العلاقات التركية العربية

من اليمين: الملك عبد الله بن عبد العزيز ملك السعودية، الرئيس المصري السابق حسني مبارك، الرئيس السوري بشار الأسد، عبد الله گول رئيس تركيا.

العلاقات التركية العربية، هي العلاقات بين تركيا والدول العربية. وتشير المعطيات السياسية القائمة إلى دور إقليمي تركي في الشرق الأوسط متبلور وظاهر الملامح يتعاظم بمرور الوقت. ويحظى الموقف العربي من الدور الإقليمي التركي بأهمية تحليلية استثنائية لاعتبارات مختلفة من بينها أن العرب يشكلون شطراً كبيراً من منطقة الشرق الأوسط جغرافياً وبشرياً وتاريخياً وثقافياً، ومن ثم يمكنهم تسهيل عودة تركيا إلى توازنات المنطقة أو عرقلتها.

وتتزامن العودة التركية الحالية إلى المنطقة مع ترحيب جماهيري عربي كبير ينظر إلى تركيا باعتبارها لاعبا إقليميا يعود بعد غياب ليتواجه إعلامياً ودبلوماسياً مع دولة الاحتلال الصهيوني، التي تعربد في المنطقة عسكرياً بغطاء أميركي وعجز شامل من النظام العربي الرسمي.

ولا يعني ذلك أن تركيا صارت تعادي دولة الاحتلال الصهيوني جذرياً ومبدئياً، ولكنها تعلم أن ممارسة الحضور الإقليمي في المنطقة يتطلب حداً أدنى من الصمود في مواجهة الصلف الإسرائيلي ومن خلفه القطب العالمي الأوحد، وهو ما فعلته باقتدار خلال العدوان الصهيوني على غزة وفشلت فيه معظم الدول العربية.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

تعزيز دور تركيا اقليميا

وقد قدمت تركيا ستة دروس يمكن للنظم السياسية العربية الاستفادة منها، وهذه الدروس في الوقت نفسه هي عوامل جاذبية للنموذج التركي تساعد على تعزيز فرص دورها الإقليمي في المنطقة العربية:

1-التناوب على السلطة بين الأحزاب المختلفة وإدماج التيار الإسلامي في العملية الديمقراطية.

2-النموذج الاقتصادي الذي تقدمه تركيا باعتبارها أكبر اقتصاد في الشرق الأوسط في الوقت الذي لا تملك فيه موارد الطاقة عل العكس من غالبية الدول العربية.

3-التوفيق بين الحداثة والمعاصرة ومقتضيات المجتمع المدني من ناحية ومسألة الهوية بجذرها الثقافي والتاريخي والديني في إطار مقبول دولياً وإقليمياً.

4-الفصل بين الحزبي والدولتي في المجال العام، عبر الفصل الواضح بين حدود ومهام جهاز الدولة والحزب الحاكم.

5-تكوين مجموعات الضغط "اللوبي" في الولايات المتحدة الأمريكية وليس الاعتماد على شركات العلاقات العامة موسمية الطابع فقط مثلما تفعل غالبية الدول العربية.

6-تعديل التوازن في إطار التحالف مع الولايات المتحدة الأمريكية، لتحقيق أقصى قدر ممكن من المصالح الوطنية وحفظ قدر معقول من الاستقلالية ضمن إطار التحالف مع واشنطن وتحت سقفه.

وبالرغم من ترافق عودة تركيا إلى الساحة الشرق أوسطية مع تولي "حزب العدالة والتنمية" ذو الجذور الإسلامية للحكم عام 2002، فإن العودة التركية تخدم في الواقع المصالح الوطنية والجيوسياسية لتركيا قبل أية اعتبارات أيديولوجية.

وتتضافر مجموعة من العوامل لتؤهل تركيا للعب دور إقليمي من بينها محفزات القوة الصلبة للدولة التركية المتمثلة في اقتصاد قوي متجانس يحتل المركز السادسة عشر عالمياً من حيث حجم الناتج المحلي الإجمالي، وقدرات عسكرية وبشرية ضخمة، إضافة إلى أدوات القوة الناعمة مثل جاذبية المشروع الذي تقدمه وما تظهره من تجربة نادرة في التناوب السلمي على الحكم في منطقة أصبحت فريسة للتناحر بين الأصولية والديكتاتورية. وفوق ذلك تملك تركيا موقعاً جغرافياً استثنائياً يعطيها مميزات جيوسياسية هائلة، ناهيك عما خص التاريخ به تركيا من روابط مع دول الجوار في البلقان والشرق الأوسط والقوقاز.

وتترافق عوامل القوة التركية الصلبة والناعمة والموقع الجغرافي مع فراغ كبير في المنطقة اليوم، وهو ما يجعل تركيا على وعي بأن مجالات تأثيرها الجيوبوليتيكي في جوارها الجغرافي قد أصبحت تتحقق في منطقة الشرق الأوسط أكثر من أي منطقة جغرافية أخرى تطل عليها تركيا.

وتعتقد تركيا أنه يمكن لها مواجهة التهديدات المحتملة من منطقة الشرق الأوسط عبر دورها الإقليمي الفاعل، مثلما يمكنها توظيف هذا الدور لتعزيز صورتها الدولية، وبالتالي ممارسة المزيد من الضغوط على الاتحاد الأوروبي ليقبلها عضواً فيه، في مثال ممكن التحقق على "العثمانية الجديدة" التي تصبغ السياسة الخارجية لتركيا تحت قيادة "حزب العدالة والتنمية" ولا تعادي الولايات المتحدة الأمريكية أو الاتحاد الأوروبي.

لكن ومنذ نهاية الحرب الباردة وحتى احتلال العراق كانت التغيرات الجغرافية والسياسية في جوار تركيا وبالأخص في العراق كانت سلبية في تأثيراتها على موقع تركيا الإقليمي كما على هامش مناورتها الإستراتيجية.

فمنذ أوائل التسعينيات وأكراد العراق يتمتعون بحكم ذاتي موسع وقد ازداد اتساعا بعد احتلال العراق عام 2003، وقد خلق هذا الأمر وضعا إستراتيجيا قلقا لأنقره استدعت من حزب العدالة والتنمية فلسفلة جديدة في التعامل قائمة على فكرة التعاون الاقتصادي مع حكومة إقليم كردستان العراق كوسيلة للسيطرة على طموحات الأكراد عبر تعميق تبعيتهم الاقتصادية لتركيا.

بمعنى آخر لم تعد القوة العسكرية وحدها هي التي تدير السياسة في تركيا، بل التخطيط الإستراتيجي واللعب على تناقضات وتوازنات المنطقة، وهو تطور كبير ينبغي التدبر في آثاره ومعانيه التي تتجاوز حدود إقليم كردستان العراق.


الموقف المصري نموذجا

ولفهم الموقف العربي من الدور الإقليمي التركي يمكن الحديث من باب التمثيل بالموقف المصري كدولة من دول "محور الاعتدال" وبالموقف السوري التي تصنف إعلاميا حتى الآن كدولة من دول "محور الممانعة".

فالموقف المصري يتشابه في نقاط كثيرة مع غيره من المواقف العربية المندرجة في ما يسمى "محور الاعتدال" حيال دور تركيا الإقليمي، إذ أن عمود خيمة هذا الموقف يقوم بالأساس على رؤية تركيا ذراع ثقل مكافئ للحضور الإيراني المتزايد في المنطقة.

بمعنى أن مصر ومحورها تريان في الدور التركي ثقلاً موازياً في مواجهة إيران وليس بالضرورة للرغبة في التعاون الإقليمي مع تركيا بحد ذاته، جرياً على المثل العربي الشائع: قبول تركيا "ليس حباً في علي ولكن كرهاً في معاوية!".

وبالإضافة إلى هذا الموقف الأساسي ترى القاهرة أيضاً أن هناك مشتركات أخرى مع تركيا مثل الرغبة في الحفاظ على وحدة الأراضي العراقية ووحدة التحالفات الدولية مع تركيا تحت المظلة الأمريكية. دخلت مصر جولة الحوار الإستراتيجي مع تركيا وعينها على التوازنات بالمنطقة، إذ أن التقاء مصالح القاهرة وأنقره على الرغبة في موازنة الحضور الإيراني قد ساهم في تعبيد الطريق أمام الحوار.

كما أن القاهرة التي تقرأ تاريخياً المؤشرات الإقليمية وبحساسية معروفة، وجدت أن السياق الزمني عام 2008 كان مناسباً لإجراء "الحوار الإستراتيجي التركي المصري"، مع ملاحظة أن القاهرة لا تقوم بحوارات إستراتيجية سوى مع الولايات المتحدة الأميركية.

وتتابع القاهرة امتلاك تركيا لمساحات تأثير متزايدة في سياسات المنطقة عبر دور "صانع السلام"، الذي تقوم به أنقره بين دمشق و تل أبيب بترحيب أميركي وأوروبي. وكذلك دورها في المسألة الفلسطينية وهو ما يرسخ صورة تركيا باعتبارها "صانعة السلام" الأولى في المنطقة. وتأسيساً على ذلك يبدو أن القاهرة تعتقد أن المعالجة الأفضل في ضوء التوازنات الراهنة ليس الاصطدام بالدور التركي بل بالتحاور معه على هوامش الاتفاق والاختلاف؛ وصولاً إلى اقتسام دور "صانع السلام" معه.

وتقوم كذلك القراءة المصرية لسياسة تركيا الإقليمية في المنطقة على أن المنافس الرئيسي للأخيرة على الأدوار بالمنطقة هو الطرف الإيراني، وهو ما يدخل تركيا في معادلة صفرية أمام إيران. ولذلك تتابع القاهرة سعي تركيا لضمان النجاح في تلك المنافسة الصفرية عبر ثلاث خطوط متوازية:

أولاً: استيعاب إيران دبلوماسياً من خلال حوار سياسي وتبادل منافع اقتصادي وعلاقات حسن جوار وعرض وساطة بين طهران وواشنطن.

ثانياً: إضعاف دور إيران الإقليمي عبر محاولة حشد الأطراف العربية المسماة معتدلة في معسكر تقوده تركيا.

ثالثاً: دفع أطراف أخرى متحالفة مع إيران بعيداً عنها بالتدريج (سورية).

تأسيساً على ذلك تعتقد القاهرة أن تركيا تتوخى من حوارها الإستراتيجي حشد التأييد لسياستها في المنطقة مع احتفاظها، أي تركيا، بموقعها المتقدم في العلاقات مع واشنطن، ومن ثم حشد كل ذلك في مواجهتها مع إيران وصولاً إلى تعزيز الحضور الإقليمي التركي في المنطقة.

ولما كانت القاهرة منضمة ذاتها في ذات التحالفات الدولية مع تركيا، ولما كانت القاهرة والرياض قد أعلنتا في أكثر من مرة ومناسبة أن النفوذ الإيراني يهدد الاستقرار في المنطقة، تنظر القاهرة إيجابا إلى الدور الإقليمي التركي بشرط البقاء كعامل توازن في مواجهة إيران.

ولكن المتفحص لهذه القراءة يجد أنها لا تستند إلى معايير القوة الذاتية بقدر ما تستند إلى اعتبارات الموازنة بين طرفين آخرين، وبالتالي فأي تغيير في طبيعة العلاقات الحالية بين تركيا وإيران- وهو احتمال وارد الحدوث جداً- سيجعل هذا الرهان خاسراً بشدة.

النظرة السورية

وقبل الحديث عن الموقف السوري من الدور الإقليم التركي في الشرق الأوسط ينبغي الإشارة إلى أن سوريا كانت ولا زالت جزءاً أساسياً من التصعيد والتهدئة الإقليمية بوصفها واسطة العقد في التحالف الذي تقوده إيران، حيث تنظم سوريا النفوذ الإيراني بالعراق وتربطه بمثيله في لبنان والأراضي الفلسطينية المحتلة بكيفية تتسق مع مركزية جغرافيتها في خارطة المنطقة. وبالرغم من تحالفها مع إيران، فقد نجحت دمشق في جمع تناقضات التصادم الإقليمي بين المشروعات المختلفة ووظفته لمصلحتها.

وبسبب اختلال القدرات الواضح بين العرب وتركيا، يبدو أن القراءة العربية للدور التركي الإقليمي في الشرق الأوسط تنطلق من أنه حقيقة واقعة لا يجب الوقوف أمامها، بل التعامل معها لتعظيم المكاسب منها.

ويبدو ذلك واضحاً في تقييم التحالفات السياسية لسورية في المنطقة مع الدولتين الإقليميتين الأهم: إيران وتركيا، إذ أن سورية المتحالفة مع إيران ضمن المحور الإيراني-السوري هي في الوقت نفسه الدولة العربية الأقرب إلى المصالح التركية عما سواها.

وسورية المتحالفة مع طهران، والقريبة إلى قلب وعقل أنقرة، هي التي تفاوض تل أبيب الآن، وبشكل يجعل بإمكانها ترجيح كفة مشروعات على أخرى في المنطقة. وهكذا أصبح النظام السياسي السوري، الذي لا يتمتع بإمكانات اقتصادية ومالية خاصة، هو نقطة التوازن لكل القوى غير العربية في المنطقة.

تعلم سورية أن الهدف التركي من رعاية المفاوضات السورية-الإسرائيلية يتمثل في سحب رافعة إيران الإقليمية في المشرق العربي، وبالتالي تفكيك الحضور الإيراني في المنطقة. ولكن سورية تترك الباب موارباً أمام الأطراف كافة، فتصبح في وضع يمكنها معه "استدراج العروض" دون حسم خياراتها حتى اللحظة الأخيرة.

ولذلك تنظر سورية إلى تركية نظرة إيجابية ومشروطة في آنٍ معاً، أي أن رعاية الوساطة واحتياج تركيا لسورية للنفاذ إلى معادلات المنطقة يبقيانها عاملاً إيجابياً لحماية المصالح السورية وتعزيز الأهمية التساومية لدمشق.

تعلم سورية أيضا أن نجاح الوساطة التركية سيجعل تركيا أكثر قربا من هدفها بقيادة المنطقة، ولكن سورية في هذه الحالة تكون قد حصلت على الجولان المحتل. ومن المعلوم أن المنطق الداخلي لبدء المفاوضات السورية-الإسرائيلية جدياً سيقود إلى تراجع في أولوية التحالف مع إيران على سلم اهتمامات صانع القرار السوري. وهذا التراجع سيصب في مصلحة تركيا، التي تتواجه في معادلة صفرية مع إيران بالمنطقة، بمعنى أن التراجع في نفوذ أحد الطرفين سيصب في صالح الآخر وصولاً إلى إنهاء التنافس على قيادة المنطقة لصالحه.

وهكذا تبرز تركيا من جديد كحقيقة جغرافية وتاريخية وعسكرية، في لحظة تاريخية تعاني فيها الدول العربية في المشرق من مآزق بنيوية هي الأخطر منذ الاستقلال، وهو ما يخلق فراغاً كبيراً في المنطقة تتقدم تركيا –موضوعياً- كي تشغله. وبسبب اختلال القدرات الواضح بين الطرفين، يبدو أن القراءة العربية للدور التركي الإقليمي في الشرق الأوسط تنطلق من أنه حقيقة واقعة لا يجب الوقوف أمامها، بل التعامل معها لتعظيم المكاسب منها.

وبالرغم من اختلاف العوامل المؤثرة في موقف الدول العربية الموزعة على المعسكرين المتقابلين، فإن القاسم المشترك بينها جميعاً يتمثل في أن الدور الإقليمي التركي لم يعد مسألة تركية صرف، بل يمتد بتأثيره العميق على مجمل التوازنات في المنطقة. وتأسيساً على ذلك يتوقف تعزيز المصالح العربية وتعظيم قدرة دول المنطقة على ترتيب أولوياتها الوطنية والإقليمية إلى حد كبير على فهم الإستراتيجية التركية الجديدة والتعامل معها على قاعدة المصالح المشتركة.

همشت السياسات العربية تجاه تركيا والمستمرة حتى الآن دور العامل العربي في التأثير على السياسة الخارجية التركية، فالاستثمارات العربية في غالبيتها الساحقة تستقر خارج المنطقة، وحتى الواردات العربية المتزايدة من السلع والخدمات تتجاوز تركيا التي لا تحظى إلا بنصيب ضئيل جداً منها.

وهكذا وحتى الآن لم تقدم السياسات العربية لتركيا ما يمكن أن يرقى إلى درجة الأخذ في الاعتبار عند رسم سياستها الخارجية. ولا يمكن بالتالي أن نأمل في تفاهم وتعاون مع تركيا بشكل يراعى المصالح الوطنية والقومية دون إبراز مصالح اقتصادية لتركيا في العالم العربي، الذي يستورد من السلع أكثر بكثير مما يصدر. ساعتها يمكن لصناع القرار العرب مخاطبة تركيا من موقع الفاعل، وليس مطالبة الدول الأخرى ومنها تركيا بالتضامن مع مصالحنا دون أن نقدم مميزات بالمقابل، فطريق المصالح يسير في اتجاهين وليس اتجاه واحد.

ولا يعنى ذلك أن المشاكل العالقة بين الدول العربية وتركيا سواء في موضوع المياه أو الحدود سوف تجد طريقها تلقائياً إلى الحل، ولكن وضع العلاقات العربية- التركية على طريق المصالح المتبادلة من شأنه التأثير في اتجاهات السياسة الخارجية التركية لصالح الدول العربية. تتعامل غالبية الدول العربية مع الدور الإقليمي التركي ولسان حالها يمكن اختصاره بالعبارة التالية: "تركيا عادت لتقود من جديد".[1].

انظر أيضا

المصادر