باروخ زكي مزراحي

باروخ زكي مزراحي، في الأسر

باروخ زكي مزراحي (1926-2005)، ضابط مخابرات إسرائيلي (من أصل مصري) ألقت السلطات اليمنية القبض عليه أثناء تصويره مضيق باب المندب. وقد سلمته اليمن لمصر، التي قايضت به في تبادل الأسرى بعد حرب أكتوبر.

باروخ زكي مزراحي يهودي مصري، ولد بـمحافظة القاهرة عام 1926، و كان والده زكي مزراحي واحداً من تجار الدخان، في شارع كلوت بك، و كان ثرياً إلي الحد الذي سمح له بإلحاق ابنه باروخ بمدرسة الفرير، قبل أن يتوفي عام 1933م، إثر إرهاق شديد في العمل.. و علي الرغم من وفاة الوالد، راحت أم باروخ تعمل بجد و بلا كلل، لتوفر لأبنائها حياة قريبة من تلك التي وفرها لهم والدهم، و اشتهرت بين جيرانها بأنها خياطة بارعة تتقاضي أجراً يتناسب مع مهارتها و ذوقها الرفيع، بحيث نجحت في إلحاق باروخ في سبتمبر 1940م بمدرسة الفرير الثانوية، المعروفة باسم مدرسة القديس يوسف، و حصل منها علي شهادة التوجيهية، من القسم الأدبي عام 1944م، والتحق في العام نفسه بكلية التجارة جامعة القاهرة، و تخرج فيها عام 1948، وتخصص في المحاسبة.

في نفس عام تخرجه، عمل باروخ في شركة كونزلز لاستيراد المعلبات و المحركات، ثم انتقل في عام 1950م للعمل في شركة بخكو للأدوية و الأدوات الجراحية، و ظل يعمل فيها لمدة عشرة أشهر، انتقل بعدها للعمل مدرساً، في مدرسة الأقباط الكبري الثانوية، لتدريس اللغة الفرنسية، و كان عمله ينتهي فيها في الرابعة عصراً، حيث يعمل حتي المساء في شركة سمسرة، تحمل اسم دانيال نبياه و شركاه..

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الحب الأول

أصبح باروخ موظفاً ثرياً، بالمعني المعروف في تلك الأيام، يقطن شقة أنيقة، تحوي كل متطلبات العصر، و يرتدي أفخر الثياب، و يتعطر بأغلي العطور، و يكفل أمه و شقيقته إيفيت و شقيقه ماير، و كل شئ يسير معهم علي ما يرام. حتي ظهرت فورتينيه.. كان هذا في عام 1955م، عندما التحقت فورتينيه الفاتنة الشقراء بنفس المدرسة، التي يعمل بها باروخ، و أصبحت زميلته في العمل.. و منذ اللحظة الأولي، التي وقع فيها بصره علي شعرها الذهبي و ابتسامتها الساحرة، غرق باروخ في غرامها حتي النخاع، و راح يتقرب منها في لهفة واضحة، و هي تسمح له بالاقتراب إلي حدود مدروسة، ثم تصده و تمنعه عن الاستطراد في حنكة و صرامة، تمتزجان برقة و إغراء يفتنانه، و يخلبانه لبه و صوابه، حتي إنه عرض عليها الزواج.. كان يتوقع منها الشعور بالمفاجأة، أو الخجل، أو حتي إشاحة رقيقة بوجهها، و لكن ما فعلته كان مدهشاً للغاية.. لقد تطلَّعت إليه لحظة بابتسامة ظافرة، و تألق الزهو في عينيها واضحاً، ثم لم تلبث أن حوَّلت كل هذا إلي ضحكة مجلجلة، تموج بالانتصار و الخيلاء، و علي الرغم من هذا، فقد رفضت عرضه؛ لأن عائلتها كلها قررت الهجرة إلي إسرائيل.. حاول إقناعها بالبقاء في مصر مشيراً إلي أن كليهما يتمتع بوظيفة ممتازة، و وضع مالي جيد و لكنها تشبثت برأيها، و حسمت الأمر بأن الوسيلة الوحيدة هي أن يهاجر هو أيضاً إلي إسرائيل.. أو يفترقان تماماً..


الهجرة

و تحت ضغط الهوي و الحب، أقنع باروخ أمه بالهجرة إلي إسرائيل، و حملها رغماً عن إرادتها إلي السفينة، التي حملتهما إلي ميناء بيريه و هما يذرفان الدمع مع غياب أضواء مدينة الإسكندرية خلف الأمواج، في السادس من فبراير، عام 1957م، و بصحبتهما الفاتنة فورتينيه و علي شفتيها ابتسامة ظافرة، لم يدرك باروخ معناها، حتي عندما التقي مندوبي الوكالة اليهودية في بيريه، و لاحظ استقبالهما الحار لصديقته فورتينيه و معرفتهما الواضحة بها، قبل أن ينتقل الجميع إلي باخرة أخري حملتهم إلي ميناء حيفا، حيث أرض الميعاد، التي حلموا بها طويلاً.

وهناك، في قلب إسرائيل، راحت الصدمات تتوالي.. كانت الصدمة الأولي هي أنه سينتقل مع أمه، للعيش في مستعمرة معجان ميخائيل حيث تعمل أمه في حياكة الملابس، و يعمل هو فلاحاً أجيراً.. و الصدمة الثانية هي أن حياته في أرض الميعاد، لن تساوي ذرة من حياته في مصر، إذ يكفيه أجره بالكاد، ليعاني شظف العيش، و يجد مأوي متواضعاً، و يتناول ثلاث وجبات أشد تواضعاً.. أما الصدمة الكبري، التي زلزلت كيانه، و حطمت كل أحلامه، فهي أن زواجه من فورتينيه مستحيل، لأن القوانين الإسرائيلية تحظر زواج اليهودي من فتاة ليست من أم يهودية.

ولم تكن هذه نهاية الصدمات، بل تواصل الأمر بانتقاله إلي حيفا، و عمله هناك رجل شرطة، بأجر تافه ضئيل، و اضطراره للعيش في مسكن مشترك، مع يهودي شرقي آخر، و معاناته من سوء معاملته، باعتباره أحد يهود الإشكنزيم، من الطبقة الثانية، و في النهاية تزوجت فورتينيه من يهودي ثري، و انقطع آخر أمل له في الزواج منها. وعلي الرغم من كل هذا، لم يبق باروخ بلا زواج.. لقد التقي، أثناء عمله في شرطة الآداب، زميلته مارجريت، فوقع في حبها من أول نظرة، و غرق في بحر الهدوء المطل من عينيها الحانيتين، و سرعان ما تزوجها، و بدأ حياة أسرية جديدة، ينفق عليها من الإتاوات و الرشاوي، التي يتقاضاها من قطط الليل، لغض البصر عن نشاطهن.

العمل بالموساد

و ذات يوم، استدعاه رئيسه، و قال له في لهجة آمرة حازمة إنه قد رشحه لعمل مهم، و طلب منه أن يذهب غداً إلي مكتب المخابرات، و يقابل رئيسه حايم أيدولوفيتش.. و من هنا كانت البداية.. لقد التقي في الصباح التالي مدير مكتب المخابرات المحلي البولندي الأصل الذي تفحصه بنظرات سريعة، ثم أبلغه بأنه تم تعيينه في جهاز المخابرات الإسرائيلي، و أسند إليه مهمة مراقبة نشاط بعض الشيوعيين، في قلب إسرائيل.. و انغمس باروخ فجأة في هذا العالم.. كان يغمر رئيسه بتقاريره بالغة الخطورة عن نشاط الشيوعيين في إسرائيل و يتقاضي مكافآت سخية مقابل هذا، و برع في عمله كثيراً، حتي استدعاه حايم ذات يوم، و ابتسم ابتسامة كبيرة، و هو يطلب من أن يذهب لمقابلة شخص مهم، في قهوة فيرد شمال شارع ديزنجوف في تل أبيب، في تمام السادسة مساءً.. و ذهب باروخ في الموعد تماماً.. و بدأ خطوته الثانية في عالم المخابرات.. في البداية أسندوا إليه بعض أعمال الترجمة، لتقارير واردة من العملاء الأجانب، ثم استدعاه المدير ذات مرة، و أخبره بأنهم سيرسلونه في مهمة إلي هولندا حيث افتتحوا مكتباً تجارياً هناك، كغطاء لأعمال التجسس… و فهم باروخ ما يعنيه الأمر، و سافر إلي هولندا، و هناك أقام علاقات جيدة مع المصريين المقيمين في العاصمة الهولندية، و نشطت علاقته بهم، و جمع قدراً كبيراً من المعلومات، جعله يؤكّد أن مستوي الوعي الأمني عند العرب منخفض للغاية، فما أن يبدأ الحديث مع أحدهم، حول موضوع ما، حتي ينطلق مثرثراً، و يروي كل ما لديه عنه، مهما بلغت سرية الأمر!

و بعد النجاح الساحق لمهمته في هولندا عاد باروخ إلي تل أبيب، و لم تمض فترة قصيرة حتي استدعاه مديره مرة أخري، و قال في لهجة تشف عن أهمية الأمر و خطورته: إن المصريين قد ضربوا إحدي السفن الإسرائيلية، أمام باب المندب، و هذا ما دفعهم إلي أن يسندوا إليه مهمة بالغة الخطورة، يعلقون آمالاً كبيرة علي نجاحه فيها، و أن رئيسة الوزراء شخصياً، شديدة الاهتمام بما سيحققه فيها؛ إذ سيسافر أولاً إلي عدن ثم اليمن الشمالية و بعدها إلي دولة الإمارات.. و يريدونه أن يجمع أكبر قدر من المعلومات عن هذه البلاد، و يتابع نشاط منظمة التحرير الفلسطينية فيها، و يريدون أن يعرفوا بالتحديد، هل يتدرب الفدائيون هناك علي ضرب ناقلات البترول الإسرائيلية في البحر الأحمر أم لا؟

رحلة اليمن

و شعر باروخ بأهمية المهمة و خطورتها، و هو يبدأ رحلته، بجواز سفر مغربي، يحمل اسم أحمد الصباغ و علي كتفه، كأي سائح عادي، آلة تصوير جيدة، تساعده علي التقاط صور الأهداف الحيوية، و قبل أن يستقل طائرته بأقل من ساعة، جال بخاطره أمر مقلق.. و ماذا لو انكشف أمره؟ و عندما صارح رئيسه موردخاي بهذا، انفجرت عاصفة من الضحك في مقر المخابرات، و أخبروه في ثقة بأن الخطة التي يضعها عباقرة الموساد يستحيل أن يكشفها عرب متخلفون.

وهكذا غادرهم باروخ، و هو يشعر بالزهو و الغرور، لأنه يعمل في جهاز خطير و دقيق، مثل المخابرات الإسرائيلية، و سافر إلي عدن، و أنهي مهمته فيها بنجاح، ثم إلي اليمن، حيث أقام في فندق الأخوة في الحديدة، و بدأ هناك عمله في ثقة و بساطة، فراح يتجوَّل في الأسواق، و بالقرب من الميناء، حاملاً آلة التصوير المعلقة بكتفه، و التي يلتقط بها عشرات الصور للميناء، و السفن الراسية فيه، و إجراءات الأمن من حوله، ثم يعود إلي حجرته في الفندق باسم الثغر، شديد الزهو و الهدوء… و لكن فجأة، و في نفس اليوم الذي استعد فيه للسفر إلي أديس أبابا، فوجئ بشابين من رجال الأمن اليمنيين في حجرته، يسألانه في لهجة مهذبة تفتيش حجرته، فحاول الاعتراض، و ثار ثورة مصطنعة، و هدد بالاتصال بسفارة المغرب، و لكن أحداً لم يعره انتباهاً، و عثر الشابان علي الأفلام، فصاح مؤكداً أنها مجرد صور تذكارية للرحلة، و لكن أحدهما دسّ يده في جيب باروخ، و أخرج الرسوم الكروكية للميناء و المواقع العسكرية اليمنية، و هو يتساءل: أهذه؟.. رسوم تذكارية أيضاً ؟!..

سقوط باروخ

وسقط باروخ، واستسلم لهما و هما يقودانه إلي مبني التحقيقات، و لكنه ظلّ يصر علي أنه مغربي الجنسية، إلا أن اليمن كانت قد أبلغت المخابرات المصرية بسقوط الجاسوس، الذي حذرتها مصر من أنه سيصل إليها مسبقاً، بعد أن نقل أحد عيونها المعلومة إليها من قلب إسرائيل، و أرسلت مصر ضابط المخابرات المصري الأسمر، الذي واجهه، و كشفه أمام نفسه، ثم حمله معه إلي القاهرة.. لم تكن رحلة الضابط المصري مع الإسرائيلي باروخ زكي مزراحي، من اليمن إلي القاهرة سهلة أو هينة، بل كانت مغامرة عنيفة، تستحق مجلداً ضخماً لسردها، خاصة مع محاولات الموساد المستميتة لاستعادة ضابطهم، و لكنهما في النهاية وصلا إلي القاهرة، و تسلمت السلطات باروخ و قبل أن يبدأ إسماعيل مكي، نائب المدعي العسكري العام، تحقيقاته معه، مال نحوه، و أخبره بابتسامة هادئة، أن زوجته مارجريت رزقت بمولودة أمس، وهي في حالة جيد.. و هنا انفجر باروخ باكياً، و اعترف بكل شيء.

تبادل الأسري

بعد نهاية حرب أكتوبر 1973 طالبت إسرائيل مصر بمبادلته بمجموعة من الجنود الأسرى ولكن الجانب المصري رفض المبادلة بحجة أن مزراحي ليس جندي أسير بل جاسوس. هذا الأمر جعل رئيس الموساد آنذاك زڤي زامير يسافر إلى واشنطن من أجل التوسط لصالح مزراحي. في منتصف المحادثات طلبت رئيسة وزراء إسرائيل گولدا مئير عن طريق وزير دفاعها موشي ديان الانسحاب من المفاوضات والخضوع للرأي العام وتجاهل قضية اطلاق سراح مزراحي والتركيز على استرداد الجنود الإسرائيليين الأسرى لدى الجانب المصري. نتيجة لذلك قرر زامير تقديم استقالته من رئاسة الموساد.[1]

في سنة 1974 تم الإفراج عنه مقابل الإفراج عن الجاسوس المصري عبد الرحيم قرمان.[2]

الوفاة

توفي مزراحي في سنة 2005 بهدوء بدون أن يصدر من الحكومة الإسرائيلية أي بيان رسمي يذكر فيه العرفان و الامتنان التي قدمها طوال خدمته العسكرية كما هي العادة.[3]

مسلسل الصفعة

تم عمل مسلسل بإسم الصفعة في رمضان 2012 يجسد قصة الجاسوس باروخ زكي مزراحي بطولة شريف منير وهيثم أحمد زكي.

مصادر