الفن في اليونان القديمة

Coat of arms of Greece.svg

هذا المقال هو جزء من سلسلة عن:

تاريخ الفن اليوناني

العصر البرونزي اليوناني
Cycladic art - الفن المينوي

Mycenean art

الفن في اليونان القديمة
Archaic Greek art - الفن اليوناني الكلاسيكي

الفن الهلنستي

الفن اليوناني في العصر الروماني


انظر أيضاً: الفن اليوناني البوذي

يونان العصور الوسطى
الفن البيزنطي - الفن المقدوني
اليونان بعد البيزنطيين
الفن في اليونان العثمانية - المدرسة الكريتية

Heptanese School

اليونان المعاصرة
الفن في اليونان الحديثة - مدرسة ميونخ

الفن اليوناني المعاصر

تمثال قائد العجلة الحربية لدلفي المتحف الوطني في دلفي

عند الحديث عن الفن في اليونان القديمة فاننا نكون قد وصلنا إلى أكمل ثمرة من ثمار الحضارة اليونانية ، ولكننا مع الأسف الشديد لا نجد من بقايا هذا النتاج العظيم إلا النزر اليسير. ذلك أن التدمير الذي عاناه الأدب اليوناني من جراء عدوان الزمان وتحكم ذوي العقول الضيقة الجاهلة ، وتغير الأنماط والأهواء العقلية ، لا يعد شيئاً مذكوراً إذا قيس إلى ما وقع على الفن اليوناني من تدمير. ولقد بقي لدينا من عصر الفنون الزاهر قطعة برونزية واحدة هي راكب العربة في دلفي ، وتمثال واحد من الرخام هو تمثال هرمس من صنع المثال بركستيليز ، أما الهياكل فلم يصل إلينا منها هيكل واحد - ولا هيكل الثسيوم نفسه - بالشكل أو باللون الذي كان عليه في بلاد اليونان القديمة. كذلك لم يكد يبقى لدينا شيء من النقوش اليونانية على المنسوجات ، أو الخشب ، أو العاج ، أو الفضة ، أو الذهب ، ذلك أن هذه المواد كانت أضعف أو أثمن من أن تنجو من أيدي الناهبين أو عبث الأيام. لذلك كان علينا أن نعيد تصوير هذه الفنون مستعينين على ذلك بما بقي لدينا من آثارها المحطمة القليلة.

وكانت الأسباب التي أدت إلى نشأة الفن اليوناني هي الرغبة في تصوير الأجسام وتزيينها ، والنزعة البشرية في الديانة اليونانية ، والروح الرياضية ، والمثل العليا للرياضيين. ولما ارتقى اليوناني البدائي عن المرحلة التي اعتاد أن يضحي بها بالآدميين لكي يصبحوا الموتى ويقوموا على خدمتهم ، استبدل بهم التماثيل المنحوتة أو الصور كما فعل غيره من البدائيين. ووضع بعد ذلك صوراً لآبائه في بيته ، أو وضع في المعابد صوراً وتماثيل شبيهة به أو بمن يجب ، اعتقاداً منه أن هذه الصور والتماثيل ستتمكن بقوة سحرية من بسط حماية الإله ورعايته على من تمثله. لقد كان الدين المينوي ، والدين الميسيني ، وكانت طقوس اليونان الأرضية نفسها ، عبارات غامضة مبهمة غير شخصية ، وكان فيها أحياناً من الرهبة والسخف ما ينأى بها عن جمال التصوير ؛ ولكن الخصائص البشرية الصريحة التي كان يتصف بها آلهة أولمبس ، وحاجتها إلى مواطن وهياكل تقيم فيها على سطح الأرض ، كل هذه قد فتحت أمام اليونان آفاقاً واسعة للنحت والعمارة ولعشرات العشرات من الفنون المتصلة بهما. ولسنا نجد ديناً غير هذا الدين - مع جواز استثناء الديانة المسيحية الكاثوليكية - شجع الآداب والفنون ، وأثر فيهما ، كما شجعهما وأثر فيهما الدين اليوناني.

ولا نكاد نجد فيما لدينا من آثار اليونان الأقدمين كتاباً ، أو مسرحية، أو تمثالاً ، أو بناء ، أو مزهرية لا يمت إلى الدين بصلة في موضوعه، أو غرضه ، أو الإلهام به. ولكن الإلهام وحده لم يكن ليرفع من شأن الفن اليوناني إلى الدرجة التي ارتفع إليها، فقد كان يحتاج إلى البراعة الفنية العالية التي تنشأ من الصلات الثقافية ، وإلى تطور الصناعات اليدوية وانتقالها من طور إلى طور. والحق أن الفن لم يكن عند الرجل اليوناني إلا نوعاً من الصناعة اليدوية، وارتقى الفنان من الصانع الماهر ارتقاءً طبيعياً تدريجياً حتى لم يكن اليونان يميزون أحدهما من الآخر تمييزاً دقيقاً. لقد كان الفنانون في حاجة إلى العلم بجسم الإنسان لأن نموه الصحي السليم هو الذي يكسبه تناسباً وتناسقاً وجمالاً؛ وكانوا في حاجة إلى حب للجمال عاطفي قوي جنسي يهون معه كل صعب إذا ما أدى إلى تخليد لحظة من لحظاته الحية ، وصورها في صورة تبقى على مر الزمان.

وكانت نساء إسبارطة يضعن في حجرات نومهن صور اًبلو ، و نارسس ، و هياسنثس ، أو أي إله آخر وسيم حتى يلدن بذلك أطفالاً جمالاً. وأقام سبسلوس Cypselus مباراة في الجمال بين النساء من زمن بعيد يرجع إلى القرن السابع قبل الميلاد ، ويقول أثينيوس إن هذه المباراة الدورية استمرت إلى العهد المسيحي. ومن أقوال ثيوفراستوس Theophrastus في هذا المعنى "إن مباريات تقام" في بعض الأماكن "بين النساء في الخفر ، وحسن التدبير. كما تقام مباريات في الجمال ، كالمباريات التي تقام.. في تندوس ولسبوس".

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

نشأة الفن اليوناني

جزء من سلسلة
تاريخ الفن القديم

Babylonian marriage market.jpg

الشرق الأوسط
بلاد الرافدين
مصر القديمة
آسيا
الهند
الصين
اليابان
Scythia
اوروپا ما قبل التاريخ
Etruscan
Celtic
Picts
Norse
Visigothic
فن كلاسيكي
اليونان القديمة
Hellenistic
روما

كانت الأسباب التي أدت إلى نشأة الفن اليوناني هي الرغبة في تصوير الأجسام وتزيينها، والنزعة البشرية في الديانة اليونانية، والروح الرياضية، والمثل العليا للرياضيين. ولما ارتقى اليوناني البدائي عن المرحلة التي اعتاد أن يضحي بها بالآدميين لكي يصبحوا الموتى ويقوموا على خدمتهم، استبدل بهم التماثيل المنحوتة أو الصور كما فعل غيره من البدائيين. ووضع بعد ذلك صوراً لآبائه في بيته، أو وضع في المعابد صوراً وتماثيل شبيهة به أو بمن يجب، اعتقاداً منه أن هذه الصور والتماثيل ستتمكن بقوة سحرية من بسط حماية الإله ورعايته على من تمثله. لقد كان الدين المينوي، والدين الميسيني، وكانت طقوس اليونان الأرضية نفسها، عبارات غامضة مبهمة غير شخصية، وكان فيها أحياناً من الرهبة والسخف ما ينأى بها عن جمال التصوير؛ ولكن الخصائص البشرية الصريحة التي كان يتصف بها آلهة أولمبس، وحاجتها إلى مواطن وهياكل تقيم فيها على سطح الأرض، كل هذه قد فتحت أمام اليونان آفاقاً واسعة للنحت والعمارة ولعشرات العشرات من الفنون المتصلة بهما. ولسنا نجد ديناً غير هذا الدين - مع جواز استثناء الديانة المسيحية الكاثوليكية - شجع الآداب والفنون، وأثر فيهما، كما شجعهما وأثر فيهما الدين اليوناني. ولا نكاد نجد فيما لدينا من آثار اليونان الأقدمين كتاباً ، أو مسرحية، أو تمثالاً، أو بناء، أو مزهرية لا يمت إلى الدين بصلة في موضوعه، أو غرضه، أو الإلهام به. ولكن الإلهام وحده لم يكن ليرفع من شأن الفن اليوناني إلى الدرجة التي ارتفع إليها، فقد كان يحتاج إلى البراعة الفنية العالية التي تنشأ من الصلات الثقافية، وإلى تطور الصناعات اليدوية وانتقالها من طور إلى طور. والحق أن الفن لم يكن عند الرجل اليوناني إلا نوعاً من الصناعة اليدوية، وارتقى الفنان من الصانع الماهر ارتقاءً طبيعياً تدريجياً حتى لم يكن اليونان يميزون أحدهما من الآخر تمييزاً دقيقاً. لقد كان الفنانون في حاجة إلى العلم بجسم الإنسان لأن نموه الصحي السليم هو الذي يكسبه تناسباً وتناسقاً وجمالاً؛ وكانوا في حاجة إلى حب للجمال عاطفي قوي جنسي يهون معه كل صعب إذا ما أدى إلى تخليد لحظة من لحظاته الحية، وصورها في صورة تبقى على مر الزمان. وكانت نساء إسبارطة يضعن في حجرات نومهن صوراً لأبلو، ونارسس، وهياسنثس، أو أي إله آخر وسيم حتى يلدن بذلك أطفالاً جمالاً(50). وأقام سبسلوس Cypselus مباراة في الجمال بين النساء من زمن بعيد يرجع إلى القرن السابع قبل الميلاد، ويقول أثينيوس إن هذه المباراة الدورية استمرت إلى العهد المسيحي(51). ومن أقوال ثيوفراستوس Theophrastus في هذا المعنى "إن مباريات تقام" في بعض الأماكن "بين النساء في الخفر، وحسن التدبير.. كما تقام مباريات في الجمال، كالمباريات التي تقام.. في تندوس ولسبوس"(52).


الموسيقى والرقص

كان معنى لفظ Mousike عند اليونان أول الأمر هو الولاء لأية إلهة من إلهات الفن Muse. وكان مجمع أفلاطون العلمي Museion أي متحف Museum ، ومعناه مكان مخصص لربات الفن Muses وأوجه النشاط الثقافي الكثيرة التي تناصرها. وكان متحف الإسكندرية جامعة تجري فيها ضروب النشاط الأدبي والعلمي ولم تكن مكاناً تجمع فيها التحف. وكانت الموسيقى بمعناها الضيق الحديث منتشرة بين اليونان بقدر انتشارها بيننا في هذه الأيام إن لم تكن أكثر انتشاراً.

وكان الأحرار جميعاً في أركاديا يواصلون دراسة الموسيقى إلى أن يبلغوا الثلاثين من عمرهم ، وكان كل واحد منهم يعرف استعمال آلة من الآلات ، وكان العجز عن الغناء يجلل العاجز العار. وقد سمي الشعر الغنائي بهذا الاسم في بلاد اليونان لأنه كان يقرض ليتغنى به على القيثارة اليونانية والصنج والناي ؛ وكان الشاعر عادة يقول الشعر ويلحنه ويغني أشعاره ؛ ولهذا كان قرض الشعر الغنائي في بلاد اليونان أصعب كثيراً من قرض الشعر لقراءته قراءة صامتة في عزلة كما يحدث في هذه الأيام. وقلما كان هناك أدب يوناني قبل القرن السادس الميلادي غير متصل بالموسيقى ، فقد كان التعليم والأدب والدين ، والحرب ، وثيقة الاتصال بالموسيقى ؛ وكان للنغمات الحربية شأن عظيم في التدريب العسكري ، وكان كل ما يحفظ أو جُلّه يلقن شعراً. وقبل أن يحل القرن الثامن قبل الميلاد كانت الموسيقى اليونانية قد أصبحت من الفنون القديمة وأصبح لها مئات الأنواع والأشكال.

أما آلاتها فكانت بسيطة ، وكانت الأسس التي تقوم عليها هي بعينها الأسس التي تقوم عليها في هذه الأيام: القرع ، والنفح ، والأوتار. فأما القرع فلم تكن آلاتها واسعة الانتشار. وقد ظل الناي شائع الاستعمال في أثينا حتى سخر السبيديس من خدي معلمه المنفوخين وأبى أن يستخدم هذه الآلة السمجة ، وتزعم حركة مقاومتها بين شباب اليونان . (هذا إلى أن البؤوتيين ، كما يزعم الأثينيون كانوا أبرع منهم في استخدام الناي ، ولهذا كانوا يعدون هذا الفن من الفنون المرذولة. وكان الناي البسيط قصبة من الغاب ، أو الخشب المثقوب ، ذات مبسم منفصل عنها ، ومثقوبة بثقوب لأصابع يتراوح عددها بين اثنين وسبعة ، يمكن أن توضع فيها غمازات تعدل درجة الصوت.

وكان بعض الموسيقيين يستخدمون الناي المزدوج- ويتكون من ناي (ذكر) أو غليظ النغمة في اليد اليمنى وناي (أنثى) أو رفيع النغمة في اليسرى ، يرتبط كلاهما بالفم برباط حول الخدين ، وينفخ فيهما معا في توافق بسيط. ثم أوصل اليونان الناي بكيس قابل للتمدد فأوجدوا بذلك موسيقى القرب ؛ وجمعوا عدداً منها وكونوا منها ما يعرف بأنبوبة بان ؛ ثم أطالوا طرف الناي وسدوا ثقوب الأصابع فكان البوق. ويقول بوزنياس إن موسيقى الناي كانت في العادة مقبضة ، وكانت تستخدم على الدوام في ترانيم الدفن والمراثي ؛ ولكننا لا نظن أن الأولترداي Auletredai او الفتيات اليونانيات السامرات النافخات في الناي كن مبعث الكآبة والانقباض.

أما الآلات الوترية فكان العزف عليها مقصوراً على شد الأوتار بالأصابع أو المنقر ولم يكن العازف ينحني في أثناء العزف. وكان ثمة أنواع مختلفة من القيثارات صغيرة وكبيرة ولكنها كانت في جوهرها شيئاً واحداً فكانت كلها تتكون من أربعة أوتار أو خمسة مصنوعة من أمعاء الضأن ومشدودة على قنطرة فوق جسم رنان من المعدن أو صدفة سلحفاة وكانت القيثارة صنجاً (كنجاً) صغيراً يستخدم أثناء غناء الشعر القصصي ، وكانت القيثارة اليونانية الصغيرة تستخدم مع الشعر الغنائي والأغاني بوجه عام.

ويروي اليونان قصصاً عجيبة عن كيفية إختراع الإلهة هرمس ، وأبلو ، وأثينة ، لهذه الآلات ، وكيف تحدى أبلو بقيثارته أبواق مارسياس (وهو كاهن الإلهة الفريجية سيبيل) ونايه وغلبه- بطريقة غير شريفة في ظن مارسياس- بأن أضاف صوته إلى صوت الآلة ، وختم المباراة بأن أمر بسلخ جلد مارسياس حياً ؛ وعلى هذا النحو تمثل الأساطير غلبة القيثارة على الناي. وثمة قصص أظرف من هذه القصة تحدث عن الموسيقيين الأقدمين الذين أوجدوا فن الموسيقى أو عملوا على تقدمه: عن أولمبس تلميذ مارسياس الذي اخترع السلم ذا المسافات القصيرة حوالي عام 730 ق. م، وعن لينوس Linus معلم هرقل الذي اخترع العلامات الموسيقية اليونانية وأوجد بعض (الدرجات ، وتحدثنا عن أرفيوس التراقي كاهن ديونيسس ، وعن تلميذه موسيوسMausaeus الذي قال إن (الغناء من أحلى الأشياء للآدميين. وتوحي هذه القصص بأن الموسيقى اليونانية استمدت أشكالها في أغلب الظن من ليديا، و فريجيا ، و تراقية.

وكانت الموسيقى من مستلزمات الحياة اليونانية لا تكاد تخلو منها ناحية من نواحيها ، فكانت لديهم ابتهالات لديونيسس وتهاليل لأبلو ، وترانيم لكل إله من آلهتهم. وكانت لديهم مدائح للأغنياء وأغاني نصر لأبطال الرياضة وأناشيد تغنى على الطعام والشراب ، وللحب ، والزواج ، والحزن ، والدفن. وكان للرعاة ، والحاصدين ، وعاصري الخمور والغزالين ، والنساجين ، هم أيضاً أغانيهم ، وأكبر الظن أن الرجل في السوق أو في النادي ، وأن السيدة في بيتها والمرأة في الطرقات ، كل هؤلاء كانوا يغنون أغاني لم يكن حظها من العلم كحظ أغاني سمنيدس ؛ وما من شك في أن الأغاني الخليعة والأغاني الراقية قد جاءت كلتاهما إلينا من أقدم العصور.

وكانت أرقى أنواع الموسيقى في اعتقاد اليونان وفي حياتهم العملية الغناء الجماعي ؛ وقد أكسبوا هذا النوع من الغناء عمق الفلسفة وتعقيد التركيب ، وهما الصفتان اللتان أخذتا تجدان لهما مكاناً في السمفونية والمقطوعات الموسيقية ، وكان في كل احتفال- سواء أكان احتفالاً بحصاد ، أم بنصر ، أم بزواج ، أم بيوم مقدس ، مكان لجوقة غنائية ؛ وكانت المدن والجماعات المختلفة تقيم من حين إلى حين مباريات في الغناء الجماعي تعد له العدة في معظم الأحيان قبل موعده بزمن طويل ، فيعين مؤلف لكتابة الألفاظ والموسيقى ، ويطلب إلى رجل مثرٍ أن يتكفل بالنفقات ، ويستأجر المغنون المحترفون ، ويعنى كل العناية بتدريب الجوقة. وكان المغنون كلهم يغنون نغمة واحدة ، كما نشاهد الآن في موسيقى الكنيسة اليونانية ، ولم يكن هناك (صوت منفرد) في الفرقة سوى ما حدث في القرون المتأخرة من ارتفاع صوت المصاحب خُمساً فوق الصوت أو انخفاض عنه بهذا القدر ، أو من معارضته. ويبدو أن هذا هو أقرب ما وصل إليه اليونان في التوافق والألحان التوافقية البسيطة.

أما الرقص في أرقى صوره فقد مزج بالغناء الجماعي حتى صار فناً واحداً ، كما أن كثيراً من أنواع الموسيقى الحديثة ومصطلحاتها كانت فيما مضى متصلة بالرقص ، ولم يكن الرقص يقل في قدمه وانتشاره عن الموسيقى عند اليونان. ولما عجز لوسيان عن تتبع نشأته على سطح الأرض حاول أن يجدها في حركة النجوم المنتظمة. ولا يكتفي هومر بأن يحدثنا عن المرقص الذي صنعه ديدلوس Daedalus لأدرياني Adriane، بل يحدثنا أيضاً عن راقص ماهر بين المحاربين اليونان أمام طروادة يدعى مريونيس Meriones ، كان يرقص وهو يحارب فكانت الحراب لهذا السبب تعجز عن إصابته. ويصف أفلاطون الرقص (Orchesis ( بأنه (الرغبة الفطرية في شرح الألفاظ بحركات الجسم كله)- وهو ما تفسره به بعض اللغات الحديثة. وخير من هذا ما وصفه به أرسطاطاليس إذ قال إن الرقص "تقليد الأعمال، والأخلاق،والعواطف، بطريق أوضاع الجسم والحركات إلايقاعية". وكان سقراط نفسه يرقص، وهو يمتدح هذا الفن لأنه يهب الصحة لكل جزء من أجزاء الجسم(83)، وهو يقصد الرقص اليوناني بطبيعة الحال.

ذلك أن هذا الرقص كان يختلف عن الرقص عندنا ، فهو، وإن كان في بعض أشكاله يثير الغريزة الجنسية ، قلما كان يجعل الرجال يلتصقون بالنساء ، بل كان رياضة فنية ، لا عناقاً في أثناء المشي ، كان كالرقص الشرقي تستخدم فيه الذراعان واليدان ، كما تستخدم الساقان والقدمان وكانت أنماطه لا تقل اختلافاً عن أنماط الشعر والغناء ، وقد ذكر الثقاة الأقدمون مائتين من هذه الأنماط، من بينها رقصات دينية كالتي كان يقوم بها عباد ديونيسس ، ورقصات رياضية كرقصات الإسبارطيين في احتفال الشباب العرايا ، ورقصات حربية كالرقص البيري يتعلمه الأطفال فيما يتعلمون من التدريب العسكري ؛ ومنها الهيبرشيما Hyporchema الفخمة أي الترنيم أو اللعب الذي يقوم به اثنان من المغنين أحدهما يغني ثم يرقص وثانيهما يرقص ثم يغني، ثم يتناوب الاثنان بعد هذا الرقص والغناء؛ ومنها الرقصات الشعبية التي ترقص عند كل حادثة هامة من حوادث الحياة وكل فصل أو عيد من فصول السنة أو أعيادها. وكانت لديهم مباريات في الرقص، كما كانت لديهم مباريات في كل شيء سواه، تشمل في العادة أغاني جماعية. وكانت هذه الفنون كلها- الشعر الغنائي ، والأغاني ، والموسيقى الآلية ، والرقص- وثيقة الصلة بعضها ببعض عند اليونان الأولين ، وكانت تؤلف في كثير من مظاهرها فناً واحداً ثم دخل فيها التفرع والتخصص المهني على توالي الزمن وبدأ ذلك في القرن السابع ، فترك الشعراء الجوالون للأغاني واستبدلوا بها التلاوة ، وفضلوا الشعر القصصي عن الموسيقى.

وكان أرشلوقوس Archilochus يغني أشعاره دون أن يستعين بآلات موسيقية ؛ وبدأ ذلك التدهور الطويل الأمد الذي نزل بالشعر آخر الأمر فجعله أشبه بملك صامت حبيس سقط من السماء. ثم تفرع الرقص ذو الغناء الجماعي فكان منه غناء من غير رقص ، ورقص من غير غناء ، لأن (الحركات العنيفة تسبب قصر النفس ، ولذلك أثر سيئ في الغناء) كما يقول لوسيان. وظهر بهذه الطريقة عينها موسيقيون لا يغنون ، نالوا إعجاب مستمعيهم بمحافظتهم الدقيقة على أرباع النغمات. وقد غالى بعض مشهوري الموسيقيين وقتئذ ، كما يغالي أمثالهم الآن في أجورهم. من ذلك أن أميبوس Amoebeus المغني والعازف على القيثارة كان يتقاضى وزنة (تالنتا) أي نحو 6000 ريال أمريكي عن كل حفلة. وما من شك في أن الموسيقي العادي لم يكن ينال من الأجر إلا ما يسد به رمقه، وذلك لأن الموسيقي، كغيره من الفنانين، ينتمي إلى مهنة كان لها شرف القضاء على أهلها جوعاً في كل جيل من الأجيال.

وأما الذين نالوا أوسع الشهرة فهم أمثال تربندر ، وأريون ، والكمان ، وأستسيكورس ، الذين برعوا في جميع أنواع الموسيقى ، والذين مزجوا الغناء الجماعي ، والموسيقى الآلية ، والرقص ، فجعلوا منها فناً واحداً معقداً متوافقاً ، لعله كان أجمل واجلب للسرور من التمثيلات الغنائية والفرق الموسيقية في هذه الأيام. وكان أريون أشهر أولئك الأساتذة كلهم. ويروي عنه اليونان أنه كان يقوم برحلة من تاراس Taras إلى كورنثة، فسرق منه الملاحون نقوده، ثم خيروه بين القتل طعناً أو غرقاً. فما كان منه إلا أن غنى أغنية أخيرة ثم ألقى بنفسه في البحر، فحمله دولفين على ظهره (ولعل الذي حمله هو عوده) وأوصله إلى البر. وهو الذي جعل من أناشيد المغنين السكارى ، الذين كانوا يرتجلون الأغاني الخمرية الديونيسية، أغاني جماعية مدربة غير مخمورة، تتألف من خمسين صوتاً، تغنى على أحد جانبي المسرح وترد عليها فرقة أخرى على الجانب الآخر. وكان موضوع الأغنية في العادة ما لاقاه ديونيسس من العذاب والموت، وكان المغنون يتنكرون في زي جن الحراج القريبة الشبه بشكل المعز تكريماً لخدم الإله كما تصورهم القصص المتواترة. ومن هذه الأغاني والحفلات نشأت المآسي اليونانية باسمها ومعناها.

نشأة التمثيل

امتاز القرن السادس بما ازدهر فيه من أسباب العظمة المتعددة التي انتشرت في كثير من البلاد. وكان تاج مميزاته كلها أن وضع فيه أساس التمثيل. لقد كان هذا القرن من فترات الإبداع الخلاقة في التاريخ. ومبلغ علمنا أن الناس قبله لم ينتقلوا من المسرحية الصامتة التي تعتمد على الإشارة ، أو من الطقوس الدينية ، إلى المسرحية الناطقة الدنيوية. ويقول أرسطاطاليس أن الملهاة قد "تطورت من أولئك الذين كانوا يقودون موكب عضو التذكير". ذلك أن جماعة من الناس يحملون عضو تذكير مقدس وينشدون أناشيد لديونيسس أو لغيره من آلهة الزرع، كان يطلق عليهم في اللغة اليونانية اسم كوموس أو الطرب. وكان رمز الصلات الجنسية من مستلزمات هذا الموكب لأنه كان ينتهي بزواج رمزي يهدف إلى تشجيع الإنبات بوسائل سحرية. ومن ثم كان الزواج والتناسل المرتقب هو الخاتمة الطبيعية للملهاة اليونانية القديمة ، كما هو خاتمة معظم الملاهي والروايات القصصية الحديثة.

وقد ظلت الملاهي اليونانية في آخر أيام منندر Menander بذيئة فاحشة لأن نشأتها كانت الصلات الجنسية الصريحة، ولأنها كانت في بدايتها احتفالاً مرحاً يقوى التناسل، فكان القائمون بها يتحللون من كثير من القيود الأخلاقية في المسائل الجنسية ، وكانت قواعد الآداب وقوانينها يقف العمل بها في يوم الاحتفال ، فتباح حرية الكلام بأفحش الألفاظ.

وكان كثير من المحتفلين يتزينون بزي جنيات الحراج الديونيسية ، ويضعون في ثيابهم ذيل ماعز وعضو تذكير اصطناعي طويل من الجلد الأحمر. ثم أصبح هذا هو اللباس التقليدي على المسارح التي تمثل الملاهي ؛ وكان في عهد ارستفنير عادة دينية لا يمكن التحلل منها. والحق أن عضو التذكير ظل رمزاً ملازماً للمهرج في الملهاة حتى القرن الخامس في أوربا الغربية ، وحتى آخر أيام الإمبراطورية البيزنطية في أوربا الشرقية. وكان يصحب عضو التذكير في الملهاة القديمة ذلك الرقص الفاحش الخليع المعروف برقص الكرداكس Kordax.

ومن أغرب الأشياء أن تحوُّل مرح الإنبات الريفي إلى الملهاة التمثيلية قد حدث أولاً في صقلية. ذلك أن رجلا يدعى سوزريون Susarion من أهل مجارا هبليا Megara Hyblaea القريبة من سرقوسة هو الذي حول موكب الفن الجديد من صقلية إلى البلوبونيز ومنها إلى أتكا. وكان الممثلون المتنقلون ، أو الهواة المحليون ، يمثلون الملاهي في القرى. ومر قرن كامل قبل أن يعنى ولاة الأمور- على حد قول أرسطاطاليس - بالملهاة عناية جدية فيبيحوا تمثيلها في الأعياد الرسمية (465ق. م). ونشأت المأساة- Tragoidia- أو أغنية الماعز- بالطريقة عينها من محاكاة المحتفلين رقصاً وغناءً بعيد ديونيسس ، المتشبهين بجنيات الغابات ، والمرتدين جلود المعز. وقد ظلت هذه المحاكاة جزءاً أساسياً من المسرحيات الديونيسية إلى أيام يوربديز ، فكان ينتظر من كل مؤلف لمأساة من ثلاثة فصول أن يراعى العادة القديمة فيضيف إليها فصلاً رابعاً هو عبارة عن مسرحية قصيرة تعرض فيها جنيات الغاب تكريماً لديونيسس. وفي هذا يقول أرسطاطاليس: "وإذ كانت المأساة قد تطورت عن مسرحية جن الغابات فإنها لم ترتفع من الحبكات القصيرة ، والعبارات المضحكة ، إلى مكانتها الرفيعة الكاملة إلا في زمن متأخر جداً". وما من شك في أن عوامل أخرى كان لها شأن في نشأة المأساة ، وأن هذه العوامل قد قويت وظهر أثرها في ذلك الوقت؛ لعلها قد استمدت شيئاً من عبادة الموتى واسترضائهم ، ولكن أهم ما استمدت منها منذ نشأتها هو الحفلات الدينية الرمزية كتمثيل مولد زيوس في كريت أو أرجوس أو ساموس ، وكزواجه الرمزي بهيرا ؛ أو حفلات دمتر وبرسفوني في إليوسيس وغيرها؛ وأهم من هذا كله ما كان يحدث في البلوبونيز وأتكا من حزن ومرح لموت ديونيسس وبعثه، وكان يطلق على هذه المحاكاة اسم Dromena- أي أشياء تعمل، ولفظ دراما Drama ذو صلة بهذا الاسم ومعناه- أو ما يجب أن يكون معناه- "العمل". وقد ظلت فرق الغناء في سكيون حتى أيام الطاغية كليسثنيز تحيي ذكرى "عذاب أدراستوس Adrastus" ملكها القديم . وفي إيكاريا Icaria التي شب فيها ثسبيس كان يضحي بعنز لديونيسس؛ ولعل "أغنية العنز" الذي اشتق منها اسم المأساة اليوناني كانت أغنية تغني حين تقطيع هذا الرمز أو هذا التجسيد للإله الثمل. وقصارى القول أن المسرحية اليونانية كالمسرحية الإنجليزية استمدت أصلها من الطقوس الدينية.

ويُرى من هذا أن المسرحية الأثينية ، مأساة كانت أو ملهاة، كانت تمثل على أنها جزء من حفلات ديونيسس بإشراف الكهنة في دار التمثيل تسمى باسمه، وعلى يد الممثلين يسمون "الفنانين الديونيسيين". وكان يؤتى بتمثال ديونيسس إلى مكان التمثيل، ويوضع أمام المسرح لكي يستمتع بمشاهدة التمثيل؛ وقبل البدء به يضحى بحيوان للإله. وكان لدار التمثيل ما للمعبد من قداسة. فإذا ارتكبت فيها جريمة عوقب مقترفها لأنه ارتكب خطيئة دينية أكثر مما ارتكب جريمة مدنية. وكما أن الملهاة كان لها مقام الشرف على مسرح مدينة ديونيسيا، كذلك كان للملهاة المكانة الأولى في الاحتفال بعيد لينيا، ولكن هذا الاحتفال نفسه كان احتفالا ديونيسيا في صبغته. ولعل موضوع التمثيل كان في بادئ الأمر كالعشاء الرباني عند المسيحية، أي عذاب الإله وموته؛ ثم أُذِن للشعراء على توالي الأيام أن يستبدلوا بعذاب الإله عذاب بطل من أبطال الأساطير اليونانية. وربما كانت المأساة في صورتها الأولى مراسم سحرية تهدف إلى الوقاية من المآسي التي تمثلها أو إلى تطهير المستمعين من الشرور تطهيراً أكثر مما يفهم من هذا اللفظ عند أرسطاطاليس؛ وذلك بتمثيل هذه الشرور كأنها قد نشأت وانتهت على المسرح. ولقد كانت هذه النشأة الدينية للمأساة اليونانية من الأسباب التي وضعتها في مستوى أرقى من مستوى المأساة الإنجليزية في عصر الملكة إليزابث.

وأضحت فرقة المغنين والراقصين ، التي جعلها أريون فرقة من المقلدين والمحاكين، أساس الحركات التمثيلية، وظلت جزءاً أساسياً من المأساة اليونانية حتى آخر مسرحيات يوربديز. وكان الممثلون الأولون يسمون بالراقصين لأنهم جعلوا مسرحياتهم رقصاً جماعياً قبل كل شيء؛ وكانوا في واقع الأمر معلمي رقص. ولم يكن هذا التمثيل الرقصي والغنائي الجماعي ليحتاج لأكثر من شيء واحد ليصبح مسرحية بالمعنى الصحيح، ذلك هو وجود ممثل يقابل هذه الجماعة، ويقوم أمامها بأعمال، أو يتحدث إليها بأحاديث. وقد خطرت هذه الفكرة لواحد من معلمي الرقص ومدربي المغنين هو ثسبيس Thespis الإيكارياوي- من أيكاريا Icaria وهي بلدة قريبة من مجارا في البلوبونيز حيث كانت تمثل في كل عام طقوس دمتر، وبرسفوني، وديونيسس زجريزس. وقد انفصل ثسبيس هذا من فرقة الراقصين والمغنين، مدفوعاً إلى هذا من غير شك بتأثير الأنانية التي تحرك العالم وتعمل على تقدمه، ووضع لنفسه عبارات يقولها بمفرده، وأوجد الفكرة المقابلة والنزاع مع سائر الفرقة، وقدم للتاريخ المسرحية بمعناها الدقيق، وقام بأدوار مختلفة من هذا القبيل أصابه التوفيق فيها تارة والإخفاق تارة أخرى؛ ولما أن مثَّلت فرقته في أثينة غضب صولون أشد الغضب على ما ظنه خداعاً للجمهور، وندد بهذه البدعة الفنية، وسماها فساداً خلقياً- وتلك تهمة طالما اتهم بها التمثيل في كل جيل. وكان بيسستراتس أوسع من صولون خيالاً، وشجع المباريات التمثيلية في عيد ديونيسس، وقد فاز ثسبيس في إحدى هذه المباريات. وتطورت المسرحية في شكلها الجديد تطوراً سريعاً استطاع معه كوريلوس Choerilus بعد جيل واحد أن يمثل مائة وستين مسرحية. ولما أن عاد إسكيلوس، وعادت أثينة، ظافرين من معركة سلاميس بعد خمسين سنة من حياة ثسبيس كان المسرح قد تهيأ لاستقبال العصر المجدي في

الخزف


The Vix crater, a late Archaic monumental bronze vessel.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

السفن المعدنية

التماثيل

تماثيل تراكوتا

Bell Idol 7th C. BC, Louvre.


التماثيل المعدنية

8th century BC votive horse from Olympia (Louvre).


النحت

الخامات والأشكال

Late Archaic terracotta statue of Zeus and Ganymede, متحف اولمپيا الأثري.


الفترة القديمة

Kleobis and Biton, kouroi of the Archaic period، ح. 580 ق.م. المحفوظة في متحف دلفي الأثري.

الفترة الكلاسيكية

نحت برونزي، يُعتقد أنه يمثل إما پوسايدون أو زيوس، ح. 460 ق.م.، المتحف الأثري الوطني، أثينا. This masterpiece of classical sculpture was found by fishermen in their nets off the coast of Cape Artemisium in 1928. The figure is more than 2 m in height.


Family group on a grave marker from Athens, National Archaeological Museum, Athens

الهليني

The transition from the Classical to the Hellenistic period occurred during the 4th century BC. Following the conquests of Alexander the Great (336 BC to 323 BC), Greek culture spread as far as الهند, as revealed by the excavations of Ai-Khanoum in eastern Afghanistan, and the civilization of the Greco-Bactrians and the Indo-Greeks. Greco-Buddhist art represented a syncretism between Greek art and the visual expression of Buddhism.

Greco-Buddhist frieze of Gandhara with devotees, holding plantain leaves, in Hellenistic style, inside Corinthian columns, 1st-2nd century CE. Buner, Swat, پاكستان. Victoria and Albert Museum.

لم تبلغ التماثيل من الكثرة في عصر من العصور مثل ما بلغته في العصر الهلنستي، فقد كانت الهياكل والقصور، والدور والشوارع، والحدائق والبساتين كلها غاصة بالتماثيل التي تصور كل ناحية من نواحي الحياة البشرية وكثيراً من مظاهر العالم النباتي والحيواني. وكانت تمثيل نصفية تخلد إلى وقت ما الموتى من الأبطال والمشهورين من الأحياء؛ وانتهى الأمر بأن نحتت من الحجارة تماثيل للمعاني المجردة كالحظ، والسلام، والنميمة، والفرصة السانحة.

وقد صنع يوتيكيدز من سيكيون Eutychides of Sicyon تلميذ ليسبوس Lysippus لمدينة أنطاكية أنموذجاً ذائع الصيت لتمثال الحظ ليمثل فيه روح المدينة وأملها. وواصل تماخوس Timachus وسفسودوتسوس Cephisodotus ابنا بركستليز تقاليد النحت الأثيني الظريفة. وفي البلوبونيز طبقت شهرة دمفون المسيني Damphon of Messene الخافقين حين نحت مجموعته الضخمة المكونة من دمتر، وبرسفوني، وأرتميس. غير أن الكثرة الغالبة من المثالين الجدد كانت تتبع أقرب طريق ينقذها من الموت جوعاً ألا وهو تزيين قصور الملوك والعظماء اليونان الشرقيين.

ونشأت في جزيرة رودس في القرن الثالث مدرسة في النحت ذات طابع خاص لا مثيل له في غيرها من المدارس. فلقد كان في الجزيرة مائة تمثال ضخم يكفي الواحد منها على حد قول بلني، لأن ينشر في الآفاق شهرة مدينة. وكان أعظمها كلها تمثال ضخم من البرونز لهليوس Helios إله الشمس صنعه كاريز اللندوسي Chares of Lindus حوالي عام 280. وتقول رواية ضعيفة إن كاريز هذا قد انتحر حين رأى أن نفقة التمثال قد زادت كثيراً على ما كان مقدراً لها، وإن لاكيز اللندوسي Laches of Lindus أتم التمثال. ولم يكن هذا التمثال مقاماً إلى جانبه ويعلو إلى ارتفاع مائة قدم وخمس أقدام؛ ويوحي هذا الحجم بأن ذوق أهل رودس كان يتجه نحو المظاهر الفخمة والضخامة، ولكن لعل الرودسيين كانوا يستخدمون منارة للسفن ورمزاً للجزيرة. وإذا جاز لنا أن نصدق ما جاء في قصيدة ديوان الشعر اليوناني(15) فإن هذا التمثال كان يرفع بيده ضوءاً وأنه كان يرمز إلى الحرية التي تستمتع بها رودس-وتلك سابقة عجيبة لتمثال شهير في أحد الثغور الحديثة . وكان هذا التمثال بلا ريب يُعد إحدى عجائب الدنيا السبع؛ ويقول بلني أنه:

"قد ألقاه على الأرض زلزال بعد ست وخمسين عاماً من إقامته؛ وإنه قل ما يوجد من الرجال من يستطيع تطويق إبهامه بذراعيهِ، وإن أصابع يديه أكبر من أجسام معظم التماثيل، وإنه إذا ما كسرت أطرافه شوهد في داخل الجسم كهوف واسعة مفتوحة. ويُرى في داخله أيضاً صخور ضخمة أراد المثال أن يثبت بها التمثال في موضعه أثناء اشتغاله بإقامته. ويقال إنه قضى في نحته اثنتي عشرة سنة، وإن نفقاته بلغت ثلاثمائة وزنة-وقد حصلت الجزيرة على هذا المبلغ من آلات الحرب التي تركها دمتريوس وراءه بعد حصاره الفاشل للجزيرة ".

ويكاد يضارع هذا التمثال في شهرته التاريخية مجموعة أخرى من صنع المدرسة الرودسية تُعرف باسم اللاؤكؤن Laocoon. وقد شاهد بلني هذه المجموعة في قصر الإمبراطور تيتس، وعُثر عليها عام 1506م في حمامات هذا الإمبراطور؛ ولا يكاد يخامرنا أدنى شك في أنها هي المجموعة الأصلية التي نحتها أجسندر Agesander، وبليدوروس Polydorus، وأثينودوروس Athenodorus من قطعتين كبيرتين من الرخام في القرن الثاني أو الثالث قبل الميلاد(18). وقد هز كشفها مشاعر إيطاليا في عهد النهضة وكان لها أعمق الأثر في ميكل أنجلو الذي حاول عبثاً أن يعيد إلى التمثال الأوسط فيها ذراعه اليمنى الضائعة . وكان لاؤكؤون الذي تسمى المجموعة باسمه كاهناً طروادياً نصح الطرواديين بأن لا يقبلو ا الحصان الخشبي حين بعث به اليونان إليهم وقال لهم، كما يروي فرجيل، "أني أخشى اليونان حتى وهم يحملون إلينا الهدايا Timeo Danaos et Dona Ferentes(19)". وأرادت أثينا التي تحب اليونان أن تعاقبه على حكمته فأرسلت إليهِ حيتين لتقتلاه. فقبضتا أولاً على ولديهِ، وأبصرهما لاؤكؤون فهجم عليهما لينقذهما، فوقع بين طيات الحيتين، وانتهى الأمر بأن طُحنت أجسامهم جميعاً وماتوا من سم أنياب الحيتين. ولقد أجاز المثالون لأنفسهم ما أجازه فرجيل لنفسهِ (وما أجازه لنفسه سفكليز في فلكتيتس) فعبروا عن الألم بقوة، ولكن النتيجة لا تتفق وما في طبيعة الحجر من دوام. إن الألم في الأدب وفي الحياة عادةً لا يدوم؛ أما في اللاؤكؤون فأن صرخة الألم قد دامت دواماً غير طبيعي، والناظر إليها لا يتأثر كما يتأثر بحزن دمتر الصامت . على أن الذي يثير إعجابنا هو براعة الفكرة وإتقان التنفيذ. نعم إن العضلات قد بولغَ فيها، ولكن أطراف الكاهن الشيخ، وجسمي ولديهِ قد صيغا صياغة مثلت في كثير من الهيبة والتحفظ ولعلنا لو عرفنا القصة قبل أن نشاهد المجموعة لتأثرنا بها كما تأثر بلني، الذي ظنها أعظم عمل من أعمال الفن اللدن(20).

وقامت في مراكز يونانية أخرى مدارس زاهرة للنحت في هذا العصر الذي لم يقدره الناس حق قدره؛ غير أن الإسكندرية قد انقلبت أرضها وتبدلت مبانيها مراراً كثيرة في أثناء تاريخها الطويل، فلم تحتفظ بما أقامه الفنانون اليونان للبطالمة من أعمال؛ وكل ما بقي من الأعمال الجليلة الشأن هو تمثال النيل الوقور المحفوظ في متحف الفاتيكان والذي يسنده ستة عشر طفلاً ترمز إلى الستة عشر قيراطاً التي يعلوها النهر في فيضانه. وقد نحت مثال يوناني من صيدا عدداً من التوابيت لطائفة غير معروفة من الكبراء أحسنها كلها التابوت المسمى خطأ بتابوت الإسكندر والمحفوظ في متحف اسطنبول. ويضارع ما فيه من الحفر ما في إفريز البارثنون وإن قل عنه في الكم؛ فالصور جميلة متقنة التناسب، والنحت قوي ولكنه واضح، والألوان الهادئة التي لا تزال عالقة بالحجارة تدل على العون الذي كان يلقاه النحت اليوناني من فن التصوير. وصب أبلونيوس وتورسكس في ترالس Trallas من أعمال كاريا Caria حوالي 150ق.م. مجموعة ضخمة من البرنز لرودس تُعرف الآن باسم ثور فارنيز. وتتألف هذه المجموعة من غلامين وسيمين يسيطان درسي Dirce الجميلة ويدفعانها إلى قرني ثور وحشي، لأنها أساءت معاملة أمهما أنتيوبي Antiope التي تنظر إليهما راضية مطمئنة اطمئناناً تعافه النفس . وفي برجموم صب المثّالو ن اليونان من البرنز عدة مجموعات حربية أقامها أتلس أول الأمر في عاصمة ملكه ليخلد بها ذكرى صد غارات الغاليين. وأراد أتلس أن يعبر عما تشعر به الثقافة اليونانية بأجمعها من فضل أثينة عليها، ولعله أراد أيضاً أن يذيع شهرته، فأهدى صوراً من هذه المجموعة لتقام على الأكربوليس بأثينة. وقد بقيت قطع صغيرة منها في صورة الغالي المحتضر المحفوظ في متحف الكبتولين، وفي الصورة المسماة خطأ بيتس وأرّيا -وهي صورة غالي يؤثر الموت على الأسر فيقتل زوجته أولاً ثم يثني بنفسه- وفي قطع أخرى أصغر منها منتشرة الآن في مصر وأوربا. ولعل من هذه المجموعة أيضاً صورة الأمزونة الميتة التي لا عيب في تفاصيلها كلها عدا ثدييها الذين بلغا من الكمال حداً لا يتصوره العقل. وتكشف هذه الصورة عن تحفظ في التعبير عن الانفعالات شبيهة بما كان في عصر اليونان الزاهر. فالرجال المغلوبون يقاسون الآلام والأحزان المبرحة، ولكنهم يموتون وهم صابرون؛ وقد أجاز المنتصرون للفنانين أن يمثلوا فضائل أعدائهم كما يمثلون هزيمتهم. ولسنا نتبين هنا أي دليل على نقص القدرة على التفكير أو دقة ملاحظة أجزاء الجسم، أو مهارة التمثيل أو الصبر عليه. ولا يكاد يقل عن هذه المجموعة كمالاً النقش العظيم الذي كان يمتد على طول قاعدة مذبح زيوس وأكربوليس برجموم، والذي يقص مرة أخرى قصة الحرب التي نشبت بين الآلهة والجبابرة-ويبدو أن هذا النقش تمثيل متواضع للحرب بين أهل برجموم والغاليين. والنقش هنا شديد الازدحام، ويبدو أحياناً عنيفاً عنفاً مسرحياً، ولكن بعض رسومه تضارع خير ما أنتجه الفن اليوناني. فصورة زيوس التي لا رأس لها منحوتة بقوة لا تقل عن قوة اسكوباس Scopas، والإلهة هكتي Hecate مثال في الرشاقة والجمال بين أهوال الحرب وفظائعها.

وكان هذا العصر غنياً بما فيه من روائع الفن التي لا يعرف أصحابها والتي تكاد تشمل صوراً لجميع الآلهة الكبار، ونذكر منها رأس زيوس الفخم الذي عُثر عليه في أتركولي Atricoli وتمثال لودوفيزي هيرا Lodovisi Hera المحفوظ في متحف ترمي، وقد أعجب بهما جيتة في شبابه إعجاباً حمله على أن ينقل معه قالبين لهما إلى ألمانيا كأنهما تذكاران حقيقيان أهداهما إليه جوف ويونو, أما أبلو بلفدير الذي كان من قبل موضع الإعجاب فهو فاتر متكلف خال من دلائل الحياة، ولكنه مع ذلك أزكى نار الحماسة في قلب ونكلمان منذ قرنين من الزمام(21). ويختلف أشد الاختلاف عن هذا التمثال الأملس الضعيف تمثال هرقل الفانيزي الذي نقله جليكون Glycon الأثيني عن أصل له يُعزى إلى ليسبوس-وجسمه الضخم كله عضلات، وكله ملل، وكله حنو، ووجهه كله عجب ودهشة-كأن القوة كانت تسأل نفسها ذلك السؤال الذي لم يجب عن أحد قط: ماذا يجب أن يكون هدفها؟ أما أفرديتي فقد أخرج لها ذلك العصر تماثيل لا يقل عنها في عددها إلا عبادها وحدهم؛ وقد بقي عدد من هذه التماثيل معظمها مما نقله الرومان عن أصولها اليونانية. غير أن تمثال أفرديتي ميلوس المحفوظ في متحف اللوفر والمعروف فيه باسم زهرة ميلو يبدو أنه تمثال يوناني أصيل نُحت في القرن الثاني قبل الميلاد. وقد عثر على هذا التمثال في ميلوس عام 1820 بالقرب من قطعة من القاعدة نقشت عليه الحروف ساندوس Sandos، وربما كان أجسندر الأنطاكي واسمه مأخوذ من سرادق الفاتيكان الذي وضع فيه التمثال أولاً وهو الذي نحت هذا التمثال العادي المتواضع.

وليس لوجه التمثال ذلك الجمال الرقيق الذي يزدان به وجه التمثال الموضوعة صورته في الصفحة الأولى من هذا المجلد، ولكن الجسم نفسه ممتلئ بالصحة التي يكون الجمال ثمرتها الطبيعية. ولسنا نرى فيهِ ذلك الخصر النحيل الذي لا يتفق مع الجسم الملئ والوركين المكتنزتين... ولم يبلغ هذا الكمال كله تمثالا فينوس الكبتولينية، وفينوس الميديشية . وتمثال فينوس كلبيجي Venus Callpyge أو فينوس ذات الإليتين الجميلتين يثير الغريزة الجنسية قوية، وقد غطيت فيه مفاتنها لكي تكشف عنها، وتلتفت لتبدي إعجابها بردفيها في البحيرة. وأوقع من هذه التماثيل كلها في النفس تمثال نَيْكي Nike أو نصر سموثريس الذي وجد في ذلك المكان عام 1863، وهو الآن أروع آيات النحت في متحف اللوفر . وقد مثلت إلهة النصر كأنها تحط وهي طائرة بأقصى سرعتها على مقدم سفينة مسرعة، وتقودها إلى الهجوم. ويخيل إلى الرائي أن جناحيها العظيمتين يجذبان السفينة ضد النسيم الذي يعبث بأثوابها. وهذا أيضاً تسيطر على التمثال فكرة اليونان عن المرأة، وهي أنها ليست متعة حلوة فحسب، بل أنها فوق ذلك أم قوية. فليس جمالها هو جمال الشباب الضعيف الزائل بل هو نداء المرأة الذي يدوم طول الحياة للرجل لكي يسمو إلى الأعمال الجليلة؛ وكأنما أراد الفنان أن يمثل هنا السطور الأخيرة من فوست Faust للشاعر جيته. لعمري أن حضارة تستطيع أن تفكر في هذا التمثال وأن تنحته لحضارة أبعد ما تكون عن الموت.

ولم تكن الآلهة أهم ما يعنى به المثالون الذين ازدان بهم خريف الفن اليوناني؛ لقد كان هؤلاء الفنانون ينظرون إلى أولمبس نظرتهم إلى معين من الموضوعات لا أقل من ذلك ولا أكثر. ولما نضب هذا المعين من كثرة ما أخذ من انتقلوا إلى الأرض نفسها وسرهم أن يمثلوا ما في الحياة البشرية من حكمة وجمال، وغرابة وسخافات. فنحتوا أو صبوا رؤوساً ذات روعة اهومر، ويوربديز، وسقراط. وصنعوا عدداً من التماثيل الملساء الرقيقة لهرمفرديتي Hermaphrodite يستلفت العين جماها الغامض؛ وهي قائمة في متحف العاديات باسطنبول، أو في معرض بورجا في رومة، أو في متحف اللوفر. وكان الأطفال في هذه التماثيل يقفون وقفات طبيعية منشطة، كوقفة الغلام الذي يخرج شوكة من قدمه؛ والغلام الأخر الذي يقاتل إوزة . وأجمل ما في هذا الصنف من التماثيل تمثال الشاب القائم للصلاة والذي يتجلى الإيمان في وجهه، ويعزى هذا التمثال إلى بؤيثس Boëthus تلميذ ليسبوس . وكان المثالون يذهبون إلى الغابات ويصورون جن الغاب كجنية بربريني المحفوظ تمثالها في ميونخ Munich أو الساترات الفرحة كتمثال سلينس السكرى المحفوظ في متحف نابلي. وكانوا يضعون في مواضع متفرقة بين صورهم الوجنتين المتوردتين والحيل الخادعة الماكرة التي يعزوها الأقدمون إلى إله الحب.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

العمارة

The restored Stoa of Attalus, Athens


استعاد فن البناء على مهل ما خسره بسبب الغزو الدوري، ورفع اسم الدوريين إلى أكثر مما يستحق. وانتقلت أسس العمارة الميسينية إلى بلاد اليونان خلال العصور المظلمة القديمة الممتدة من عهد أجممنون إلى تربندر، فاحتفظت روائع الفن اليوناني بطراز البناء المستطيل القائم الزوايا، وباستخدام العمد في داخل البناء وخارجه، وبجسم العمود المستدير وتاجه المربع البسيط، وبالأروقة المعمدة، والوجهات ذات الحزوز. غير أن العمارة الميسينية كانت عمارة مدنية غير دينية، منصرفة كلها إلى تشييد القصور والدور؛ أما العمارة اليونانية في عصر اليونان الزاهر فتكاد أن تكون كلها دينية، فقد استحال القصر الملكي معبداً مدنياً بعد أن اضمحلت الملكية، وعمل الدين والديمقراطية على توجيه عواطف اليونان إلى تعظيم المدينة في شخص إلهها. وشيدت أقدم الهياكل اليونانية من الخشب أو اللبن، وهما أنسب المادتين إلى العصر المظلم الفقير؛ ولما أن صار الحجر المادة الأصلية في تشييد الهياكل، بقيت المظاهر المعمارية كما كانت في عهد البناء بالخشب؛ وظل جسم المعبد الأصلي المستطيل، والعمد المستديرة، (والعارضة الرئيسية) المركبة على العمد، والحزوز الثلاثية في طرف العارضة، والسقف ذو (الجملون) بقيت هذه كلها شاهدة على الأصل الخشبي الذي استمدت منه شكلها الأول. بل إن الشكل اللولبي الأيوني كان كما يبدو من صورته رسوماً لنباتات وأزهار على كتلة من الخشب(63). وكثر استعمال الحجارة بازدياد ثراء اليونان وكثرة أسفارهم، وكان الانتقال أسرع ما يكون بعد أن فتحت مصر أبوابها للتجارة اليونانية حوالي عام 660ق. م، وكان حجر الجير المادة الشائعة الاستعمال في أنماط البناء الجديدة قبل القرن السادس، ثم بدأ استعمال الرخام حوالي عام 580، وكان يستخدم أول الأمر في الأجزاء التي يزين بها الهيكل، ثم استخدم بعدئذ في تشييد واجهته، واستخدم آخر الأمر في بناء الهيكل كله من قاعدته إلى سقفه.

وفي بلاد اليونان نشأت (مراتب) العمارة الدورية، والأيونية، ثم الكورنثية في القرن الرابع قبل الميلاد. وإذ كان داخل الهيكل مخصصاً للإله والكهنة القائمين على خدمته، وكانت العبادات كلها تؤدى في خارجه، فقد استخدمت (المراتب) الثلاث كلها في تجميل الهيكل من خارجه وجعله ذا روعة ومهابة. وكان ذلك التجميل يبدأ من الأرض نفسها، وهي عادة مكان مرتفع، فيبنى الأساس من طبقتين أو ثلاث طبقات من الحجارة كل منها أقل مساحة من التي تحتها، وفوق الطبقة العليا مباشرة يقوم العمود الدوري دون أن تكون له قاعدة خاصة- ويزدان بحزوز ضحلة، محدودة الجوانب، ثم يتسع العمود اتساعاً ظاهراً في وسطه ويتكون منه ما يسميه اليونان (إمتداداً) له. ثم تقل سعة العمود الدوري بعض الشيء كلما قرب من قمته، فيكون أشبه بالشجرة ومناقضاً للطراز المينوي- الميسيني (وجسم العمود الذي لا تنقص سعته- وأسوأ منه الذي يضيق كلما اتجه إلى أسفل- يبدو ثقيلاً في أعلاه غير جميل في منظره، على حين أن القاعدة المتسعة، تزيد شعور الإنسان باستقرار العمود، وهو الشعور الذي يجب أن تبعثه في النفس جميع العمائر. على أن العمود الدوري قد يكون مفرطاً في الثقل، مفرطاً في سمكه بالنسبة إلى ارتفاعه مغرقاً في الصلابة والقوة إغراقاً يدل على البلاهة)، وفي أعلى العمود الدوري يقوم تاجه البسيط القوي ويتكون من (عنق) أو رباط مستدير، وبروز دائري محدب كأنه وسادة يرتكز عليها التاج وفي أعلاه التاج المربع نفسه وقد اتسع ليقوى العمود على تحمل العارضة.


وبينما كان هذا الطراز من البناء ينمو ويتطور على أيدي الدوريين ويتكيف في أغلب الظن بأبهاء العمد التي في الدير البحري وبني حسن المتقدمة على العصر الدوري كان اليونان الأيونيون يبدلون هذا الشكل الأساسي نفسه بتأثير الطرز الآسيوية ونشأ من هذا التطور طراز أيوني يقوم فيه عمود رفيع على قاعدة لها خاصة ويبدأ من أسفلها كما ينتهي في أعلاه بطوق ضيق وكان في العادة أكثر ارتفاعاً وأصغر قطراً من جسم العمود الدوري وكان ما فيه من نقص في سمكه من أسفل إلى أعلى قليلاً لا تكاد العين تدركه. أما الحزوز فكانت غائرة، نصف دائرية تفصلها بعضها عن بعض أطراف منبسطة، وكان رأس تاج العمود الأيوني يتكون من وسادة محدبة ضيقة، ويعلوها تاج أضيق منها، وبينهما تبرز تلفيفة لولبية مزدوجة تكاد تخفيهما عن العين كأنها ملف مطبوق نحو الداخل. وذلك عنصر مأخوذ عن الأشكال الحثية، والآشورية، وغيرهما من الأشكال الشرقية(64). وهذه الخواص إذا أضيفت إليها النقوش البديعة المحكمة التي في الأروقة لا يستبين منها الرائي طرازاً في العمارة فحسب، بل يستبين منها كذلك خواص صنف من الناس : فهل تمثل في الحجارة ما يمتاز بها الأيونيون من وضوح، ودماثة، وقوة عاطفة، ورشاقة، وولع بالتفاصيل الرقيقة؛ كما أن الطراز الدوري يعبر عن تحفظ الدوريين وكبريائهم، وضخامتهم وقوتهم، وبساطتهم الصارمة؛ ولقد كانت تماثيل الجماعات اليونانية المتنافسة، وآدابها وموسيقاها، وأخلاقها، وثيابها، تختلف لتنسجم مع أنماط عمارتها؛فالعمارة الدورية رياضة، والعمارة الأيونية شعر، وكلتاهما تنشد الخلود في الحجارة؛ والأولى " نوردية " أما الثانية فشرقية، وهما معا تكونان الذكورة والأنوثة في صورة متناسقة منسجمة في جوهرها.

وتمتاز العمارة اليونانية بأنها قد تطور فيها العمود حتى صار من عناصر الجمال كما صار دعامة يستند إليها البناء، وكان العمل الأساسي للعمد هو حمل طنف السقف وإزاحة جدران المعبد الداخلي من قوة دفع السقف ذي " الجمالون " إلى الخارج. وفوق العمد يقوم الرواق أي الطابق العلوي من البناء. وفيه أيضاً، كما في الأجزاء الساندة، كان فن العمارة اليوناني يحرص على إظهار الصلات الواضحة بينها. فقد كانت العارضة أي الحجر الكبير الذي يصل تيجان الأعمدة بعضها ببعض في الطراز الدوري بسيطة أو كانت تحمل فوقها طنفاً بسيطاً ملوناً، أما في الطراز الأيوني فكانت تتكون من ثلاث طبقات تبرز كل منها تحت ما فوقها، وكان في أعلاها حلية من الرخام مقسمة فلقا بينها نقوش كبيرة مختلفة الأنواع. وإذا كانت الكتل المائلة التي يتكون منها إطار السقف في الطراز الدوري تنحدر إلى أسفل، وكان ما يمسكها الكتل الأفقية التي عند الطنف، فإن أطراف الثلاث كتل مجتمعة كان يتكون منها- في الخشب أولاً ثم في الحجر المقلد للخشب بعدئذ- سطح مقسم ثلاثة أقسام، وقد ترك بين كل قسم والذي يليه فراغ تتكون منه نافذة مفتوحة إذا كان السقف من الخشب أو من قطع القرميد المحروق؛ فإذا ما استعملت فيه قطع مسطحة من الرخام فإن هذه "النوافذ" ونقوش الطنف- يستخدمان في البناء الواحد في القرن الخامس قبل الميلاد، كما نشاهد في بناء البارثنون. وقد وجد المثال في القواصر- وهي المثلثات المكونة من السقف ذي "الجمالون" من الأمام ومن الخلف- أحسن الفرص لإظهار فنها. وكان في وسعه أن ينقش فيها الصور نقشاً كبير البروز، وتكبر بحيث يستطيع أن يراها من يقف في أسفل البناء؛ وكانت الأركان المتجمعة- أو الطبول- عند المعماريين- وسيلة تختبر بها مهارة الفنان العظيمة. وكان في الاستطاعة أن يجعل السقف نفسه تحفة فنية تجملها قطع القرميد الزاهية الألوان والمثقفات التي تستخدم لتصريف مياه الأمطار، وتتخذ الوقت نفسه قواعد للتماثيل العليا ترتفع من زوايا القواصر. وقصارى القول أنها كانت في الهيكل اليوناني، وبين العمد، وعلى الجدران، وفي داخل البناء نفسه، ما يزيد على الحاجة من التماثيل والنقوش. وكانت للرسام أيضاً يد في زينتها : فقد كان الهيكل يطل كله أو بعضه بما فيه من تماثيل وبروز ونقوش. ولعلنا في هذه الأيام نغالي في الإكبار من شأن اليونان بعد أن محت الأيام الطلاء عن معابدهم وآلهتهم، وخلفت أكاسيد الحديد على الرخام ألواناً طبيعية لا يحصى عددها تظهر بريق الحجارة تحت سماء اليونان الصافية. ومن حقنا أن نتوقع أن يصبح الفن الحديث نفسه وبالطريقة عينها جميلاً في يوم من الأيام.

وازدهر الطرازان المتنافسان ازدهاراً عظيماً في القرن السادس وبلغ ذروة الكمال في القرن الخامس. وقد قسما بلاد اليونان من الناحية الجغرافية قسمة ضيزى. فكان للفن الأيوني السيادة في بلاد آسية اليونانية وفي بحر إيجة، وكان للفن الدوري السيادة في أرض اليونان نفسها وفي غربها. وكان أعظم ما أبدعه الفن الأيوني في القرن السادس هو معبد أرتميس في إفسوس، ومعبد هيرا في ساموس، وتماثيل البرنشيدي بالقرب من ميليتس. ولكن جميع العمائر الأيونية التي أنشئت قبل مارثون قد عدا عليها الزمان فلم يبق منها إلا أنقاضها. وأجمل المباني الباقية من القرن السادس معابد بستوم Paestum وصقلية القديمة وكلها من الطراز الدوري. وقد بقي من الهيكل العظيم الذي شيد في دلفي بين عامي 512،548 تصميم قاعدة نعرفها من رسوم المهندس اسبنثاروس Spintharus الكورنثي، أما الهيكل نفسه فقد دمره زلزال وقع في عام 373، ثم أعيد بناؤه بالنظام عينه؛ وكان لا يزال قائماً بهذه الصورة حينما طاف بوزنياس ببلاد اليونان، وتكاد العمارة الأثينية في هذه الفترة أن تكون كلها دورية الطراز. وبه بدأ بيسستراتس حوالي عام 530 معبد زيوس الأولمبي الضخم في السهل القائم عند أسفل الأكربوليس. وهاجر مئات من الفنانين الأيونيين إلى أتكا بعد أن فتح الفرس أيونيا في عام 546، وأدخلوا في أثينة طراز العمارة الأيونية أو عملوا على إنمائه. وقبل أن ينصرم هذا القرن كان المهندسون الأثينيون يستخدمون الطرازين وكانوا قد وضعوا جميع الأسس الفنية لعصر بركليز .


تصميم العملات المعدنية


الرسم

اللوحات


رسم جداري

Symposium scene in the Tomb of the Diver at Paestum, circa 480 BC.


Reconstructed colour scheme of the entablature on a Doric temple.

Polychromy: painting on statuary and architecture

العمارة

Traces of paint depicting embroidered patterns on the a peplos of an Archaic kore, Acropolis Museum.
Reconstructed colour scheme on a Trojan archer from the Temple of Aphaia, Aegina.

الرسم

كان من أثر استيطان اليونان غرب آسية وفتح مصر للتجارة اليونانية حوالي عام 660 ق.م أن دخلت أشكال الشرق الأدنى ومصر وأساليبهما إلى أيونيا وبلاد اليونان الأوربية. ذلك أن مثالين كريتين هما دبوئينوس Dippoenus وسيلوس Scyllus استدعيا حوالي عام 580 إلى سكيون وأرجوس ليقوما فيهما بمهمة فنية. ولما أن غادراهما لم يتركا فيهما تماثيل فحسب بل تركا فيهما تلاميذ أيضاً. ونشأت من ذلك الحين مدرسة للنحت قوية في بلاد البلوبونيز. وكان لهذا الفن أهداف كثيرة؛ فكان أولاً يخلد الموتى بالأعمدة البسيطة، ثم برؤوس تماثيل قائمة على قواعد، ثم بتماثيل كاملة أو لوحات جنائزية منقوشة. وكانت التماثيل تصنع للفائزين في الألعاب الرياضية؛ فكانوا أولاً ينحتون نماذج لتماثيل هؤلاء الفائزين. وكان خيال اليونان الحي الخصيب من أسباب تشجيع هذا الفن، فقد جعلهم يصنعون للآلهة تماثيل يخطئها الحصر. وكان الخشب هو المادة التي تصنع منها أكثر التحف حتى القرن السادس قبل الميلاد، وشاهد ذلك ما نسمعه كثيراً عن صندوق سبسيلوس طاغية كورنثة؛ ويقول بوزنياس إنه صنع من خشب الأرز المطعم بالعاج والذهب، وزين بالنقوش المعقدة المحفورة. ولما زاد الثراء كانت التماثيل الخشبية تغطى كلها أو بعضها بالمواد الثمينة. وبهذه الطريقة صنع فيدياس تماثيله الذهبية والعاجية لأثينة بارثنوس ولزيوس الأولمبي. وظل البرونز ينافس الحجر في صنع التماثيل إلى آخر عصر اليونان الزاهر.

وقد صهر العدو الأكبر من هذه التماثيل البرونزية ولم يبق منها إلا القليل، ولكن في وسعنا أن نستدل من تمثال سائق العربة الخاضع الذليل المحفوظ في متحف دلفي (حوالي 490 ق.م) على ما بلغته صناعة التماثيل المجوفة من الإتقان الذي يقرب من الكمال مذ أدخلها ريكوس Rhoecus وثيودورس الساموسيان في بلاد اليونان. وقد صبت مجموعة التماثيل الأثينية للطاغيتين (هرموديوس Harmodius وأرستوجيتون Aristogeiton)، وهي المجموعة الذائعة الصيت، من البرونز على يد أنتنور Antenor في أثينة بعد قليل من طرد هبياس. وكان مثالو أثينة يستخدمون أنواعاً كثيرة من الحجارة اللينة قبل أن يعمد مثالو اليونان إلى تشكيل الحجارة الصلبة المختلفة الأنواع باستخدام المطرقة والإزميل، فلما أن عرفوا كيف يستخدون هاتين الأداتين كادوا يأتون علىكل ما في نكسوس وباروس من رخام. وكثيراً ما كانت التماثيل في العهد القديم (1100-490) تطلى بالألوان، ولكنهم وجدوا في آخر سني ذلك العهد أن ترك الرخام المصقول من غير طلاء اصطناعي أوقع في النفس وأدنى إلى تمثيل بشرة النساء الرقيقة.

وكان يونان أيونيا أول من عرفوا فوائد جعل الثياب عنصراً من عناصر صناعة النحت. ذلك أن الفنانين في مصر والشرق الأدنى كانوا يجعلون الأثواب جامدة ملتصقة بالجسم، ولم تكن تزيد على مئزر حجري كبير يخفي الجسم الحي، ولكن المثالين اليونان في القرن السادس أدخلوا الثنايا في الأقمشة، واستخدموا الثياب للكشف عن مصدر الجمال الأول وطرازه وهو الجسم البشري الصحيح السليم. غير أن أثر المصريين والآسيويين في الفن اليوناني ظل له من القوة ما جعل التماثيل في كثير من آثار النحت اليونانية العتيقة ثقيلة جامدة خالية من الرشاقة، وجعل الساقين مشدودتين حتى في حالة الراحة، والذراعين مسترخيتين متدليتين على الجانبين، والعينين لوزيّتي الشكل مائلتين أحياناً كعيون معظم الشرقيين، والوجه ذا شكل ثابت لا يتغير في جميع التماثيل خالياً من الحركة والعاطفة، وكانت التماثيل اليونانية في ذلك العهد تتبع القاعدة التي جرى عليها المصريون في صنع تماثيلهم، وهي أن يصنعوها على الدوام متجهة بوجوهها نحو الناظر إليها، ومتناسبة الجانبين أدق التناسب، حتى لو أنك رسمت خطاً عمودياً في وسطها لمر هذا الخط في منتصف الأنف، والفم والسرة، وأعضاء التناسل لا يحيد عن ذلك قيد شعرة إلى اليمين أو اليسار، ولا يتأثر موضعه بحركة الجسم أو سكونه. ولعل العرف هو سبب هذا الجمود المقبض الممل؛ فقد كان قانون الألعاب اليونانية يحرم على الفائز فيها أن يصنع له تمثال أو ترسم له صورة إلا إذا كان قد فاز في جميع المباريات ذات الألعاب الخمس، ويقولون إن الفائز فيها جميعاً هو وحده الذي يستمتع بالنمو الجثماني المتناسق الخليق بأن يكون أنموذجاً للجسم البشري السليم(57).

وهذا السبب مضافاً إليه في أغلب الظن أن العرف الديني قبل القرن الخامس كان هو المسيطر على تمثيل الآلهة في اليونان، كما كان مسيطراً عليه في مصر، هو الذي جعل المثال اليوناني يقتصر على عدد قليل من الأوضاع والأنماط ويصرف كل جهوده ومواهبه في إتقانها. وكان أهم ما صرف فيه جهوده وأتقن دراسته نمطان من التصوير هما تصوير الشاب العاري إلا من القليل الذي يستحق الذكر من الملابس، ذي اليدين المقبوضتين والوجه الهادئ الصارم؛ وتصوير العذراء المصففة الشعر ذات الوقفة والثبات المتواضعة، تمسك ثوبها بإحدى يديها، وتقرب القربان للآلهة باليد الأخرى. وقد ظل المؤرخون إلى عهد قريب يسمون التماثيل الأولى "أبلو"؛ ولكنها كانت في أغلب الظن تماثيل للرياضيين أو تماثيل جنائزية. وأشهر هذا النوع هو أبلو تينيه Tenea، وأكبرها حجماً تمثال أبلو سونيوم Sunium، وأدلها على التفاخر عرض أبلو في أمكلي Amyclae قرب إسبارطة، ومن أجملها كلها تمثال أبلو استرانج فورد Strangford المحفوظ في المتحف البريطاني. وأجمل منه أبلو شوازول جوفييه Choiseul Gouffier، وهو صورة رومانية مأخوذة عن التمثال الأصلي الذي صنع في القرن الخامس(58). وتماثيل العذارى أوقع في عين الذكور على الأقل من تماثيل الرجال: فأجسامهن رشيقة هيفاء، ووجوههن تعلوها ابتسامة ظريفة أشبه بابتسامة صورة موناليزا Mona Lisa، وثيابهن قد بدأت تتحرر من الجمود العرفي. وبعض التماثيل كالتماثيل المعروضة في متحف أثينة خليق بأن يعد من روائع الفن في أي قطر آخر من أقطار العالم(59).ومنها تمثال نستطيع أن نسميه عذراء طشيوز ، وهو يعد آية فنية في بلاد اليونان نفسها. وإن ما في هذه التماثيل من مسّة أيونية شهوانية لينفي عنها بعض ما بها من جمود مصري وصرامة دورية كالتي نشاهدها في تماثيل "أبلو". وقد ابتدع أركرموس Archermus الطشيوزي طرازاً آخر من التماثيل، أو لعله أعاد إلى الوجود طرازاً منسياً منها، في تمثال النصر المقام في ديلوس. ومن هذا الطراز نشأ فيما بعد طراز تماثيل النصر الجميلة التي صنعها بينيوس Poeonius في أولمبيا، وتماثيل النصر المجنحة المقامة في سمثريس Samothrace، وصور الملائكة المجنحة في الفن المسيحي(60). وقد نحت مثالون مجهولون بالقرب من ميليتس طائفة من تماثيل النساء المكسوة الجالسة لتوضع في هيكل البرنشيدي Branchidae، وهي تماثيل قوية لكنها فجة، مهيبة لكنها ثقيلة، عميقة لكنها ميتة .

وقد بلغت صناعة الحفر درجة من القدم يسرت لإحدى القصص الظريفة أن تصف منشأها.وتقول هذه القصة أن فتاة من كورنثة رسمت على جدار الخطوط الخارجية ظل رأس حبيبها الذي يلقيه ضوء مصباح على جدار.ثم جاء أبوها بوتاديس Butades وهو فخراني فملأ ما بين هذه الخطوط بالصلصال، وضغطه حتى جمد، ثم رفعه، وحرقه؛ ويؤكد لنا بلنى أن هذه هي الطريقة التي نشأ بها النقش القليل البروز(61).وأصبح هذا الفن أكثر أهمية من صناعة التماثيل في تزيين الهياكل والقبور، وقد صنع أرسطاطاليس نقشاً جنائزياً لأرستيون في عام 520 ق.م وهو تحفة من التحف الثمينة الكثيرة المحفوظة في متحف أثينة.

وإذ كانت هذه النقوش البارزة تلون على الدوام تقريباً، فقد كانت فنون النحت والنقش والتصوير وثيقة الاتصال بعضها ببعض، وكانت كلها تستخدم في العمارة، وكان معظم الفنانين مهرة في هذه الفنون جميعها، وكانت بروز الهياكل وأطنافها، وما بين هذه الأطناف، وما وراء القواصر- كانت هذه كلها تطلى عادة بالألوان، على حين إن البناء الرئيسي كان يترك عادة بلون الحجارة الطبيعي.أما الرسم الملون بوصفه فناً مستقلاً فليس لدينا من آثاره في البلاد اليونانية إلا القليل الذي لا يستحق الذكر؛ ولكننا نعرف من بعض أقوال الشعراء أن التصوير على الخشب بالألوان الممزوجة في الشمع السائح كان من الفنون التي مارسها اليونان من عهد أنكريون(62).وكان هذا الفن آخر ما ازدهر من الفنون في بلاد اليونان وآخر ما اندثر منها.

وجملة القول أن القرن السادس لم يبلغ فيه أي فن من فنون اليونان، إذا استثنينا فن العمارة، ما بلغته الفلسفة اليونانية والشعر اليوناني في هذا القرن نفسه من جرأة في التفكير وكمال في التصوير.ولعل مناصرة الفنون كانت بطيئة النشأة بين أرستقراطية كانت لا تزال ريفية فقيرة، أو بين طبقة رجال الأعمال التي كانت لا تزال ناشئة لم يخلق فيها الثراء حاسة الذوق.ومع هذا فقد كان عهد الطغاة فترة تحفز وتحسين في كل فن من الفنون اليونانية - وبخاصة في عهد ببسستراتس وهبياس في أثينة.وفي أواخر هذا العهد بدأ الجمود القديم الذي كان يلازم فن النحت يزول شيئاً فشيئاً، وقضي على القاعدة القديمة قاعدة نحت التماثيل مواجهة لناظرها، وأخذت الساقان تتحركان، والذراعان تبتعدان عن الجانبين، واليدان تنفتحان، والوجه ينم عن الإحساس والأخلاق، والجسم ينثني ويتخذ أوضاعاً مختلفة تكشف عن دراسات جديدة في التشريح والحركة. وكان هذا الانقلاب العظيم في فن النحت، وما بعثه في الحجارة من حياة حادثاً خطيراً في تاريخ اليونان؛ كما كان التحرر من المواجهة في التماثيل من أجل أعمال اليونان الفنية. ومن ذلك الحين نبذ الفن اليوناني تأثير المصريين والشرقيين، وأصبح فناً يونانياً خالصاً.


الرسم على المزهريات

من الأقاصيص الظريفة الشائعة في بلاد اليونان أن أول قدح للشراب قد شكل فوق ثدي هلن (53)، فإذا كان هذا صحيحاً فإن القالب الذي صنع على هذا الطراز قد ضاع عقب الغزو الدوري، لأن ما وصل إلينا من الآنية الفخارية من العهود اليونانية القديمة لا يذكرنا قط بهلن؛ وما من شك في أن هذا الغزو قد أثر أسوأ الأثر في تطور هذا الفن، وأفقر الصناع، وشتت المدارس، وقضى إلى حين على انتقال أصوله؛ ذلك بأن المزهريات اليونانية تبدأ من بعد هذا الغزو بسيطة بدائية فجة، كأن كريت لم تسم بصناعة الفخار فتجعلها فناً جميلاً.

ويغلب على الظن أن مزاج الفاتحين الدوريين الذي كانت تغلب عليه الخشونة هو الذي أخرج مما بقي من قواعد الفن المينوي الميسيني ذلك الطراز الهندسي الذي كانت له السيطرة على أقدم الفخار اليوناني بعد العصر الهومري. لقد محى من هذا الفخار ما كانت تزدان به الآنية الكريتية من رسوم الأزهار والمناظر الطبيعية، والنباتات؛ وكانت النزعة الصارمة التي أقامت مجد الهياكل الدورية هي التي قضت على صناعة الفخار اليونانية. وليس في الجرار الضخمة التي يمتاز بها هذا العصر ما يمت بصلة إلى الجمال، فقد كان الغرض من صنعها حفظ الخمر أو الزيت أو الحبوب، ولم يكن يقصد بها أن تكون متعة للفنان الخبير بصناعة الخزف. ويكاد نقشها كله أن يكون وحدات من مثلثات أو دوائر أو سلاسل، أو خطوط متقاطعة، ومعينات، وصلبان، أو خطوط أفقية متوازية بسيطة تتكرر مرة بعد مرة. وحتى الرسوم الآدمية التي تتخلل هذه الأشكال كانت رسوماً هندسية، فجذع التمثال العلوي كان مثلث الشكل، وفخذاه وساقاه كانت مخروطية. وانتشر هذا الطراز الهين من الزينة في جميع بلاد اليونان، وكان هو الذي حدد صورة المزهريات الدبيلونية Dipylon في أثينة. ولكن الآنية الضخمة (التي كانت تصنع في العادة لتوضع فيها جثث الموتى) كانت ترسم عليها بين خطوط الأشكال الهندسية صور جانبية لوجوه النائحين، وعربات، وحيوانات غاية في السماجة. فلما آذن القرن الثامن بالانتهاء رسمت على الفخار اليوناني صور حية أكثر من الصور السابقة،واستعمل لونان لأرضية الصور، واستبدلت الدوائر بالخطوط المستقيمة، وظهر على الصلصال سعف النخل، والأزورد، والجياد القافزة، والآساد المصيدة، وحلت الزخارف الشرقية محل الطراز الهندسي الساذج.

وأعقب ذلك العصر عصر مليء بالتجارب غمرت فيه ميليتس السوق بمزهرياتها الحمراء، وساموس بمصنوعاتها المرمرية، ولسبوس بآنيتها السوداء، ورودس بآنيتها الحمراء، وكلزميني Clezomenae بآنيتها الرمادية اللون، وأصدرت فيه نقراطس الخزف الدقيق الملون والزجاج نصف الشفاف. واشتهرت إرثيرا Erythra برقة مزهرياتها، وكلسيس Chalcis ببريقها وحسن صقلها، وسكيون Siycon وكورنثة بقوارير الرائحة الدقيقة الصنع، والأباريق ذات الرسوم المتقنة الأنيقة الشبيهة بمزهريات شيجي Chigi في رومة. وقامت بين صناع الخزف في المدن المختلفة منافسة قوية، وكانت هذه المدينة أو تلك تجد مشترين لخزفها في كل ثغر من ثغور البحر الأبيض المتوسط، وفي الروسيا،وإيطاليا، وبلاد غالة. وخيل إلى مدينة كورنثة في القرن السابع أنها فازت على منافساتها في هذه الحرب الخزفية، فقد كانت مصنوعاتها في كل مكان وفي يد كل إنسان، وكان صناع الفخار فيها قد كشفوا طرقاً جديدة للحفر والتلوين، وابتكروا كثيراً من الأشكال الجديدة؛ لكن سادة حي الخزافين في خارج أثينة برزوا إلى الأمام حوالي عام 550 ق.م وألقوا عن كاهلهم عبء النفوذ الشرقي، واستولوا بمصنوعاتهم ذات الرسوم السوداء على أسواق البحر الأسود، وقبرص، ومصر، وإتروريا،وأسبانيا. وأخذ النابغون من صناع الخزف من ذلك الحين يهاجرون إلى أثينة إن لم يكونوا قد ولدوا فيها؛ ونشأت فيها مدرسة عظيمة وتقاليد ثابتة لأن الأبناء أخذوا يرثون فن الآباء، وأصبحت صناعة الخزف الجميل إحدى الصناعات الكبرى في المدينة ثم أمست إحدى الصناعات التي تحتكرها أتكا وتقر لها غيرها من الأقاليم بهذا الاحتكار.

وتحمل المزهريات نفسها من حين إلى حين صوراً لحوانيت الخزافين، ويرى فيها الصانع يعمل مع صبيانه أو يراقبهم وهم يقومون بالعمليات المختلفة: يخلطون الألوان والطين، ويشكلون العجينة، ويلونون الأرضية، ويحفرون الصور، ويحرقون الآنية، ويحسون بالسعادة التي يحس بها من يرون صور الجمال تظهر على أيديهم. ونحن نعرف أكثر من مائة من هؤلاء الخزافين أهل أتكا، ولكن الدهر قد عدا على آياتهم الفنية فحطمها ولم يبق لنا إلا أسماء مبدعيها. ونحن نقرأ الآن على كأس الشراب قول الصانع مفتخراً بصنعه Nikosthenes me poiesen "صنعني نكسثنيز"(53أ) وكان أجزسياس Execias أعظم من نكسثنيز هذا وأجل قدراً. وفي متحف الفاتيكان قارورة فخمة ذات مقبضين من صنعه، وكان واحداُ من طائفة كبيرة من الفنانين يشجعهم أنصار الفن في عهد بيسستراتس وأبنائه وينعمون بعهد السلم الذي ساد البلاد وقتئذ. ومن أيدي كلتياس Clitias وإروگوتيموس Erogotimus خرجت مزهرية فرنسوا الذائعة الصيت التي عثر عليها في إتروريا عام 560 فرنسي يحمل هذا الاسم، وهي الآن ضمن كنوز متحف الآثار بفلورنس - وهي إناء كبير عليه صفوف من الأشكال والمناظر مستمدة من الأساطير اليونانية يعلو بعضها بعضاً(54). وكان هذان الصانعان أشهر صناع طراز الرسوم السوداء في أتكا في القرن السادس. ولا حاجة بنا إلى المبالغة في جودة صنع الإناء، فهو لا يضارع في فكرته ولا في إخراجها خير الأواني الباقية من عهد أسرة تانگ أو سونج الصينيتين؛ غير أن الفنان الصيني كان له غرض يختلف عن غرض الفنان الشرقي، فلم يكن همه الأول هو الألوان بل الخطوط، ولا النقش بل الشكل. ولذلك كانت الرسوم التي على الآنية اليونانية رسوماً صورها العرف، وثبت طرازها فجعلها ضخمة ضخامة غير عادية في الكتفين دقيقة في الساقين. وإذا كان هذا الطراز قد ظل سائداً طوال عهد اليونان الزاهر فمن واجبنا أن نفترض أن الخزاف اليوناني لم يكن يفكر قط في الدقة الواقعية، فكأنه في فنه هذا يقرض الشعر لا يكتب النثر، ويخاطب الخيال لا العين، ولهذا السبب عينه لم يتوسع فيما يستخدمه من المواد أو الألوان. فقد استخدم صلصال السرمكوس Ceramicus الأحمر اللطيف، وهدأ لونه باللون الأصفر، وصغر الرسوم بعناية، وملأ ما بين الخطوط باللون الأسود الزجاجي البراق، فاستحالت الأرض على يديه آنية موفورة العدد تقترن فيها المنفعة بالجمال، منها أباريق ماء، وقوارير ذات مقبضين، ودنان خمر وأقداح، وآنية خلط، وقنينات عطر. وكان هو الذي فكر في التجارب، وابتكر الموضوعات، وابتدع الأعمال الفنية التي أخذها عنه صانعو البرونز، والمثالون، والرسامون. وهو الذي قام بالتجارب الأولى في رسم المناظر فنياً كما تبدو بحجمها الطبيعي للعين، وفي فن المنظور، وتوزيع الظلال، وعمل النماذج(55). وقد مهد السبيل لنحت التماثيل بأن صنع من الطين المحروق صوراً لما لا يحصى من الموضوعات والأشكال، وحرر فنه من الرسوم الهندسية الدورية ومن المغالاة الشرقية، وجعل صور الآدميين مصدر حياته ومحورها الذي تدور عليه. ومل الخزاف الأثيني قبيل الربع الأخير من القرن السادس الرسوم السوداء على الأرضية الحمراء،فعكس الوضع وابتدع طراز الرسوم الحمراء الذي ظلت له السيادة في إقليم البحر الأبيض المتوسط مائتي عام. وكانت الصور لا تزال جامدة ذات زوايا، والأجسام مصورة من جانبها، والعين في مواجهة الناظر تماماً، ولكنه كان يستمتع في نطاق هذه الحدود بحرية جديدة ومجال أوسع في التفكير والتنفيذ، وكان يخدش الخطوط الخارجية للصورة خدشاً خفيفاً بسن رفيع، ويرسم تفاصيلها بعدئذ بالقلم، ويملأ خلفيتها باللون الأسود، ثم يضيف إليها لمساتها الصغرى بمادة زجاجية ملونة. وفي هذا المجال أيضاً خلد بعض كبار الفنانين أسماءهم؛ من ذلك أن قارورة ذات أذنين قد كتب عليها: "رسم صورها يوثيميدس Euthymides بن بلياس Pallias رسماً لم يستطعه يوفرونيوس Euphronius(56)". وكان هذا تحدياً ليوفرونيوس ودعوة له أن يصنع مثلها. لكن يفرنيوس هذا ظل يوصف بأنه أعظم الخزافين في عصره. ويظن بعضهم أنه هو صاحب الخابية التي صور فيها هرقل يصارع أنتيوس. وتعزى إلى معاصرة سسياس Sosias مزهرية من أشهر المزهريات اليونانية صور عليها أكليز يضمد جرحاً في ذراع بتركلوس. وقد أبرز في هذه الصورة جميع دقائقها، وأفاض عليها الكثير من حبه وعطفه، ولم تستطع القرون الطوال أن تنال من منظر الألم الصامت وهو يبدو على ملامح الفتى المحارب. ونحن مدينون إلى أولئك الرجال وغيرهم ممن لا نعرف أسماءهم الآن بكثير من الروائع الفنية أمثال الكأس التي نرى في داخلها صورة إلهة الفجر تندب ولدها المتوفي، وإبريق الماء المحفوظ في متحف الفن بنيويورك والذي رسم عليه جندي يوناني، قد يكون أكليزي يطعن بالحربة امرأة من المحاربات جميلة ذات ثديين، وكان إناء من أمثال هذه الأواني هو الذي وقف أمامه جون كيتس John Keats في يوم من الأيام صامتاً مذهولاً حتى أطلقت خياله تلك "النشوة الجامحة" و "الدفعة الهائجة" فأنطقتا لسانه بقصيدة أعظم شأناً من أية قارورة يونانية.

انظر أيضا

المصادر

  • Greece: From Mycenae to the Parthenon, Henri Stierlin, TASCHEN, 2004
  • ديورانت, ول; ديورانت, أرييل. قصة الحضارة. ترجمة بقيادة زكي نجيب محمود..
  • [1]


وصلات خارجية