حرب الهنريات الثلاث

(تم التحويل من حرب الثلاث هنريات)

حرب الهنريات الثلاث War of the Three Henrys ‏(1587[1]‏-1589) كانت ثامن وآخر نزاع في سلسلة الحروب الأهلية في فرنسا والتي عُرفت بإسم حروب الدين. الحرب نشبت بين الملكيين، بقيادة هنري الثالث من پولندا وفرنسا؛ والهوگنو، بقيادة الوريث المفترض هنري من ناڤار؛ والعصبة الكاثوليكية، بقيادة هنري الأول، دوق گيز وموّلها ودعمها فليپه الثاني من إسپانيا.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

مسار الحرب

بلغ هنري نافار الآن نقطة الحسم في حياته. لقد وجد نفسه فجأة، يحكم القانون والتقاليد، ملك فرنسا. ولكن نصف جنده تركوه بمثل هذه السرعة الفجائية تقريباً. أما النبلاء الموالون لهنري الثالث فقد انطلقوا إلى ضياعهم؛ واختفى معظم الكاثوليك الذين كانوا يحاربون في جيشه. ورفض ثلثا فرنسا فكرة الملك البروتستنتي رفضاً باتاً. أما جماعة »السياسيين« فقد أسكنهم الاغتيالان برهة؛ واعترف برلمان باريس بالكردينال بوربون ملكاً على فرنسا؛ ووعد فليب ملك أسبانيا الحف بذهب الأمريكتين ليحتفظ بفرنسا في حظيرة الكاثوليكية. وكان التفسخ الذي أصاب إنتاج فرنسا وتجارتها قد جلب على البلاد من الدمار ما لم يبق لها معه إلا نشوة الحقد والكراهية القاتلة. وهو أمر لم يحزن فليب كثيراً.

كان محالاً على نافار أن يهاجم مدينة كباريس تكن له العداء الشديد، بجيش انفرط عقده وتقلص عدده. ومن ثم فقد عمله في كفاية قيادية، عطلتها خليلاته أكثر مما عطلها العدو، إلى سحب قواته إلى الشمال ليتلقى المعونة من إنجلترا، وتبعه مايين مما أتاحت له بدانته من سرعة. والتقى الجيشان عند آرك جنوبي دبيب مباشرة، وعدة جيش هنري 7.000، وجيش مايين 23.000 (21 سبتمبر 1589). ونستطيع أن نفهم نتيجة المعركة من رسالة هنري إلى رفيقه في السلاح كريون، »أشنق نفسك أيها الشجاع كريون، لقد خضنا المعركة عند آرك، ولم تكن أنت هناك« وشدد الانتصار من عزيمة أعوان هنري السريين في كل مكان. ففتحت عدة مدن أبوابها له مغتبطة، واعترفت به جمهورية البندقية ملكاً؛ أما اليزابث التواقة كالبندقية إلى الحيلولة دون سيطرة أسبانيا على فرنسا، فقد أرسلت له 4000 جندي، و 22.000 جنيه ذهبي، و 70.000 رطل من البارود، وشحنات من الأحذية، والطعام، والنبيذ، والجعة. ورد فليب على هذا بارساله تجريدة من فلاندر إلى مايين. والتقى الجيشان المعززان عند إفري على نهر أور في 14 مارس 1590. ورشق هنري في خوذته ريشة شرف كبيرة بيضاء- لا يكاد المرء يسميها ريشة طائر بيضاء- وقال لجنده »إذا فرقكم وطيس المعركة لحظة فتجمعوا تحت أشجار الكمثري تلك التي ترونها على يميني، وإذا فقدتم أعلامكم فلا تغفلوا عن ريشتي البيضاء- ستجدونها دائما في طريق الشرف، وفي طريق النصر أيضاً كما أرجو«. وقاتل في المقدمة كما كان شأنه دائماً. وورم ذراعه الأيمن وتشوه سيفه من كثرة مقارعة العدو. وقد خدمه اشتهاره بالرأفة، إذ استسلم له الآلاف من الجنود السويسريين الذين كانوا في جيش مايين والذين لم تدفع لهم رواتبهم. وخلف انتصار هنري الحلف بغير جيش، فزحف على باريس دون مقاومة تقريباً ليحاصرها.

ومن مايو إلى سبتمبر 1590 عسكر جنده الجائعون المفلسون حول العاصمة وهم يتحرقون شوقاً لمهاجمتها ونهبها، ولكن صدهم عن هذا رفض هنري الموافقة على مذبحة ربما كانت شراً من مذبحة القديس برتليمو. وبعد شهر من الحصار كان الباريسيون يأكلون لحم الخيل والقطط والكلاب، ويغتذون بالعشب. ورق لهم قلب هنري فسمح للأقوات بأن تدخل المدينة. وجاء دوق بارما، والى فليب على الأراضي المنخفضة، لنجدة باريس بجيش حسن التجهيز من صناديد الاسبان، وتقهقر هنري إلى روان بعد أن غلبته مناورات العدو، وتبعه بارما في صراع الاستراتيجية ولكن المرض أعجز الدوق، وعاد جيش هنري يحاصر العاصمة من جديد.

وواجه الآن هذا السؤال الفاصل: أيستطيع، وهو البروتستانتي، أن يظفر بعرش بلد 90% منه كاثوليك، وأن يحتفظ بهذا العرش؟ لقد كان الكاثوليك كثيرة غالبة حتى في جيشه. ولا ريب في أنه لم يكن من همومه الصغيرة تناقص موارده المالية وعجزه عن دفع رواتب جنده بعد ذلك. ومن ثم دعا معاونيه واعترف لهم بأنه يفكر في اعتناق الكاثوليكية، فوافق بعضهم على الخطة لأنها السبيل الوحيد إلى السلام، وندد آخرون بها باعتبارها تخلياً قاسياً شائناً عن الهيجونوت الذي أعطوه الدم والمال أملاً في أن يكون لهم ملك بروتستانتي. هؤلاء أجابهم هنري بقوله: »لو اتبعت نصيحتكم لما بقى في فرنسا بعد قليل ملك ولا ملكة. أريد أن أمنح السلام لرعاياي والراحة لنفسي. فتشاوروا فيما بينكم ماذا تريدون ضماناً لأمنكم. وأنا على الدوام مستعد لإرضائكم(12)«. ثم قال »ربما لم تكن شقة الخلاف بين المذهبين واسعة إلا لما بين المبشرين بهما من حقد وعداء. وسأعمل يوماً باستعمال سلطتي على أن يستقيم هذا الأمر كله(13). ثم حدد صلب عقيدته بقوله »إن الذين يتبعون ضميرهم دون عوج على ديني، وأنا على دين كل إنسان شجاع طيب(14)«. وهجر دوبليسي-مورنيه، وأگريپا دوبنيه، وكثير من زعماء البروتستانت الآخرين الملك، ولكن الدوق صلى، أصدق مستشاري هنري، الذي ظل بروتستانتيا وفيا، وافق على قرار مولاه »أن باريس تستأهل قداساً(15)« .

ففي 18 مايو 1593 أرسل هنري إلى البابا وأكليروس من باريس يبدي رغبته في أن يدرس العقيدة الكاثوليكية. وكان جريجوري الرابع عشر قد جدد حرمانه. ولكن الأكليروس الفرنسي الذي لم يذل أبداً لروما تأهب لإعداد التائب الجديد لأن يكون ملكاً تقياً. على أنه لم يكن بالتلميذ السهل القيد. فهو يرفض أي تعهد بأن يشن حرباً على الهرطقة، وهو يأبى أن يوقع أو يؤمن بـ »هراء هو واثق كل الثقة من أن أغلبهم لا يؤمنون به(16)«، ولكنه وافق في سماحة على عقيدة المطهر لأنها »أعظم مصادر دخلكم(17)«. وفي 25 يوليو كتب لخليلته آنذاك »سأقفز القفزة الخطرة« ثم ذهب إلى كنيسة دير سان دنيس، واعترف، ونال الغفران، واستمع إلى القداس.

ورماه الآلاف في المعسكرين بالنفاق. وأنكر اليسوعيون كثلكته وواصل زعماء الحلف مقاومتهم. ولكن موت دوق بارما والكردينال بوربون كان قد أوهن قوة الحلف، وفقدت حكومة الستة عشر منزلها في أعين الوطنيين الفرنسيين لتأييدها خطة فليب الرامية إلى جعل ابنته ملكة على فرنسا. ومال كثير من النبلاء إلى هنري بوصفه القائد الحربي الكفيل بكبح جماح فليب، والحاكم الرحيم الذي يستطيع أن يرد العافية إلى وطن استشرت فيه الفوضى حتى كادت تمزق أوصاله. وأعربت مجلة ذكية تدعى »سانتير منيبيه« (1593-94) عن عواطف جماعة »السياسيين« والبورجوازيين، وسخرت في ظرف وتهكم اليسوعيين والحلف، وأعلنت أنه »ما من سلام بلغ من الظلم ما يجعله لا يرجح أكثر الحروب عدلاً(18)«. وطلب الجميع السلام في شوق، حتى باريس المتعصبة. واستمرت الاشتباكات الصغيرة ثمانية شهور أخرى، ولكن في 22 مارس 1594، زحف هنري إلى باريس ودخلها ولم يكد أحد يعترضه، وعظم ترحيب الجماهير به حتى أنه أراد أن يدخل نوتردام لم يكن بد من رفعه فوق الرؤوس. وثبت ملكاً في ذلك اللوفر ذاته، الذي كان فيه قبل اثنين وعشرين عاماً سجيناً قاب قوسين من الموت، واستسلم للبهجة والفرح، فأصدر بطريقته المرحة، عفواً عاماً شمل حتى آل جيز وحكومة الستة عشر. وأكتسب بعض أعدائه بالغفران عنهم دون تردد وبالمجاملة السمحة الكيسة ورشا البعض بمال اقترضه.

على أنه لم يكسب الجميع إلى صفه. ففي ليون اشترى پيير باريير مدية وشحذها ثم شد رحاله إلى باريس معلناً نية اغتيال الملك. فقبض عليه في ميلون وشنق دون إبطاء. وقال هنري »وا أسفاه، لو علمت بالأمر لعفوت عنه.« وأرسل البابا كلمنت الثامن للملك حل الكنيسة، ولكن اليسوعيين واصلوا مهاجمته في مواعظهم. وفي 27 ديسمبر هجم فتى في التاسعة عشرة يدعى جان شاتيل على الملك بخنجر ولكن لم يصبه بأسوأ من قطع في شفته وكسر في سنه. ومرة أخرى رأى هنري العفو عن هذا المتعصب، ولكن رجال السلطة أوقعوا بشاتيل كل أنواع التعذيب التي نص عليها القانون ضد قتلة الملوك. وقد اعترف الرجل في كبرياء برغبته في قتل الملك لأنه زنديق خطر، وأعلن استعداده لبذل محاولة أخرى في سبيل خلاص نفسه. وقال في اعترافه إنه تلميذ لليسوعيين، ولكنه أبى أن يورطهم بأكثر من هذا في مغامرته. وقد رويت عن اليسوعي الأسباني خوان داريانا (الذي سنلتقي به ثانية) عبارات وافق فيها على اغتيال الملوك الفاسدين، لا سيما هنري الثالث، وتبين أن اليسوعي الفرنسي جان جينار كتب يقول إنه كان من الواجب قتل هنري الرابع في مذبحة القديس برتلميو، وإنه يجب التخلص منه الآن »بأي ثمن وبأية طريقة(19)«. وفي بواكير عام 1595 أمر برلمان باريس اليسوعيين بالرحيل عن فرنسا بناء على التماس من الاكليروس العلماني في السوربون.


الهامش