يلبغا العمري
سيف الدين يلبغا ابن عبد الله العمري الناصري الخاصكي، وشهرته يلبغا العمري أو يلبغا الخاصكي (ت. 1365)، كان أميراً مملوكياً بارزاً في عهد المماليك البحرية. كان في الأصل مملوكاً للسلطان الناصر حسن (حكم 1347–1351، 1354–1361)، ترقى في المناصب بعد إقصاء الأميرين الكبيرين، شيخو العمري وصرغتمش، ليصبح أمير المجلس (كبير القضاة، وهو مسؤول إداري رفيع المستوى)، وحقق أعلى رتبة عسكرية وهي أمير المائة فارس وقائد الألف جندي. تدهورت العلاقات بين يلبغا والناصر حسن، فأمر الأول بقتل سيده في صراع عنيف على السلطة عام 1361.
بعد التخلص من الناصر الحسن، أصبح يلبغا الشخصية الأقوى في سلطنة المنصور محمد (حكم 1361-1363)، الذي كان ليلبغا دور في تنصيبه، وعمل تحت إمرته قائداً عاماً للجيش. وقد قللت سلطته من نفوذ الأمراء الكبار الآخرون، وعلى رأسهم طيبغا الطويل. خلال هذه السنوات، كوّن يلبغا حاشية مملوكية ضخمة، بلغ قوامها نحو 3.000 مملوك عام 1366، بمن فيهم السلطان المستقبلي برقوق. وفي العام نفسه، أمر يلبغا باعتقال طيبغا وتوطيد حكمه. إلا أنه في ديسمبر من العام نفسه، قُتل يلبغا على يد مماليكه في ثورة دعمها السلطان آنذاك الأشرف شعبان (حكم 1363-1377). ودُفن في الضريح الذي شيده في جزيرة الروضة بالقاهرة.
سيرته
السنوات المبكرة
بيع يلبغا كمملوكاً للسلطان الناصر حسن، ومن هنا جاء اسم يلبغا الثاني نسبة (صفة تدل على الأصل)، "الناصري".[1] ليس من الواضح متى أو ممن تم شراء يلبغا،[1] لكن المؤرخ يو فان ستينبرگن يشير إلى أن "نسبته" الأولى، "العمري"، تشير إلى أنه تم شراؤه من قبل تاجر الرقيق القاهري، عمر بن مسافر، قبل وفاة الأخير عام 1353.[2] علاوة على ذلك، يعتقد ستينبرگن أن الناصر حسن اشترى يلبغا عام 1350، عندما بدأ السلطان الشاب في تأسيس قاعدة قوته "المملوكية"، وفقاً لمؤرخ العصر المملوكي المقريزي.[2] أصبحت يلبغا جزءاً من خاصة الناصر حسن (الدائرة الداخلية للسيد من المماليك)، ومن هنا نسبة يلبغا الثالثة، "الخاصكي".[2]
بعد الإطاحة بالناصر الحسن في أغسطس 1351، من المحتمل أن يكون يلبغا قد خدم شقيق الناصر الحسن الأصغر وخليفته، السلطان الصالح صالح (حكم 1351-1354).[2] عاد الناصر حسن إلى العرش في أكتوبر 1354 بعد أن أطاح به أميرا المماليك الكبار شيخو وصرغتمش، اللذان كانا بمثابة رجال أقوياء وأوصياء فعليين على السلطان.[2] عاد يلبغا إلى خدمة الناصر حسن، وبعد مقتل شيخو على يد أحد "المماليك" التابعين للسلطان في نوفمبر 1357، زاد دخل يلبغا ورُقّي إلى رتبة أمير الأربعين.[2]
في أغسطس من عام 1358، أمر الناصر حسن بالقبض على صرغتمش، مما سمح للسلطان بتولي السلطة الفعلية في مملكته.[2] ثم قام بزيادة سلطة كبار المماليك، بمن فيهم يلبغا، الذي رُقي إلى أعلى رتبة وهي أمير المائة، قائد الألف، ومنح إقطاعية كبيرة ذات عائد مرتفع.[2] وقد حدثت هذه الترقية بالتزامن تقريباً مع تعيين يلبغا كـ أمير المجلس (سيد العامة) بدلاً من صهر الناصر حسن، تنكزبغا، الذي توفي في أغسطس 1358.[3] وبصفته أمير المجلس، كان يلبغا مسؤولاً عن الإشراف على الاجتماعات الحكومية للسلطان وأصبح منخرطاً بشكل كبير في إدارة السلطان.[2] مع القضاء على شيخو وصرغتمش، أصبح يلبغا كبير رجال الدولة في السلطنة، وهو وضع أكده السلطان بمنحه مقر إقامة صرغتمش الفخم على سفح تل يطل على القاهرة.[4] انطلاقاً من هذا الموقع الاستراتيجي والمقر المحصن، بدأ يلبغا في بناء قاعدته الخاصة من المماليك.[4]
صراعه مع الناصر حسن
على الرغم من ندرة المعلومات حول السنوات الثلاث التي تلت ترقيات يلبغا عام 1358، فمن الواضح أن يلبغا قد عزز حاشيته من المماليك. ونشأت توترات بين الناصر حسن ويلبغا بسبب قلق الأول من تنامي نفوذ الثاني. وقد ظهرت روايات عديدة في مصادر العصر المملوكي حول أحداث مارس 1361، عندما يُزعم أن يلبغا قتل الناصر حسن.[5] يذكر السرد المعاصر الذي رواه ابن كثير أن الإنفاق الباذخ للناصر حسن وسياساته المالية غير الشعبية أدت إلى المواجهة بين الناصر حسن ويلبغا.[5] سعى السلطان إلى القضاء على يلبغا، لكن الأخير كان مستعداً لمثل هذا الحدث.[5] وبناءً على ذلك، واجه يلبغا ومماليكه الناصر حسن وقواته وهزموهم على مشارف القاهرة، مما دفع الناصر حسن إلى الانسحاب إلى القلعة.[5] وهناك، حاصره جيش المماليك بأكمله في القاهرة، وتم اعتقاله وإرساله إلى مقر إقامة يلبغا بعد محاولته الهرب.[5]
وتذكر رواية ثانية غير معاصرة، كتبها ابن تغري بردي، أن الناصر حسن قد ازداد شكه عمقاً في يلبغا نتيجة للتحريض ضده من قبل مماليك السلطان الصغار في خصاكه، الذين اتهموا يلبغا بتكوين علاقات وثيقة مع خصيان السلطنة ومنحهم سلطة كبيرة، دون موافقة السلطان، وبتوزيع الإقطاع على النساء في حريمه.[6] بدأ يلبغا بمعارضة الناصر حسن في قراراته، والتي كان الكثير منها غير شعبي في بعض الأوساط المملوكية.[6] على غرار ابن كثير، يتفق ابن تغري بردي ومصادر العصر المملوكي الأخرى على أن الناصر الحسن حاول اعتقال يلبغا، لكن محاولته ارتدت عليه عندما هزمت قوات الأخير السلطان وأرسلته في النهاية إلى مقر إقامة يلبغا.[7] بينما لا تُفصّل معظم المصادر ما حدث للناصر الحسن بعد ذلك سوى أنه لم يُسمع عنه شيء بعد ذلك، يؤكد المقريزي أن يلبغا أمر بتعذيب الناصر الحسن بشدة، ثم قتله ودفنه في مقعد حجري في منزله حيث كان يلبغا يمتطي حصانه عادة.[7] اعتُبرت جريمة قتل يلبغا المزعومة لسيده السابق بمثابة كسر لمحرمات المماليك.[6]
رجل مصر القوي
بعد إقصاء الناصر حسن، اختار يلبغا وكبار الأمراء المنصور محمد، حفيد السلطان الناصر محمد (حكم 1310-1341)، منهياً بذلك سلسلة أبناء الناصر محمد الذين تولوا السلطنة.[7] أصبح يلبغا الأمير الأبرز الخاصكي في إدارة المنصور محمد إلى جانب الأمير طيبغا الطويل، وهو أحد كبار مماليك الناصر حسن.[7] عُين يلبغا "أتابك عسكر" (القائد العام)، وهو منصب أصبح ثاني أكثر المناصب نفوذاً في السلطنة، ولا يسبقه سوى السلطان.[7] في السنوات الأولى من حكم المنصور محمد، أصبح يلبغا الرجل القوي الفعلي لمصر، على الرغم من أن ابن تغري بردي أشار إلى أن سلطته كانت مقيدة من قبل الأمراء الكبار الآخرين، وعلى رأسهم طيبغا، الذي كان يلبغا يتخذ معه القرارات المشتركة.[7] على أقل تقدير، أصبح يلبغا "أولاً بين متساوين"، وفقاً لستينبرگن.[8]
واجه يلبغا تحدياً من قبل حاكم دمشق المملوكي، بيدامور الخوارزمي، الذي أعلن تمرداً ضده في سوريا في صيف عام 1361.[8] ورداً على ذلك، قاد يلبغا جيشاً من المماليك من مصر إلى سوريا ضم المنصور محمد وخليفة العباسيين المعتضد الأول.[8] أجبر استعراض يلبغا للقوة أنصار بيدامور على الانشقاق، وحقق يلبغا نصراً كبيراً، وإن كان رمزياً.[8] استُقبلت عودته إلى مصر برفقة السلطان والخليفة بالاحتفالات.[8]
تزوج يلبغا من طليباء، أرملة الناصر حسن، وهي امرأة ثرية من أصل منغولي، في خريف عام 1361.[8] من المرجح أن يلبغا تزوجها في محاولة لدمج أسرته مع أسرة القلاوونيين الملكية (أحفاد السلطان قلاوون) الذين اعتلى أفرادهم عرش المماليك منذ عام 1279.[8] أحمد، الابن الذي أشيع أن طليباء أنجبته قبل الزواج، كان على الأرجح ابن الناصر حسن، وبالتالي فهو من القلاوونيين.[8] سعى يلبغا، من خلال دمج أسرته مع القلاويين، إلى الحصول على الشرعية الملكية لتجاوز أقرانه في المكانة والسلطة.[9] كما شرع يلبغا في الاستيلاء على ثروة القلاوونيين، مستغلاً علاقته الوثيقة بابن قزوينة، وهو قبطي اعتنق الإسلام وكان وزير المالية في عهد السلطان، لتحقيق هذه الغاية.[9]
عام 1363، قام يلبغا وطيبغا وكبار الأمراء بعزل المنصور محمد واستبداله بحفيد آخر للناصر محمد، وهو الأشرف شعبان.[10] بفضل الموارد المالية الوفيرة للسلطنة التي كانت تحت تصرفه،[11] قام يلبغا ببناء فيلق مملوكي هائل، يُعرف في المصادر الحديثة باسم "اليلبغاوية"، والذي تألفت صفوفه من مجموعات مختلفة من المماليك، بما في ذلك أولئك الذين اشتراهم يلبغا وأولئك الذين أتوا من أسر مملوكية متفرقة.[10] وفرض يلبغا تدريباً عسكرياً صارماً على مماليكه، والذين كان عددهم ينافس، بل ويتجاوز في بعض الحالات، عدد المماليك التابعين للسلاطين القلاوونيين؛ وبحلول عام 1366 بلغ عددهم حوالي 3.000 مملوك.[10] وكان برقوق من بين هؤلاء المماليك،[12] والذي أصبح سلطاناً عام 1382. قام يلبغا بإجراء إصلاحات تدريبية وتعليمية قلصت التساهل الذي ساد في عهد الناصر محمد، وهدفت إلى استعادة الانضباط والتنظيم في أفواج المماليك.[13] كانت سياسته مشابهة لتلك التي وضعها السلطانيين السابقين بيبرس وقلاوون.[13] إن قسوة أساليبه ومعاقبته المفرطة للمماليك على المخالفات البسيطة ستؤدي لاحقاً إلى تمرد المماليك ضده.[13]
تراجع نفوذه ومقتله
في أكتوبر 1365، شن پيير الأول ده لوزنيان، ملك قبرص، حملة مفاجئة لغزو الإسكندرية.[14] رداً على ذلك، بذل يلبغا جهوداً كبيرة لإعادة بناء البحرية المملوكية.[15] في أقل من عام واحد وعلى الرغم من ندرة مواد البناء، تمكن يلبغا من الإشراف على إنتاج مائة سفينة حربية، تحمل كل منها 150 بحاراً وعدداً من المماليك.[15] في نوفمبر 1366، أقام يابغا احتفالاً في نهر النيل لإظهار حجم أسطوله واستعادة الشرعية التي فقدها في أعقاب غزو الإسكندرية.[15] إلا أن السفن لم تُستخدم في العمليات ضد قبرص كما كان مُخططاً له ظاهرياً.[16]
قبل إعادة بناء البحرية، في أواخر فبراير 1366، دارت اشتباكات كبيرة بين فصائل مماليك يلبغا وطيبغا كبيرة في ضواحي القاهرة، منهية سنوات من التعاون السلمي بين الأميرين أثناء تنافسهما على السيادة في السلطنة.[17] انتصرت قوات يلبغا وسُجن طيبغا وأنصاره في الإسكندرية.[17] بعد خروج طيبغا من الساحة السياسية، عزز يلبغا سلطته على شؤون السلطنة، وعيّن أمراءه وأقاربه وصغار المماليك في مناصب إدارية وعسكرية هامة.[17]
في ديسمبر 1365، نزل الناصر حسن من قلعة الجبل وعَدَّى إلى بر الجيزة ليتوجه إلى الصيدِ بالبحيرة، بعد أن ألزم الأمراءَ أن يجعلوا- في الشواني التي نجز عملها برسم الغُزاة- العِدَد والسلاحَ والرجالَ على هيئة القِتالِ؛ لِيَنظُرَ السلطان والنَّاس، ثم سار السلطان والأتابك يلبغا بالعساكِرِ مِن بر الجيزة يريدون البحيرةَ حتى نزلوا في ليلة الأربعاء بتاريخ 6 ربيع الآخر بالطرانة وباتوا بها، وكانت مماليكُ يلبغا قد نَفِرَت قلوبُهم منه؛ لكثرةِ ظُلمِه وعَسفِه وتنوُّعِه في العذاب لهم على أدنى جُرمٍ، فاتفق جماعةٌ من مماليك يلبغا تلك الليلة على قَتْلِه من غير أن يُعلِموا المَلِكَ الأشرفَ هذا بشَيءٍ مِن ذلك، وركبوا عليه نِصفَ الليل، ورؤوسُهم من الأمراء: آقبغا الأحمدي الجلب، وأسندمر الناصري، وقجماس الطازي، وتغري برمش العلائي، وآقبغا جاركس أمير سلاح، وقرابغا الصرغتمشي، في جماعةٍ مِن أعيان اليلبغاوية، ولَبِسوا آلة الحرب وكبَسوا في الليل على يلبغا بخيمتِه بغتةً وأرادوا قتله، فأحسَّ بهم قبل وصولِهم إليه، فركِبَ فَرَس النوبةِ بخواصِّه من مماليكه، وهرب تحت الليل، وعَدَّى النيل إلى القاهرة، ومنع سائرَ المراكب أن يعدُّوا بأحد، واجتمع عنده من الأمراء طيبغا حاجِبُ الحجَّاب، وأيبك البدري أمير آخور، وجماعة الأمراء المقيمين بالقاهرة، وأمَّا مماليك يلبغا فإنَّهم لَمَّا عَلِموا بأن أستاذهم نجا بنَفسِه وهرب، اشتدَّ تخَوُّفُهم من أنَّه إذا ظَفِرَ بهم بعد ذلك لا يُبقي منهم أحدًا، فاجتمع الجميعُ بمن انضاف إليهم من الأمراءِ وغيرِهم وجاؤوا إلى المَلِك الأشرَفِ شعبان وهو بمُخَيَّمِه أيضًا بمَنزِلِه بالطرانة وكَلَّموه في مُوافَقَتِهم على قتالِ يلبغا فامتنع قليلًا ثم أجاب لِما في نفسه من الحزازةِ مِن حَجْرِ يلبغا عليه، وعدم تصَرُّفه في المملكة، وركِبَ السلطان بمماليك يلبغا وخاصكيَّته، فأخذوه وعادوا به إلى جهة القاهرة، وقد اجتمع عليه خلائِقُ من مماليك يلبغا وعساكر مصر، وساروا حتى وصلوا إلى ساحِلِ النيل ببولاق التكروري تجاه بولاق والجزيرة الوسطى، فأقام المَلِكُ الأشرف ببولاق التكروري يوم الأربعاء ويوم الخميس ويوم الجمعة، فلم يجدوا مراكِبَ يعدون فيها، وأما يلبغا فإنَّه لما علم أن الملك الأشرف طاوع مماليكَه وقَرَّبهم، أنزل من قلعة الجبل آنوك ابنَ الملك الأمجد حسين أخي الملك الأشرف شعبان وسَلْطَنَه ولَقَّبَه بالملك المنصور، وذلك بمُخَيَّمِه بجزيرة أروى المعروفة بالجزيرة الوسطانيَّة تجاه بولاق التكروري، حيث الملك الأشرف نازلٌ بمماليك يلبغا بالبر الشرقي والأشرف بالبر الغربي، فسَمَّتْه العوامُ سُلطان الجزيرة، ثمَّ في يوم الجمعة حضر عند الأتابك يلبغا الأمير طغيتمر النظامي والأمير أرغون ططر، فإنهما كانا يتصَيَّدان بالعباسة وانضافا بمن معهما إلى يلبغا فقَوِيَ أمره بهما، وعَدَّى إليه أيضًا جماعة من عند الملك الأشرف، وهم: الأمير قرابغا البدري، والأمير يعقوب شاه، والأمير بيبغا العلائي الدوادار، والأمير خليل بن قوصون، وجماعة من مماليك يلبغا الذين أمَّرَهم مثل: آقبغا الجوهري، وكمشبغا الحموي، ويلبغا شقير، في آخرين، واستمَرَّ الأتابك يلبغا وآنوك بجزيرة الوسطى، والملك الأشرف ومماليك يلبغا ببولاق التكروري، إلى أن حضر إلى الأشرفِ شَخصٌ يُعرَفُ بمحمد ابن بنت لبطة رئيس شواني السلطان، وجَهَّز للسلطانِ مِن الغربان التي عَمَّرَها برسم الغزاة نحو ثلاثينَ غُرابًا برجالها وكَسَر بروقها، وجعلها مثل الفلاةِ لأجلِ التَّعدية، فنزل فيها جماعةٌ مِن الأمراء ومن مماليك يلبغا ليعَدُّوا فيها إلى الجزيرة، فرمى عليهم يلبغا بمكاحِلِ النفط، وصار هؤلاء يرمون على يلبغا بالسهام فيردونَهم على أعقابِهم، وأخذ يلبغا ومن معه يرمون أيضًا النِّفطَ والنشاب، والأشرفيَّة لا يلتفتون إلى ذلك، بل يزيدونَ في سب يلبغا ولَعْنه وقتاله، وأقاموا على ذلك إلى عَصرِ يوم السبت، وقد قَوِيَ أمر الملك الأشرف وضَعُفَ أمر يلبغا، ثم اتفق رأيُ عساكر الملك الأشرف على تعدية المَلِك الأشرف من الورَّاق، فعدى وقتَ العَصرِ من الوراق إلى جزيرة الفيل وتتابعَتْه عساكره، فلما صاروا الجميعُ في بر القاهرة، وبلغ ذلك يلبغا، هرب الأمراءُ الذين كانوا مع يلبغا بأجمعهم وجاؤوا إلى الملك الأشرف وقَبَّلوا الأرض بين يديه، فلمَّا رأى يلبغا ذلك رجع إلى جهة القاهرة، ووقف بسوقِ الخيل من تحت قلعة الجبل، ولم يبقَ معه غير طيبغا حاجِبِ الحجَّاب الذي كان أولًا أستاداره، فوقف يلبغا ساعةً ورأى أمْرَه في إدبار، فنزل عن فَرَسِه بسوق الخيل تجاه باب الميدان، وصلَّى العصر، وحلَّ سَيْفَه وأعطاه للأميرِ طيبغا الحاجب، ثم نزل وقصَدَ بَيتَه بالكبش فرجمته العوامُّ مِن رأس سويقة منعم إلى أن وصل حيثُ اتجه، وسار الملك الأشرف شعبان بعساكره، حتى طلع إلى قلعةِ الجَبَلِ في آخر نهار السبت، وأرسل جماعةً منِ الأمراء إلى يلبغا، فأخذوه من بيتِه ومعه طيبغا الحاجِبُ، وطلعوا به إلى القلعةِ بعد المغرب، فسُجِنَ بها إلى بعدِ عشاء الآخرة، فلما أُذِّنَ للعشاء جاء جماعةٌ من مماليك يلبغا مع بعض الأمراء، وأخذوا يلبغا من سجنه وأنزلوه من القلعةِ، فلما صار بحدرة القلعة أحضروا له فَرَسًا ليركَبَه، فلما أراد الركوب ضَرَبه مملوكٌ مِن مماليكه يسمَّى قراتمر فأرمى رأسَه، ثم نزلوا عليه بالسيوفِ حتى هَبَروه تهبيرًا، وأخذوا رأسَه وجعلوها في مِشعَلِ النار إلى أن انقَطَع الدم، فلما رآه بعضُهم أنكره وقال: أخفيتُموه، وهذه رأسُ غَيرِه فرفعوه من المِشعَل، ومَسَحوه ليُعَرِّفوه أنَّه رأس يلبغا بسلعةٍ كانت خلفَ أذنه، فعند ذلك تحقَّقَ كُلُّ أحد بقتله، وأخذوا جثَّتَه فغَيَّبوها بين العروستين، فجاء الأميرُ طشتمر الدوادار فأخذ الرأسَ منهم في الليل، واستقصى على الجثَّةِ حتى أخذها، وحَطَّ الرأس على الجثة، وغَسَّلها وكفَّنَها وصلى عليه في الليل، ودفنه بتربتِه التي أنشأها بالصحراء بالقربِ مِن تربة خوند طغاى أم آنوك زوجة الناصر محمد بن قلاوون.[18]
سياساته الداخلية
طوال فترة حكمه في عقد 1360، عُرف يلبغا برعايته الدينية وأعماله الخيرية.[17] كان يلبغا من أشد المؤيدين للمذهب الحنفي السني، وأشرف على نمو المذهب الحنفي في مصر.[19] وأنشأ مناصب قضائية حنفية في القاهرة والإسكندرية،[20] والمدارس الحنفية التي بُنيت في القاهرة ومكة المكرمة.[17] خلال عهد يلبغا، ازداد التحول من المذهب الشافعي إلى الحنفي بشكل ملحوظ، على الرغم من أن هذا التوجه سبق يلبغا، حيث كان الأميران شيخو وصرغتمش من كبار رعاة المؤسسات الحنفية.[20] استمر هذا التوجه بعد وفاة يلبغا وحتى نهاية السلطنة.[20]
ومن بين مشاركاته مع مجتمع المماليك خارج نطاق السياسة توزيعه للمال والطعام على طلبة الشريعة الإسلامية وتلاميذ المتصوفة عام 1363، وتمويله لشبكات الري في الجيزة عام 1364،[17] ومحاولته مواجهة أزمة الغذاء وما نتج عنها من مجاعة في مكة عام 1365.[21] وفي الحالة الأخيرة، أُرسلت عدة قوافل إغاثة إلى مكة تحمل مئات الأطنان من القمح لتوزيعها على السكان بهدف وقف الهجرة المتزايدة من المدينة.[21] كما خفض الضرائب على الحجاج، معوضاً أمراء المماليك في مكة الذين كانوا يعتمدون على ضريبة الحج من عائدات "الإقطاع" في مصر، بالإضافة إلى 40.000 درهم فضي لحاكم مكة.[21] وقد نُقش هذا المرسوم على عمود حجري في المسجد الحرام بمكة المكرمة.[21]
تدهور الأمن على الطرق في سوريا خلال فترة حكم يلبغا الفعلي بسبب غارات القبائل العربية والتركمانية التي صادر يلبغا إقطاعاتها.[22] كما شن رجال القبائل البدوية غارات كبيرة على أسوان في صعيد مصر، مما أسفر عن مقتل العديد من السكان وإلحاق الخراب بالمدينة.[22] كما أصبحت الطرق في صعيد مصر غير آمنة بسبب الغارات البدوية المتكررة على المسافرين هناك.[22] يُزعم أنه رداً على هجوم الصليبيين على الإسكندرية عام 1365، عاقب يلبغا سكان مصر المسيحيين، وصادر الممتلكات الثمينة والأراضي من عامة المسيحيين والرهبان على حد سواء، بما في ذلك حوالي 12.000 صليب.[22]
المصادر
- ^ أ ب Steenbergen 2011, pp. 429–430.
- ^ أ ب ت ث ج ح خ د ذ Steenbergen 2011, p. 430.
- ^ Hamza, Hani (2006). "The Turbah of Tankizbugha" (PDF). Mamlūk Studies Review. Middle East Documentation Center, University of Chicago. 10 (2): 163.
- ^ أ ب Steenbergen 2011, p. 431.
- ^ أ ب ت ث ج Steenbergen 2011, pp. 431–432.
- ^ أ ب ت Steenbergen 2011, p. 433.
- ^ أ ب ت ث ج ح Steenbergen 2011, p. 434.
- ^ أ ب ت ث ج ح خ د Steenbergen 2011, p. 435.
- ^ أ ب Steenbergen 2011, p. 436.
- ^ أ ب ت Steenbergen 2011, p. 437.
- ^ Steenbergen, pp. 436–437.
- ^ Steenbergen 2011, p. 146.
- ^ أ ب ت Levanoni 1995, pp. 88–89.
- ^ Steenbergen 2011, p. 117.
- ^ أ ب ت Steenbergen 2011, p. 118.
- ^ Steenbergen 2011, p. 119.
- ^ أ ب ت ث ج ح Steenbergen, p. 438.
- ^ "فتنة يلبغا العمري ومحاولته خلع السلطان الأشرف شعبان". الدرر. Retrieved 2025-11-03.
- ^ Steenbergen 2011, pp. 439–440.
- ^ أ ب ت Steenbergen 2011, p. 440.
- ^ أ ب ت ث Steenbergen 2011, p. 439.
- ^ أ ب ت ث Steenbergen 2011, p. 428.
المراجع
- Levanoni, Amalia (1995). A Turning Point in Mamluk History: The Third Reign of Al-Nāṣir Muḥammad Ibn Qalāwūn (1310–1341). Brill. ISBN 9789004101821.
- Mayer, L.A. (1933). Saracenic Heraldry: A Survey. Oxford: Oxford University Press. (pp. 11, 8 5, 90, 146, 228, 249*, 254)
- Steenbergen, Jo Van (2011). "On the Brink of a New Era? Yalbughā al-Khāṣṣakī (d. 1366) and the Yalbughāwīyah" (PDF). Mamluk Studies Review. Middle East Documentation Center, The University of Chicago. 15: 117–152.
- Steenbergen, Jo Van (September 2011). "The Amir Yalbughā al-Khāṣṣakī, the Qalāwūnid Sultanate, and the Cultural Matrix of Mamlūk Society: A Reassessment of Mamlūk Politics in the 1360s". Journal of the American Oriental Society. American Oriental Society. 131 (3): 423–443. JSTOR 41380710.