النهضة البيزنطية

نشأ من كدح الشعب وحذقه، ومن أموال الأغنياء الزائدة على حاجتهم، إحياء عجيب للآداب والفنون في القرنين التاسع والعاشر. ذلك أن الدولة وإن ظلت إلى آخر أيام حياتها تسمى نفسها الدولة الرومانية، فإن ما فيها من العناصر اللاتينية إلا القليل منها كان قد اختفى كله تقريباً ما عدا القانون الروماني. فأضحت اللغة اليونانية في الشرق البيزنطي من أيام هرقل هي لغة الحكومة، والأدب، والشعائر الدينية، ولغة الحديث اليومي. وأصبح التعليم له يونانياً، وكان كل حر من الذكور، وكثير من النساء، بل وكثير من الأرقاء، يتلقى قدراً ما من التعليم؛ وأحيا قيصر بارداس Caesar Baradas (863) جامعة القسطنطينية التي تركت لتضمحل وتموت، كما تركت الآداب بوجه عام؛ خلال ما حدث من الأزمات في عهد هرقل؛ وذاعت شهرة هذه الجامعة بما كانت تدرسه من المناهج في فقه اللغة، والفلسفة، وعلوم الدين، والهيئة، والرياضة، والأحياء، والموسيقى، والآداب؛ وحتى ليبانيوس الوثني ولوشيان الكافر كانا متعلمين. وكان التعليم في العادة من غير أجر للطلاب ذوي المؤهلات، وكانت الدولة تتكفل بمرتبات المدرسين. وكثرت في البلاد دور الكتب العامة والخاصة، وظلت تحتفظ بروائع المؤلفات اليونانية والرومانية القديمة التي جر عليها النسيان ذيوله في الغرب المضطرب.

وكان انتقال التراث اليوناني في هذا النطاق الواسع منبهاً للعقول ومقيداً لها معاً. فقد كان من جهة مقوياً للتفكير وموسعاً لمداه، ومشجعاً على الخروج من أساليب البلاغة الوعظية الرتيبة القديمة؛ والجدول الديني. ولكن ثراءه نفسه كان عائقاً له من الابتكار، لأن الابتكار أيسر على الجاهل منه على المتعلم، وكان أهم ما تهدف إليه الآداب البيزنطية أن توائم النساء المثقفات ذوي الفراغ؛ والرجال المثقفين الذين لا يعملون. وكانت هذه الآداب هلنستية لا يونانية؛ ولهذا كانت تطفو على ظاهر الحياة البشرية ولا تتعمق إلى قلبها. وقد اقتصر التفكير بتأثير العادات التي كسبها في مراحله الأولى على دائرة المتمسكين بالدين القويم، وكان محطمو الصور والتماثيل الدينية أتقى من القساوسة وإن كان رجال الكنيسة في ذلك العهد شديدي التسامح إلى حد عجيب.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

نهضة الإسكندرية البيزنطية

شهدت الإسكندرية عصراً آخر من عصور النهضة العلمية شبيهاً بعصرها القديم أخذ فيه العلماء يحللون اللغة، ويبحثون ويلخصون في علم العروض، ويؤلفون الكتب المجملة، والتواريخ العالمية، ويجتمعون المعاجم والموسوعات والدواوين. ففيه (917) جمع قسطنطين كفالاس Constantine Cephalas الديوان اليوناني. وفيه (976) جمع سويداس معجمه الكبير الغزير المادة. وألف ثيوفانيس (حوالي 814) وليو الشماس (المولود في عام (950) تاريخين قيمين لأيامهما والأيام القريبة منها، وألف بولس الإيجيني Paul of Aegine (815-890) موسوعة في الطب جمعت بين نظريات المسلمين وتجاربهم وبين ما خلفه للعالم جالينوس وأرباسيوس Oribasius، وتتحدت بلغة تكاد تشبه لغة هذه الأيام عن جراحات لسرطان القلب، وعن البواسير، وعن قنطرة المثانة، واستخراج الحصاة منها، والإخصاء، ويقول بولس إن الإخصاء كان يحدث بطحن خصيتي الأطفال في حمام حار(23).

وكان أعظم العلماء البيزنطيين في هذه القرون الثلاثة معلماً خامل الذكر معدماً يدعى ليو السلانيكي (حوالي 850)، لم تأبه القسطنطينية لوجوده حتى دعاه أحد الخلفاء إلى بغداد. ذلك أن أحد تلاميذه أسره المسلمون في حرب من الحروب وأصبح عبداً لأحد عظماء المسلمين، وسرعان ما دهش هذا العظيم من علم هذا الشاب بالهندسة. وعرف المأمون خبره فأغراه بالاشتراك في نقاش مسائل هندسية في قصره. وأعجب الخليفة بعلمه، واستمع بشغف عظيم إلى ما قاله عن معلمه، وأرسل من فوره يدعو ليو إلى بغداد وإلى الثراء والجاه. واستشار ليو في ذلك موظفاً بيزنطياً، ثم استشار هذا الموظف الإمبراطور، ثيوفيلس، فأسرع هذا إلى تعيين ليو أستاذاً. وكان ليو ملماً بكثير من العلوم فكان يؤلف في الرياضة والهيئة، والتنجيم، والطب، والفلسفة ويعلمها. وعرض عليه المأمون عدة مسائل في الهندسة والهيئة وسُرّ من إجابته عنها سروراً جعله يعرض على ثيوفيلس صلحاً أبدياً وألفى رطل من الذهب إذا أعاره ليو إلى أجل قصير. ورفض ثيوفيلس هذا العرض وعين ليو كبيراً لأساقفة سلانيك لكي يبعده عن متناول يد المأمون(24).

وكان ليو، وفوتيوس Photius، وبسلوس Psellus كواكب ذلك العصر المنيرة. فأما فوتيوس (820؟-891) أعلم أهل زمانه فقد ارتقى في خلال ستة أيام من رجل عادي إلى بطريق، فكان بذلك من رجال التاريخ الديني، وأما ميخائيل بسلوس (1018؟-1080) فكان من رجال هذا العالم ومن حاشية الإمبراطور، مستشاراً للملوك والملكات، وكان فولتير عصره إلا أنه كان دمث الأخلاق مستمسكاً بالدين، وفي وسعه أن يبهر الناس في كل موضوع؛ ولكنه كان يرسو على قرار مكين بعد كل نقاش ديني وكل ثورة في القصر. ولم يكن يسمح بحب الكتب أن يطغى على حبه الحياة؛ وكان يعلم الفلسفة في جامعة القسطنطينية، ومنح فيها لقب أمير الفلاسفة؛ ثم دخل ديراً، فلما وجد حياة الأديرة أهدأ من أن تطاق عاد إلى الدنيا، وكان رئيساً للوزراء من 1071 إلى 1078؛ ووجد من وقته متسعاً للكتابة في السياسة، والعلوم، والنحو، واللاهوت، وفقه القانون، والموسيقى والتاريخ. ويسجل كتابه المعروف باسم كرونوغرافيا Chronographia أو سجل الزمان الدسائس والمخازي التي حدثت في مائة عام (976-1078) بصراحة، وحماسة وكبرياء (فقال عن قسطنطين التاسع إنه كان "رهين إشارة بسلوس"(25)). وها هي ذي فقرة من وصفه للثورة التي أعادت ثيودورا إلى العرش في عام 1055 نضربها مثلاً لما قلناه:

Cquote2.png وكان كل (جندي في الجمع) مسلحاً: فكان واحداً منهم يحمل بلطة قصيرة اليد، وآخر يحمل بلطة حربية، وثالث يحمل قوساً، ورابع يحمل حربة. وكان بعض الغوغاء يحملون حجارة ثقيلة، وأخذوا جميعاً يهرولون في اضطراب عظيم... إلى مسكن ثيودورا... ولكنها لجأت إلى كنيسة صغيرة، وأصمت أذنيها عن سماع صياحهم. وترك الغوغاء النصح ولجئوا معها إلى العنف، فاستل بعض خناجرهم، وألقوا بأجسادهم على ثيودورا كأنهم يريدون أن يقتلوها، ثم اختطفوها بقوة من مأواها المقدس، وألبسوها ثياباً فخمة، وأركبوها جواداً، وأحاطوا بها، وقادوها إلى كنيسة أيا صوفياً، حيث قدم لها جميع السكان عظماؤهم وسوقتهم فروض الطاعة والولاء، ونادوا كلهم بها ملكة عليهم(26). Cquote1.png

وتكاد رسائل بسلوس الشخصية تبلغ من السحر والبلاغة ما بلغته رسائل شيشرون، وكانت خطبه، وأشعاره، وكتبه حديث الناس في زمانه؛ وكانت ملحه الخبيثة ونكاته القاتلة حافزاً مثيراً وسط علم معاصريه الجم الثقيل. وإذا ما وازناه هو وفوتيوس وثيوفانيس بأبناء الكوين Alcuin، وبراباني Rabani وأبناء جربرت Gerbert الذين كانوا يعيشون في الغرب في أيامه، بدا هؤلاء وكأنهم ضعاف مهاجرون من الهمجية إلى بلاد العقل.

وكان الفن أبرز نواحي النهضة البيزنطية. ذلك أن حركة تحطيم الصور والتماثيل الدينية قد حرمت في خلال الفترة الواقعة بين 726 و842 تمثيل الكائنات المقدسة بالنحت المجسم أو بالصور وإن كانت الثانية أقل صرامة منها في الأولى. ولكنها عوضت الفنان عن هذا التحريم بأن حررته من الاقتصار الممل على الموضوعات الكنسية، ونبهته إلى ملاحظة الحياة الدنيوية وتصويرها وتزيينها فقد اتخذ موضوعات لفنه بدل آلهة الأسرة الإمبراطورية والأشراف المناصرين لها، والحادثات التاريخية، ووحوش الغاب، ونبات الحقول وفاكهتها، وما يجري في البيوت من حوادث تافهة. وأنشأ باسيل الأولى في قصره النيا Nea أو الكنيسة الجديدة، وزينها كلها" على حد قول كاتب معاصر "باللآلئ الجميلة، والذهب، والفضة البراقة، والفسيفساء، والحرير، والرخام مما لا يحصى أنواعه"(27).

ومن أعمال القرن التاسع كثير من النقوش التي أزيح عنها الستار حديثاً في كنيسة أيا صوفيا. وقد أعيد بناء قبتها الوسطى في عام 975 بعد أن دمرها زلزال ثم وضعت فيها الصورة العظيمة المصنوعة من الفسيفساء والتي تمثل المسيح جالساً على قوس قزح، ثم وضعت فيها نقوش أخرى بالفسيفساء في عام 1028. وكانت هذه الكنيسة الضخمة تنبعث فيها الحياة الدائمة، كما تنبعث في الكائنات الحية، بموت أجزائها وتجديدها. واشتهرت أبوابها البرونزية التي وضعت فيها عام 838 بجمالها الممتاز شهرة جعلت ذوي الشأن يأمرون بأن تصنع في القسطنطينية أبواب مثلها لدير مونتي كازينو Monte Casino، وكنيسة أملفي، وباسيليكا سان بولو القائمة في خارج أسوار روما. ولا يزال الباب الأخير ذو المصراعين المصنوع في القسطنطينية عام 1070 قائماً حتى الآن يشهد بعظمة الفن البيزنطي.

وكان القصر الملكي أو "القصر المقدس" الذي كانت النيا مُصَلاَّة مجموعة متزايدة من الحجرات، وأبهاء الاستقبال، والكنائس والحمامات، والأجنحة المنعزلة والحدائق، والدهاليز ذات العمد، والأبهاء. وقلّما جلس إمبراطور على العرش إلا أضاف إليه شيئاً جديداً وخلع ثيوفيلس على هذه المجموعة مسحة شرقية جديدة بأن أضاف إليها حجرة للعرش تعرف باسم التريكنكوس Triconchos وهو اسم مشتق من المحاريب الشبيهة بالأصداف والتي تكون ثلاثة من جوانبها- وذلك طراز أخذ من بلاد الشام وأدخل عليه بعض التحسين. وقد شاد في الجهة الشمالية من هذه الحجرة قاعة اللؤلؤة وفي الجهة الجنوبية منها عدة من الباياقا Beliaka أو حجرات الشمس، والكاملات وهي حجرات ذوات سقف من الذهب، وعمد من الرخام الأخضر، وفسيفساء غاية في الرونق تمثل على أرضية من الذهب رجالاً ونساءً يجمعون الفاكهة. وهذا النقش نفسه فقد فاقه نقش آخر على جدران بناء مجاور له يمثل بالفسيفساء الزرقاء أشجاراً بارزة من ورائها سماء من الفسيفساء الذهبية، وتفوقه كذلك أرض بهو التوافق الذي نحسبه مرجلاً مليئاً بالأزهار. وأطلق ثيوفيلس العنان لذوقه الغريب الشاذ وافتتانه بالعظمة إلى أقصى حدود الافتتان في قصره بمجنورا Magnaura، فقد كانت تشرف على العرش شجرة ذهبية تجثم على غصونها وعلى العرش نفسه طيور من الذهب، وترقد على جانبي المقعد الملكي حيوانات خرافية مجنحة ذهبية، وعلى الأرض آساد أقدامها تحت قدميه. فإذا ما مثل بين يديه سفير أجنبي قامت الحيوانات الخرافية، ووقفت الآساد الذهبية، وهزت أذيالها، وزأرت، وغنت الطيور أغاني آلية(28) وكانت هذه السخافات كلها صور مطابقة من مثيلاتها التي كانت في قصر هارون الرشيد ببغداد.

وكان المال الذي ينفق في تزيين القسطنطينية يجمع من الضرائب المفروضة على التجارة ومن الوحدات العسكرية في الدولة. ولكن ما بقي من هذا المال كان يكفي لتزيين عواصم الولايات زينة أقل من زينة العاصمة الكبرى. فقد قامت الأديرة، بعد أن أعاد إليها الثراء، فخمة كثيرة العدد، وعاد إليها ثراؤها: ففي القرن العاشر أنشئ دير لفرا Lavra ودير إفرون Iviron في آثوس Athos وفي القرن الحادي عشر أقيم دير دافني Daphni للراهبات بالقرب من اليوسيس Eleusis. وتعد فسيفساؤه التي لا تكاد تفترق عن الفسيفساء اليونانية والرومانية القديمة أجمل مثل للطراز البيزنطي الأوسط. واشتركت بلاد الكرج، وأرمينية، وآسية الصغرى في هذه الحركة، وأمست مراكز أمامية للفن البيزنطي. واستثارت المباني العامة في إنطاكية إعجاب المسلمين، وأنشئت في بيت المقدس كنيسة الضريح المقدس، ولما يمض على انتصارات هرقل إلا القليل؛ وفي مصر شاد الأقباط المسيحيون قبل الفتح العربي وبعد كنائس ذات قباب متواضعة في حجمها ولكنها مزدانة أجمل زينة فنية بكل ما وصل إلى أهلها من مصر الفرعونية، والبطليموسية، والرومانية، والبيزنطية من حذق في أشغال المعادن، والعاج، والخشب، والنسيج لم ينتقص منه شيء. وأخرج اضطهاد محطمي الصور والتماثيل آلاف الرهبان من الشام، وآسية الصغرى، والقسطنطينية إلى جنوبي إيطاليا حيث بسط عليهم البابوات حمايتهم؛ وبفضل هؤلاء اللاجئين، والتجار الشرقيين ازدهر الطراز المعماري والزخرفي البيزنطي في باري، وأترنتو، وبنفنتو، ونابلي، وروما نفسها. وظلت رافنا يونانية في فنها، وأخرجت في القرن السابع الفسيفساء الضخمة التي نشهدها في سانت أبولينارس St. Appolinaris في كلاس Glasse، وظلت سلانيك بيزنطية، وزينت كنيسة أيا صوفيا بصورة مقبضة للقديسين من الفسيفساء نحيلة كالقديسين الذين صورهم الجريكو El Greco.

وأخرجت النهضة البيزنطية في جميع هذه الأراضي والمدن، كما أخرجت في العاصمة نفسها، سيلاً من الروائع الفنية في الفسيفساء والنقش الدقيق، والفخار، والميناء، والزجاج، والخشب، والعاج، والبرونز، والحديد والجواهر، والأقمشة المنسوجة، والمصبوغة، والمنقوشة، بمهارة يخر بها العالم كله. وكان الفنانون البيزنطيون يصنعون أكواباً من الزجاج الأزرق، نقشت عليها تحت سطحها، أغصان وأوراق أشجار، وطيور، وصور آدمية، وآنية زجاجية، ذات رقاب مطلية بالميناء عليها زخارف عربية الطراز وأزهار؛ وأشكال أخرى من الزجاج بلغت من الدقة حداً جعلها هي خير ما أهداه الأباطرة البيزنطيون إلى رؤساء الدول الأجنبية. وكان أعظم قيمة من هذه الهدايا السابقة ثمين الثياب والشيلان، والحبريات، والجبب الدلماشية التي تبرز مفاخر فن النسيج البيزنطي. وكانت "عباءة شارلمان" في كنيسة متز والحرير الرقيق الذي وجد بآخن Aachen في تابوت ذلك الملك من هذا الطراز. وكان نصف مصدر الفخامة التي تحيط بالإمبراطور البيزنطي، وكثير الرهبة التي ترفع من مقام البطريق، وبعض الأبهة التي تكسو المُخَلص" والعذراء والشهداء في شعائر الكنيسة؛ كان مصدر هذا كله هو الثياب الفخمة التي أنفقت فيها حياة عدد من الصناع، وازدانت بعض القرون الطوال، وخير ما أخرجه البر والبحر من أصباغ. واحتفظ صائغو الحلي الذهبية وقاطعو الجواهر بذروة مجدهم الفني حتى القرن الثالث عشر، ولا تزال كنوز كنيسة القديس مرقس بالبندقية مليئة بثمار فنهم. ومن مخلفات ذلك العصر الفسيفساء الواقعية النزعة المدهشة الصنع التي وجدت في كنيسة القديس لوقا والمحفوظة في كلية الدراسات العليا Goll(ge de Hautes Etudes في باريس، ورأس المسيح المتوهج المنقوش في فسيفساء ديسيز في كنيسة أيا صوفيا؛ والفسيفساء الكبيرة الحجم التي تغطي أربعين ياردة مربعة، والتي استخرجت في اسطنبول عام 1935 من خرائب قصر الأباطرة المقدونيين(29). ولما خفَّت حدة محطمي الأصنام، وفي الأماكن التي لم تصل إليها حركتهم، غذت الكنيسة تقوى الناس بالصور المنقوشة على الخشب بالطلاء المائي الفردي، والتي تكتنفها أحياناً أطر منقوشة بالميناء أو الجواهر. وليس في تاريخ العالم كله صور دقيقة تفوق صورة "رؤية حزقيال" التي يحتويها مجلد من عظات جريجوري نزيانزين محفوظ في المكتبة الأهلية بباريس(30)، أو الصور الإيضاحية الأربعمائة التي يحتويها مخطوط "المناجاة" (Monologus) المحفوظ في الفاتكان (حوالي عام 1000)، أو صور داود في كتاب التراتيل المحفوظ بباريس (حوالي عام 900). نعم إن هذه الصور لا تراعي فن المنظور، ولا تعني بإبراز الأشكال بطريق الضوء والظل، ولكنها تعوض هذا بالتلوين القوي البراق، وبالخيال الحي، وبالعلم الحديث بأصول التشريح البشري والحيواني، وبالعدد الجم المؤتلف من الوحش والطير، والنبات والزهر، تتخلل القديسين والأرباب، وبالفساقي، والعقود والإيوانات-فيها طيور تنقر الفاكهة، ودببة ترقص، ووعول وعجول تتشابك قرونها في النضال، وفهد يرفع ساقه الخبيثة ليمثل بها الحرف الأول من جملة دينية(31).

ولقد عرف صانعو الفخار البيزنطيون من زمن بعيد فن التطعيم بالميناء، وذلك بأن يضعوا على الطين المحروق والقاعد المعدني أكسيداً معدنياً إذا أدخل النار امتزج بالقاعد وأكسبه بريقاً ووقاية. وكان هذا الفن قد وصل من الشرق إلى بلاد اليونان القديمة، حيث اختفى في القرن الثالث قبل الميلاد، ثم عاد إلى الظهور في القرن الثالث بعده. وكانت هذه الفترة البيزنطية الوسطى غنية بأعمال الميناء من رصائع للصور، ومن صور للقديسين، وصلبان، ومن علب لحفظ المخلفات، وأكواب، وكؤوس للقرابين، وجلود كتب، وزينات للسروج وغيرها من العدد. وقد أخذت بيزنطية من فارس الساسانية منذ ذلك العهد البعيد وهو القرن السادس فن الميناء المقسم: وذلك بأن تصب العجينة الملونة في السطح المقسم إلى مساحات محاطة بأسلاك رفيعة أو قطع رقيقة من المعدن؛ وهذه الحواجز الملتحمة بقاعدة معدنية تكون النقش الزخرفي. ومن أعظم الأمثلة لفن الميناء المقسم وأوسعها شهرة علبة لحفظ المخلفات صنعت (حوالي عام 945) لقسطنطين برفيروجنتس محفوظة الآن في لمبورج Lemburg وهي بيزنطية بنوع خاص في دقة صنعها وفي أمانة صانعها، وفي نقوشها الزخرفية الموفورة.

وليس ثمة من الفنون تغلب عليه الصبغة الدينية أكثر مما تغلب على الفن البيزنطي وليس أدل على هذا من أن مجلساً للكنائس عقد في عام 787 قد وضع القانون القائل بأن: على المصورين أن ينفذوا، وعلى رجال الدين أن يقرروا، الموضوعات ويشرفوا على عمليات تنفيذها"(32). ومن ثم كانت النزعة الجدية المكتئبة لهذا الفن، وضيق دائرة موضوعاته، والتكرار الممل في أساليبه وأنماطه. وندرة مغامراته في عالم الواقعية، والفكاهة، والحياة الشعبية؛ ولم يكن لهذا الفن نظير في تنميقه ولألائه، ولكنه لم يبلغ في يوم من الأيام ما بلغه الفن القوطي الناضج من تنوع وقوة، ومن نزعة دنيوية شائنة. ومن أجل هذا النقص عنه تزيد دهشتنا من انتصاراته وتأثيره، فقد كان العالم المسيحي على بكرة أبيه من كيف إلى فارس يقر له بالزعامة؛ ويتملقه بتقليده؛ وحتى الصين نفسها كانت بين الفينة والفينة تنحني له إجلالاً وتكريماً. ولقد كان في أشكال السورية نصيب من الفن الفارسي في تكوين موضوعات الفن الإسلامي في العمارة، والفسيفساء، والزخرف. وشكلت البندقية فنها على صورة فن القسطنطينية كما حذا الفن في كنيسة القديس مرقس حذو كنيسة الرسل في تلك المدينة، وظهر فن العمارة البيزنطية في فرنسا، ثم اتخذ طريقه نحو الشمال حتى بلغ آخن. وكانت المخطوطات المزخرفة في كل مكان شاهداً على ما للفن البيزنطي من أثر فيه، وأخذ البلغار عن بيزنطية دينها وزخارفها؛ ولما اعتنق فلادمير مذهب الكنيسة المسيحية اليونانية فتح بذلك أكثر من عشر سبل واسعة دخل منها الفن البيزنطي إلى الحياة الروسية.

وظلت الحضارة البيزنطية من القرن الخامس إلى القرن الثاني عشر هي السائدة في أوربا المسيحية في النظم الإدارية والدبلوماسية، وجباية الأموال، وفي الأخلاق، والثقافة، والفن. وأكبر الظن أنه لم يوجد قبل أيامها مجتمع يماثلها في فخامة زينتها، كما لم يوجد قبل أيامها دين به من المظاهر الفخمة مثل ما في دينها. وكانت هذه الحضارة، كما كانت كل حضارة أخرى. تعتمد على كدح رقيق الأرض والعبيد، وكان ما في محاريبها وقصورها من ذهب ورخام هو عرق العمال الذين يكدحون في الأرض قد تبدل وتجسم. وكانت ثقافتها، ككل ثقافة سواها في زمانها، قاسية؛ وكان في وسع الرجل الذي يخر راكعاً أمام صورة العذراء أن يذبح أطفال موريق أمام عيني أبيهم. وكان في هذه الثقافة شيء من الضحالة، وكان عليها طلاء من الرقة الأرستقراطية يغطي بناء ضخماً من الخرافات الشعبية، ومن التعصب، ومن الجهل يتصف به غير الأميين، وكان نصف هذه الثقافة يوجه إلى تأييد ذلك الجهل. ولم يكن يسمح لعلم أو فن ينمو أو فلسفة أن تنشأ إذا كانت تتعارض مع هذا الجهل، وظلت الحضارة اليونانية مدى ألف عام لا تضيف شيئاً جديداً إلى علم الإنسان بالعالم. فليس ثمة كتاب في الأدب البيزنطي أثار خيال بني الإنسان، أو خلده على مدى الزمان. ذلك أن العقل اليوناني في العصر الوسيط قد أثقله عبء التراث العظيم الذي انحدر إليه من الأيام الخالية، وسجن في المتاهة الدينية التي فقدت فيها بلاد اليونان المحتضرة مسيحية المسيح، فعجز عن أن ينهض فينظر نظرة واقعية ناضجة إلى الإنسان وإلى العالم. وسبب هذا أنه مزق المسيحية شيعاً لاختلافه على حرف واحد من حروف الهجاء أو على كلمة واحدة، وحطم الإمبراطورية الرومانية الشرقية لأنه رأى في كل خروج على الدين خيانة للدولة.


سبب طول عمر الحضارة البيزنطية

لكننا لا يزال يدهشنا أن هذه الحضارة قد عمرت ذلك الزمن الطويل. ترى ما هي الموارد الخفية، وما هي القوة الحيوية الكامنة، التي أمكنتها من أن تبقى حية بعد أن انتصر عليها الفرس في آسية، وبعد أن انتزع منها المسلمون بلاد الشام، ومصر، وصقلية، وأسبانيا؟ لعل العقيدة الدينية التي أضعفت الدفاع عن الدولة باعتماد أهلها على مخلفات القديسين ومعجزاتهم قد ثبت بعض النظام والتأديب في شعب ديدنه الصبر، وإن انتابه في فترات نوبات من الاضطراب، وأحاطت الأباطرة والدولة بهالة من القداسة يرهبها التبديل. وقد أكسبتها البيروقراطية الخالدة بهيئتها الجامعة استمراراً واستقراراً لم تنل منهما جميع الحروب والثورات، وحافظت على السلام في الداخل، ونظمت اقتصادياتها، وجبيت الضرائب التي أمكنت الإمبراطورية من أن توسع رقعتها مرة أخرى حتى كادت تبلغ ما بلغته أيام جستنيان. وأكبر الظن أن موارد الخلافة الإسلامية كانت أقل من موارد الدولة البيزنطية وإن كانت أملاك الخلفاء أوسع رقعة من أملاك الأباطرة، ولقد كان ضعف نظام الحكومة الإسلامية، وقصور وسائل الاتصال ودولاب الإدارة عن الوفاء بحاجات الدولة، سبباً في تفككها بعد ثلاثة قرون من قيامها، على حين أن الإمبراطورية البيزنطية عاشت ألف عام.

انجازات الحضارة البيزنطية

وقد قامت الحضارة البيزنطية بثلاث مهام حيوية: أولها أنها ظلت ألف عام حصناً حصيناً وفي أوربا هجمات الفرس والدولة الإسلامية في المشرق، وثانيهما أنها احتفظت في أمانة بالنصوص التي أعيد فيها تسجيل آداب اليونان الأقدمين وعلومهم وفلسفتهم، وأسلمتها كاملة إلى أوربا حيث بقيت حتى نهبها الصليبيون في عام 1204. وجاء الرهبان الفارون من وجه محطمي الصور والتماثيل المقدسة بالمخطوطات اليونانية إلى جنوبي إيطاليا، وأعادوا إلى هذه البلاد علمها القديم بالآداب اليونانية؛ وغادر الأساتذة اليونان مدينة القسطنطينية فراراً من المسلمين والصليبيين على السواء، واستقروا أحياناً في إيطاليا، وكانوا هم الحاملين لبذور الآداب القديمة؛ وهكذا أخذت إيطاليا عاماً بعد عام تستكشف بلاد اليونان من جديد، وظل الناس يغترفون من ينبوع الحضارة الذهنية حتى ثملوا. وثالثها وآخرها أن بيزنطية هي التي أخرجت البلغار والصقالبة من دياجير الهمجية إلى المسيحية، وصمت قوة الجسم الصقلبي التي لا حد لها إلى روح أوربا وحياتها ومصائرها.

المصادر

  • ديورانت, ول; ديورانت, أرييل. قصة الحضارة. ترجمة بقيادة زكي نجيب محمود.