صالونات وأكاديميات الفن الفرنسي

من القرن السابع عشر حتى مطلع القرن العشرين، كان الانتاج الفني في فرنسا محكوماً بالأكاديميات الفنية التي كانت تنظم معارض رسمية تسمى صالونات salons.

تاريخ الفن الفرنسي

الفن الفرنسي - الصفحة الرئيسية
التصنيفات

الفترات التاريخية

قبل التاريخ
العصور الوسطى
النهضة وMannerism
الباروك والكلاسيكية
روكوكو والكلاسيكية الحديثة
القرن 19
القرن 20

فنانون فرنسيون

الفنانون (زمنياً)
الفنانون - الرسامون
المثالون - المعماريون
المصورون الفوتوغرافيون

حسب المواضيع

الحركات الفنية (زمنياً)
حركات فنية (تصنيف)
الصالونات والأكاديميات
متاحف الفن الفرنسي

الأكثر زيارة

انطباعية - تكعيبية
دادا - سريالية

بوابة الفن
تاريخ الفن الغربي
بوابة فرنسا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

صالونات عصر ڤولتير

كانت باريس العاصمة الثقافية للعالم، أكثر منها فرنسا. قال ديكلوس "إن هؤلاء الذين يعيشون على مسافة مائة فرسخ من العاصمة إنما يبعدون عنها بمائة عام من حيث أساليب السلوك والتفكير(39)وربما لم توجد عبر التاريخ قط مدينة تعج بحياة متنوعة الألوان. فالمجتمع المهذب المصقول وفنون الأدب الرفيع ائتلفا في رباط وثيق مذهل. وكان الخوف من الجحيم قد زال عن الباريسيين المتعلمين وتركهم في حالة المرح والابتهاج لم يسبق لها مثيل، لا يلقون بالاً في وثوقهم الجديد بأنه ليس هناك عملاق رهيب قدير في السموات، يسترق السمع إلى خطاياهم ويحصيها عليهم. ومن تحرير الذهن على هذا النحو لم تنجم بعد آثار كئيبة من عالم مجرد من القداسة والهدف الخلقي، عالم برتجف في زمهرير التفاهة والحقارة، وكان الحديث شائقاً تتخلله الدعابة والمرح. وغالباً ما انتقل إلى هزل ظاهري، وهنا كان التفكير ينحصر في ظواهر الأمور خشية عدم العثور على شيء في أعماقها. وكان القيل والقال والفضائح تنتشر بسرعة من ناد إلى ناد ومن بيت إلى بيت، وكثيراً ما تطرق الحديث إلى آفاق خطيرة في السياسة والدين والفلسفة، مما قد يتيسر الخوض فيه اليوم إلا نادراً.

وكان المجتمع متألقاً، لأن السيدات كن مبعث الحياة فيه، وكن المعبودات التي قدسها هذا المجتمع، وهن اللائي تولين توجيهه، وبطريقة ما وبرغم العرف والعوائق أتيح لبعضهن قدر من التعليم يكفي لتبادل الحديث في فطنة وذكاء مع أئمة الفكر الذين أحببن أن يستضيفوهم. ونافسن الرجال في الاستماع إلى محاضرات رجال العلم(40). إذ عاش الرجال قليلاً في المعسكرات وطالت إقامتهم في العاصمة وفي الحاشية فقد تزايد إحساسهم بالمفاتن غير الملموسة في النساء-رشاقة الحركة، عذوبة الصوت حيوية الروح ومرحها، بريق العينين، رهافة الذوق، الجزع المشوب بالحنان والحب، النفس المشربة بالرحمة والشفقة. إن تلك الصفات جعلت المرأة محبوبة في كل مدينة ولكنا ربما لا نجد في أية ثقافة أخرى أن الطبيعة والتعليم والملابس والحلي وأدوات التجميل والزينة قد جعلت من المرأة مخلوقاً يسحر الألباب بقدر مل كانت عليه في فرنسا القرن الثامن عشر. وكل هذا المفاتن والمغريات لا تستطيع على أية حال أن تفسر سلطان المرأة وقوتها. إن الذكاء في معالجة الرجال وسياستهم أمر ضروري. وبارى ذكاء النساء عقل الرجال وفي بعض الأحيان تفوق عليه. وعرف النساء الرجال أفضل مما عرف الرجال النساء. والرجال يندفعون في تهور بالغ إلى أفكار لتنضج حتى تفهم، على حين إن التراجع المحتشم المطلوب حتى من السيدة المتفتحة، هيأ لهل فسحة من الوقت للملاحظة والتجريب وتخطيط حملتها أو هجومها.

وكلما ازدادت حساسية الرجل اتساعاً وعمقاً، نما تأثير المرأة ونفوذها. وفتشت البسالة في ميدان الحب عن جزاء وفاق لها في الصالون وفي مخدع المرأة وفي الحاشية على حد سواء. وكم اهتز الشعراء طرباً حين وجدوا آذاناً صاغية من الجنس الرقيق. وكم رفع من شأن الفلاسفة تفضل السيدات ذوات التهذيب الرفيع والمكانة العالية بالاستماع إليهم، بل إن أغزر العلماء علماً وأوسعهم إطلاعاً وجدوا في الصدور الناعمة وفي حفيف الرقص مثاراً للفكر والعقل. وهكذا مارست المرأة قبل "تحريرها" سيادة طبعت العصر بطابعها المتميز. وتذكرت مدام فيجي لبرون فيما بعد "كانت المرأة تحكم آنذاك، ثم ثلت الثورة عرشها"(41). إن النساء لم يعلمن الرجال آداب السلوك والعادات فحسب، بل إنهن كذلك رفعن أو خفضن من درجاتهم في الحياة السياسية، بل حتى في الحياة العلمية. من ذلك أن مدام دي تنسان هيأت اختيار ماريڤو بدلاً من ڤولتير، لعضوية مجمع الخالدين "الأكاديمي فرانسيز") في 1742. وكان شعار "فتش عن المرأة" وسيلة النجاح، فإنك إذا عثرت على المرأة التي يحبها الرجل، كشفت عن المنفذ الذي تصل منه إلى الرجل الذي تريد.


صالون مدام پومپادور

كانت كلودين الكسندرين دي تنسان-بعد بمبادور-هي السيدة الأكثر إمتاعاً وتشويقاً بين النساء اللاتي سيطرن على فرنسا في النصف الأول من القرن الثامن عشر. وقد عرفنا كيف هربت من أحد الأديار، وأنجبت دالمبرت، واتخذت لها مسكناً في باريس في شارع سانت أونوريه حيث استقبلت مجموعة متعاقبة من العشاق، بينهم بولنجبروك، ريشيليو، فونتنيل (صموت ولكنه نشيط قوي في سن السبعين) وعدداً من الرهبان ومدير الشرطة في باريس. وأضافت الشائعات أخاها بيير إلى قائمة المترددين عليها، ولكن ربما أحبته لمجرد أنها أخت حنون مصممة على تنصيبه كاردينالاً، إن لم يكن رئيساً للوزراء. وعن طريقه وعن طريق غيره دبرت أن تكون ركناً قوياً في حياة فرنسا.

إنها جمعت المال أولاً. واستثمرته على طريقة دكتور لو، ولكنها باعت الأسهم في الوقت المناسب. وقبلت الحراسة على ثروة شارل جوزيف دي لا فرزني، ثم أبت إعادتها إليه، فانتحر في دارها، تاركاً وصية يتهمها فيها بالسرقة (1726)، وأرسلت إلى الباستيل ولكن أصدقائها دبروا أمر الإفراج عنها، واحتفظت بمعظم الثروة. وتحدت ثرثرة المدينة والحاشية، وخرجت منها سالمة.

وحوالي 1728 أفاضت مدام دي تنسان إلى مخدعها صالوناً اتخذته سلماً ترقى به إلى السلطة والقوة، واستقبلت فيه مساء يوم الثلاثاء من كل أسبوع، على مائدة العشاء عدداً من الرجال البارزين، أطلقت عليهم "معرض الوحوش" منهم مونتنيل، مونتسكيو، ماريفو، بريفوست، هلفشيوس، استروك، مارمونتل، هينولت، ديكلوس، مابلي، كوندرسيه، وأحياناً تشسترفيلد. وكانت المجموعة كلها من الرجال عادة لأن تنسان لم تكن تطيق على مائدتها أية منافسات. ولكنها أطلقت "لوحوشها" العنان، ولم تغضب قط لرافضهم السافر للمسيحية. وتساوي كل الناس من كل الطبقات هناك، فكان الكونت النبيل في مستوى الرجل من العامة، وقد تروى التقاليد فيما بعد أنه هنا كانت تجري أكثر المناقشات تألقاً ودقة طوال هذا القرن، قرن الحديث الذي لا حدود له(42).

وعن طريق ضيوفها وعشاقها وكهنة اعترافها استخدمت نفوذها لتحقيق أهدافها بطريقة سرية فيما بين فرنسا وروما. ولم يكن أخوها طموحاً، بل كان يتوق إلى الباسطة في الحياة والهدوء في الأقاليم، ولكنها وسعت حتى عين رئيس أساقفة ثم كاردينالاً، وأخيراً وزيراً في مجلس الدولة. وعاونت على أن تجعل من مدام شاتورو خليلة للملك، واستحثتها على حث الملك ليقود جيشه في الحرب. إنها رأت في بلادة لويس وتكاسله مصدراً للاضمحلال السياسي ونذيراً بهذا الاضمحلال. وربما كانت على صواب فيما فكرت فيه من أنها لو تولت رياسة الوزارة للقيت الحكومة نجاحاً أكبر، وأظهرت نشاطاً وحيوية أكثر. وناقش رواد صالونها في جرأة انحلال الملك واحتمال قيام الثورة.

وفي شيخوختها نسيت خطاياها، وانضمت إلى اليسوعيين وشنت الحملات على الجانسينين، وتبادلت رسائل المودة مع البابا بندكت الرابع عشر الذي أرسل إليها صورته اعترافاً منه بخدمتها للكنيسة. إن رقة الفؤاد التي ازدانت بها أخطاؤها، وجدت لها منافذ كثيرة. ولما قابل الجمهور في بداية الأمر كتاب مونتسكيو "روح القانون" (1748) بعدم الاكتراث اشترت تنسان كل نسخ الطبعة الأولى تقريباً، ووزعتها مجاناً على أصدقائها الكثيرين. وتولت رعاية مارمونتل الشاب وأسدت إليه النصح أن يعقد فوق كل شيء، أواصر الصداقة مع النساء، لا الرجال، وسيلة للارتقاء والصعود في هذا العالم(43). وأصبحت هي نفسها، في سني شيخوختها وضعفها الأخيرة، كاتبة ومؤلفة، وسترت الطيش والحماقة بإغفال ذكر اسمها على ما ألفت. وقارن أصدقاؤها النقاد قصتها بقصة مدام دي لافاييت (برنسيس دي كليف Prnicesse De Cleves). وفارقت مدام تنسان الحياة في 1749 وهي في الثامنة والستين. وعندئذ تساءل فونتينل العجوز "أين أتناول العشاء مساء يوم الثلاثاء الآن؟" ولكنه أجاب لنفسه في ابتهاج على الفور "حسناً"، عند مدام جيوفرين(44). وربما التقينا به هناك.

صالون مدام دي دفاند

كان صالون مدام دي دفاند قديماً قدم صالون تنسان، كما عمر مثل ما عمر صالون جيوفرين تقريباً. إن ماري دي فيشي شامروند باتت يتيمة وهي في سن السابعة فوضعت في دير اشتهر بالتعليم، فبدأت تدرس وتتأمل في سن مبكرة الأوان، وكانت تلقي أسئلة تتسم بالتشكك إلى حد مزعج، وإذ وقعت الراهبة في حيرة من أمر الصبية وأسئلتها فإنها أحالتها إلى الواعظ المتفقه ماسيون، الذي عجز عن تفسير المسائل الغامضة، فتخلى عنها يأساً من إنقاذها من الضلال. وفي سن الحادية والعشرين أصبحت مركيزة دي ديفان بزواج تم عن تراض بين الطرفين، ولكنها سرعان ما تبينت أن زوجها شخص مبتذل ممل إلى حد لا يحتمل، فافترقا بعد اتفاق وفر لها ثروة لا بأس بها. وفي باريس وفرساي انصرفت إلى لعب الميسر في اندفاع شديد "لم أفكر في شيء إلا القمار" ولكن بعد ثلاثة أشهر منيت فيها بخسائر فادحة، "تولاني جزع شديد، وحزنت على ما أنا فيه، ونأيت بنفسي عن هذه الحماقة". وقضيت فترة قصيرة خليلة للوصي(45). ثم تنحت عنه إلى عدوته الدوقة دي مين. وفي مسكو التقت بشارل هنولت رئيس مجلس التحقيق العسكري، الذي أصبح عشيقاً لها، ثم صديقاً مدى الحياة.

وبعد أن أقامت لبعض الوقت مع أخيها انتقلت إلى نفس الدار في شارع دي بون، التي قضى فيها فولتير نحبه. وإذ اشتهرت بجمالها وعينيها البراقتين وذكائها الحاد، فإنها جذبت إلى مائدتها (حوالي 1739) نفراً من مشاهير الرجال الذين جاءوا ليؤلفوا صالوناً يذيع صيته كما ذاع صيت صالون تنسان تقريباً: هنو، مونتسكيو، فولتير، مدام دي شانيليه، ديدرو، دالمبرت، مارمونتل، مدام دي ستال دي لونيه ... وفي 1747، وقد بلغت آنذاك الخمسين، وخفضت من غلوائها بعض الشيء، استأجرت شقة جميلة في دير سان جوزيف في شارع سان دومنيك. وكان من عادة الأديار تأجير غرف للعرائس والأرامل والنساء اللائي افترقن عن أزواجهن، وكانت هذه المساكن عادة في أبنية خارج المبنى الأساسي الخاص بالراهبات. ولكن في حالة هذه المتشككة الثرية، كان المسكن داخل جدران الدير، والحق إنه المسكن الذي كان قد آوى تحت سقفه مؤسسة هذا الدير الآثمة، مدام دي مونتسبان. وتبع صالون المركيزة شخصها إلى مقرها الجديد. ولكن ربما أزعجت البيئة المحيطة به الفلاسفة، فلم يعد ديدرو يحضر ونادراً ما كان يجيء مارمونتل، وكان جريم يتردد بين الحين والحين، وسرعان ما أنقطع دالمبرث. ومعظم المجموعة الجديدة في سان جوزيف كانوا من سلالة الأرستقراطية القديمة: مارشال لكسمبورج ومارشال ميربوا وعقيلتاهما، دوقا ودوقتا دي بوفلوز ودي شوازيل ودوقات اجوبون وجرامونت وفليروا وصديق مدام دي ديفاند من أيام طفولتها ولمدى الحياة، وهو بونت دي فيل. وكانوا يلتقون في السادسة، ويتناولون العشاء في التاسعة ثم يلعبون الورق والميسر؛ ويتناولون بالتحليل والتفصيل الأحداث الجارية في عالم السياسة والأدب والفن، ثم يفترقون. في نحو الساعة الثامنة صباحاً. وكان الأجانب البارزون، والوافدون على باريس يحتالون للحصول على دعوة إلى "مأوى النبلاء" هذا. وروى لورد باث في 1751 "إني لأذكر أمسية دار الحديث فيها عن تاريخ إنجلترا، وكم دهشت وارتبكت حين وجدت أن هؤلاء القوم عرفوا من تاريخ بلادنا خيراً مما عرفنا نحن عنه!(46).

وتفردت دي ديفاند بأصفى ذهن وأسوأ خلق بين صاحبات الصالونات فكانت مغرورة متغطرسة عيابة شكاكة، أنانية أكثر مما يليق بالمرء أن يكون. ولما عالج كتاب هلفشيوس "الروح" ما ذهب إليه لاروشفوكول من أن كل الدوافع الإنسانية أنانية، علقت هي بقولها في ازدراء "إنه إنما كشف عن سر كل إنسان"(47)وكانت تجيد الهجاء المشوب بالحقد والضغينة كما فعلت في وصفها مدام دي شاتيليه. ولم تر في الحياة الفرنسية إلا الجوانب التافهة الضعيفة. وذهبت إلى ان الفقراء اشتركوا، بقدر ما سمحت به ظروفهم في رذائل الأغنياء ومساوئهم. ولم تضف شيئاً إلى التطلعات المثالية للفلاسفة سوى ما جاءت به العقيدة العتيقة من أساطير مغرية مريحة للنفس. وتجنيب الاستنتاجات وآثرت العادات القويمة. واحتقرت ديدرو ونعته بأنه جلف ساذج. وأحبت دالمبرث ثم عادت فكرهته. وأعجبت بفولتير لأنه سيئ السلوك حاد الذهن. والتقت به في 1721 وعندما هرب من باريس، ثم شرعت في 1736 تبادله الرسائل التي تعد من الروائع في الأدب الفرنسي ولم تقل رسائلها عن رسائله. رقة وعمقاً وصفاء وروعة ولكنها لم تبلغ ما بلغه في رسائله من لطف وسهولة وبعد عن التكلف والكياسة.

وفي سن الخامسة والخمسين بدأت تفقد بصرها، واستشارت كل متخصص في طب العيون، ثم بجأت إلى كل دجال ومشعوذ. وبعد ثلاث سنوات من الكفاح والعناء ذهب بصرها تماماً (1754)، ويومذاك أنذرت أصدقاءها بأنهم إذا استمروا في شهود أمسياتها فإنه يجدر بهم أن يحتملوا السيدة العجوز الضريرة. وعلى الرغم من هذا قصدوا إليها. وأكد لها فولتير من جنيف أن ذكاءها وفطنتها باتا أكثر تألقاً مما كانت حتى وهي بصيرة، وشجعاها على المضي في الحياة لمجرد أن تثير غضب من يدفعون لها رواتبها السنوية. ووجدت في جولي دي لسبيناس شابة لطيفة نشيطة فاتنة تعاونها على أن تستقبل وتستضيف الأصدقاء. وكانت هي آنذاك تتصدر المائدة وكأنها هومر الأعمى يتصدر مائدة مستديرة وحوله الحكماء وشعراء الملاحم البطولية، وكانت تتنقل هنا وهناك وقورة شامخة متحدية لمدة ستة وعشرين عاماً آخر. وإنا لنأمل أن نلتقي بها هي أيضاً مرة أخرى.

ولقد كان عصراً مشرقاً زاهياً، لأن النساء تألقن فيه، وجمعن فيه بين الذكاء والجمال، مما لم يسبق له مثيل. وبفضلهن ألهب الكتاب الفرنسيون الفكر بالعاطفة، وزينوا الفلسفة بالظرف وخفة الروح. وكيف كان يتسنى لفولتير أن يكون فولتير بغير وجودهن؟ حتى ديدرو الفظ الغامض اعترف بقوله "إن النساء عودتنا أن نناقش أشد الموضوعات جفافاً وتعقيداً، بشكل ساحر واضح، إننا نحدثهم حديثاً متواصلاً، ونريد منهن الإصغاء إلينا، ونخشى أن يتولاهن التعب أو الضجر. ومن ثم كنا نستخدم طريقة معينة في إيضاح آرائنا لهن في يسر وسهولة. وكانت هذه الطريقة تنتقل من مجرد الكلام إلى أسلوب"(48)وبفضل النساء أصبح النثر الفرنسي أكثر إشراقاً ووضاءة من الشعر واكتسب اللغة الفرنسية سحراً رقيقاً، ورشاقة في العبارة ولباقة في الحديث مما جعلها بهيجة ذات مكانة رفيعة. وبفضل النساء انتقل الفن الفرنسي من طراز الباروك الغريب الشاذ إلى الشكل المهذب المصقول والذوق الرفيع، مما ازدانت به كل مظاهر الحياة في فرنسا.

الصالونات Salonniéres

جملت النساء الفرنسيات اضمحلال الإقطاعية لا بمفاتن أشخاصهن وأزيائهن فحسب، بل بقدرتهن التي لا تبارى على جعل المجتمع الفرنسي جزءاً حيوياً من الحياة الفكرية للأمة، لا مجرد اجتماعات للثرثرة والقيل والقال. كتب جبون بعد أن وصل في 1777 ما انقطع بينه وبين صالونات باريس يقول:

"لو أتيح ليوليانوس الآن أن يلم من جديد بعاصمة فرنسا (حيث ولد عام 331م). لاستطاع أن يتبادل الحديث مع علماء وعباقرة قادرين على فهم تلميذ من تلاميذ اليونان وعلى تعليمه، ولعله مغتفر تلك الحماقات اللطيفة التي تند عن أمة يوهن روحها الحربية قط حبها للترف، وهو لا بد مصفق لكمال ذلك الفن الرفيع الذي يرقق ويهذب ويجمل علاقات الحياة الاجتماعية"(41). ثم أضاف في إحدى رسائله "لقد بدا لي دائماً أن النساء في لوزان، كما في باريس، أرقى كثيراً من الرجال"(42). وكانت قدامى الصالونيات يخيلن المسرح على كره. فمدام جوفران ماتت عام 1777 كما سبق القول. أما مدام دودفان فقد أوشكت أن تتم عبور القرن من أوله لآخره، فقد دخلت التاريخ بوصفها إحدى خليلات الوصي على العرش(43). وافتتحت صالوناً اتصل نشاطه من 1739 إلى 1780، وكانت قد خسرت معظم سباع الأدب، إذ ظفرت بهم جولي دلسبيناس والصالونات الجديدة، وقد وجد هوراس ولبول-الذي قدم إليها لأول مرة في 1765-تشكيلتها من الشيوخ الأرستقراطيين مملة لا تثير اهتمامه. "إنني أتناول عشائي هناك مرتين كل أسبوع، وأحتمل عشراءها المملين كلهم لأجل خاطر الوصي على العرش"(44)، وهو يعني ذكرياتها المرحة لفترة الوصاية الرائعة تلك التي قررت طابع المجتمع الفرنسي والأخلاق الفرنسية طوال الستين عاماً التالية. أما هي ذاتها (في عبارة هوراس) "فلذيذة (في الثامنة والستين)، تواقة لمعرفة ما يجري كل يوم توقي لما جرى في القرن الماضي".

وقد أعجب بفكرها إعجاباً مفرطاً-لأنه لم يلتق قط بمثل هذا الذكاء اللامع في نساء إنجلترا مازلن مقهورات مكبوتات-حتى لقد ألف أن يلم بها كل يوم، وقدم لها من التحية والإطراء ما بدا معيداً شبابها الذهبي. وأفردت هي له مقعداً خاصاً يحجز له دائماً، ووفرت له التدليل بكل لون من ألوان اهتمام المرأة ورعايتها. وإذ كان في طبيعتها بعض الذكورة، فإن رقته الأنوثية تقريباً لم تسوءها. واستطاعت وهي عاجزة عن رؤيته أن تشكل صورتها عنه كما يشتهيها قلبها ثم أحبت تلك الصورة. أما هو فلم يستطع قط وهو المبصر أن ينسى شيخوختها وعجزها البدني. وحين عاد إلى إنجلترا راحت تدبج له رسائل فيها من حرارة الحب ما يقرب مما في رسائل جولي دلسبيناس إلى جيبير، مكتوبة بأروع ما أبداه ذلك العصر من نثر. وقد حاولت ردوده على رسائلهاأن تكبح فرحتها، وكان يقشعر فرقاً إذا خطر له ما قد يفعله كتاب إنجلترا الهجاءون (مثل سلوين) بمثل هذه الأكلة المثيرة لشهية الهجاء. واحتملت لومه، وأكدت حبها من جديد، ووافقت على أن تسميه صداقة، ولكنها أكدت له ان الصداقة في فرنسا كثيراً ما تكون أعمق وأقوى من الحب. "أنني ملكك أكثر مني ملك نفسي... وددت لو استطعت أن أبعث إليك بروحي بدلاً من رسالة. وأني لأبذل السنين من عمري عن طيب خاطر لأضمن وجودي على قيد الحياة حين تعود إلى باريس "وقد شبهته بمونتيني "وهذا أسمى مديح في وسعي أن أخصك به، لأني لا أجد فكراً يعدل فكره إنصافاً ونصوعاً"(45).

ثم عاد إلى باريس في أغسطس 1767. وانتظرته في انفعال العذارى "أخيراً، أخيراً، لم يعد يفرقنا بحر. لا أستطيع أن أحمل نفسي على أن أصدق أن رجلاً له شأنك في الحياة، ويداه على عجلة حكومة عظمى، وإذن على عجلة أوربا، وفي وسعه.. أن يترك كل شيء ليحضر ويرى عرافة عجوزاً في ركن دير. أنه حقاً لأمر بالغ السخف، ولكنني مسحورة... فتعال يا معلمي! ليس هذا حلماً-فأنا أعلم ـإنني صاحية-سأراك اليوم!" وأرسلت مركبتها ليستقلها، فوافاها على الفور. وظل ستة أسابيع يطربها بحضوره ويحزنها بتحذيراته. فلما عاد إلى إنجلترا لم تستطع أن تفكر إلا في رجوعه إلى باريس، "ستجعل غروبي أجمل وأسعد كثيراً من ظهيرتي أو فجري. أن تلميذتك، المطيعة طاعة طفل، لا أمنية لها إلا أن تراك"(46).

وفي 30 مارس 1773 طلب إليها أن تكف عن الكتابة(47). ثم لانت قناته واستؤنفت الرسائل بينهما. وفي فبراير 1775 طلب إليها أن ترد إليه جميع رسائله، فامتثلت، مع إلماعة رقيقة إلى رغبتها في أن يرد إليها رسائلها "سيكون لديك ما يكفي لإنارة أحاسيسك الحارة مدى طويلاً أن أضفت إلى رسائلك كل الرسائل التي تلقيتها مني وسيكون هذا إنصافاً ولا ريب، ولكني أترك هذا الأمر لحكمتك"(48). ولم يبق من رسائله الثمانمائة إليها غير تسع عشرة، أما رسائلها فقد احتفظ بها كلها، ونشرت بعد موت ولبول. وحين سمع أن معاشها توقف عرض أن يعوضه من إيراده الخاص، ولكنها لم تر ضرورة لهذا.

وقد زاد انهيار غرامها من قتامة ذلك التشاؤم الطبيعي لامرأة فقدت ألوان الحياة ولكنها عرفت أموالها الضحلة والعميقة. فقد استطاعت حتى في عامها، أن أتنفذ ببصيرتها خلال الظاهر الأنيق لتصل إلى أنانية البشر التي لا يدركها التعب. وقد سألت ولبول "يا معلمي المسكين، ألم تلق غير الوحوش، والتماسيح، والضباع؟ أما أنا فلا أرى غير الحمقى، والبله، والكذابين، والقوم الحاسدين، والغادرين أحياناً.. أن كل من أراه هنا يذبل روحي. فلست أجد في أحد فضيلة، ولا إخلاصاً، ولا بساطة"(49). ولم يبق لها غير إثارة من إيمان ديني يعزيها. ومع ذلك فقد واصلت حفلات عشائها، مرتين في الأسبوع عادة، وكثيراً ما كانت تتغذى خارج مسكنها، ولو هروباً من سأم أيام مظلمة كالليالي. وأخيراً كفت عن التشبث بالحياة بعد أن تعلمت أن تكرهها، وراضت نفسها على تقبل الموت. وكانت الأمراض التي تبتلي بها الشيخوخة قد تفاقمت واصطلحت عليها، فشعرت وهي في الثالثة والثمانين بأنها أضعف من أن تقاومها. واستدعت كاهناً وأسلمت نفسها للأمل دون كبير إيمان. وفي أغسطس 1780 بعثت بآخر رسالة إلى ولبول تقول:

"إنني اليوم أسوأ حالاً... ولست أخال لهذه الحال معنى إلا النهاية. وليس في من القوة ما يكفي للإحساس بالخوف، وبما أنه قدر على ألا أراك مرة أخرى فليس لدي ما أسف عليه... فسل نفسك يا صديقي ما استطعت. ولا تبتئس لحالتي... وسوف تأسف علي، لأن المرء يطيب له أن يعرف أنه محبوب"(50).

وماتت في 23 سبتمبر تاركة لولبول أوراقها وكلبها.

وواصلت الكثيرات غيرها من الصالونيات هذا التقليد الجليل: السيدات دودتو، ودبينيه، ودني، ودجنليس، ولكسمبور، وكوندورسيه وبوفليه، وشوازيل، وجرامون، وبوهارنيه (زوجة عم لجوزفين)، يضاف إليهن جمعاً آخر صالونات ما قبل الثورة، وهو صالون مداد نكير العظيم. وقد بدأت حوالي 1770 حفلات استقبالها في الجمعة من كل أسبوع، ثم أضافت الثلاثاء بعد ذلك وفيه كانت الموسيقى هي الغالبة على الندوة؛ وهناك قسمت المدعوين للعشاء حرب جلوك-بلتثيني حزين، ثم وحدت بينهم الآنسة كليرون بتلاوتها فقرات من أحب أدوارها التمثيلية إليها. وفي الجمع كان رواد الصالون يلتقون بديدرو، ومارمونتيل، وموريليه، ودالامبير (بعد موت جولي)، وسان-لامبير، وجريم (بعد موت مدام دبينيه)، وجبون، وزينال، وبوفون، وجويبير، وجالياني، وببجال، وأنطوان توما صديق سوزان الأديب الأثير لديها. وفي أحد هذه الاجتماعات (أبريل 1770) طرقت فكرة إقامة تمثال لفولتير. هناك كان ديدرويكتت هرطقاته، وهناك كاد يصبح رجلاً مهذباً مصقولاً. وكتب إلى مدام نكير يقول "مما يؤسفني أن الحظ لم يواتني بمعرفتك في وقت أسبق، وإلا لكنت بلا ريب بعثت في إحساساً بالنقاء والرقة يسري من نفسي إلى كتبي"(51). ولم يبد غيره رأيهم فيها بمثل هذا الثناء. فمارمونتيل مثلاً، وهو الذي ظل صديقاً لها خمسة وعشرين عاماً، وصف سوزان في مذكراته بهذه العبارات: "لم تؤت شيئاً من مفاتن الشابات الفرنسيات لجهلها بآداب باريس وعادتها.. فلا ذوق في لباسها، ولا يسر في حركاتها، ولا سحر في أدبها، وكان ذهنها، كما كان تعبير وجهها، ثابتين ثباتاً مفرطاً بحيث أفتقد الخفة والرشاقة. وكان أكثر صفاتها جاذبية هي المجاملة، والإخلاص، ورقة الفؤاد"(52). ولم تحبها نساء الطبقة الأرستقراطية. مثال ذلك أن البارونة دوبركيرش التي زارت آل نكير مع الغراندوق بول في 1782 لم تر فيها "ببساطة أكثر من مربية"(53)، أما المركيزة دكريكي فقد مزقتها إرباً في صفحات مشحونة بالغل الظريف(54)، ولا بد أن مدام نكير أوتيت الكثير من الخصال الطيبة حتى ظفرت بحب جبون الدائم، ولكنها لم تتغلب تماماً على تراثها الكلفني إطلاقاً، فظلت متزمتة صارمة التدين رغم ثرائها، ولم تكتسب قط ذلك المرح الراقي الذي توقعه الرجال الفرنسيون من النساء.

وفي 1766 أنجبت الفتاة التي أصبحت فيما بعد مدام دستال. وقد غدت هذه الفتاة جرمين تكير-التي شبت وترعرعت بين الفلاسفة والحكام-عالمة وهي في العاشرة. وجعلها نبوغها المبكر مفخرة لأبويها إلى أن أرهق مزاجها العنيد العصبي أعصاب أمها. وقد أخضعت سوزان ابنتها لنظام صارم لأن الأم كانت تزداد غلواً في المحافظة كل يوم، فتمردت الفتاة، وأصبح الشقاق في هذا البيت الأنيق منافساً للفوضى الضاربة في مالية الدولة. وأضافت إلى تعاسة الأم تلك المصاعب التي لقيها نكير في محاولته تفادي إفلاس الحكومة رغم الحرب الأمريكية، وكرهها لكل نقد توجهه إليه الصحافة، حتى بدأت سوزان تحن إلى الحياة الهادئة التي كانت تحياها في سويسرا. وفي 1786 تزوجت جرمين، واضطلعت ببعض واجبات المضيفة في صالون أمها. غير أن الصالون الفرنسي كان آخذاً في الاضمحلال فالنقاش الأدبي كان يخلي مكانه للسياسة المتحمسة المتحزبة. كتبت سوزان إلى صديقة في 1786 تقول "ليس عندي أنباء أدبية أسوقها إليك، فحديث الأدب لم يعد الآن موضة العصر، والأزمة بالغة الشدة، والناس لا يهتمون بلعب الشطرنج وهم على شفا جرف هار"(56). وفي 1790 انتقلت الأسرة إلى كوبيه، وهو قصر ريفي اشتراه نكير على سواحل بحيرة جنيف الشمالية. وهناك ملكت مدام دستال، وعانت مدام نكير سنوات من مرض عصبي أليم على حياتها في 1794.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

انظر أيضاً

Other major art exhibitions in France

France has been the host of a number on important international fairs and exhibitions:

Paris was also the site of two world exhibitions of decorative arts:

Today, France is host to one of Europe's most prestigious international contemporary art fairs, the FIAC ("Foire internationale d'art contemporain"), and to Paris Photo (an international photography exhibition). Other art fairs and salons include:

  • ArtParis - held in the Carrousel du Louvre. ArtParis website
  • SAGA ("Salon des Arts Graphiques Actuels") - specialized in lithography, etching and illustration

انظر أيضاً قائمة معارض العالم.

المصادر

ديورانت, ول; ديورانت, أرييل. قصة الحضارة. ترجمة بقيادة زكي نجيب محمود.

وصلات خارجية