العلوم الزراعية في العصر العباسي

العلوم الزراعية في العصر العباسي

خلق الله تعالى الإنسان، وسخر له ما في الأرض جميعًا، وحثنا الإسلام على إعمال الفكر في كل ما خلق الله وسخره لخدمة الإنسان خليفته في الأرض ، وأوصانا بدراسة قوانين الكون والحياة، ومعرفة آيات الله في الأنفس والآفاق؛ فذكر القرآن الكريم النبات وبين أن أصل إنباته هو الماء ويقول الله تعالى في ذلك: (وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج) "الحج" ثم تذكر الآيات اختلاف النباتات وتنوعها، ففى سورة الرعد (وفى الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون). ثم توضح الآيات دور الرياح في حمل اللقاح بين النباتات وتكوين السحاب، ففى سورة الحجر (وأرسلنا الرياح لواقح فأنزلنا من السماء ماءً فأسقيناكموه وما أنتم له بخازنين). وفى ضوء ذلك انطلق علماؤنا المسلمون يبحثون في كثير من مجالات الأنشطة الزراعية، ويكون لهم نظرياتهم التى تتعلق بإنتاج المحاصيل، والخضروات ، وتنوعها في الأقطار الإسلامية ، وفلاحة الأرض بها. كما درسوا أنواع الحيوانات ، وصفاتها، وسلوكها، ومواطنها المختلفة، وتربيتها،ووسائل الاستفادة من منتجاتها، وكيفية مكافحة ومقاومة الضار منها..الخ. وكان الاهتمام بعلوم الحياة لا يقل عن الاهتمام بباقى فروع العلم و المعرفة ، خصوصًا لما للنباتات من فوائد طبية وللحيوان من فوائد اقتصادية واجتماعية، وظهر الكثير من المصنفات العلمية القيمة التى تقدم مادة غنية بالمعلومات المبنية على الملاحظة لمظاهر الحياة في النبات و الحيوان ، غير أن معظم هذه التصانيف لم تكن كتبًا مستقلة بعلوم الزراعة وحدها بل تضمنت جوانب أدبية وتاريخية كثيرة، واستخدمت لخدمة الطب و الصيدلة ، و الفلاحة . وفيما يلى سنعرض لبعض علمائنا المسلمين وإبداعاتهم التى قدموها، وهى بحق دراسات علمية عملية طوروا بها العلوم الزراعية. ومن أبرز هؤلاء العلماء:

  • الدينورى :

وهو أبو حنيفة أحمد بن داود ، الملقب بشيخ علماء النبات، ألف "كتاب النبات" ورتب فيه النباتات على حروف المعجم ، واهتم بكل ما قيل فيها نثرًا وشعرًا حتى أواخر القرن الثالث الهجرى، وقد قام المستشرق السويدى "لوين" بجامعة "أوبسالا" بتحقيق مخطوطة من هذا الكتاب تقع في (333) صفحة من الجزء الخامس، وكان منهجه في تأليف كتابه يعتمد على وصف بضع مئات من النباتات التى رآها بنفسه، أو سمع عنها من الأعراب الثقات، وأضاف الدينورى إلى ما نقل عن "زياسقوريذوس" العالم الإغريقى الذى اشتهر بمعرفته بالنباتات الطبية إضافات أساسية،وأصبح بذلك عمدة الأطباء والعشابين، ونقلت عنه أكبر كتب الصيدلة كمفردات الأدوية لابن البيطار، وعلاوة على ذلك، فإنه أول عالم نباتىّ عربىّ يشير إلى طريقة التهجين ؛ حيث تمكن من أن يستولد ثمارًا ذات صفات جديدة بطريقة التطعيم، كما استطاع أن يخرج أزهارًا جديدة بالمزاوجة بين الورد البرى و شجر اللوز ، وبذلك سبق الدينورىّ العالم النمساوى "مندل" في ذلك. وظهر بعد كتاب النبات للدينورى مؤلفات كثيرة تعرضت لعلم النبات، وكانت جميعها تقربيًا متشابهة من ناحية فن التأليف، فيعنى مؤلفوها بذكر كل ما ورد في الكتب السابقة والاجتهاد في الزيادة عليها. وأما من ناحية المادة العلمية بهدف استعراض المقدرة اللغوية،والأدبية، وإظهار جوانب الثقافة الموسوعية، فنضرب مثالاً على ذلك كتاب "عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات" للقزوينى، الذى يحوى مقالات في كل فروع العلم المعروفة في عصره ويجمع أشتاتًا من المعلومات عن البحار ، و الأنهار ، و الكواكب ، والرياح، والفصول، والأسماك، والنباتات، والهواء، والطيور. - رشيد الدين الصورى: كان من علماء القرن السادس الهجرىّ، وله باع كبير في علم الوصف ، و الحصر النباتى "Flora" فقد درس نباتات الشام دراسة رائدة من بذرة كل نبات حتى عند جفافه ويبسه. ويذكرابن أبى أصيبعة: أن رشيد الدين الصورى كان يصطحب معه مصورًا مزودًا بالأصباغ على اختلاف أنواعها، ثم يطوف مواطن النبات ويطلب من المصور أن يصور له النبتة في بيئتها بألوانها الطبيعية، وأن يجتهد في محاكاتها، وكان يطلب منه تصوير النبتة في أطوارها المختلفة من أيام إنباتها ونضارتها وإزهارها وإثمارها وجفافها فيكون التحقيق أتم و المعرفة أبين. وكان هذا منهجه في كتابه "الأدوية المفردة" الذى يضم إلى جانب الأدوية أوصاف ورسوم النباتات الملونة في أطوارها المختلفة وكذلك كتابه "التاج". وهذا يؤكد سبق المسلمين واستخدامهم المنهج العلمى التجريبى.

  • الغافقى:

هو أبو جعفر بن محمد،وهو من علماء القرن السادس الهجرىّ، اشتهر بمعرفته الجيدة بالنباتات، ووصفها في كتبه أحسن وصف، ومن أهم مؤلفاته: كتاب "الأدوية والمفردات" اختصره ابن العبرىّ ، وترجم إلى العبرية و اللاتينية . و"جامع المفردات" وقد اختصر في "المنتخب" بواسطة ابن العبرىّ، و توجد منه عدة مخطوطات. و"منتخب الغافقى في الأدوية المفردة" وقد أعده البطريرك "غريغوريوس مغريان". وكتاب "الأعشاب والنباتات الطبية" وهو مخطوطة بالمتحف الإسلامى بالقاهرة تحمل اسم أحمد بن خليل الغافقى، ويضم (380) رسمًا ملونًا بالنباتات وعقاقيره وحيوانات ومعادن طبية ونبذًا عنها. - الشريف الإدريسى: هوالعالم الجغرافىّ الشهير، قام بتأليف كتاب "الجامع لصفات أشتات النبات وضروب أنواع المفردات من الأشجار والثمار والحشائش والأزهار والحيوانات والمعادن وتفسير أسمائها بالسريانية و اليونانية واللطينية والبربرية". ونلاحظ أن العدد الأكبر من الكتب النباتية كانت تتناول النباتات بغرض إثبات منافعها الطبية، ومعالجاتها الصيدلية . أما فيما يتعلق بالزراعة من حيث هى علم وضع المسلمون أصوله، وقوانينه، وألفوا فيه المصنفات القيمة فمن ذلك: كتاب "الفلاحة النبطية" لأبى بكر أحمد بن وحشية في القرن الثالث الهجرى، ويهدف المؤلف من كتابه هذا إلى إصلاح الأرض، وإصلاح الزروع، و الشجر ، و الثمار ، وعلاج آفاتها. ويقع الكتاب في (610) ورقة، قسمها إلى أبواب عديدة، ذكر فيها خواص الزيتون ، واستنباط المياه ، وكيفية حفر الآبار ، وصفة اطلاع الماء من عمق بعيد، وتغير طعم المياه ، واختلاف طبائعها وأفعالها، وصفة أفلاح التلقيح وزرعه وغرسه. وبعد ذلك ينتقل المؤلف لدراسة مختلف أنواع النبات وكيفية زرعها وريها وتسميدها، ثم يفسح مجالاً واسعًا لكيفية تخزين الحنطة وأوقات الزرع، ويسهب في الحديث عن حبوب الحنطة و الذرة و الأرز و العدس و الحمص و اللوبيا و الترمس و القطن وبذرة الكتان و السمسم و البصل و الثوم و الفجل و الجزر و الخيار و الخس و الجرجير و الكرفس و الكوسة و الحلبة و الكرنب الخرسانى و الباذنجان و الرمان وجوز الهند و اللوز و البندق وغيرها، ثم يفصل بابًا خاصًا لذوات النوى من الثمار مثل المشمش و الخوخ و العناب و النبق ، ويتحدث أيضًا عن التين و الجميز و الكمثرى و السفرجل و التفاح و التوت و الحناء و الملوخية وغيرها، ويختم ابن وحشية كتابه بأنه وجد فيه أجل المنافع، وأكثر الفوائد بذكر أفلاح الموات، وتدبيراتها، وصرف المهالك عن الشجر و النخل ، مع ذكر للمنافع والمضار من الأغلال، وصروف الأدواء من الأبدان. أما البقر و الغنم وغيرها من الحيوانات المعينة على الفلاحة فقد أفرد لها كتابًا، وأفرد فيه بابًا خاصًا للحمام و الطيور و الكراكى . ويعد هذا الكتاب هو أول ما كتب عن الزراعة واعتمد عليه الكثير ممن كتبوا في هذا العلم بعد ذلك.

  • الجاحظ:

هو أبو عثمان عمرو بن بحر، الذى ألف في البيان، و علم الكلام ، و الأدب ، و التاريخ ، وألف كذلك في علم الحيوان ، وكان من أعظم من ألفوا في هذا العلم في عصره، بل وفى العصور التى تلته ولفترة طويلة، بكتابه "الحيوان" الذى يقع في سبعة أجزاء، وقد طبع هذا الكتاب بالقاهرة. وقد ورد في هذا الكتاب تصنيف للحيوانات (ناس، بهائم، سباع، حشرات) مع شرح مميزات كل فئة، وقد ورد فيه دراسات جادة عن الحيوانات المائية ، كما أن به أبوابًا عديدة عن ( الكلاب ، الديكة، تكوين البيض من الفروج، الحمام ، أنشطة الطيور، النوم في الحيوان، الحشرات وأنواعها..الخ). ودرس فيه صفات الحيوانات وخصائصها وسلوكها، كما درس الجاحظ نوم الحيوانات، وتحدث أيضًا عن توريث الصفات، وظهورها في الأبناء دون الآباء (الصفات المتنحية). كما أشار الجاحظ إلى قوة الهجن وتكلم عن عدة حيوانات ناتجة عن التهجين .


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

المصادر

موسوعة الحضارة الإسلامية