوي

ابتداء من طفولته ينبغي أن نتساءل هل ثمة عوامل معينة ساعدته على أن يكون مستودعاً للغة ولتراث اللغة، وهل كان لاختصاصه الاخر في علم التاريخ اثر في التكوين اللغوي فيه، وإلى أي مورد استند في تخريج مصادر اللغة، وهذه هي محطاته:

سيرته

عراقي تركماني

التركمان شريحة مثقفة واعية من الشعب العراقي الأصيل صاحب أقدم الحضارات الإنسانية على الأرض، حضارة وادي النهرين. قدموا خدمة جليلة للعراق وفي كافة المجالات الحياتية وخصوصا علوم اللغة والفقه والفلسفة والثقافة والفنون منها. فكما كان للتركمان علماء وفلاسفة وعباقرة من أمثال الفارابي والبيروني وغيرهما من القادة العظام الذين دافعوا عن حياض الوطن العراقي الغالي، من أمثال البطل عمر علي ومصطفى راغب باشا وغازي الداغستاني وعبد الله عبد الرحمن ويالجين عمر عادل وعصمت صابر. كذلك كان للتركمان أدباء وكتاب ولغويين كثيرين خدموا اللغة العربية بنتاجاتهم الثقافية الإبداعية ومؤلفاتهم الكتابية واللغوية. فكان للتركمان شعراء وكتاب كثيرين ألفوا قصائدهم وكتبوا قصصهم وكتاباتهم بالعربية أيضا إضافة إلى لغتهم الأم التركمانية، وفنانين كبار إحترفوا فن الخط العربي وأبدعوا فيها أكثر من الخطاطين العرب أنفسهم، وقراء المقامات العراقية المشهورين والموسيقيين. فهناك المئات من أمثال عماد الدين نسيمي البغدادي وفضولي وهجري ده ده وخضر لطفي ومحمد صادق وشاكر صابر ضابط والملا طه كركوكلي ورشيد كوله رضا وعز الدين نعمت ومحمد عزة الخطاط وعبد المجيد لطفي ينكجي الخلوصي الادواقاتي.

هو من عمالقة اللغة العربية البارزين في العراق خدموا اللغة العربية وأسسوا قواعدها. فالمرحوم مصطفى جواد كان ولا زال رمزا تركمانياً خالداً خدم العراق وشعبه طيلة حياته فكان معلما ومربيا ورائدا وأديبا وفنانا وفيلسوفا وعبقري، وكان رجلا بكل معنى الكلمة وللتركمان حق بالافتخار به. فبالرغم من كونه تركمانيا علم العرب لغتهم وقال كلمته المشهورة "جئت لأعلم العرب لغتهم" ف كان موضع فخرنا واعتزازنا. وسيبقى كذلك للأجيال التركمانية القادمة.

عرف العراقيون الذين عاصروا الفقيد مصطفى جواد من خلال برنامجه الإذاعي المشهور (قل ولا تقل). ذلك البرنامج اللغوي الشيق والذي كان يتابعه الصغار والكبار. ذلك البرنامج الذي كان فيه المرحوم يبسط اللغة العربية للمستمع العام وللمختص اللغوي وبحرفة الكتابة في آن واحد. فكان من أبرز أعلام اللغة العربية في القرن العشرين. وكان عضوا نشيطا في المجاميع اللغوية والمجالس الثقافية ومحققا لغويا ومؤرخا ثقة في نتاجاته ودراساته في شتى اختصاصات اللغة العربية وتاريخها. وكما كان من رافعي مشاعل النهضة الأدبية وموسوعة معارف في اللغة والبلاغة.

النشأة

ولد المرحوم مصطفى جواد عام 1904 من أبوين تركمانيين في محلة شعبية في الجانب الشرقي من بغداد. وتنقل طفولته بين بغداد وقضاء الخالص التابعة لمحافظة ديالى. وتعلم في الكتاتيب ومن بعد في المدارس قارئا القرآن الكريم وحافظا له. ودرس في المدرسة الجعفرية ومدرسة باب الشيخ بعد دخول الإنكليز العراق محتلين. وبعد تخرجه من دار المعلمين عام 1924 تعين معلما في مدرسة الناصرية ثم البصرة وبعدها في مدرسة الكاظمية ببغداد. وبعدها سافر إلى فرنسا لإكمال دراساته العليا هناك والعودة عام 1939 بعد نيل شهادة الدكتوراه مدرسا في معهده الذي تخرج منه وساهم في التدريس فيه وأيضا في كلية التربية التي ورثت المعهد بعد تأسيس جامعة بغداد. وفي عام 1962 أنتدب للتدريس في معهد الدراسات الإسلامية العليا وعين عميداً للمعهد المذكور بعد عام.

توفي أبوه "جواد بن مصطفي بن إبراهيم" في مدينة الخالص في أوائل الحرب العالمية الأولى وعاد ابنه مصطفي إلى بغداد مسقط رأسه بعد الاحتلال البريطاني فكفلة أخوه كاظم بن جواد وكان يعد من أدباء بغداد في التراث الكلاسيكي وهو الذي أسهم ببناء قاعدة العشق اللغوي في شقيقه الأصغر، فدرس النحو ومعاني الكلمات وأعطاه قاموساً في شرح مفردات العربية واوصاه بأن يدرخ عشرين مفردة، في اليوم الواحد، ودرخ أكثر من عشرين حتي نشات فيه حافظة مؤدرخة.

أكمل بقية الدراسة الابتدائية في المدرسة الجعفرية، وكان لشقيقه كاظم صلة تعارف مع مدير المدرسة الشيخ شكر البغدادي {1855-1938} الذي بدوره ألزم التلميذ مصطفي جواد بحفظ الأجرومية في النحو فحفظها في ثلاثة أيام فدهش الشيخ شكر وقام وأهداه كتاب "شرح قطر الندى" وأتقن مضامينه أمام الشيخ، وشاع أمره بين طلاب الجعفرية فسمي "العلامة النحوي الصغير"، هو إذا كان يتغذي الطفولة اللغوية في مدرسة البيت وهي الأصل في التنشئة الروحية والايحائية الأولى في ترسيخ الموهبة، وكان علي يد الشيخ العالم الفقيه شكر البغدادي يتلقي دروساً في صقل هذه الموهبة وفي جعلها تتفتح علي الذات الكامنة، وكان القدر يهيء له المنافذ منذ بدايته..!

وفي 1921- 1924 أكمل دراسته في دار المعلمين الابتدائية وفي هذه الدار وجد اثنين من أساتذته يعتنيان بموهبته وهما طه الراوي (1890- 1946) حيث أهداه كتاب المتنبي لما وجده يحفظ له قصيدة طويلة بساعة واحدة بصوت شعري سليم بأوزانه، وأستاذه الآخر ساطع الحصري حيث أهداه قلماً فضياً بعد أن وجد قابليات تلميذه تتجاوز مساحة عمره إلى أقصي الحدود، وكان أساتذته يقولون له: (أنت أفضل من أستاذ، فهو يكمل عجز البيت الشعري إذا توقف الاستاذ عن ذكره، ويحلل القصيدة ويتصيد الاخطاء ويشخص المنحول بقدرة استقرائية غير مستعارة من أحد..!

تخرج في دار المعلمين وعين معلماً في البصرة والناصرية وديالي والكاظمية، ولما اكتشف فيه المفتشون أنه أكثر قابلية منهم في طرق التدريس (وبفصحي لامثيل لها) رحل إلى تدريس المتوسطة، وخلال تسع سنوات في التعليم قرأ المطولات في الشعر والتاريخ والتراث، وكانت مكتبته ترافقه حيثما حل، وفي هذه الحقبة ذاتها نشر أبحاثه اللغوية في الدوريات المحلية والعربية ولاسيما تلك الصادرة في مصر ولبنان، وطبع كتابين في التحقيق التراثي، وفي أثناء عطلاته أخذ يتردد علي مجالس بغداد ويدخل معارك أدبية حول فنه الذي ما فارقه (التصحيح اللغوي) الذي ألزمه بان يدرخ كثيرا ويعلل الدرخ ويقرنه بمزيد من الأسانيد والشواهد مما أتاح لذاكرته بأن تتوسع بخزن المتراكم طبقة فوق طبقة..!

وفي هذه المدة (1925) تعرف بالعلامة اللغوي الاب أنستاس الكرملي وكان للكرملي مجلس أدب ولغة في الكنيسة اللاتينية يؤمه أدباء الدرجة الأولي في بغداد، وفي جلسته الأولى أثار مصطفي جواد معركة حامية حول العامية والفصحى، وكان يبزهم في الأدلة والبراهين، ومال إليه الكرملي منذ لحظته الأولي: (أريدك يا أخ اللغة أن تحضر مجلسي كل أسبوع) وعند حضوره في الأسبوع الثاني كلفه الكرملي بأن يهندم مكتبته علي التنظيم العصري وكانت من خيرة مكتبات بغداد، فنظمها وجعل لها فهارس وأخرج منها العابث والمكرر، ثم اقترح عليه الكرملي الكتابة في مجلته لغة العرب الشهيرة، فكتب أبحاثا لغوية ونقداً في التراث اللغوي وزاوية خاصة ب"التصويبات اللغوية" وهذه جعلته علي اللأسنة بين أخذ ورد وجدل وانتقاد وكانت معاركه تسمع في القاهرة وبلاد الشام، وهذه وحدها جعلته يمتد في الذاكرة اللغوية وجعلته أيضا أن يكون سيداً في إرجاع ما يشاع بأنه فصحي إلى العامية وبالعكس وكان الكرملي مثله سيدا في اللغة ومثله تعرض لخصومات جيرانه التي أرادت أن تبطش به لولا دفاع مصطفي جواد عن جواهره وانجازاته في لغة العرب، وكتب مقالة بحق الكرملي في مجلة السياسة المصرية في الثلاثينات كان بها ينهي خصومة الكرملي، وهو القائل علي قبره:

ياسائراً، ووجيب القلب صاحبه لنا ببغداد من بين القسوس أب

أب عزيز وذو علم ومعرفة قضى السنين بشوق العلم يكتسب

في 1934- 1939 حصل علي بعثة لتطوير دراساته في باريس، فقضي سنة كاملة في القاهرة لتعلم الفرنسية وهناك التقي رواد الثقافة طه حسين والعقاد والزيات وباحثهم وجادلهم في أخطائهم ولم يذعنوا لأنهم كما يقول مصطفي جواد (مدارس وقدرات) ولا يجوز انتقادهم، ثم رحل إلى السوربون بجامعة باريس يدرس دكتوراه الأدب العربي فنالها عن أطروحته "الناصر لدين الله الخليفة العباسي" وفي باريس أفاد ذاكرته التراثية من ملازمته لمجلس (الميرزا محمد القزويني) ومكتبته التراثية فنسخ منها عشرات المحفوظات العربية النادرة، وعشرات مثلها من المكتبة الوطنية الفرنسية، ومهمة النسخ هذه ساعدته علي اتساع خياله التراثي وارجاع الفرع الذي قرأه في الكتب الحديثة إلى الأصل الذي هو في الكتب الأولى وهذه المراجعة والمذاكرة مع الذات تمهد له الطريق لاكتشاف المزيد من حقائق اللغة التراثية وتجعل ذهنه ذهنا مقارنا حيوي التخريج..!

عاد الي بغداد وهو مزود بقراءتين: القديمة التي في المراجع والمصادر الرئيسة والحديثة وهي الأكاديمية التي تنفتح علي العصر، وجاء بهاتين القراءتين إلى دار المعلمين العالية التي عين فيها أستاذا للأدب العربي، وكان في الدار أساتذة كبار أمثال محمد مهدي البصير (1896- 1974) ومحمد الهاشمي (1910- 1996) وصفاء خلوصي وحينما أضيف إليهم مصطفى جواد صار في الدار مجلس تراث لغوي تثار فيه كل شاردة وواردة في اللغة وتحسم فيه مواقف الأدب إلا أن الشهرة كانت لمصطفي جواد لأنه أكثرهم تذكرا ومذاكرة وأكثرهم قدرة علي تخيل الصحيح في القواميس وهو أيضا أفاد منهم في جعل حافظته تتمرن على الاعادة، واتمام النقص في مسائل التحقيق التراثي.

في سنة 1942 انتقل ملاحظا فنيا في مديرية الآثار العامة، وفي مدة أخرى، رفع في هذه المديرية إلى درجة اختصاصي في التراث حتي سنة 1948.. وبعدها عاد إلى دار المعلمين العالية وكان في مديرية الآثار يجرد ذاكرته اللغوية في مكتبة المتحف العراقي، ثم يطبق ويقارن بين قراءاته في الكتب وما عايشه على أرض الآثار، وتلك المشاهدة والمقارنة أعطته خبرة جديدة في الكشف عن الغامض في تراثنا، وهذا البحث عن الغامض هو الذي دفعه إلى الاجتهاد، إذ كان يذهب بنفسه إلى مواقع الأثر القديم ويجتهد في التوصل إلى الحقيقة أولا وإلى اليقين التراثي ثانيا، لذلك رأيناه يكثر من كلمة (أقرر) وكلمة (أجزم) في مقالاته وابحاثه في التراث لغة وتاريخا ومعرفة ومن تلك الوثوقية التي استبدت به ألف ووضع مع أحمد سوسة "خريطة بغداد قديماً وحديثاً" و"دليل خريطة بغداد" ومثل ذلك التأليف يحتاج إلى قوة استذكارية عميقة الأبعاد، ذكية الأرصاد مثلما هي بحاجة إلى عقل مقارن تراثي النكهة..!

قضي شطراً طويلاً من حياته في متابعة ومشاهدة الأفلام السينمائية، وسئل عن أسباب دوافعه لرؤية الشاشة، قال: (ليس للتسلية بل حب لمعاينة الهارب في الأفلام البوليسية) أين ذهب وأين اختبأ ومتي يقبض عليه، والمطاردة في الأفلام البوليسية تشبه المطاردة في تحقيق الكتب التراثية: من المؤلف ومتى حبر الكتاب وأي نقص يختفي بين الأسطر والصفحات، وهذه المطاردة حتماً ستقوده في يوم أو في زمن إلى الكشف عن الغنيمة اي الحقيقة..!

واصل النشر والكتابة والبحث في تلك السنوات رغم اشتداد آلام مرض القلب عنده والذي طال به. توفي في بغداد التي ولد فيها تاركا خلفه كنزا ثمينا من آثاره ومؤلفاته المختلفة في شتى ميادين المعرفة. وبلغت مجموعها 46 أثراً، نصفها مطبوع ونصفها الآخر ما زال مخطوطا. وفضلا على ذلك فكان للمرحوم العديد من المؤلفات المشتركة ومقالات ودراسات منشورة لم تجمع بعد. وبالإضافة لكونه من عباقرة اللغة العربية وموسوعة معارف في البلاغة والسير والأخبار والآثار، كان مؤرخا معروفا وله مصادر تاريخية موثوقة يرجع إليها الباحثين والمهتمين في شؤون التاريخ. فكانت حياته الثقافية حافلة بالإبداعات في البحث والتنقيب والتخصص في اللغة وتاريخها فألف وحقق ما يثريها ويعمق من معرفتها والتمعن بها، باذلاً جهوده في الإحاطة بها وتدريسها لأكثر من خمس وأربعين سنة.

إنجازاته

بمجموع هذه المحطات أنجز لنا:

  1. قواعد جديدة في النحو العربي كبدائل لقواعد نحوية قديمة.
  2. قواعد وقوانين جديدة في تحقيق المخطوطات التراثية.
  3. أنزل الفصحي إلى العامة بأسلوبه السلس ذي الجرس الأنيس.
  4. نبه أساتذة الجامعات إلى اعتماد لغة سليمة في أبحاثهم لأن اللغة كما قال لهم عنصر مهم من عناصر الشخصية.
  5. علم الباحثين طريقة الاستناد إلى الشواهد شعراً ونثراً وسواء كانت الشواهد من القرن الأول الهجري أم التي من العصر الحديث، وبذلك حررهم من الجمود الفكري.

قل ولاتقل

بلغ الشهرة أكثر فأكثر في موضوع (قل ولاتقل) أي قل الصحيح وانبذ الخطأ الشائع، وطبع له من هذا الموضوع جزآن (1970- 1988) وربما استعار عنوان كتابه من الدراسات اللغوية الفرنسية التي شاعت في أثناء دراسته في جامعة باريس.

ابتدأ بنشر موضوعه منذ عام 1943 في مجلة (عالم الغد) فكان يذكر أولا الصحيح أو الفصيح ويشفعه بالغلط أو الضعيف، وكان يرتب ذلك علي حروف المعجم. أما الأسباب التي دعته إلى تأليف موضوعة (قل ولاتقل) فهي:

  1. استهانة طبقة من المترجمين باللغة العربية، وقد امتاز منهم بهذا الإثم اللغوي مترجمو البحوث العسكرية.
  2. أن كثيراً من الكتاب والشعراء يكتبون كلما غير مشكول، واللحن في غير المشكول لايظهر، وبعضهم يكسر المفتوح ويفتح المضموم وينون الممنوع من الصرف ويكسر المضموم.
  3. وهناك طبقة من الممثلين يفسدون اللغة.
  4. وفي (تحريرات) الدوائر ودواوين الحكومة تكثر الاغلاط ولاسيما في الاعلانات والتعليمات.
  5. وكذلك تكثر الاغلاط عند مترجمي الافلام السينمائية. والهدف الرئيس وراء صيحاته ليس طعن من يخطيء انما يريد ان ينبه علي الغلط ويذكر الصواب، وانما يعيب علي المصريين علي الخطأ خطأهم، ويقول في ذلك: (ليست اللغة ميراثا لهم وحدهم فيعملوا بها مايشاؤون من عبث وعيث)..!

من اللطائف التي تروى عنه ركوبه إحدى سيارت الأجرة في بغداد وفي الطريق شغل السائق المذياع فأذيع برنامجه من الإذاعة (قل ولا تقل)، فضجر السائق وأغلق المذياع وقال باللهجة العراقية العامية: (أسكت كواد). فطلب مصطفى جواد التوقف ونزل من السيارة وهمس في أذن السائق: (قل قواد ولا تقل كواد). فسارع السائق للأعتذار منه وقبل مصطفى جواد اعتذاره وضحك. لقد كانت له روح فكاهة، مع طيبة قلب ويروي عنه البغداديون الكثير من النكات.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

كتبه وأبحاثه

أول كتاب صدر له سنة 1932 تحت عنوان (الحوادث الجامعة) وآخر كتاب طبعه وهو تحت عنوان (رسائل في النحو واللغة) سنة 1969، وبلغت كتبه المطبوعة عشرين كتابا بين تأليف وتحقيق ونقد، وبلغت كتبه الخطية أكثر من عشرة كتب وأهمها: (مستدرك علي المعجمات العربية)، وله ديوان شعر أسماه (الشعور المنسجم) وله أيضا كتب مترجمة عن الفرنسية، ونقد شعره مرارا لانه شعر علماء يغلب فيه المنطق علي الوجدان، اما مقالاته في المجلات فتقدر بألف مقالة تتركز في علم التحقيق وفي علم المخطوطات وفي التاريخ والاثار العباسية وفي النقد اللغوي.

من كتب الأستاذ العلامة المرحوم مصطفى جواد والتي أعادت دار المدى بدمشق نشرها كتاب (الضائع في معجم الأدباء). وبتقديم تلميذه الوفي له الدكتور عناد غزوان. حيث كتب الدكتور بحق المرحوم مصطفى جواد قائلا " يقف مصطفى جواد علماً بارزاً من أعلام النهضة العربية في ثقافتنا وحضارتنا وفكرنا وتاريخنا الإنساني. فقد كان - - عاشقا طبيعيا للحقيقة، مخلصا لها، مترصدا إخلاصه فيها، عائما بها ولذاتها. تلك الحقيقة هي حبه العميق للغة العربية لغة الحضارة والفكر الإنسانيين. كان موسوعة معارف، في النحو والخطط والبلدان والآثار، (أعانه على ذلك حافظة قوية وذاكرة حادة، ومتابعة دائمة، حتى غدا في ذلك مرجعا للسائلين والمستفتين، فنهض بما لا ينهض به العصبة أولو القوة. فكان أمة كاملة في رجل. وعالما في عالم، ومدرسة متكاملة قائمة بنفسها). وخدم اللغة العربية أكثر من لغة أمه التركمانية وقضى عمره في كتابة قواعدها الصحيحة وكتابة التاريخ العراقي والعربي. حيث ألف كتب ومصادر مهمة وموثوقة يستند الباحثون والكتاب وذوي الفكر عليها. فكان عالماً، عبقرياً، لغوياً، كاتباً، شاعراً ومؤرخاً عظيماً رفع رؤوسنا عالياً بين أشقائنا العرب واستحق فخرنا واعتزازنا الكبير به ف وأسكنه فسيح جناته.

العلامة العراقي الفقيد مصطفى جواد أشهر من أن يعرف بعد أن كان على لسان كل من سمع برنامجه الاذاعي الناجح (قل ولا تقل) والذي بسط فيه اللغة العربية للمستمع العام وللمختص بحرفة الكتابة واللغة. ولا يختلف عليه اليوم أحد من انه أحد ابرز اعلام اللغة العربية في القرن الماضي.

ومن كتبه التي اعادت دار المدى بدمشق نشرها كتاب: الضائع من معجم الادباء، بتقديم الدكتور عناد غزوان، تلميذه الوفي له ولدراسة الادب واللغة والنقد الادبي، بحثا وتدريسا واهتماما وسهرا على ما غرسه العلامة الراحل بنفوس محبي لغتهم وتراثها الإنساني من خصال يتحسر المرء عليها اليوم.

كتب الدكتور غزوان: يقف مصطفى جواد علما بارزا من أعلام النهضة العربية في ثقافتنا وحضارتنا وفكرنا وتاريخنا الإنساني. فقد كان عاشقا طبيعيا للحقيقة، مخلصا لها، مترصدا اخلاصه فيها، عائما بها ولذاتها. تلك الحقيقة هي حبه العميق للغة العربية لغة الحضارة والفكر الإنسانيين. كان موسوعة معارف، في النحو والخطط والبلدان والاثار، (اعانه على ذلك حافظة قوية وذاكرة حادة، ومتابعة دائمة، حتى غدا في ذلك مرجعا للسائلين والمستفتين، فنهض بما لا ينهض به العصبة اولو القوة. فكان رجالا في رجل. وعالما في عالم، ومدرسة قائمة بنفسها). وأشار الدكتور غزوان (إلى أن أستاذه جواد كان قد استمد قدرته الفائقة في الدرس والبحث والاجتهاد الفردي من بيئته واساتذته ومجالس العلماء الذين التقاهم واطلع على مكتباتهم العامرة بمصادر اللغة والادب العربي والتاريخ الإسلامي فضلا عن موهبته النادرة في الاستقراء واستنباط الاحكام واستقراء الرأي، تلك الموهبة التي صيرها اجتهاده الذاتي وجده المتواصل موسوعة علمية ليس من السهل مضاهاتها، موسوعة يفخر بها البحث العلمي اصالة وابتكارا وابداعا).

ترك الاستاذ الدكتور مصطفى جواد آثارا ثقافية مختلفة في ميادين المعرفة التي احبها وافنى عمره فيها تقدر باكثر من 46 اثرا نصفها مطبوع ونصفها الاخر ما زال مخطوطا، فضلا عن المؤلفات المشتركة ومقالات ودراسات منشورة لم تجمع بعد، تشير كلها إلى طول باعه وجليل علمه وحجة لغته وثبت تاريخه ومرجعية ما نشره وأبدع أو اجتهد فيه.

وقيم الدكتور غزوان هذا الجهد العلمي لأستاذه الفقيد بانه جهد علمي رصين يوضح بجلاء الدقة في استقراء الخبر وتثبيت الحقائق وايراد الرواية واثبات الوفيات وذكر التصانيف والتأكد من صحة الأخبار والانساب، توضيحا يظهر مصطفى جواد عالما ثبتا ومؤرخا اديبا امينا ومحققا صادقا في ضوء ما عثر عليه من ترجمات جديدة اهتدى إليها من خلال مطالعاته وتصفحاته البارعة والذكية فتكون لديه هذا البحث الذي نلحظ فيه اهتمام مصطفى جواد بالادباء وحب العلم والطلب مشغوفا بأخبارهم متطلعا إلى انبائهم وأحوالهم ومصنفاتهم واقوالهم واشعارهم، كل ذلك بروح العالم المدقق والمحقق المنصف الامين..

وفي تقديمه للكتاب المخطوط قبل أن يتولى الاستاذ غزوان تقديمه كتب الأستاذ مصطفى جواد صورة عن عمله ومصدرها، تعريفا وتقديرا وتوضيحا لعمله ودوره فيما قام فيه، مبيناً أن إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب المعروف أيضا بمعجم الادباء كان قد شرع في طبع ما وجده المستشرق المشهور د.س مرغليوث سنة 1907 وهو يومئذ أستاذ الأدب العربي في جامعة أوكسفورد بانجلترا. كان الطبع في مطبعة هندية بشارع المهدي بالازبكية من القاهرة. وقد أخرج الجزء الأول سنة 1907 أيضا، ثم أخرج الجزء الثاني سنة 1910 وكان ناقصا. وفي بحثه فيه اكتشف نقصه وما لم يكمله المحقق أو الناشر وأضاف له ما هو أصح وأقرب إلى الحقيقة منه. مانقله العلامة حسين علي محفوظ عنه.

كتاب المختصر المحتاج اليه من تاريخ بغداد وغيره العديد وإن دل على شيء فيدل على رسوخ علمية الرجل

  • ومن آراءه العلمية التي نقلها عنه حسين علي محفوط قوله ان (الشيخ عبد القادر الجيلاني ولادة قرية جيلان العراق قرب المدائن لا جيلان طبرستان وان سكان الجيل العراقية من الأكراد وهذا ما يفسر تعلق الأكراد بالزاهد عبد القادر الجيلاني لأنهم يعتبرونه منهم) صرح بذلك محفوظ، * وأيضا ذكر العلامة سالم الالوسي، ان الرئيس احمد حسن البكر في بداية حكمه، طالب إيران باسترجاع رفات الخليفة هارون الرشيد، كونه رمز لبغداد في عصرها الذهبي، وذلك بدعوة وحث من المرحوم عبد الجبار الجومرد الوزير السابق في عهد عبد الكريم قاسم، ولكن إيران امتنعت ،وبالمقابل طلبت استرجاع رفات الشيخ عبد القادر الكيلاني ،كونه من مواليد كيلان إيران ،وعندها طلب الرئيس من العلامة مصطفى جواد ،بيان الامر ،فاجاب مصطفى جواد : ان المصادر التي تذكر ان الشيخ عبد القادر مواليد كيلان إيران ،مصادر تعتمد رواية واحدة وتناقلتها بدون دراسة وتحقيق ،اما الاصوب فهو من مواليد قرية تسمى (جيل) قرب المدائن ،ولاصحة كونه من إيران أو ان جده اسمه جيلان، وهو ما اكده العلامة حسين علي محفوظ في مهرجان جلولاء الذي اقامه اتحاد المؤرخين العرب وكان حاضرا الالوسي أيضا سنة 1996،وفعلا اخبرت الدولة الإيرانية بذلك ولكن بتدخل من دولة عربية ،اغلق الموضوع.

.

وبيّن أنه عثر عليه في مطالعاته وقراءاته الكثيرة والمتفحصة لكتب التراث واللغة واضاف له ما يكمله وأحرى به حسب منهجه الذي ثبته في تقديمه: وقد فات ياقوتا ذكر فريق من الادباء، فمنهم من لم يطلع على تراجمهم، كما يدل عليه كتاب (بغية الوعاة) للسيوطي، ومنهم من لم يجدهم حريين بأن يذكروا في معجمه مع أنه نبه على أدبهم في معجم البلدان بحسب مواضع بلدانهم، فالمهملون استخمالا منه أو غفلة منه عنهم ليسوا في عداد الذين عقدت هذا البحث في ذكرهم، وانما عقدته فيما ضاع من التراجم من معجم الأدباء حسب، وعثرت عليه في مطالعاتي وتصفحاتي، وأضفت إليه أشياء أخرى للإفادة، وهو تراجم لـ (ست واربعين) علماً جديداً فاتت على ياقوت الحموي، الذي كان من أعظم الجغرافيين العرب المسلمين في عصره بين القرنين السادس والسابع للهجرة، في ذلك العصر الذي كادت فيه المادة العربية والإسلامية توشك أن تضيع في طوفان الفتن المتلاحقة والمصائب المتتابعة، وهو أديب موسوعي في ترجماته وأسفاره آثر الاختصار والاعجاز في نهاية الاجاز على حد تعبيره في تأليفاته الموسوعية، والتي أضاف لها مصطفى جواد ما اعتبره ضائعا من معجم الأدباء إرشاداً للأجيال الجديدة وحفاظاً على موروث ثمين لابد من التواصل معه واستمرار ما يغني الأمة ويتابع المهمة.

مؤلفاته

  • سيدات البلاط العباسي . 1950
  • المباحث اللغوية في العراق 1960
  • سيرة أبي جعفر النقيب 1950
  • خارطة بغداد قديما وحديثا (مع الدكتور احمد سوسة وأحمد حامد الصراف ).
  • دليل خارطة بغداد (مع الدكتور أحمد سوسة)
  • دليل الجمهورية العراقية لسنة 1960 (مع محمود فهمي درويش وأحمد سوسة).
  • الأساس في الأدب ( بالإشتراك مع أحمد بهجت الأثري وكمال إبراهيم).
  • دراسات في فلسفة النحو والصرف واللغة والرسم. 1968
  • قل ولا تقل 1969
  • قصة الأمير خلف (مترجمة عن الفرنسية)
  • رحلة أبي طالب خان . الرحالة الهندي المسلم للعراق وأوربا عام 1799 (طبعت سنة 1970).

وفاته

توفي في 17 ديسمبر عام 1969 في بغداد عن عمر ناهز الثامنة والستين على اثر مرض عضال لازمه سنواته الأخيرة ، وسار في تشييعه رئيس الجمهورية العراقية أحمد حسن البكر وأقيمت في الذكرى الأربعينية لوفاته حفلة تأبينية كبرى حضرها مندوب عن رئيس الجمهورية وعدد كبير من الوزراء والمسؤولين وشعراء الدول العربية والإسلامية وجمهور غفير من أصدقائه وطلابه ومحبيه ثم نظمت وزارة الثقافة والاعلام معرضاً يضم مخلفاته وآثاره الشخصية والعلمية أفتتح يوم 25/3/1970 [2]

بعد41 عاما على رحيل العلامة د. مصطفى جواد يعود نصبه ليستقبل المارة في مدينته الخالص

تعودنا على استذكار من رحلوا من رموزنا المبدعين، خاصة أولئك الذين يمتازون بالألمعية والسيرة الصاخبة بالأحداث والمواقف، ولم يكن مجرد سياق ذاك التعريف والاستذكار بل إجلال للدور البارز في عراق المدن والأحداث والرموز، ودليل واع على إبقاء ذكراهم حاضرة تكمل جذاذات أرشيفنا، فأرشيف العراق حيّ. هذه المرة نستذكر مرحلة ما بعد الرحيل وهي حافلة أيضا بالصراع، فحين يعجز الدكتاتور أن يحارب شخص الدكتور مصطفى جواد لوفاته عام 1969، فانه يعلن الحرب على نصبه الذي كان يقف شامخا في مدخل مدينته "الخالص"، محاولا محو هذا المعجم اللغوي والتاريخي الوقور، اتجهنا إلى مدينته والتقينا بمحبيه وتلاميذه فكان هذا الحديث عن النصب وعن حياة الراحل الكبير. في البدء، حدثنا الفنان خالد الداحي عن تأريخ النصب وإزالته قائلا: "عام 1969، كان هناك تمثال عن ثورة العشرين في ساحة مدخل "الخالص"، وتم رفعه ووضع تمثال الدكتور مصطفى جواد بدلا عنه، وبعد أكثر من عشر سنوات أي في ثمانينيات القرن الماضي رُفع التمثال لكن عن طريق التحطيم، فجرى سحبه من مكانه ورميه في معمل الاسمنت، وللأمانة التاريخية فأنا لم أصمم ذاك التمثال، ولكن هناك فنان من (بعقوبة) هو الراحل مؤيد الناصر، هو من صممه وساعده في ذلك الفنان علي الطائي". ويضيف الداحي: "طلبت مني قائمقامية الخالص ـ قبل سنتين ـ إعادة التمثال، وبمساعدة ابني خريج أكاديمية الفنون أتممنا العمل فكان وزن النصب الجديد 6 أطنان من الاسمنت والجبس، واعتقد في الفترة الأخيرة تعرض النصب لبعض الاطلاقات النارية". وعن جودة العمل واحتمال اندثاره أوضح: "ان أفضل أنواع المواد لعمل التماثيل هو النحاس، والدكتور مصطفى جواد يستحق أن يصنع له تمثال حتى من الذهب، وليس من الاسمنت". بعدها اتجهنا إلى بيت (أبو سموأل) أحد طلبة د.مصطفى جواد ومن وجهاء المدينة المعروفين ليقول لنا: "أصل الدكتور مصطفى من الخالص وكان معلما يدرس في معهد المعلمين العالي، درّسنا لمدة أربع سنوات في المعهد، وخلال تلك المدة لم يحفظ اسم أي طالب على الرغم من انه كان يحفظ أسماء أدباء ومؤرخين كثر لحد العجب، وحين أخبرناه ـ يوما ما ـ بأننا طلابه لمدة أربعة أعوام ولا يعرف اسم أي أحد منا رغم ذاكرته الحّية، أجابنا: "اذا حفظت اسما من أسماء طلابي عليّ أن اخرج اسما من الأسماء الكبيرة التي اعرفها". ويكمل السيد أبو سموأل: "كان رجل علم ويمتلك حس الفكاهة، ولم يكن للدكتور أية ميول سياسية، وأريد أن يمجد الدكتور في مدينته الخالص بوضع نصب له، ولكن في فترة نهاية السبعينات وبداية الثمانينات كان هناك الكثير من التجاوزات على النصب فلم يستطع البعض فهم أهمية هذه الشخصية للمدينة وللعراق، فرفع التمثال بحجة انه كان يغطي على تمثال لصدام لذلك تم رفعه وتسوية البساتين التي بجانبه ليتسنى للمارة عبر المدينة رؤية تمثال صدام لوحده، وبعد السقوط أعيد تمثال الدكتور، وعلى الرغم من انه لا يشبه الدكتور كثيرا لكنه يمثله وجميع أهالي المدينة يعرفون تفاصيل رفع وإعادة النصب". أخيرا حدثنا الناقد مثنى كاظم صادق قائلا: "باعتباري ناقدا أرى ان الدكتور مصطفى جواد دخل اللغة عن طريق التاريخ لأنه عندما ذهب إلى فرنسا للدراسة في جامعة (السوربون) كان يحمل شهادة المعلمين العالية فقط فلم يتم قبوله، وكان عليه أن يقدم بحثاً مع الشهادة لكي يعادل طلب الماجستير فألف كتابا اسماه (سيدات بلاط العصر العباسي) وتحدث فيه عن ابرز نساء ذلك العصر، وهو أشبه بمعجم نسوي فتم قبوله في الجامعة. ثم دخل أيضا عن طريق تاريخ المدن إلى اللغة العربية فلا يوجد مؤرخ للمدن والقصبات العراقية إلا ويستشهد بالدكتور مصطفى جواد لأنه كان يعرف ليس تاريخ مدينته ـ مثلا ـ بكاملها بل يعرف حتى ألفاظ كلمات أهليها، وكان يستهويه تاريخه اللغوي فعلى الرغم من مرور أكثر من أربعين عاما على رحيله فما زال اغلب الأساتذة يستشهدون ببعض المفردات التي أوجدها".

ذكراه

عندما رحل اللغوي النبيل مصطفي جواد الي دنياه الاخري قال يرثيه الشاعر الكبير مصطفي جمال الدين:

ياحارس اللغة التي كادت علي صدأ اللهي أن لايرن لها صدي

هبت عليها الحادثات، فلم تدع غصناً بعاصف حقدها متأودا

عربي طبع لايتعتع نطقه حصر علي النبت الغريب تعودا

وكأن الشاعر الكبير أراد أن يلخص في قصيدته إجماع الكبار علي أهمية مصطفي جواد في حياة العرب.. في أنه حرس الفصحى بأمانة القديس من الراطنين بها، والذين يعلمونها في المعاهد والجامعات ودور العبادة، فقد بذل أربعة عقود وهو يمسك بقلم التصحيح، يصحح كتب اللغات وأساليب الكتاب الكبار بلياقة الكبار، ويصحح ويصوب ويشذب ويهذب مافسد في وسائل التعبير عند اساتذة التاريخ والجغرافية والاقتصاد، وما رافقها من عجمة وتغريب، وتحمل كل ما صدر عن الأساتذة الكبار من ردود افعال انفعالية بحوصلته الجميلة التي رزقها الله طول النفس وأعاجيب الصبر، وكان يقول لهم: (أحبائي أنتم كبار وتبقون كباراً لكن السهو يجب أن يزال) ولم يقل الخطأ أو الغلط بل قال لهم السهو تجملاً وتحبباً، فكم كان لطيف الطوية!

بعض الكبار شاغب عليه واتهمه ب(الماسونية) لأنهم يخشون من لسانه إذا جلسوا بقربه في المجمع العلمي العراقي، حتي طه حسين كان يتبرم من وجوده في أيام الاجتماعات السنوية في مجمع اللغة بالقاهرة، وكتب العقاد مقالة يذم بها مصطفي جواد لأن راعي اللغة العراقي نبش أبحاثه فكشف عن أخطاء لغوية ونحوية وإملائية ما كان ينبغي أن يقع فيها أديب عملاق كالعقاد! كان لايبالي بتهم تقذف عليه جزافاً، وكأنه كان منذوراً للغة الضاد أو منتدباً لحراستها من عبث الصغار أو الكبار أو من أولئك الذين يدعون العصمة في ادمغتهم، ومرة خاطب الزعيم عبد الكريم قاسم: (أرجو يا أيها الزعيم لا تقل: (الجمهورية) بفتح الجيم، بل قل الجمهورية بضم الجيم) وتقبل الزعيم النصيحة لكنه تساءل عن السبب، فقال له مصطفي جواد: (وذلك لأن المأثور في كتب اللغة هو (الجمهور) بضم الجيم ولأن الاسم إذا كان على هذه الصيغة وجب أن تكون الفاء أي الحرف الأول مضمومة لأن وزنه الصرفي هو فعلول كعصفور). وليس كل الناس متواضعين علي سياق تواضع الزعيم قاسم في تقبل نصائح العلماء، فيوم صنع له تمثالا في ديالي صعد إليه من يهشم يده التي فيها القلم، فهو لم يسلم من الأذى حتى وهو ميت، لأن الأقدار دائماً تترصد عباقرة العصور أحياء أو موتي، وكان يعرف رصيده من ذلك قائلا:

رشحتني الأقدار للموت لكن أخرتني لكي يطول عذابي

ومحت لي الالام كل ذنوبي، ثم أضحت مدينة لحسابي


المصدر


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

المراجع

  1. ^ جريدة الشرق الأوسط . العدد 6228 تاريخ يوم الأحد 17/12/1995
  2. ^ جريدة الشرق الأوسط 17/12/1995