الشحاذ (رواية)

(تم التحويل من رواية الشحاذ)
الشحاذ
غلاف رواية الشحاذ.jpg
المؤلفنجيب محفوظ
البلدFlag of Egypt.svg مصر
اللغةالعربية
الصنف الأدبيرواية
الناشر
الإصدار1960
عدد الصفحات172

الشحاذ، هي إحدى روايات نجيب محفوظ، نُشرت عام 1960. تكمن أهمية رواية الشحاذ في أنها تعدّ أنموذجا بليغا لهذه المرحلة من تجربة نجيب محفوظ الفنية. مع هذه الرواية اكتملت ملامح البطل الروائي الإشكالي في علاقته بالعالم والزمان والمكان مستدعيا تبعا لذلك نمطا مختلفا لسارد استبدل عينا بأخرى وموقعا بآخر وخطابا بآخر مخالف.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

تاريخ التأليف

لئن كان نجيب محفوظ قد أنجز فعلا جانبا هاما من أعماله الرؤائية قبل ثورة 1952، مجسما فيها هذا الميثاق الواقعي الذي تحدثنا عنه أفضل تجسيم ومخضعا شخصيته الروائية لشروط ثابتة خارجة من نطاقها كالبنية العامة والوراثة بمختلف أشكالها ومعتقدا أنه بذلك يكتب الرواية الصحيحة التي تلتزم بالقواعد المعروفة من الفن الفن الروائي البلزاكي والقطع عن الكتابة فترة زمنية دامت تسعة أعوام، فإنه أتاح الفرصة لمجموعة من الروائيين الذين يختلفون عنه في منطلقاتهم الفكرية وانتماءاتهم السياسية لكي يبدعوا في إطار الواقعية، وبذلك أضحت الواقعية واقعيات لتنوع التجارب واختلافها، كما أن هذه المرحلة مكنت نجيب محفوظ من الانتقال إلى مرحلة جديدة من الواقعية. ولئن اعتبرت رواية أولاد حارتنا التي أصدرها المؤلف سنة 1959 ضرورة فكرية تحتمها نهاية الثلاثية التي هي حصيلة لفلسفة نجيب محفوظ عامة في رواياته الشائعة، فإن النقاد يجمعون على أن النقاد يجمعون على أن روايات اللص والكلاب والسمان والخريف، الطريق والشحاذ، هي حجر الزاوية لمرحلة ما نسميه بالرواية الذهنية في مسيرة نجيب محفوظ والتي تنتهي مع نهاية الستينات. ذلك أن تخصص اللص والكلاب والسمان والخريف في أزمة الانتماء المصري يجعل منها مرحلة متكاملة، كذلك فالأعمال الأربعة الواقعة بعدها تتشكل منها مرحلة جديدة تماما.


شخصيات الرواية

الشخصية في هذه الرواية شخصية منفردة في علاقتها ببقية الشخصيات، ففي فضائها تتحرك الشخصيات دون أن تملك عالما مستقلا تتحرك فيه بأفكارها وأرائها وأصواتها (على خلاف "الدقلة في عراجينها") إن مفهوم البطل الروائي مفهوم أساسي في رواية الشحاذ بمعنيين أساسيين:

1- عمر الحمزاوي في الرواية يجسد شخصية مفارقة في تصرفاتها وسلوكها إذ ينجز أعمالا لا تستطيع الشخصيات الأخرى أن تنجزها.

2- عمر الحمزاوي شخصية تستقطب الشخصيات الأخرى وهو كذلك محور العلاقة بينها إذ تبدو لنا منذ البداية منشغلة بالحالة المفاجئة التي ألمت بالبطل ، تسعى أن تساعده بشكل أو بآخر "الوجوه تتطلع أليك مستخبرة حتى قبل أن ترد تحيتك ، حنان رقيق مخلص، ولكن ما أفظع الضجر " / "قلبي يحدثني بأن كل شيء طيّب " / "إلى جانبي وقف مصطفى المنياوي في بدلته التركية رافعا نحوك وجهه البيضاوي الشاحب وعينيه الذابلتين". لذلك يمكن أن نقول إن رواية الشحاذ لم تفرط في بطلها.

ولعمر الحمزاوي ككل بطل روائي هدف يسعى إلى تحقيقه. وهو في هذه الرواية "البحث عن معنى الحياة" . ولتحقيق هذا الهدف السامي لا بد له من شخصيات مساعدة. وعلى هذا النحو يمكن أن نصنّف كل شخصيات الرواية وفق كوكبتين:

1- كوكبة أولى تربطها بالبطل علاقة وجدانية سواء كانت علاقة صداقة أو علاقة عائلية.

2- وكوكبة ثانية هي شخصيات طارئة تنشئ إزاء البطل علاقة حب أو متعة.

ولكن الكوكبتين تؤديان الوظيفة ذاتها وهي مساعدة البطل على تجاوز أزمته أو على تحقيق هدفه الحصري بواسطة أداة واحدة وهي الحبّ "لاح له مصطفى كنصب تذكاري للحب والزواج. كان المشير والمعين والشاهد. وكل يوم يؤكد صداقته له وللأسرة". وتقول وردة "ليس عنده لك إلا الحب، فإن زهدت فيه انتهى كل شيء" وليس للشخصيات الأخرى (الزوجة، البنتين) إلا هذه العاطفة الجياشة لمساعدة البطل على تجاوز أزمته. ولذلك فنحن لا نجد في الرواية شخصيات تعوق البطل وتقف في طريقه، فلا عدوّ لعمر الحمزاوي إلا شيء في ذاته: "وكل لحظة تشعر بأن صلة تتمزق محدثة صوتا مزعجا وبأن قائما يتزعزع وأن أسنانك توشك أن تتساقط وسوف تفقد الوزن في النهاية وتسيح في الفضاء. أشدد قبضتك على الأشياء وانظر إليها طويلا . فعما قليل ستختفي ألوانها ولن يكترث بها أحد".

لكن علاقة البطل عمر الحمزاوي ببعض شخصياته تتجاوز هذه الصورة الظاهرة لتتخذ بعدا رمزيا عميقا، فقد سعى السارد إلى أن يجعل من هذه الشخصيات المحيطة بالبطل وجوها مختلفة من شخصيت:

1- فالزوجة رمز للحب النقي الذي غمر حياته في شبابه، ورمز للنجاح والتفوق "تزوجت قلبا نابضا لا حدود لحيويته وشخصيته، فاتنة حقا مدبّرة حكيمة خلقت للتدبير والحكمة وقوة دافعة للعمل لا تعرف التواني ونظرة ثاقبة في استثمار المال ارتفعت في عهدها من غمار العدم إلى الالتفوق الفريد والثروة الطائلة ..."

2- والبنت بثينة هي وجه عمر الحمزاوي الشاعر "لكنه شعر رائع وكم إنه ملهم... أما أنا فوجدت فيه ما أهيم به". فالبنت تعيد سيرة الأب وبالتالي تعد وجها من وجوه حياته "لماذا نضطرب إذا كرر الابن سيرتنا؟"

3- وعثمان خليل صورة للمناضل السياسي التي كان عليها البطل في شبابه الأول "ى فائدة من الهرب إلى الأحاديث الجانبية وإحساسك بالذنب يزداد حدة". ولعل علاقة الزواج التي تحدث بين عثمان خليل الرجل السياسي وبثينة البنت الشاعرة هي إعادة تركيب لصورة عمر الحمزاوي المناضل السياسي والشاعر في الوقت ذاته.

كأن جل شخصيات الرواية تؤسس شخصية واحدة مركّبة لتؤكد على القطيعة الداخلية التي يعيشها البطل عمر الحمزاوي ، هذا الرجل الذي يريد أن يتملص من حقيقته بحثا عن قيمة جديدة تجدد المعنى يجد نفسه يعيش ازدواجية ما استطاع أن يتخلص منها فما اعتقد أنه ماض زال وانتهى أمره لا يزال يعايشه بشكل أو بآخر. فهذا الوجه من الحياة لم يمت بل يتجلى في صور جديدة عبر هذه الشخصيات التي ذكرنا، ويؤكد أن الحقيقة قائمة ومستمرة وهي تلاحقه إلى نهاية الحكاية إذ يلحق به عثمان خليل ليؤكد له اقتران السياسة بالشعر وولادة الحياة عبر النضال (بثينة حبلى ) . وهذا يعني أن الشخصية تحمل بعدا رمزيا وهي لا تملك عالما مستقلا بذاته إلا في حدود علاقتها الوظيفية بالشخصية المحورية أو البطل. ولذلك يمكن أن نقول في النهاية إننا إزاء شخصية محورية فهي تملأ المساحة النصية وتهيمن على الرؤية العامة للكون والوجود إذ لا نكاد نعلم عن الشخصيات الأخرى إلا النزر القليل من حياتها ونظرتها للعالم.[1]


نص الرواية

رواية الشحاذ. لتحميل الرواية، اضغط على الصورة.

نص الرواية عبارة عن تبادل أقوال بين شخصيتين فأكثر. النص السردي ليس كلا متجانسا وإنما هو جماع خطابات تكوينية يتمتع كل خطاب فيها ببنية وأساليب ووظائف مخصوصة. ومن هذه الخطابابت الحوار. وقد مثّل إدراجه في السرد مشكلا واجه الروائيين دائما. في الرواية التقليدية تبدو أقوال الشخصيات مشدودة ألى السرد بخطاب إسنادي يمهد لها وينبئ بتغيّر نمط الخطاب في النص (من خطاب غير مباشر إلى خطاب مباشر).

قد يجيء الخطاب أحيانا مرتبطا تركيبيا بسرد الأفعال "قالت وهي تسترد شجاعتها المألوفة: كأنني أبحث عن أنغام في الهواء. قول جميل يا بثينة وهو كذلك ما دام لا يفسد علينا الحياة". وأحيانا يجيء خطاب الأقوال منفصلا عن سرد الأفعال "وقال بجدية : إذن فأنت تعشقين سر هذا الوجود. أجابت في توتر حل محل شجاعتها التلقائية : هذا جائز جدا يا بابا" فهذا الخطاب الإسنادي يخفّف القطيعة بين نص الراوي ونص الشخصيات المتحاورة. ولكنه عندما يرد مستقلا يقوم شاهدا على هذه القطيعة ويؤكدها (ص 38) : هذا الخطاب الإسنادي لم يستخدم فقط للتمهيد للحوار بل تخلل أيضا أقوال الشخصيات فيقطع أحيانا كثيرة حواراتها . ص 58 علاقة التوتر بين السرد والحوار أي بين حكاية الأفعال والأحوال وحكاية الأقوال وسنرى التوتر بين خطاب السارد وخطاب الشخصيات.

وبدا الحوار في الغالب مستقلا عن السرد منفصلا عنه ومتصلا به في آن معا. (يمكن أن نتحدث عن أسلوب خطاب الأقوال إذ يرد في جمل قصيرة موحية شعرية في أغلب الأحيان فهي تنأى عن اللغة اليومية العادية . هذه النصوص الحوارية المتكلم الرئيسي فيها والثابت الذي لا يستقر هو عمر الحمزاوي ولا يوجد حوار لا يكون فيه عمر الحمزاوي طرفا رئيسيا. وموضوع الحوار لا يخرج عن الحمزاوي ومشاغله القريبة أو البعيدة  هناك استقطاب للكلام لفائدة الشخصية المركزية. وبالتالي فالشخصيات ليست مستقطبة بصورتها ووجوهها بل وبكلامها أيضا.

سمة الخطاب تبادل افتتاح – تبادل أوسط – تبادل اختتام . وأغلب المقاطع الحوارية هي حوارات ناقصة وإن وجدت بعض الحوارات الكاملة (ص 38) ولكن أحيانا تكون متقاطعة بين حوارية متكاملة و حوارية ناقصة أي بدون تبادل افتتاح و تبادل اختتام ففي الصفحة 41 نجد حوارا رئيسيا ذا بنية حوارية متكاملة لكنه يتقاطع مع حوار ثانوي ذي بنية حوارية ناقصة فنعدم التبادل الأوسط بين عمر الحمزاوي و المرأة و مصطفى) فتبدو بنية خطاب الشخصيات متوترة وتعكس إلى حد بعيد توتر الخطاب المركزي في الرواية.


مكان الرواية

لا يحمل المكان في رواية الشحاذ وجودا محايدا ولا هو يعكس وجودا موضوعيا فهو مفعم بالدلالة و إذا كان عادة ما يتخذ دلالة تاريخية أو سياسية أو اجتماعية من خلال الأفعال و تشابك العلاقات فإنه في هذه الرواية يتخذ دلالة نفسية من خلال علاقته بالشخصية المركزية أي البطل عمر الحمزاوي.

فالصورة الأولى المتعلقة بالمكان تبدو لنا من خلال اللوحة التي يعد وصفها مدخلا مهما للنص "انظر وصف اللوحة في مستهل النص الأول"لقد حدد السارد على هذا النحو أبعاد المكان وهي الاستواء والامتداد وانطباق الأفق على الأرض إنه مكان لا يحيل البتة على وطن من الأوطان ولا هو هوية هو مكان لا نهائي أما مؤثثاته فهي أبقار ترعى مطمئنة، وجواد خشبي و طفل ينظر إلى الأفق، المكان مطبق هنا على مؤثثاته يشدها إليه شدا و ستظل هذه الصورة مهيمنة على كامل الرواية، و ستؤكد الأحداث أن المكان سجن لبطل الرواية. وقد لاحظنا أن السارد في هذه الرواية قليلا ما ينتبه إلى المكان فيصفه باستثناء بعض الإشارات كقوله عند وصف البطل شاطئ الإسكندرية"ها هي الشماسي تترامى ملتصقة الشراريب فتكون قبة هائلة..مختلفة الألوان تستلقي تحتها الأبدان شبه العارية و تنتشر في الجو رائحة آدمية عميقة الأثر في الحواس مذابة في رائحة البحر ..." وهو وإن ركز في هذا المقطع على البعد الإنساني المتصل بالمكان فإنه في مواضع أخرى بشيء من الامتعاض و اللامبالاة و التأفف "امتعض عمر لمرأى ميدان الأزهار وهو في سبيله إلى عمله وقال إنه لم يتغير عما تركه و إنه مازال معبرا كالحا للذاهبين إلى أعمالهم". ثم يصفه في موضع آخر بالغرابة"ما أغرب الذهاب كل يوم إلى المكتب لا معنى له" ثم نراه يصف الشقة الجديدة التي جهزها عمر الحمزاوي لعشيقته وردة في اختزال شديد"كلف أكثر من رجل بالقيام بعمل في تجهيز الشقة الجديدة الأثاث و الديكورات والبار و التحف و في أقصر مدة ممكنة تكونت على أجمل صورة حجرات للنوم و السفرة والمدخل..."إن المكان في هذه الرواية لا يقدم مجالا للتأمل في الوصف الدقيق إذ تتلاشى معالمه فلا يغدو إلا صورة باهتة خاصة عندما نقارن هذه الرواية بالروايات السابقة التي ألفها نجيب محفوظ قبل سنة 1960.

ثم إن المكان يبدو متشابها في وظيفته إذ لا يحمل معنى الجدة و التغير ككل الأمكنة بل هو في الرواية موحد الدلالة يبعث على القرف والقيد وإن أحس فيه البطل أحيانا بضرب من الراحة فإنها راحة مؤقتة يعقبها ملل عظيم ولذلك يضيق المكان بالبطل فيدرك أنه في حاجة إلى الانعتاق و التحرر من جاذبيته "كان يتخفف من ألمه بالاستسلام لجنون السرعة وهو يندفع بسيارته في أطراف القاهرة ...ويندفع في جنون حتى لتثير الفزع و السخط" إنه مكان لا مستقر فيه ولا يحمل دلالة الانتماء و لذلك فهو في علاقته بالشخصية يتصل بمعنى الرحلة فالبطل الروائي يعيش أزمة مع المكان فلا حل له إلا الرحيل الدائم"وماذا يفعل المقبل على رحلة ..غامضة " فمنذ الفصل الأول يدرك أنه في حاجة إلى تغيير المكان بحثا عن السعادة فكان شاطئ الإسكندرية لكن رغم الراحة المؤقتة التي مر بها فإن قديمه لن ترسخا في المكان فيعود محتاجا إلى تغييره"لا أرى كيف أتكلم و لكن للأسف لم أعد أطيقها البيت نفسه لم يعد بالمأوى المحبوب " وعندما بنى عشا جديدا أدرك كذلك أنه غير قادر على شده وامتلاكه"فعلمت من ناحيتها على أن يكثر من الخروج و أن يمضيا السهرات ما بين السينما و المسرح بل و الملاهي الليلية" "و تعددت رحلاته بلا هدف إلى الفيوم و القناطر و الإسكندرية و كثيرا ما يغادر القاهرة صباحا ليرجع إليها صباح اليوم التالي دون نوم" إنما يؤكد ما سلف أن المكان لا يوجد لذاته ولا يحمل بعدا موضوعيا وإنما يحمل دلالة نفسية تعكسها الشخصية المركزية إذ يشي المكان بضياع البطل ورحيله المستمر.هو رحيل مادي ذو دلالة رمزية تتصل بمعنى التيه.

زمن الرواية

ليس الزمن الروائي في هذا المتن موضوعيا بل هو زمن نفسي و سياسي بدرجة أولى إذ تنتشر الأحداث وفق زمنين مختلفين الماضي و الحاضر و لئن هيمن الحاضر خلال الوظائف السردية المركزية المتمثلة أساسا في تجربة عمر الحمزاوي الوجودية فإن الماضي ينبثق في شكل ومضات ورائية قليلة لا شك و لكنها مفعمة بالدلالة و ترد أحيانا في سياق الحوار الباطني الذي يلتجئ إليه البطل أحيانا كثيرة "وذكر الآخر في السجن حتى حساسية الضمير يدركها الضجر يوم احترفت بلهيب الخطر لكنه لم يعترف رغم الأهوال لم يعترف" و العلاقة بين الزمنين هي علاقة إشكالية لأنها تقوم على ازدواجية واضحة "سياسية /نفسية" الماضي و الحاضر لا يتواصلان ولكنهما يتجاوران و يتعايشان، فالماضي ليس زمنا موضوعيا آفلا بل زمن متحرك يجسد حضوره من خلال وظائف سردية تحمل دلالة رمزية: ومن صور هذا التجاور:

- خروج عثمان خليل من السجن الذي يصبح بمثابة تجربة سياسية قديمة كان عمر الحمزاوي يعتقد أنه طواها و تجاوزها و إذا بها تطفو على الحياة من جديد بكل أبعادها و آثارها على شخصيته المعذبة "و تحركت في الأعماق مشاعر منذرة بكل ظن وارتفع مد حاملا دفعات من القلق والتوحش و طالما طافت به لحظات اللقاء المرتقبة وطالما عمل لها ألف حساب و لكنها حلت رغم ذلك بغتة كمفاجأة غير ممكنة التوقع"

- ثم اكتشاف ملكة الشعر لدى بثينة وهي وظيفة ترمز إلى انبثاق صفحة من صفحات ماضي البطل "أتته بكراسة مغلفة بورق مفضفض وباحترام وحب و إشفاق ولهفة راح يقرأ..ويتخلل قراءته عهد 1935 ... عهد الحرمان والأمل و الأسرار والاضطراب المطوق وأحلام المدينة الفاضلة" لكن البطل من ناحية أخرى يريد أن يعترف بهذه الحقيقة فهو يرفض أن يتعايش الزمنان الماضي و الحاضر بل يصر على أن ينفس أحدهما الآخر فلا لقاء عنده بين زمن الشعر والحب و الثورة وزمن العلم و العقل و المال "الحق أن مفهوم الفن قد تغير ونحن لا ندري...عهد الفن قد مضى وانقضى وفن عصرنا هو التسلية والتهريج...هذا هو الفن الممكن في زمن العلم و يجب أن نتخلى عم جميع الميادين عدا السيرك" هكذا نرى أن الزمن بالنسبة إلى البطل يقوم على القطيعة "وقريبا سيخرج الماضي من السجن فيتضاعف عذاب الوجود".و حالما ظهر الماضي مع عثمان خليل بدلالته السياسية و النفسية العميقة هاجر عمر الحمزاوي إلى عالم الحلم و الجنون.

السارد

من السارد في هذه الرواية؟ نحن إزاء ثلاثة ضمائر لسرد الوقائع: ضمير الغائب و ضمير المتكلم وضمير المخاطب فإذا كنا لا نشك في أن ضمير الغائب يحيل على السارد هذا الكائن الخيالي الذي يقف وسيطا بين القارئ والشخصية والعالم الروائي عموما، و إذا كنا لا نشك كذلك في أن ضمير المتكلم عامة يحيل على الشخصية الرئيسية وهي شخصية عمر الحمزاوي عندما يتحول إلى سارد يروي بعض المقاطع السردية، فإن اوظيف ضمير المخاطب يثير إشكالا في هذه الرواية.

المثال الأول:"من الآن فصاعدا أنت الطبيب فأنت حر والفعل الصادر عن الحرية نوع من الخلق حتى و إن يكن مقاومة مستمرة لشهوات البطن ولنقل إن الإنسان لم يخلق ليكتظ بالأطعمة ولكن ما أشد الزحام و الرطوبة و رائحة العرق و أجهدك المشي و ناءت بك قدماك كأنما تتعلمه لأول مرة والأعين ترمق العملاق وهو يوسع الخطى حتى ينال منه التعب" "وعيناك ترمقان الناس بعد عمى ربع قرن" ويبدو أن هذا الضمير المخاطب ينهض بوظيفة سردية أولية هي سرد الوقائع ولكنه نهض بدور إضافي من باب الاستبطان حينما يتفاعل هذا الضمير مع الضمائر الأخرى ليلعب دور الحوار الباطني.

المثال الثاني:"وذكر الآخر في السجن، حتى حساسية الضمر يدركها الضجر..يوم احترقت بلهيب الخطر كما لم يعترف رغم الأهوال لم يعترف وذاب في الكلمات كأن لم يكن، وأنت تمرض في الترف وتنهض الزوجة رمزا للمطبخ و البنك، ها هي أمك تحاكي البراميل و الأفق يحاكي السجن" إن الوظائف السردية الأولى منسوبة إلى السارد أما الوظيفة الأخيرة فهي من كلام الشخصية أي من باب الحوار الباطني.

المثال الثالث: "الوجوه تتطلع مستفسرة حتى قبل أن ترد تحيتك، حنان رفيق مخلص ولكن ما أفظع الضجر، الحموضة التي تفسد العواطف الباقية و تبدى عبق زوجتك من طاقة فستانها الأبيض غليظا متين الأساس" فهذا المثال يختلف عن المثالين الآنفين، ففي هذا المثال نجد صوت السارد و ليس صوت الشخصية".

المثال الرابع:"ويوما ستجد بثينة ما يشغلها عنك ومثلها جميلة التي تشيد الأهرام من الرمال خبرني بالله ماذا تريد؟ وكان يخيم الصمت رغم الضجيج" هنا ينشأ حوار باطني لكنه يرد أيضا بصيغة المخاطبة ويُرى فيه البطل مخاطبا، كما يرد الحوار الباطني بصيغة المتكلم "يا إلهي إنهما شيء واحد زينب والعمل والداء الذي زهدني في العمل هو الذي يزهدني في زينب...".

إن بعض الضمائر في هذه الرواية يندرج في إطار لعبة معقدة إلى درجة الغموض أحيانا فمن الصعب أن ندرك وظيفة متميزة يؤديها السرد بهذا الضمير أو ذاك إذ تتجاور الضمائر أحيانا في مقطع سردي واحد قصير و يكون بالنسبة إلينا مجرد تنويع في الاستعمال لا يحمل دلالة محددة كهذا المثال "و أين المهرب من نظراتك الثاقبة و ما الجدوى من مجادلتك؟أنت تعلم أن الشعر هو حياتي و إن تزاوج شطرين ينجب نغمة ترقص لها أجنحة السماوات أليس كذلك يا مصطفى؟ وهتف المراهق الأصلع :هذا الوجود من حولنا ليس إلا تكوينا فنيا عثرت على الحل السحري لجميع المشاكل.

واندفعنا برغبة حماسية إلى أعماق المدينة الفاضلة واختلت أوزان الشعر بتفجيرات مزلزلة و اتفقنا على ألا قيمة البتة لأرواحنا واقترحنا جاذبية نيوتن يدور حولها الأحياء و الأموات في توازن خيالي، وعندما اعترضتنا دورة فلكية معاكسة انتقلنا من خلال الحزن و الفشل إلى المقاعد الوثيرة وارتقى العملاق ببرهة فائقة...ثم أوشك أن يغرق في مستنقع المواد الدهنية". فكثيرا ما تمتزج الضمائر فتصبح صوتا واحدا موحدا"(الغائب)أتته بكراسة مغلفة في ورق مفضض و باحترام و حب وإشفاق و لهفة راح يقرأ(المتكلم ) ثم صوت عثمان وهو يرتعش هاتفا عثرت على الحل السحري(المتكلم) ولكن البنت عاشقة و ربي إنها لعاشقة وما رأي أبي إذا سمعني أحدث حفيدته في الحب".

لكنّ السّارد بضمير الغائب يتفرّد أحيانا باختزال الأحداث وتفريعها " وكثيرا ما يغادر القاهرة صباحا ثمّ يرجع إليها صباح اليوم التّالي دون نوم، وقد يدخل دكّان بقّال ليسكر أو يجلس في التريانون لينام أو يشيّع جنازة لا يعرفها ولا تعرفه أو يغلبه النّوم عقب الفجر فينام في السّيّارة على شاطئ النّيل حتّى الصّباح" وهو يعرف كلّ شيء عن بطله إلى درجة الاندماج به من خلال رؤيته من الخلف، فهو ليس ساردا مستقلاّ. وهكذا نجد أنفسنا في حقيقة الأمر مع سارد واحد سواء عبر ضمير الغائب أو المخاطب أو المتكلّم أحيانا. فالضّمائر لا تعكس استقلالية السّاردين بل اندماجهم في حدث واحد.

مسألة الضّمائر أثارت خلافا بين السّرديات البنيويّة والسّرديات التلفّظيّة. فجينات (السرديات البنيويّة) يعترض على تصنيف السّارد من زاوية الضّمير النّحويّ الذي يستعمله، فلا فرق بين أن نروي بضمير الأنا أو بضمير الهو إذ يمكن أن تغيّر الضّمير ولا يتغيّرالمحتوى السّرديّ. أمّا السّرديات التلفّظيّة فتعتبر أنّ التّمييز بين الضّمائر أساسيّ إلى درجة التّمييز بين السّرد السّيرذاتيّ أو السّرد بضمير المتكلّم والسّرد مجهول الاسم أو السّرد بضمير الغائب.

تقرأ في الرّواية هذا المقطع "في كلّ لحظة تشعر بأنّ صلة تتمزّق محدثة صوتا مزعجا وأنّ قائما يتزعزع وأنّ أسنانك توشك أن تتساقط وسوف تفقد الوزن في النّهاية وتسبح في الفضاء. أشدد قبضتك على الأشياء وانظر إليها طويلا، فعمّا قليل ستختفي ألوانها ولن يكترث بك أحد وها هي الأمواج تطيح بأهرام جميلة المشيّدة من الرّمال والهواء يطيّرالصحف التي لا حقيقة ثابتة فيها إلاّ صفحة الوفيات"، من خلال هذا المقطع ندرك أنّ السّارد يعترف بصعوبة تشخيص هذا العالم. لقد فقد العالم ثوابته وقد أحسّ الرّوائيّ أنّه لم يعد قادرا على أن يرسل خبرا متماسكا قابلا للقراءة بشأن هذا العالم الذي يشخّصه وهو ما يخلّ بقاعدة شروط المشروع الواقعيّ. ولذلك مالت الرّواية في نهايتها إلى ضرب من التّشخيص الرّمزيّ عندما عانقت أحداثها الختاميّة الغرائبيّة أو العجائبيّة من خلال الحلم والكابوس.

ومع ذلك يظلّ التشخيص في هذه الرّواية يوفّق بين نوعين من التّشخيص: التّشخيص الوصفيّ من ناحية والتّشخيص الرّمزيّ من ناحية أخرى. وفي كلتا الحالتين يطرح السّؤال: ما سمات هذا العالم المشخّص؟

+ هو عالم هجره الله: يذكر عمر الحمزاوي الله في الرّواية مرّتين: في المرّة الأولى يسأل عمر الحمزاوي مسيو يازبك "هل تؤمن بالله؟ فأجاب الرّجل بدهشة: طبعا يا له من تحقيق طريف"، وفي المرّة الثانية يطرح السّؤال ذاته تقريبا على وردة "فتنهّد آسفا، ثمّ سألها محموما: والله ما موقفك منه؟ حدجته بنظرة ارتياب حادّة، فقال بتوسّل: أجيبي من فضلك يا وردة. - أومن به. - بيقين؟ - طبعا. من أين جاء اليقين؟ - إنّه موجود وكفى. - أتفكّرين فيه كثيرا؟ ضحكت كالمرغمة وقالت: عند كلّ حاجة أو شدّة. - وفيما عدا ذلك؟"

إنّ الله بالنّسبة إلى عمر الحمزاوي لم يعد يقينا بل غدا سؤالا، والسّؤال تولّد عن سؤال تعلّق بالحياة والموت. فالحياة قد فقدت معناها " خير من اللّوم أن تحدّثني عن معنى الحياة. الحياة. سأدقّ الجدار الأصمّ في كلّ موضع حتّى يرنّ صوت أجوف بالكنز المدفون". كما تؤكّد اللاّزمة في هذه الرواية المعنى ذاته "إن كنت تريدني حقّا، فلم هجرتني؟ وسؤال الحياة مرتبط بسؤال الموت "الحياة قصيرة وأنا لا أنسى الدّوار الذي أصابني عندما قال لي الرّجل: ألسنا نعيش حياة ونحن نعلم أنّ الله سيأخذها"، وسؤال الموت يعود إلى سؤال الله. أفليس الله عند عمر الحمزاوي منشئ نشوة الخلق المفقودة وما معنى أن ينشئ الله نشوة الخلق المفقودة؟ إنّه سؤال وجوديّ قديم تبحث له الرّواية عن مبرّرات جديدة عصريّة. وخلاصة الجواب هي بالنسبة إلى عمر الحمزاوي "إذا كانت الحياة تنتهي بالموت فلا معنى لوجود الله وما عليه إلاّ الرّحيل " إنّنا نعيش حياتنا ونحن نعلم أنّ الله سيأخذها".

هو عالم يعيش فيه الإنسان غريبا في بيته: أن يهجر الله العالم يعني أن يزول التّطابق بين الروح والعمل الأدبيّ. وبين الطويّة والمغامرة. لقد أجابت وردة عن سؤال عمر الحمزاوي المتعلّق بالإيمان قائلة:" ألا ترى أنّك تحبّ تعذيب الآخرين"، إنّه لا شكّ عذاب الرّوح وغربتها في عالم زال فيه اليقين وغابت عنه الطّمأنينة. لم يعد عمر الحمزاوي يشعر بلذّة الحبّ وما يبعثه في الرّوح من طمأنينة " لكنّهما ذكّراني بصديق قديم اسمه الحبّ، يا إلاهي ما أطول العمر الذي مضى دون حبّ وماذا بقي منه عدا ذكريات محنّطة.. وزالت كلّ القيم، فالشّعر قد مات والعمل السياسيّ لم يعد له معنى، والعمل فقد قيمته.. لم تعد فيه رغبة على الإطلاق " هو عالم تتجسّد فيه المقابلة الجذريّة بين الإنسان والعالم وبين الفرد والمجتمع، فها هو عمر الحمزاوي يشخّص مرضه على هذا النّحو " لا أريد أن أفكّر أو أن أشعر أو أن أتحرّك، كلّ شيء يتمزّق ويموت.. وكثيرا ما أضيق بالدّنيا بالنّاس، بالأسرة نفسها ".

إنّ طبيعة هذه التّساؤلات هي فلسفيّة تتعلّق بالوجود الإنسانيّ. والتشخيص هو أميل إلى التشخيص الرّمزيّ، فعمر الحمزاوي رغم نمطيته الاجتماعيّة يتحرّر من تجسيده الفئويّ ليجسّد أزمة الإنسان المعاصر. ومن بداية الرّواية أعلن السّارد في اللّوحة أن لا علامة تدلّ على وطن من الأوطان وفي نهاية الرّواية أعلن أنّ الإنسان إمّا أن يكون الإنسانية جمعاء وإمّا أن يكون لا شيء.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

نقد أدبي

إنّ هذه الرّواية تسعى إلى الخروج عن أن تكون تعبيرا عن الحياة اليوميّة وترغب في التّعبير عن شعرية الوجود والحياة، فيها إجلال للشعر، والفنّ فيها يختزل في صورته الشعريّة وأحيانا كثيرة يتحوّل أسلوب الكتابة إلى أسلوب شعريّ ولعلّ أنصع مثال على ذلك تلك اللاّزمة التي تتكرّر في الرّواية " وكيف أفكّر فيك طيلة يقظتي ثمّ تعبث بمنامي الأهواء". والرّواية تتحرّر من الشّوائب ومن تلك الحكايات الثانويّة والأساليب المتنوّعة التي تدعّم في حقيقة الأمرجنس الرواية إذا ما اعتبرنا جنس الرواية جنسا تأليفيّا جامعا لمستويات عديدة وأجناس أدبيّة مختلفة ولغات اجتماعيّة متنوّعة، إنّها مرحلة انحلال الشّكل الرّوائيّ.

انظر أيضاً

المصادر

  1. ^ د. محمد الباردي، صفاقس، تونس (2011-04-18). "الشحاذ رواية واقعية نقدية". الجمعية الدولية للمترجمين واللغويين العرب. Retrieved 2012-11-21.