حصار سلسترة

حصار سلسترة
جزء من حرب القرم
Victorious sally by the Turkish garrison of Silistria.jpg
Victorious sally by the Turkish garrison of Silistria
التاريخمارس-يونيو 1854
الموقع
النتيجة نصر عثماني حاسم
المتحاربون
الدولة العثمانية Ottoman Empire الإمبراطورية الروسية الامبراطورية الروسية
القادة والزعماء
موسى خلوصي پاشا
عمر لطفي پاشا
Field Marshal Ivan Paskevich
MD Gorchakov
القوى
18,000[1] 90,000
266 cannons[1]
الضحايا والخسائر
Musa Hulusi Pasha(KIA)[2]
68 killed
121 wounded[2]
General Selvan(KIA)[2]
General Schilder(KIA)[3]
10,000 killed & wounded[4]

حصار سلسترة Siege of Silistra حدث في حرب القرم. In this action, Russian forces besieged the Ottoman fortress town of Silistra. While initially successful, the Russians were forced after several weeks to abandon the siege and retreat.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الخلفية

القوات العثمانية المدافعة عن سلستريا 1853-4
مسقط رأسي للتحصين مع استحكاماته.



حصار سلسترة واحتدام الحرب حولها

الطوبجية العثمانيون يستخدمون مدفع عيار 28 سم

من مايو سنة 1854 بدأ يندلع لسان الحرب فتقدم المارشال باسكيفتش إلى جبال سلسترة القائمة على نهر الدانوب ومعه 40 ألف جندي وحاصر حصن طابية العرب وأنذره بالتسليم وكان بهذا الحصن حامية مؤلفة من 18 ألف جندي بين أتراك ومصريين. فأجابه الجنرال التركي موسى خلوصي باشا قائد ذلك الحصن قائلاً: لقد تلقيت أنت أمراً بالاستيلاء على الحصن معما لاقيت في سبيل ذلك. وأنا لدي تعليمات تقضي بأن أدافع عنه مهما كلفني ذلك.

وشرع الروس تلقاء هذا الاباء في إشعال نار الحرب. وفي 20 مايو سنة 1854م شن الروس ثلاث غارات على الثلاثة الحصون المنفصلة التي في مدينة سلستره وهي طابية إيلاني وطابية أردو وطابية العرب وهذا الحصن الأخير كانت ترابط فيه جنود مصرية. وكانوا يعلقون أهمية كبرى على فتحه لمنع موقعه. وكن شكله أشبه شيء بمتراس أي تل مكون من التراب. وهذه الحصون واقعة على مسافة 2.000 متر أمام سلستره. وسلط الروس على الحصن الأخير مقذوفات 12 بطارية مكونة من 72 مدفعاً تضربه باستمرار ثم هاجموه ولكنهم فشلوا. وشنوا عليه الغارة مرة أخرى في الغد أي في 21 منه إلا أنهم دحرواً أيضاً في كل موضع. وبعد ذلك خرج لهم القائد موسى باشا من وراء هذا الحصن على رأسه حاميته خروجاً تكلل بالظفر والنجاح.

وفي 28 منه قام الروس بمحاولة جديدة أدهشت حامية الحصن برهة وتوصلوا بها إلى اجتياز الخندق، وأخذوا يتسلقون ساتر الحصن غير أن الحامية التي كانت مؤلفة من أربع أورط مصرية و500 أرناؤطي بقيادة حسين بك أميرالاي 10 جي بيادة المصري سبقت الأعداء إليه. وقبل أن يتمكنوا من الاستقرار ألقتهم في أسفل الخندق وذهب تحريض قسوسهم والحماس الديني الذي كانت تغلي مراجله في صدورهم في ذلك اليوم الذي كان يوم أحد، هباءاً منثوراً، إذ إندحروا في المرتين اللتين كروا فيهما في هذه المحاولة وتدهوروا في الخندق.

وجاء في الجريدة الإنجليزية (ذي اللستريتد لند نيوز) بعددها الصادر بتاريخ 24 يونيو سنة 1854م تحت عنوان "الحرب - حصار سلستره - تقهقر الروس" ما معربه:

كتبت صحيفة جورنال ده كنستانتينوبل" فصلاُ هاماً عن الهجوم الذي قام به الروس في ليلة 29 من الشه رالماضي (مايو) على التحصينات الأمامية التي في الجنوب الغربي من سلستره. فقد تألفت ثلاث فرق منهم للقيام بأعمال النسف والهدف يبلغ عدد جنود كل فرقة نحو 10.000 جندي وتالفت كذلك أورطة من المهندسين الحربيين معها أدوات ردم خنادق الطوابي وسلالم التسلق فوق جدرانها.

وقبل أن يبدأ الروس بالهجوم خطب الأمير باسكيفتش في صفوفهم وحثهم جميعأً على أن يبذلوا غاية جهدهم في مهاجمة الحصون واستيلائهم عليها. وأوعدهم إذا فشلوا في هذه المهمة بأنه سيمنع عنهم تعييناتهم. وبعد أن بث فيهم هذا الروح من التحريض والاقدام سارت فرقتان من الفرق الثلاث المذكورة نحو طابية العرب وطابية إيلاني. أما الفرقة الثالثة فكانت تعمل ما تعمله الفرق الاحتياطية.

وبعد أن أطلق الروس نيران مدافعهم الهائلة تقدموا لمهاجمة الحصون ولكن سرعان ما قابلتهم الجنود المصرية من داخلها بوابل من نيران بنادقهم الحامية محكم التصويب إلى الهدف. فظل الروس في أماكنهم ولم يتقدموا إلا تقدماً قليلاً لا يذكر.

والحق يقال أن المعاقل التي كانت بها الجنود المصرية صبت على الروس ناراً من القنابل والرصاص حامية السعير حتى لو كان الروس في ذاك الوقت من حديد لاستحال عليهم أن يقفوا أمام هذه النيران القوية المتواصلة. ولذا لم يجدوا بداً من التقهقر والرجوع.

وسرعان ما جمع القائد الروسي شتاتهم رغم تواصل إطلاق النار وعاد بصفوفهم إلى الهجوم والقتال بشدة فائقة حتى وصلت فرق الروس إلى القلاع وحاولوا الدخول إليها من فتحتها المعدة لأفواه المدافع.

ولما تمكنوا من تسلقلهم متراس إحدى البطاريات وقعت بينهم وبين الجنود المصرية معركة منتظمة تغلب فيها المصريون على الروس بفوز باهر ونصر عجيب ودهوروهم بأطراف بنادقهم في الخندق ففقدوا شجاعتهم بلا مراء. ثم عادوا إلى الهجوم ولكنهم كانوا في هذه المرة مجبرين من ضباطهم على ذلك فلم يكن لديهم بالمعنى الحرفي أي اقتدار على القتال فتقهقروا وحملوا معهم من قتلاهم وجرحاهم بقدر ما استطاعوا. وبعد تقهقرهم التقط المصريون من ساحة القتال 1.500 جثة من قتلى الروس وعدداً كبيراً من بنادقهم وسيوفهم وطبولهم وآلات موسيقاهم وعلم أورطة من أورطهم.

وقد أبدى حسين بك المصري أمير الآلاي 10 جي بيادة وقائد الحصنين السابقين في هذه الموقعة أعظم شجاعة كما أبدى مثل ذلك إثنان من الإنجليز وآخر من بروسيا. وكانت خسارة المصريين فيها 50 من القتلى وما يقارب هذا العدد من الجرحى.

وفقد القائد الروسي شلدرز في هذه الموقعة ساقه وحالته الآن في خطر لاسيما أنه طاعن في السن وعصبي المزاج. وأصيب الأمير جورتشاكوف بجرح بليغ كما اصيب القائد لودرز بجرح آخر ويقال إن صحته آخذة في التحسن. أما الكونت أورلوف وإن كان يدب فيه الروح فلا أمل في شفائه.

وجاء في الجريدة الإنجليزية ذي اللستريتد لند نيوز عن هذه الواقعة بعددها الصادر بتاريخ 8 يوليو سنة 1854م ما معربه:

بلا شك للهجوم الأكبر يوم 28 مايو وقد وصف اليوزباشي ناميث هذا الهجوم كما يأتي:

استيقظت يوم 28 مايو نحو الساعة الثالثة صباحاً على صوت اطلاق المدافع الشديد المزعج الذي استمر اليوم كله. وقد انعقد مجلس حربي آخر للبحث في موضوع خروج عساكر الحامية للهجوم على بطاريات العدو؛ ولكن انفرط عقد هذا المجلس دون أن يقرر شيئاً البتة في هذه المسألة، لأن موسى باشا كان متردداً ولم يستطع أن يبت الرأي ويعتزم على المخاطرة بخسارة الرجال التي قد تنتج عن هذا الهجوم. وقد قطع الروس قناة في بدء الحصار وكانت تمد جزءاً من المدينة بالماء ولكنهم تركوها تجري ثانية. وعند منتصف الليل تقريباً قمت من نومي على صوت اطلاق البنادق من طابية العرب. ولما بلغت الحاجز الذي عند باب إستانبول وجدت أن هجوماً ليلياً ثانياً كان سائراً على قدم وساق وكان أشد خطورة من سابقه.

وكان الهجوم الأول على الجبهة اليسرى وقد نفذ العدو فعلاً إلى داخل الاستحكام قبل أن يراهم أحد. أما الضابط الروسي الذي قاد هذا الهجوم وقتل ملازماً من الطوبجية فقد لقى مصرعه في الحال بضربة من قضيب أصابته في المخ. ثم احتدمت نار القتال احتداماً شديداً وانتهت برد العدو ودفعه لي بالنزول في الخندق وتحمله خسارة كبيرة بفعل الرصاص والكور المفرقعة التي مزقتهم تمزيقاً. وبعد ذلك رتبوا صفوفهم وحاولوا الهجوم على نفس المكان بقيادة باهرة على أصوات الطبول ولكنهم دحروا وارتدوا وقد قتل منهم كثيرون. وبعد ربع ساعة قاموا بهجوم ثالث وكان في هذه المرة على الجبهة اليسرى والجبهة الأمامية في آن واحد ولكنهم قوبلوا بنفس المقاومة الشديدة التي عهدوها من قبل. وبعد معركة دموية ارتد الروس نهائياً وتبعهم اليونانيون إلى داخل بطارياتهم وكانت القوة التي في طابية العرب في ذلك الوقت مؤلفة من أربع أورط من المصريين وخمسمائة من الجنود الألبانيين بقيادة حسين بك. وأقل تقدير للقوة التي هاجم بها العدو هو تسع أورط. وإذا حكمنا حسب العدد الذي وجد من الموتى في داخل الحصن وحوله أمكن تقدير قوته بأكثر من ذلك كثيراً. وقد استمر القتال من منتصف الليل إلى ما بعد طلوع النهار وهو من الحوادث الممتازة التي حدثت أثناء الحصار كله وقد بلغ عدد القتلى 68 والجرحى 121 وكثير من الضباط بين الأولين ويمكن أن نقدر خسارة العدو بألفي قتيل وجريح وإن كان الذين قد نقلوا جثث الموتى صرحوا بأن عدد القتلى وحدهم كان يزيد عن هذا التقدير. وعل هذا إذا حسبنا عدد الجرحى بأقل ما يمكن فإن خسائرهم تزيد عن 6.000 نفس.

وقد ذكر الضابط الإنجليزي ناسميث المذكور وصف هذه الوقائع بإيجاز في كتابه "تاريخ حرب الروسيا وتركيا ص 197.

وفي ليلة 30 مايو خرج القائد موسى باشا عقب ما تلقى الامدادات من السردار إكرام عمر باشا في شملا وهاجم جناح روسيا الأيمن وكان وقتئذ مؤلفاً من ثماني فرق مجتمعة أمام سلستره تحت إمرة المارشال باسكيفتش. وخال الجنرال الروسي سلفان قائد الفرقة الثامنة أن هذا الخروج أدى إلى إخلاء طابية العرب فأسرع هو نفسه مصحوباً بثلاث أورط بيادة ليحمل عليها ويأخذها عنوة وذلك بعد أن أمر الجنرال بوبوف أن يلحق به مصوحباً بأربع أورط أخرى لمعاونته.

وفي هذه المرة اجتاز أيضاً الروس الخندق وبدأت تتكرر مرة أخرى حادث 28 منه. وجرح الجنرال أورلوف ياور الامبراطور نقولا لدى تسلقه الجزء المنحدر من الساتر وكان يتقدم صفوف المهاجمين. ولم تمنع وعورة هذا الحصن هجمات الجيوش الروسية. فتقدم عدد من الضباط والجنود وتسلقوا ساتر الحصن ودخلوا الحصن نفسه من الفتحات المعدة للمدافع. فحملت عليهم الحامية وكانت لم تزل مصرية وقاتلتهم جسماً لجسم حتى طردتهم وأخرجتهم من نفس تلك الفتحات التي كان يتوهم الروس من برهة أنها باب نصرتهم.

وبعد أن قاتل الروس قتال المستيئس زهاء أربع ساعات أكرهوا على الانسحاب وخرج المصريون خلفهم وتعقبوهم وضايقوهم كثيراً وحملوهم خسائر فادحة. وجرح الجنرال سلفان جرحاً مميتاً وهو مدبر فجمع وكيله الجنرال فاسيلتزكي الروس وقادهم إلى خنادقهم. أما الجنرال بوبوف فلم يحل بطائل أيضاً وتراجع بلا انتظام مع فرقته. وبالاختصار نجح المصريون نجاحاً تاماً وكانت خسارتهم طفيفة بالقياس إلى خسائر العدو.

وفي 2 يونيو سنة 1854م أمر المارشال باسكيفتش وكان لديه وتحت إمرته 100 ألف جندي بالقيام بهجوم عام على الحصن واشتركت في هذا الهجوم عمارة الدانوب الروسية فكانت ترمي المدينة بقنابلها من جهة والمدفعية البرية تقذف مقذوفاتها من ناحية أخرى على الحصن من خنادقها. ووجه الروس هجومهم الرئيسي إلى حصن طابية العرب وكانوا قد لغموا بطاريته التي في المقدمة والمصريون فتحوا ضد ذلك لغماً فانفجر هذا تحت أقدام الروس فأخل نظامهم وبث في قلوبهم الهلع والرعب.

وعندما شهدت حامية سلستره هذا الحادث انتهزته وخرجت وحملت على الروس ودحرتهم. ولكن كان هذا اليوم لسوء الحظ ونكد الطالع يوم حزن لدى الجيش المنصور لأن ذلك البطل الشجاع موسى باشا قائد سلستره قتل في معمعان هذه الواقعة.

وفي 5 و7 يونيو أعاد الروس للمرة العشرين هجومهم فلم ينالوا سوى الاندحار والفشل. ومارشالهم الطائر الصيت باسكيفتش أصيب بمرض اضطره إلى الابتعاد عن ميدان الحرب واصيب البرنس جورتشاكوف بجرح كبير.

وفي 13 يونيو كر الروس مرة أخرى بشدة كبيرة جداً وبذلوا آخر مجهود عندهم فبترت فخذ جنرالهم شلدرز ومات متأثيراً من العملية الجراحية التي أجريت له.

ونتج من انفجار أحد الألغام أن طار سار طابية العرب فوثب فيها لاروس متساندين كأنهم رجل واحد غير أن الترك والمصرييين ألقوا بأنفسهم في الثغرة وكونوا من أجسادهم متراساً جديداً بينما كان قسم آخر من المصريين يصوب إلى صفوف الروس بنادقه ويبيدهم ويمنعهم من الدنو وهو متوار في كمين.

ولم تكف الحصون المنعزلة عن السهل وعن مرتفعات المدينة أيضاً عن المجاوبة على نيران العدو فتسرب اليأس والقنوط إلى قلب المارشال باسكيفتش ورأى أنه من العبث الاستمرار في بذل تلك المحاولات بلا جدوى فاضطر الروس أن يسنحبوا نهائياً مرغمين قانطين قنوطاً لا مزيد عليه من الاستيلاء على سلستره.

وفي 28 يونيو رفع المارشال الحصار ووجه جميع جيشه إلى بساربيا وانضم إليه الجنرالية الروس إجابة للأمر الصادر من الامبراطورية نقولا.

وجاء في الجريدة الإنجليزية المصورة ذي اللستريتد لندن نيوز بعددها الصادر بتاريخ 29 يوليو سنة 1854م عن حصار سلستره نقلاً عن مكاتبها الخاص في شملا ما ترجمته:

شملا في 4 يوليو سنة 1854

في الخامس والعشرين من شهر يونيو الماضي انتهى رمضان المكرم شهر الصوم وكانت ليلة قائمة تبلد جوها بالغيوم التي حجبت الهلال اصغير ونوره الضئيل. ولكن حضر ثلاثة من الريف اشتهروا بالنزاهة والصدق وشهدوا أنهم رأوا المولود الدري الجديد في فرجة بين السحب وعندئذ إبتدأ عيد الفطر بجميع مظاهره المألوفة ارتكاناً إلى التأكيدات المذاعة بأن الأحوال العادي لم يطرأ عليها أي تغيير. وتردد في جو تلك الليلة صدى هتاف المؤمنين الفحين ودوي المسدسات والبنادق والمدافع والمفرقعات. وقبل هذه الليلة السعيدة بثلاثة أيام احترف أهل شملا صناعة المفرقعات لعيد الفطر. فترك البقال بضاعته ونبذ السروجي وصانع الأحذية المخرز والجلود وفارق الحوذي خيله وعربته المتقلقلة وشعر الشعب بالظفر فعزم عزماً صادقاً على الاحتفال بنهية شهر الصوم ولم يصمه صوماً حقاً على ما اعتد مما شاهدت أكثر من شخص واحد في كل عشرة ولكن بينما كان الشعب على هذه الحال من الاشتغال بمعدات عيد الفطر كانت عقول جميع المتصلين بقيادة الحرب مثقلة بالمتاعب الهامة فقد طال حصار الروس لسلتره أكثر من أربعين يومأً وخشى أن سقوط سلستره صار أمراً محتماً لأن العدو كان كثير العدد والحامية كانت في أشد الضيق فانفقت العزائم على افراغ الجهد أثناء أفراح الشعب لانقاذ القلعة الحصورة وصدرت بضعة أوامر منها أن تسير القوات التركية وأن تتحرك قوات الحلفاء وتمت الاستعدادات في صمت وإذا رسول جاء وأخبر بأن الروس ارتدوا وانسحب جيشهم وهجر مواقعه وعبر نهر الدانوب وعادت سلستره حرة كما كانت من قبل فكانت مضاعفة الأفارح من مميزات هذا العيد وطبق الآفاق أصوات المفرقعات والمسدسات والبنادق والمدافع ابتهاجاً بالنصر المزدوج بانتصار الاسلام الخلاص من تسلط العدو على بلاد المسلمين.

وفي الصباح الباكر من السادس والعشرين ابتدأت سفري إلى سلستره قاصداً زيارة المواقع التي برحها الذين كانوا فيها بالامس من القادة المشهورين ورافقني في هذا السفر سيدان شديدا الرغبة مثلي يتوقان كما أتوق إلى البحث عن معرفة الأسباب التي دعت عدواً في مثل هذ القوة العظيمة أن يعدل بدون أي سبب ظاهر عن خطته بعد أن سار في سبيل تنفيذها شوطاً بعيداً وجاهز بعزمه على المثابرة فيها حتى يحققها. وقد تدافعت مظاهر الحياة في الطريق إلى سلتسرة فسبقنا فيه عساكر حملة شملا وهم يسيرون بروح مرحة وخطوات مرنة.

وأول ما رأينا فيه كان بعض الأورط المصرية والتركية متزاحمين في الطرق المرتعفة فوق الآكام أو هابطين إلى بطون الوديان التي يتلو بعضها بعضهاً بسرعة في ظاهر المدينة.

ومما جعل حركات المصريين والأتراك أكثر وضوحاً خلو المكان من الأشجار والنجوم وكان منظر المصريين والأتراك بوجوههم النضرة الممتلئة القوية يناقض أشد المناقضة منظر فلول العائدين الآخرين من ميدان القتال بعيونهم الغائرة وعظام وجوههم البارزة وجلودهم التي لا تخفي شيئاً من أجزاء هيكلهم العظمي. فقد أنهكهم الجوع وأضناهم تعب الجسم وتعب النفس وهم ينقلون خطواتهم ببطء وعناء يبتغون مكاناً يجدون فيه الطعام والنوم خلافاً لما كان عليه الحال في سلستره. وقد سطعت أشعة الشمس على خطوط من العجلات لا نهاية لطولها وتستخدم الجواميس والثيران لجرها وارتفع في الجو صرير بكراتها لأنها لم تدهن بالزيت. ثم بلغنا قرية كلادير ولا يزال فيها آثار مرور العساكر بها أو اقامتهم فيها ومن هنا إبتدأنا ندخل أصقاعاً أحفل بالغابات وأجمل مناظر. ووصلنا إلى المعسكر الكبير المعروف باسم جيرجلي.

وكان الرأي السائد وقت دخول الروس بلغاريا وأثناء حصار سلسترة أنه من الضروري أن ترسل قوة عظيمة من الجيش تعسكر أمام شملا. فوقع الاختيار على جيرجلي لأن موقعها أمين ويسهل الدفاع عنه. ومن أجل ذلك اقيمت الاستحكامات في جوانب مدرج من الربى وجد الماء عند قاعدته بما يكفي حاجة الجيش. والماء هو الطلب الأعظم في جميع الجهات الواقعة إلى جنوب وإلى شرق سلسترة وهكذا حدث أن عسكر عدد عظيم من العساكر في أجمل الآكام مناظر وأني رغم الانتقادات التي سمعتها على انتخاب هذا الموقع أرى أنه لم تكتشف بقعة أكمل من هذه من حيث بهجة مناظرها الطبيعية لا من حيث مزاياها الحربية.

وقد أطلقنا ونحن نجتاز جيرجلي الواقعة في أسفل سفح المدرج لخيولنا العنان وسرنا بسرعة فائقة. وكان على مقربة من الطريق ثث فسقيات أو نافورات وبرك متباعدة كان السائقون يدفعون جوامسيهم للنزول فيها ويبردون ظهورهم بالطين أما القرية نفسها فلا ساكن فيها وجميع منازلها خالية وكنا نقابل العساكر في جهات متفرقة يحملون أغصان الكرز من بساتينه الواسعة ويأكلون الثمر أثناء سيرهم. ثم وصلنا مرتقى عسراً زحفت فيه عجلات الأتراك المثقلة بأحمال المؤن زحفاً بمجهود اليم. وبعد أن ارتقيناه أخذ عراء الطريق يتناقص إلى أن حجبت الأجمة كل شيء وأحاطت بالطريق واقامت فوقه سقفاً من الغصون المشتبكة. وقد أضافت أشباح العساكر المتحركة ألواناً جديدة غير مألوفة إلى الأخضر الداكن الذي يكسو أشجار البلوط الضخمة التي في الطريق. وأحيانأً كان يتلو هذه الأجمة بأشجارها الكثيفة فرجة العراء والمسالك الواضحة وقد زرع فيها القمح والشعير ونما زرعهما نمواً غزيراً.


ولما وصلنا إلى كرابشل لحقتنا مؤخرة قوة مؤلفة من عساكر الطوبجية ومن السواري والبيادة وكانوا يسيرون بخطوات سريعة ومنتظمة وصحب القوة عدد وافر من العجلات تحمل الماء وقد جرت العساكر إليها وأحياناً قصدوها زرافات وازدحموا حولها وتدافعوا بالمناكب لبل شفاههم الجافة من السير في الحرب الذي ارتفعت درجته إلى التسعين وقد خلت كرابشل وشبولار من السكان. أما هذه الاشباح النسوية الغريبة التي كانت تتراءة لنا في نواح مختلفة متوارية عن الأنظار فهي اشباح نساء من العجائز أو من اللائي أقعدهن المرض فلم يستطعن الفرار من العدو وتقدمه الموهوم. ويمكن أن نقدر صعوبة انتقال الجيش من مكان إلى آخر في بلاد كهذه إذا أدركنا أنه علاوة على ما كان يسببه فرار الأهلية فإن المرء كان لا يجد طحيناً ولا قمحاُ ولا شعيراً ولا لحماً ولا طعاماً. وفي الحقيقة كان لا يجد شيئاً من الغذاء للإنسان أو الخيل فاضطرت العساكر أن تحمل معها كل ما تحتاج إليه.

وبعد خمس ساعات لاح في الأفق قرية رامانا شيكر Ramnan-Chikler وعزمنا على المبيت فيها ليلة ومنظرها يفتن العقول ويأخذ بمجامع القلوب ومنازلها مبعثرة فوق منحدرات تكسوها الحشائش الخضراء وتغطيها أشجار البلوط المعمرة التي عاقتها فؤوس الحاطبين عن النو فجعلت شكلها من أغرب المناظر. وحيثما وجدنا سكاناً ألفيناهم لا يزالون تحت أثير الخوف الشديد فلم يفتحوا أبوابهم لنا والبيوت التي هجرها ساكنوها استولت جماعات العساكر على كل شيء فيها. أما نحن فمعنا مآكلنا وكذلك أغطيتنا ولم يبق إلا أن نبحث في أي ناحية من القرية نأوي. وقد وجدنا بقعة ظليلة بالقرب من المسجد حيث ذهبت جذور أشجار الجوز الضخمة في الأرض ونازعت البقاء أحجاراً تدل على أن تحتها قبراً تركياً. وأحضرنا معنا أيضاً نبيذاً ولكن الماء أهملناه إهمالاً لا يغفر فاضطررنا أن نستعمل ماء البركة وقد ملأ العساكر منه بواطيهم إلا أن الجواميس استحمت وحرت فيه فصار له طعم غريب.

وقد يسر المرء بعد أن يسير في أستراليا خمسين ميلاً أن يشرب ماء مستمداً من أحد تلك الثقوب النادرة التي وصفها ليخارت المسكين. أما أن يجد الإنسان هنا في أوروبا قرية بلا بئر تعتمد في حاجتها إلى الماء على القضاء والقدر بتلك الروح الجبرية التي اشتهر بها المسلمون فذلك أمر لم أكن مستعداً له وبسبب ذلك شربنا هذه المرة من النبيذ أكثر مما شربنا من الماء. وبعد الفراغ من الطعام شغلتني مسألة النوم فهيأت فراشي على الأرض: قطعة من المشمع تحتي وبطانية فوقي ولكن أحد رفقائي وهو سيد من مدينة نانتس حن إلى النوم في أي مكان إلى على الأرض ولذلك ارتسمت على وجهه شواهد الفرح إذ ظفر بإحضاره من دهليز الجامعة قطعة خشبية طولها 6 أقدام وارتفاع حوافيها 6 بوصات وصمم على افتراشها في الليل وهو لم يكن أول من كشفها. وقد أبقيت لنفسي اغتباطها بتكدير صفو تمتعه بالنوم فوقها بعد إضطجاعه عليها بوقت قصير إذ أخبرته بأنها نعش للموت. ورأى في منامه جثثهم.

وعقب خروجنا من رامانا شيكلر مبكرين ركبنا طويلاً على متن جياد متعبة إلى قرية بلغارية تدعى كاليبتري Calipetri حيث ظهر جنود الباشبوزق بمظاهر حريتهم المعتادة. وقد أحرقت الكنيسة التي بها القرية ولم يبق قائماً منها إلى جدرانها وتحول كثير من منازلها إلى رماد بينما نهبت محاصيل حقولها من البصل والفول.

ومن كاليبتري إلى سيلستره مسير ثمانية عشر ميلاً على الأقدام في سهل أو نجد ممتد على مرأى البصر ومزروع حنطة وشعيراً. وكانت أصوات السمان والجنادب مستمرة وكنت ترى هنا وهناك آثار معسكرات السواري في المحاصيل القائمة.

وهذه الأماكن على ما يظهر كان يستريح فيها القوقازيون الذين راادوا الاقليم مدة تزيد على الأربعين يوماً وأظهروا أنفسهم مراراً على المرتفعات التي فوق كاليبتري. هذا بينما كان أهالي القرية المسلحون بواسطة الروس يجوبون في الغابة المجاورة ويذبحون الخيل والرجال.

وقد أبان نهاية السهل أمامنا بناء منخفض مربع كان يخفق خارجه علم به هلال ونجمة فدل ذلك على قرب سلسترة.

وهذا البناء هو الطابية المجيدية وهي حصن كبير تقع المدينة من تلك الجهة تحت نيرانه وقد بلغ من مناعته أنه حال بين الروس وبين هجومهم على المدينة على أن الأرض الواقعة أمامه كانت ميداناً لقتال كثير بين عساكر الأتراك غير النظاميين وبين القوقازيين. وقد أسر نحو خمسمائة من هؤلاء العساكر أثناء هذه المناوشات لكن الجنرال لودرز بعد أن جردهم من أسلحتهم وخيلهم أعلنهم أنه أطلق سراحهم وقال أنه علم أن الجنرال يوسف ينوي أن يؤلف قوة منهم فرجاؤه إليهم أن يقدموا أنفسهم إلى القائد المذكور ويبلغوه تحياته أي تحيات الجنرال لودرز.

وإلى اليمين لما إزداد حجم الطابية المجيدية ظهوراً عندما دنونا منها إنبثق نهر الدانوب وبانت مناظره والأراضي المبنسطة الممتدة بين شاطئ نهر الدانوب والأرض الأخرى المنتهية عند كالاراش تغشاها على ما يظهر خيام الجيش الذين لم تجاوز أثناء تقهقره الساحل الآخر من نهر الدانوب.

وإلى اليسار وكأنها عند قاعدة الطابية تقع مدينة سلسترة محفوظة على ما يظهر أحسن حفظ فجميع مآذنها كاملة وظاهرة في ضوء الشمس.

ها نحن في سلسترة وقد دخلناها والوقت مساء واستغرقت خيولنا المتعبة إثنتي عشرة ساعة في هذا اليوم الثاني في قطع نفس المسافة التي طوتها في اليوم الأول ولم تأكل شيئاً أثناء ذلك فجهدت وهي تقطع المسافة في أحوال توافرت فيها الأسباب التي تؤخر وتعرقل.

إن سلسترة حصن في الدرجة الرابعة من الأهمية ويحيط به فقط سور وخندق صغير الحجم جداً ومع ذلك فإنها رهيبة القوة يخشاها العدو بسبب تلك الحلقة من الطوابي التي تكتنفها من كل جانب وجميع الآكام محصنة كذلك باسحتكامات حفرت في قممها ولابد من الاستيلاء عليها قبل الاستيلاء على الحصن بالذات. ونهر الدانوب عند سلسترة ليس متسعاً وفي والواقع أن الربوس من البطاريات الموضوعة على جانب النهر وفي ولاشين، استمروا يطلقون النيران بدون انقطاع من ثمانية مدافع تقذف قنابل طول الواحدة 21 بوصة ومن مدافع أخرى ثقيلة مشهورة باسم هويتزر وفي سلسترة مدفع يدل على مدخل المدينة من ناحية بوابة إستابول غير أن البطاريات التي على الساحل الآخر أحدثت ثقوباً في جسر سلسترة فكان الدخول إليها خطراً في جميع الأوقات وقد عاينا ونحن نجتاز البوابة البقعة التي قتل فيها موسى باشا بانفجار قنبلة وهو خارج من المكان المعد للوقاية من فتك القنابل وهنا كذلك فاجأت قذيفة شبيهة بالقنبلة المنفجرة فرقة من الباشبوزق في اللحظة التي كان اليوزباشي سيموند يزور فيها طابية العرب وهنا تقابلنا مع عمر باشا وقد حضر من فوره من شملا فأطلقت جميع بطاريات المدينة والحصن ثلاث طلقات إيذاناٌ بوصوله وتحية لقدومه وما كاد سعادته ينتهي من زيارة المواقع الروسية حتى تفضل كرماً منه وأمر أن تبقى وضعية الأشياء في طابية العرب كما هي دون احداث أي تغيير ريثما أفرغ من رسم المواقع (وهو الرسم المنشور بعد هذه الصفحة).

أما الشارع الذي اجتازته صفوفنا في سيرها إلى المساكن التي أعدها لنا ابراهيم باشا ففيه حفائر واسعة عمق الواحدة منها خمس أقدام وعرضها ثلاث والبعد بين كل حفرة وأخرى عدة ياردات. وفي هذه الحفائر شظايا من قنابل الروس. وسقوف المنازل جميعها مثقوبة كثيراً أو قليلاً بفعل هذه القنابل الشديدة الفتك. والحيطان المشتركة كثيرة الثقوب كذلك أما المآذن فقد اخترقت القنابل عدداً كبيراً منها ومع أن كثيراً من هذه المآذن قد أصيب بالعطب الشديد فلم تسقط واحدة منها كما أن المنازل ظلت ثابتة في أماكنها تقاوم ضربات النيران بكل رسوخ وثبات. فكأن أبنية سلسترة شاركت حماتها في روحهم وعقدت العزم مثلهم على ألا تسلم بالسقوط بأي ثمن.

ويكاد يكون من اللغو أن نقول إنه لم يبق في سلسترة ساكن واحد فقد طلب جميعهم السلامة من الخطر بالإلتجاء إلى المغارات التي حفرت في بطون الربى من جوانبها وأقاموا فيها أمنين. على أنهم عانوا بلا ريب ما عانوا لحرمانهم من الحركة أحياناً لحاجتهم إلى الطعام ولكنهم على كل حال كانوا في مأمن. أما العساكر وحدهم فقد ظلوا في هذه المدينة في نقطهم بالقرب من التحصينات حتى يمكن حشدهم في أسرع وقت. وكانت في الترسانة خيمة الملازم ناسميث واليوزباشي بتلر هذان الشهمان اللذان دافعا عن سلسترة دفاعاً قدره الأتراك أحسن تقدير. وقد أبى القدر أن يمهل اليوزباشي بتلر بعد رفع الحصار عن سلسترة فمات بعد ثمانية أيام من جرحه الذي أصيب به في ظابية أيلانلي. وقد قام الأتراك بما يجب نحو فأحاطوا جثمانه بمظاهر التشريف والتكريم. وقد شيعه حتى مثواه الأخير في مدفن الأرمن يوزباشي من كل بلوك في الحامية وأطلق السلام الحربي فوق قبره. وأمر عمر باشا أن يقام تذكار لائق تخليدأً لاسمه الذي سيظل مذكوراً بين الأتراك مثالاً للضباط الشجاع الذي برهنت أفعاله أكثر من مرة على شهامته وجسارته الفائقة.

أما الملازم ناسميث فحظه أحسن وهو الآن في شملا وقد منح الوسام المجيدي وكذلك وسام اليجيون دي نير، وكتب إليه لورد رجلان قائد الجيش الإنجليزي كتاباً عبر فيه رسمياً عن شكر الجيش الإنجليزي له على ما أبداه من ضروب الشهامة. ويجدر بي هنا أن أنوه باسم الملازم بلرد من فرقة المهندسين البنغالية ومع أنه لم يقم في سلسترة طويلاً فإن الأعمال التي قام بها ضد العدو في الخمسة عشر يوماً الأخيرة من أيام الحصار كانت مفيدة وذات نتائج فنأمل ألا يحرم من المكافأة.

وقد أمضت جماعتنا اليوم السابع والعشرين بأكمله في زيارة حصن طابية العربة وحصن أيلاني. وكان المنظر مما يبعث على الدهشة إلى أقصى حد وكان الطريق إلى حصن طابية العرب يدور حول الرابية حتى يبلغ ذروتها حيث بنيت الطابية. وأدل أمارة دلت على اقترابنا منها كان ذلك العدد من المغارات التي ثقبت في جانب الرابية وهذه المغارات تسع بضع مئات من الرجال وفيها عسكرت أو بعبارة أصح إختبأت القوة الاحتياطية التي كانت تدافع عن الطابية. وقد إرتاب الروس في مكان لا يبعد كثيراً عن هذه المغارات وظنوا أن تلك القوة الاحتياطية مختبئة فيه فرموه بآلاف من القنابل انفجرت دون أن تحدث ضرراً بأحد ولذلك غرس المصريون عصياً قصيرة لتعيين هذا المكان.

وقد نقل المصريون أثناء الحصار من بقعة إلى يمين هذه البقعة المحبوبة ما لا يقل عن الفي قنبلة لم تنفجر ومن هذا يمكن أن يتصور الإنسان شدة السعير الذي أصلاه الروس حامية سلسترة مدة بضعة أسابيع فقد كان أشد حرارة من لهيب المناطق الحارة.

ولما وصلنا إلى قمة الرابية دخلنا إلى حصن طابية العرب ولا يزال أحد أركانها كاملاً. أما باقي الطابية فقد تحول إلى طائفة من الأكوام والأودية لا شكل لها ولا نظام. وقد أبانت ثلاث حفائر سرت تجاوفيها في جسم الطابية المكان الذي انفجرت فيه الألغام الورسية. وأما الحاجز فلم يكد الانفجار يحدث حتى إرتفع ثانية فوق الحافات المموجة من هذه الحفائر فكانت العساكر تلقي بنفسها على الأرض بحذر ثم تأخذ في رفع الأتربة من الداخل وقد عرضت حركة رفع الأتربة هذه أقراص طرابيش الجنود إلى الظهور احياناً فصوب الرماة الروس بنادقهم نحو هذا الهدف وأصابوا فيه مقتلاً وهكذا قتل كثيرون برصاصات اخترقت المخ. والعجيب في هذا الأمر أن العدو اعتمد في هذه الأحوال على البنادق ولم يتسخدم مدافعه بطريقة فعالة تكفي لمنع ساتر الحصن من الارتفاع ثانية أمام عينيه وقت إضرام النيران.

وبالرغم من هذه الظروف أتت ساعة صار فيها المكان حجيماً لا يمكن البقاء فيه. فاستلقى المصريون عند حضيض الساتر - الذي سترهم عن أعين الروس وإختبئوا في مخابئ يغمرهم التراب ولكن تمكن اليقين آخحر الأمر أن الألغام تسربت في الإستحكام كله وعلى كل حال فإن المصريين كانوا إذا تخلوا عن بعض الحصن المطل جهة نهر الدانوب إرتدوا إلى تحصين أقاموه خلف القديم فإذا ظهر أن الجديد ايضاً مهدد بالخطر الشديد شيدوا ثالثاً أكثر صلاحية وأقوى على احتمال النوازل ومقاومة العواصف من كلا السالفين وهكذا دواليك.

ومن السهل أن ندرك أن روحاً كهذا لا يفرط في شبر واحد من الارض بل يثبت ويقاوم للاحتفاظ بهذا الشبر وقد وجد الروس أنهم كلما هدموا تحصيناً وصيروه تراباً حل محله تحصين آخر لا مفر لهم من العمل من جديد لتحطيمه هو أيضاً ودكه دكاً كأنهم ما هدموا بناء لا أتلفوا سلاحاً. والمصريون لم تعجزهم لذعات العدو وكأنهم ما خسروا أرضاً ولا فقدوا قوة ولابد أن هذا كان مما ثبط همة الروس أشد تثبيط. أما الثغرات التي كانت في التحصين الأول والثاني فليست موجودة ول ميبق أي أثر لها وإنما الموجود نحو مئتي قبر على صف واحد دفن فيها الموتى في الحال وقد كانت اللحظة التي يسقط فيها المحارب قتيلاً هي نفس اللحظة التي يوارونه فيها التراب ولم يجدوا وقتاً للاحتفال بدفن الموتى ولذلك لم يحتفل بجنازة أحد.

وعلى بعد عشر ياردات من الساتر المعوج المهدم دخلنا من رأس الخندق إلى خط النار الروسي وتتبعنا في سيرنا جميع تعرجاته العديدة وشعبه الكثيرة فقطعنا بذلك أميالاً وأقرب البطاريات كانت على بعد 50 ياردة وأقصاها كان على مسافة 300 ياردة.

وقد امتد الخط من طابية العرب منحدراً نحو نهر الدانوب إلى واد فيها بقايا شنيعة بادية للعيان ثم يصعد الخط حتى يبلغ الجهة المقابلة منخفضاً بعد ذلك إلى واد آخر فيه آثار معسكر كبير أنشئت لحمايته استحكامات بين كل واحد وآخر ربع ميل وكثير منها يسع ستة مدافع أو سبعة أو ثمانية وجميعها كانت تواجه ناحية واحدة أي تجاه المصريين مما دل على أن الغرض كان مهاجمة المدينة وحفظ خط الرجعة في حال قدوم قوة كبيرة لانقاذ الأتراك والمصريين. وأكبر الاستحكامات من هذا النوع كانت على بعد سبعة أميال وكان في نهاية الخط حصن كبير وياجه جميع الجهات.

وقد اتبع هذا الأسلوب في حماية ثلاثة أودية منحدرة نحو نهر الدانوب ومد الروس إزاء الوادي الأول جسرهم الأول ماراً فوق الجزائر ومتصلاً بالجانب المقابل. أما الجسر الثاني فقد كان على بعد خمسة أميال إلى جهة المصب وفوق هذين الجسرين تقهقر العدو خفية بحيلة فأطلق وابلاً متواصلاً من النيرن واسع النطاق جسيم المقدار وانتهى قذف هذه القنابل فقط في الساعة الثالثة من صباح اليوم الثاني والعشرين من الشهر الماضي ففي تلك الساعة علم يقيناً أن المسالك القريبة من طابية العرب قد إنكفأ العدو عنها وهجرها.

واكتشف تحت الاستحكام لغم ذو ثلاث شعب ممتدة إلى النقطة المركزية فيه. وقد نفذ العدو إلى طابية إيلاني بواسطة خطي نار عظيمي الطول كثيري الالتواءات ولكن النشاط الذي هاجم به الروس هذه الطابية كان أقل كثيراً مما بدا منهم في هجومهم على طابية العرب. ذلك لأن الموقع الجاني لطابية أيلانلي كان في صالح المدافعين عنها أكثر كثيراً من موقع الطابية الأولى وكان ما لحقها من أذي الروس أقل كثيراً جداً من الأضرار التي إنهالت على طابية العرب. وفي طابية إيلانلي اصيب اليوزباشي بتلر بجرحه المميت وقد كانت الأماكن التي عسكر فيها الروس مخططة برسوم مسافات خيمهم المربعة ووجود كثير من عظام لحم البقر والضأن دليل على كثرة الطعام مهما قيل غير ذلك ولكن روائح منتنة كريهة تتصاعد من جميع هذه المعسكرات ومن الاستحكامات وخط النار وقد يكون هذا علة ما نتشر من كثرة المرض في الجيش الروسي فقد قيل أن نحو 30.000 جندي دخلوا المستشفى.

وقد عدت إلى سلسترة بجانب النهر وتمكنت من فحص عدد البطاريات الجسيم الذي أحاط بأطراف الجزيرة الواقعة مباشرة في مواجهة الساحل ثم دخلت المدينة ثانية وأنا في ذهول ودهش لجسامة ما رأيته من التحصينات الروسية وتفكير في الخزي الذي لابد أن ينزل بجيش القيصر. فقد كد كداً هائلاً وأنفق جهوداً عظيمة جداً وما جنى مما بذل إلى قليلاً. أما الخسائر فالأرقام الرسمية عند الأتراك والمصريين تحددها في سلسترة بمقدار 2.200 من النظاميين نصفهم قتلى والباقي جرحى. وقد بلغت نحو ألف في العساكر غير النظاميين. أما عند الروس فيقال أناه أثناء الخمسة والأربعين يوماً أي أمد الحصار لم تقل عن 7.000 بين قتيل وجريح منهم إثنان من القواد.

وقد عاد عمر باشا من سلسترة في اليوم الأول من الشهر الجاري وسافر إلى وارنه في اليوم الثالث منه للاجتماع بلورد رجلان والجنرال سنت أرنو قائدي الجيشين الإنجليزي والفرنسي للبحث والتشاور معاً.

وها هو ما قاله أيضاً جيل لادمير Jules Ladmir في مؤلفه (الحرب في بحر البلطيق في خلال الأعوام من 1853 إلى 1856 المجلد الأول ص41) La Guerre en oreint et dans la baltique, pendant les annes 1853 a 1856.

"قبل أن ينسحب الروس إنتقموا من سلسترة بأن صوبوا إليها مقذوفات مدافعهم وأصلوها ناراً حامية لم يروا مثلها في التاريخ. واستمر إلقاء هذه المقذوفات ثلاثة أيام وثلاث ليال فحطم عدداً كبيراً من المساجد والمآذن والمساكن وأهلك كهولاً ونساء وأطفالاً مع أنه ليس لهذا العمل أي مبرر من الوجهة العسكرية.

وأظهرت حامية المدينة كلهعا وبالأخص حصن طابية العرب صبراً وجلداً وتفانياً عجيباً في الدفاع باخلاص. وبعد هذا الوداع المتوج بالدماء انصرف الروس تاركين أمام سلسترة 15 ألف جثة. وقتل وجرح خلق كثير من جنرالاتهم وضباطهم العظام.

أما حامية المدينة فقتل منها 3.000 نفس وجرح عدد يقترب من هذا العدد."

والآن نسوق للقارئ ما رواه مكاتب ذي اللستريتد لندن نيوز بعددها الصادر في 16 ديسمبر سنة 1854م عن مدينة سلسترة وحصن طابية العرب والجنود المصرية التي كانت تحميه من غارات الروس المتوالية عليه. وقد زار هذا المكاتب المدينة المذكورة بعد سنة أشهر من جلاء الروس عنها. وهاك ترجمة ما رواه:

إن بين مشاة سلسترة 3.000 من المصريين منهم أولئك الأبطال حماة طابية العرب الأمجاد. وقد خرجنا إلى الطابية المذكورة راكبين طبعاً ورافقنا بضعة من الجنود المكلفين بالدفاع عنها بفرح وسرور وذكروا لنا ما وقع لهم من الحوادث وهم أهل أنس وبشاشة وحديثهم ظريف مليح. وقد تهللت وجوههم بشراً عند ما رأوني أتكام بلغتهم العربية لأنهم كانوا مصريين. وقد تأخوا عنا تآخياً زائداً وطفنا صحبتهم بالحصن كله فلم نجده أمراً عسيراً إن هو إلا خندق ومتراس. ومع ذلك فإنه قد صد ما كانت أوروبا بأسرها تحسبه أقوى جيوش العالم وأحسنها نظاماً والذي قاده قائد طوي السنين الطوال في ميادين القتال، وأنتصر في مواقعها، وهو عندهم وحيد لا يبارى، وفريد ليس له ند، وقاهر لا يغلبه أحد. والمصريون المرافقون لنا كمرشدين قصار القامة رثة ملابسهم. وقد أطالوا الحديث عما فعلوا حتى ردوا الروس خائبين. وكان السرور بادياً على محياهم حين كانوا يحدثوننا عن ذلك. وقد قال أحدهم: "أكلت وشربت ونمت ودخنت لفافتي وانتصرت وراء هذا السور". فقلت" "نعم ما فعلت". فقال" "ما شاء الله وما كان هو من فعل الله، والحمد لله والشكر له جلال جلاله". ألم يقل على لسان نبيه عليه السلام - سلم تسلم - أي توجه إلى الله وحده واترك أمر نفسك إليه وهو يحميك. فهو راعي الرعاة وحافظ الحفظة". وكذلك كان. فهؤلاء المساكين كل قوتهم كامنة في الزهد عن الخمر. وككل حولهم مستقر في جلدهم على احتمال الشدائد. وكل سلاحهم إيمان راسخ ويقين بالله متين. يتعصبون لدينهم. ويتغالون في معتقدهم. وتعصف بهم العواصف وهم ثابتون لأنهم على إله السموات والأرض معتمدون. وتتزعزع الجبال وهم لا يتزعزعون لأنهم برب العالمين مؤمنون. لا يرهبون الموت في الحرب بل يرغبونه ويقدون عليه لأنه خاتمة المتاعب ومفتاح باب الجنة. هؤلاء هم الذين ردوا قوة تفوقهم في العدد عشرين ضعفاً. وصدوا جنوداً يقودهم مهرة القوات ولم يكن لهم من مزايا الموقع ما ساعدهم على هذا الفوز كما قد يسبق إلى الذهن بل الأمر على عكس ذلك.

فإن موقع طابية العرب كان يحيث يسهل الاستيلاء عليه أكثر من غيره. والحصن لا يستحق اسماً غير حصن ميدان.

وقد قال أصحابنا الأدلاء إن الروس كانوا يطلقون النار بمهارة وإحكام. وإن رصاصهم وقنابلهم - على حد تعبيرهم - كانت تحصد كل شيء أمامها حتى العشب. ولكنهم إذا دارت رحى الحرب عن قرب كانوا كالنساء. وزاد أصحابنا على ذلك قائلين: "ذبحناهم كالنعاج ولم يرجع منهم رأس واحد. أما رؤوس القتلى وآذانهم فكنا نلقيها إلى الكلاب".

وهكذا كان يمر اليوم بعد اليوم حتى تفقدنا المواقع كلها وكلما كثر ما نرى كلما زدنا تعجباً.

وبعد انسحاب الروس من مدينة سلسترة انتقل السردار إكرام عمر باشا من معهسكره العام الذي كان في شملا إلى روسجق - روستشوك القائمة على نهر الدانوب. ولما كان الروس لم يزالوا محتلين البعض من جزر هذا النهر وهي الجزر التي بين هذه المدينة وجيورجيفو الواقعة إزاءها فقد قرر عمر باشا أن يطردهم منها.

وفي 6 شوال سنة 1270 هـ (2 يوليو سنة 1854م) أرسل ديوان الجهادية المصرية إلى محافظ الإسكندرية إفادة يخبره فيها بوصول عبدي أفندي الصاغقول أغاسي الطوبجي إلى الإسكندرية ومعه الثياب اللازمة للجنود المصرية الموزعين في ناحية يني شهر ويرجوع الإسراع في تسفيره مع هذه الثياب إلى الناحية المذكورة، وها هي:

إفادة من ديوان عموم الجهادية إلى محافظ الإسكندرية رقم 100 بتاريخ 6 شوال سنة 1270 مقيدة بالدفتر التركي رقم 2688:

"قادم لطرفكم عبدي أفندي صاغقول أغاسي طوبجي وبصحبته الأشياء المبينة أدناه لتوصيلها إلى 15 جي و16 جي ألاي بيادة الجنود المصرية بجبهة يني شهر. فبوصوله نأمل تسفيره في أقرب فرصة بالأشياء المذكورة للجهة المحكي عنها سواء أكان ذلك الترحيل بالبوابور أم المراكب الشراعية حسب ما ترونه موافقاً. وحرر هذا للاجراء والعمل بمقتضاه،

"بيان الاشياء"
عدد أطقم
4.800 أطقم ملبوسات
4.800 أطقم ألبسة وقمصان
4.800 أجواز مراكيب
14.400 الإجمالي

وبعد أن قرر السردار إكرام عمر باشا طرد الروس من الجزر التي بين مدينتي روسجق (روستشوك) وجيورجيفو جمع في 7 يوليو سنة 1854 40.000 جندي تركي ومصري وعمارة حربية من السفن النهرية وإجتاز بهذه القوة نهر الدانوب تحت حماية مدفعية هذه العمارة واحتلوا الجزر المذكورة بعد أن نازلوا الروس جسماً لجسم. وبلغت خسائر كل من الطرفين في ذلك 4 آلاف نفس.

وتحصن الترك والمصريون في تلك الجزر بقصد الهجوم على جيور جيفو في الغد غير أن الروس أدركوا أنه من الفطنة وأصالة الرأي إخلاء هذه المدينة ليلاً. وفي 8 يوليو احتلها الجيش التركي المصري.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الهامش

  1. ^ أ ب Badem, Candan (2010). The Ottoman Crimean War: (1853 - 1856). Brill. p. 184. {{cite book}}: Invalid |ref=harv (help)
  2. ^ أ ب ت Badem 2010
  3. ^ Badem 2010
  4. ^ Siege of Sillistra, Nineteenth-century Land Warfare: An Illustrated World View, ed. Byron Farwell, (W.W. Norton & Co., 2001), 760.

للاستزادة