قرياقوص ميخائيل

قرياقوص ميخائيل (و. 1887 - ت. 1956)، هو صحفي مصري. لم يحصل على مؤهل جامعي وعمل الصحافة، وبعد أعوام من العمل والكفاح، أصبحت لندن مستقرا له، حيث نصب نفسه فيها محامياً متطوعاً عن قضايا شعبه، حيث كان يتتبع كل المقالات التي تنشر في الصحف الإنجليزية عن مصر، فإذا وجد فيها مقالا يهاجم مصر، التي كانت وقتها تحت الحماية، أو ينكر حق شعبها في الاستقلال، أرسل رداً على المقال مدعماً بالحجج، وإذا نشرت صحيفة تصريحاً لسياسي بريطاني ضد مصر، تصدّى لذلك التصريح برد يكتبه بمراعاة للتقاليد الغربية، بعيداً عن الطنطنة والخطابية، فيجد رده طريقا إلى النشر، ويصبح، بمرور الوقت، لسان حال الشعب المصري في الصحافة البريطانية، من دون أن يكلفه بذلك أحد، سوى محبته لمصر ودفاعه عن حقها.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

حياته

وُلد في صعيد مصر لعائلة قبطية عام 1887. كان قرياقوص ميخائيل محظوظاً بمستوى التعليم الذي كفله له والده الذي ألحقه بمدرسة بسطا بك، أكبر مدارس سوهاج وقتها، لينتقل منها إلى كلية الأمريكان في أسيوط، ثم يلتحق بمدرسة الأقباط الكبرى في القاهرة لإتمام المرحلة الثانوية، وكان خلال دراسته مولعا بمراسلة صحف، المؤيد التي أصدرها الشيخ علي يوسف، والوطن التي أصدرها جندي إبراهيم، وإجيپشيان گازيت التي كانت تنشر له بانتظام، ولعل تكرار النشر له جعله يصرف النظر عن الاستمرار في وظيفته مدرساً في مدرسة أهلية في بلدة ميت يشار في محافظة الشرقية، حيث هجر عمله بعد أربع سنوات، أصبح فيها ناظراً لتلك المدرسة، ليسافر في عام 1908 إلى الإسكندرية التي كانت مركزا صحفيا مهما في ذلك الوقت. وهناك، تتلمذ على يدي أستاذ أيرلندي، ليطور كتابته بالإنجليزية، وينشئ بدعم من أسرته "المكتب المصري للأخبار والاستعلامات"، بل ويفتتح في عام 1910 فرعا له في لندن. "أمر طه حسين، وكان وزيرا، باقتناء مكتبة قرياقوص ميخائيل، وضمت إلى دار الكتب المصرية، ولا يعلم إلا الله أين ذهبت مقتنيات تلك المكتبة، في ظل الأحوال المزرية التي شهدتها دار الكتب عبر السنين، والتي كنت شاهداً على بعضها بنفسي، والحديث في ذلك شرحه يطول ويؤلم.


الصحافة

بعد أن قام قرياقوص ميخائيل بتطوير أدواته اللغوية والصحفية، لم يقنع بمراسلة الصحف المصرية وحدها، بل قرر مراسلة الصحف الإنجليزية، بادئاً بصحيفة (التيمس) الشهيرة التي أرسل إليها رداً على تصريحاتٍ للمعتمد البريطاني في مصر، السير إلدون گورست، استخف فيها بمطالب الحركة الوطنية المصرية، وحين رفضت الصحيفة نشره، أرسله إلى صحيفة أخرى، هي بول مول جازيت التي نشرته في مكان بارز من صفحاتها، فشجعه ذلك على مكاتبة الصحف البريطانية بانتظام. وحين زادت فرصه في النشر، قرر السفر إلى لندن والإقامة فيها، بهدف مناوأة الاحتلال البريطاني في عقر داره، ولكي يكون لمقالاته ثقل أكبر، بعيداً عن فكرة أنها تأتي من مواطن مصري يجيد الكتابة بالإنجليزية. التحق بكنجز كوليدج ومعاهد وكلياتٍ تتيح الدراسات الحرة، حيث درس الصحافة والقانون الدولي وقوانين النشر والقانون الإنجليزي وتاريخ الشرق الأدنى ومبادئ الفلسفة والمنطق وعلم النفس والاقتصاد، وحاول الالتحاق بمعهد الصحفيين في لندن ونادي الصحافة في لندن، للحصول على دبلوم في الصحافة، لكنه تعرض للرفض، بسبب نشاطه السياسي.

مكتبة الأسد الأحمر

ولأن مساهماته الصحفية لم تكن تجلب له أي دخل مادي، قرر قرياقوص ميخائيل أن يبحث عن رزقه، من خلال وسيلة تناسب تفكيره وقدراته، فأنشأ في لندن مكتبة بعنوان (الأسد الأحمر)، تختص بالتعامل في الكتب القديمة والمخطوطات، وقاده بحثه الدؤوب في المكتبات، ولدى هواة جمع المخطوطات، إلى العثور على 800 وثيقة، تعود إلى أيام الخديوي إسماعيل، أغلبها بخط الخديوي نفسه، أو بخط ابنه الأمير إبراهيم حلمي. وحين نشر ذلك في الصحافة، أصدر الملك فؤاد أمره بشراء تلك الوثائق التي كان بعضها يتحدث عن خطط تدبر لعزل الخديوي توفيق، وإعادة أبيه إلى الحكم من جديد. وحين أعلن في الصحف الإنجليزية عن بيع متعلقات المحامي الإنجليزي ألكسندر ميرك برودلي الذي دافع عن أحمد عرابي وصحبه من قادة الثورة العرابية الموءودة، قرّر قرياقوص، بمبادرة فردية، أن يدخل المزاد العلني، ويشتري كل أوراق برودلي التي توثق علاقته بعرابي، وأودعها خزانة في البنك، حتى لا تتعرّض لمكروه، وبقيت في حيازته، إلى أن آلت بعد ذلك إلى الحكومة المصرية، في عهد تولي طه حسين وزارة المعارف في إحدى حكومات "الوفد"، وحين حاول ورثة عرابي رفع دعوى قضائية للحصول على أوراق تتضمن رسائل بين عرابي ومحاميه إ.م. برودلي، حكمت المحكمة أن تلك الرسائل ملك لمن أرسلت إليه، وليس لمرسلها الذي تنازل طوعاً بإرسالها عن ملكيته لها، ولم أجد فيما قرأت من دراسات عن الثورة العرابية إشارة إلى مصير هذه الوثائق، وما إذا كان فيها تفاصيل مختلفة عما تم نشره من مذكرات برودلي التي صدرت بعنوان (كيف دافعنا عن عرابي وصحبه).[1]

وكما يروي لنا وديع فلسطين، حرص قرياقوص ميخائيل طوال إقامته في بريطانيا، على الاشتراك في خدمة تتيحها وكالة صحفية، تمده بكل ما ينشر عن مصر في جميع صحف بريطانيا، ليحدد أولوياته في الرد والتعليق والتوضيح على ما ينشر عن مصر وكفاح شعبها من أجل الاستقلال، كما حرص على اقتناء كل الكتب التي تتحدث عن مصر، بل وكان يفتح صفحة المراجع في أي كتاب عن مصر، فإذا وجد فيها مرجعاً لم يسبق له اقتناؤه، كتاباً كان أم مجلة، طاف بالمكتبات البريطانية بحثاً عنه، وإن لم يجده، نشر إعلاناً في الصحف، طالبا شراء المرجع، وكان، في أغلب الأحيان، ينجح في الوصول إلى المرجع، من أناس يمتلكونه في مواقع متفرقة من دول العالم، لتصبح لديه، مع الوقت، مكتبة فريدة تضم أهم ما كتب عن مصر بمختلف اللغات، وظل يحتفظ بتلك المكتبة، ويحرص عليها وينميها، إلى أن تقدم في السن وضعف بصره. للأسف، لم يكن لقرياقوص أبناء، بل إنه حين تبنى صبيا اسمه علي التوني، بعد وفاة والده، وكان ثمرة حب بين مصري وإنجليزية، تم تجنيد الصبي في الجيش البريطاني، في الحرب العالمية الثانية، ولقي مصرعه فيها. ولذلك، خاف قرياقوص على كنزه الثقافي الفريد من الضياع، فبدأ بالتفكير في ضمان مستقبلها بعد وفاته، وحين وصل أمر المكتبة إلى طه حسين الذي كان وزيراً للمعارف وقتها، أمر باقتناء المكتبة، وضمت إلى دار الكتب المصرية، ولا يعلم إلا الله أين ذهبت مقتنيات تلك المكتبة، في ظل الأحوال المزرية التي شهدتها دار الكتب عبر السنين، والتي كنت شاهداً على بعضها بنفسي، والحديث في ذلك شرحه يطول ويؤلم. ومن يدري، ربما كان مصير مكتبة قرياقوص دافعاً لوديع فلسطين لكي يتخذ قراره بإبعاد مكتبته عن مصر بأكملها.

ثورة 1919

كان بديهياً، بعد كل ما بذله قرياقوص ميخائيل من مجهودات في الدفاع عن قضايا مصرأن يختاره الزعيم سعد زغلول وكيلا للوفد المصري في بريطانيا، في مرحلة مبكرة من مفاوضاته مع الإنجليز، وحين اندلعت ثورة 1919، قلقت السلطات الإنجليزية من نشاط قرياقوص السياسي والإعلامي، فاعتقلته، ثم رحلته، بعد أربعة أيام، إلى مصر، حيث كان ينتظره اتهام ملفق بأنه عضو فيما عرفت بجماعة الانتقام، التي وصفت بأنها الجهاز السري للثورة الذي يأتمر بأوامر سعد زغلول، وكان شريكاً له في ذلك الاتهام 28 شخصا، في مقدمتهم المناضل العتيد عبد الرحمن فهمي، وإبراهيم عبد الهادي (القيادي السعدي فيما بعد)، ومن الصحفيين توفيق صليب وحامد المليجي، حيث وجهت لهم جميعا اتهامات خلع السلطان، والسعي إلى اغتيال الإنجليز وقلب نظام الحكم. وبعد عامين من الاعتقال، نُظرت تلك القضية أمام محكمة عسكرية بريطانية، دامت أعمالها ثلاثة أشهر، وأوقعت عقوبات قاسية على غالبية المتهمين، لكنها برأت قرياقوص ميخائيل الذي كان، طوال الوقت، في بريطانيا، ولم تتمكن سلطات الاحتلال، وأذنابها في البوليس المصري، من تقديم أي دليل يقنع المحكمة بتوقيع العقوبة عليه. ومع ذلك، قال الجنرال البريطاني الذي رأس المحكمة لقرياقوص: "المحكمة قررت بعد تردد شديد الإفراج عنك". والمؤسف أن وديع فلسطين يخبرنا في كتابه أن قرياقوص ميخائيل أملى عليه مذكراته عن هذه القضية، شديدة الخطورة والأهمية، لكنه لم يجد فرصة لنشر تلك المذكرات طوال سنوات عمله الصحفي، ولعل الإخوة في دار الجديد اللبنانية الذين حصلوا على مكتبة الأستاذ وديع ينتبهون إلى هذه المذكرات، ويبادرون إلى نشرها وتحقيقها، في جزء من ذاكرة الإنسانية، قبل أن تكون جزءاً من ذاكرة مصر والوطن العربي.

هيلا سيلاسي في ضيافة قرياقوص

بعد أن حصل قرياقوص ميخائيل على البراءة بصعوبة من المحكمة العسكرية الإنجليزية، عاد إلى لندن ليزاول نشاطه، صحفياً يراسل صحفاً مصرية، لكنه قرر أن يؤمن نفسه مادياً، فأنشأ شركة للتجارة والاستيراد تحمل اسمه، لاقت نجاحاً كبيراً، مكّنه من اقتناء بيت كبير، جعله مقراً غير رسمي للمصريين الذين يزورون بريطانيا، بل والمفاجئ، كما يخبرنا وديع فلسطين، أنه استضاف في ذلك البيت الإمبراطور هيلا سيلاسي، إمبراطور الحبشة، عندما لجأ إلى بريطانيا، هربا من الغزو الإيطالي لإثيوبيا، والأمير سعود بن عبد العزيز، ولي عهد المملكة العربية السعودية، وملكها فيما بعد، والخديوي المخلوع عباس حلمي الثاني، والحاج أمين الحسيني مفتي فلسطين. وكان قرياقوص يضع سيارته بسائقها تطوعاً، تحت تصرف المصريين والعرب الزائرين لبريطانيا، ليصبح بيته بمثابة دوار العمدة، بل ويحرص على تعليم مديرة بيته الإنجليزية طبخ الطعام على الطريقة المصرية، بل والصعيدية أيضا، وهو ما جعل صديقه، مجد الدين حفني ناصف (شقيق باحثة البادية ملك حفني ناصف) يداعبه بمقطوعة زجلية، يقول فيها "أخو كل مصري لازم له قريب/ وضامن وشاهد تحت الطلب/ معلم مترجم مؤلف أديب/ ومكتب مخدم وبياع كتب/ وده كله راجع يا ابن الحلال/ لأكل الملوحة وعيش الدرة/ منيش قادر أفسر وجود لاحتلال/ ده حتة صعيدي فتح لندره".

لم يكتف قرياقوص ميخائيل بذلك، بل اشترى، بعد انتعاش أحواله المادية، حديقة على نهر التيمز، قام بتجهيزها بمرسى للزوارق وحمام سباحة، وتنازل عنها للحكومة المصرية، لتجعلها منتدى للطلبة المصريين الذين يدرسون في بريطانيا، ليصعقه رد فعل الحكومة المصرية التي خشيت من أن يتجمهر الطلبة المصريون في تلك الحديقة، ويمارسوا فيها نشاطاً سياسياً غير مرغوب فيه، فتكاسلت عن تسلم الحديقة رسميا وتركتها مهملة، متبعة سياسة (الباب اللي ييجي لك منه الريح سده واستريح)، وهي من السياسات المفضلة في هذا البلد، المنكوب بحكوماته المتعاقبة التي لا يتغير فيها إلا اسمها. وبعد أن يئس قرياقوص من الحكومة، استردّ الحديقة، والمؤسف أنه كان يملك إلى جوار الحديقة بيتاً كان يرغب في أن يتنازل عنه، ليحوله إلى بيت للطالبات المصريات القادمات للدراسة في بريطانيا، لكنه عدل عن ذلك، بعد تجربته الفاشلة مع الحديقة. "لم تكن حياة قرياقوص ميخائيل حافلة بالصداقات مع الملوك والكبراء فقط، بل كانت مليئة بالتجارب القاسية والثرية، عانى في أثنائها من الاعتقال مرتين، وحوكم مرة في تهمة عقوبتها الإعدام، ونجا من الغرق ثلاث مرات، وكاد يلقى حتفه في الجو مرتين"

لم ييأس قرياقوص ميخائيل من سعيه إلى أن يفيد وطنه بشيء. وبعد سنين من تلك الواقعة، كان في غاية السعادة، حين تمكن من استغلال علاقاته من أجل خدمة وطنه، حدث ذلك، كما يروي لنا وديع فلسطين في عام 1950، حين أذاعت وكالات الأنباء أن حكومة إثيوبيا بدأت تتفاوض مع شركة أميركية على بناء خزان على بحيرة تانا، فخشيت مصر من نتائج هذا المشروع عليها مائياً وزراعياً، خصوصاً أن الزراعة كانت المورد الأهم لمصر وقتها، قبل تأميم قناة السويس، وقبل وجود أي نشاط صناعي كبير. وحين تذكر المهندس عثمان محرم باشا وزير الأشغال المسؤولة عن ملف الري، أنه التقى في بيت قرياقوص ميخائيل في لندن بإمبراطور الحبشة، ولمس مودتهما الوثيقة، أرسل برقية إلى قرياقوص، دعاه فيها إلى المجيء إلى القاهرة، ليشترك في مناقشات حول مشروع خزان تانا، يحضرها وزير الخارجية الوفدي، الدكتور محمد صلاح الدين باشا.

لبى قرياقوص دعوة عثمان محرم من دون تردد، وحين تم تكليفه بالسفر إلى أديس أبابا، لبحث موضوع الخزان مع صديقه الإمبراطور، سافر فوراً، والتقى الإمبراطور الذي رحب بقرياقوص بحفاوة، وأكد له أن حكومة بلاده ستولي آراء مصر بشأن مشروع الخزان كل عناية وتقدير، مصدراً أوامره إلى الوزراء المختصين بدراسة مقترحات مصر والتعامل الإيجابي معها. ولم يكتف الإمبراطور بذلك، بل وجّه خطاباً إلى عثمان محرم باشا، أشاد فيه بمساعدات مصر المادية والأدبية للحبشة، في حربها مع إيطاليا الفاشية، قائلا إن بلاده لن تتصرف بمفردها في مشروع الخزان.

ولعلك حين تقرأ هذه الواقعة، في خضم ما تعانيه مصر من أزمات مع إثيوبيا، بخصوص سد النهضة، تتضاعف حسرتك على أحوال مصر التي لم يترك مسؤولوها رصيداً مادياً، أو معنويا، تجمّع في عهود سابقة، إلا وانهالوا عليه تبديداً وإتلافاً، وكم كان أولى بعلاقةٍ، كالتي نشأت بين صحفي مصري مخضرم وإمبراطور الحبشة، أن تتحول من علاقة شخصية قائمة على أفضال ومجاملات إلى علاقة وثيقة بين بلدين، تقوم على التبادل الثقافي والاجتماعي والاقتصادي، كما حدث في دول عديدة نجحت في استغلال العلاقات التي تربط شخصياتها العامة بقادة دول أخرى، لتحويلها إلى علاقات مؤسسية، تبقى بعد رحيل أصحابها، ثم تتعمد بالمصالح والمنافع، فتدوم ويبقى أثرها.

علاقته بالملوك والسياسيين

لم تكن حياة قرياقوص ميخائيل حافلة بالصداقات مع الملوك والكبراء فقط، بل كانت مليئة بالتجارب القاسية والثرية، عانى في أثنائها من الاعتقال مرتين، وحوكم مرة في تهمة عقوبتها الإعدام، ونجا من الغرق ثلاث مرات، وكاد يلقى حتفه في الجو مرتين، لولا أن نجت طائرته بالهبوط الاضطراري في المرتين، ودس له السم مرتين "أصدقاء"، لا يخبرنا وديع فلسطين عنهم، مع أن طريقة كتابته الواقعة توحي بأنه يعرف المزيد، وعلى الرغم من أن قرياقوص ميخائيل نجا من كل أسباب الموت المتعددة هذه، إلا أنه لم ينجح في الإفلات من مرض الشلل الذي أصابه في سبتمبر عام 1956، وهو على مشارف السبعين من عمره، ليرسل إلى جميع أصدقائه بطاقة مطبوعة، يخبرهم فيها بمرضه، ويعتذر عن عدم الرد على رسائلهم، واعداً بالكتابة إليهم بعد شفائه، من دون أن يدري أن وعكته الصحية لن تكون عابرة، وأنه سيعود إلى بلده الحبيبة مصر، في تابوتٍ تنقله طائرة، لكي يدفن في مصر التي عاش من أجلها حقيقةً لا مجازا، وأوصى بأن يضمها ترابه بعد رحيله، لعله يعوّض ابتعاده عنها أغلب حياته.

بعد رحيل قرياقوص ميخائيل بأيام، كتب القس الدكتور إبراهيم سعيد، رئيس طائفة الأقباط الإنجيليين، في صحيفة "الأهرام" مقالا مستفيضاً، ينقل وديع فلسطين مقاطع مهمة منه، تصف الراحل بأنه كان "لغزاً بين الرجال"، لأنه جمع بين بساطة المظهر، التي كانت تجعله أحيانا يسافر إلى لندن، وهو يحمل "قُفّة" يضع فيها بعض أشيائه، وعمق التفكير الذي جعله يكتب في كبريات الصحف البريطانية، بأسلوب مؤثر وقوي، وعلى الرغم من فهمه عادات الإنجليز وطريقتهم في الحياة والتفكير، فقد كان يعتز في داخله بالمراغة مسقط رأسه، وبطابعه الصعيدي الصميم الذي جعل بيته مقصد كل مصري مغترب في لندن، لكنه كان عمدةً عصرياً، يناديه الناس بلقب (أونكل مايكل). يشير القس إبراهيم سعيد، في مقاله، إلى واقعةٍ، تصدّى فيها قرياقوص ميخائيل للورد بيفر بروك، أحد ملوك الصحافة الإنجليزية، حين نشرت إحدى الصحف المملوكة له، خبراً غير صحيح عن مصر، فخاض قرياقوص ضده بمفرده، حملة ضارية في الصحف والمحاكم، حتى أجبره على الاعتذار، وهو ما لم يفعله اللورد بروك، حين خاض معركة صحفية مع قصر باكنجهام قبل ذلك.[2]

ينقل لنا وديع فلسطين مقالا آخر كتبه عالم مسلم، في رثاء هذا الصحفي المسيحي الذي يصدق فيه قول الشاعر القروي رشيد سليم الخوري "حامل فوق همه همّ شعبه"، هو الشيخ أبو الوفا المراغي، مدير المكتبة الأزهرية، الذي نشر في "الأهرام" مقالا يشيد فيه بدور قرياقوص ميخائيل في الحركة الوطنية، وهو دور استوقف الخطباء من المسلمين والأقباط الذين وقفوا على منبر الجامع الأزهر في أيام ثورة 1919، ليشيدوا بالحملة الإعلامية التي قادها الرجل، بالتعاون مع بعض أصحاب الضمائر في الصحف الإنجليزية، ليكشف المخازي والجرائم التي ارتكبتها قوات الاحتلال في حق المتظاهرين المطالبين بالاستقلال، مشيرا إلى حملة أخرى، قام بها قرياقوص ميخائيل للدفاع عن الأزهر، إزاء حملة شنها عليه كتاب إنجليز أغضبهم الدور الذي لعبه عدد من مشايخ الأزهر في حشد الجماهير نحو المطالبة بالحرية والاستقلال. وبالطبع، كان ذلك قبل أن يفقد الأزهر ومشايخه حريتهم واستقلالهم، ويتحول، هو وأغلب مشايخه، إلى بوق ينافق الحاكم، طبقا للمواصفات الشرعية المزعومة.

المصادر

  1. ^ "أفضال صحفي مصري على امبراطور الحبشة (1 من 2)". العربي الجديد. 2015-10-20. Retrieved 2015-10-20.
  2. ^ "أفضال لصحفي مصري على إمبراطور الحبشة (2 من 2)". العربي الجديد. 2015-10-21. Retrieved 2015-10-21.