فخر الملك بن عمار

برتران دى سان گيل يتلقى استسلام القاضي فخر الملك بن عمار، بعد الاستيلاء على مدينة طرابلس، الرسم أمر به لوي-فيليپ للمتحف التاريخي بڤرساي في 1838، ونفذه في 1842 الرسام ألكسندر-شارل دبك

فخر الملك بن عمار كان آخر قضاة طرابلس قبل سقوطها في أيدي الصليبيين من 1099 حتى 1109، وينتمي إلى بني عمار.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

حصار طرابلس

عندما وصل القائد الصليبي برتران دى سان گيل إلى مشارف الشام كان أول من أدرك الخطر الصليبي فخر الملك بن عمار، فصمم على الإعداد لهذا الخطر قبل أن يتغلغل في البلاد الشامية، وذلك بالدعوة إلى حلف إسلامي يقف في وجهه، فراسل الأمير "ياخز" في حمص والملك "دقاق بن تتش" في دمشق يقول لهما: من الصواب أن يعاجل صنجيل إذ هو في هذه العدة القريبة، فاستجابا له، فخرج الأمير "ياخز" بنفسه وسيّر "دقاق" ألفي مقاتل، وخرجت الامدادات الطرابلسية فاجتمعوا على باب طرابلس وصافوا "سان گيل" هناك].[1]

ويقول ابن الأثير، في أحداث سنة 496هـ:

"وكان صنجيل يحاصر مدينة طرابلس الشام، والمواد تأتيها، وبها فخر الملك بن عمار، وكان يرسل أصحابه في المراكب يغيرون على البلاد التي بيد الفرنج ويقتلون من وجدوا، ويقصد بذلك أن يخلو السواد ممن يزرع لتقلَّ المواد من الفرنج فيرحلوا عنه".

ثم تأتي سنة 497هـ، فيقول ابن الأثير: "في هذه السنة وصلت مراكب من بلاد الفرنج إلى مدينة اللاذقية فيها التجار والأجناد والحجاج وغير ذلك، واستعان بهم صنجيل الفرنجي على حصار طرابلس، فحاصروها معه برًا وبحرًا وضايقوها وقاتلوها أيامًا، فلم يروا فيها مطمعًا فرحلوا عنها إلى مدينة جبيل...".

سنتان مرتا وفخر الملك محاصر في مدينته، وهو صامد يدافع عنها دفاع الأبطال، ويستعين الأعداء بقوى جديدة فلا ينالون من صموده منالاً.

وفي سنة 499 هـ يقول ابن الاثير: كان صنجيل قد ملك مدينة جبلة، وأقام على طرابلس يحاصرها فحيث لم يقدر أن يملكها، بنى بالقرب منها حصنًا وبنى تحته ربضًا، وأقام مُراصدًا لها، ومنتظرًا وجود فرصة فيها، فخرج الملك أبو علي بن عمار صاحب طرابلس فأحرق ربضه ووقف صنجيل على بعض سقوفه المتحرقة ومعه جماعة من القمامصة والفرسان فانخسف بهم فمرض صنجيل ومات بعد عشرة أيام، فحمل إلى القدس ودفن فيه.

ثم إن ملك الروم أمر أصحابه باللاذقية ليحملوا الميرة إلى هؤلاء الفرنج الذين على طرابلس فحملوها في البحر، فأخرج إليها فخر الملك بن عمار أسطولاً فجرى بينهم وبين الروم قتال شديد، فظفر المسلمون بقطعة من الروم فأخذوها وأسروا من كان بها وعادوا.

ولم تزل الحرب بين أهل طرابلس والفرنج خمس سنين إلى هذا الوقت، فعدمت الأقوات بها وخاف أهلها على نفوسهم وأولادهم وحرمهم، فجلا الفقراء وافتقر الأغنياء، وظهر من ابن عمار صبر عظيم وشجاعة ورأي سديد، ومما أضر بالمسلمين فيها أن صاحبها استنجد بـ"سقمان بن أرتق" فجمع العساكر وسار إليه، فمات في الطريق.

وأجرى فخر الملك ابن عمار الجرايات على الجند والضعفاء فلما قلّت الأموال عنده شرع يقسط على الناس ما يخرجه في باب الجهاد فأخذ من رجلين من الأغنياء مالاً مع غيرهما فخرج الرجلان إلى الفرنج وقالا: إن صاحبنا صادرنا فخرجنا إليكم لنكون معكم، وذكروا له أنه تأتيه الميرة من عرقة والجبل، فجعل الفرنج جمعًا على ذلك الجانب يحفظه من دخول شيء إلى البلد فأرسل ابن عمار وبذل للفرنج مالاً كثيرًا ليسلموا الرجلين إليه فلم يفعلوا فوضع عليهما من قتلهما غيلة].

ويظهر من هذا أن ابن عمار لم يكن بطلاً شجاعًا فقط، بل كان إلى ذلك حازمًا بعيد النظر، محكم التدبير، جلدًا أمام الاهوال، فلم يشغله ما هو فيه عن التفكير في أمر هذين الخائنين، فصمم على معاقبتهما لأن تركهما سليمين يشجع أمثالهما على الخيانة فأحكم تدبير أمر اغتيالهما، واستطاع اختراق صفوف أعدائه والوصول الى اغتيالهما، وفي هذا ما فيه من قوة العزم وسداد الرأي وإحكام الأمر، حتى لا يتجرأ أحد على الخيانة والركون إلى أعداء الله.

يقول المؤرخون: اجتمع على منازلة طرابلس كل من"برتران" الابن الاكبر لريموند الصنجيلي، ودوليم غوردان، ابن اخت ريموند المذكور، و"تانكريد" امير انطاكية واللاذقية و"بلدوين" ملك بيت المقدس، و"بلدوين" كونت الرها و"غوسلين" أمير قلعة تل باشر.

وكانت القوى المهاجمة للمدينة تتألف من 4000 فارس بروفنسي قدموا مع برتران، وعدد كبير من الجنوية جاءوا بعشرين سفينة، إلى جانب سفن برتران وعددها أربعون، و500 فارس أتى بهم بلدوين ملك القدس، إلى جانب عدد كبير من الرجالة و700 فارس من خيرة فرسان تانكريد، بالاضافة إلى بلدوين كونت الرها، وجوسلين وحرسيهما، ثم جموع المردة ومن أتى من جبل لبنان.

كان هذا الجمع قد تجمع على طرابلس بعد ان كلّت قواها بعد عشر سنوات من الحصار المضروب والقتال الدائم، وكان هو الذي دخل طرابلس.


توجه فخر الملك إلى بغداد

بعد أن اشتد الحصار على طرابلس، آيس فخر الملك من قدرته على الصمود فترة أطول، فاستحسن الذهاب إلى بغداد لطلب المعونة من الدولة السلجوقية، لذا توجه مسرعًا وكله أمل أن يجد عندهم ما يفيده، ولكن الأمور جرت بعكس ما كان يتمنى، لأن السلاجقة بالرغم من أنهم وعدوه بالمساعدة ولكن الفاطميين استولوا على طرابلس، وقبضوا على بني عمار، وحملوهم إلى مصر بدل أن ينقذوها من أيدي الصليبيين، وتركوا فيها حامية ضعيفة مما جعل طرابلس لقمة سائغة أمامهم، وهذا ما يشير إليه ابن كثير فيقول:

[في هذه السنة -أي 501هـ- في شهر رمضان ورد القاضي فخر الملك أبو علي بن عمار صاحب طرابلس الشام إلى بغداد قاصدًا باب السلطان محمد، مستنفرًا على الفرنج طالبًا تسيير العساكر لإزاحتهم، والذي حثّه على ذلك أنه لما طال حصر الفرنج لمدينة طرابلس على ما ذكرناه ضاقت عليه الأقوات وقلّت، واشتد الأمر عليه وعلى أهل البلد، فمنَّ الله عليهم سنة خمسمائة بميرة في البحر من جزيرة قبرص وأنطاكية وجزائر البنادقة، فاشتدت قلوبهم وقووا على حفظ البلد بعد أن كانوا استسلموا‏.‏

فلما وصل إلى بغداد أمر السلطان الأمراء كافة بتلقيه وإكرامه، ولما اجتمع بالسلطان قدّم هديته وسأله السلطان عن حاله وما يعانيه في مجاهدة الكفار ويقاسيه من ركوب الخطوب في قتالهم، فذكر له حاله وقوة عدوه وطول حصره وطلب النجدة، وضمن أنه إذا سيّرت العساكر معه أوصل إليهم جميع ما يلتمسونه، فوعده السلطان بذلك، وأرسل معه جيشًا بقيادة الأمير حسين بن أتابك قتلغ تكين، وخلع عليه السلطان خلعًا نفيسة وأعطاه شيئًا كثيرًا وودّعه، وسار ومعه الأمير حسين، فلم يجدِ ذلك نفعًا].

سقوط طرابلس

بعد توجه فخر الملك إلى بغداد وانقلاب ابن عمه عليه، راسل بعض أهل طرابلس "الأفضل" أمير الجيوش بمصر يلتمسون منه واليًا يكون عندهم ومعه الميرة في البحر، فسيّر إليهم شرف الدولة بن أبي الطيب واليًا ومعه الغلة وغيرها مما تحتاج إليه البلاد في الحصار، فلما صار فيها قبض على جماعة من أهل ابن عمار وأصحابه وأخذ ما وجده من ذخائره وآلاته وغير ذلك وحمل الجميع إلى مصر في البحر([24])‏، ومن غير المعروف إن كان بقي بطرابلس أحد من الأندلسيين أو المغاربة إبان سقوطها بيد الفرنج وطوال مدة حكمهم لها، من أواخر 502- 688هـ/1109-1289م.

قال ابن الأثير في حوادث سنة 501هـ: فيها قدم فخر الملك بن عمار صاحب طرابلس الشام إلى بغداد للاستنجاد على الفرنج، فاستناب بطرابلس ابن عمه ذا المناقب وأمره بالمقام بها، ورتب معه الأجناد برًا وبحرًا وأعطاهم جامكية ستة أشهر سلفًا، وجعل كل موضع إلى من يقوم بحفظه بحيث ان ابن عمه لا يحتاج إلى فعل شيء من ذلك وسار إلى دمشق، فأظهر ابن عمه الخلاف له والعصيان عليه ونادى بشعار المصريين، فلما عرف فخر الملك ذلك كتب إلى أصحابه يأمرهم بالقبض عليه وحمله إلى حصن الخوابي ففعلوا ما أمرهم].

ويقول ابن شداد في كتابه الأعلاق الخطيرة في ذكر أمراء الشام والجزيرة متحدثًا عن سقوط طرابلس: [... نزل عليها صنجيل بجموعه في شهر رجب سنة خمس وتسعين وأربعمائة، وحاصرها وضايقها، وأناخ عليها بخيله ورجله، فبعث فخرُ الملك إلى الملوك بالهدايا والتحف يستنجدهم، ويستصرخهم، فلم يُعنْهُ أحد منهم، فلما لم يرَ منهم معاضدةً ولا مساعدةً، رغب إلى "صنجيل" في رحيله عنه، وبذل له أموالاً وبعث إليه ميرة، وتضرع جهده، فلم ينفعه ذلك عنده، فلما ضاق بالحصار ذرعًا وعجز عن دفع العدوّ عنه، خرج من أطرابلس قاصدًا السلطان محمود بن ملكشاه واستناب فيها ابن عمّه "أبا المناقب" ورتّب معه سعد الدولة فتيان بن الأعسر، ونفق في الجند ستة أشهر، فجلس أبو المناقب في بعض الأيام في مجلسه وعنده وجوه أهل أطرابلس، فخلط في كلامه فنهاه سعد الدولة، فصاح، وقال: "لا يا سيدي، لا يا سيدي"، فجرّد أبو المناقب سيفه وضرب سعدَ الدولة فقتله، وانهزم من كان في المجلس، فقطّع سعد الدولة إربًا إربًا، فقام أهلُ البلد وقبضوا عليه، واعتقلوه، ونادوا بشعار الأفضل ابن أمير الجيوش، وذلك في شهر رمضان سنة خمسمائة وواحد للهجرة.

ولما بلغ الأفضل ما فعله أهل أطرابلس جهّز إليهم جيشًا في البحر، وجعل مُقدّمهُ تاج العجم، فعمد تاج العجم إلى أخذ جميع أمواله، وما يحفظ البلد، فرقي إلى الأفضل أنه يريد العصيان بأطرابلس، فقبض على ما كان حمله في المراكب، وولّى بدر الدولة ابن الطيب الدمشقي، فوصل إلى أطرابلس، وكان أهلها قد ضاقت صدورهم من طول الحصار، ثم رأوا من تخلّفه ما رغّبهم عنه ونفّرهم منه فعوّلوا على طرده، ثم رأوا إبقاءه لأنهم لا ملجأ لهم إلا المصريين.

ووصلت من مصر مراكب بالغلات والرجال، فاعتقل بدر الدولة أعيان البلد وأصحاب فخر الملك وحريمه، فأخذهم وسيّرهم في المراكب إلى مصر، وبعث معهم ما كان بأطرابلس من السلاح والذخائر والأموال، فاعتقل أهل بني عّمار بمصر.

ولم تزل الفرنج على طرابلس مجدّين في حصارها، وأهلها يتكرر استصراخهم إلى الملوك ولا يجابون، وضعفوا عن مدافعة العدو وممانعته، وعمل الفرنج أبراجًا وأسندوها إلى السور، وأشرفوا بها على البلد وأوصلوا منها النكاية إلى كل أحد، فطلبوا الأمان فأجيبوا.

واستعجل بعض الجند في النزول إلى البر قبل إحكام عَقد الأيمان، فدخل الفرنج من حيث خرج الجندي، فقتلوا وسبَوا من كان فيها، وأخذوا ما لا يحصى من السلاح والمال. وذلك في ذي الحجة سنة اثنتين وخمسمائة بعد أن حاصروها سبع سنين وأربعة أشهر]([25]).

الاستقرار في مصر

كان فخر الملك لما خرج من طرابلس سار في البحر إلى بيروت، وقصد دمشق فالتقى بأتابك طغتكين، ثم توجه إلى بغداد والتقى بالسلطان، وأقام عنده إلى أن أنس من نصرته، لكن لما بلغه رجوعُ طرابلس إلى المصريين، ونقل حريمه وأمواله وذخائره وسلاحه، انكفأ راجعًا إلى دمشق فدخلها في النصف من المحرم سنة اثنتين وخمسمائة هجرية، وقصد صاحبها طغتكين فأكرمه وأقطعه بلادًا كثيرة، فأكرمه وأحسن لقياه، وسأله أن يعينه إلى الوصول إلى "جبلة" فأجابه، وسيّر معه عسكرًا إليها فدخلها، ثم توجه إلى مصر سنة 516هـ بعد أن اشتدّ الأمر عليه، وسلّم نفسه للدولة الفاطمية بعد مضي حوالي أربعة عشر سنة.

يقول د عمر عبد السلام تدمري: [أما بنو عمار، فقد انقرض وجودهم فيها قبل سقوطها بقليل؛ إذ أرسل الأفضل وزير مصر أحد الولاة فحمل أهل فخر الملك ابن عمار وأصحابه جميعًا إلى مصر في البحر سنة 502 هـ. فيما كان فخر الملك ينتقل بين جبلة وشيزر ودمشق وبغداد والموصل وماردين، قبل أن يعود إلى مصر في سنة 516هـ/1123م ويعلن ولاءه للخليفة الفاطمي الآمر بالله]([28]).

ويذكر المقريزي في أحداث شهر صفر سنة 516هـ: [فيه وصل فخر الملك أبو علي عمار بن محمد بن عمار صاحب طرابلس إلى مصر، وقال في كتابه الذي رفعه إلى الخليفة الآمر بأحكام الله: [والمملوك لم يصل إلى هذه الوجهة إلا وقد علم أن له من الذنوب السالفة ما يستحق به القتل، وقتله بسيوف هذه الدولة عدل وإحياء له وتشريف، وفخر يكفّر عنه بعض ذنوبه من كفر نعمتها؛ فإن خرج الأمر بذلك فمنّة كريمة، وإن خفف عنه فتخليده في السجن أحب إليه من رجوعه إلى تأميل غير هذه الدولة].

فلما عرض هذا بالحضرة أدركته الرأفة بعد أن استفظع كل الحاضرين أمره وأشير بإيقاع الحوطة عليه وإيداعه خزانة البنود، فقال الوزير المأمون بن البطائحي للخليفة: [قد أجلّ الله عواطف مولانا ورحمته من أن يهاجر أحد إلى أبوابه ويلجأ إلى عفوه فيخيب أمله ويؤاخذ بذنبه، وما بعد استسلامه إلا الشكر لله والعفو عن جرمه، فإن العفو زكاة القدرة عليه، ويشمله ما شمل أمثاله].

فأعجب الخليفة الآمر ذلك، وخرج الأمر بأن تُعدَّد على ابن عمار ذنوبُه وذنوبُ أسلافه، ويقال له: قد أذهبت مهاجرتك ما كان يجب من عقوبتك. فإذا اعترف بذنوبه وذنوب أسلافه يقال له: قد غفر ذنبك وأنت مخيّر بين أمرين؛ إما أن تعود فيصل إليك من الإنعام ما يبلغك إلى حيث تريد ويصحبك من يوصلك إلى مأمنك، وإما أن تؤثر الإقامة بفناء الدولة فتقيم على أنك تلزم ما يعنيك وتقنع بما ينعم به عليك وتقبل على شأنك، وتترك التعرض للمخالطات وتتجنب جميع المكروهات.

فلما خوطب بذلك قبّل الأرض وأبى أن يرفع رأسه ووجهه، وكلما خوطب في رفعه، قال: لست أرفعه حتى أتلقى كلمات العفو عن إمام زماني وتمتلئ مسامعي بألفاظ مغفرته. فبلّغته الحضرة ما تمناه، وحصل له الأمن؛ وأمر به إلى دار أعدت له، وجعل فيها شهوات السمع والبصر، وحملت إليه الضيافات الكثيرة، وجرّد برسم خدمته حاجب معه عدة مستخدمين، فأقام أيامًا يسيرة ثم حملت إليه الكسوات التي لا نظير لها، ووصله من المواهب ما أربى على أمله، وقرّر له راتبًا في كل شهر، ستون دينارًا مع مياومة الدقيق واللحم والحيوان. وصار يتعهد ما يفتقد به أعيان الضيوف من بواكير الفاكهة المستغربة وأنواع التحف المستظرفة ورسوم المواسم، ورفع عنه الحاجب والمستخدمون، وجعل له في المواسم والأعياد من الكسوات الفاخرة ما يميزه عن أمثاله. ولزم طريقة حمدت منه، فاستمر إليه الإحسان؛ وصار يركب في يومي الركوب ويومي السلام وغيرهما].

نقد

بالرغم من كل ما فعله فخر الملك لرد هجمات الصليبيين نجد بعض الكتاب يحيكون القصص حول خيانته، وأنه السبب في سقوط طرابلس، حيث ذكر د. راغب السرجاني في كتابه الطريق إلى بيت المقدس، تحت عنوان "الصليبييون وتواطؤ العبيديين الشيعة" استنادًا إلى كتاب اسمه "أعمال الفرنجة وحجاج بيت المقدس ص274" لكاتب مجهول([26]) ما نصّه:

[ثم مرَّ الجيش الصليبي على مدينة طرابُلُس اللُّبنانيَّة، وكانت هذه المدينة مقرَّ حُكم أحد العائلات الشيعيَّة، وهي عائلة بني عمَّار، وحاكمها في ذلك الوقت هو فخر الملك أبو عليّ، ومع كونها شيعيَّة إلا أنها كانت منشقَّة عن الدولة العبيدية بمصر، وكانت هذه المدينة تُسيطر على عدَّة مدن وقرى مجاورة مكوِّنة بذلك إمارة واسعة نسبيًّا، تحكم عدَّة مناطق في لُبنان وسوريا.

قرَّر فخر الملك أبو علي بن عمار أن يُهَادن الصليبيين، فرفع أعلامهم على أسوار مدينته دلالة تبعيته لهم، وأقرَّ بدفع جزية لهم...].

وما ذكره ليس له شاهد في كتب المؤرخين، بل الشواهد على خلافه، وقد تقدم الكلام عن صمود ابن عمار وتخاذل السلاجقة وغيرهم عن التصدي للغزاة، وأن فخر الملك كان أول من تنبّه إلى خطر الصليبيين ولكنه لم يجد آذانًا صاغية، ولم يذكر أحد من المؤرخين أنه رفع أعلام الاستسلام غير ذلك المؤلف المجهول.

ولست أدري كيف يسوّغ د. السرجاني لنفسه أن يهمل كل أقوال المؤرخين المتقدم ذكرها وغيرها، ثم يعتمد بعد ذلك على (مؤلف مجهول). ولكن ما يهون الخطب أن هذه ليست أول تهمة تلصق بالشيعة زورًا وبهتانًا، فقد افترى عليهم بعض من كتب عن سقوط بغداد بيد المغول، حيث اعتبر أن الشيعة هم السبب في ذلك، للتغطية على فساد الخليفة في ذلك الوقت، والأعجب من ذلك أن هذه الافتراءات تجد من يتلقفها ويروج لها وإن كانت بعيدة عن روح البحث الموضوعي التي ينبغي أن يتصف بها الباحث.

المصادر

مناصب سياسية
سبقه
جلال الملك
قاضي طرابلس
1098-1109
تبعه
برتران دى سان گيل