الخطابة اليونانية

كانت الآداب في أثناء اضطرابات الحرب الپلوپونيزية ينعكس عليها ما انتاب بلاد اليونان من اضمحلال في الأخلاق وضعف في صفات الرجولة. فلم يكن الشعر كما كان من قبل تعبيراً عاطفياً إبداعياً يبتكره الأفراد، بل أصبح تدريباً ظريفاً وثمرة من نتاج العقول في الندوات، وصدى للواجبات والتمارين المدرسية. نعم إن تموثيوس الملطي كتب ملحمة شعرية، ولكنها لم تكن توائم عصر الجدل والنقاش، وظلت بعيدة عن الشعب بُعد موسيقاه في عهدها الباكر؛ وظلت المسرحيات تُمثل ولكن تمثيلها كان أضعف وأضيق نطاقاً من ذي قبل. ذلك إن إقفار خزانة الدولة من المال وضعف الروح الوطنية عند الأثرياء من الأفراد قللا من أقدار الممثلين وأفقداهم ما كان لهم من شأن في ماضي الأيام. واكتفى كُتاب المسرحيات شيئاً فشيئاً بالمقطوعات الموسيقية التي تعزف بين الفصول ولا صلة لها بالمسرحية بدل الأغاني التي تكون جزءاً منها، واختفى اسم رئيس فرقة المرتلين فلم يعد مما يهتم به النظارة، ثم اختفى بعدئذ اسم الشاعر نفسه، ولم يبقَ إلا اسم الممثل. وبَعُدت المسرحية بالتدريج عن القصيدة وأضحت شيئاً فشيئاً عرضاً للحوادث التاريخية، وأصبح العصر كله عصر كبار الممثلين وصغار الكتاب المسرحيين. ذلك أن المأساة اليونانية قد قامت على الدين والأساطير،

وكانت تتطلب شيئاً من التقى والإيمان عند المستمعين، ومن أجل هذا كان لا بد أن يضمحل شأنها حين أوشكت شمس الآلهة على الأفول. وازدهرت المسلاة في الوقت الذي اضمحلت فيه المأساة، وانتقل إليها بعض ما كان يتصف به مسرح يوربديز من براعة، وظرف، ومادة طيبة؛ وفقدت هذه المسلاة الوسطى (400-323) حبها للهجاء السياسي وتشجيعها له، وقت أن كانت السياسة تتطلب "الصديق الصريح"؛ وليس ببعيد أن يكون هذا الهجاء قد حُرِّم أو أن النظارة قد سئموا السياسة بعد أن أصبح حكام أثينة رجالاً من الطراز الثاني. وكان اعتزال الرجل اليوناني بوجه عام الحياة العامة إلى الحياة الخاصة في القرن الرابع سبباً في توجيه اهتمامه إلى شئون منزله وقلبه وإغفاله شئون الدولة. وظهرت في ذلك الوقت المسلاة الأخلاقية، وأخذ الحب يسيطر على مناظرها؛ ولم يكن يسيطر عليها دائماً عن طريق الفضيلة، بل كانت العاهرات يظهرن على خشبة المسرح مع بائعات السمك، والطهاة والفلاسفة الحيارى. وإن كان زواج الممثل والكاتب ينقذ شرفهما في آخر التمثيل. خلت هذه المسرحيات من فحش أرسطوفان ومجونه اللذين كانا سبباً في خشونة المسرحيات وخلوها من الصقل الجميل، ولكنها خلت أيضاً من حيويته وخصب خياله. ولدينا أسماء تسعة وثلاثين شاعراً من كُتاب المسلاة الوسطى، وإن لم يكن لدينا شيء من مسرحياتهم، ولكنا نستطيع أن نحكم من القطع الباقية لدينا أنهم لم يكتبوا شيئاً جديراً بالخلود. وقد كتب ألكسيس الثوريائي (of Thurii) 245 مسرحية، وكتب أنتفانيز Antiphanes 260. لقد ذاع صيتهم في زمانهم فلما انقضى ذلك العهد أفل نجمهم.

أما الخطباء فكان هذا زمانهم. ذلك أن نهضة الصناعة والتجارة قد حولت عقول الناس إلى الحياة الواقعية والعملية؛ وأخذت المدارس التي كانت قبل تعلم أشعار هومر تدرب تلاميذها الآن على أساليب البلاغة. ولقد كان إسيوس Isaeus، وليقورغ، وهيبريديز، ودمديز Demades، وديناركس Deinarchus، وإسكنيز، ودمستين كلهم خطباء سياسيين، يتزعمون أحزاباً سياسية، ويسيطرون ببلاغتهم على عقول الجماهير، وظهر رجال في سراقوصة في الفترات التي ساد فيها الحكم الدمقراطي، أم الدول الدمقراطية فلم تكن تطيقهم؛ وكانت لغة الخطباء الأثينيين تمتاز بالوضوح والقوة، والبعد عن المحسنات اللفظية وكانت تسمو بين الفينة والفينة إلى مراقي الوطنية النبيلة، وتسف إلى المهاترات المنحطة والشتائم القذرة التي لا يُسمح بها حتى في المنازعات الحديثة. وكان ما تتصف به الجمعية الأثينية والمحاكم الشعبية من عدم التجانس في أعضائها سبباً في انحطاط فن الخطابة اليونانية، وحافزاً لها في الوقت عينه. وانتقل هذا الأثر بنوعيه عن طريق الخطابة إلى الأدب اليوناني بوجه عام، فقد كان سرور المواطن الأثيني من سماع الشتائم في خطب الخطباء لا يكاد يقل عن سروره من مشاهدة مباراة لنيل جائزة، وإذا عُرف أن مبارزة لفظية ستقوم بين محاربين بالألفاظ مثل إسكنيز، ودمستين أقبل الناس لسماعهما من القرى النائية والدول الأجنبية؛ وكان أكثر ما يستثيره الخطباء هو غريزة الكبرياء والهوى. وقد عَرَّفَ أفلاطون البلاغة، وكان يكره الخطابة ويصفها بأنها السم القاتل للدمقراطية، عرفها بأنها فن حكم الناس باستثارة مشاعرهم وعواطفهم.

وحتى دمستين نفسه، رغم حيويته وقوة أعصابه، وسموه في كثير من الأحيان إلى فقرات تفيض بالحماسة الوطنية، ورغم هجومه الشديد على الأشخاص هجوماً أخذ يضعف على مر الزمان، ومهارته في تعاقب القصص والجدل في خطبه تعاقباً يريح الأذن ويطرد السآمة، وما في لغته من انسجام وتوازن كان يُعنى بهما كل العناية، ورغم تدفقه في خطبه كالسيل الجارف، نقول إن دمستين نفسه رغم هذا كله يبدو لنا أقل قليلاً من الخطيب العظيم. وكان يرى أن التمثيل هو سر العظمة الخطابية، وبلغ من إيمانه بهذا المبدأ أن كان يعيد خطبه مراراً في كثير من الأناة، ويتلوها على نفسه أمام مرآة. واحتفر لنفسه كهفاً كان يعيش فيه عدة أشهر، لا يكاد يعلم به أحد وكان في هذه الفترات يحلق نصف وجهه ويبقي على النصف الأخر حتى لا تحدثه نفسه بالخروج من مأواه(1). وكان إذا وقف على منصة الخطابة اتجه بوجهه نحو تمثاله، ودار يمنة ويسرة، ووضع يده على جبهته كأنه يفكر، ورفع صوته في أغلب الأحيان إلى حد الصراخ(2). ويقول بلوتارخ إن هذا كله "كان يسر العامة كل السرور، أما المتعلمون أمثال دمتريوس الفاليري (Demetrius of Phalerum) فكانوا يظنون هذا عملاً حقيراً، مهيناً، لا يتفق مع الرجولة الحقة". وإنا لَنُسَرّ من حركات دمستين المسرحية، ونعجب بتقديره لنفسه واعتزازه بها، وتحيرنا استطراداته وتُرَوّعنا بذائته. وليس في خطبه إلا القليل من الفكاهة والقليل من الفلسفة. ولولا حماسته الوطنية، وما يبدو من إخلاص في دعوته الحارة اليائسة إلى الحرية، لما كان له شأن كبير.

وبلغت الخطابة اليونانية أرقى درجاتها في عام 330. وكان تسفون Ctesiphon قبل ذلك العام بست سنين قد اقترح على المجلس مبدئياً أن يهدي دمستين تاجاً أو إكليلاً من الزهر اعترافاً منه بحسن سياسته، وبما قدمه للدولة من منح مالية كثيرة. ووافق المجلس على هذا الاقتراح وأراد إسكنيز أن يحول بين منافسه وبين هذا الشرف العظيم فاتهم تسفون بأنه عرض على المجلس اقتراحاً غير دستوري (وهو اتهام صحيح من الناحية الشكلية) وأجلت القضية المرة بعد المرة، ثم عُرضت أخيراً على هيئة القضاء المؤلفة من خمسمائة من المواطنين. وكانت هذه بطبيعة الحال قضية من أشهر القضايا شهدها كل من استطاع الحضور إلى أثينة مهما بعد موطنه؛ ذلك بأن أعظم خطباء أثينة في ذلك الوقت كان في واقع الأمر يدافع فيها عن سمعته وعن حياته السياسية. ولم يُضِع إسكنيز في مهاجمة تسفوت إلا قليلاً من الوقت ولكنه وجه هجومه إلى أخلاق دمستين وسيرته، ورد عليه دمستين بخطبة من نوع خطبته هي خطبته الشهيرة المعروفة باسم "في سبيل التاج". ولا نزال نحس في كل سطر من أسطر الخطبتين بما كان يضطرم في صدر صاحبيهما من اهتياج شديد، وحقد في قلب عدوين التقيا وجهاً لوجه في ميدان القتال. وكان دمستين يعرف أن الهجوم أفضل من الدفاع، فقال إن فليب قد اختار بوقاً له في أثينة أحط خطبائها وأشدهم فساداً، ثم أخذ يرسم صورة لحياة إسكنيز يتجلى فيها الحقد بأوضح معانيه فقال:

لابد لي أن أدلكم على حقيقة هذا الرجل الذي يطلق لسانه بالشتائم المقذعة...وإلى أي الآباء ينتسب. الفضيلة أيها الوغد الخائن!...ما شأنك أنت أو أسرتك بالفضيلة؟...وبأي حق تتحدث عن التربية والتعليم؟...هل أقص على الناس كيف كان أبوك عبداً يدير مدرسة أولية قرب هيكل ثسيوس. وكيف كان مصفداً بالحديد في ساقه، وكيف كان حول عنقه طوق من الخشب، وكيف كانت أمك تقيم حفلات الزواج في مرافق بيت في وضح النهار؟...لقد كانت تساعد أباك في كدحه في مدرسة صغيرة، تطحن له الخبز، وتنظف المقاعد بالأسفنج، وتكنس الحجرة، وتقوم بعمل الخادم...ثم سجلت اسمك في سجل أبرشيتك - وليس في مقدور أحد أن يعرف كيف استطعت أن تفعل ذلك، ولكن ما علينا من هذا - لقد اخترت لنفسك مهنة خليقة بأشرف الرجال المهذبين فكنت كاتباً وموصل رسائل لصغار الموظفين. وبعد أن ارتكبت جميع الجرائم التي تعير بها غيرك من الناس، أعفيت من هذا العمل...والتحقت بخدمة الممثلَين الشهيرَين سميلس Simylus وسقراط المشهورين باسم "المدمدمين". ومثلت أدواراً صغيرة تحت إشرافهم، فكنت تلتقط التين والعنب والزيتون وتعيش على هذه القذائف خيراً مما تعيش من جميع الوقائع التي كنت تخوضها للنجاة من الموت. إن الحرب التي كانت قائمة بينك وبين النظارة لم تكن فيها هدنة أو وقف للقتال...

وازن إذن يا إسكنيز بين حياتك وحياتي. لقد كنت تعلم مبادئ القراءة وكنت أنا طالباً في المدرسة؛ وكنت أنت راقصاً وكنت أنا رئيس الممثلين...وكنت كاتباً عمومياً، وكنت أنا خطيباً عاماً. وكنت ممثلاً من الدرجة الثالثة وكنت أنا ممن يشهدون التمثيل. وأخفقت أنت في تمثيل دورك وسخرت أنا منك بالصفير(3).

وكانت هذه خطبة عنيفة؛ ولم تكن أنموذجاً للترتيب والأدب ولكنها كانت فصيحة اللفظ شديدة الانفعال إلى حد حملت القضاة على أن يبرئوا تسفون بأغلبية خمسة أصوات ضد صوت واحد. وفي العام التالي منحت الجمعية دمستين التاج المتنازع. ولما عجز إسكنيز عن أداء الغرامة التي تُفرض حتماً على مَن يعجز عن إثبات جريمة يتهم بها أحد المواطنين، فر إلى رودس، حيث أخذ يكسب الكفاف من العيش بتعليم البلاغة. وتقول إحدى الروايات إن دمستين كان يرسل إليه المال ليخفف عنه آلام الفاقة.