العدالة الانتقالية

احدى جلسات محاكمات نورمبرگ التي عقدت لمقاضاة قادة ألمانيا لأعمالهم العدوانية أثناء الحرب العالمية الثانية. أولى مراحل تطبيق العدالة الانتقالية.

العدالة الانتقالية Transitional justice، هو مفهوم يشير إلى مجموعة التدابير القضائية وغير القضائية التي قامت بتطبيقها دول مختلفة من أجل معالجة ما ورثته من إنتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان. وتتضمّن هذه التدابير الملاحقات القضائية، ولجان الحقيقة، وبرامج جبر الضرر وأشكال متنوّعة من إصلاح المؤسسات. [1] ويمكن اختصاره في التعبير الشائع "عفا الله عما سلف."

وليست العدالة الإنتقالية نوعاً خاصاً من العدالة، إنّما مقاربة لتحقيق العدالة في فترات الإنتقال من النزاع و/أو قمع الدولة. ومن خلال محاولة تحقيق المحاسبة والتعويض عن الضحايا، تقدّم العدالة الإنتقالية اعترافاً بحقوق الضحايا وتشجّع الثقة المدنية، وتقوّي سيادة القانون والديمقراطية.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

طبيعة العدالة الانتقالية

لجنة الحقيقة والمصالحة، جنوب أفريقيا، 1996.

يعتبر مفهوم العدالة الانتقالية من المفاهيم التي ما تزال غامضة النسبة للكثيرين، لاسيما فيما يتعلق المقطع الثاني من المصطلح؛ أي الانتقالية إذ يثور التساؤل هل توجد عدالة انتقالية؟ وما الفرق بينها وبين العدالة التقليدية المرتبطة؟

وهنا لابد من توضيح أن العدالة الانتقالية تختلف عن العدالة التقليدية في كونها تُعنى بالفترات الانتقالية مثل: الانتقال من حالة نزاع داخلي مسلح إلى حالة السلم، أو الانتقال من حكم سياسي تسلطي إلى حالة الحكم الديمقراطي، أو التحرر من احتلال أجنبي باستعادة أو تأسيس حكم محلي، وكل هذه المراحل تواكبها في العادة بعض الإجراءات الإصلاحية الضرورية وسعي لجبر الأضرار لضحايا الانتهاكات الخطيرة.[2]

أي أن مفهوم العدالة الانتقالية يعني الاستجابة للانتهاكات المنهجية أو الواسعة النطاق لحقوق الإنسان، بهدف تحقيق الاعتراف الواجب بما كابده الضحايا من انتهاكات، وتعزيز إمكانيات تحقيق السلام والمصالحة والديمقراطية. أي أنها تكييف للعدالة على النحو الذي يلائم مجتمعات تخوض مرحلة من التحولات في أعقاب حقبة من تفشي انتهاكات حقوق الإنسان؛ سواء حدثت هذه التحولات فجأة أو على مدى عقود طويلةبعبارة أخرى، يربط مفهوم العدالة الانتقالية بين مفهومين هما العدالة والانتقال، بحيث يعني: تحقيق العدالة أثناء المرحلة الانتقالية التي تمر بها دولة من الدول. [3]

وعلى الرغم من أن المفهوم ظهر في أعقاب الحرب العالمية الثانية، إلا أن حضوره تكثف بشكل خاص منذ سبعينات القرن العشرين، فمنذ ذلك الحين شهد العالم أكثر من 30 تجربة للعدالة الانتقالية من أهمها تجربة تشيلي والأرجنتين وبيرو والسلفادور ورواندا وسيراليون وجنوب إفريقيا وتيمور الشرقية وصربيا واليونان.

رغم حداثة فكرة العدالة الانتقالية نسبيّا، إلا أن الربع الأخير من القرن العشرين قد شهد تجارب مهمة في مجال العدالة الانتقالية في مختلف أنحاء العالم. وفي هذا الصدد، بدأ موضوع العدالة الانتقالية، يطرح نفسه خلال السنوات الأخيرة، وبدرجات متفاوتة في السياقات الوطنية لبعض البلدان العربية. وقد تباينت صيغ طرح الموضوع، سواء في شكل دعوات رسمية لبعض صناع القرار السياسي، في سياقات تثبيت السلم المدني وإنهاء النزاع المسلح أو في صيغة دعوات رسمية ذات صلة بحاجيات تعزيز الانتقال الديمقراطي عن طريق المصالحات الوطنية. كما تباينت صيغ طرح موضوع العدالة الانتقالية، بالنسبة إلى الضحايا والجمعيات المدنية المرتبطة أو المتفاعلة معه، من خلال أشكال متعددة، هيمنت عليها، بصفة رئيسة الدعوات الرامية إلى الكشف عن الحقيقة وعدم الإفلات من العقاب. [4]

وهكذا، طرح موضوع العدالة الانتقالية بصفة مباشرة، من قبل هيئات وجهات رسمية في إطار ديناميات تثبيت السلم المدني وإقرار المصالحة الوطنية في كل من الجزائر والسودان والعراق. كما بدأ الموضوع يفرض نفسه في سياقات ذات صلة بتعزيز الديمقراطية وتثبيت الوحدة الوطنية في كل من البحرين وموريتانيا. وطرح الموضوع كإرهاصات، وكدعوات للتفكير، في سياقات التصدي لإشكالات الدمقرطة والتفكير الاستراتيجي المرتبط بها، في كل من لبنان واليمن. وغير بعيد عن السياقات السالفة الذكر، بدأ الموضوع يطرح كإشكال للتفكير - بسبب "الإغراء الأكاديمي" ربما- بالنسبة لبعض النخب السياسية والحقوقية المنشغلة بالقضايا الإستراتيجية للإصلاح السياسي في كل من مصر وسوريا والأردن.


تاريخ العدالة الانتقالية

المرحلة الأولى

المرحلة الأولى، جاءت في أعقاب الحرب العالمية الثانية مباشرة، وتمثلت بشكل أساسي في محاكمات نورمبرگ، تمحورت العدالة الانتقالية خلال هذه المرحلة حول فكرة التجريم والمحاكمات الدولية المترتبة عليها. وتمثلت أهم ميكانيزمات عملها في اتفاقية الإبادة الجماعية التي تم إقرارها، وإرساء سوابق لم يعد من الممكن بعدها تبرير انتهاك حقوق الإنسان باسم الاستجابة للأوامر. في هذه المرحلة، شكل مرتكبو انتهاكات حقوق الإنسان مركز الاهتمام في مساع تحقيق العدالة.

المرحلة الثانية

وأثناء الحرب الباردة، ركدت جهود تحقيق العدالة الانتقالية واستمر ذلك حتى المرحلة الثانية والتي حدثت بعد انهيار الاتحاد السوڤيتي والتغيرات السياسية المختلفة في دول أوروبا الشرقية وألمانيا وتشيكوسلوفاكيا، وفي هذه المرحلة تم تطبيق مفهوم مُسيس وذا طابع محلي أو وطني من العدالة الاجتماعية ارتبط بالهياكل الرسمية للدولة، وهنا تجاوزت فكرة المحاكمات وتضمنت آليات أخرى مثل لجان الحقيقة، والتعويضات، أي إنه خلال هذه المرحلة صارت العدالة الانتقالية بمثابة حوار وطني بين الجناة والضحايا، وخلال هذه المرحلة برزت تجربة لجان الحقيقة في الأرجنتين وعدد من دول أمريكا اللاتينية وجنوب أفريقيا.

لقد تطور المفهوم خلال الفترات الانتقالية التالية لحكم الدكتاتوريات العسكرية في أمريكا اللاتينية، جنوب أفريقيا بعد نظام الفصل العنصري وبعض الدول الأفريقية ودول شرق ووسط أوروبا في أعقاب الحرب الباردة. كان هناك توافق دولي على الحاجة لإجراءات العدالة الانتقالية للتعامل مع انتهاكات حقوق الإنسان الماضية، وهذا ما تزامن مع أهداف الدول والهيئات المانحة التي تطلبت وجود تطبيقا محكما لحكم القانون بما يسمح بالتنمية الاقتصادية.

المرحلة الثالثة

بعبارة أخرى، أعطت الموجة الثالثة للديمقراطية في أواخر الثمانينات وأوائل التسعينيات زخما وحافزا جديدا للعدالة الانتقالية، انتقل به من كونه مفهوما رابطا بين المرحلة الانتقالية للتحول الديمقراطي والعدالة (كما نشأ في أواخر الأربعينات)، إلى فضاء أوسع بحيث أضحى هذا المفهوم يتضمن منظورا أوسع يقوم على إعادة تقييم شامل للوصول بمجتمع ما في المرحلة الانتقالية إلى موقع آخر تعد الديمقراطية أحد أهدافه الأساسية.

ثم كانت البداية الحقيقية لما يمكن أن يسمي تطبيق للعدالة الانتقالية، في محاكمات حقوق الإنسان في اليونان في أواسط السبعينيات من القرن الماضي، وبعدها في المتابعات للحكم العسكري في الأرجنتين وتشيلي من خلال لجنتي تقصي الحقائق في الأرجنتين عام 1983 وتشيلي عام 1990 ومن بعد ذلك في العديد من دول القارة اللاتينية.[5]

ويعد إنشاء المحكمة الجنائية الدولية الخاصة بيوغسلافيا السابقة في 1993 بداية لمشهد سياسي جديد شمل المرحلة الثالثة للعدالة الانتقالية، إذ أدى تكرر النزاعات إلى تكرر حالات تطبيق تطبيق العدالة الانتقالية، كما ارتفعت الأصوات المنادية بالحد من الأخذ بمبدأ الحصانة ليصبح الاستثناء وليس القاعدة، وفي هذا السياق تم إنشاء المحكمة الجنائية الدولية الخاصة برواندا في 1994، ثم في 1998 تم إقرارا النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية. وقد أثرت هذه التطورات في الكثير من اتفاقيات السلام التي عقدت بعد ذلك، والتي أشارت إلى المحاكمات الدولية باعتبارها جزءا من عملية التسوية السلمية؛ من ذلك اتفاقية أروشا المتعلقة ببوروندي، واتفاقية ليناس-ماركوسيس Linas-Marcoussis Agreement الخاصة بساحل العاج. وفي هذه المرحلة، التي لا تزال مستمرة حتى الآن تتم الإحالة دائما إلى القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان، بالإضافة إلى العودة لاستلهام نموذج محاكمات نورمبرگ، لاسيما مع دخول ميثاق روما الخاص بالمحكمة الجنائية الدولية لحيز التنفيذ في 2004 وإقرار وجود المحكمة كآلية دائمة لمحاسبة مرتكبي الانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان.

أهمية العدالة الانتقالية

على أثر انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، يحقّ للضحايا أن يروا معاقبة المرتكبين ومعرفة الحقيقة والحصول على تعويضات.

ولأنّ الإنتهاكات المنتظمة لحقوق الإنسان لا تؤثّر على الضحايا المباشرين وحسب، بل على المجتمع ككلّ، فمن واجب الدول أن تضمن، بالإضافة إلى الإيفاء بهذه الموجبات، عدم تكرار تلك الإنتهاكات، وبذلك واجب خاص يقضي بإصلاح المؤسّسات التي إما كان لها يد في هذه الإنتهاكات أو كانت عاجزة عن تفاديها.

وعلى الأرجح أنّ تاريخاً حافلاً بالإنتهاكات الجسيمة التي لم تُعالج سيؤدي إلى انقسامات اجتماعية وسيولّد غياب الثقة بين المجموعات وفي مؤسّسات الدولة، فضلاً عن عرقلة الأمن والأهداف الإنمائية أو إبطاء تحقيقهما. كما أنّه سيطرح تساؤلات بشأن الإلتزام بسيادة القانون وقد يؤول في نهاية المطاف إلى حلقة مفرغة من العنف في أشكال شتّى.

أهدافها

ليست مختلف العناصر المكوَّنة لسياسة العدالة الإنتقالية عبارةً عن أجزاء في لائحة عشوائية، إنّما هي تتصل الواحدة بالأخرى عمليًّا ونظريًّا. وأبرز هذه العناصر الأساسية هي:

  • الملاحقات القضائية، لاسيّما تلك التي تطال المرتكبين الذين يُعتَبَرون أكثر من يتحمّل المسؤولية.
  • جبر الضرر، الذي تعترف الحكومات عبره بالأضرار المتكبَّدة وتتّخذ خطوات لمعالجتها. وغالباً ما تتضمّن هذه المبادرات عناصر مادية (كالمدفوعات النقدية أو الخدمات الصحيّة على سبيل المثال) فضلاً عن نواحٍ رمزية (كالإعتذار العلني أو إحياء يوم الذكرى).
  • إصلاح المؤسسات ويشمل مؤسسات الدولة القمعية على غرار القوى المسلّحة، والشرطة والمحاكم، بغية تفكيك – بالوسائل المناسبة – آلية الإنتهاكات البنيوية وتفادي تكرار الإنتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان والإفلات من العقاب.
  • لجان الحقيقة أو وسائل أخرى للتحقيق في أنماط الإنتهاكات المنتظمة والتبليغ عنها، وللتوصية بإجراء تعديلات وللمساعدة على فهم الأسباب الكامنة وراء الإنتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان.

وهذه ليست بلائحة مغلقة. فقد أضافت دول مختلفة تدابير أخرى. فتخليد الذكرى، مثلاً، والجهود العديدة للحفاظ على ذكرى الضحايا من خلال إنشاء متاحف، وإقامة نصب تذكارية وغيرها من المبادرات الرمزية مثل إعادة تسمية الأماكن العامة، وغيرها، قد باتت جزءاً مهماً من العدالة الإنتقالية في معظم أنحاء العالم.

ومع أنّ تدابير العدالة الانتقالية ترتكز على موجبات قانونية وأخلاقية متينة، إلّا أنّ هامش الاستيفاء بهذه الموجبات كبير، وبذلك ما من معادلة تناسب السياقات كافة.

استراتيجيات وأشكال العدالة الانتقالية

تشير التطبيقات الفعلية للمفهوم إلى أن أي برنامج لتحقيق العدالة الانتقالية عادة ما يهدف لتحقيق مجموعة من الأهداف تشمل: وقف الانتهاكات المستمرة لحقوق الإنسان، التحقيق في الجرائم الماضية؛ تحديد المسئولين عن انتهاكات حقوق الإنسان ومعاقبتهم، تعويض الضحايا؛ منع وقوع انتهاكات مستقبلية، الحفاظ على السلام الدائم، الترويج للمصالحة الفردية والوطنية.

ولتحقيق تلك الأهداف، تتبع العديد من الاستراتيجيات بعضها ذي صبغة قضائية وبعضها لا يحمل هذه الصبغة، هي:

الدعاوى الجنائية: وتشمل هذه تحقيقات قضائية مع المسئولين عن ارتكاب انتهاكات حقوق الإنسان؛ وكثيراً ما يركز المدعون تحقيقاتهم على من يعتقد أنهم يتحملون القدر الأكبر من المسؤولية عن الانتهاكات الجسيمة أو المنهجية. ويمكن القول إن أول إعمال لهذه الآلية كان مع محاكمات نورمبرج التي أجريت للنازيين في ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية. وهي قد تتم على المستوى أو الإقليمي أو الدولي أو من قبل بعض الأجهزة الخاصة مثل المحكمة الخاصة بسيراليون.

لجان الحقيقة: وهي هيئات غير قضائية تجري تحقيقات بشأن الانتهاكات التي وقعت في الماضي القريب، وإصدار تقارير وتوصيات بشأن سبل معالجة الانتهاكات والترويج للمصالحة، وتعويض الضحايا وإحياء ذكراهم، وتقديم مقترحات لمنع تكرر الانتهاكات مستقبلا.

برامج التعويض أو جبر الضرر: وهذه مبادرات تدعمها الدولة، وتسهم في جبر الأضرار المادية والمعنوية المترتبة على انتهاكات الماضي؛ وتقوم عادة بتوزيع خليط من التعويضات المادية والرمزية على الضحايا، وقد تشمل هذه التعويضات المالية والاعتذارات الرسمية.

الإصلاح المؤسسي: وتستهدف إصلاح المؤسسات التي لعبت دورا في هذه الانتهاكات (غالبا القطاع الأمني والمؤسسات العسكرية والشرطية والقضائية.. وغيرها)، وإلى جانب تطهير هذه الأجهزة من المسئولين غير الأكفاء والفاسدينِ، غالبا ما تشمل هذه الجهود تعديلات تشريعية وأحيانا دستورية.

كما يشير الواقع إلى وجود آليات أخرى من قبيل جهود تخليد الذكرى وتشمل إقامة المتاحف والنصب التذكارية التي تحفظ الذكرى العامة للضحايا، وترفع مستوى الوعي الأخلاقي بشأن جرائم الماضي.

ويمكن أن تتم هذه الآليات على المستوى الوطني بشكل كامل، أو على المستوى الدولي أو على نحو مختلط أو هجين مثل الترتيبات الخاصة في سيراليون وتيمور الشرقية وكوسوفا، إذ يعد إنشاء الاستراتيجيات المختلطة أو الهجينة للعدالة الانتقالية استجابة منطقية للمشكلات التي تواجه الاستراتيجيات ذات الطابع الدولي مثل البعد الجغرافي والانفصال القيمي عن المجتمعات المعنية، ومن ثم فالاستراتيجيات الهجينة من المتوقع أن تكون أكثر قدرة على تحقيق المصالحة الوطنية والسلام الاجتماعي، لاسيما في حال اعتمادها على مجموعة من القيم الاجتماعية والثقافية قادرة على استيعاب الاختلافات في روايات الأطراف المختلفة للأعمال العدائية التي تكون هذه المجتمعات قد شهدتها.

من ناحية أخرى، لا تعمل آليات ومناهج العدالة الانتقالية بصورة منفصلة عن بعضها البعض إنما تعمل وفق رؤية تكاملية فيما بينها وقد تكون مكملة لبعضها البعض؛ فمثلا قد يعتبر البعض إن قول الحقيقة دون تعويضات خطوة بلا معنى، كما إن منح تعويضات مادية دون عمليات مكملة لقول الحقيقة والمكاشفة سيكون بنظر الضحايا محاولة لشراء صمتهم. كما إن تكامل عملية التعويض مع المحاكمات يمكن أن توفر جبرا للأضرار أكثر شمولا مما توفره كل على انفراد. وقد تحتاج التعويضات من جانب آخر إلي دعمها بواسطة الإصلاحات المؤسسية لإعلان الالتزام الرسمي بمراجعة الهياكل التي ساندت أو ارتكبت انتهاكات حقوق الإنسان.مع الأخذ في الحسبان إن النصب التذكارية غالباً ما تهدف إلي التعويض الرمزي والجبر المعنوي للأضرار.

العدالة الانتقالية في القانون الدولي

تنتمي دراسات العدالة الانتقالية بشكل تقليدي إلى حقل القانون الدولي لحقوق الإنسان، ومع التطور في تطبيقات المفهوم تم توسيع مجالات دراسة المفهوم لتشمل العديد من الآليات والأهداف تنتمي للعديد من المجالات العلمية والبحثية. والآن يمتد الاهتمام بالعدالة الانتقالية عبر العديد من المجالات العلمية لاسيما مع إسهامات علماء القانون والسياسية والاجتماع والأنثروبولوجي والمؤرخين، ورجال دين، والصحفيين ونشطاء حقوق الإنسان، وتعكس هذه الممارسات والأجندات البحثية التطورات المستمرة في مفهوم العدالة الانتقالية، والظواهر المرتبطة به من قبيل جهود تحقيق العدالة، إشكالية المسؤولية/ الحصانة، ولجان الحقيقة، وجهود إعادة حكم القانون.

وبصفة عامة، ينقسم المفكرون والفلاسفة المعنيون بالعدالة الانتقالية (على اختلاف تخصصاتهم) حول اثنين من الروافد الثقافية؛ الأول الفكر الليبرالي لحقوق الإنسان، أما الثاني فهو الرافد الديني. ورغم تباينهما، يشترك الرافدان في العديد من الفرضيات والاستنتاجات، وإن كان لكل منهما نقاط تميزه بل وتوجد خلافات بينية في كل رافد.

يقوم النهج الليبرالي للعدالة الانتقالية على الميراث الفكري لكل من جون لوك وإيمانويل كانط وجون ستيوارت ميل الداعي إلى المساواة والحرية، فضلا عن فكر جون رولز الداعي لعدالة توزيع الموارد الاقتصادية. وفيما يخص جرائم الماضي، يميز رواد الرافد الليبرالي ما بين نظريتين، أولاهما تركز على معاقبة مرتكبي الجرائم، في حين تركز الثانية على إعادة تأهيل الضحايا، والردع، وتحسين النظام الاجتماعي بصفة عامة.

أما الروافد الدينية للعدالة الانتقالية، فتعد "حقوق الإنسان" هدفا لها، ولكنه ليس المفهوم الأساسي المحرك، ولكن تعد "المصالحة" هي الفكرة التي تتلاقى حولها كل الروافد الدينية، وهو ما يعد أحد التطورات غير المتوقعة في الخطاب المتعلق بالعدالة الانتقالية. وإن كانت لتلك الروافد اختلافاتها البينية أيضا، فمثلا تعد حقوق الإنسان فكرة محورية بالنسبة للفكر الكاثوليكي وبعض الطوائف البروتستانتية واليهودية، إلا إن الاهتمام بها يقل في الإسلام والبوذية والهندوسية.


يتناول حقل العدالة الانتقالية، عملية إعادة النظر في الأوضاع السياسية والقانونية والفلسفية في بلد ما في أعقاب حرب ما. وهو يثير جدليات كثيرة أهمها التعارض بين الرغبة في تحقيق الهدوء بعد الحرب والرغبة في محاكمة منتهكي حقوق الإنسان، والحاجة لإرساء قواعد ذات مصداقية لمحاكمة انتهاكات الماضي في مقابل القيود على عمل النظام العقابي والجنائي والقانون الدولي، فضلا عن إمكانية تحقيق المغفرة في الحياة السياسية، وعلى ذلك يمكن الدفع بأن العدالة الانتقالية نتاج للخطاب الدولي حول حقوق الإنسان أو على الأقل تشكل جزءا منه.

ويلاحظ من متابعة الخطاب المتعلق بالعدالة الانتقالية أن هناك خارطة للتفاعلات بين هذا المفهوم، ومجموعة من المفاهيم التي تتقاطع معه في مجالات العمل، ويجدر التعرض لها على النحو التالي:

العدالة الانتقالية وبناء السلام: يستخدم "بناء السلام" كمفهوم شامل يتضمن مجموعة من الأنشطة أو الإجراءات المتعلقة بخلق الشروط الضرورية لتحقيق السلام المستدام في المجتمعات محل الصراعات، وتحديد ودعم الهياكل التي تسهم في تقوية وترسيخ السلم من أجل تجنب الارتداد إلى حالة الصراع. ومن أهم الإجراءات التي يشملها: إعادة توطين اللاجئين والمشردين داخلياً، والتسريح وإعادة إدماج المحاربين السابقين، ودعم عملية التطور الديموقراطى، وتعزيز التنمية الاجتماعية والاقتصادية، وإعادة تأسيس حكم القانون.

وعلى هذا الأساس، يمكن القول إن المساحات المشتركة بين المفهومين تشمل برامج استعادة حكم الواقع فإن عدد كبير من عمليات بناء السلام تتعامل مع نشاطات العدالة الانتقالية، مثل الإدارات الدولية لبعض الأقاليم مثل UNMIK في كوسوفا وUNTAET في تيمور لسته إذ تولت تلك البعثات مسؤولية السلطات القضائية، وإدارات السجن والشرطة. كذلك بعثات الأمم المتحدة في السلفادور وجواتيمالا وليبريا وهايتي والتي تولت مهام دعم حكم القانون وحقوق الإنسان.

العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية: يرجع تعبير"المصالحة الوطنية" إلى الزعيم الفرنسي التاريخي شارل ديجول، وارتبط بشكل أساسي بضرورة تحمل مسؤولية محو ديون وجرائم الماضي التي وقعت تحت الاحتلال أو إبان حرب الجزائر، كما تحدث الرئيس الفرنسي الأسبق ميتران عن هذا المفهوم باعتباره ضامن الوحدة الوطنية. بعد ذلك استخدم مانديلا هذا المفهوم في جنوب أفريقيا عندما كان ما يزال قابعاً في السجن، إذ رأى أن من واجبه أن يضطلع بنفسه بقرار التفاوض حول مبدأ إجراء العفو العام، الذي سيتبع أولاً عودة منفيي المؤتمر الوطني الإفريقي ويطمح إلى مصالحة وطنية، من دونها سيكون البلد عرضةً لمزيد من الاحتراق وإراقة الدماء التي سيقف وراءها الانتقام بكل تأكيد. وتشمل المصالحة الوطنية الإجراءات والعمليات التي تكون ضرورية لإعادة بناء الأمة على أسس شرعية قانونية وتعددية وديمقراطية في الوقت ذاته. وبذا يمكن القول إن المصالحة هي أحد أهداف العدالة الانتقالية، بل هي في الواقع شكل من أشكال العدالة الانتقالية.

العدالة الانتقالية والنوع الاجتماعي: يتم الربط بين هذين المفهومين بهدف تصميم وتطوير عمليات العدالة الانتقالية بحيث تخاطب انتهاكات حقوق الإنسان القائمة على النوع الاجتماعي خلال فترات الصراع العنيف أو الحكم الاستبدادي، خاصة وأن المرأة عادة ما تكون أكثر عرضة للانتهاكات، كما إن الإساءات الموجهة للمرأة أكثر عرضة للتجاهل والاستهانة بها في إطار المؤسسات السائدة. فغالبا ما يتم انتقاد العديد من آليات العدالة الانتقالية لأنها لم تأخذ بالنوع الاجتماعي خاصة في بداياتها، لاسيما مع مساهمة بعض التقاليد الاجتماعية والبنى الفكرية المحافظة والتشريعات الخصوصية في مزيد عرقلة مبادرات العدالة الانتقالية المرتبطة بالنوع في المجتمعات المعنية، لاسيما الدول العربية.

في هذا السياق غالبا ما تدعو مؤسسات المجتمع المدني إلى إعطاء المزيد من الانتباه لوضعية النساء في عمليات العدالة الانتقالية، ويصبح السؤال هو كيف يمكن لإجراءات العدالة الانتقالية أن تمكن النساء، وأن تصحح الأوضاع التمييزية ضدهن في مجتمع ما؟ وهنا تتم الإشارة لحالة سيراليون للتذكير بأنه من الممكن أن يتم تصميم استراتيجيات العدالة الانتقالية بحيث تتعامل مع المشكلات الاجتماعية المختلفة ومنها عدم المساواة بين الرجل والمرأة بشكل ناجح.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

العدالة الانتقالية في العالم

جنوب أفريقيا

رسم كاريكاتيري يوضح اخفاق لجان الحقيقة والمصالحة في جنوب أفريقيا.
دزموند توتو، رئيس لجنة الحقيقة والمصالحة.

بدأت تجربة العدالة الانتقالية في جنوب أفريقيا في سياق التحضير لنهاية نظام التمييز العنصري، وأخذت شكل محاكمات شعبية أطلق عليها لجان الحقيقة والمصالحة، عهد إليها بإماطة اللثام عن التجاوزات والجرائم وإنصاف الضحايا وصولًا إلى تسوية غير جزائية للملفات العالقة. في البداية، نجحت التجربة بصفة خارقة في جنوب أفريقيا.[6] وأدى إطلاق سراح نلسون مانديلا عام 1990 بعدما قضى 27 سنة في السجن، إلى مفاوضات بين حكومة جنوب أفريقيا العنصرية والمؤتمر الوطني الأفريقي وإلى عقد إنتخابات في العام 1994. ثم في عام 1995، أعطى برلمان جنوب أفريقيا تخويلًا بتأسيس لجنة الحقيقة والمصالحة التي أصدرت في العام 1998 تقريرًا تضمّن شهادات أكثر من 22,000 ضحيّة وشاهد، حيث جرى الإدلاء بألفي شهادة في جلسات إستماع علنية.

الرئيس الجنوب أفريقي السابق ثابو مبيكي، بدأ بعمليات عفو رئاسي خاصة، كوسيلة لمعالجة قصور لجنة التحقيق والمصالحة.

لكنّ معظم الجهود التي بُذلت لتحقيق المحاسبة عن الجرائم المرتكبة خلال حكم التمييز العنصري باءت بالفشل. أجاز قانون لجنة الحقيقة والمصالحة عرضًا مثيرًا للجدل "العفو من أجل الحقيقة" لمرتكبي إنتهاكات حقوق الإنسان الذين رغبوا بالإعتراف. وتمت عمليات العفو الرئاسية الخاصّة بالرئيس السابق ثابو مبيكي – التي اعتُبرت وسيلة لحلّ "العمل الناقص وغير المنجز للجنة الحقيقة والمصالحة" – بموجب محاكمات سرية بغياب الضحايا ومن دون أي تمثيل لهم. وتضمنت سياسة الملاحقة القضائية الخاصة بسلطة المتابعة القضائية الوطنية تعديلات من أجل "عفو عام غير نزيه"، مكّنت مرتكبي الجرائم في زمن التمييز العنصري، ممّن لم يتقدّموا بطلبات للحصول على عفو لجنة الحقيقة والمصالحة، الإفلات من العقاب.

في عام 2008، أعلنت محكمة بريتوريا العليا عدم دستورية تعديلات سياسة الملاحقة القضائية. وفي العام 2010، أيّدت المحكمة الدستورية حقّ الضحايا باستشارتهم قبل منح العفو السياسي.

على الرغم من هذه الإنتصارات، لا يوجد حاليًّا أمام المحاكم ولا حتّى حالة واحدة من الحالات التي أُوصي بملاحقتها قضائيًّا ، ما جعل الضحايا يتقدّمون بشكاوى تصف عملية التشاور بأنّها غير ذات فحوى. محاسبة الشركات الدولية وجبر الضرر.[7]

اضراب العمال في أغسطس 2012، سقط في أكثر من 30 من عمال المناجم بعد قيامهم باضراب احتجاجاً على ظروفهم المعيشية.

في 2002، قامت مجموعة دعم خولوماني، وهي منظّمة ضحايا جنوب أفريقيين، بمقاضاة 23 شركة متعدّدة الجنسيات، ومن ضمنها شركة فورد موتور وجنرال موتورز وأي بي إم في محكمة في الولايات المتّحدة، للتعويض المادي عن الأضرار المدنية التي ألحقتها هذه الشركات من خلال دورها في إنتهاكات حقوق الإنسان الجماعية خلال فترة التمييز العنصري.

في عام 2007، وفي حكم تاريخي هام، سمحت المحكمة الأمريكية للضحايا بتقديم مطالبهم للتعويض. ومنذ مارس 2011، تنظر المحكمة بطلب قدّمته الشركات لإسقاط القضية، بحجّة أنّ القانون العرفي الدولي لا ينصّ على مسؤولية الشركة في إنتهاكات قانون حقوق الإنسان الدولي.

وفي النهاية ففي تجربة جنوب أفريقيا تم الاكتفاء بالاعتراف بما تم من الانتهاكات خلال الحكم العنصري عن طريق لجان استماع للضحايا وللجناة أيضا مع استبعاد خيار المتابعة خصوصاً بالنسبة للفاعلين السياسيين الذين شاركوا في وضع حجر الأساس للانتقال الديمقراطي وإقرار سيادة القانون والمساواة بين المواطنين واحترام حقوق الإنسان.

أحداث ماريكانا 2012 تثير الشكوك حول نجاعة العدالة الانتقالية

وفي أغسطس 2012، كشفت الأحداث التي تلت اضراب منجم ماريكانا، التي قتلت فيها الشرطة أكثر من 30 من عمال المناجم يحتجون سلمياً على ظروفهم المعيشية، عن أن العدالة الانتقالية لم تغير شيئاً من الظلم الاجتماعي الذي ظل متواجداً حتى بعد تفكيك نظام الأپارتهايد (الفصل العنصري). وهو الأمر الذي بات يلقى ظلالاً وخيمة على نجاعة نهج العدالة الانتقالية.

الأرجنتين

محاكمات العسكريين في الأرجنتين.

شهدت الأرجنتين تجربة ثرية من التحول الديمقراطي وتطبيق مفهوم العدالة الانتقالية، حتي إن ظهور المصطلح نفسه ولد من داخل الأرجنتين، التي تقدم تجربة رائدة في هذا المجال، خاصة بالنسبة لدول العالم الثالث بوجه عام، وبالنسبة لأمريكا اللاتينية، بوجه خاص.

المرحلة الأولي

مسيرة لجمعية أمهات ميدان مايو للمطالبة بمعرفة مصير أبنائهم المختفين، أكتوبر 2006.

بدأت هذه المرحلة بانقلاب عسكري قاده الجنرال خورخي فيديلا علي حكومة رئيسة الأرجنيتن ايزابيلا بيرون في 1976، وهكذا استطاع العسكر أن يفرضوا سيطرتهم علي البلاد، حيث شكل الجنرال فيديلا مجلس عسكري مكون من 9 جنرالات قام بفرض الأحكام العرفية، وألغي الدستور، ثم حظر التظاهر والتجمهر وفرض الرقابة علي الصحافة والإعلام وفرض هيمنة العسكر علي النقابات ومنظمات المجتمع المدني، وأخيرا بدأ ما عرف باسم "الحرب القذرة" والتي استمرت 6 سنوات هي طول فترة الحكم العسكري 1976ـ 1983. أما عن السبب الحقيقي لقيام الجيش الأرجنتيني بهذا الانقلاب أولا وبهذه الحرب ثانيا، كان هو حماية الأرجنتين من خطر الشيوعية، وهكذا ظل العسكر طوال السنوات الست يستخدمون كل الطرق غير المشروعة في قمع كل ما هو يساري سواء كانوا ثواراً أو طلبة أو إعلاميين أو أعضاء نقابات عمالية أو حتي مؤيدين، وكانت القوات العسكرية في حالة حرب حقيقية مع كل هؤلاء برغم أنهم في نهاية الأمر لم يكونوا أكثر من مواطنين عزل. كل ذلك كان يحدث تحت شعار "حماية أمن الأرجنتين".

وهكذا خلفت هذه المرحلة 30 ألف حالة اختفاء لشباب من الأرجنتين لم يعط العسكر لذويهم حتي الحق في دفن جثثهم أو معرفة كيف قتلوا أو متي[8]، وغالبا ما كان يقوم النظام بقتل المعارضين وإلقاء الجثث في البحر أو حرقها حتي لا يترك وراءه أي دليل، هذا بالإضافة أيضا إلي حالات الاعتقال والتعذيب. ونظرا لحالة القمع الشديدة لم يكن من الممكن تكوين أي حزب أو حركة احتجاجية داخل الأرجنتين خلال هذه المرحلة، فيما عدا حركة واحدة تعد مثالا رائعا وفريدا شهدته تلك الحقبة السوداء في تاريخ الأرجنتين، وهي حركة جمعية أمهات ميدان مايو Associacion Madres de Plaza Mayo وهي حركة بدأت في 1977 بتجمع 14 أم في ساحة "ميدان مايو" أمام قصر الرئاسة ليطالبوا بمعرفة مصير أبنائهم المختفين[9]، ولأنهن مجرد مجموعة من الأمهات المسالمات فقد تركهم العسكر، إلا أن الحركة اتخذت في الاتساع وفي اكتساب الشعبية حتي أصبحت هي الحركة السياسية والمعارضة الوحيدة، والتي لم يستطع النظام قمعها يوما حتي إنها ومنذ ذلك التاريخ وحتي اليوم تواصل التجمهر في ساحة الميدان من خلال آلاف الأمهات كل يوم خميس، واللاتي لم يتخلفن مرة واحدة لأكثر من 30 عاما ليطالبن بحق أبنائهن الذين لم يعرفن أبدا ما حدث لهم، ومحاكمة القتلة، بل وتطورت الحركة لتنادي في وقفتها الأسبوعية بعدم تكرار ما حدث لأبنائهن الشباب ليس فقط في الأرجنتين، ولكن في أي مكان آخر في العالم. وفي أبريل 1982 اتجه العسكر إلي احتلال "جزر الفوكلاند" التابعة لبريطانيا وضمها إلي السيادة الأرجنتينية، وذلك لصرف أنظار الشعب الأرجنتيني عن مشاكله الداخلية المعقدة، إلا أن الأسطول البحري البريطاني أنهي الصراع سريعا وخرج الجيش الارجنتيني منهزما ومنكسرا من المعركة، وهكذا انتهت فترة الحكم العسكري القمعي، وعُقدت أول انتخابات ديمقراطية لأول مرة في البلاد منذ 6 سنوات جاءت براؤول ألفونسين إلي سدة الحكم.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

المرحلة الثانية

حفي 1983 بدأ ألفونسين مرحلة التحول الديمقراطي في البلاد، ولكن كان عليه في أثناء هذا التحول أن يتعامل مع قضية شائكة جدا، وهي مشكلة الأشخاص المختفين، وهنا أنشأ لجنة لتقصي الحقيقة باسم اللجنة الوطنية لدراسة مشكلة اختفاء الأشخاص واستطاعت اللجنة أن تضع تقريرا عن اختفاء 9000 شخص برغم عدم توفر الوثائق الكافية، وذلك بسبب إتباع النظام العسكري سياسة إخفاء الأدلة والوثائق باستمرار، ولكن علي أي حال عندما اكتمل التقرير ونٌشر في الجريدة الرسمية علي حلقات حدثت صدمة لدي الشارع الأرجنتيني من هول ما جاء به، ومن ثم بدأت المحاكمات ضد رموز ورجال الجيش المتهمين بانتهاكات إنسانية ضد المعارضة الأرجنتينية حتي أن ألفونسين لُقب برئيس نورمبرج الأرجنتيني لكن في واقع الأمر كانت طموحات "الفونسين" أكبر بكثير من قدراته علي تحقيق العدالة الانتقالية وكانت خبرة حكومته ضئيلة جدا في هذا المجال نظرا لكون التجربة الأرجنتينية تجربة رائدة في هذا المجال كما سبقت الإشارة إلي ذلك. وقد أخطأت حكومته في تقدير قوة النظام العسكري الذي تم إسقاطه، حيث إن خروجه من حرب "جزر الفوكلاند" مهزوما جعله يتراجع عن الحكم ويخرج ذليلا، ولكن هذا لم يكن يعني أنه كان ضعيفا أو لا يملك السلاح علي غرار الجيش النازي بعد الحرب العالمية الثانية، بل علي العكس ظل الجيش الارجنتيني محتفظا بكامل قوته وأسلحته وتنظيمه، ولكنه فقط عاد إلي ثكناته. وسريعا ما استطاع العسكريون استعادة قوتهم من جديد، وخاصة مع زيادة حدة المحاكمات، حيث بدأت تشهد الأرجنتين موجة من التفجيرات مجهولة المصدر، ولكن بالطبع كان الجميع داخل الدولة يعلم جيدا أن الجيش هو من يقف وراء هذه الأعمال الإرهابية، وزادت وطأة تلك الأعمال علي حكومة "الفونسين" الذي سرعان ما تراجع عن سياسته في إعمال آليات العدالة الانتقالية، ومحاكمة مرتكبي الجرائم من مسئولي النظام القمعي السابق. وخلال سنتين من الجذب والشد الذي تعرضت له حكومة الفونسين بين الإرهاب من قبل عصابات النظام العسكري القمعي السابق من جهة، ومطالب الشعب وجمعيات حقوق الإنسان وأهالي الضحايا من جهة أخري، ظهر مسار العدالة الانتقالية داخل الأرجنتين أشبه بالخط المتعرج بين أحكام قوية ضد العسكريين المسئولين عن اعتقال وقتل وإخفاء الآلاف وأحكام بالعفو رغم ثبوت التهم علي العسكر، وقد اضطر "الفونسين" إلي إصدار قانونين في 1985 تحت تهديد رجال الجيش بإدخال البلاد في حرب أهلية إذا ما استمرت المحاكمات وتم تنفيذ الأحكام عليهم. وكانت تلك القوانين هي قانون، النقطة النهائية" الذي حدد تاريخ نهائي لتقبل أي دعاوي ضد رجال النظام السابق، وأيضا قانون "الامتثال للواجب"، وهو القانون الذي يعفي أي ضابط في الجيش في رتبة أقل من كولونيل من أي مسئولية قانونية إزاء قتله للمواطنين تحت دعوي أنه كان مضطرا لفعل ذلك لكونه عسكريا كان ينفذ أوامر القيادة. حتي القادة أمثال "رينالدو بينونه" آخر رؤساء الأرجنتين في الحقبة العسكرية تمت إدانته والحكم عليه في 1983 وتم العفو عنه في 1985. وقد كانت قوانين العفو العام التي صدرت في الأرجنتين بمثابة انتكاسة حقيقية لعملية تنفيذ العدالة وسيادة القانون في المرحلة الانتقالية داخل الأرجنتين، لكن علي اية حال كان تقرير لجان تقصي الحقائق ونشره بتفاصيله علي عامة الشعب، وكذلك أيضا نشر تفاصيل المحاكمات مكسباً لمسيرة العدالة الانتقالية لا يمكن إهماله علي الأقل في تلك المرحلة. واستمر الوضع علي هذا المنوال من التعرج، حيث تكرر مشهد فتح ملفات المحاكمات ثم غلقها وأحيانا إصدار أحكام تم تنفيذها بالإقامة الجبرية وليس داخل السجون حتي اختلف الأمر تماما في 2005 أي بعد 20 عاما من صدور قوانين "الفونسين" الأخيرة.

المرحلة الثالثة

بدأت هذه المرحلة في عهد الرئيس السابق نستور كريشنر، حيث أعلن مجلس القضاء الأعلي في الأرجنتين قرارا في 2005 بعدم دستورية العفو العام الذي سبق تحت ضغط العسكريين. وهكذا بدأت الأرجنتين مرحلة جديدة من المحاكمات الجادة والعادلة لهؤلاء العسكريين الذين تمت إدانتهم بالفعل من خلال لجان الحقيقة والمحاكمات التي تمت في الثمانينات، واستطاع القانون أن يسري بشكل سليم في هذه المرة وسارت المحاكمات دون أي ضغوط من الجيش. فهؤلاء القادة تجاوزت أعمارهم الثمانين وحتي الضباط الآخرين المتهمين بتنفيذ المجازر ضد الشباب اليساري قد شارفوا علي الستين، بالإضافة إلي أن الجيش قد تغيرت تركيبته وأصبح يضم أجيالا جديدة لا تدين بالولاء لهؤلاء القادة وليس لديها أدني رغبة في شن حرب أهلية أو حتي أعمال إرهابية لحماية هؤلاء العسكريين المتهمين بارتكاب تلك الجرائم الوحشية. وبالفعل شهد عام 2010 صدور أحكام ضد خورخي فيديلا قائد الانقلاب العسكري وحاكم البلاد حتي 1981 والمهندس الفعلي لما عرف باسم الحرب القذرة بالسجن لمدة 25 عاما وقضاء هذه المدة في السجن المدني وليس تحت الإقامة الجبرية رغم أن عمره تجاوز ال85 عاما، وأيضا حكم علي بينونه آخر الحكام العسكريين لمدة 25 عاما وعمره 81 عاما، بالإضافة الي العديد من الأحكام ضد قادة وضباط من الجيش قادوا أو قاموا بتنفيذ انتهاكات جسيمة مثل الاعتقال والتعذيب والقتل وإخفاء الجثث بل وصل الأمر إلي حد خطف أطفال رضع من أبناء المعارضين بهدف ترهيبهم والقضاء علي تلك المعارضة. وقد أثبتت المحاكمات تورطهم بالفعل في كل تلك الجرائم، بالاضافة الي اعترافاتهم. علي سبيل المثال أعترف أحد العسكريين والمعروف باسم "ملاك الموت الأشقر" (علمتني قوات البحرية كيف أدمر وكيف أزرع القنابل وكيف أقتل، ربما ارتكبت بعض الأخطاء لكنني لن أتوب). كما دافع "خورخي فيديلا" عن نفسه قائلا (إن النظام العسكري عمل علي الحيلولة دون وصول الشيوعية إلي الأرجنتين). وهكذا كان طريق الأرجنتين طريقا طويلا ومتعرجا إلا أنه في مجمله شهد خطوات عملية وتطبيقات جديرة بالمتابعة والدراسة للاستفادة من هذا التعرج والتخبط، وقد استفادت دولة شيلي كثيرا من هذه التجربة، حيث شهدت هي الأخري أحداثاً مشابهة إلي حد بعيد مع ما جري في الأرجنتين، ولكن علي عكس الأرجنتين فقد كانت تجربة شيلي أكثر نضجا لأنها استفادت كثيرا من النموذج الارجنتيني.

أوغندا

أنشئت أول لجنة للحقيقة والمصالحة في أوغندا عام 1974 وشكلها الدكتاتور الأوغندي عيدي أمين في العام 1974 بايعاز وضغوط من مجموعات حقوق الإنسان فشلت في تحقيق أي من أهدافها لأن النظام اليوغندي رفض نشر نص التقرير الذي توصلت إليه اللجنة أو تنفيذ أي من توصياته ومنذ ذلك التاريخ حذت عدة بلدان حذو اوغندا في تكوين لجانا للحقيقة والمصالحة كسبيل لتحقيق العدالة الانتقالية في بلدان مزقتها الحروب والصراعات واحتاج النسيج الاجتماعي فيها للرتق بعد أن اتسعت الشقة بين مكوناته. [10]

تشيلي

وشكل الرئيس الشتيلي باتريسيو أيلوين، في عام 1990 لجنة للتحقيق والمصالحة بهدف تطبيق العدالة الانتقالية ولكنها لم تُمنح أي صلاحية لمحاكمة أو إدانة أحد بل أدت في نهاية الأمر الي تنصيبه رئيسا مدي الحياة. فمجرد الحديث عن الحقيقة والمصالحة لا يعني اجتثاث جذور المشكلة وحلها خاصة عندما يعطي سماعها الإنطباع بأنها ليست سوي شكل آخر من أشكال (عفي الله عن ما سلف) والتي تتغافل عن أوضاع تستعصي علي الإهمال بعد أن صار الجدال حول هل هي إبادة جماعية أم لا ؟؟وما دمنا قد أقررنا بوجود الإنتهاكات فالذي يتبادر للذهن هو التفكير في آلية محاسبة من ارتكبها قبل أن يقفز القافزين إلي (مصالحة) لا يملك الحق فيها الا من تعرضوا لويلاتها من طرف (مبهم) لم تحدد هويته علي ذلك النحو الدقيق ولم يتم الكشف عن تفاصيل الجرائم التي ارتكبت ولا هوية الضحايا في كل حالة وبلا ذكر للجان ولا محاكم ولا صلاحيات فهي (مصالحة) علي درجة من السذاجة تستفز الضحايا الذين يأملون في عدالة تأتيهم بواسطة القضاء الوطني بعد رفضهم لتدخل المحاكم الدولية بدعوي الحفاظ علي السيادة والكرامة الوطنية فلا أقل من هذه المحاسبة أو إبتداع شكل مختلط من المحاسبة والمصالحة وفي الحالتين لا بد من الإعلان عن أسماء الجناة والجرائم التي ارتكبوها وأسماء الضحايا ومن ثم يخير الضحايا في العفو عن من أرتكبوا الانتهاكات بحقهم أو مقاضاتهم وعندما نتحدث عن الحقيقة والمصالحة فهذا يعني بالضرورة أسبقية الحقيقة.

المغرب

مسيرة في المغرب للمطالبة بتطبيق التوصيات الصادرة عن هيئة الانصاف والمصالحة بالمغرب.

شهدت المغرب خلال الفترة من 1956 حتى 1999 أي ما يقارب 43 سنة لإنتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان بمختلف أصنافها من إختفاء قسري وإعتقال تعسفي وإنتزاع الممتلكات وقد حدثت هذه الإنتهاكات نتيجة أحداث سياسية طرأت على البلد وقد تعرضت خلالها بعض الجماعات والمناطق بشكل مباشر أو غير مباشر لآثار العنف السياسي.[11] وتبرز تجربة المغرب في مجال العدالة الانتقالية من خلال هيئة الإنصاف والمصالحة كمثال يستحق التقدير، لاسيما وأن هذه التجربة ارتبطت بشكل أساسي بتوفر إرادة سياسية شكلت أرضية للإصلاحات التي انخرط فيها المغرب منذ تسعينيات القرن الماضي، ويرى البعض أن القيمة الأساسية التي تميز التجربة المغربية في مجال العدالة الانتقالية تتمثل في "عنصر المشروعية". وهو ما أثبت إمكانية تحقيق العدالة الانتقالية من داخل السلطة، خصوصاً بإشراك المعارضة التي كان في مقدمتها عبد الرحمن اليوسفي الذي تم تعيينه رئيساً للوزراء وفتح ملفات الانتهاكات وفيما بعد تشكيل هيئة الإنصاف والمصالحة وتعويض الضحايا والعمل على إصلاح وتأهيل عدد غير قليل من المؤسسات.

مصر

تجاوزات الشرطة أثناء ثورة 25 يناير.

في أعقاب قيام ثورة 25 يناير 2011 طرحت فكرة تطبيق العدالة الانتقالية. تحقق الثورة أهدافها بإجراءات غير عادية لتحقيق مبدأين أساسيين، هما المحاسبة والتطهير. [12]هذه المبادئ شكلتها ما سمى دولياً بالعدالة الانتقالية، والتى تضمن برنامجا متكاملا، يبدأ بالمحاكمات والدعاوى الجنائية مروراً بلجان الحقيقة، وبرامج التعويض، وأخيرا جبر الضرر، وإصلاح الأجهزة الأمنية، وإعادة هيكلتها، وأخيرا جهود تخليد شهداء الثورة ورموز المعارضة الذين دفعوا حياتهم ثمناً للحرية. وقد كان أحد أسباب تعثر الثورة المصرية هو الإصرار على محاكمة رموز النظام السابق المتهمين بقتل الثوار وبجرائم مالية وعزلهم عن الحياة السياسية بينما كان هذا المطلب يتعارض مع ارتباطات المجلس العسكري الحاكم مع النظام والذي يعتبر في الواقع جزءا لا يتجزأ منه ، وتحت الضغط الشعبي اضطر إلى محاكمة الرئيس السابق وبعض معاونيه محاكمة استمرت عاما كاملا وفي النهاية تم تأجيل إصدار الحكم فيها حتى نهاية يونيو من العام الحالي. ولم تتمكن مصر من استرداد الأموال المهربة للخارج لعدم صدور أحكام قضائية ضد الرئيس السابق وأفراد أسرته بشأنها.

وفي فبراير 2012، عقد مؤتمر العدالة الانتقالية في العالم العربي بالقاهرة، واختتم المؤتمر على قيام المشاركون فيه والمنتمين لدول عربية مختلفة مثل المغرب، الجزائر، تونس، العراب، مصر، ليبيا، البحرين، اليمن وسوريا على صياغة مشاريع قانونية وهيكلية لتطبيق مفهوم العدالة الانتقالية في البلدان العربية فيما بعد ثورات الربيع العربي، في أربع مجموعات عمل وهي [13]:

  • بالمساءلة والمحاسبة لمنتهكي حقوق الإنسان.
  • التعويضات وجبر الأضرار
  • المصالحة والإصلاحات لضمان القطيعة مع الماضي.
  • إعداد تصور لإرساء مجموعات الإنصات وجلساتها وتوثيق الشهادات، وذلك بهدف الخروج بوثيقة توجيهية لإقامة العدالة الانتقالية في البلدان العربية.

غير أن فكرة تطبيق العدالة الانتقالية في مصر صاحبها الكثير من الجدل. فتحقيق العدالة يتم من خلال إجراءات تتكامل تبدأ بعملية جمع الاستدلالات، وهي أهم مرحلة في التحقيق، والتى يبدأ من خلالها جمع الأدلة الأساسية على ارتكاب جريمة ما، وهذه المرحلة تقوم بها السلطة التنفيذية، فإذا كانت الأوضاع عقب الثورة قد شهدت انهيار جهاز الأمن، وهو المكلف بالضبطية القضائية، فمن قام بإعداد هذه الأوراق، وكيف لنا أن نثق فيما ورد في الملفات، فضلاً على أن الوزراء والمسؤولين كانوا يستندون إلى قوانين وتشريعات يقومون هم بصنعها، وبالتالى كان الفساد يتم وفقاً للقانون. ووفقاً للمعايير المتعارف عليها في جمع المعلومات والاستدلالات، وتوثيق الأدلة والقرائن، فإننا بالفعل سوف نشهد محاكمات عادلة ومنصفة.

وهل يمكن تحقيق العدالة لضحايا الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في مصر، لاسيما تلك التى صاحبت الثورة المصرية، وما اقترف من انتهاكات في أعقاب تولي المجلس العسكري الحكم. ويؤخذ على الحكومة المصرية فيما بعد الثورة عدم التزامها بتطبيق القواعد والآليات القانونية العادية لمواجهة الجرائم التي ارتكبت ضد الثوار، ذلك أن الجهة المطلوب منها إعداد محاضر جمع الاستدلالات الأولية هى وزارة الداخلية، وهى الجهة المتهمة من وجهة نظر الثوار، فلا يمكن توقع أدلة أو قرائن توثق للانتهاكات، بل الأكيد أنه سوف تستخدم خبرات تلك الأجهزة لإفلات عناصرها من العقاب، ويمكن الشعور بأن عدم الثقة بين المواطنين والشرطة ناتج بالأساس من أنه لن تتم محاكمة هذا الجهاز، ولن تتم محاسبة المسؤولين عن الجرائم، وذلك لكى تتبرأ وزارة الداخلية من هؤلاء الذين فقدوا ضمائرهم، وأن يتم الفرز بين الضباط الوطنيين الشرفاء- وهم أغلبية الضباط- وهؤلاء الذين استباحوا أرواح المصريين.

تونس

المواجهات بين المحتجين والشرطة التونسية في ضحاية التضامن بالقرب من تونس العاصمة، 13 يناير 2010.

بعد قيام الثورة التونسية، تقدمت تونس إلى حد ما على درب التحول الديمقراطي بعد أن تم منحه هو والتنمية أولوية على ما عداه من مطالب تتعلق بمحاكمة المسئولين السابقين. كما وجدت الحكومة الانتقالية غير قادرة على الاستغناء عمن يشغلون وظائف رئيسية ممن سبق لهم العمل ضمن النظام السابق لعدم إمكانية تعويضهم بغيرهم ممن لهم خبرات مكتسبة في مجالات عملهم . ومازالت الحكومة التونسية تتعرض لانتقادات محلية لهذا السبب.

ليبيا

في ليبيا التي كانت الثورة فيها مدنية وانتهت بانتصار عسكري للثوار على كتائب القذافي فما زالت الرغبة في الثأر والانتقام هي المتأججة في صدور الثوار، ويطالبون بحرمان كل من عملوا مع القذافي من الوظائف العامة بينما لا تجد الحكومة الانتقالية مفرا من الاستعانة بهم لتسيير شؤون الدولة. ولذا فإنها تعتبر في أمس الحاجة إلى تطبيق قواعد العدالة الانتقالية وإحلال مصالحة وطنية تجمع كل القوى لتحقيق انتقال ديمقراطي من النظام الشمولي السابق إلى نظام سياسي جديد قادر على تحقيق الأماني الوطنية. ويتطلب ذلك تحرير الشعب من رواسب الماضي ونوازع الرغبة في الثأر والانتقام. ولا يمنع ذلك من محاكمة من ارتكبوا جرائم ثابتة بالأدلة، وخاصة الجرائم المالية، محاكمة عادلة، لكي يتسنى استرداد الأموال التي نهبوها أو هربوها إلى الخارج والتي لا يمكن استعادتها دون صدور أحكام قضائية تؤكد عدم مشروعية حصولهم عليها.

بلدان أخرى

كما طرح موضوع العدالة الانتقالية بصفة مباشرة، من قبل هيئات رسمية في إطار ديناميات المصالحة الوطنية في كل من الجزائر والسودان والعراق. كما بدأ الموضوع يفرض نفسه في سياقات ذات صلة بتعزيز الديمقراطية وتثبيت الوحدة الوطنية في كل من البحرين وموريتانيا. وطرح الموضوع كإرهاصات، وكدعوات للتفكير، في سياقات التصدي لإشكالات التحول الديمقراطي والتفكير الاستراتيجي المرتبط بها، في كل من لبنان و اليمن. بل وبدأ الموضوع يظهر كإشكال للتفكير أو "كإغراء الأكاديمي" في أطروحات بعض النخب السياسية والحقوقية في كل من مصر وسوريا والأردن.

انظر أيضاً

المصادر

  1. ^ "ما هي العدالة الانتقالية؟". المركز الدولي للعدالة الانتقالية. Retrieved 2012-08-31.
  2. ^ د. عبد الحسين شعبان، "العدالة الانتقالية وذاكرة الضحايا"، مركز دمشق للدراسات النظرية والحقوق المدنية، 2008-01-26.
  3. ^ "العدالة الانتقالية: قراءة مفاهيمية ومعرفية". الشركة العربية العالمية. 2012-05-10. Retrieved 2012-08-31.
  4. ^ "العدالة الإنتقالية". مركز الكواكبي لحقوق الإنسان. Retrieved 2012-08-31.
  5. ^ ""العدالة الانتقالية" كيف نستفيد من تجارب الدول الأخري". جريدة الأهرام. 2011-06-01. Retrieved 2012-09-07.
  6. ^ د. السيد ولد أباه (2011-04-25). "الثورة وجدل العدالة والمسامحة". جريدة الاتحاد الإماراتية. Retrieved 2012-09-07.
  7. ^ "المركز الدولي للعدالة الانتقالية، جنوب أفريقيا". المركز الدولي للعدالة الانتقالية. Retrieved 2012-09-07.
  8. ^ "الأرجنتين". المركز الدولي للعدالة الانتقالية. Retrieved 2012-09-07.
  9. ^ "العدالة الانتقالية والمحاسبة: الأرجنيتن". الديمقراطية وب. Retrieved 2012-09-07.
  10. ^ "الحقيقة والمصالحة...أسبقية الحقيقة". أجراس الحرية (موقع). 2010-02-08.
  11. ^ "هيئة الإنصاف والمصالحة في المملكة المغربية". هيأة دعاوى المملكة. 2011-03-30. Retrieved 2012-09-07.
  12. ^ "العدالة الانتقالية للثورة المصرية". جريدة اليوم السابع. 2011-06-14. Retrieved 2012-09-07.
  13. ^ "العدالة الانتقالية في دول ما بعد الثورات". شبكة فوزي منصور الاخبارية. 2012-02-29. Retrieved 2012-09-07.

المراجع

  • Aertsen, Holger-C.; Arsovska; Rohne; Valiňas, Marta, eds. (2008). Restoring justice after large-scale violent conflicts: Kosovo, DR Congo and the Israeli-Palestinian case. William Publishing. ISBN 1-84392-302-5.
  • Cobban, Helena (2007). AMNESTY AFTER ATROCITY: Healing Nations after Genocide and War Crimes. Boulder, CO: Paradigm Publishers. ISBN 978-1-59451-316-9. The final chapter of this book is available online at "Restoring Peacemaking, Revaluing History". Retrieved 2008-01-01.
  • Roman David, Lustration and Transitional Justice, Philadelphia: Pennsylvania University Press, 2011.
  • Kritz, Neil, ed. (1995). Transitional Justice: How Emerging Democracies Reckon with Former Regimes, Vols. I–III. Washington, D.C.: U.S. Institute of Peace Press.
  • McAdams, A. James (2001). "Judging the Past in Unified Germany." New York, NY: Cambridge University Press.
  • Mendez, Juan E. (1997). "Accountability for Past Abuses." Human Rights Quarterly 19:255.
  • Nino, Carlos S. (1996). Radical Evil on Trial. New Haven, Conn.: Yale University Press.
  • Lavinia Stan, ed., Transitional Justice in Eastern Europe and the Former Soviet Union: Reckoning with the Communist Past, London: Routledge, 2009.
  • Ruti Teitel, "Transitional Justice", Oxford University Press, 2000.
  • Zalaquett, Jose (1993). "Introduction to the English Edition." In Chilean National Commission on Truth and Reconciliation: Report of the Chilean National Commission on Truth and Reconciliation, trans. Phillip E. Berryman. South Bend, Ind.: University of Notre Dame Press.

وصلات خارجية