إمارة البطيحة

إمارة البطيحة (338-388 هـ/949 - 998م) في الأهوار (التي تسمى أيضاً "البطائح") جنوب العراق ظهرت لأسباب سياسية، وأسباب تتعلق بمنعة المنطقة، ونتيجة لصراعات داخلية كبيرة كانت تنخر جسد الدولة العباسية، ظهرت وعاشت نحو نصف قرن، فأصبحت ملجأ الفارين من السلطات، ومركزاً مهما يمثل النزعة المحلية العراقية التي تحتمي بقوة الطبيعة، وقدرتها على فرض متغيرات تاريخية خاصة.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

تاريخ الأهوار

ظلت الأهوار، قديمًا وحديثًا، ملجأ آمنًا للمغضوب عليهم من السلطات، أمن مَنْ استجار بقصبها وبرديها. يخبرنا التاريخ القديم بمطاردة الملك الآشوري سنحاريب الذين لجؤوا إلى الأهوار وتحصنوا فيها، وتظهر إحدى التحف الفنية جنود آشور وهم يركبون الزوارق (السيمريات) يشقون فيها غابات القصب والبردي.

غير أن أخطر اللاجئين إلى الأهوار كان عمران بن شاهين، وقصته في "صلة تاريخ الطبري"، السنة 338هـ، أنه هرب من أمير واسط، "أقام بين القصب يصيد السمك، ثم تلصّص، واجتمع معه جماعة من الصيادين". خلاف ما قيل لمسكويه في ابن شاهين رأي آخر: "طلبه الملوك والخلفاء وبذلوا الجهد في أخذه، واعملوا الحيل أربعين سنة، فلم يقدرّهم الله عليه، ومات حتف أنفه، بعد أن أذل الجبابرة، وأرباب الدول، وطواهم أولاً بأول"( ). من اللاجئين أيضاً ذكر الطبري في أحداث السنة 90هـ الأمير الأموي يزيد بن المهلب، "بعد هروبه من سجن الحجاج إلى البطائح ثم السماوة".

كان من أبرز اللاجئين إلى الأهوار الخليفة القادر العباسي، قبل أن يتولى الخلافة، هاربًا من تربص الطائع بالله به. ذكر ابن الأثير خبره في «الكامل في التاريخ»: «خرج من داره واستتر ثم سار إلى البطيحة (...) وكانت مدة إقامته سنتين وأحد عشر شهرًا». والقاضي أبو علي المحسن التنوخي (ت384هـ) الذي روى قصته بالقول: «كان لي في هذا الحديث، خبر طريف، وذلك أني كنت لجأتُ إلى البطيحة، هاربًا من نكبة لحقتني (...) فلقيتُ هناك جماعة من معارفي، بالبصرة وواسط، خائفين على نفوسهم، قد هربوا من ابن بقية، الذي كان في ذلك الوقت وزيرًا (عند البويهيين)، ولجؤوا إلى البطيحة»

كذلك كانت الأهوار مسرحًا للمعارك بين الخلافة العباسية وزنج البصرة، جاء في يوميات الثورة (تاريخ الطبري السنة 262هـ): «توجه رجال الزنج إلى البطيحة ودست ميسان. جاء في أحداث سنة 268هـ »وجه «صاحب الزنج» إلى البطيحة رجلين من أهل قرية بسمى، يعرف أحدهما الرَّيان والآخر الخليل، كانا يقيمان بمعسكر الخبيث (قائد ثورة الزنج حسب تسمية الطبري له)، فنهض الخليل والرَّيان وجمعا جماعة من أهل الطف وأتيا قرية بسمى، فأقاما بها يحملان السمك من البطيحة أولاً إلى معسكر الخبيث بالزواريق الصغار التي تسلك الأنهار الضيقة.

وفي أحداث سنة 258هـ ذكر الطبري وصول ثوار الزنج إلى «بطيحة الصحناة (لعلها الصحين حاليًا بميسان)». في حدود الحدث ورد استطلاع استخباري: «كتب الجبائي (رجل من جُبى البصرية) إلى قائد الزنج يخبره بأن البطيحة خالية من رجال السلطان». وصف ابن رستة (ت290هـ) في «الأعلاق النفيسة» بيئة الهور وكأنها اليوم: «يحمل بعض ما فيها من الزواريق، فتمر في شبه أزقة تصل بين الأهوار، وبين هذه الأزقة مواضع متخذة من قصب عليها أكواخ من قصب يكتنون بها من البق، وفيها مسالح (مفارز مسلحة) يعمل رجالها على تطهير المجرى وحماية الملاحين، لأن البطائح مكامن طبيعية».

ففي العهد العثماني لجأ إليها حسين باشا، من أسرة أفراسياب، بعد عزله وتعيين ولده أميراً على البصرة بدلاً عنه، وقد طاردته القوات القادمة من بغداد بقيادة وزير العراق حتى دخلت الجيوش العثمانية الأهوار منطقة الجبايش 1668م بحثاً عن الباشا المتمرد، ورد في الخبر: في دار بني أسد أصطدم الجيش وثلة مؤلفة من خمسة آلاف مقاتل من أتباع حسين المدججين بالسلاح فكسرت شر كسرة، وكابدت خسائر فادحة بعد قتال دام عدة ساعات. فتفرق رجال القبائل بمشاحيفهم بين آجام البردي العالية في الهور، وشيد قره مصطفى منارة من رؤوس قتلى العدو تشديداً لعزم رجاله". من أخبار تسعينيات القرن التاسع عشر أن عاقب قائد الخيالة بالعراق كاظم باشا -أخو زوجة السلطان عبد الحميد-شيوخ الأهوار مثل شيخ آل بو محمد صيهود، وشيخ بني أسد حسن الخيُّون إلى مناطق أخرى. غابت هذه الرواية منارة الرؤوس الصادرة من المفتش الإداري في الحكومة العراقية آنذاك عن أنظار الذين كتبوا عن العهد العثماني برومانسية، من الذين جعلوا بناية السراي وبعض أعمال مدحت باشا، وجادة خليل باشا (شارع الرشيد) مفخرة تركية.

اشتهرت من سكان البطائح وسلالاتهم شخصيات عراقية وعربية واسلامية مرموقة برزت على المسرح السياسي والديني لم تنس على مر الايام لما لعبته من دور بارز خلدها ولما تركته من أرث اسلامي ووطني فالزعيم المصري المعروف أحمد عرابي الذي يؤرخ سلالته في مقال كتبه عن سيرته الذاتية أعيد نشره في مجلة الهلال المصرية يقول فيه: (ولدت في 7 صفر عام 1257هـ من أبوين شريفين من ذرية العارف بالله السيد صالح البلاسي البطائحي بالعراق ومقام والدي محمد عرابي بن السيد محمد والي بن السيد محمد غنيم بن السيد ابراهيم بن السيد عبد الله إلى آخر شجرة السلالة المدفون في قرية فاقوس بمديرية الشرقية بمصر هو أول من قدم إلى بلاد مصر من بلاد البطائح في أواسط القرن السابع للهجرة وهو من ذرية الإمام علي الرضا بن الإمام موسى الكاظم من سلالة الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب) عليهم السلام.

ويذكر الزركلي: ان الزعيم المصري أحمد عرابي الذي ولد في مصر أنه من قبيلة المحامدة انتقل جدهم (صالح البلاسي) نسبة إلى بلاس وهي قرية من قرى بطائح جنوب العراق من قرى مدينة (المدّينة) من نواحي البصرة وعشيرة المحامدة لاتزال تسكن منطقة شط العرب وناحية التنومة وكردلان (حامد البازي).

الشخصية الاسلامية الثانية هو السيد أحمد الرفاعي المولود في قرية أم عبيدة وهي من قرى البطائح سكنها أحمد الرفاعي ودفن فيها. لايزال مرقده معروفا عامرا يزار. كان والد أحمد الرفاعي قد نزل البطائح جنوب العراق بقرية أم عبيدة فتزوج بأخت الشيخ منصور الزاهد فولد له الشيخ أحمد في سنة 500 هـ وتفقه على مذهب الشافعي ومن ذريته آل النقيب في البصرة برز منهم في المئة الثانية بعد الألف السيد مهدي الرفاعي نقيب أشراف البصرة والسيد طالب باشا النقيب بن رجب بن السيد محمد سعيد بن طالب بن درويش الشخصية البصرية الوطنية المرموقة نقيب البصرة. وتنتسب هذه العائلة إلى أخي السيد أحمد بن علي بن يحيى الرفاعي الكبير (1118-1182م) صاحب الطريقة الرفاعية المتصل نسبه بالإمام الحسين بن علي بن أبي طالب ومنهم طائفة كبيرة جدا تسكن راوة غرب العراق (البصرة ذات الوشاحين).

ومن الشخصيات التي برزت على المسرح السياسي عام (956هـ) (1549م) شخصية علي بن عليان كبير مشايخ الجزائر بصفته زعيما للثوار على اثر الاجراءات التعسفية التي اتخذها العثمانيون (موسوعة البصرة الحضارية).

وقد حاول الاتراك السيطرة على منطقة الجزائر والقضاء على زعامة آل عليان ودخلوا من اجل ذلك في حروب متواصلة (العراق بين الاحتلالين العثمانيين). الشخصية السياسية الاخرى شخصية عمران بن شاهين الخفاجي الذي قلده معز الدولة عام 339هـ- 951م امارة البطائح بعد ان غلب على تلك النواحي وعجز الجيوش التي سيرها معز الدولة البويهي منذ عام 338هـ- 949م بالقضاء عليه (ابن الأثير ومسكويه) وقد حاول معز الدولة أن يخضع عمران عدة مرات دون جدوى، كان اخرها سنة 356هـ الا انه توفي قبل ذلك، وقد عقد خلفه بختيار البويهي سلما جديدا مع عمران وبهذا استمر نفوذ عمران في منطقة البطيحة لاكثر من عشرين عاما وتعتبر حركته رمزا للمقاومة العراقية ضد التسلط البويهي.

كانت الاهوار منحدراً لعائلات أدبية وعلمية بالعراق مثل الشبيبيان محمد رضا ومحمد باقر وآل الشرقي وعالم الفيزياء عبد الجبار عبد الله وغيرهم الكثير. أخيراً يختصر صاحب "معجم البلدان" مهام الأهوار في مقارعة الأنظمة بقوله: "تغلب عليها في أوائل أيام آل بويه أقوام من أهلها، وتحصنوا بالمياه والسفن، وجارت تلك الأرض عن طاعة السلطان، وصارت تلك المياه لهم كالمعاقل الحصينة".[1]


حكامها

الهامش

  1. ^ حيدر شامان الصافي (2008-04-05). "الأهوار (( البطائح )) الملاذ الآمن". جامعة ذي قار.