الامبراطورية الكارولنجية

الامبراطورية الكارولنجية في أقصى اتساعاها، والتقسيمات الرئيسية الثلاثة في عام 843.

الامبراطورية الكارولنجية Carolingian Empire (800–888)، مصطلح تاريخي استخدم للاشارة إلى مملكة الفرنجة تحت حكم الأسرة الكارولنجية في أوائل العصور الوسطى. ينظر لهذه الأسرة على أنها مؤسسة فرنسا وألمانيا، ويبدأ تاريخ بدايتها معتمداً على تتويج شارلمان، أو شارل العظيم، وتنتهي بوفاة شارل السمين. حسب وجهة نظر واحدة، يمكن اعتبار هذه الامبراطورية على أنها التاريخ المتأخر لمملكة الفرنجة أو التاريخ المبكر لفرنسا والامبراطورية الرومانية المقدسة.

ورد مصطلح تتويج شارلمان من قبل البابا ليو الثالث عام 800.[1] حيث أن شارل وأسلافه كانوا حكاماً لمملكة الفرنجة في فترة مبكرة (كان جده شارل مارتل قد تأسست الامبراطورية في حياته)، فلم يكن التتويج يشكل في الواقع امبراطورية جديدة. يفضل معظم المؤرخين استخدام مصطلح "ممالك الفرنجة" أو "مملكة الفرنجة"، للإشارة إلى المساحة التي تغطي المناطق التي تعرف اليوم باسم ألمانيا وفرنسا من القرن 15 حتى القرن 19.

كان حجم الامبراطورية في ذروتها حوالي عام 800م 1.112.000 كم²، وكان عدد سكانها من 10 إلى 20 مليون نسمة.[2]


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

تعزيز والدفاع عن مملكة الفرنجة

شارل مارتل في معركة تور، حيث أوقف تقدم قوات الغزو الأموي.

لما جلس كلوتير Clotaire الثاني على عرش الفرنجة لاح أن مركز الأسرة المروفنجية وطيد؛ ذلك أنه لم يحكم ملك قبله من ملوك هذه الأسرة دولة تضارع دولته في الاتساع والوحدة؛ ولكن كلوتير كان مديناً بقوته إلى أشراف استراسيا وبرگندية؛ وقد كافأهم على تأييدهم له بأن زاد من استقلالهم ووسع أملاكهم وبأن اختار واحداً منهم هو پيبين الأول الأكبر ليكون "ناظراً للقصر". وكان ناظر القصر في بادئ الأمر هو المشرف على القصر الملكي وناظراً على المزارع الملكية؛ وزادت مهام مناصبه حين عكف الملوك المروفنجيون على الدعارة والدسائس، وأخذ يشرف شيئاً فشيئاً على شئون المحاكم، والجيش، والمال، وحَدَّ الملك داجوبرت (628-639) ابن كلوتير من سلطان ناظر القصر والأشراف وقتاً ما "فوزع العدالة بين الأغنياء والفقراء على السواء" كما يقول فرديجار الإخباري، "وكان قليل النوم والطعام، ولم يكن همه إلا أن يخرج الناس من مجلسه ممتلئة قلوبهم غبطة وإعجاباً". غير أن فرديجار يضيف إلى ذلك قوله: "وكانت له ثلاث ملكات وعدد كبير من الحظايا" كما كان عبداً لشهواته". وعادت السلطة في عهد خلفائه- الملوك الذين لا يفعلون شيئاً-إلى ناظر القصر. وهزم بيبين الثاني الأصغر منافسيه في واقعة تستري (687)، واستبدل بلقب "ناظر القصر" لقب دوق الفرنجة وكبيرهم، وحكم غالة جميعها ما عدا أكتين. وحكم شارل مارتل (المطرقة)، الذي كان بالاسم ناظراً للقصر ودوق استراسيا، گالة كلها تحت سلطان كلوتير الرابع (717-719). وهو الذي صد بعزيمته غارات الگاليين مستعيناً بالفريزيين والسكسون، وهو الذي صد المسلمين عند تور وردهم عن أوربا. وأعان بنيفاس وغيره من المبشرين على تنصير ألمانيا، ولكنه حين اشتدت حاجته إلى المال صادر أراضي الكنيسة. وباع مناصب الأساقفة لقواد الجيش، وأسكن جيوشه في الأديرة، وقطع عنق راهب بروتستنتي. وحُكِمَ عليها في مائة منشور وخطبة منبرية بأن مأواه الجحيم.

وأرسل ابنه پيبين الثالث ناظر قصر كلدريك الثالث بعثة إلى البابا زخرياس يسأله هل يأثم إذا خلع الإمعة المروفنجي وأصبح هو ملكاً بالاسم كما هو ملك بالفعل. وكان زخرياس وقتئذ في حاجة إلى تأييد الفرنجة ضد مطامع اللمبارد فبعث إليه بجواب مطمئن يقول فيه إنه لا يأثم. فلما تلقى بيبين الرد عقد جمعية من الأشراف والمطارنة في سواسون اختير فيها بإجماع الآراء ملكاً على الفرنجة (751)، ثم قص شعر آخر الملوك المروفنجيين البلداء وأرسله إلى دير. وجاء البابا استيفن الثاني في عام 754 إلى دير القديس دنيس في أرباض باريس، ومسح بيبين "ملكاً بنعمة الله". وهكذا انتهت الأسرة المروفنجية (486-751) وبدأت الأسرة الكارولنجية (751-987).

وكان پيبين الثالث "القيصر" حاكماً صبوراً يعيد النظر، نقياً عملياً، محباً للسلم، لا يغلب في الحرب، متمسكاً بالأخلاق الفاضلة إلى حد لم يسبقه إليه ملك آخر في غالة في تلك القرون. وكان بيبين هو الذي مهد لشارلمان سبيل كل ما أتاه من جليل الأعمال؛ وفي خلال حكمها الذي دام ثلاثاً وستين سنة (571-814) تحولت بلدهما نهائياً من گالة إلى فرنسا. وأدرك بيبن ما في الحكم بغير معونة الدين من صعاب، فأعاد إلى الكنيسة أملاكها، وامتيازاتها وحصانتها، وجاء إلى فرنسا بالمخلفات المقدسة، وحملها على كتفيه في موكب فخم؛ وأنقذ البابوية من الملوك اللمبارد، ومنحها سلطات زمنية واسعة في عهده المعروف باسم "عطية بيبين" (756)، وقنع بأن ينال في نظير هذا لقب "النبيل الروماني" وتحذيراً من البابا للفرنجة بألا يختاروا ملكاً إلا من سلالته. وتوفي بيبين في عنفوان قوته عام 768 بعد أن أوصى بملكه الفرنجة لولديه كارلومان الثاني وشارل الذي أصبح فيما بعد شارلمان على أن يحكماها معاً. [3]


الامبراطورية في عهد شارلمان (768–814)

عملة معدنية لشارلمان منقوش عليها KAROLVS IMP AVG (كارلوس امبراطور أوگستوس)

ولد شارلمان، أعظم ملوك العصور الوسطى عام 742 في مكان غير معروف. وكان يجري في عروقه الدم الألماني وينطق باللسان الألماني، ويشترك مع قومه في بعض الصفات-قوة الجسم، والبسالة ورباطة الجأش، والافتخار بالأصل، والبساطة الخشنة التي تفصلها مئات السنين عن رقة الفرنسيين الحضرية المصقولة. وكان قليل العلم بالكتب وما فيها، لم يقرأ منها إلا عدداً قليلاً، لكن ما قرأه منها كان من خيارها، وحاول في شيخوخته أن يتعلم الكتابة باللغة التيوتونية القديمة واللاتينية الأدبية، وكان يفهم اللغة اليونانية. ولما مات كارلون الثاني في عام 771 انفرد شارل بالحكم وهو في التاسعة والعشرين من عمره.

وبعد سنتين من انفراده به بعث إليه البابا هدريان الثاني بدعوة عاجلة ليساعده على دسديريوس اللمباردي الذي كان وقتئذ يغزو الولايات البابوية. ولبى شارلمان الدعوة وحاصر بافيا واستولى عليها، ولبس تاج لمباردي، وأيد عطية بيبي، وارتضى أن يكون حامي الكنيسة، جميع سلطاتها الزمنية. ولما عاد إلى عاصمة في آخن بدأ سلسلة من الحروب عدتها ثلاث وخمسون- قادها كلها تقريباً بنفسه- يهدف بها إلى تأمين دولته بفتح بافاريا وسكسونية وجعلها مسيحيتين، والقضاء على الآفار المشاغبين المتعبين، وحماية إيطاليا من غارات المسلمين، وتقوية حصون فرنسا حتى تستطيع الوقوف في وجه مسلمي أسبانيا الذين يبغون بسط سلطانهم عليها. وكان السكسون المقيمون عند الحدود الشرقية لبلاده وثنيين، أحرقوا كنيسة مسيحية وأغاروا مراراً على غالة، وكانت هذه الأسباب كافية في رأي شارلمان لأن يوجه إليهم ثماني عشرة حملة (772-804)، قاتل فيها الطرفان بمنتهى الوحشية. فلما هزم السكسون خيرهم شارلمان بين التعميد والموت وأمر بضرب رقاب 4500 منهم في يوم واحد، وسار بعد فعلته هذه إلى ثيونفيل ليحتفل بميلاد المسيح.

ولما كان شارلمان في بادربون إذ استغاث به ابن العربي حاكم برشلونة المسلم في عام 777 لينصره على خليفة قرطبة. فما كان منه إلا أن سار على رأس جيش عبر به جبال البرانس، وحاصر مدينة بمبلونا المسيحية، وعامل البشكنس، الباسك مسيحي أسبانيا الشمالية الذين لا يحصى عديدهم، معاملة الأعداء، وواصل زحفه حتى وصل إلى سرقسطة نفسها. غير أن الفتن الإسلامية التي وعد ابن العربي بإثارتها على الخليفة والتي كانت جزءاً من الخطة الحربية المدبرة لم يظهر لها أثر، ورأى شارلمان أن جيوشه بمفردها لا تستطيع مقاومة جيوش قرطبة، وترامى إليه أن السكسون ثائرون عليه وأنهم يزحفون وهم غضاب على كولوني، فرأى من حسن السياسة أن يعود بجيشه إلى بلاده، واخترق بهم في وصف طويل رفيع ممرات جبال البرانس. وبينما كان يعبر أحد هذه الممرات عند رُنسفال من أعمال نافاري إذا انقضت على مؤخرة الفرنجة قوة من البشكنس، ولم تكد تبقى على أحد منها (778)، وهناك مات هرودلاند النبيل الذي أصبح بعد ثلاثة قرون بطل القصيدة الفرنسية الذائعة الصيت أغنية رولان. وسير شارلمان في عام 795 جيشاً آخر عبر جبال البرانس، واستولى به على شريط ضيق في شمالي أسبانيا الشرقي وضمه إلى فرنسيا. واستسلمت له برشلونة، وأقرت أستراسيا ونابرة بسيادة الفرنجة عليهما (806). وكان شارلمان في هذه الأثناء قد أخضع السكسون لسلطانه (785)، وصد الصقالبة الزاحفين على بلاده (789)، وهزم الآفار وشتت شملهم (790-805)، ثم أخلد في السنة الرابعة الثلاثين من حكمه والثالثة والستين من عمره إلى السلام. والحق أنه كان على الدوام يحب شئون الإدارة والحكم أكثر مما يحب الحرب، ولم ينزل إلى ميدان القتال إلا ليفرض على أوربا الغربية، التي مزقتها منذ قرون طوال منازعات القبائل والعقائد، شيئاً من وحدة الحكم والعقيدة.

وكان في أثناء هذا الحكم قد أخضع لسلطانه جميع الشعوب الضاربة بين نهر الفستيولا والمحيط الأطلنطي، وبين البحر البلطي وجبال البرانس، وإيطاليا كلها تقريباً، والجزء الأكبر من بلاد البلقان. ترى كيف استطاع رجل واحد أن يحكم هذه المملكة المتباينة المترامية الأطراف؟ الجواب أنه قد وهب من قوة الجسم والأعصاب ما يستطيع به أن يأخذ على عاتقه مئات التبعات، والأخطار، والأزمات، وأن يتحمل ما هو أصعب على النفس من هذا كله وهو ائتمار أبنائه به ليقتلوه. وكان في دمائه دم أو تعاليم بيبين الثالث الحذر الحكيم، وشارل مارتل الذي لا يرحم ولايلين، وكان هو نفسه إلى حد ما مطرقة مثل مارتل. وقد وسع أملاكهما وحافظ عليها بما وضعه لها من نظام عسكري قوي الدعائم، وسندها بما أفاء عليها من ظل الدين وشعائره. وكان في وسعه أن يضع لنفسه الأهداف الكبار، وأن يهيئ الرسائل ويبتغي الغايات. وكان في مقدوره أن يقود الجيوش، ويقنع الجمعيات، ويشرح صدور الأعيان، ويسيطر على رجال الدين، ويكبح جماح الحريم.

وقد جعل الخدمة العسكرية شرطاً لامتلاك أكثر من الكفاف من الأملاك، وبهذا أقام الروح العسكرية المعنوية على أساس الدفاع عن الأرض وتوسيع رقعتها، وأوجب على كل حر إذا دُعي لحمل السلاح أن يمثل كامل العدة أمام الكونت المحلي، وكان كل عامل نبيل مسئولاً أمامه عن كفاية وحداته. وكان بناء الدولة يقوم على هذه القوة المنظمة يؤيدها كل عامل نفساني تخلعه عليها قداسة صاحب الجلالة الذي باركه رجال الدين، وفخامة الاحتفالات الإمبراطورية، والطاعة التقليدية للحكم القائم الموطد الدعائم. وكانت تجتمع حول الملك حاشية من النبلاء الإداريين ورجال الدين-رئيس خدم البيت، وقاضي القضاة وقضاة حاشية القصر، ومائة من العلماء، والخدم، والكتبة. وكان مما قوى إحساس الشعب باشتراكه في الحكم ما كان يعقده كل نصف عام من اجتماعات يحضرها الملاك المسلحون، يجتمعون كلما تطلبت اجتماعهم الشئون الحربية أو غيرها في مدن ورمز، وفلنسين، وآخن، وجنيف وباربون... وكانت هذه الاجتماعات تعقد عادة في الهواء الطلق. وكان الملك يعرض على جماعات قليلة من الأعيان أو الأساقفة ما عنده من الاقتراحات التشريعية، فكانت تبحثها وتعيدها إليه مشفوعة باقتراحاتها ثم يضع هو القوانين ويعرضها على المجتمعين ليوافقوا عليها بصياحهم؛ وكان يحدث في بعض الأحوال النادرة أن ترفضها الجمعية بالأنين أو القباع الجماعي. وقد نقل إلينا هنكمار كبير أساقفة ريمس صورة دقيقة لشارلمان في هذه الاجتماعات، فقال إنه كان "يسلم على أكابر الحاضرين، ويتحدث إلى من لم يكن يراهم إلا قليلاً، ويظهر اهتماماً ظريفاً بالكبار، ويلهو مع الصغار". وكان يطلب إلى أسقف كل إقليم ورئيسه الإداري أن يبلغ الملك في هذه الاجتماعات عن كل حادثة هامة وقعت في إقليمه منذ الاجتماع السابق، ويضيف هنكمار إلى أقواله السابقة أن "الملك كان يرغب في أن يعرف هل الأهلون في أي ركن من أركان مملكته قلقون مستاءون، وما سبب قلقهم واستيائهم"(22). وكان عمال الملك يواصلون نظام الاستعلامات الرومانية القديمة فيستدعون إليهم كبار المواطنين ويطلبون إليهم أن "يعطوا بيانات صحيحة"، معززة بالإيمان عما في الإقليم الذي يزورونه من أملاك ترفض عليها الضرائب، وعن حالة النظام في هذا الإقليم وعما يقع فيه من الجرائم أو من فيه من المجرمين. وكانت شهادة جماعة الباحثين الذين يقسمون الإيمان تستخدم في أرض الفرنجة في القرن العاشر للفصل في كثير من المشاكل المحلية الخاصة بالأملاك العقارية أو الجرائم. وقد نشأ من هذه الجماعات، بعد تطورها على يد النورمان والإنجليز، نظام المحلفين القائم في هذه الأيام.

وكانت الدولة مقسمة إلى مقاطعات يحكم كل مقاطعة في الشئون الروحية أسقف أو كبير أساقفة، وفي الشئون الدنيوية قومس (رفيق للملك أو كونت. وكانت جمعية محلية من الملاك تجتمع مرتين أو ثلاث مرات كل سنة في عاصمة كل مقاطعة لتبدي رأيها في حكومة الإقليم وتكون بمثابة محكمة استئناف فيه. وكان للمقاطعات الواقعة على الحدود المعرضة للخطر حكام من طراز خاص يسمونهم گراف أو مارگرفڤ، أو مرخرزوج، فكان رولان المرسستفالي مثلاً حاكم مقاطعة برتن وكانت كل الإدارات المحلية خاضعة لسلطان "مبعوثي السيد" - الذين يرسلهم شارلمان يحملون رغباته للموظفين المحليين، ويطلعون على أعمالهم، وأحكامهم، وحساباتهم، ويمنعون الربا، والاغتصاب، والمحاباة، واستغلال النفوذ، ويتلقون الشكاوي، ويردون المظالم، ويحمون "الكنيسة، والفقراء، والذين تحت الوصاية، والشعب أجمع" من سوء استعمال السلطة أو الاستبداد، وأن يعرفوا الملك بأحوال مملكته. وكان العهد الذي عين بمقتضاه هؤلاء المبعوثون بمثابة عهد أعظم للشعب وضع قبل أن يوضع العهد الأعظم لحماية أشراف إنجلترا بأربعة قرون. ومما يدل على أن هذا العهد كان يقصد به ما جاء فيه ما حدث لدوق إستريا، إذ اتهمه المبعوثون بارتكاب عدة مظالم، واغتصاب الأموال، فأرغمه الملك على أن يرد ما اختلسه، وأن يعوض كل مظلوم عما وقع عليه من ظلم، ويعترف علناً بجرائمه، ويقدم الضمانات التي تمنعه من تكرارها. وإذا ما غضضنا النظر عن حروب شارلمان كان هو أعدل الحكام الذين عرفتهم أوربا منذ عهد ثيودريك القوطي وأكثرهم استنارة.

وتعد القوانين الست والخمسون الباقية من تشريعات شارلمان من أكثر المجموعات القانونية طرافة في العصور الوسطى. فهي لا تكون مجموعة منتظمة، بل هي توسيع القوانين "الهمجية" الأقدم منها عهداً وتطبيقاً على الظروف والمطالب الجديدة. ولقد كانت في بعض تفاصيلها أقل استنارة من قوانين ليوتبراند اللمباردي: فقد أبقت على عادات الكفارة عن الجرائم الكبرى، والتحكم الإلهي، والمحاكمة بالاقتتال، والعقاب ببتر الأعضاء، وحكمت بالإعدام على من يرتد إلى الوثنية، أو من يأكل اللحم في أيام الصوم الكبير-وإن كان يسمح لرجال الدين أن يخففوا هذه العقوبة الأخيرة. ولم تكن هذه كلها قوانين، بل منها ما كان فتاوي، ومنها ما كان أسئلة موجهة من شارلمان إلى موظفيه، ومنها ما هو نصائح أخلاقية. وقد جاء في إحدى المواد: "يجب على كل إنسان أن يعمل بكل ما لديه من قوة وكفاية لخدمة الله وإتباع أوامره، لأن الإمبراطور لا يستطيع أن يراقب كل إنسان في أخلاقه الخاصة". وحاولت بعض المواد أن تقيم العلاقات الجنسية والزوجية بين أفراد الشعب على قواعد أكثر نظاماً مما كانت قبل، على أن الناس لم يطيعوا هذه النصائح كلها؛ ولكن القوانين والنصائح في مجموعها تنم عن جهود صادقة لتحويل الهمجية إلى حضارة. وشرع شارلمان للزراعة، والصناعة، والشئون المالية، والتعليم، والدين، كما شرع لشئون الحكم والأخلاق. وكان حكمه في فترة انحطت فيها الحالة الاقتصادية في جنوبي فرنسا وإيطاليا إلى الحضيض من جراء سيطرة المسلمين على البحر المتوسط. وفي هذا يقول ابن خلدون إن المسيحيين لم يكن في وسعهم أن يسيروا لوحاً فوق البحر، وكانت العلاقات التجارية بأجمعها بين غربي أوربا وأفريقية وشرقي البحر المتوسط غاية في الاضطراب. وكان اليهود وحدهم هم الذين يربطون النصفين المتعاديين من البلاد التي كانت أيام حكم روما عالماً اقتصادياً موحداً. وبقيت التجارة قائمة في أوربا الخاضعة لحكم الصقالبة وبيزنطية، وفي شمالها التيوتوني. وكذلك كانت القناة الإنجليزية وكان بحر الشمال يموجان بالمتاجر، ولكن هذه التجارة الأخيرة أيضاً اضطربت أحوالها قبل موت شارلمان، وقد أوقعتها في هذا الاضطراب غارات أهل الشمال وقرصنتهم. وكاد أهل الشمال يغلقون ثغور فرنسا الشمالية، والمسلمون يغلقون ثغورها الجنوبية، حتى أضحت لهذا السبب جزيرة منفصلة عن العالم، وبلداً زراعياً، واضمحلت فيها طبقة التجار الوسطى، فلم تبق هناك طبقة تنافس كبار الملاك في الريف؛ وكان مما ساعد على قيام نظام الإقطاع في فرنسا هبات شارلمان للأراضي وانتصار الإسلام. وبذل شارلمان جهوداً جبارة لحماية الفلاحين الأحرار من نظام رقيق الأرض الآخذ في الانتشار. ولكن قوة الأشراف والظروف القاهرة المحيطة به أحبطت جهوده. وحتى الاسترقاق نفسه اتسع نطاقه وقتاً ما نتيجة لحروب الكارولنجيين ضد القبائل الوثنية. وكانت أهم موارد الملك مزارعه الخاصة التي كانت مساحتها تتسع من حين إلى حين نتيجة المصادرة، والهبات، وعودة بعض الأراضي إلى الملك ممن يموتون بغير ورثة، واستصلاح الأراضي البور. وقد أصدر للعناية بهذه الأراضي قانوناً زراعياً مفصلاً أعظم تفصيل يشهد بعنايته التامة في بحث جميع موارد الدولة ومصروفاتها. وكانت الغابات والأراضي البور، والطرق العامة، والمواني وجميع ما في الأرض من معادن ملكاً للدولة. وشجع ما بقي في البلاد من تجارة بكافة السبل ؛ فبسطت الدولة حمايتها على الأسواق، ووُضع نظام دقيق للموازين والمقاييس والأثمان، وجففت المكوس، ومُنعت المضاربات على المحاصيل قبل حصادها، وأنشئت الطرق والجسور أو أصلحت، وأنشئ جسر عظيم على نهر الرين عند مينز، وطهرت المسالك المائية لتبقى مفتوحة على الدوام، واختطت قناة تصل الرين بالدانوب حتى يتصل بحر الشمال بالبحر الأسود. وحافظت الدولة على ثبات النقد، ولكن قلة الذهب في فرنسا واضمحلال التجارة أدّيا إلى استبدال الجنيه الفضي بجنيه شارلمان المعروف باسم السوليدس.

وامتدت جهود الملك وعنايته إلى كل ناحية من نواحي الحياة، فأسمى الرياح الأربع بأسمائها التي تعرف بها الآن؛ ووضع نظاماً إعانة الفقراء، وفرض على النبلاء ورجال الدين ما يلزمه من المال لهذا المشروع، ثم حرم التسول وجعله جريمة يعاقب عليها القانون. وهاله انتشار الأمية في أيامه حتى لا يكاد أحد يعرف القراءة والكتابة غير رجال الدين، كما هاله انعدام التعليم بين الطبقات الدنيا من هذه الطائفة، فاستدعى علماء من الأجانب لإعادة مدارس فرنسا إلى سابق عهدها؛ فأغرى بولس الشماس على أن يأتي إليه من منتي كسينو، وألكوين من يورك (782)، ليعلما في المدرسة التي أنشأها شارلمان في القصر الملكي بآخن. وكان ألكوين هذا (735-804) رجلاً سكسونياً، ولد بالقرب من مدينة يورك، وتعلم في مدرسة الكتدرائية وهي المدرسة التي أنشأها الأسقف إجبرت في تلك المدينة، وقد كانت بريطانيا وأيرلندة في القرن الثامن متقدمتين من الناحية الثقافية عن فرنسا. ولما بعث أفا ملك مرسية ألكوين في بعثة إلى شارلمان ألح شارلمان على ألكوين أن يبقى عنده، وسر ألكوين أن يخرج من إنجلترا حين كان "الدنمرقيون يتلفون أرضها، ويدنسون الأديرة بما يرتكبونه فيها من الزنى"، فآثر البقاء، وبعث إلى إنجلترا وغيرها من البلاد في طلب الكتب والمعلمين، وسرعان ما أضحت مدرسة القصر مركزاً نشيطاً من مراكز الدرس، ومراجعة المخطوطات ونسخها، كما أضحت مركزاً لإصلاح نظم التربية إصلاحاً عم جميع المملكة. وكان من بين طلابها شارلمان نفسه، وزوجته ليوتجارد، وأولاده وابنته گيزلا Gisela، وأمين سره اجنهارد، وإحدى الراهبات، وكثيرون غيرهم، وكان أكثرهم شغفاً بالتعليم؛ فكان يحرص على العلم حرصه على تملك البلاد، يدرس البلاغة وعلوم الكلام، والهيئة؛ ويقول إجنهارد إنه بذل جهوداً جبارة ليتعلم الكتابة "وكان من عادته أن يحتفظ بالألواح تحت وسادته، حتى يستطيع في أوقات فراغه أن يمرن يده على رسم الحروف؛ ولكن جهوده هذه لم تلق إلا قليلاً من النجاح لأنه بدأ هذه الجهود في سني حياته". ودرس اللاتينية بنهم شديد، ولكنه ظل يتحدث بالألمانية مع أفراد حاشيته؛ وقد وضع كتاباً فينحو اللغة الألمانية وجمع نماذج من الشعر الألماني القديم.

ولما ألح ألكوين على شارلمان، وبعد أن قضي في مدرسة القصر ثمة سنين، أن ينقله إلى بيئة أكثر منها هدوءاً، عينه الملك على كره منه رئيساً لدير تور (796)؛ وهناك حشد ألكوين الرهبان لينقلوا نسخاً من الترجمة اللاتينية المتداولة للتوراة والإنجيل التي قام جيروم أحد آباء الكنيسة اللاتين، ومن الكتب اللاتينية القديمة، بحيث تكون أكثر دقة من النسخ المتداولة وقتئذ. وحذت الأديرة الأخرى حذو هذا الدير، وبفضل هذه الجهود كانت كثير من أحسن ما وصل إلينا من النصوص القديمة من مخطوطات هذه الأديرة في القرن التاسع الميلادي؛ وقد احتفظ لنا رهبان العصر الكارولنجي بما لدينا من الشعر اللاتيني كله تقريباً عدا شعر كاتلس، وتيبلس، وبروبرتيوس، وبما لدينا من النثر اللاتيني كله تقريباً ما عدا كتابات فارو، وتاستس وأبوليوس. وكانت كثير من المخطوطات الكارولنجية جميلة الزخرفة يزينها فن الرهبان وصبرهم الطويل،

وكان من آثار هذه الكتب المزخرفة التي أخرجتها مدرسة القصر أناجيل "فينا" التي كانت أباطرة ألمانيا المتأخرون يقسمون عليها أيمان تتويجهم.

الامبراطورية حتى معاهدة ڤردون (814–840)

لويس الورع على عملة ذهبية


الامبراطورية بعد معاهدة ڤردون (843–877)

الامبراطورية الكارولنجية بعد معاهدة ڤردون تقسيمات عام 843.
الامبراطورية الكارولنجية بعد معاهدة ميرسن

وأصدر شارلمان في عام 787 إلى جميع أساقفة فرنسا ورؤساء أديرتها "توجيهات لدراسة الآداب"، يلوم فيها رجال الدين على ما يستخدمونه من "اللغة الفظة" و "الألسنة غير المهذبة" ويحث كل كنيسة ودير على إنشاء مدارس يتعلم فيها رجال الدين على السواء القراءة والكتابة. ثم أصدر توجيهات أخرى في عام 789 يدعو فيها مديري هذه المدارس أن "يحرصوا على ألا يفرقوا بين أبناء رقيق الأرض وأبناء الأحرار، حتى يمكنهم أن يأتوا ويجلسوا على المقاعد نفسها ليدرسوا النحو، والموسيقى، والحساب". وفي عام 805 صدرت تعليمات أخرى تهيئ لهذه المدارس تعليم الطب، وتعليمات غيرها تندد بالخرافات الطبية. ومما يدلنا على أن أوامره لم تذهب أدراج الرياح كثرة ما أنشئ في فرنسا وألمانيا الغربية من مدارس في الكنائس والأديرة؛ فلقد أنشأ ثيودولف أسقف أورليان مدارس في كل أبرشية من أسقفيته، رحب فيها بجميع الأطفال على السواء، وحرم على القساوسة الذين يتولون التدريس أن يتناولوا أجوراً، وذلك أول مثل للتعليم العام المجاني في تاريخ كله. ونشأت مدارس هامة، متصلة كلها تقريباً بالأديرة، في خلال القرن التاسع في تور، وأوكسير، وبافيا، وسانت جول، وفلدا، وگنت وغيرها من المدن. وأراد شارلمان أن يوفر حاجة هذه المدارس إلى المعلمين، فاستقدم العلماء من أيرلندة، وبريطانيا، وإيطاليا، ومن هذه المدارس نشأت في المستقبل الجامعات الأوربية.

على أننا يجب أن لا نغالي في تقدير القيمة العقلية لذلك العهد. فلقد كان هذا البعث المدرسي أشبه بيقظة الأطفال منه بالنضوج الثقافي الذي كان قائماً وقتئذ في القسطنطينية، وبغداد، وقرطبة، فلم يثمر هذا البعث كتاباً كباراً من أي نوع كان. وكتابات ألكوين الشكلي مملة، مقبضة، خانقة؛ وليس فيها ما ينفي عنه تهمة التحذلق والتباهي بالعلم، وتدل على أنه إنسان لطيف يستطيع أن يوفق بين السعادة والتقي؛ وليس فيها ما يدل على هذا وينفي ذاك إلا بعض وسائله وأبيات من شعره. ولقد أنشأ كثير من الناس أشعاراً في أثناء هذه النهضة العلمية القصيرة الأجل، منها قصائد ثيودولف التي فيها قدر كاف من الجمال على طريقتها الضعيفة الخاصة بها. غير أن الأثر الأدبي الخالد الوحيد الذي خلفه ذلك العهد هو الترجمة المختصرة البسيطة لشارلمان التي كتبها اجنهارد. وهي تحذو حذو كتاب ستونيوس حياة القياصرة، بل الكتاب الأول ليقتطف بعض فقرات من الثاني يصف بها شارلمان. على أننا يجب أن نغفر كل شيء للمؤلف الذي يصف نفسه في تواضع جم بأنه "همجي، لا يعرف إلا قليلاً من لسان الرومان"، وما من شك رغم هذا الاعتراف في أنه رجل عظيم المواهب، لأن شارلمان عيّنَه أستاذاً اقصره، وخازناً لبيت ماله، واتخذه صديقاً مقرباً له، واختاره ليشرف على الكثير من العمائر في حكمه الإنساني العظيم، ولعله قد اختاره لتخطيطها.

وشيدت قصور للإمبراطور في أنجلهيم ونجمجين، وأقام في آخن عاصمته المحببة القصر والكنيسة الصغيرة الذائعي الصيت الذين تعرضا لأكثر من ألف من الأخطار وظلا قائمين حتى دمرتهما قنابل الحرب العالمية الثانية. وقد أقام المهندسون المجهولون تلك الكنيسة على نمط كنيسة سان فيتال برافنا وهي التي أقيمت على غرار الكنائس البيزنطية السورية؛ فكانت النتيجة أن وجدت كنيسة شرقية جانحة في الغرب. وقد أقيمت فوق البناء المثمن قبة مستديرة، وقسم البناء من الداخل عدة أقسام بطابقين من عمد مستديرة "وزينت بمصابيح من الذهب والفضة، وحظارٍ، وأبواب من البرونز المصمت، وأعمدة وبوارق جيء بها من روما ورافنا"، وينقش فسيفسائي ذائع الصيت في القبة.

وكان شارلمان سخياً غاية السخاء على الكنيسة، ولكنه مع هذا جعل نفسه سيدها، واتخذ من عقائدها ورجالها أدوات لتعليم الناس وحكمهم. وكانت كثرة رسائله متعلقة بشئون الدين، فكان يقذف الفاسدين من موظفيه والقساوسة الدنيويين بعبارات مقتبسة من الكتاب المقدس؛ وإن ما في أقواله من القوة لينفي عنه مظنة أن تقواه كانت خدعة سياسية. فقد كان يبعث بالمال إلى المسيحيين المنكوبين في البلاد الأجنبية، وكان يصر في مفاوضاته مع الحكام المسلمين على أن يراعوا العدالة في معاملة رعاياهم المسيحيين. وكان للأساقفة شأن كبير في مجالسه، وجمعياته، ونظامه الإداري، ولكنه كان ينظر إليهم، رغم احترامه الشديد لهم، على أنهم عماله بأمر الله، ولم يكن يتردد في أن يصدر أوامره لهم، حتى في المسائل المتعلقة بالعقائد أو الأخلاق. ولقد ندد بعبارة الصور و التماثيل حين كان البابوات يدافعون عنها، وطلب إلى كل قس أن يبعث إليه بوصف مكتوب لطريقة التعميد في أبرشيته، ولم تكن توجيهاته للبابوات أقل من هداياه لهم، وقضى على ما يحدث في الأديرة من تمرد، ووضع نظاماً للرقابة الصارمة على أديرة النساء ليمنع "الدعارة، والسكر، والشره" بين الراهبات. سأل القساوسة في أمر وجهه لهم عام 811 عما يقصدون بقولهم إنهم ينبذون العالم على حين "أننا نرى" بعضهم يكدحون يوماً بعد يوم بجميع الوسائل، ليزيدوا أملاكهم، فتارة يتخذون التهديد بالنار الأبدية وسيلة يستخدمونها لأغراضهم الخاصة، وتارة يعدون الناس بالنعيم السرمدي لهذه الأغراض نفسها، وطوراً يسلبون السذج أموالهم باسم الله أو اسم أحد القديسين، ويلحقون بذلك أعظم الضرر بورثتهم الشرعيين". على أنه رغم هذا قد أبقى لرجال الدين محاكمهم الخاصة، وأمر بأن يؤدي إلى الكنيسة عشر غلة الأرض، وجعل لرجال الدين الإشراف على شئون الزواج، والوصايا، وأوصى هو نفسه بثلثي ضياعه لأسقفيات مملكته(37)، ولكنه كان يطلب إلى الأساقفة بين الفينة والفينة أن يقدموا "هبات" قيمة لتساعد على الوفاء بنفقات الحكومة.

وقد أثمر هذا التعاون الوثيق بين الكنيسة والدولة فكرة من أجلّ الأفكار في تاريخ الحكم: ألا وهي استحالة دولة شارلمان إلى الإمبراطورية الرومانية المقدسة التي تستند إلى كل ما كان لروما الإمبراطورية والبابوية من هيبة، وقداسة، واستقرار. ولقد كان البابوات من زمن طويل يستنكرون خضوع أقاليمهم إلى بيزنطية التي لا تصد عنها غارة ولا تقر فيها أمناً، وكانوا يشاهدون خضوع البطارقة المتزايد إلى إمبراطور القسطنطينية ويخشون أن تضيع حريتهم هم أيضاً. ولسنا نعرف من الذي لاحت له فكرة تتويج شارلمان إمبراطوراً رومانياً على يد البابا أو منذا الذي وضع خطة هذا التتويج، وكل ما نعرفه أن ألكوين، وثيودولف وغيرهما من الملتفين حوله قد تناقشوا في إمكانه، ولعلهم هم الذين خطوا فيه الخطوة الأولى، أو لعل مستشاري البابا هم الذي فكروا في هذا الأمر. وقامت في سبيل تنفيذه صعاب شديدة: فقد كان إمبراطور الروم يلقب وقتئذ بلقب الإمبراطور الروماني، وكان أحق الناس من الوجهة التاريخية بذلك اللقب، ولم يكن للكنيسة حق معترف به في حمل الألقاب أو نقلها من شخص إلى آخر، ولربما كان منح اللقب لشخص منافس لبيزنطية سبباً في إشعال نار حرب عاجلة عوان بين المسيحيين في الشرق وإخوانهم في الغرب، حرب تترك أوربا المخربة غنيمة سهلة للفتوح الإسلامية. غير أن الأمر قد سيره بعض التيسير إن إيريني جلست على عرش أباطرة الروم (797)، فقد قال البعض وقتئذ إنه لم يعد هناك إمبراطور روماني، وإن الباب أصبح مفتوحاً لكل من يطالب باللقب، فإذا ما نفذت هذه الخطة الجريئة قام مرة أخرى إمبراطور روماني في الغرب، تقوى به المسيحية اللاتينية وتتوحد، فتستطيع مقاومة انشقاق بيزنطية وتهديد المسلمين ولعل ما في اللقب الإمبراطوري من رهبة وسحر يمكن أوربا الهمجية من أن تعود أدراجها خلال القرون المظلمة وترث حضارة العالم القديم وثقافته وتنشر المسيحية في ربوعه.

وحدث في السادس والعشرين من ديسمبر عام 795 أن اختير ليو الثالث بابا؛ ولم يكن شعب روما يحبه، وكان يتهمه بعدة فعال خبيثة، ثم هاجمه العامة في الخامس والعشرين من إبريل عام 799، وأساءوا معاملته، وسجنوه في دير. لكنه هرب من سجنه، وفر إلى شارلمان في بادربورن وطلب إليه أن يحميه. وأحسن الملك استقباله، وأعاده إلى رومة مع حرس مسلح، وأمر البابا ومتهميه أن يمثلوا أمامه في تلك المدينة في العام المقبل. ودخل شارلمان العاصمة القديمة بموكب فخم في الرابع والعشرين من نوفمبر عام 800، واجتمعت في أول ديسمبر جمعية من الفرنجة الرومان، واتفقت على إسقاط التهم الموجهة إلى ليو إذا ما أقسم يميناً مغلظة على أنه لم يرتكبها. وأقسم ليو اليمين وتهيأت السبيل إلى إقامة احتفال فخم بعيد الميلاد. فلما أقبل ذلك اليوم ركع شارلمان للصلاة أمام مذبح القديس بطرس بالعباءة اليونانية القصيرة والصندلين، وهما اللباس الذي كان يرتديه كبراء الرومان، ثم أخرج ليو على حين غفلة تاجاً مطعماً بالجواهر ووضعه على رأس الملك. ولعل المصلين كانوا قد علموا من قبل أن يفعلوا ما توجبه عليهم الشعائر القديمة التي يقوم بها كبراء الشعب الروماني لتأييد هذا التتويج، فنادوا ثلاث مرات: "ليحي شارل الأفخم، الذي توجه الله إمبراطوراً عظيماً للرومان لينشر بينهم السلام!". ومسح رأس الملك بالزيت المقدس، وحيا البابا شارلمان ونادى به إمبراطوراً وأغسطس، وتقدم إليهم بمراهم الولاء التي ظلت محتفظاً بها للإمبراطور الشرقي منذ عام 476.

وإذا جاز لنا أن نصدق اجنهارد، فإن شارلمان قد قال له إنه ما كان ليدخل الكنيسة لو أنه عرف أن ليو ينوي تتويجه إمبراطوراً. ولربما كان قد عرف الخطة بوجه عام، ولكنه لم يرض عن السرعة التي تمت بها والظروف المحيطة بها وقت إتمامها؛ ولعله لم يكن يسره أن يتلقى التاج من البابا، فيفتح بقبوله منه باباً للنزاع الذي دام قروناً طوالاً بين البابا والإمبراطور، وأيهما أعظم مكانة وأقوى سلطاناً: المعطي: أو آخذ العطية؛ ولعله فكر أيضاً فيما سوف يجره ذلك من نزاع مع بيزنطية في المستقبل. ثم أرسل شارلمان عدة رسائل وبعوث إلى القسطنطينية يريد بها أن يأسو الجرح الذي أحدثته هذه الفعلة، وظل زمناً طويلاً لا ينتفع بلقبه الجديد؛ حتى كان عام 802 فعرض الزواج على إيريني ليكون ذلك وسيلة يجعل بها لقبيهما المشكوك فيهما شرعيين(39)، ولكن سقوط إيريني عن عرشهما أفسد هذه الخطة اللطيفة. وأراد بعد ذلك أن يقلل من خطر هجوم بيزنطية عليه فوضع خطة لعقد اتفاق ودي مع هارون الرشيد، وقد أيد هارون ما نشأ بينهما من حسن التفاهم بأن أرسل إليه عدداً من الفيلة ومفاتيح الأماكن المقدسة في بيت المقدس. وردّ الإمبراطور الشرقي على ذلك بأن شجع أمير قرطبة على عدم الولاء لبغداد، وانتهى الأمر في عام 812 حين اعترف إمبراطور الروم بشارلمان إمبراطوراً نظير اعترافه بأن البندقية وإيطاليا الجنوبية من أملاك بيزنطية.

وكان لتتويج شارلمان نتائج دامت ألف عام، فقد قوى البابوية والأساقفة إذ جعل السلطة المدنية مستمدة من الهبة الكنسية، وأتاحت حوادث عام 800 لجريجوري السابع وإنوسنت الثالث أن يقيما على أساسها كنيسة أقوى من الكنيسة السابقة، وقوت شارلمان على البارونات الغضاب وغيرهم لأنها جعلته ولياً لله في أرضه، وأيدت أعظم التأييد نظرية حق الملوك الإلهي في الحكم، ووسعت الهوة بين الكنيسة اليونانية والكنيسة اللاتينية، لأن أولاهما لم تكن ترغب في الخضوع إلى كنيسة رومانية متحالفة مع إمبراطورية منافسة لبيزنطية. ولقد كان استمرار شارلمان في اتخاذ آخن لا روما عاصمة له شاهداً على انتقال السلطة السياسية من بلاد البحر المتوسط إلى أوربا الشمالية، ومن الشعوب اللاتينية إلى التيوتون. وأهم من هذا كله أن تتويج شارلمان أقام الإمبراطورية الرومانية المقدسة عملياً وإن لم يقمها من الوجهة النظرية. وكان شارلمان ومستشاروه يرون أن سلطته الجديدة إحياء للسلطة الإمبراطورية القديمة، على أن الصبغة الجديدة الخاصة بهذا النظام لم يعترف بها إلا في عهد أتو الأول، كما أنها لم تصبح "مقدسة" إلا حين ضم فردريك باربروسا لفظ مقدس إلى ألقابه في عام 1155. وجملة القول أن الإمبراطورية الرومانية المقدسة كانت-على الرغم من تهديدها للعقول والمواطنين-فكرة نبيلة، وحلماً من أحلام الأمن والسلام، وعودة للنظام والحضارة إلى عالم أنقذ من براثن الهمجية، والعنف، والجهل.

وأصبحت المراسيم الإمبراطورية تكتنف الإمبراطور في المهام الرسمية، فكان عليه أن يلبس أثواباً مزركشة، ذات مشبك ذهبي، وحذاءين مرصعين بالجواهر وتاجاً من الذهب والجوهر، وكان على زائريه أن يسجدوا أمامه لقبلوا قدمه أو ركبته، هذا ما أخذه شارلمان عن بيزنطية وما أخذته بيزنطية عن طيسفون. غير أن اجنهارد يؤكد لنا أن ثيابه-إذا استثنينا ما ذكرناه عنها آنفاً-لم تكن تختلف إلا قليلاً عن ثياب الفرنجة العادية: كانت تتألف من قميص من التيل، وسروال قصير لا شيء تحته، ومن فوق القميص والسروال القصير قناء من الصوف ربما كانت له أهداب من الحرير، وجورب طويل مربوط بشريطين يغطي ساقيه وحذاءين من الجلد في قدميه، وكان يضيف إليها في الشتاء معطفاً ضيقاً من جلود ثعلب الماء أو الفنك ، وكان يحتفظ بسيف إلى جانبه لا يفارقه أبداً. وكان طول قامته ست أقدام وأربع بوصات، وكانت بنيته تناسب مع هذا الطول. وكان أشقر الشعر، شفذ العينين ، أشم الأنف، له شاربان وليست له لحية "جليلاً مهيب الطلعة على الدوام". وكان معتدلاً في طعامه وشرابه، يمقت السكر أشد المقت، جيد الصحة على الدوام مهما تعرض لتقلبات الجو ومهما قاسي من الصعاب. وكثيراً ما كان يخرج للصيد أو يمارس ضروب الرياضة العنيفة على ظهور الخيل، وكان سبّاحاً ماهراً، يحب الاستحمام في عيون آخن الدفيئة. وقلّما كان يدعو الناس إلى الولائم، لأنه كان يفضل الاستماع إلى الموسيقى أو قراءة كتاب في أثناء الطعام. وكان يعرف قيمة الوقت كما يعرفها كل عظيم. وكان يستقبل زائريه ويستمع إلى قضاياهم في الصباح وهو يرتدي ثيابه أو يلبس حذائيه.

وكان من وراء مهابته وجلاله عاطفة قوية وهمة عالية، ولكنه كان يسخّر عاطفته وهمته لتحقيق أغراضه ويوجههما بذكائه وثاقب بصره. ولم تستنفد حروبه التي تربى على نصف المائة قوته وحيويته. وكان إلى هذا كله شديد العناية بالعلوم والقوانين، والآداب، وعلوم الدين لا تفتر حماسته لها على مر السنين، وكان يسوئه أن يبقى جزء من الأرض لم يستول عليه أو أي فرع من فروع العلم لم يضرب فيه بسهم. وكان شريف النفس من بعض الوجوه، وكان يزدري الخرافات، ويحرّم أعمال المتنبئين أو العرّافين، ولكنه صدّق كثيراً من الأعاجيب الأسطورية، وبالغ في مقدرة الشرائع على إصلاح أخلاق الناس وعقولهم. ولقد كان لهذه السذاجة النفسية بعض المحاسن: لقد كان في تفكيره وحديثه صراحة ونُبل قلَّما نراهما في رجال الحكم.

وكان يسعه أن يكون قاسياً إذا تطلبت سياسة الدولة القسوة، وأشد ما كانت قسوته فيما بذله من جهود لنشر الدين المسيحي، ولكنه مع هذا كان عظيم الرأفة، كثير الإحسان، وفياً مخلصاً لأصدقائه، ولقد بكى بالدمع عند وفاة أولاده، وبنته، والبابا هدريان. ويرسم لنا ثيودولف في قصيدة له عنوانها "حكم شارل" صورة لطيفة للإمبراطور في بيته، فيقول إنه إذا قدم من أعماله أحاط به أبناؤه، فيخلع عنه ابنه شارل عباءته، ويأخذ ابنه نويس سيفه، وتعانقه بناته الست، ويأتين له بالخبز، والخمر، والتفاح، والأزهار، ويدخل الأسقف ليبارك طعام الملك، ويقترب منه ألكوين ليبحث معه ما لديه من الرسائل، ويهرول إجنهارد الضئيل الجسم هنا وهناك كأنه نملة، ويأتيه بكتب ضخمة. وقد بلغ من حبه لبناته أن أقنعهن بعدم الزواج، وقال إنه لا يطيق فراقهن، ومن أجل هذا أخذن يواسين أنفسهن بالارتماء إلى أحضان العشاق وجئن بعدة أبناء غير شرعيين(42). وقد قابل شارلمان هذه الأعمال منهن بنفس سمحة، لأنه هو نفسه قد جرى على سنة أسلافه، فاتخذ له أربع أزواج واحدة بعد الأخرى، وأربع عشيقات أو حظايا. ذلك أن حيويته الموفورة جعلته شديد الإحساس بمفاتن النساء، وكانت نساؤه يؤثرن أن يكون للواحدة منهن نصيب منه على أن يكون لها رجل آخر بمفردها. وقد ولدت له نساؤه نحو ثمانية عشر من الأبناء والبنات منهم أربعة شرعيون. وغض من في حاشيته ومن في روما من رجال الدين أبصارهم عن تحلل رجل مسيحي مثله من قيود الأخلاق المسيحية.

وكان شارلمان وقتئذ على رأس دولة أعظم من الإمبراطورية البيزنطية لا يعلو عليها في عالم الرجل الأبيض إلا دولة الخلفاء العباسيين. ولكن كل توسع في حدود الإمبراطوريات أو العلوم يخلق مشاكل جديدة. فلقد حاولت أوربا الغربية أن تحمي نفسها من الألمان بإدماجهم في حضارتها؛ غير أن ألمانيا كان عليها في هذا الوقت أن تحمي نفسها من أهل الشمال ومن الصقالبة؛ وكان الملاحون من أهل الشمال قد أنشئوا لهم مملكة في جتلندة قبل عام 800 م وأخذوا يغيرون على سواحل فريزيا. وأسرع إليهم شارل من روما، وأنشأ الأساطيل والقلاع عند الشواطئ والأنهار، وأقام حاميات في الأماكن المعرضة للأخطار، ولما أغار ملك جتلندة على فريزيا عام 810 صُدَّ عنها، ولكن شارلمان هاله أن يشهد من قصره في نربونة بعد قليل من ذلك الوقت، إذا جاز لنا أن نصدق أخبار راهب سانت جول، سفن القراصنة الدنمرقيين في خليج ليون. ولعله قد تنبأ، كما تنبأ دقلديانوس من قبل، بأن إمبراطوريته الواسعة في حاجة إلى الدفاع السريع عنها في عدة مواضع في وقت واحد، فقسمها في عام 806 بين أولاده الثلاثة-بيبين، ولويس، وشارل. ولكن بيبن توفي عام 810، وشارل في عام 811، ولم يبق من هؤلاء الأبناء إلا لويس، وكان منهمكاً في العبادة انهماكا بدا معه أنه غير خليق بأن يحكم عالماً مليئاً بالاضطراب والغدر. غير أن لويس رغم هذا قد رفع باحتفال مهيب في عام 813 من ملك إلى إمبراطور ونطق المليك الشيخ قائلاً: "حمداً لله يا إلهي إذ أنعمت عليَّ بأن أرى بعين ولدي يجلس على عرشي".

وبعد أربع سنين من ذلك الوقت أصيب الملك الشيخ وهو يقضي الشتاء في آخن بحمى شديدة نتج عنها التهاب البلورة، وحاول أن يداوي نفسه بالاقتصار على السوائل، ولكنه توفي بعد سبعة أيام من بداية المرض بعد أن حكم سبعاً وأربعين سنة وعاش اثنتين وسبعين (814)، ودفن تحت قبة كتدرائية آخن، مرتدياً أثوابه الإمبراطورية. وما لبث العالم كله أن أسماه كارولس ماجنس أو كارل در جروس أو شارلمان (أي شارل العظيم)، ولما حل عام 1165 ومحا الزمان جميع ذكريات عشيقاته ضمته الكنيسة التي أحسن إليها الإحسان كله في زمرة الصالحين المنعمين.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

تراجع الامبراطورية (877–888)

كانت النهضة الكارولنجية فترة من فترات البطولة المتعددة في العصور المظلمة، ولولا ما اتصف به خلفاء شارلمان من عجز وما شجر بينهم من نزاع لكان من المستطاع أن تقضي هذه الفترات قبل مجيء أبلار بثلاثة قرون على ظلمات تلك العصور، وعلى فوضى بارونات الإقطاع. وعلى النزاع الذي قام بين الكنيسة والدولة ومزقها شر ممزق، وعلى غارات النورمان، والمجر، والمسلمين التي أدى إليها هذا النزاع الأخرق. لكن رجلاً بمفرده، وحياة بمفردها لم يكفيا لإقامة حضارة جديدة. يضاف إلى هذا أن تلك النهضة القصيرة الأجل كانت نهضة كنسية ضيقة أشد الضيق، فلم يكن للمواطن العادي فيها نصيب، وما أقل من كان يعني بها من النبلاء، وما أقل من كان منهم يشغل نفسه بتعلم القراءة. وما من شك في أن شارل نفسه ملوم إلى حد ما على انهيار دولته. فلقد أفاء على رجال الدين من الثراء ما جعل سلطان الأساقفة، بعد أن رفعت يده القوية عنهم، يرجح سلطان الإمبراطور؛ ولقد اضطرته أسباب حربية وإدارية أن يمنح المحاكم والبارونات في الأقاليم قدراً من الاستقلال شديد الخطورة. ثم إنه جعل مالية الحكومة الإمبراطورية ذات الأعباء الجسام تعتمد على ولاء هؤلاء الأشراف الغلاظ واستقامتهم، وعلى ما تدره أراضيه ومناجمه من إيراد غير كبير، ولم يكن في وسعه أن يعمل ما عمله أباطرة الروم فينشئ بيروقراطية من الموظفين المدنيين مسئولين أمام السلطة المركزية دون غيرها، وقادرين على النهوض بأعباء الحكم مهما تكن شخصية الإمبراطور وأتباعه، فلم يكد يمضي على وفاته جيل واحد حتى أقبل رسل الإمبراطور الذين بسطوا سلطانه في الولايات أو تجاهل الولاة وجودهم، وألقى الأعيان المحليون عن كاهلهم سلطان الحكومة المركزية. وملاك القول أن حكم شارلمان كان عملاً جليلاً من أعمال العباقرة يمثل الرقي السياسي في عصر وفي رقعة من الأرض يعمهما الاضمحلال الاقتصادي.

وإن الألقاب التي أطلقها المعاصرون لخلفائه عليهم لتكفي وحدها لأن تقص علينا قصتهم: لويس التقي، وشارل الأصلع، ولويس المتلعثم وشارل البدين، وشارل الساذج. فأما لويس "التقي" (814-840) فكان كأبيه طويل القامة، بهي الطلعة؛ وكان متواضعاً، رقيق الحاشية، خيّراً كريماً، مفرطاً في اللين إفراط يوليوس قيصر. وكان قد تربى على أيدي القساوسة فجعلته هذه التربية شديد الاهتمام بالمبادئ الأخلاقية التي كان يزاولها شارلمان باعتدال.من ذلك أنه لم تكن له إلا زوج واحدة ولم يكن له قط حظايا، وأنه طرد من حاشيته عشيقات أبيه وعشاق أخواته، ولما احتجت أخواته، ولما احتجت أخواته على عمله هذا حبسهن في أديرة الراهبات. وأرغم القساوسة على أن يعملوا بأقوالهم، وأمر الرهبان أن يحيوا الحياة التي توجبها عليها قواعد البنكتين، وحاول أن يقضي على المظالم والاستغلال أينما وجدا، وأن يصلح ما كان فاسداً من قبل. وقد أعجب الناس به لانحيازه إلى الضعفاء على الأقوياء في جميع الأحوال.

وأحس لويس أن عادت الفرنجة توجب عليهم تقسيم دولته فقسمها إلى ممالك يحكمها أبناؤه-بيبن، ولوثير ، ولويس "الألماني" (وسنسميه لدفج فيما بعد). وقد رزق لويس من يوديت زوجته الثانية ابناً رابعاً يعرف في التاريخ باسم شارل الأصلع؛ وكان لويس يحبه حباً لا يكاد يقل عن افتتان الأجداد بأحفادهم، ويريد أن يعطيه قسطاً من إمبراطوريته بعد أن يلغي التقسيم الذي عمله في عام 817، لكن أولاده الثلاثة الكبار عارضوا في هذا وشنوا على أبيهم حرباً داخية دامت ثمانية أعوام. وأيدت كثرة النبلاء ورجال الدين هذه الفتنة، ثم خرجت عليه القلة التي ظلت موالية له عندما تأزمت الأحوال في رُثفلد (القريبة من كلمار) والتي عرفت فيما بعد باسم لوجنفلد أي ميدان الأكاذيب. فلما رأى ذلك لويس أمر من بقي من أنصاره أن يتركوه وشأنه وأن يهتموا بحماية أنفسهم، ثم استسلم لأبنائه (833)، فلما تم لهم ذلك سجنوا يوديث وجزوا شعرها، وأودعوا شارل الصغير في دير، وأمروا أباهم أن ينزل عن العرش وأن يكفر علناً عما فعل، وجيء بلويس إلى كنيسة بسواسون يحيط به ثلاثون أسقفاً، وأرغم في حضرة لوثير ابنه وخلفه على أن يخلع ملابسه حتى وسطه، وأن يسجد على قطعة من نسيج الشعر ويقرأ جهرة اعترافاً بجريمته. ثم لبس مسوح الندم الرمادية اللون، وقضى سنة في أحد الأديرة. وحكمت فرنسا من تلك اللحظة أسقفية موحدة قامت بين الأسرة الكارلنجية المتفككة.

واشمأز الشعب من سوء معاملة لوثير لأبيه لويس؛ واستجاب كثيرون من النبلاء وبعض رجال الدين لنداء يوديث حين طالبت بإلغاء قرار الخلع، ودب النزاع بين الأخوة الثلاثة، وأطلق بيبين ولدفج أباهما، وأجلساه على عرشه، وأعادا يوديث وشارل إلى أحضانه (834). ولم يثأر لويس لنفسه، بل عفا عن كل من أساءوا إليه. ولما مات بيبين (838) قسمت الدولة تقسيماً جديداً لم يرض عنه لدفج، وهجم على سكسونيا، ونزل الإمبراطور الشيخ مرة أخرى إلى ميدان القتال، وصد المهاجمين، ولكنه مرض من تعرضه لتقلبات الجو وهو عائد من الميدان، وتوفي بالقرب من إنجلهايم (840). وكان من آخر الألفاظ التي نطق بها رسالة يصفح بها لدفج، ويدعو لوثير، وقد أصبح إمبراطوراً، أن يحمي يوديث وشارل.

وحاول لوثير أن ينزل شارل ولدفج منزلة الأتباع، ولكنهما هزماه عند فنتناي (841)، وأقسما عند استراسبرج يمين الولاء المتبادلة المشهرة بأنها أقدم وثيقة كتبت باللغة الفرنسية.لكنهما وقعا مع لوثير في عام 843 معاهدة فردون، وقسموا فيما بينهم إمبراطورية شارلمان أقساماً ثلاثة تنطبق بوجه التقريب على إيطاليا، وألمانيا، وفرنسا الحالية. فاختص لدفج بالأراضي المحصورة بين نهري الرين والإلب، واختص شارل بالجزء الأكبر من فرنسا وبولايات الحدود الأسبانية، وأعطى لوثير إيطاليا والأراضي المحصورة بين الرين شرقاً، والشلد ، والساءون والرون غرباً. وسميت هذه الأراضي الغير متجانسة، والممتدة من هواندة إلى بروفانس باسم لوثير-فكانت أرض بوثير، أو لوئرنجيا. أو لوثرنجار، أو لورين. ولم تكن ذات وحدة جنسية أو لغوية، فكان لا بد أن تصبح ميداناً للقتال بين ألمانيا وفرنسا. وكثيراً ما استبدلت سيداً يسيد فيما تقلب عليها من نصر وهزيمة أريقت فيهما الدماء أنهاراً. وفي خلال هذه الحروب الداخلية الكثيرة الأكلاف، والتي أضعفت الحكومة، وأنقصت السكان، والثروة، والروح المعنوية في أوربا الغربية، غزت القبائل الإسكنديناوية في سعيها إلى التوسع وبسط السلطان بلاد فرنسا فاكتسحتها بموجة همجية واصلت وأنمت الخراب والذعر اللذين جاءا في أعقاب الهجرات الألمانية قبل ذلك الوقت بثلاثة قرون. فبينما كان أهل السويد يتسربون إلى الروسيا والنرويجيون يضعون أقدامهم في أيرلندة، والدنمرقيون يفتحون إنجلترا، كان خليط من أهل إسكنديناوة، في وسعنا أن نسميهم الشماليين أو أهل الشمال، يغيرون على مدائن فرنسا القائمة على شواطئ البحار أو ضفاف الأنهار. واستحالت هذه الغارات بعد موت لويس التقي حملات قوية تقوم بها أساطيل مؤلفة من أكثر من مائة سفينة، يسيرها ملاحون محاربون. وقاست فرنسا في القرنين التاسع والعاشر سبعاً وأربعين من هذه الهجمات الشمالية؛ ونهب المغيرون في عام 840 مدينة رون، وبدءوا مائة عام من الهجمات على نورماندي، وفي عام 843 دخلوا مدينة نانت وذبحوا أسقفها وهو قائم للصلاة أمام مذبحه، وفي عام 844 صعدوا في نهر الجارون إلى طلوشة. وفي عام 845 صعدوا في نهر السين إلى باريس، ولكنهم تركوا المدينة وشأنها بعد أن أخذوا جزية مقدارها سبعة آلاف رطل من الفضة.

وبينا كان المسلمون يهاجمون روما استولى أهل الشمال على فريزيا في عام 846 وأحرقوا دوردرخت، ونهبوا ليموج. ثم حاصروا بوردو في عام 847، ولكنهم ردوا عنها وأعادوا الكرة عليها في عام 848، واستولوا عليها في هذه المرة، ونهبوها، وقتلوا أهلها، وأحرقوها عن آخرها. وفي العالم الذي تلاه وجهوا مثل هذه الضربات إلى بوفيه وبايو، وسانت لو، ومو، وإيفرو، وتور وفي وسعنا أن نصور ما حل بهذه البلاد من رعب إذا قلنا أن تور نهبت في أعوام 853، و856، و862، 872، و886، و903، 919، وإن باريس نهبت في عامي 856، و861، وأحرقت في عام 865. وجهز الأساقفة في أورليان وشارتر جيشين صدوا بهما المغيرين (855)؛ ولكن القراصنة الدنمرقيين خربوا أورليان في عام 856. وفي عام 859 اخترق أسطول شمال مضيق جبل طارق ودخل البحر المتوسط، ونهب المدن الواقعة على ضفاف الرون من مصبه حتى مدينة فالنس شمالاً، ثم عبر خليج جنوا، ونهب بيزا وغيرها من المدن الإيطالية. ولما قاومتهم قلاع النبلاء الحصينة في أماكن متفرقة في طريقهم نهبوا أو أتلفوا كنوز الكنائس والأديرة غير المحمية، وكثيراً ما أحرقوها بما فيها من مكتبات، ولم ينج القساوسة والرهبان من القتل في بعض الأحيان. وكان الناس في تلك الأيام الحالكة يدعون ربهم في صلواتهم قائلين: "اللهم أنقذنا من شر أهل الشمال"! وكأنما كان المسلمون على موعد مع الشماليين فاستولوا على قورسقة وسردينية في عام 810، ونهبوا ساحل الرفييرا الفرنسي في عام 820، وخربوا أرل في 842، واستولوا على ساحل فرنسا الواقع على البحر المتوسط وبقى في أيديهم حتى عام 972.

ترى ماذا كان يفعل الملوك والأشراف خلال هذه الأعوام الخمسين الملية بالتدمير والتخريب؟ فأما الأشراف فقد كان لديهم من المشاغل ما يكفيهم، ولم يكونوا يرغبون في أن يخفوا لمساعدة أقاليمهم، ولم يستجيبوا إلا استجابات ضعيفة لما وجه إليهم من نداء للعمل الإجماعي. وأما الملوك فكانوا في شغل شاغل بحروبهم في سبيل التملك أو الاستيلاء على تاج الإمبراطورية، وكانوا أحياناً يشجعون الساحليين في غاراتهم على سواحل منافسيهم. وحدث في عام 859 أن اتهم هنكمار كبير أساقفة ريمس شارل الأصلع علناً بالإهمال في الدفاع عن فرنسا. وخلف شارل فيما بين 877 و888 ملوك أكثر منه ضعفاً-لويس الثالث، وكارلومان، وشارل البدين. وتعاونت أحداث الزمان والمنايا فتوحدت مملكة شارلمان مرة أخرى تحت حكم شارل البدين، وأتيحت للإمبراطورية المحتضرة فرصة أخرى للدفاع عن حياتها. ولكن أهل الشمال استولوا على نجمين وأحرقوها في عام 880، واتخذوا من كورتراي وگنت قلاعاً لهم حصينة، وفي عام 881 أحرقوا لياج، وكولوني، وبن وبروم، وآخن؛ وفي 882 استولوا على تريير، وقتلوا كبير أساقفتها الذي قاد المدافعين عنها؛ وفي السنة نفسها استولوا على ريمس، وأرغموا هنكمار على أن يقاتل ويموت. وفي عام 883 استولوا على أمين، ولكنهم انسحبوا منها بعد أن أخذوا أثنى عشر ألف رطل من الفضة من كارلومان. وفي عام 885 استولوا على رون، وساروا في النهر صعداً إلى باريس في سبعمائة سفينة عليها ثلاثون ألف رجل. وقاد حاكم المدينة الكونت أودو أو أود، وأسقفها جزلان المدافعين عنها، وقاوموا المغيرين مقاومة باسلة. وظلت باريس مضروباً عليها الحصار ثلاثة عشر شهراً هاجم المدافعون عنها المحاصرين أثنى عشر مرة؛ وانتهى الأمر بأن أدى شارل البدين الشماليين 7000 رطل من الفضة بدل أن يخف لإنقاذ المدينة، وأذن لهم فوق ذلك أن يسيروا في نهر السين صعداً ويقضوا الشتاء في برغندية التي نهبوها نهباً ترتضيه نفوسهم.ثم خلع شارل وتوفي عام 888، وأختير أودو ملكاً على فرنسا، وصارت باريس بعد ثبت قيمتها من الوجهة الحربية الفنية مقر الحكومة.

وحمى شارل الساذج الذي خلف أودو على العرش (895-923) إقليم السين والساءون من المغيرين، ولكنه لم يرفع يده ضد غارات الشماليين على بقية فرنسا، ثم لم يكتف بهذا بل أسلم إلى رولف أو رلو أحد زعماء النورمان في عام 911 أقاليم رون، وليزيو، وإفرو. وكان النورمان قد استولوا عليها من قبل. ووافق النورمان على أن يؤدوا عنها للملك ما يؤديه أمراء الإقطاع عن أملاكهم، ولكنهم كانوا يسخرون منه وهم يقومون بمراسم الولاء التقليدية. وارتضى ليو أن يُعَمَّد، وحذا رجاله حذوه، ثم استقروا على مهل وأصبحوا زراعاً ومتحضرين. وهكذا بدأت نورمنديا بأن كانت ولاية في فرنسا فتحها أهل الشمال. ولقد وجد الملك الساذج حلاً لمشكلة باريس إن لم يكن لغيرها من المشاكل، ذلك أن النورمان أنفسهم سيصدون بعد ذلك الوقت من يحاولون دخول السين من المغيرين. أما في غير هذا الجزء من فرنسا فلم تنقطع غارات الشماليين، فنهبت تشارتر في عام 911، وأنجير في عام 919، ونهبت أكتين وأوفرني في عام 923، كما نهبت آرتوا وإقليم بوفيه في عام 924. وفي هذا الوقت نفسه تقريباً دخل المجر برغندية في عام 917 بعد أن خربوا جنوبي ألمانيا، واجتازوا الحدود الفرنسية، ثم اجتازوها راجعين دون أن يلقوا مقاومة، ونهبوا الأديرة القريبة من ريمس وسان وأحرقوها (937)، واخترقوا كأرجال الجراد الفتاك أكتين (951) وأحرقوا ضواحي كورتراي، وليون، وريمس (954)، ونهبوا برغندية على مهل. وأوشك صرح النظام الاجتماعي في فرنسا أن ينهار تحت هذه الضربات المتكررة التي كالها له الماليون والهون. وفي ذلك يقول أحد المجاميع الدينية المقدسة في عام 909.

لقد أقفرت المدن من السكان، وخربت الأديرة وحرقت، وأضحت البلاد في عزلة... وكما كان الناس الأولون يعيشون بغير قانون... فكذلك يفعل الآن كل إنسان ما يبدو حسناً في نظره غير آبه بالشرائع البشرية والدينية... فالأقوياء يظلمون الضعفاء، والعالم مليء بالعنف والقسوة على الفقراء، وأملاك الكنائس تنهب... ويلتهم الناس بعضهم بعضاً كما يفعل السمك في البحر. وكان آخر الملوك الكارولنجيين- لويس الرابع، ولوثير الرابع، ولويس الخامس ملوكاً حسني النية، ولكنهم لم يكن لهم من القوة ما لا بد منه قامة نظام دائم من ذلك الخراب الشامل. ولما مات لويس الخامس ولم يكن له أبناء (987)، بحث أعيان فرنسا ورجال الدين فيها عن زعيم لهم من أسرة أخرى غير الكارولنجيين، حتى وجدوا هذا الزعيم المنشود من نسل مركيز من نوستريا يحمل ذلك الاسم العظيم الدلالة وهو روبرت القوي (المتوفي عام 966). وكان أودو منقذ باريس ابن هذا المركيز؛ وكان هيو الأكبر أحد أجداده (المتوفي 956) قد حصل بالشراء أو الحرب على الإقليم المحصور بين نورمنديا، والسين، واللوار كله تقريباً وكان فيه أميراً إقطاعياً، واجتمع له فيه من الثروة والسلطان ما لم يجتمع للملوك. وورث هيو كابت ابن هيو هذا جميع تلك الثروة وذاك السلطان؛ وورث، كما يلوح، العزيمة التي كسبتهما. وعرض أدلبرو كبير الأساقفة، بإرشاد العالم الداهية جربرت، أن يكون هيو كابت ملكاً على فرنسا، فاختير لهذا المنصب بالإجماع (987) وبدأت بذلك الأسرة الكابتية التي حكمت ابناً أو أباً أو حكم فروعها مملكة فرنسا إلى عهد الثورة الكبرى.

تقسيمات الامبراطورية الكارولنجية 887

تم تقسيم الامبراطورية الكارولنجية: فاحتفظ أرنولف ضمن فرنسيا الشرقية بكل من كارنثيا، باڤاريا، اللورين وألمانيا الحديثة؛ بينما اُنتُخب الكونت اودو من پاريس ملكاً على فرنسيا الغربية (فرنسا)، وأصبح رانولف الثاني ملكاً على أكيتين؛ وذهبت إيطاليا لصالح برنگار من فريولي، برگنديا العليا إلى رودلف الأول، وبرگنديا السفلى إلى لويس الأعمى، ابن بوسو من آرل، ملك برگنديا السفلى والحفيد (من ناحية الابنة) للامبراطور لويس الثاني. الأجزاء الأخرى من لوثارنگيا أصبحت دوقية برگنديا.[4]

العسكرية

الحكومة

انظر أيضاً


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

المصادر

  1. ^ "Carolingian Empire". A Dictionary of World History. Retrieved 2008-04-07.
  2. ^ http://books.google.dk/books?id=ZK3bdq6ihM8C&pg=PA50&lpg=PA50&dq=carolingian+empire+in+km2&source=bl&ots=vaaIwKIVTX&sig=GPLTXog-YNfRL5vYwuxldYN8esE&hl=da&sa=X&ei=hvW3UOa6OcqM4gT_n4CwCQ&ved=0CD8Q6AEwAw#v=onepage&q=carolingian%20empire%20in%20km2&f=false
  3. ^ ديورانت, ول; ديورانت, أرييل. قصة الحضارة. ترجمة بقيادة زكي نجيب محمود.
  4. ^ Simon MacLean, Kingship and Politics in the Late Ninth Century: Charles the Fat and the End of the Carolingian Empire, Cambridge University Press, 2003 ISBN 978-0-521-81945-9