التعليم في روما القديمة

Bronze statuette of a girl reading (1st century)

لسنا نعرف الشيء الكثير عن أطفال الرومان، ولكن في وسعنا أن نحكم، استناداً إلى الفن الروماني وشواهد القبور الرومانية، أن الأطفال كانوا بعد أن يولدوا يصبحون موضع الحب المفرط غير الحكيم. ونرى جوفنال يخرج أحياناً عن غضبه ليكتب قطعة رقيقة تفيض بالعاطفة عن المثل الطيبة التي يجب علينا أن نعرضها على الأطفال، وعن المناظر السيئة والأصوات المنفرة التي يجب أن نبعدهم عنها، وعن مظاهر الاحترام التي يجب أن نتحلى بها أمامهم في جميع الأوقات حتى الأوقات التي نظهر لهم فيها منتهى الحب(27). ويطلب فافورينوس، في مقاله لو أن كتب بعد عهد روسو لكان تقليداً ساخراً له، إلى الأمهات أن يرضعن أولادهن(28). ويضرب سنكا وأفلوطرخس على هذه النغمة نفسها وإن لم يستمع إليهما إلا عدد قليل، فقد كان استخدام المراضع هو القاعدة المتبعة لدى جميع الأسر التي تمكنها مواردها من استخدامهن، ويبدو أن هذه العادة لم تنشأ منها مآس لهذه الأسر.

Relief found in Neumagen near Trier, a teacher with three discipuli (180-185 AD)

وكانت التربية الأولى تقوم بها المراضع، وكن في العادة يونانيات. وكن يقصصن عليهم قصصاً خرافية تبدأ عادة بهذه العبارة: "يحكى أن ملكاً وملكة..." وكان التعليم الابتدائي لا يزال من المشروعات الفردية، وكثيراً ما كان الأغنياء يستأجرون المربين لأبنائهم، ولكن كونتليان حذرهم من هذا العمل كما حذر منه إمرسن Emerson لأنه يحرم الطفل صداقة زملائه التي لا غنى له عنها في نشأته، كما يحرمه عامل المنافسة التي تنبه قواه وتنشطها. وكان أبناء الطبقات الحرة وبناتها يدخلون المدرسة الأولية عادة في سن السابعة، يصحب كلاً منهم في غدوه ورواحه "مرشد الطفل" (بداجوج Paedagogue) ليحافظ عليه من الناحيتين الجسمية والخلقية. وانتشرت هذه المدارس في جميع أنحاء الإمبراطورية فلم تخل منها بلدان الريف الصغيرة. وتوحي الكتابة المخرفشة التي كشف على جدران بمبي بأن أهلها لم يكن بينهم أميون، وأكبر الظن أن التعليم كان وقتئذ منتشراً في عالم البحر الأبيض انتشاراً لا يقل عنه في أي وقت سابق لهذا العهد أو لاحق. وكان المرشد (البدجوج) والمعلم (لودي مجستر Ludi Magister) من اليونان الأرقاء أو المحررين. وكان كل تلميذ في أيام هوراس وفي البلدة التي كان يعيش فيها يؤدي للمدرس في كل شهر ثمانية آسات (48slash100 من الريال الأمريكي)(30). وبعد ثلثمائة وخمسين سنة من ذلك الوقت جعل دقلديانوس الحد الأعلى للمدرس في المرحلة الأولية من مراحل التعليم خمسين ديناراً (20 ريالاً أمريكياً) عن كل تلميذ في كل شهر؛ وفي وسعنا أن نحكم من هذا على ارتفاع قدر المدرس أو انخفاض قيمة الآس. فإذا بلغ التلميذ (أو التلميذة) الثانية عشرة من عمره، وكان ناجحاً، أدخل مدرسة ثانوية أو عالية، وكان في رومة مائة وثلاثون مدرسة من هذا النوع. وكان التلاميذ يدرسون فيها قدراً أوفى من النحو، واللغة اليونانية، والآداب اليونانية واللاتينية، والموسيقى، والفلك، والتاريخ، والأساطير، والفلسفة؛ وكانت الطريقة المألوفة في هذه الدراسة هي المحاضرات التي تشرح أقوال الشعراء الأقدمين. ويلوح أن منهج الدراسة حتى هذه المرحلة كان واحداً للذكور والإناث على السواء، ولكن البنات كثيراً ما كن يتلقين فضلاً عن هذا دروساً في الموسيقى والرقص. وإذ كان المدرسون في المدارس الثانوية (جرماتيشي Grammatici) من المحررين اليونان على الدوام، فقد كانوا يوجهون معظم اهتمامهم إلى آداب اليونان وتاريخهم بطبيعة الحال؛ ومن أجل هذا اصطبغت الثقافة الرومانية بالصبغة اليونانية، حتى إذا ما أشرف القرن الثاني الميلادي على نهايته، كانت اللغة اليونانية لغة التعليم العالي كله تقريباً، وضاعت الآداب اللاتينية في غمرة علوم ذلك العصر وثقافته.

أما الدراسات التي تعادل الدراسات في الكليات والجامعات في هذه الأيام فكان مقرها مدارس الخطباء. ولم يكن في الإمبراطورية مكان يخلو من الخطباء الذين يدافعون عما يستأجرونهم في دور القضاء أو يكتبون لهم الخطب، أو يلقون المحاضرات العامة، أو يعلمون التلاميذ فن الخطابة، أو يقومون بهذه الأعمال كلها. وكان الكثيرون منهم ينتقلون من مدينة إلى مدينة، يتحدثون في الأدب، أو الفلسفة أو السياسة، ويعرضون على المستمعين كيف يطرقون أي موضوع بمهارة الخطباء البلغاء. ويحدثنا بلني الأصغر عن إسيوس Isaeus اليوناني وكان وقتئذ في الثالثة والستين من عمره فيقول:

كان يعرض على سامعيه عدة أسئلة للمناقشة ويترك لهم الحرية الكاملة في اختيار أيها يشاءون، بل كان يطلب إليهم أحياناً أن يختاروا له الناحية التي يجب أن يؤيدها، ثم يقوم، ويرتدي ثوبه ويبدأ حديثه... وكان يعرض موضوعه عرضاً لبقاً جميلاً، وكان قصصه واضحاً، ونقاشه متيناً قوياً يشهد بالذكاء والفطنة، ومنطقه قوياً، ولغته بليغة إلى أقصى حدود البلاغة(13).

وكان يسمح لهؤلاء الرجال أن يفتتحوا المدارس، ويستخدموا فيها مساعدين لهم، ويجمعوا عدداً كبيراً من الطلاب. يدخلونها حوالي لسنة السادسة عشرة من العمر، ويدفعون من الأجور ما يصل أحياناً إلى ألفي سسترس عن كل منهج في مادة من مواد الدراسة. وكانت أهم موضوعات الدرس هي الخطابة، والهندسة النظرية، والفلك، والفلسفة-وكانت هذه المادة الأخيرة تشمل الكثير مما يطلق عليه الآن اسم العلوم الطبيعية. ويتكون من هذه المواد ما يعرف "بالتعليم الحر" أي المخصص لأبناء الأغنياء الأحرار (Homoliber)، وهم الذين لم يكونوا في أغلب الظن يقومون بأي عمل جثماني. وقد شكا بترونيوس، كما يشكو كل جيل، من أن التعليم لا يؤهل الشبان لمواجهة ما سوف يعترضهم من المشاكل في مستقبل حياتهم فيقول: "إن المدارس هي الملومة فيما يتصف به شبابنا من سخف وبلاهة، لأنهم لا يستمعون فيها إلى شيء من شئون الحياة اليومية"(32). وكل ما نستطيع أن نقوله نحن عنها كانت تربى في الطالب المجد ملكة التفكير الواضح السريع، الذي امتازت بها مهنة القضاء في جميع العصور، وعلمتهم تلك البلاغة الخلاّبة التي لا تتقيد بالقويم من المبادئ أو الأخلاق، والتي امتاز بها خطباء الرومان. ويبدو أن هذه المدارس لم تكن تمنح خريجيها إجازات علمية؛ وكان في وسع الطالب أن يبقى فيها ما يشاء، وأن يختار من المواد ما يريد؛ من ذلك أن لوس جليوس Aulus Gellius بقى في إحداها حتى بلغ الخامسة والعشرين. وكانت مفتحة الأبواب للنساء حتى المتزوجات منهن. ومن شاء من الطلاب أن يستزيد من التعليم انتقل إلى أثينة لدراسة الفلسفة من منابعها الفياضة، أو إلى الإسكندرية لدراسة الطب، أو إلى رودس لدراسة آخر دقائق علوم البلاغة. وكان شيشرون يدفع عن ابنه في جامعة أثينة ما قيمته أربعة آلاف ريال أمريكي في كل عام.

وكانت مدارس البلاغة حين جلس فسبازيان على العرش قد بلغت من الكثرة وقوة النفوذ درجة رأى معها هذا الإمبراطور الداهية أن من الحكمة أن ينقل كبرياتها إلى العاصمة، وأن يضعها تحت إشراف الحكومة، وذلك بأن يدفع إلى كبار الأساتذة فيها مرتبات من قبل الدولة، بلغ أعلاها مائة ألف سسترس (نحو عشرة آلاف ريال أمريكي) في كل هام. ولسنا نعرف كم عدد الأساتذة الذين خصهم فسبازيان بهذه المرتبات أو عدد المدن التي فاضت عليها أمواله. ولكننا نسمع بالإضافة إلى هذا عن هبات من الأفراد للتعليم العالي، كما فعل بلني الأصغر في كومم Comum(33). وأعطى تراجان رواتب لخمسة آلاف طالب، كان لهم من العقل أكثر مما لهم من المال. فلما جلس هدريان على العرش كانت البلديات هي التي تنفق على المدارس الثانوية في معظم مدائن الإمبراطورية؛ وخصص معاش للمدرسين بعد تقاعدهم. وأعفى هدريان وأنطونيوس كبار الأساتذة في كل مدينة من الضرائب وغيرها من الأعباء العامة. وبلغ التعليم ذروته في الوقت الذي انتشرت فيه الخرافات، وفسدت الأخلاق وذوي غصن الآداب.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الهامش