روكوكو والكلاسيكية الحديثة الفرنسيتان

تاريخ الفن الفرنسي

الفن الفرنسي - الصفحة الرئيسية
التصنيفات

الفترات التاريخية

قبل التاريخ
العصور الوسطى
النهضة وMannerism
الباروك والكلاسيكية
روكوكو والكلاسيكية الحديثة
القرن 19
القرن 20

فنانون فرنسيون

الفنانون (زمنياً)
الفنانون - الرسامون
المثالون - المعماريون
المصورون الفوتوغرافيون

حسب المواضيع

الحركات الفنية (زمنياً)
حركات فنية (تصنيف)
الصالونات والأكاديميات
متاحف الفن الفرنسي

الأكثر زيارة

انطباعية - تكعيبية
دادا - سريالية

بوابة الفن
تاريخ الفن الغربي
بوابة فرنسا
هذا المقال، كجزء من سلسلة تاريخ الفن الفرنسي، يغطي تاريخ الفن البصرية والتشكيلية في فرنسا من أواخر القرن 17 إلى أواخر القرن 18.

الروكوكو الفرنسي و الكلاسيكية الحديثة هما تعبيران يستخدمان لوصف الفنون البصرية والتشكيلية والعمارة في اوروبا من أواخر القرن 17 إلى أواخر القرن 18.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الموسيقى

كتب موتسارت من باريس في أول مايو 1778: "من حيث الموسيقى أراني محاطاً بوحوش ضارية لا أكثر... سل أي شخص شئت-شريطة ألا يكون فرنسي المولد-فإذا كان له أي علم بالموضوع أجاب بهذا الجواب بالضبط.. سأكون شاكراً الإله القدير إذا هربت دون أن يفسد ذوقي"(56). وهذا الحكم صارم ولكن جريم وجولدوني وافقا عليه(57). إلا أن هؤلاء النقاد الثالثة كانوا كلهم أجانب. وقد عكس الذوق الموسيقي للباريسيين من علية القوم آدابهم، فمال إلى القصد في التعبير والرتابة في الشكل، وظل يردد أصداء عصر لويس الرابع عشر. ومع ذلك ففي هذه السنوات الأولى للحكم الجديد بالضبط فقد نصف الباريس قصدهم، وربما آدابهم، في وطيس المعركة الدائرة حول بكيني وجلوك. تأمل رسالة جولي ليسبيناس المؤرخة 22 سبتمبر 1774، "أنني أشاهد باستمرار "أورفي وأوريديتشي" وأنا تواقة إلى الاستماع مراراً وتكراراً في اليوم لذلك اللحن الذي يمزق نياط قلبي "لقد فقدت حبيبتي أوريديتشي"(58). أن باريس لم تكن صماء لا تستطيب الموسيقى، وإن زاد ما استوردته منها على ما أنتجته.

وفي 1751 قدم فرانسوا-جوزف جوسيك، البالغ سبعة عشر ربيعاً، من موطنه هاينو إلى باريس يحمل خطاب تقديم إلى رامو. وحصل له الفنان العجوز على وظيفة قائد للأوركسترا الخاص الذي يديره ألكسندر-جوزف دلابويلنيير. وألف جوسيك لهذه "الفرقة" (1754 وما بعدها) سمفونيات سبقت سمفونية هايدن الأولى بخمس سنوات، وفي 1754 نشر رباعيات سبقت رباعية هيدن بسنة. وفي 1760 قدم في كنيسة سان روش "قداس الموتى" الذي استحدث فكرة العزف على آلات نفخ "التوبا" خارج الكنيسة. ولم يكن لإقدام جوسيك وتعدد مواهبه نهاية. ففي 1784 أسس "مدرسة الغناء الملكية"، التي أصبحت نواة كونسرفتوار باريس الموسيقي الذائع الصيت. وقد حقق نجاحاً متواضعاً في الأوبرا، الهازلة منها والجادة. ثم تكيف مع الثورة، وألف بعضاً من أشهر أغانيها، ومنها "ترنيمة للكائن الأعلى" لاحتفال روبسبيير (8 يونيو 1794). وعمر بعد انحسار جميع الموجات السياسية، ومات في 1829 بالغاً من العمر خمسة وثمانين عاماً.

أما أبرز شخصية في أوبرا ذلك العهد الفرنسية فهو أندريه جريتري André Grétry. وكان أجنبياً ككثيرين غيره من أقطاب الموسيقى الفرنسية في القرن الثامن عشر، فقد ولد في لييج عام 1741 لعازف كمان. ويروى أنه في ألو مرة تناول القربان طلب إلى الله أن يدعه يموت لتوه ما لم يكتب له أن يكون رجلاً صالحاً وموسيقياً عظيماً. في ذلك اليوم سقطت عارضة خشبية على رأسه وجرحته جرحاً خطيراً، ثم تماثل للشفاء، واستنتج أن السماء تعده بمستقبل سام(59). وكان منذ عامه السادس عشر يعاني دورياً من نزيف داخلي، يتقيأ فيه ستة أقداح من الدم في اليوم، وكان عرضة للإصابة بالحمى وبالهذيان ينتابه بين الحين والحين، وكاد أحياناً يجن لعجزه عن وقف نغمة موسيقية من التردد في رأسه دون توقف. ولعلنا نغتفر حتى الموسيقى الرديئة لرجل لقي كل هذا العذاب واحتفظ رغم ذلك بابتهاجه طوال اثنتين وسبعين سنة.

وحين كان في السابعة عشرة ألف ست سيموفنيات كانت من الجودة بحيث حصلت له من كاهن إحدى الكاتدرائيات على المال اللازم لسفره إلى روما. وقطع الطريق كله على قدميه فيما روته "المذكرات" الجذابة التي نشرها عام 1797(60)، وخلال الأعوام الثمانية التي أقام فيها بروما حمله نجاح برجوليزي على تأليف الأوبرات الهازلة. فلما جاء باريس (1767) لقي التشجيع من ديدرو، وگريم وروسو. ودرس فن الآنسة كليرون المسرحي، واكتسب مهارة غير عادية في مواءمة موسيقاه لنبرات الحديث الدرامي وتغيراته، وحقق في أوبراته رقة ونعومة غنائيين كأنهما انعكاس لروح روسو، وللعودة إلى البساطة ورقة العاطفة في الحياة الفرنسية. وظل محتفظاً بشعبيته طوال الثورة، التي أمرت بنشر مؤلفاته على نفقة الحكومة، وكانت الجموع الثورية تتغنى بألحان من أوبراته. وقد منحه نابليون معاشاً. وقد أحبه الجميع لأن حظه من وصمات العبقرية كان ضئيلاً؛ فهو رقيق القلب، ودود، أنيس، متواضع، يذكر منافسيه بالخير، ويؤدي ديونه. وقد أحب روسو مع أن روسو أساء إليه، واشترى الإرميتاج في شيخوخته، وهو الكوخ الذي أقام فيه روسو من قبل. في ذلك الكوخ، في 24 سبتمبر 1813، بينما كان نابليون يحارب أوربا كلها، مات جريتري.


الفن في عصر لويس السادس عشر

واصل "طراز لويس السادس عشر"، الذي بدأ تقريباً مع مولد لويس السادس عشر (1754)، انتقاضه على شذوذات الباروك المعقدة ورقائق الروكوك الأنثوية، وتحرك صوب الخطوط الرجولية والنسب السمترية لفن كلاسيكي محدث ألهمته حفائر هركولانيوم وحماسة فنكلمان للفن اليوناني-الروماني. وأشهر مثال على الطراز الجديد في العمارة هوا لبتي تريانو، ومن الطريف المسلي أن تتفق مدام دوباري وماري أنطوانيت، على ما بينهما من عزوف عن المخالطة، في الاستمتاع بهذا التقدير المتواضع للنظام والبساطة الكلاسيكيتين. ومثال جميل آخر هو "قصر اللجيون دونور" الحالي، والذي بناه باسم "الأوتيل سالم" (1782) بيير روسو على ضفة السين اليسرى. وهناك نتاج أضخم لهذا الطراز هو "قصر العدالة" الذي أعيد بناؤه في 1776؛ بمصبعاته الفاخرة من الحديد المشغول في واجهة "الكوردمية". أما "مسرح الأوديون القومي" (1779) فقد اتخذ نمطاً دورياً قاتماً؛ وألطف منه المسرح الذي شاده في أميان (1778) جاك روسو بطراز جمع بين الطراز الكلاسيكي وطراز النهضة. وقد بنى فكتور لوي في بوردو (1775) على النمط الكلاسيكي مسرحاً ضخماً وصفه آرثر ينج بأنه "إلى حد كبير أفخم مسرح في فرنسا، ولم أر مسرحاً يدانيه"(61).

أما الزخرف الداخلي فقط احتفظ بالأناقة الفرنسية. وكان زي النسيج المزدان بالرسوم في طريقه إلى الزوال إلا لتغطية الكراسي ذات الذراعين والأرائك؛ وكان ورق الجدران المرسوم يصل من الصين، ولكنه استعمل أساساً في المخادع، وقسمت جدران الصالونات عادة إلى حشوات من الخشب المشغول، والمنقوش أو المزين بأشكال أو زخارف نباتية عربية تضارع خير نظائرها في إيطاليا. وأبدع الأثاث المصنوع في فرنسا في عهد لويس السادس عشر صممه ونفذه ألمانيان هما جان-هنري رينزنر ودافيد رونتجن؛ وتحوي مجموعة ولسن نماذج رائعة صنعت لماري أنطوانيت والبتي تريانون.

وازدهر فن النحت، وامتد العمر ببيجال، وفالكونيه، وجان-جاك كافييري من أيام لويس الخامس. أما أوجستن باجو، الذي كان قد بدأ العمل في ذلك العهد، فقد نال الآن ما يستجقه من تقدير. وقام بتكليف من لويس السادس عشر بنقش الزخارف للباليه-رويال. وللباليه-بوربون. وفي تمثاله "هجران بسيخي"(62)حاول التوفيق بين عنصرين في العهد الجديد-العاطفة الرقيقة والشكل الكلاسيكي. ثم نقل فنه-وزوج ابنته-لكلوديون، واسمه الحقيقي كلود ميشيل. وقد شق كلوديون طريقاً إلى الثراء بمجموعات من التيرا-كوتا (الطين التضيح) فيه شائبة من الشهوانية، وبلغ أوجه بتمثال لمونتسكيو(63). وكل نشوة الجسد تغني في تمثاله "الحورية والساطير" المحفوظ بمتحف المتروبولتان للفنون في نيويورك.

على أن أعظم نحاتي العصر هو جان-أنطوان أودون. وكان أبوه بواباً، ولكن في مدرسة للفن. وإذا كانت فرساي مسقط رأس جان، فقد تنفس النحت من التماثيل التي بثها لويس الرابع عشر في حدائق لنوتر. وبعد أن درس على بيجال فاز بجائزة روما وهو في العشرين، فانطلق إلى إيطاليا (1760). وقد اغتبط البا كلمنت الرابع عشر بتمثال "القديس برونو" الذي نحته في روما اغتباطاً شديداً فعلق عليه بقوله "إن القديس يود أن ينطق لولا أن قواعد رهبنته تفرض الصمت"(64). وفي باريس نحت أو صب سلسلة متعاقبة من تماثيل ديانا. وتمثال برونزي منها في مجموعة هنتنجتن يعد آية في القسمات الكلاسيكية والرشاقة الفرنسية. وأشهر منه تمثال "ديانا العارية" "البرونزي المحفوظ الآن باللوفر، وقد ضن عليه بمكان في "صالون" 1785، ربما (كما قال ناقد) "لأنها كانت أكثر جمالاً وعرياً من أن تعرض على الجماهير"(65)، وأرجح من هذا السبب أن التمثال انتهك الفكرة التقليدية عن ديانا التي تصفها بالعفة.

وقد وجد أودون ككثيرين غيره من فناني القرن الثامن عشر في تصوير معاصريه ربحاً يفوق تصوير الربات اللائي لا تنتهك حرماتهن. على أنه قرر أن يكون منصفاً للحقائق وأن يظهر الشخصية لا الوجه. وكان ينفق ساعات كثيرة في حجرات التشريح بمدارس الطب لدراسة التشريح، وكان يقيس رأس من يصوره بعناية كلما استطاع، ثم ينحت تمثاله أو يصبه وفق هذه المقاييس، وحين أثير سؤال عن جثة نبشت في باريس وهل هي حقيقة جثة جون بول جونز كما قيل، قورن شكل الجمجمة ومقاييسها بشكل الصورة التي صبها أودون في 1781 ومقاييسها، وبلغ من توافق الشكلين أن عد التطابق مؤكداً(66). وقد نحت من رخام التمثال الذي صنعه لميرابو كل غارات الجدري، وأبرز كل الظلال والتجاعيد، بل توقد العينين وعمقها، والشفتين تنفرجان استعداداً للكلام.

وسرعان ما أسعد الجبابرة الثورة أن يجلسوا إليه ليصنع تماثيلهم، فنقلهم إلينا بأمانة أحالت الرخام والبرونز إلى لحم التاريخ وروحه. وهكذا نستطيع الآن أن نرى فولتير، وروسو، وديدرو، ودالامبير، وبوفون، وطورجو، ولويس السادس عشر، وكاترين الثانية، وكاليوسترو، ولافاييت، ونابليون، وناي. وحين قدم فولتير إلى باريس عام 1778 صنع له أودون عدة تماثيل تصوره: منها تمثال نصفي برونزي محفوظ الآن في اللوفر، ويبدو فيه الإرهاق والكلال، وتمثال نصفي شبيه به في متحف فكتوريا وألبرت، وآخر في مجموعة ولس، ثم رأس مبتسم مهذب مثالي الشكل طلبه فردريك الأكبر، وأشهر الكل ذلك التمثال الذي قدمته مدام دني إلى الكوميدي-فرانسيز: تمثال فولتير جالساً في روب فضفاض، أصابع نحيلة تمسك بذراعي المقعد، وشفاه رقيقة، وفم أهتم، وفي العينين الحزينتين ما زالت آثاره من مرح-أنه واحد من التماثيل العظيمة في تاريخ الفن. وفي ذلك العام، حين سمع أودون بوفاة روسو، هرع إلى أرمنون-فيل وصب قناعاً لغريم فولتير الميت، ومنه صنع التمثال النصفي المحفوظ الآن باللوفر، وهو أيضاً آية من آيات الفن.

وكان هناك أبطال أمريكيون أيضاً، وقد صنع أودون رؤوساً تمثلهم نابضة بالحياة حتى أن قطع العملة المسكوكة في الولايات المتحدة ما زالت تحمل صورة لواشنطن، وفرانكلين، وجفرسن. وحين عاد فرانكلين إلى أمريكا عام 1785 ذهب أودون معه؛ وأسرع إلى مونت فرنون وأقنع واشنطن، الرجل المشغول النافذ الصبر، بأن يجلس إليه في فترات متقطعة على مدى أسبوعين، وهكذا صنع التمثال الذي يزدان به مبنى برلمان الدولة في رتشموند، فرجينيا-رجل من الجرانيت، تجلله انتصارات غالية وأعباء باقية. هنا أيضاً نجد ذلك الاتحاد بين الجسد والروح الذي هو علامة فن أودون وخاتمه.

مثل هذا النحت كان من الجائز أن يجعل التصوير بالقياس إليه ترفاً صغيراً لولا أن جروز وفراجونار واصلا العمل هذا العهد وخلال الثورة، لولا أن المصور جاك-لوي دافيد صعد إلى مقام الدكتاتورية على جميع الفنون في فرنسا في انطلاقة نيزكية كانطلاقة نابليون. وقد تعلم تقنيته من عمه البعيد فرانسوا بوشيه، وأصبح رساماً من الطراز الأول، وأستاذاً أتقن الخط والتأليف أكثر من إتقانه اللون. وقد أدرك بوشيه أن تغير الأخلاق من بومبادور ودوباري إلى ماري أنطوانيت كان يقلص الطلب على الصور التي تبرز النهود والأرداف، ف نصح دافيد بأن يذهب ويلتقط الأسلوب الكلاسيكي المحدث البسيط في مرسم جوزف فيان، الذي كان يرسم الجند الرومان والنساء الأبطال. وفي 1775 وافق دافيد فيان إلى روما. وهناك أحس بتأثير فنكلمان ومنجز، والمنحوتات القديمة في متحف الفاتيكان، والأطلال التي كشف عنها في هركولانبوم وبومبي. وقد قبل مبادئ الكلاسيكية المحدثة، واتخذ النحت اليوناني نموذجاً يحتذيه في تصويره.

فلما قفل إلى باريس عرض سلسلة من الموضوعات الكلاسيكية المرسومة بصرامة: أندروماك تبكي على جثمان هكتور (1783)، وقسم الهوارتيين (1785)، وموت سقراط (1787)، وبروتس عائداً من الحكم بالموت على أنبائه (1789)(67). (وتقول الأسطورة التي رواها ليفي أن لوشياس جونيوس بروتس، حين كان بريتوراً لجمهورية روما الفتية (509 ق.م)، حكم على أبنائه بالإعدام لتآمرهم على إعادة الملوك إلى عرش روما)، وكان دافيد قد رسم هذه الصورة الأخيرة في روما، فلما عرضها على الأكاديمية في باريس حظر عرضها، ولكن جمهور الفن احتج، وأخيراً عرضت اللوحة، فزادت من حمى العصر الثورية. ورأت باريس في هذه الرسوم، وفي الأخلاقيات الصارمة التي عبرت عنها، ثورة مزدوجة-على الروكوك الأرستقراطية والطغيان الملكي. وأصبح دافيد البطل الراديكالي لأستوديوهات باريس.

وقد أنتخب أثناء الثورة عضواً في المؤتمر، وفي يناير 1793 صوت بالموافق على إعدام الملك. ثم قتل أحد المتشيعين للملكية عضواً آخر من نواب المؤتمر صوت بالموافقة مثل دافيد (20 يناير 1793)، فعرض جثمانه على الجماهير شهيداً جمهورياً، ورسم دافيد "آخر لحظات لبوليتييه". وعلق المؤتمر اللوحة في قاعته. وحين قتلت شارلوت كورداي مارا (13 يوليو 1793) صور دافيد الميت راقداً في حمامه نصف مغمور في الماء، وندر أن كان التصوير ممعناً في تصويره للواقع إلى هذا الحد، أو في تعمده إثارة المشاعر. وقد أرست اللوحتان سجل شهداء الثورة. وعمل دافيد بحماسة لدانتون وروبسبير، ومكافأة له عين مديراً لجميع ضروب الفن في باريس.

فلما أن تقلد نابليون زمام السلطة بلقب "القنصل" الروماني، رسم دافيد له بالذات الحماسة التي رسم بها لزعماء الإرهاب. فرأى في بونابرت ابن الثورة، الذي يقاتل ليمنع ملوك أوربا من رد ملك نظيرهم إلى عرش فرنسا. وحين نصب نابليون نفس إمبراطوراً (1804) لم يفتر إعجاب دافيد به، وعينه نابليون مصوراً للبلاط الإمبراطوري فرسم له المصور عدة صور مشهورة: نابليون يعبر الألب؛ نابليون يتوج جوزفين؛ وتوزيع النسور؛ وقد علقت هذه اللوحات الضخمة بعد ذلك على جدران حجرات قصر فرساي. وأظهر دافيد أثناء ذلك تعدد مواهبه بلوحتين رائعتين رسم فيهما مدام ريكامييه والبابا بيوس السادس(68). فلما رد آل بوربون نفي دافيد باعتباره من قتلة الملك، فاعتكف في بروكسل، حيث وافته زوجته لتشاركه منفاه (وكانت قد هجرته في 1791 لتحمسه للثورة). وعاد الآن إلى المواضيع الكلاسيكية، وإلى أسلوب التصوير النحتي الذي حبذه منجز.

وفي 1825 أختتم وهو في السابعة والسبعين حياة من أروع ما عرف تاريخ الفن.

ومن لوحاته لوحة تصور مدام فيجيه-لبرون، التي رفضت الثورة وآثرت الملوك والملكات. وقد نشرت وهو تدنو من عامها السابع والثمانين (1755-1842) مذكرات تروي وصفاً لطيفاً لشبابها، وتذكر قصة محزنة لزواجها، ويوميات برحلتها الفنية الطويلة، وصورة لامرأة فاضلة يصدمها عنف التاريخ. وقد مات أبوها وهي في الثالثة عشرة، وكان مصور أشخاص، ولم يترك لها مالاً، ولكن إليزابث كانت تلميذة شديدة الذكاء، فاستطاعت وهي بعد في السادسة عشرة أن تكسب دخلاً طيباً من صورها. وفي 1776 تزوجت مصوراً آخر اسمه بيير لبرون، وكان ابن أخ بعيد لشارل لبرون الذي كان مدير الفنون للويس الرابع عشر. وبدد زوجها ثروتها وثروته (كما تقول) "بشغفه الجامح بالنساء السيئات الخلق، وبولعه بالقمار"(69). وقد ولدت له ابنة، ثم هجرته بعد ذلك بقليل.

وفي 1779 رسمت صورة لماري أنطوانيت، التي بلغ إعجابها بها أن جلست لها لترسمها في عشرين لوحة. وتوثقت الصداقة بين المرأتين فكانتا تشتركان في غناء الألحان الرقيقة التي كان جريتري يستدر بها العبرات من عيون باريس. وقد فتح كل الأبواب أمام المصورة الجذابة هذا العطف الملكي وما تميز بها عملها من أناقة مهذبة، وما لبثت كل سيدة ثرية أن اشتاقت للجلوس إليها لتصويرها. وكانت تتقاضى أتعاباً يسر لها ارتفاعها الاحتفاظ بشقة غالية وصالون يختلف إليه خيرة موسيقيي باريس. وقد ذهبت ثلاث مرات لتصور مدام دوباري في لوفسيين رغم صداقتهما للملكة. وفي المرة الثالثة (14 يوليو 1789) سمعت قصف المدافع في باريس. فعادت إلى المدينة لتجد أن الباستيل سقط، وأن جماهير الغوغاء الظافرة تحمل الرءوس النبيلة على أسنة الرماح الملطخة بالدماء. وفي 5 أكتوبر بينما كان حشد آخر من الغوغاء يسير صوب فرساي ليأسر الملك والملكة، جمعت ما استطاعت جمعه من متاعها وبدأت ثلاثة عشر عاماً من النفي الاختياري. وقد رسمت في روما لوحتها المعروفة التي تصورها وتصور ابنتها(70). وفي نابلي رسمت الليدي هاملتن في صورة باخوسية(71). ورسمت في فيينا، وبرلين، وسانت بطرسبرج، وحين أنهت الثورة شوطها قفلت إلى فرنسا (1802). وهناك عمرت أربعين سنة أخرى بعد أن انتصرت على غير الدهر كلها، وأحسنت صنعاً بموتها قبل أن تندلع الثورة من جديد.

المصادر

ديورانت, ول; ديورانت, أرييل. قصة الحضارة. ترجمة بقيادة زكي نجيب محمود.

  • André Chastel. French Art Vol III: The Ancient Régime ISBN 2-08-013617-8

انظر أيضاً