بنو عمار

بنو عمار، هي عائلة القضاة الذين حكموا طرابلس من 1070 إلى 1109، خلال الأربع عقود التي سبقت سقوط طرابلس على يد الصليبيين.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

التاريخ

الأصول

يرجع نسب بني عمار إلى قبيلة كتامة الأمازيغية المغربية الأفريقية، وقد اعتنق الكتاميون الإسلام في بداية القرن الثامن الميلادي (710م) مع وصول الفتح الإسلامي إلى مناطقهم، فتعاونوا جميعًا على طرد البيزنطيين والرومان وتحرير البلاد نهائيًا، وأدّى اندماج العنصرين إلى تكوين مجتمع جديد على أسس ونهج جديدين، ونتج عن ذلك قيام ممالك أمازيغية معروفة، وقد خضعت أقاليم كتامة لسيطرة الأغالبة ثم الزيريين ثم الحماديين ثم الموحدين، وقد كانت لهم ممالك مستقلة وقادة عظماء في تلك الفترة.[1]

وعندما قامت الدولة الفاطمية اعتنق الكتاميون المذهب الشيعي الإسماعيلي، ولم يُعلم زمن انتقالهم إلى المذهب الجعفري بالتحديد، والظاهر أن هذا الأمر حصل بعد انتقالهم إلى الشام، والقدر المتيقن أنهم عندما استقلوا بدولتهم فيها كانوا على مذهب الشيعة الإثني عشرية، وبقيت طرابلس بأيديهم نحوًا من 40 سنة، حتى انتزعها منهم الصليبيون سنة 502 هجرية، وكان أهلها في ذلك العصر شيعة اثني عشرية.

قال السيد محسن الأمين في أعيانه: [طرابلس أو أطرابلس بالهمزة، مدينة في ساحل بحر الشام، كان أهلها شيعة في عصر الشيخ الطوسي في القرن الرابع وما بعده (...) ثم انقرض منها التشيع بالعداوات والضغط، ويوجد في نواحيها اليوم بعض القرى الشيعية].

ويقول ناصر خسرو في كتابه سفرنامة عندما زار طرابلس في القرن الخامس الهجري: [وسكان طرابلس كلهم شيعة وقد شيّد الشيعة مساجد جميلة في كل البلاد].

ويقول المستشرق آدم متز في كتاب «الحضارة الإسلامية»: «وإذا كان ناصر خسرو قد وجد أهل طرابلس في عام (428هـ -1037م) شيعة، فقد جاء ذلك من أن بني عمار وهم إحدى الأسرات الصغيرة الكثيرة على الأطراف كانوا هناك على مذهب الشيعة».

ويقول د. عمر عبد السلام تدمري في كتابه (المغاربة في ساحل الشام تاريخهم السياسي والحضاري في العصر الفاطمي): [ وتجدر الإشارة أيضًا إلى أن المغاربة لم يكونوا كلهم إسماعيليين على مذهب الدولة الفاطمية، بل كانوا في الغالب من الشيعة الإمامية، وبعضهم من السنّة على المذهب المالكي].

قبيلة كتامة

في بداية القرن العاشر الميـلادي (913م) كانت قبيلـة كتامـة من أقـوى القبائل البربريـة في المغرب آنذاك، فتحالفت مع الفاطميين ضد الخلافة العباسية تعاطفًـا مع دعاة الإسماعيلية المتشيعين لأهل البيت ، واستطاعوا الإطاحة بدولة الأغالبة والقضاء عليها في القيروان بتونس، وقد كان دورهم حاسمًا في تأسيس الدولة الفاطمية، فكانوا حماتها وجنودها المخلصين.

انضم عـدد كبـير من قبيلة كتامة إلى جيش جوهر الصقلي قائد الحملة الفاطمية على مصر، وتمكنوا عـام (358هـ - 969م) من دخول الفسطاط بعد محاولات عديدة وأسّسوا مدينة القاهرة، وظلوا قوة عسكريّة هامّة في خدمة الخلافة الفاطميّة، وقد خصّص لهم مكان بجوار القاهرة للإقامة فيه، ولا يزال حي الكتاميين في القاهرة يحتفظ باسمهم.

قال الشيخ مبارك الميلي في كتابه تاريخ الجزائر: [كانوا [أي: كُتامَة] من لَدُن الفتح مُعتزّين بكثرتهم لا يسومهم الأُمراءُ بهضيمةٍ إلى أن ظهرت الرّافضيّة [الشّيعيّة] بالمغرب فدانوا بِها، وملكوا المغرب باسم بني عُبيد [الفاطميّين]، ثُمّ مصر والشّام. واختطّوا القاهرة، ولَهُم بِها حارةٌ مضافة إليهم، ذكرها السّخاوي في تُحفة الأحباب].

يقول الدكتور يحيى مراد في تعليقه على كتابه تاريخ آل سلجوق، متحدثًا عن هذه القبيلة: «عند قيام الدولة الفاطمية كان شيوخ هذه القبيلة ممن لهم الصدارة في مؤسساتها الإداريّة والعسكريّة».

ويقول بوزياني دارجي في كتابه القبائل الأمازيغية: [تعتبر كتامة من أهم القبائل الأمازيغية التي تركت أثرًا بارزًا في تاريخ المغرب الإسلامي، بل تركت أثرًا عظيمًا في التاريخ الإسلامي ككل].


وصول بني عمار مصر

يُنسب بنو عمار إلى «أبي محمد الحسن بن عمار»، الذي لمع اسمه في عهد الخليفة الفاطمي «العزيز بالله» سنة 381هـ.

يقول المقريزي: [كانت قبيلة كتامة من أهم القبائل التي اعتمدت عليها الدولة الفاطمية مدة خلافة المهدي عبيد الله وخلافة ابنه القاسم القائم بأمر الله وخلافة المنصور بنصر الله إسماعيل بن القاسم وخلافة ابنه مَعد أبي تميم المعز لدين الله، وبهم أخذ ديار مصر لما سيّرهم إليها مع القائد جوهر في سنة 358هـ، وهم أيضًا كانوا أكابر من قدم معه من الغرب في سنة 362هـ.

فلما كان في أيام ولده العزيز بالله نزار اصطنع الديلم والأتراك، وقدمهم وجعلهم خاصته، وحطّ من قدر كتامة، فصار بينهم وبين كتامة تحاسد إلى أن مات العزيز بالله، وقام من بعده أبو علي المنصور الملقب بالحاكم بأمر الله، فقدّم ابن عمار الكتامي وولاّه الوساطة وهي في معنى رتبة الوزارة، فاستبد بأمور الدولة وقدّم كتامة وأعطاهم، وحطّ من الغلمان الأتراك والديلم الذين اصطنعهم العزيز، فاجتمعوا إلى "برجوان" وكان صقلبيًا وقد تاقت نفسه إلى الولاية فأغرى المصطنعة بابن عمّار حتى وضعوا منه، واعتزل عن الأمر، وتقلّد [برجوان] الوساطة، فاستخدم الغلمان المصطنعين في القصر، وزاد في عطاياهم وقوّاهم، ثم قتل الحاكم ابن عمار وكثيرًا من رجال دولة أبيه وجده، فضعفت كتامة وقويت الغلمان.

فلما مات الحاكم وقام من بعده ابنه الظاهر لإعزاز دين الله علي، أكثر من اللهو ومال إلى الأتراك والمشارقة، فانحط جانب كتامة، وما زال ينقص قدرهم ويتلاشى أمرهم حتى صاروا في زمن المستنصر من جملة الرعية بعدما كانوا وجوه الدولة وأكابر أهلها].

ويقول المورخ المغربي الدكتور موسى لقبال في كتابه [دور كتامة في قيام الدولة الفاطمية]:

[يحمل تاريخ قبيلة كتامة وعلاقتهم بالحركة الفاطمية، منذ القرن الثامن للهجرة، عدة معان ودلالات منها: أن عملهم يعبّر عن فترة حاسمة في نهضة الفروسية الإسلامية في بلاد المغرب، وهو يمثل أيضًا دورًا إيجابيًا للإسلام الشيعي.... وبفضل عمل كتامة سرى تيار الوحدة، وأصبحت أصداؤه هي المسموعة في أرجاء المغرب والمشرق أيضًا...].

وصول بني عمار إلى طرابلس والتمهيد لتأسيس الدولة

تعود العلائق المغربية بطرابلس الشام إلى أكثر من ألف ومائة سنة خَلَتْ، أي إلى عهد الحكم الإخشيدي (330-358هـ/941-969م)، وتنوعت تلك العلاقات ما بين ثقافية وسياسية وعسكرية وتجارية وعمرانية.

والمصادر التاريخية لا تذكر شيئًا عن كيفية مجيء بني عمار إلى طرابلس، أو بدء تاريخهم بها، إذ تنقطع أخبار هذه الأسرة بعد موت جدها أبي محمد الحسن بن عمار سنة 386هـ، فلا نقف على أخبارهم قرابة ثلاثة أرباع القرن.

ومن الراجح أن يكون انتقالهم إلى الشام بدأ في زمن أبي الحسن بن عمار، وبعد أن تدنت مرتبتهم وتدهورت أحوالهم في مصر بسبب المؤامرات التي حيكت حولهم آثروا الهجرة الصامتة من مصر إلى الشام أولاً، ثم نزحوا إلى طرابلس بعد أن أصبح الحسن بن عمار قاضيًا على طرابلس.

وهذا ما يمكن أن نستفيده من كلام ابن القلانسي في كتابه "ذيل مرآة الزمان" عند ذكره "أبي محمد الحسن بن عمار": [ويبدو أنه فتح الطريق لأبناء قبيلته لينتقلوا الى الشام، فنجده يرسل «أبو تميم سليمان بن جعفر بن فلاح الكتامي» إلى دمشق، ثم يقوم أبو تميم هذا بوضع أخيه "علي بن جعفر بن فلاح الكتامي" واليًا على طرابلس في سنة 386هـ](.

ويؤيد هذا الرأي الدكتور عمر عبد السلام تدمري حيث يقول: [احتل المغاربة المرتبة الأولى بحضورهم، إلى جانب الحضور الديني والعسكري، وذلك في العصر الفاطمي، إذ منذ أن بسط الفاطميون نفوذهم في بلاد الشام بعد سنة 360هـ، أخذوا يولّون القُضاة والوُلاة والقادة على المدن الرئيسة والولايات، وبشكل خاص في طرابلس، لأنها كانت قاعدة أمامية متقدمة على ساحل الشام في مواجهة الدولة البيزنطية التي كانت تهدد الأطراف الشمالية في بلاد الشام، ولذا أضحت طرابلس قاعدة أساسية للدعوة الفاطمية الإسماعيلية من الناحية الدينية، ومركزًا مهمًا للأسطول البحري والقوات البرية من الناحية العسكرية، فضلاً عن اتخاذها عاصمة لولاية إدارية متَّسعة الأرجاء تمتد حدودها من نواحي نهر الكلب جنوبًا، حتى مدينة اللاذقية شمالاً.

ونظرًا لهذه الأهمية، فقد حرص الفاطميون على أن يكون زمام الأمور في طرابلس بيد المغاربة، ويمكن القول إن الحكم الفاطمي في بلاد الشام قام على أكتافهم، لذا أُعطيت الولاية وقيادة العسكر للقائد "نزّال الغوري الكُتامي"، وهو من قبيلة كُتامة المغربية البربرية، ومن صناديد المغاربة، ووُضع تحت إمرته ستة آلاف رجل من عسكر طرابلس، ثم ابنه "المُظهِر محمد بن نزّال"، والقائد "جيش بن الصمصامة"، والقائد "أبو سعادة المغربي"، والوالي "علي بن جعفر بن فلاح الكُتامي"، و"مختار الدولة ابن نزّال"].

تأسيس الدولة

أول من ولي حكم طرابلس من بني عمار وأسس دولتهم كان أبو طالب الحسن ابن عمار المعروف بأمين الدولة، حيث نطالع اسمه في سنة (457هـ-1065م) عندما دخل الأمير حصن الدولة حيدرة بن منزو طرابلس حيث ساعده أمين الدولة قاضيها في الاستيلاء عليها وانتزاعها من بني أبي الفتح، وقد ظلَّ يعدّ نفسه تابعًا للدولة الفاطمية حتى سنة (462هـ-1070م) حيث استقل بطرابلس واستبدّ بأمرها.

وفي تلك المرحلة كان هناك صراع بين الدولة الفاطمية والدولة السلجوقية فاتخذ أمين الدولة موقفًا محايدًا بينهما، وأعلن عن استقلال إمارته عن الدولة الفاطمية.

وفيهم يقول المقريزي: [وكانت الدولة (أي الفاطمية) قد حوّلت الثغر في أيديهم على سبيل الولاية، فلما جاءت الشدائد، تغلبوا عليه].

ولم تكن هذه الدولة الفتيّة دولة عاديّة، بل استطاع حكامها وفي غضون فترة وجيزة أن يؤسسوا دولة ذات سيادة، تعتمد على نفسها، ولديها اكتفاء ذاتي زراعيًا واقتصاديًا وتجاريًا، وتستقوي بشعبها الذي يحبها وجيشها الذي يدافع عنها، فقطعت في سنوات قليلة ما يحتاجه غيرها إلى عقود من الزمن، مما ساعدها على الوقوف في وجه الغزو الصليبي وتحمل حصاره مدة عشر سنوات تقريبًا.

حدود دولة بني عمار

لم تكن إمارة بني عمار منحصرة في طرابلس فقط، بل امتدت إمارتهم حتى إنطاكية من جهة، وامتدت من نواحي جبلة في سوريا إلى قلعة صافيتا وحصن الأكراد والبقيعة، وفي لبنان امتدت حتى تخوم بيروت من جهة، ومن جهة أخرى حتى الهرمل والضنيّة وبشرّي وبلاد العاقور شرق بلاد جبيل، بل حتى جونية، حيث كانت جونية من أعمال طرابلس في ذلك الوقت كما يذكر الخطيب البغدادي المتوفى (463) للهجرة.

يقول الدكتور عمر عبد السلام تدمري: [إمارة بني عمّار اللبنانية-السورية: أقول اللبنانية السورية لأن رقعتها شملت أرضًا من لبنان وأرضًا من سورية، فإذا كانت عاصمتها لبنانية، هي طرابلس، فإنّ ما ارتبط بتلك العاصمة كان أرضًا ممتدة من تخوم بيروت حتى تخوم أنطاكية].


حصار دولة بني عمار

استطاعت هذه الدولة الفتية أن تصمد في وجه التحديات التي واجهتها أيام الحصار الصليبي عشر سنوات تقريبًا، ولكنها ابتليت بقلة الناصر وكثرة الأعداء، لذلك أفل نجمها باكرًا ولم يكتب لها البقاء.

ففي سنة 495هـ بدأ حصار الإفرنج لطرابلس، وفي هذه السنة بدأ عهد انتقال بني عمار من الكتاب إلى السيف، فأعدوا العدة لحصار طويل، وبعد مرور سنة كاملة على الحصار كانت مهمة فخر الملك فيها مزدوجة ذات شقين: شق دفاعي وشق هجومي، فهو يقف في وجه اقتحام الصليبيين لمدينته فيقاتلهم دفاعًا عنها، ثم هو ينفذ بمراكبه من بين سفن الصليبيين المحاصرة له، فيهاجم الصليبيين في ما يحتلونه من بقاع، فكان فخر الملك بطل الدفاع والهجوم معًا، وكان "العماريون" أهله يشدون من أزره، وشعبه الطرابلسي يصبر ويصابر معه.

وقد تناول ابن الأثير هذه القضية بشيء من التفصيل في تاريخه حيث يقول:

[عندما وصل القائد الصليبي"صنجيل" (ريموند دي سان جيل) إلى مشارف الشام كان أول من أدرك الخطر الصليبي فخر الملك بن عمار، فصمم على الإعداد لهذا الخطر قبل أن يتغلغل في البلاد الشامية، وذلك بالدعوة إلى حلف إسلامي يقف في وجهه، فراسل الأمير "ياخز" في حمص والملك "دقاق بن تتش" في دمشق يقول لهما: من الصواب أن يعاجل صنجيل إذ هو في هذه العدة القريبة، فاستجابا له، فخرج الأمير "ياخز" بنفسه وسيّر "دقاق" ألفي مقاتل، وخرجت الامدادات الطرابلسية فاجتمعوا على باب طرابلس وصافوا "صنجيل" هناك].

ويقول ابن الأثير، في أحداث سنة 496هـ:

[وكان صنجيل يحاصر مدينة طرابلس الشام، والمواد تأتيها، وبها فخر الملك بن عمار، وكان يرسل أصحابه في المراكب يغيرون على البلاد التي بيد الفرنج ويقتلون من وجدوا، ويقصد بذلك أن يخلو السواد ممن يزرع لتقلَّ المواد من الفرنج فيرحلوا عنه].

ثم تأتي سنة 497هـ، فيقول ابن الأثير: [في هذه السنة وصلت مراكب من بلاد الفرنج إلى مدينة اللاذقية فيها التجار والأجناد والحجاج وغير ذلك، واستعان بهم صنجيل الفرنجي على حصار طرابلس، فحاصروها معه برًا وبحرًا وضايقوها وقاتلوها أيامًا، فلم يروا فيها مطمعًا فرحلوا عنها إلى مدينة جبيل...].

سنتان مرتا وفخر الملك محاصر في مدينته، وهو صامد يدافع عنها دفاع الأبطال، ويستعين الأعداء بقوى جديدة فلا ينالون من صموده منالاً.

وفي سنة 499 هـ يقول ابن الاثير: كان صنجيل قد ملك مدينة جبلة، وأقام على طرابلس يحاصرها فحيث لم يقدر أن يملكها، بنى بالقرب منها حصنًا وبنى تحته ربضًا، وأقام مُراصدًا لها، ومنتظرًا وجود فرصة فيها، فخرج الملك أبو علي بن عمار صاحب طرابلس فأحرق ربضه ووقف صنجيل على بعض سقوفه المتحرقة ومعه جماعة من القمامصة والفرسان فانخسف بهم فمرض صنجيل ومات بعد عشرة أيام، فحمل إلى القدس ودفن فيه.

ثم إن ملك الروم أمر أصحابه باللاذقية ليحملوا الميرة إلى هؤلاء الفرنج الذين على طرابلس فحملوها في البحر، فأخرج إليها فخر الملك بن عمار أسطولاً فجرى بينهم وبين الروم قتال شديد، فظفر المسلمون بقطعة من الروم فأخذوها وأسروا من كان بها وعادوا.

ولم تزل الحرب بين أهل طرابلس والفرنج خمس سنين إلى هذا الوقت، فعدمت الأقوات بها وخاف أهلها على نفوسهم وأولادهم وحرمهم، فجلا الفقراء وافتقر الأغنياء، وظهر من ابن عمار صبر عظيم وشجاعة ورأي سديد، ومما أضر بالمسلمين فيها أن صاحبها استنجد بـ"سقمان بن أرتق" فجمع العساكر وسار إليه، فمات في الطريق.

وأجرى فخر الملك ابن عمار الجرايات على الجند والضعفاء فلما قلّت الأموال عنده شرع يقسط على الناس ما يخرجه في باب الجهاد فأخذ من رجلين من الأغنياء مالاً مع غيرهما فخرج الرجلان إلى الفرنج وقالا: إن صاحبنا صادرنا فخرجنا إليكم لنكون معكم، وذكروا له أنه تأتيه الميرة من عرقة والجبل، فجعل الفرنج جمعًا على ذلك الجانب يحفظه من دخول شيء إلى البلد فأرسل ابن عمار وبذل للفرنج مالاً كثيرًا ليسلموا الرجلين إليه فلم يفعلوا فوضع عليهما من قتلهما غيلة].

ويظهر من هذا أن ابن عمار لم يكن بطلاً شجاعًا فقط، بل كان إلى ذلك حازمًا بعيد النظر، محكم التدبير، جلدًا أمام الاهوال، فلم يشغله ما هو فيه عن التفكير في أمر هذين الخائنين، فصمم على معاقبتهما لأن تركهما سليمين يشجع أمثالهما على الخيانة فأحكم تدبير أمر اغتيالهما، واستطاع اختراق صفوف أعدائه والوصول الى اغتيالهما، وفي هذا ما فيه من قوة العزم وسداد الرأي وإحكام الأمر، حتى لا يتجرأ أحد على الخيانة والركون إلى أعداء الله.

يقول المؤرخون: اجتمع على منازلة طرابلس كل من"برتران" الابن الاكبر لريموند الصنجيلي، ودوليم غوردان، ابن اخت ريموند المذكور، و"تانكريد" امير انطاكية واللاذقية و"بلدوين" ملك بيت المقدس، و"بلدوين" كونت الرها و"غوسلين" أمير قلعة تل باشر.

وكانت القوى المهاجمة للمدينة تتألف من 4000 فارس بروفنسي قدموا مع برتران، وعدد كبير من الجنوية جاءوا بعشرين سفينة، إلى جانب سفن برتران وعددها أربعون، و500 فارس أتى بهم بلدوين ملك القدس، إلى جانب عدد كبير من الرجالة و700 فارس من خيرة فرسان تانكريد، بالاضافة إلى بلدوين كونت الرها، وجوسلين وحرسيهما، ثم جموع المردة ومن أتى من جبل لبنان.

كان هذا الجمع قد تجمع على طرابلس بعد ان كلّت قواها بعد عشر سنوات من الحصار المضروب والقتال الدائم، وكان هو الذي دخل طرابلس.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

توجه فخر الملك إلى بغداد

بعد أن اشتد الحصار على طرابلس، آيس فخر الملك من قدرته على الصمود فترة أطول، فاستحسن الذهاب إلى بغداد لطلب المعونة من الدولة السلجوقية، لذا توجه مسرعًا وكله أمل أن يجد عندهم ما يفيده، ولكن الأمور جرت بعكس ما كان يتمنى، لأن السلاجقة بالرغم من أنهم وعدوه بالمساعدة ولكن الفاطميين استولوا على طرابلس، وقبضوا على بني عمار، وحملوهم إلى مصر بدل أن ينقذوها من أيدي الصليبيين، وتركوا فيها حامية ضعيفة مما جعل طرابلس لقمة سائغة أمامهم، وهذا ما يشير إليه ابن كثير فيقول:

[في هذه السنة -أي 501هـ- في شهر رمضان ورد القاضي فخر الملك أبو علي بن عمار صاحب طرابلس الشام إلى بغداد قاصدًا باب السلطان محمد، مستنفرًا على الفرنج طالبًا تسيير العساكر لإزاحتهم، والذي حثّه على ذلك أنه لما طال حصر الفرنج لمدينة طرابلس على ما ذكرناه ضاقت عليه الأقوات وقلّت، واشتد الأمر عليه وعلى أهل البلد، فمنَّ الله عليهم سنة خمسمائة بميرة في البحر من جزيرة قبرص وأنطاكية وجزائر البنادقة، فاشتدت قلوبهم وقووا على حفظ البلد بعد أن كانوا استسلموا‏.‏

فلما وصل إلى بغداد أمر السلطان الأمراء كافة بتلقيه وإكرامه، ولما اجتمع بالسلطان قدّم هديته وسأله السلطان عن حاله وما يعانيه في مجاهدة الكفار ويقاسيه من ركوب الخطوب في قتالهم، فذكر له حاله وقوة عدوه وطول حصره وطلب النجدة، وضمن أنه إذا سيّرت العساكر معه أوصل إليهم جميع ما يلتمسونه، فوعده السلطان بذلك، وأرسل معه جيشًا بقيادة الأمير حسين بن أتابك قتلغ تكين، وخلع عليه السلطان خلعًا نفيسة وأعطاه شيئًا كثيرًا وودّعه، وسار ومعه الأمير حسين، فلم يجدِ ذلك نفعًا].

سقوط الدولة

بعد توجه فخر الملك إلى بغداد وانقلاب ابن عمه عليه، راسل بعض أهل طرابلس "الأفضل" أمير الجيوش بمصر يلتمسون منه واليًا يكون عندهم ومعه الميرة في البحر، فسيّر إليهم شرف الدولة بن أبي الطيب واليًا ومعه الغلة وغيرها مما تحتاج إليه البلاد في الحصار، فلما صار فيها قبض على جماعة من أهل ابن عمار وأصحابه وأخذ ما وجده من ذخائره وآلاته وغير ذلك وحمل الجميع إلى مصر في البحر‏، ومن غير المعروف إن كان بقي بطرابلس أحد من الأندلسيين أو المغاربة إبان سقوطها بيد الفرنج وطوال مدة حكمهم لها، من أواخر 502- 688هـ/1109-1289م.

قال ابن الأثير في حوادث سنة 501هـ: فيها قدم فخر الملك بن عمار صاحب طرابلس الشام إلى بغداد للاستنجاد على الفرنج، فاستناب بطرابلس ابن عمه ذا المناقب وأمره بالمقام بها، ورتب معه الأجناد برًا وبحرًا وأعطاهم جامكية ستة أشهر سلفًا، وجعل كل موضع إلى من يقوم بحفظه بحيث ان ابن عمه لا يحتاج إلى فعل شيء من ذلك وسار إلى دمشق، فأظهر ابن عمه الخلاف له والعصيان عليه ونادى بشعار المصريين، فلما عرف فخر الملك ذلك كتب إلى أصحابه يأمرهم بالقبض عليه وحمله إلى حصن الخوابي ففعلوا ما أمرهم].

ويقول ابن شداد في كتابه الأعلاق الخطيرة في ذكر أمراء الشام والجزيرة متحدثًا عن سقوط طرابلس: [... نزل عليها صنجيل بجموعه في شهر رجب سنة خمس وتسعين وأربعمائة، وحاصرها وضايقها، وأناخ عليها بخيله ورجله، فبعث فخرُ الملك إلى الملوك بالهدايا والتحف يستنجدهم، ويستصرخهم، فلم يُعنْهُ أحد منهم، فلما لم يرَ منهم معاضدةً ولا مساعدةً، رغب إلى "صنجيل" في رحيله عنه، وبذل له أموالاً وبعث إليه ميرة، وتضرع جهده، فلم ينفعه ذلك عنده، فلما ضاق بالحصار ذرعًا وعجز عن دفع العدوّ عنه، خرج من أطرابلس قاصدًا السلطان محمود بن ملكشاه واستناب فيها ابن عمّه "أبا المناقب" ورتّب معه سعد الدولة فتيان بن الأعسر، ونفق في الجند ستة أشهر، فجلس أبو المناقب في بعض الأيام في مجلسه وعنده وجوه أهل أطرابلس، فخلط في كلامه فنهاه سعد الدولة، فصاح، وقال: "لا يا سيدي، لا يا سيدي"، فجرّد أبو المناقب سيفه وضرب سعدَ الدولة فقتله، وانهزم من كان في المجلس، فقطّع سعد الدولة إربًا إربًا، فقام أهلُ البلد وقبضوا عليه، واعتقلوه، ونادوا بشعار الأفضل ابن أمير الجيوش، وذلك في شهر رمضان سنة خمسمائة وواحد للهجرة.

ولما بلغ الأفضل ما فعله أهل أطرابلس جهّز إليهم جيشًا في البحر، وجعل مُقدّمهُ تاج العجم، فعمد تاج العجم إلى أخذ جميع أمواله، وما يحفظ البلد، فرقي إلى الأفضل أنه يريد العصيان بأطرابلس، فقبض على ما كان حمله في المراكب، وولّى بدر الدولة ابن الطيب الدمشقي، فوصل إلى أطرابلس، وكان أهلها قد ضاقت صدورهم من طول الحصار، ثم رأوا من تخلّفه ما رغّبهم عنه ونفّرهم منه فعوّلوا على طرده، ثم رأوا إبقاءه لأنهم لا ملجأ لهم إلا المصريين.

ووصلت من مصر مراكب بالغلات والرجال، فاعتقل بدر الدولة أعيان البلد وأصحاب فخر الملك وحريمه، فأخذهم وسيّرهم في المراكب إلى مصر، وبعث معهم ما كان بأطرابلس من السلاح والذخائر والأموال، فاعتقل أهل بني عّمار بمصر.

ولم تزل الفرنج على طرابلس مجدّين في حصارها، وأهلها يتكرر استصراخهم إلى الملوك ولا يجابون، وضعفوا عن مدافعة العدو وممانعته، وعمل الفرنج أبراجًا وأسندوها إلى السور، وأشرفوا بها على البلد وأوصلوا منها النكاية إلى كل أحد، فطلبوا الأمان فأجيبوا.

واستعجل بعض الجند في النزول إلى البر قبل إحكام عَقد الأيمان، فدخل الفرنج من حيث خرج الجندي، فقتلوا وسبَوا من كان فيها، وأخذوا ما لا يحصى من السلاح والمال. وذلك في ذي الحجة سنة اثنتين وخمسمائة بعد أن حاصروها سبع سنين وأربعة أشهر]([25]).


ذكر د. راغب السرجاني في كتابه الطريق إلى بيت المقدس، تحت عنوان "الصليبييون وتواطؤ العبيديين الشيعة" استنادًا إلى كتاب اسمه "أعمال الفرنجة وحجاج بيت المقدس ص274" لكاتب مجهول ما نصّه:

[ثم مرَّ الجيش الصليبي على مدينة طرابُلُس اللُّبنانيَّة، وكانت هذه المدينة مقرَّ حُكم أحد العائلات الشيعيَّة، وهي عائلة بني عمَّار، وحاكمها في ذلك الوقت هو فخر الملك أبو عليّ، ومع كونها شيعيَّة إلا أنها كانت منشقَّة عن الدولة العبيدية بمصر، وكانت هذه المدينة تُسيطر على عدَّة مدن وقرى مجاورة مكوِّنة بذلك إمارة واسعة نسبيًّا، تحكم عدَّة مناطق في لُبنان وسوريا.

قرَّر فخر الملك أبو علي بن عمار أن يُهَادن الصليبيين، فرفع أعلامهم على أسوار مدينته دلالة تبعيته لهم، وأقرَّ بدفع جزية لهم...].

وما ذكره ليس له شاهد في كتب المؤرخين، بل الشواهد على خلافه، وقد تقدم الكلام عن صمود ابن عمار وتخاذل السلاجقة وغيرهم عن التصدي للغزاة، وأن فخر الملك كان أول من تنبّه إلى خطر الصليبيين ولكنه لم يجد آذانًا صاغية، ولم يذكر أحد من المؤرخين أنه رفع أعلام الاستسلام غير ذلك المؤلف المجهول.

ولست أدري كيف يسوّغ د. السرجاني لنفسه أن يهمل كل أقوال المؤرخين المتقدم ذكرها وغيرها، ثم يعتمد بعد ذلك على (مؤلف مجهول). ولكن ما يهون الخطب أن هذه ليست أول تهمة تلصق بالشيعة زورًا وبهتانًا، فقد افترى عليهم بعض من كتب عن سقوط بغداد بيد المغول، حيث اعتبر أن الشيعة هم السبب في ذلك، للتغطية على فساد الخليفة في ذلك الوقت، والأعجب من ذلك أن هذه الافتراءات تجد من يتلقفها ويروج لها وإن كانت بعيدة عن روح البحث الموضوعي التي ينبغي أن يتصف بها الباحث.

حرق مكتبة بني عمار

بعد سقوط طرابلس بيد الصليبيين لم يكتفِ هؤلا الغزاة بالاستيلاء على دولة بني عمار، بل عمدوا وبكل وحشية إلى تخريب هذه الدولة والتنكيل بأهلها، فقتلوا رجالها وسبوا نساءها، وقضوا على كل ما يمثل تقدمًا وتحضرًا فيها، وكان أبرز ما خربوه هو دار العلم فيها، فقد عمدوا إلى إحراقها تعصبًا وكرهًا للإسلام.

ولم أعثر في كتب التاريخ التي بحثت فيها من يذكر كيفية إحراقهم للمكتبة سوى ما ذكره د. منصور سرحان مدير إدارة المكتبات العامة بدولة البحرين حول سبب حرق مكتبة بني عمار، حيث اعتبر أن الصليبيين توهموا بأن جميع محتويات المكتبة هي نسخ القرآن الكريم، حيث يقول:

[إنه من الفواجع التي لحقت بالمكتبات الخاصة في العصور الإسلامية مكتبة بني عمار في القرن العاشر الميلادي، فعند احتلال طرابلس دخل أحد القساوسة ويدعى الكونت "برتر امسنت جيل" مبنى المكتبة -وكان يرافق الحملة الصليبية- وتجوّل في القاعة المخصصة للقرآن الكريم، فاعتقد أن المكتبة بجميع قاعاتها مخصصة للقرآن الكريم فقط، فأعطى أوامره بحرقها، وأدّى حرقها إلى القضاء على الكثير من الكتب والمراجع القيمة وضياعها، ما أوجد فراغًا في المكتبة العربية الإسلامية آنذاك].

مصير فخر الملك

وكان فخر الملك لما خرج من طرابلس سار في البحر إلى بيروت، وقصد دمشق فالتقى بأتابك طغتكين، ثم توجه إلى بغداد والتقى بالسلطان، وأقام عنده إلى أن أنس من نصرته، لكن لما بلغه رجوعُ طرابلس إلى المصريين، ونقل حريمه وأمواله وذخائره وسلاحه، انكفأ راجعًا إلى دمشق فدخلها في النصف من المحرم سنة اثنتين وخمسمائة هجرية، وقصد صاحبها طغتكين فأكرمه وأقطعه بلادًا كثيرة، فأكرمه وأحسن لقياه، وسأله أن يعينه إلى الوصول إلى "جبلة" فأجابه، وسيّر معه عسكرًا إليها فدخلها، ثم توجه إلى مصر سنة 516هـ بعد أن اشتدّ الأمر عليه، وسلّم نفسه للدولة الفاطمية بعد مضي حوالي أربعة عشر سنة.

يقول د عمر عبد السلام تدمري: [أما بنو عمار، فقد انقرض وجودهم فيها قبل سقوطها بقليل؛ إذ أرسل الأفضل وزير مصر أحد الولاة فحمل أهل فخر الملك ابن عمار وأصحابه جميعًا إلى مصر في البحر سنة 502 هـ. فيما كان فخر الملك ينتقل بين جبلة وشيزر ودمشق وبغداد والموصل وماردين، قبل أن يعود إلى مصر في سنة 516هـ/1123م ويعلن ولاءه للخليفة الفاطمي الآمر بالله].

ويذكر المقريزي في أحداث شهر صفر سنة 516هـ: [فيه وصل فخر الملك أبو علي عمار بن محمد بن عمار صاحب طرابلس إلى مصر، وقال في كتابه الذي رفعه إلى الخليفة الآمر بأحكام الله: [والمملوك لم يصل إلى هذه الوجهة إلا وقد علم أن له من الذنوب السالفة ما يستحق به القتل، وقتله بسيوف هذه الدولة عدل وإحياء له وتشريف، وفخر يكفّر عنه بعض ذنوبه من كفر نعمتها؛ فإن خرج الأمر بذلك فمنّة كريمة، وإن خفف عنه فتخليده في السجن أحب إليه من رجوعه إلى تأميل غير هذه الدولة].

فلما عرض هذا بالحضرة أدركته الرأفة بعد أن استفظع كل الحاضرين أمره وأشير بإيقاع الحوطة عليه وإيداعه خزانة البنود، فقال الوزير المأمون بن البطائحي للخليفة: [قد أجلّ الله عواطف مولانا ورحمته من أن يهاجر أحد إلى أبوابه ويلجأ إلى عفوه فيخيب أمله ويؤاخذ بذنبه، وما بعد استسلامه إلا الشكر لله والعفو عن جرمه، فإن العفو زكاة القدرة عليه، ويشمله ما شمل أمثاله].

فأعجب الخليفة الآمر ذلك، وخرج الأمر بأن تُعدَّد على ابن عمار ذنوبُه وذنوبُ أسلافه، ويقال له: قد أذهبت مهاجرتك ما كان يجب من عقوبتك. فإذا اعترف بذنوبه وذنوب أسلافه يقال له: قد غفر ذنبك وأنت مخيّر بين أمرين؛ إما أن تعود فيصل إليك من الإنعام ما يبلغك إلى حيث تريد ويصحبك من يوصلك إلى مأمنك، وإما أن تؤثر الإقامة بفناء الدولة فتقيم على أنك تلزم ما يعنيك وتقنع بما ينعم به عليك وتقبل على شأنك، وتترك التعرض للمخالطات وتتجنب جميع المكروهات.

فلما خوطب بذلك قبّل الأرض وأبى أن يرفع رأسه ووجهه، وكلما خوطب في رفعه، قال: لست أرفعه حتى أتلقى كلمات العفو عن إمام زماني وتمتلئ مسامعي بألفاظ مغفرته. فبلّغته الحضرة ما تمناه، وحصل له الأمن؛ وأمر به إلى دار أعدت له، وجعل فيها شهوات السمع والبصر، وحملت إليه الضيافات الكثيرة، وجرّد برسم خدمته حاجب معه عدة مستخدمين، فأقام أيامًا يسيرة ثم حملت إليه الكسوات التي لا نظير لها، ووصله من المواهب ما أربى على أمله، وقرّر له راتبًا في كل شهر، ستون دينارًا مع مياومة الدقيق واللحم والحيوان. وصار يتعهد ما يفتقد به أعيان الضيوف من بواكير الفاكهة المستغربة وأنواع التحف المستظرفة ورسوم المواسم، ورفع عنه الحاجب والمستخدمون، وجعل له في المواسم والأعياد من الكسوات الفاخرة ما يميزه عن أمثاله. ولزم طريقة حمدت منه، فاستمر إليه الإحسان؛ وصار يركب في يومي الركوب ويومي السلام وغيرهما].

ملوك بني عمار

تبيّن مما سبق أن نسب بني عمار يرجع إلى أبي محمد الحسن بن عمار، الذي كان من أبرز رجال الخليفة الفاطمي العزيز بالله، ثم أصبح بنو عمار قضاة طرابلس ثم ملوكها، وأول ما يصلنا من أسمائهم بعد ذلك هو «أبو الكتائب أحمد بن محمد بن عمار»، الذي سبق أمين الدولة في تولي القضاء على طرابلس من قِبَل الفاطميين، وكان أبو الكتائب شيخًا‌ جليلاً.

ويقول عنه السيد محسن الأمين: [أبو الكتائب أحمد بن محمد بن عمار الطرابلسي نسبة إلى طرابلس الشام، وهو من بني عمار أمراء طرابلس، كان معاصرًا للشيخ الفقيه أبي الفتح محمد بن عثمان بن علي الكراجكي].

ثم تولى بعده أبو طالب الحسن بن عمار المتوفى سنة (464هـ)، ثم جلال الملك أبو الحسن علي بن عمار المتوفى سنة (492هـ)، ثم فخر الملك عمار بن محمد بن عمار لم يعلم زمن وفاته، ولكن من المؤكد أنه كان حيًّا في سنة (516هـ) وهو تاريخ ذهابه إلى مصر كما سيأتي، وأبو المناقب شمس الملوك أبو الفرج محمد بن عمار الذي انقلب على ابن عمه فخر الملك، ولم يعلم تاريخ وفاته.

أمين الدولة بن عمار

تقدم الكلام عن أمين الدولة عند تأسيس الدولة، وأنه كان قاضيَا على طرابلس، ثم استقل بها سنة (462هـ)، وتميّز بالعديد من المزايا، فقد عُرف عنه أنه كان كبير العقل، سديد الرأي، عالمًا، فقيهًا، كاتبًا مجيدًا، ألّف الكثير من الكتب النفيسة، منها كتاب "ترويح الأرواح ومفتاح السرور والأفراح" المنعوت بجراب الدولة، توفي أمين الدولة سنة (464هـ).

جلال الدولة بن عمار

بعد وفاة أمين الدولة تولّى بعده ابن أخيه علي بن محمد بن عمار المعروف بجلال الدولة، الذي استمر حكمه حتى توفي سنة (492هـ)، فأرسى قواعد هذه الدولة ودعم أسسها بكل ما أوتي من قوة وقدرة، وازدهرت طرابلس في زمانه وعاشت عصرها الذهبي.

وقد جدد جلال الدولة (دار العلم) التي أنشأها عمه أمين الدولة سنة (472هـ-1082م)، إذ كانت الظروف مواتية لجلال الدولة أكثر مما كانت مؤاتية لعمه وسلفه أمين الدولة.

ففي عهد الأول كانت الإمارة في دور التأسيس، كما أن مدة حكمه كانت قصيرة، فقد توفي بعد سنتين من تأسيسه للدولة، أما جلال الدولة فقد استمر في الحكم زهاء ثمانية وعشرين عامًا، واتسعت في زمانه أطراف الإمارة، وعظم شأنها ونشطت تجارتها، وكانت طرابلس في عهده [تبعث الحكّام والقضاة والخطباء إلى البلاد التابعة لها مثل جبيل وعرقة وطرطوس وجبلة، وفي عهده أيضًا تمّ بناء جامع كبير في طرابلس].


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

فخر الملك بن عمار

بعد وفاة جلال الدولة علي بن محمد بن عمار استلم الإمارة أخوه عمّار بن محمد ذو السعدين المعروف بفخر الملك، وحكم مدة عشر سنوات تقريبًا، وبقي حتى سنة (501) للهجرة، حيث ذهب إلى بغداد مستنجدًا بالسلاجقة على الصليبيين، وأثناء غيابه استعاد الفاطميون طرابلس من بني عمار وقضوا على حكمهم فيها، وبعد عدة أشهر احتلّ الصليبيون طرابلس بعد نضال طويل.

أبو الفرج بن عمار

بعد أن ضاق الخناق على أهل طرابلس بسبب الحصار الشديد الذي فرضه الصليبيون عليهم، عزم فخر الملك عمار بن محمد "ذو السعدين" على التوجه إلى بغداد للاستنجاد بالسلاجقة من أجل حماية طرابلس من غزو الصليبيين، فاستخلف على قومه ابن عمه أبا الفرج محمدا الملقب بـ"شمس الملك ذي المناقب" الذي حكم لفترة قصيرة من سنة 501 هـ، فأظهر شمس الملك ذو المناقب الخلاف له والعصيان عليه، ونادى بشعار المصريين، فلما عرف فخر الملك ذلك كتب إلى أصحابه يأمرهم بالقبض عليه وحمله إلى حصن الخوابي ففعلوا ما أمرهم، وذلك قبل أن تسقط طرابلس بيد الصليبيين بسبب تخاذله وقلة وفائه، والظاهر أنه بقي محبوسًا في الحصن إلى أن استولى الفاطميون على طرابلس، فأخذوه مع من أخذوا من بني عمار إلى مصر.

النهضة العمرانية

اهتم بنو عمار بالعمران أيّما اهتمام، لذا عملوا على إعمار دولتهم فنظموا بنيانها، وبنوا الأسواق والمدارس والمساجد، ومصانع الورق والسكر والحرير، وكذلك نجحوا في استثمار كل الموارد الطبيعية من أراض زراعية وأنهار، وبنوا السدود وأقنية الري.

وقد امتدت آثار بني عمار الى خارج إمارتهم، فهم الذين بنوا الجهة الشرقيّة من الجامع الكبير في مدينة حلب، كما يذكر ذلك المؤرخ ابن الشحنة الحلبي في كتابه [الدر المنتخب في تاريخ مملكة حلب].

يقول السيد حسن الأمين: [لم يُغفل بنو عمار النواحي العمرانيّة في إمارتهم، فمن أهم ما عنوا به المشاريع المائية، فأمّنوا لطرابلس ريًا منظمًا من النهر الذي عرف بعد ذلك باسم نهر [أبو علي] اعترافًا بهذا الجميل وتخليدًا لذكرهم، ولا يزال حتى اليوم يعرف بهذا الاسم، فقد كان نهر قاديشا يفيض فيُحدِث أضرارًا ولا ينتفع منه، فوضع فخر الملك أبو علي ابن عمار خطة إنمائيّة تنظم أمور النهر وتمنع فيضانه وتجريه في أقنية للري، فعاد على المدينة ومنطقتها بالخير العميم، ونمت المزروعات والبساتين والحدائق، وتشكّل من ذلك ثروة زراعية ساعدت على رقي المجتمع، وازدهرت الحقول والأراضي المحيطة بالمدينة بوفرة مزروعاتها وتنوعها، وفاضت عن حاجاتها، فاحتفظت بأموالها واستدرت أموالاً من الخارج، وهذا ما شكّل عاملاً مهمًا في نهوض الحركة الصناعية والاقتصادية والثقافية.

وعُرفت طرابلس في كتب المؤرخين والرحالة بكثرة ما تنتجه من الفواكه والثمار، حتى لقد قالوا: [إن فيها ما لا يوجد في سائر الأقاليم أصلاً، إذ لا يكاد يوجد دار بغير شجر لكثرة تخرق أرضها بالمياه، فهي تجمع بين ثمار الشام ومصر].

وكان بنو عمار السبب في تعرّف الأوروبيين على قصب السكر لأول مرة في بساتين طرابلس، فنقلوا غروسه إلى جزيرة صقلية وجنوب إيطاليا].

ويحدثنا المؤرخ السيد حسن الأمين أيضًا عن صناعة السكر في طرابلس فيقول:

[وظلت طرابلس ومعها دمشق تموّنان أوروبا حتى أواخر العصور الوسطى بالسكر بجميع أشكاله المعروفة آنذاك، وكان التاجر الأوروبي القادم من البندقية أو جنوى يعود إلى بلاده وهو يحمل سلال السكر وأكياسه من طرابلس، وجمع بنو عمار زراعة قصب السكر الذي كان ينمو بغزارة على ضفاف نهر (أبو علي) وفي بساتين طرابلس، وأقاموا المصانع داخل المدينة لعصره وتجفيفه وتصنيعه بشكل رقائق أو ناعم أو بشكل حلوى، وكان من حسن سياستهم أن أثرت المدينة، وكانت على أحسن حال اقتصادي حتى خلال الحصار الصليبي لها برًا وبحرًا، إذ ظلت صامدة تقاتلهم عشر سنين مستعينة بثرواتها الداخلية وحسن إدارة اقتصادها.

التقدم الصناعي

اهتم بنو عمار بالصناعة كاهتمامهم بالعمران، لذا عمدوا إلى إنشاء مصانع للورق، وساعد ذلك في نهضتها الثقافية والعلمية والأدبية، فكثر الوراقون، ونشأت من ذلك صناعة التجليد.

ومن الصناعات التي نهضت في طرابلس أيضًا صناعة الحرير التي امتدت مصانعها على ضفاف النهر، بما فيها من ألوف الأنوال والمغازل ما أدهش الفرنج وأثار إعجابهم.

وكذلك اهتم بنو عمار بالملاحة البحريّة، فأنشأوا الأساطيل التجاريّة التي كانت تجوب البحر، هذا عدا عن أسطولهم الحربي الذي تولى قتال أساطيل الصليبيين طوال عشر سنوات.

وعن طريق البحارة الطرابلسيين عرف الأوروبيون [البوصلة] وكيفيّة استعمالها([37]).

التجارة

عمل بنو عمار على تحريك عجلة الاقتصاد في طرابلس لتصريف إنتاجهم، ولتأمين الأموال، فسارعوا إلى بناء الأساطيل البحرية كما تقدم، وسيّروها إلى أوروبا لكي تنقل إليها البضائع التي تحتاجها من ورق وسكر وحرير، فراجت بضائعهم في أسواقها وأصبحت لا يستغنى عنها.

يقول المؤرخ السيد حسن الأمين: [وقد نمت إمارتهم نموًا عظيمًا حتى أصبحت طرابلس في القرن الحادي عشر أعظم مدينة على طول الساحل الشرقي للبحر المتوسط، وكانت أساطيلها تنتقل في أنحاء هذا البحر، فهي المنفذ البحري الرئيسي لبلاد الشام، عن طريقه يتم التصدير والاستيراد، وتنقل منتجات الشام والمشرق إلى أوروبا، وإليه تفد من الخارج لتحمل إلى سائر بلاد الشام، وكان بنو عمار -وهم مثقلون بردّ الهجمات الصليبية عليهم من البحر والبر- يسيّرون أسطولهم التجاري إلى ثغور البحر المتوسط، وكان فخر الملك عمار بن عمار يلقب بملك الساحل].

الثقافة والعلوم

لم يغفل بنو عمار الحياة الثقافية والعلمية في طرابلس، لذا وضعوا نصب أعينهم هدفًا وسعوا للوصول إليه، وقد حققوا في هذا الإطار نجاحًا باهرًا، ولم يكن ذلك صعبًا عليهم بما أنهم قضاة وعلماء قبل أن يصبحوا أمراء، فسخّروا كل مقدراتهم من أجل بناء دور العلم والمدارس والمكتبات، ففتحوا أبوابهم لجذب العلماء إلى طرابلس، وأكرموهم منتهى الإكرام.[2]

فقام أول ملوكهم أمين الدولة أبو طالب الحسن بن عمار بتأسيس دار العلم، وجعل لطلاب العلم فيها رواتب، وفرّق على أهلها ذهبًا، وجعل لها نظّارًا يتولون القيام بذلك، فسنّ هذه السُنّة الحسنة التي سار عليها من جاء بعده.

وجدَّد جلال الدولة علي بن محمد بن عمار دار العلم وطورها، وزاد في اقتناء الكتب، وأصبحت مكتبة طرابلس تحوي أكثر من ثلاثة ملايين كتاب كما ذكر بعض المؤرخين.

وكان شعراء الشام يفدون لمدح أمراء بني عمار ونيل جوائزهم فيلقون الترحيب والتكريم، وكثرت حلقات التدريس، وازدحمت المدينة بأشهر الأعلام، من أدباء وفقهاء وشعراء ولغويين، وقصدها الناس على اختلاف أجناسهم وأديانهم ومذاهبهم، كما كان يفد إليها التجار والرحالة وطلبة العلم والعلماء من كل البلاد.

كما كانوا يبعثون القضاة والخطباء الى المدن الشامية، ومن ذلك ما ذكره "ابن تغري بردي" في كتابه "النجوم الزاهرة" عن ابن تلتمش: [أنه عندما فتح حصن انطرطوس من الروم سنة 475هـ، بعث إلى صاحب طرابلس جلال الملك يطلب منه قاضيًا وخطيبًا ليقيم بها].

وازدهر علم الترجمة في زمن بني عمار، فترجمت الكثير من العلوم والآداب عن اللاتينية والفارسية وغيرهما إلى اللغة العربية، ومنها إلى اللغات الأخرى، كما شهد بذلك المستشرق (دي لاسي أوليري) في كتابه "علوم اليونان وسبل انتقالها إلى العرب": [وساوت في ذلك كبريات الحواضر العربية، فكثر فيها المترجمون والنسّاخون والكتَّاب والخطاطون].

دار الحكمة في طرابلس

أنشأ بنو عمار في طرابلس مدرسة عرفت باسم "دار الحكمة" ضمت عددًا كبيرًا من طلاب العلم، حتى وقفت جنبًا إلى جنب مع "دار الحكمة" بمصر أيام الفاطميين، فنشرت العلوم والآداب والثقافة.

وإلى جانب طلاب العلم فقد كان يفد إليها العلماء لمراجعة المؤلفات لأشهر المؤلفين في العلوم والمعارف، كما كانت تعقد حلقات علمية لكبار العلماء ينضم اليها العلماء الوافدون إلى طرابلس للاستزادة من العلم.

وأصبحت طرابلس بذلك ميدان علم ودرس ومباراة في التعلم، ومركزًا من أعظم المراكز الشيعية في ذلك العصر، وكعبة يحج إليها طلاب العلم للأخذ عن علمائها مختلف العلوم والفنون من فقه وحديث ولغة وأدب وفلسفة وهندسة وفلك وطب وغيره، وللاطلاع على المصنفات والمخطوطات العلمية والأدبية والدينية والفلسفية التي كانت تحتويها مكتبتها.

وكانت بطرابلس عدة حلقات علمية يعقدها كبار العلماء، نذكر منهم المحدث المشهور "خيثمة بن سليمان القرشي الأطرابلسي" و"ابن أبي الخناجر الطرابلسي"، و"أحمد بن محمد الطليطلي"، الذي كانت له حلقة عامرة بالطلبة يلقي عليهم فيها دروسًا في العربية والأدب، وقد حضرها الشاعر "ابن الخياط" صاحب الديوان المعروف باسمه.

دار العلم في طرابلس

انفردت مدينة طرابلس دون غيرها من بلاد الشام، بقيام مكتبة كبرى فيها عُرفت بـ"دار العلم"، التي اعتبرت «أروع مكتبة في العالم]، وكان الهدف من إنشاء هذه الدار سياسيًا ودينيًا، إلى جانب كونه عملاً إنسانيًا وحضاريًا عظيمًا لنشر العلم والمعرفة، فمن البديهي أن يبادر أول حكام طرابلس من أسرة بني عمار إلى إقامتها لتكون قاعدة سياسية ودينية وعلمية لنشر مذهبهم الشيعي وبث أفكارهم الدينية، ولتوطيد سلطانهم السياسي في طرابلس ونواحيها، بعد أن استقلت ثقافيًا وفكريًا وسياسيًا عن مصر، إذ كان عليهم الوقوف أمام الدولة السنيّة المتمثلة بالدولة السلجوقية في العراق، لذا بادر أمين الدولة إلى وضع حجر الأساس لهذا الصرح العلمي فور استقلاله بطرابلس سنة 462هـ، أو قبل ذلك، حيث شغل أمين الدولة منصب القضاء في طرابلس عدة سنوات قبل أن يستقل بدولته، لذا عمل على تهيئة النواة الأولى لهذه المكتبة التي كان يحلم بها من الكتب التي جمعها بنفسه وأضاف إليها خزائن الكتب التي كان قد وقفها ذوو اليسار من أهل طرابلس.

وجاء بعده جلال الملك فتصدى لجمع المكتبات الأهلية الموجودة في طرابلس والتي كانت تضم خزانات كتب موقوفة، إلى جانب مكتبة عمه أمين الدولة، وكوّن منها -ومن الكتب التي جمعها- دار كتب ضخمة، اهتم الكثير من المؤرخين بتعداد ما احتوته من المؤلفات، وفي عهده ازدحمت طرابلس بالعلماء والأدباء وطلاب العلم، حيث قصدها معظم أهل دمشق إبّان فتنة "أتسز بن آف بن الخوارزمي" الذي دخل دمشق سنة 468هـ.

اهتمّ جلال الملك بهذه الدار، وأوقف على طلابها الجرايات، فكان يفرّق على أهلها ذهبًا تشجيعًا لهم. وكان يكلّف الناظر على الدار القيام بمهمة توزيع هذه الجراية، وكان الشاعر ابن الخياط ممن تصرف له تلك المنحة، وقد ذكر ذلك في ديوانه.

وادعى بعض المؤرخين نسبة تأسيس دار العلم إلى جلال الدولة في سنة 472هـ، ويدحض هذا القول روايتا «ابن شداد» و «ابن الفرات» من أن أمين الدولة كانت له دار علم فيها ما يزيد على مائة ألف كتاب وقفًا.

وليس عجيبًا أن تكثر المكتبات في طرابلس وأن تمتلئ بالكتب في القرن الخامس الهجري/الحادي عشر الميلادي، وفي القرن الذي تلاه، فقد كانت مصانع الورق التي تعمل في المدينة تمدّ المشتغلين ببيع أو نسخ أو تأليف الكتب بكمّيات موفورة من الورق بمختلف أنواعه المعروفة في ذلك الوقت من الكاغَذ، والطوامير، والقراطيس، إذ كانت تشتهر بصناعة الورق الجميل الذي يفوق السمرقندي جودة، وكان لذلك أثره على حركة التأليف، والكتابة، والتجليد، والوراقة، فكثر الورّاقون الذين كانوا يعملون في تجليد الكتب على الطريقة الصينية وزخرفتها وتوشيحها بالخطوط الملوّنة، ووصلتنا أسماء عدة من الورّاقين بطرابلس، منهم أبو الحسن إبراهيم بن عبد الله بن إسحاق الورّاق ويُعرف بـ"ورّاق الوزير"، وأبو علي الحسن بن محمد بن هبة الله الطرابلسي الورّاق.

يقول د. منصور سرحان مدير إدارة المكتبات العامة بدولة البحرين:

[أسس بنو عمار مكتبة ضخمة لهم في طرابلس بسورية تحمل اسمهم، غير أنهم جعلوها عامة فيما بعد وفتحت أبوابها لكل قارئ ومتحدث ودارس دون استثناء، وكانت الكتب في معظمها مجلدة تجليدًا فاخرًا، ومزخرفة بالذهب والفضة وقد قدّر شوشتري في كتابه "مختصر الثقافة الإسلامية" مقتنيات مكتبة بني عمار بثلاثة ملايين كتاب، وكان لها أكثر من مائة وثمانين ناسخًا يتناوبون العمل بالمكتبة ليلاً ونهارًا].

ولا يمكننا أن نتصور هذا العدد الضخم من الكتب، إلا وهي موجودة في دار كبيرة تتسع لها، وأن هذه الدار كان يرتادها من يريد الاطلاع عليها، طالما أن الكتب التي بين جنباتها كانت كتبًا موقوفة.

وكانت المكتبات الكبرى في ذلك العصر توضع تحت إدارة ثلاثة أشخاص هم المشرف الأعلى ويسمى «الوكيل»، وأمين المكتبة ويسمى «الخازن»، ومساعد ويسمى «المشرف»، ويتولى إداراتها أشهر العلماء والأدباء والشخصيات البارزة في المجتمع، وقد ذكر في كتب المؤرخين أسماء ثلاثة من نظار دار العلم وهم:

- الحسين بن بِشْر بن علي بن بِشْر الطرابلسي المعروف بالقاضي.

- أبو الفضل أسعد بن أحمد بن أبي رَوح القاضي الطرابلسي.

- أبو عبد الله أحمد بن محمد الطُليطلي النحوي، وسيأتي التعريف بهم بعد قليل.


انظر أيضاً

المصادر